الكتاب: منتقى الأصول
المؤلف: تقرير بحث الروحاني ، للحكيم
الجزء: ٦
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٦
المطبعة: الهادي
الناشر:
ردمك:
ملاحظات: تقريراً لأبحاث السيد محمد الحسيني الروحاني

منتقى الأصول
تقريرا لأبحاث آية الله العظمى
السيد محمد الحسيني الروحاني
الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم
الجزء السادس
1

اسم الكتاب منتقى الأصول ج 6
المؤلف: الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم
المطبعة: الهادي
الطبعة: الثانية 1416 ه‍
الكمية: 2000 نسخة
السعر: 7000 ريال
حقوق الطبعة محفوظة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

الاستصحاب
5

الاستصحاب
وقبل الدخول في بيان أدلته يحسن تقديم أمور.
الامر الأول: ما أشار إليه المحقق النائيني: من أن البحث عن حجية
امر يكون بنحوين:
الأول: أن يكون المبحوث عن حجيته: امرا محققا موجودا. والبحث عن
انه حجة أو ليس بحجة كالبحث عن حجية خبر الواحد. فان البحث عن ثبوت
الحجية له وعدمه.
الثاني: أن يكون موضوع الحجية أمرا مفروغا عن حجيته على تقدير
وجوده، فالبحث في الحقيقة يرجع إلى البحث عن ثبوته، كالبحث عن
حجية المفاهيم، فان المفهوم لو ثبت كان حجة بلا اشكال لكونه من مصاديق
الظهور، فجهة البحث هي ثبوت المفهوم وعدم ثبوته.
إذا اتضح ذلك، فهل البحث عن حجية الأصل العملي - كالاستصحاب -
من قبيل النحو الأول أو الثاني، أو لا هذا ولا ذاك؟. أفاد (قدس سره): انه
ليس من القسم الأول كما هو واضح، إذا الأصل العملي ليس إلا عبارة عن تعبد
الشارع بأحد طرفي الشك تعيينا أو تخييرا، وهو ليس مفروض الوجود كي
يبحث عن حجيته، بل يبحث عن وجوده. كما أنه ليس من القسم الثاني وان
7

كان أقرب إليه، لان موضوع الحجية فيه يغاير نفس الحجية مصداقا وإن لم ينفك
عنها خارجا، مع امكان التفكيك بينهما عقلا فالمفهوم غير الحجية. وهذا بخلاف
البحث عن حجية الأصول العملية، فان الحجية عين التعبد الشرعي ولا يمكن
التفكيك بينهما عقلا (1).
أقول: لا يخفى ان البحث في هذه الجهة أشبه بالبحث اللفظي. ولا يهمنا
تحقيق كيفية اطلاق الحجة على الأصل العملي، وانه من قبيل أي القسمين هو، فانا
نبحث عن امر واقعي وهو ثبوت التعبد الشرعي في مورد الشك في البقاء، ولا
أهمية لتحقيق ان اطلاق الحجة عليه بأي نحو والظاهر اختلاف ذلك باختلاف
المباني فيما هو المجعول في باب الاستصحاب وما هو المقرر منجزيته من كونه
نفس الحكم بالبقاء، أو نفس اليقين السابق، أو الشك اللاحق كما احتمله
بعض فلا حظ.
الامر الثاني: في تعريف الاستصحاب.
وهو لغة - كما قيل - أخذ الشئ مصاحبا.
واما اصطلاحا: فقد عرف بتعاريف متعددة:
التعريف الأول: ذكر الشيخ (رحمه الله): ان أخصر التعاريف وأسدها:
" ابقاء ما كان " (2)، ويراد بالابقاء هو الحكم بالبقاء لا الابقاء التكويني، فإنه لا،
محصل له. وعليه فلا يرد عليه ما أورده المحقق النائيني فراجع (3).
التعريف الثاني: ما جعله الشيخ أزيف التعاريف وهو تعريفه بأنه: " كونه
حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق " (4).

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 342 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 318 - الطبعة الأولى.
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 343 - الطبعة الأولى.
(4)
الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 318 - الطبعة الأولى.
8

ووجه زيفه: ان هذا التعريف للاستصحاب بمورده ومحله لا به
نفسه، ثم إنه وجهه بما يخرجه عن البطلان الواضح، وأورد عليه، وسنعود إليه
انشاء الله تعالى.
التعريف الثالث: ما عرفه به صاحب الكفاية بأنه: " الحكم ببقاء حكم أو
موضوع ذي حكم شك في بقائه " (1).
وهذا التعريف تفصيل وتوضيح لتعريف الشيخ (رحمه الله). وقد أشار
(قدس سره) إلى تعريفه: ببناء العقلاء على البقاء، وتعريفه: بالظن الناشئ من العلم بثبوته ونفاهما بأنه على هذين التعريفين لا تتقابل فيه الأقوال، ولا يتوارد
فيه النفي والاثبات على مورد واحد بل موردين، ثم هون (قدس سره) الامر
بان المقصود من هذه التعاريف شرح الاسم لا الحد والرسم، فلا مورد للاشكال
عليها بعدم الطرد أو لعكس.
التعريف الرابع: ما عرفه به المحقق النائيني (قدس سره): " بأنه الحكم
الشرعي ببقاء الاحراز السابق من حيث الجري العملي " (2)، وقد بنى هذا
التعريف على استفادة الاستصحاب من الاخبار.
التعريف الخامس: ما قد عرف الاستصحاب به أيضا: " بأنه عبارة عن
الابقاء العملي ".
هذه جملة من تعاريف الاستصحاب. وتحقيق الكلام ان يقال: ان
التعريف المبحوث عنه هو التعريف الاصطلاحي الذي وقع في تعبيرات
الأصوليين والفقهاء.
ولا يخفى ان هنا جهات ثلاث ترتبط بهذا المصطلح:
إحداها: اطلاق الدليل والحجة عليه، فيقال: يدل عليه الاستصحاب، أو

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 384 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 343 - الطبعة الأولى.
9

يحتج بأمور منها الاستصحاب، ونحو ذلك من التعبيرات الواقعة كثيرا في بحوث
الفقهاء في مختلف المسائل الفقهية.
وثانيها: اختلاف مدركه من تعبد الشارع أو بناء العقلاء أو حكم العقل
الظني.
وثالثها: تفرع الاشتقاقات منه كالمستصحب والمستصحب واستصحب
ويستصحب، وغيرها.
ومن الواضح انه لا بد في تشخيص ما هو الأنسب في تعريفه من ملاحظة
هذه الجهات الثلاث وثبوتها مع الالتزام به.
والذي نراه ان جميع ما ذكر في تعريفه مما تقدم لا يخلو عن خدشة
بملاحظة هذه الجهات.
اما الخامس وهو تعريفه: بالابقاء العملي، فهو وان صحح الاشتقاق منه
المسند إلى المكلف، لكن اطلاق الحجة عليه غير سديد بملاحظته، إذ لا معنى
لكون الابقاء العملي حجة ودليلا، بل هو يحتاج إلى حجة كما لا يخفى.
كما أنه لا ينسجم مع اعتباره من باب حكم العقل، إذ المراد بالحكم
العقلي هو الادراك الظني، ولا معنى لادراكه البقاء العملي.
واما الأول وهو تعريفه: بالابقاء بمعنى الحكم بالبقاء: فهو مما لا معنى
له لان بقاء الحكم هو عين الحكم الشرعي في مرحلة البقاء، ومقتضى هذا
التعريف ان الاستصحاب هو الحكم بالحكم وهو مما لا محصل له.
نعم، اطلاق الحجة عليه سديد كما سنشير إليه في التعريف المختار.
كما أنه لا ينسجم مع اعتبار الاستصحاب من باب العقل أو بناء العقلاء،
إذ ليس شان العقل هو الحكم بالبقاء وانما شانه ادراك نفس البقاء ظنا.
وبعبارة أخرى: ان الحكم بالبقاء ليس متعلق الادراك العقلي بل نفس
البقاء هو متعلقه. كما أن العقلاء ليس شانهم الحكم، بل شانهم البناء العملي على
10

الشئ. واما صحة الاشتقاق مع اسناده إلى المكلف فسيأتي توجيهه في التعريف
المختار.
واما الرابع وهو تعريفه: بأنه الحكم الشرعي ببقاء الاحراز السابق من
حيث الجري العملي: فهو مضافا إلى اختصاصه بما إذا اعتبر من باب الاخبار
باعترافه (قدس سره)، تعريف له بما سيأتي المناقشة فيه وما هو محل النقض
والابرام.
واما الثاني وهو تعريفه: بأنه كون الشئ متيقن الحدوث مشكوك البقاء،
الذي حكم الشيخ بزيفه، فقد ارتضاه المحقق النائيني بناء على كون
الاستصحاب من الامارات الظنية ووجهه بما أشار إليه الشيخ: من أن ما يوجب
الظن بالبقاء ويكشف عنه بالكشف الظني هو ذلك (1).
ولكن فيه: ان يوجب الظن بالبقاء ليس هو اليقين السابق والشك
اللاحق، بل هو غلبة بقاء الحادث، فإنه بملاحظة ان ما يحدث يبقى مستمرا
بحسب الغالب يحصل الظن في المورد المشكوك بالحاقه بالغالب.
ولا يخفى عليك انه لا دخل لليقين بالحدوث في ذلك أصلا، بل الملازمة
الغالبة بين نفس الحدوث والبقاء.
إذن فليس اليقين من موجبات الظن كي يعرف الاستصحاب به. نعم اثر
اليقين بالحدوث كاثر اليقين بسائر الأمور ذوات الأثر في كونه كاشفا عن
موضوع الأثر، فهو طريق ومحرز لمصداق من مصاديق الظن الناشئ من قبل
الغلبة. فتدبر ولا تغفل.
والذي نراه في تعريف الاستصحاب ان يقال: إنه نفس بقاء المتيقن
السابق عند الشك، ويراد به ثبوت الحكم في مرحلة البقاء، ولعله إليه يرجع
تعريفه بالابقاء المفسر بالحكم بالبقاء، ويكون التعبير بالحكم بالبقاء نظير

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 343 - الطبعة الأولى.
11

التعبير بالحكم بالحرمة أو الوجوب، مع أن الحرمة نفس الحكم.
وكيف كان، فتعريفه بما ذكرنا ينسجم مع جميع مدارك الاستصحاب
فالشارع يحكم بثبوت المتيقن عند الشك في بقائه وهو معنى بقاء المتيقن.
كما أن بناء العقلاء العملي على بقاء المتيقن السابق، وما يدركه العقل
ظنا، هو البقاء.
واما الاشتقاق المسند إلى المكلف، كقولك: " استصحبت الحكم الفلاني "،
فهو على هذا التعريف لا يخلو عن مسامحة، إذ المستصحب هو الحاكم لا
المكلف.
لكن هذه المسامحة لا بد منها على جميع التعاريف غير تعريفه بالابقاء
العملي.
فإذا فرض عدم صحة الالتزام بتعريفه بالابقاء العملي كما تقدم، فلا
محيص عن الالتزام بهذه المسامحة، فيقال: ان المراد من: " استصحبت " هو
التمسك بالاستصحاب والاستناد إليه ونحو ذلك.
واما اطلاق الحجة عليه، فهو صحيح بناء على ما تقدم في أوائل مباحث
الظن، من أن الحكم الظاهري حكم طريقي - ويصطلح عليه بالحكم الأصولي
- يلحظ فيه تنجيز الواقع وايصال الواقع. فإنه على هذا يترتب عليه التنجيز
والتعذير عقلا وهذا هو معنى الحجية.
ومن الواضح ان الحكم الاستصحابي حكم ظاهري طريقي، ولذا ينطبق
الاستصحاب في موارد الاحكام غير الالزامية كالإباحة والاستحباب، فيكون
النهي عن النقض كناية عن بقاء الحكم السابق كما كان، لا انه نهي حقيقي
وتحريم للنقض العملي حقيقة، والا لما لا انطبق على موارد الترخيص إذ لا يجب
الفعل أو الترك فيها، ولا يقصد من حرمة النقض فيها سوى ايصال الحكم
الواقعي والتنجيز أو التعذير. فلا حظ.
12

ثم إنه لا بد من تقييد تعريف الاستصحاب ببعض الخصوصيات من
اليقين السابق والشك اللاحق وغير ذلك مما يظهر تقومه به.
هذا تمام الكلام في تعريف الاستصحاب، وقد طال الكلام فيه مع أنه لا
يستحق الإطالة لعدم الأثر العملي المترتب عليه كما لا يخفى.
الامر الثالث: في كون مسالة الاستصحاب أصولية أو لا؟.
الذي يظهر من الشيخ (رحمه الله) التوقف في كونها أصولية على تقدير
استفادتها من الاخبار (1).
والتحقيق: انك عرفت في مبحث ضابط المسالة الأصولية: ان المسالة
الأصولية هي المسالة التي تتكفل رفع التردد في مقام العمل، وبذلك افترقت عن
المسالة الفقهية، وهي ما كان نظرها إلى نفس المحتمل بوضوح.
وعليه، فيكون الاستصحاب من مباحث الأصول كما مر بيانه فراجع (2).
وقد عرفت هناك انه لا يختلف الحال بين ما يجري في الشبهات الحكمية
أو يجري في الشبهات الموضوعية، وان تخصيص المسالة الأصولية بما يجري في
الشبهات الحكمية بلا موجب.
ولو فرض عدم كون الأصل الجاري في الشبهات الموضوعية من علم
الأصول، فهو لا ينافي كون الجاري في الشبهات الحكمية منه، فيكون
الاستصحاب بلحاظ جريانه في الشبهات الحكمية مسالة أصولية لاندراجه في
ضابطها. وبلحاظ جريانه في الشبهات الموضوعية مسالة فقهية. ولا مانع من
كون مسالة واحدة ذات جهتين بلحاظ تعدد موردها بعد عموم دليلها، نظير
مسالة حجية خبر الواحد بناء على شموله للاخبار بالموضوعات وعدم اختصاصه
بالاحكام.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 319 - الطبعة الأولى.
(2) راجع 1 / 28 من هذا الكتاب.
13

هذا تحقيق الكلام في هذه الجهة باختصار ولا تحتاج إلى إطالة.
واما ما تمسك به صاحب الكفاية في اثبات عدم كون مسالة الاستصحاب
فقهية: بان مجراها قد يكون حكما أصوليا كالحجية (1).
فهو لا يخلو عن غرابة، إذ الشيخ (رحمه الله) قد تعرض إلى ذلك وبين
انه قد يكون مجرى المسالة الفقهية مسالة أصولية كقاعدة نفي الحرج التي
تجري في نفي الفحص عن المعارض للعموم إلى حد القطع بالعدم، كما انها تجري
في نفي الاحتياط في مقدمات دليل الانسداد. (2) فتدبر.
الامر الرابع: في الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين وقاعدة المقتضي
والمانع. فإنها جميعا تشترك في ثبوت اليقين والشك فقد يتخيل ان الدليل المتكفل
لعدم نقض اليقين والشك يتكفل اعتبار هذه القواعد الثلاث، فلا بد من بيان
خصوصيات الفرق بينها موضوعا.
ثم يبحث عن شمول دليل الاستصحاب لها أو أنه يختص
بالاستصحاب.
فنقول: اما الاستصحاب فموضوعه: ان يتعلق اليقين بشئ ويتعلق
الشك في بقائه من دون اعتبار تقدم اليقين زمانا وعدمه.
واما قاعدة اليقين فموضوعها: ان يتعلق اليقين بشئ في زمان معين ثم
يشك بعد ذلك في نفس ذلك الشئ بلحاظ ذلك الزمان، كما إذا تعلق اليقين
بعدالة زيد في يوم الجمعة ثم زال ذلك اليقين وشك في يوم الاثنين انه عادل يوم
الجمعة أولا، ويعبر عنه بالشك الساري. فمتعلق اليقين والشك أمر واحد بجميع
خصوصياته، وانما الاختلاف في زمان نفس اليقين والشك. على خلاف
الاستصحاب، فان متعلق اليقين والشك يختلفان زمانا وان اتحدا ذاتا.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 385 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 320 - الطبعة الأولى.
14

واما قاعدة المقتضي والمانع فموضوعها: ان يتعلق اليقين بوجود المقتضي
للأثر ويشك في وجود المانع عنه، فمتعلق والشك في هذه القاعدة مختلفان
ذاتا، كما لو فهم من لسان الأدلة ان ملاقاة الماء للنجس مقتضي للانفعال، وان
الكرية مانعة، فلاقى ماء مشكوك الكرية شيئا نجسا، فإنه بناء على اعتبار
قاعدة المقتضي والمانع - كما بنى عليها بعض المحققين - يلتزم في المثال بنجاسة
الماء.
وسيأتي انشاء الله تعالى بعد ذكر أدلة الاستصحاب البحث عن امكان
استفادة هاتين القاعدتين منها كما أنه يبحث عن وجود دليل مستقل عليهما.
فانتظر.
الامر الخامس: في تقسيمات الاستصحاب.
وقد نوع الشيخ (رحمه الله) تقسيمات الاستصحاب بلحاظ نفس
المستصحب من كونه وجوديا أو عدميا - وفي خصوص استصحاب عدم التكليف
من العدميات كلام برأسه تقدمت الإشارة إليه في مسالة البراءة وسيجئ البحث
عنه في البحث عن استصحاب الحكم الكلي انشاء الله تعالى -، أو كونه حكما
شرعيا كليا أو جزئيا، وكونه موضوعا خارجيا وغير ذلك. وبلحاظ الدليل الدال
على المستصحب في زمان اليقين من كونه اجماعا أو غيره، أو كونه دليلا عقليا أو
شرعيا، ونحو ذلك. وبلحاظ الشك في البقاء من كون منشئه الشك في المقتضي
أو الشك في الرافع ونحو ذلك (1).
ولا يهمنا التعرض إلى هذه التقسيمات لوضوح بطلان بعضها بعد
ملاحظة الأدلة، انما المهم منها ثلاثة وقعت مورد النقض والابرام من قبل
المحققين.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 322 - طبعة الأولى.
15

التقسيم الأول: التفصيل بين الحكم الشرعي المستفاد من العقل وغيره،
فلا يجري في الأول. وقد قربه الشيخ (رحمه الله) (1).
التقسيم الثاني: التفصيل بين الأحكام الكلية الشرعية وبين الموضوعات
الخارجية والأحكام الجزئية، فلا يجري في الأول وقد بنى عليه من المتأخرين
السيد الخوئي (حفظه الله) (2).
التقسيم الثالث: التفصيل بين ما كان الشك ناشئا من الشك في المقتضي
وبين ما كان ناشئا من الشك في الرافع، فلا يجري في الأول. وقد بنى عليه
الشيخ (3) وتابعه عليه غيره (4). وقد وقع الكلام في المراد بالمقتضي.
فلا بد من تحقيق الكلام في هذه الأقوال ولنتعرض الآن إلى.
التفصيل الأول
وقد يقرب بوجوه:
الوجه الأول: ان الحكم العقلي مبين مفصل محدد الموضوع، باعتبار ان
الحاكم لا يمكن ان يتردد في حدود حكمه ومقدار سعته. وعلى هذا يكون الحكم
الشرعي المستند إليه معلوم الموضوع بحدوده، وفي مثل ذلك يمتنع
الاستصحاب...
اما لاجل ان الشك في البقاء لا بد وأن يكون ناشئا من الشك في بقاء
الموضوع، إذ لو كان الموضوع باقيا بخصوصياته لما حصل الشك، ومع الشك في
بقاء الموضوع لا يصح إجراء الاستصحاب، لما سيأتي من اعتبار بقاء الموضوع
فيه.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 325 - الطبعة الأولى.
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 36 - الطبعة الأولى.
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 328 - الطبعة الأولى.
(4) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 378 - الطبعة الأولى.
16

واما لاجل امتناع الشك في البقاء، لان الموضوع ان كان موجودا كان
الحكم موجودا لا محالة، وإن لم يكن موجودا ارتفع الحكم لا محالة، لارتفاع الحكم
بعدم موضوعه، فلو فرض ثبوت حكم شرعي والحال هذه فهو حكم جديد
حادث لموضوع جديد، لا بقاء لذلك الحكم.
وهذا التقريب يمكن رده:
اما دعوى أن الشك في بقاء الحكم لا بد وأن يكون ناشئا من الشك في
بقاء الموضوع بسبب احتمال تغير بعض ماله دخل في الحكم. فتندفع: بان
الموضوع الذي يعتبر بقاؤه في جريان الاستصحاب هو الموضوع العرفي وما يراه
العرف معروضا للحكم بحسب مناسباته الذهنية دون الموضوع الدقي العقلي
وهو كل ما له دخل في الحكم.
ومن الواضح ان الموضوع بنظر العرف قد يكون باقيا حتى مع الجزم
بزوال بعض الخصوصيات الملحوظة في حدوث الحكم، فضلا عن صورة احتمال
زوالها، لأنها بنظره جهة تعليلية لا تقييدية.
واما دعوى امتناع الشك في البقاء بالبيان المتقدم. فتندفع بما افاده في
الكفاية وتبعه غيره من أن زوال حكم العقل بزوال بعض الخصوصيات المقومة
للحكم بنظره لا يستلزم زوال حكم الشرع في تلك الحال، لاحتمال ان الخصوصية
الزائلة غير دخيلة في ملاك الحكم واقعا، وقد اطلع الشارع على ذلك لاحاطته
بالأمور فيكون حكمه باقيا لبقاء ملاكه، ولم يطلع العقل عليه لقصور ادراكه فلم
يحكم عند زوالها. ولا ينافي ذلك الالتزام بالملازمة بين الحكمين، إذ المقصود بها
الملازمة بينهما في مقام الاثبات لا مقام الثبوت، فلا يمتنع ان يحكم الشارع بشئ
من دون ان يحكم به العقل، فتدبر (1).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 386 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
17

الوجه الثاني: ان الخصوصيات المأخوذة في الحكم العقلي كلها
خصوصيات تقييدية مأخوذة في الموضوع قيدا ولم تلحظ علة لثبوت الحكم
لمعروضه، فموضوع الحكم العقلي بقبح الصدق في حال الاضرار، هو الصدق
بقيد كونه مضرا، لا ان موضوعه هو الصدق وعلته الاضرار.
وعليه، فالشك في بقاء الخصوصية يستلزم الشك في الموضوع قهرا.
وهذا الوجه وإن لم يذكر في الكلمات في المقام، لكن يمكن ان يستفاد من
بعض كلمات المحقق الأصفهاني في مبحث مقدمة الواجب (1)، حيث التزم هناك
بان عنوان المقدمية جهة تقييدية لا جهة تعليلية كما يراه صاحب الكفاية (2).
وعلى كل فيمكن التنظر فيه من جهتين:
الأولى: ان الأساس الذي يبتني عليه ليس من المسلمات، فان هناك من
لا يرى ان جميع الخصوصيات ملحوظة جهات تقييدية في موارد الاحكام العقلية.
الثانية: انه لو سلم ذلك، فهذا لا ينفع بعد ما عرفت من أن المدار في
الموضوع على نظر العرف لا نظر العقل، فكون الخصوصية تقييدية بنظر العقل
لا يجدي إذا لم تكن كذلك بنظر العرف، بل كانت من طواري الموضوع وحالاته
بنظره.
نعم، لو قلنا بان المدار على الموضوع المأخوذ في دليل الحكم لأجدى ما
ذكر، إذ دليل الحكم على الفرض هو العقل، والمفروض ان الخصوصية بحسبه
مقومة.
الوجه الثالث: دعوى أن الخصوصية المتبدلة أو المشكوكة مقومة بنظر
العرف، فلا مجال للاستصحاب حينئذ. وذلك بأحد بيانين:
البيان الأول: ان الكلام فيما نحن فيه في الاحكام العقلية المستتبعة لحكم

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 347 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 90 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
18

الشرع - بناء على الملازمة -، وهي تختص باحكامه في باب التحسين والتقبيح.
وعليه، فنقول: ان كل خصوصية تكون دخيلة في حكم العقل بالحسن أو
القبح، فهي تكون قيدا لفعل المكلف المحكوم بالحسن أو القبح لا قيدا في
الموضوع. وبعبارة أخرى: ان الخصوصيات المأخوذة في حكم العقل العارض
على فعل المكلف مأخوذة قيدا لمتعلق الحكم لا لموضوعه، فلا محالة يتقيد متعلق
الحكم الشرعي المستكشف عن الحكم العقلي بتلك الخصوصيات تبعا للحكم
العقلي.
فإذا حكم العقل بقبح الصدق الضار، كان متعلق الحكم الشرعي بالحرمة
هو الصدق المضر.
وقد تقرر ان كل خصوصية تؤخذ في المتعلق تكون مقومة بنظر العرف،
وليس الحال فيه كالحال في الموضوع. فمع الشك في تلك الخصوصية يمتنع
الاستصحاب، وسيأتي بيان هذه الجهة في محله.
البيان الثاني: ان الحكم العقلي بالقبح لم يتعلق بالصدق - مثلا - حال
اضراره كي يقع الكلام في أن جهة الضرر مقومة عرفا أو ليست مقومة، بل ليس
لدينا الا الحكم العقلي بحسن الاحسان وقبح الظلم. والحكم بقبح الصدق
المهلك أو حسن الكذب النافع، من باب ان الأول مصداق الظلم القبيح عقلا
والثاني مصداق الاحسان الحسن عقلا، لا ان الحكم العقلي بالقبح تعلق بالصدق
مباشرة بملاحظة اضراره.
اذن فمتعلق الحكم العقلي هو نفس الخصوصية، وهذه الأفعال مصاديق
للخصوصية ويتبعه في ذلك الحكم الشرعي، فالحرام هو الظلم والمحبوب هو
الاحسان.
وعليه، فمع الشك في بقاء الخصوصية يشك في ثبوت متعلق الحكم مباشرة
فلا معنى للاستصحاب. فهو نظير استصحاب حرمة ما ثبت حرمته بالدليل
19

الشرعي عند الشك في انطباق موضوع الحرمة عليه، كما لو كان كلام كذبا، ثم
شك في أنه كذب أو ليس بكذب، فإنه لا معنى لاستصحاب حرمته مع الشك
المزبور.
وهكذا الحال في الشبهة الحكمية كما لو فرض زوال عنوان الظلم عن
الصدق، ومع هذا احتمل ان يبقى على حرمته، فإنه لا معنى لاستصحاب حرمته،
إذ متعلق الحرمة السابقة زال قطعا، والصدق فعلا ليس من افراده جزما، فيمتنع
صدق البقاء. فتدبر.
وهذا الوجه ببيانيه متين لا دافع له، وهو مما يمكن استفادته من عبارة
الشيخ (رحمه الله) خصوصا بالبيان الأول - لقوله: " لان الجهات المقتضية للحكم
العقلي للحسن والقبح كلها راجعة إلى قيود فعل المكلف " - وان كانت لا تخلو
عن نوع اجمال (1).
ومنه تعرف بعد ما أفاده صاحب الكفاية وغيره عنه وعدم ارتباطه به.
وبالجملة: التأمل في كلام الشيخ يقتضي ان يستظهر ان مراده ما ذكرناه،
لا ما فهمه الاعلام (قدس الله سرهم) والله سبحانه العاصم العالم.
ثم إنه لا فرق فيما ذكرنا بين الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية
المصداقية.
إلا أنه قد يتخيل في موارد الشبهة المصداقية التمسك بالاستصحاب
الموضوعي فيحرز به بقاء الخصوصية للفعل، فيقال: كان الصدق مضرا فالآن
كذلك، وبذلك يثبت له الحكم.
ولكنه تخيل فاسد، إذ هذا الاستصحاب من الاستصحاب التعليقي، لان
الخصوصية انما تعرض على الفعل عند وجوده، فالصدق انما يكون مضرا إذا
وجد فالذي يقال في مقام الاستصحاب: كان الصدق مضرا لو وجد فالآن

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 325 - الطبعة الأولى.
20

كذلك.
والاستصحاب التعليقي وان كان مثار خلاف، لكن ذلك في الاستصحاب
الحكمي، اما الموضوعات فلا يلتزم بصحة الاستصحاب التعليقي فيها بالاتفاق،
فمن يقول بالاستصحاب التعليقي في الاحكام لا يقول به في الموضوعات.
وقد أطال المحقق العراقي (قدس سره) في بيان كلام الشيخ ومناقشته (1).
وأنت إذا لاحظت ما ذكرناه تعرف ان ما أفاده (قدس سره) أجنبي عن كلام
الشيخ فراجع تعرف.
الوجه الرابع: ان المحقق الأصفهاني (رحمه الله) ذهب إلى منع جريان
الاستصحاب في الحكم الشرعي المستفاد من حكم العقل، لكن ببيان آخر غير
ما افاده الشيخ (رحمه الله) بالتوجيه الذي عرفته.
فقد أفاد (قدس سره): انه مع الشك في الخصوصية يقطع بزوال
الموضوع، وهو مستلزم للقطع بزوال الحكم، بيان ذلك: ان الحكم العقلي بالقبح
ليس متعلقه هو الفعل مع الخصوصية بوجودها الواقعي، بل بوجودها العلمي،
فالصدق المضر المعلوم اضراره قبيح، لا ذات الصدق المضر وإن لم يعلم اضراره،
والوجه فيه: ان القبح لا يتعلق الا بالفعل الاختياري الصادر عن التفات وعمد
وقصد، فلا يثبت الا في مورد العلم.
وعليه، فمع الشك في بقاء خصوصية الاضرار يقطع بعدم موضوع القبح،
وهو العلم بالضرر، فيعلم بعدم القبح العقلي ويتبعه عدم الحكم شرعا لانتفاء
مناطه (2).
ويتوجه عليه (قدس سره) أمور:
الامر الأول: ظاهر كلامه اختصاص الكلام في الشبهة الموضوعية، وقصر

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 19 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية. 3 / 9 - 10 - الطبعة الأولى.
21

الكلام على الشبهة الموضوعية دون الحكمية بلا وجه. والوجه الذي ذكره لا
يتأتى في الشبهة الحكمية، بل يختص بالشبهة الموضوعية، إذ ليس منشأ الشك
في الشبهة الحكمية هو الشك في بقاء الخصوصية كي يقال ان العلم بالخصوصية
دخيل وهو مفقود مع الشك، بل يعلم بزوال الخصوصية، وانما يشك في بقاء الحكم
لاحتمال ان الخصوصية تأثر بحدوثها في بقاء الحكم، فلا بد في نفي الاستصحاب
في الشبهة الحكمية من الالتزام بان الخصوصية علة حدوثا لا بقاء.
وبالجملة: الملاك الذي ذكره في الاستصحاب في الشبهة الموضوعية لا
يتأتى في الشبهة الحكمية. كما لا يخفى، فلا حظ.
الامر الثاني: ان ما افاده من زوال الموضوع جزما عند الشك في
الخصوصية غير تام، إذ إناطة القبح بالفعل الاختياري مسلم، لكن الاختيار
والقصد لا يتوقف على العلم، بل يتوقف على مجرد الالتفات المتحقق عند الشك،
فمثلا لو رأى شخص شبحا وتردد انه انسان أو جدار فوجه إليه بندقيته ورماه
برصاصة فتبين انه انسان وقتل بتلك الرمية، فإنه يترتب على فعله آثار الفعل
الاختياري العقلية والشرعية مع عدم علمه بأنه قتل وظلم.
وعليه، فمع الشك في أن الصدق مضر أو لا، لا يقطع بزوال الموضوع
لتحقق الالتفات والقصد معه. فتدبر.
الامر الثالث: سلمنا اخذ العلم في الموضوع وزواله عند الشك، لكن
لا بد من تحقيق ان هذه الخصوصية الزائلة هل هي مقومة بنظر العرف أو ليست
مقومة، ومجرد دخلها في موضوع الحكم العقلي لا اثر له من هذه الناحية، ولا
يستلزم منع الاستصحاب مع الشك في بقاء الحكم والحالة هذه. فالتفت.
ثم إن الشيخ (رحمه الله) ذكر: أن لا فرق في عدم جريان الاستصحاب
في الأحكام الشرعية المستندة إلى الاحكام العقلية بين ان تكون وجودية أو
عدمية، مع استناد العدم إلى القضية العقلية، كعدم وجوب الصلاة على ناسي
22

السورة، فإنه لا يجوز استصحابه عند زوال النسيان، ولا وجه للتمسك به في
اثبات الاجزاء (1) كما صدر عن بعض.
نعم لو لم يكن العدم مستندا إلى القضية العقلية، وان كان في موردها، فلا
بأس باستصحابه كاستصحاب البراءة والنفي.
كما أن المحقق الأصفهاني (قده) بعد أن ذكر ما تقدم منه، واختار
التفصيل بين احكام العقل النظري فيجري الاستصحاب في الحكم الشرعي
المستند إليه، واحكام العقل العملي فلا يجري الاستصحاب للبيان المتقدم، قال:
" ثم إنه لا فرق فيما ذكرنا منعا وجوازا بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم
إذا كانا مستندين إلى القضية العقلية التي مفادها حكم العقل العملي،
كاستصحاب الوجوب والحرمة المستندين إلى حسن الفعل وقبحه. واستصحاب
عدم الوجوب والحرمة إذا استند إلى قبح تكليف غير المميز ايجابا وتحريما... " (2).
أقول: يرد على الشيخ (رحمه الله) ان استصحاب عدم الوجوب المترتب
سابقا على النسيان يختلف عما افاده سابقا، فإنه وان كان مورد النسيان يشترك
مع ما تقدم في ثبوت الحكم بالقبح، الا ان القبح هناك متعلق بفعل المكلف، وقد
عرفت أن الخصوصية الدخيلة في القبح اما من قيود الفعل المتعلق واما هي نفس
المتعلق. والقبح هنا متعلق بفعل المولى الشارع، ولا يخفى ان المكلف بالإضافة
إلى التكليف من قبيل الموضوع لا من قبيل المتعلق. اذن فالنسيان مأخوذ في
موضوع عدم التكليف لا في متعلقه.
وعليه، فلا يتأتى الوجهان السابقان في منع الاستصحاب ههنا، لأنهما
يتفرعان عن كون الخصوصية المقومة للقبح العقلي، اما نفس المتعلق أو دخيلة
فيه. وليس النسيان كذلك.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 325 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 11 - الطبعة الأولى.
23

ومن هنا يظهر انه لا يظهر عدم جريان الاستصحاب في مورد النسيان
مما ذكره سابقا، بل لا بد من تحقيق ان النسيان مقوم للموضوع عرفا أو لا؟.
ومن هنا يتبين الاشكال فيما افاده المحقق الأصفهاني (رحمه الله)، فان
الحكم بقبح تكليف الناسي وان كان من حكم العقل العملي، لكن ما تقدم يرتبط
بما إذا كان حكم العقل العملي يرتبط بعمل المكلف نفسه. وقد عرفت أن متعلق
القبح ههنا هو فعل المولى، ولا يتأتى فيه ما تقدم، إذ اي معنى لان يقال ههنا
انه مع الشك في الخصوصية يعلم بزوال الموضوع لتقومه بالعلم ومع الشك لا
علم؟، فإنه لا يتصور الشك بالنسبة إلى الله سبحانه.
نعم، نحن نشك فيما هو فعل الله سبحانه من التكليف وعدمه عند الشك
في الخصوصية.
وما افاده (قدس سره) أجنبي عن عدم جريان الاستصحاب في ذلك،
فتدبر ولا تغفل.
ثم إنه يمكن الالتزام بجريان استصحاب عدم التكليف في مورد النسيان
ولو مع فرض خصوصية النسيان خصوصية مقومة للموضوع أو للمتعلق، مع
قطع النظر عما تقدم في البراءة من المناقشة في استصحاب عدم التكليف بقول
مطلق ولو لم يستند إلى القضية العقلية.
وذلك بوجهين:
الأول: استصحاب عدم الجعل بلحاظ حال ما قبل الشرع بتقريب: انه
قبل الشرع لم يكن هناك جعل بالنسبة إلى هذا الموضوع الخاص وهو الشخص
بعد زوال نسيانه، وبعد الشرع يشك في ثبوت الجعل بالنسبة إليه فيستصحب
عدمه.
وقد تقدمت الإشارة إليه في مبحث الأقل والأكثر (1) وسيجئ تحقيقه في

(1) راجع 5 / 230 من هذا الكتاب.
24

مبحث جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية، حيث ادعى: معارضتها
باستصحاب عدم الجعل.
الثاني: استصحاب عدم المجعول بالنسبة إلى الموضوع الخاص بمفاد
ليس التامة بتقريب: ان هذا الموضوع الخاص وهو المكلف بعد زوال نسيانه لم
يكن الحكم الفعلي في حقه ثابتا قبل تحققه، فالحكم الفعلي للمتعلق له منتف
لانتفاء موضوعه، وبعد وجوده وتحققه يشك في ثبوت حكم فعلي له، فلا يمكن
ان يقال: هذا الشخص لم يكن التكليف في حقه ثابتا فالآن كذلك - بمفاد ليس
الناقصة المعبر عنه بالعدم النعتي -، إذ لا حالة سابقة له ولكن يمكن ان يقال:
الوجوب المتعلق بهذا الشخص لم يكن ثابتا فالآن كذلك - بمفاد ليس التامة
المعبر عنه بالعدم المحمولي - نظير اجراء الاستصحاب في الاعدام الأزلية
المتقدم بيانه في مبحث العموم والخصوص (1)، وإن لم يكن منه اصطلاحا. ويترتب
على هذا الأصل عدم لزوم الامتثال عقلا. فتدبر.
والمتحصل: ان استصحاب الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي
بالتحسين والتقبيح لا نلتزم بجريانه تبعا للشيخ، لكن في غير ما كان من قبيل
حكم العقل بقبح تكليف الناسي، بل في غير الحكم العدمي مطلقا، لامكان
اجراء الاستصحاب في العدمي بالتقريبين المتقدمين، ولا اشكال فيه من ناحية
استناده إلى الحكم العقلي.
وورود الاشكال فيه من ناحية أخرى لو ثبت، كلام آخر أجنبي عما
نحن فيه.
هذا تمام الكلام في هذا التفصيل.
واما باقي التفصيلات فسيأتي البحث فيها بعد أدلة الاستصحاب انشاء
الله تعالى.

(1) راجع 3 / 365 من هذا الكتاب.
25

الامر السادس: لا يخفى ان المعتبر في الاستصحاب هو الشك في البقاء.
وقد تعرض الشيخ (رحمه الله) إلى بيان ان المراد: هو الشك الفعلي الموجود حال
الالتفات، فلو لم يكن ملتفتا لم يجر الاستصحاب وان فرض حصول الشك له
على تقدير الالتفات.
وفرع على ذلك فرعين:
الفرع الأول: ان المتيقن للحدث إذا التفت إلى حاله في اللاحق وشك
في بقاء الحدث وعدمه جرى الاستصحاب في حقه، فلو غفل عن ذلك وصلى
بطلت صلاته لسبق الامر بالطهارة، ولا تجري في حقه قاعدة الفراغ المصححة
للعمل، لكون مجراها الشك الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل.
الفرع الثاني: ان المتيقن للحدث لو غفل عن حاله وصلى ثم التفت بعد
الصلاة وشك في أنه تطهر قبل الصلاة أو لا؟، تجري في حقه قاعدة الفراغ، لان
الشك حادث بعد العمل لا قبله، كي يوجب الامر بالطهارة والنهي عن الدخول
في الصلاة بدونها.
نعم، هذا الشك المتأخر يوجب الإعادة بحكم الاستصحاب، لكنه محكوم
لقاعدة الفراغ (1).
وهذا المطلب بعينه ذكره في الكفاية في التنبيه الأول، ولكنه في الفرض
الأول حكم ببطلان الصلاة لكونه محدثا بحكم الاستصحاب، مع القطع بعدم
رفع حدثه الاستصحابي (2).
ولم يتعرض لقاعدة الفراغ فيه بقليل ولا بكثير، فكان عدم جريانها فيه
مفروغ عنه لديه.
أقول: لا بد من التنبيه على أمور ثلاثة يتضح بها ان ما افاده الشيخ في
غير محله.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 321 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 404 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
26

الامر الأول: ان اعتبار فعلية الشك في جريان الاستصحاب وعدم
الاكتفاء بالتقدير له طريقان:
أحدهما: عرفي، وهو دعوى أن ظاهر دليل الاستصحاب اعتبار الشك
في موضوعه، وظاهر كل امر مأخوذ في الموضوع إرادة الفرد الفعلي منه، فإذا قال:
" أكرم العالم " كان ظاهره عرفا اكرام المتصف بالعلم فعلا لا فرضا وتقديرا. ولذا
قيل أن فعلية الحكم بفعلية موضوعه.
وعليه فالظاهر من دليل الاستصحاب عرفا إرادة الشك الفعلي.
ثانيهما: عقلي، وهو دعوى أن دليل الاستصحاب يتكفل جعل حكم
ظاهري أصولي يقصد به رفع الحيرة في مقام العمل، وما كان كذلك لا يثبت الا
مع الالتفات، إذ بدون الالتفات لا حيرة في التكليف ولا معنى لتنجيز الواقع
عليه أو التعذير عنه.
وعليه، نقول إن كان نظر الشيخ، وصاحب الكفاية في اعتبار فعلية الشك
إلى الوجه الثاني العقلي. فيرد عليهما: ان الاستصحاب لا يجري مع زوال
الالتفات، بل لا بد في استمرار جريانه من استمرار الالتفات. وعليه فلا فرق
بين الفرضين في عدم كون المكلف مجريا لاستصحاب الحدث حال الصلاة، لأنه
غافل عن الحدث حالها. فالتفرقة بينهما في غير محلها.
وان كان نظرهما إلى الوجه الأول العرفي - كما هو الظاهر لالتزامهما
بجريان الاستصحاب مع الشك ثم الغفلة عنه وقد عرفت أن هذا لا يتم على
الوجه الثاني مع أن الجهة الثانية راجعة إلى الشرائط العامة للتكليف، فان من
الشرائط العامة عدم الغفلة، وهو أجنبي عن خصوص الاستصحاب، فلا
يناسب تخصيص الكلام به -، فالفرق بين الفرضين وان كان موجودا ببيان انه
في الفرض الأول وان عرضت الغفلة بعد الشك، لكن ذلك لا ينافي استمرار
الشك بوجود ارتكازي، كسائر الصفات النفسية من الإرادة والعلم التي يكون
لها وجود ارتكازي يجامع الغفلة بعد حدوثها عن التفات، فيكون الشك موجودا
27

ارتكازا، فيكون مجرى الاستصحاب حال الصلاة.
لكن يرد عليهما - على هذا التقرير: - ان هذه الدعوى تتم بناء على
الالتزام بموضوعية اليقين والشك بما هما وصفان في باب الاستصحاب، بحيث
يتعلق الجعل بوصف اليقين.
اما بناء على الالتزام بان المجعول في الاستصحاب هو الحكم المماثل، أو
الملازمة بين الحدوث والبقاء - كما يظهر من صاحب الكفاية - (1) المعبر عنها في كلام
البعض بان الحادث يدوم، بحيث لا يكون لليقين والشك موضوعية، بل هما
طريقان للمتيقن والمشكوك. فلا يتم هذا الكلام، لان اليقين والشك لا موضوعية
لهما، بل يكون الاستصحاب حكما ظاهريا ثابتا في الواقع للحادث عند حدوثه،
مع قطع النظر عن اليقين والشك. نعم، اليقين طريق إليه كساير الأحكام الشرعية
الثابتة لموضوعاتها.
وبالجملة: لا موضوعية للشك حتى يبحث في أن المراد به الشك الفعلي
أو التقديري.
الامر الثاني: انه قد وقع الكلام في أنه هل تجري قاعدة الفراغ مع العلم
بالغفلة عن المشكوك حال العمل، أو يختص جريانها بصورة الشك في عروض
الغفلة له؟.
فنقول: انه بناء على الثاني وعدم جريانها في صورة العلم بالغفلة لا مجال
لقاعدة الفراغ في كلا الفرضين، إذ المفروض فيهما معا غفلة المكلف حال العمل،
ومعه لا تجري قاعدة الفراغ جرى الاستصحاب في حقه أو لم يجر فلا يكون
التفريع المزبور متجها على هذا المبني الذي لا يخلو من قوة.
الامر الثالث: انه من المسلم لدى الكل ان قاعدة الفراغ انما تجري في
مورد الشك الحادث بعد العمل، اما إذا حدث قبل العمل فلا تجري فيه قاعدة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 414 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
28

الفراغ لقصور دليلها كما يبين في محله.
وعليه، نقول: ان قاعدة الفراغ في الفرض الأول لا تجري لاجل حدوث
الشك قبل العمل بلا ارتباط بجريان الاستصحاب وعدمه، فالحكم ببطلان
الصلاة استنادا إلى الاستصحاب السابق على العمل وعدم جريان قاعدة
الفراغ بسببه غير سديد، بل الصلاة باطلة بمجرد عدم جريان القاعدة سواء
جرى الاستصحاب قبلها أم لا؟. إما لاجل قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب
اللاحق.
هذا ولكن التحقيق يقتضي ان الشك الحادث بعد في الفرض الأول شك
بعد العمل لا قبله، وذلك لان موضوع قاعدة الفراغ هو الشك في الصحة
الناشئ من الشك في اختلال بعض ما يعتبر في العمل من الأجزاء والشرائط.
ولأجل هذه الجهة منع البعض من كون قاعدة الفراغ قاعدة برأسها في
قبال قاعدة التجاوز، فإنه ما من مورد يشك في صحة العمل فيه الا وكان السبب
فيه الشك في إتيان الجزء والشرط في محله، وهو مجرى قاعدة التجاوز، فلا تصل
النوبة إلى قاعدة الفراغ، لان الشك فيها مسبب عما هو موضوع لقاعدة
التجاوز (1).
وقد حاول آخرون تصحيح تعدد القاعدة (2) والبحث موكول إلى محله.
والمهم بيان: ان موضوع قاعدة الفراغ هو الشك في صحة العمل، لا
الشك في وجود الجزء أو الشرط.
وعليه، نقول: انه إذا التفت إلى أنه محدث أو متطهر - قبل العمل -
وأجرى الاستصحاب، ثم غفل عن ذلك ودخل في العمل، فهو في أثناء العمل
ليس شاكا في صحة العمل، لغفلته، وشكه الارتكازي حال الغفلة انما هو في

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 467 - الطبعة الأولى.
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 279 - الطبعة الأولى.
29

حدثه وطهارته، وهو غير الشك في صحة العمل ومطابقته للمأمور به، فإذا التفت
بعد الفراغ، فشكه في صحة العمل حادث بعد العمل لا في أثنائه، فيكون
مقتضى القواعد مجرى لقاعدة الفراغ، ولا فرق بين الفرضين على هذا البيان.
فتعليل عدم جريان قاعدة الفراغ بكون الشك حادثا أثناء العمل - كما
افاده الشيخ (1) - في غير محله. فالوجه الصحيح في نفي جريان قاعدة الفراغ
والحكم ببطلان العمل في الفرض المزبور هو ان يقال: ان الشك الذي يكون
مجرى لقاعدة الفراغ هو الشك في صحة العمل، بمعنى الشك في مطابقة ما أتي
به للمأمور به واما مع العلم بعدم مطابقته لما هو الوظيفة الفعلية عليه ولما هو
متعلق الامر، فلا مجال لقاعدة الفراغ للعلم ببطلان العمل بحسب الوظيفة
الفعلية. وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنه بعد ما التفت وأجرى استصحاب
الحدث كان مأمورا بالطهارة، وكان محكوما ببطلان صلاته لو جاء بها بحالته التي
هو فيها بلا وضوء. وعليه فإذا التفت بعد العمل إلى ذلك فلا شك لديه في صحة
العمل، بل يعلم بمخالفة عمله لما هو مقتضى الوظيفة الفعلية عليه، ومثله يكون
باطلا.
ولعل هذا هو مراد صاحب الكفاية، من التزامه ببطلان العمل للحدث
الاستصحابي (2).
وأما دعوى: ان الحكم الظاهري مجعول بلحاظ التنجيز والتعذير، وذلك
غير معقول مع الغفلة. إذن فلا يمكن أن يجري الاستصحاب في حال غفلته عن
الحدث (3).
فهي قابلة للدفع، ببيان: ان المستصحب لو كان من الأحكام التكليفية
امتنع أن يجري الاستصحاب حال الغفلة، لعدم قابليته للدعوة والتحريك

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 321 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 404 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 351 - الطبعة الأولى.
30

والتنجيز. وليس الحال كذلك في الأحكام الوضعية، فإنها يمكن ان تحصل في حال
الغفلة. والحدث حكم وضعي، فكما أن الحدث الواقعي يثبت في حق الغافل عنه
ولا يزول بغفلته، كذلك الحدث الظاهري لا مانع من ثبوته في حق الغافل، إذ لا
تنجيز بالنسبة إلى الأحكام الوضعية، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه في
حال الغفلة، ويترتب عليه عملا ثبوت المانع للصلاة المأتي بها بحيث لا تكون
مطابقة، للامر الواقعي، أعني ما هو متعلق الإرادة ومورد الغرض وإن لم يكن أمر
فعلي في حق الناسي الغافل، كما هو الحال لو كان محدثا واقعا، ولكنه كان غافلا،
فإنه يحكم ببطلان عمله، لعدم مطابقته للمأمور به، ولا يراد به الامر الفعلي لعدم
ثبوته في حق الغافل، بل يراد به الامر الواقعي الاقتضائي، أو نفس الإرادة
الواقعية.
وهذا المعنى الذي ذكرناه يكفي مصححا لجريان الاستصحاب ولو كان
غافلا عن الحدث، فإنه أثر عملي معتد به. فتدبر جيدا ولا تغفل، والله سبحانه
العالم العاصم.
31

(أدلة الاستصحاب)
ويقع الكلام بعد ذلك في أدلة الاستصحاب.
الدليل الأول: دعوى استقرار بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة
السابقة، وبضميمة عدم الردع عنه شرعا، يثبت الشارع له بل ادعي
قيام سيرة ذوي الشعور من أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة.
وناقشه صاحب الكفاية بوجهين:
الوجه الأول: ان المطلوب إثبات بناء العقلاء على ذلك تعبدا، وهو غير
ثابت، بل يمكن أن يكون بناؤهم رجاء واحتياطا في مورد موافقة العمل
للاحتياط، أو اطمئنانا بالبقاء، أو ظنا نوعيا، أو غفلة عن احتمال الزوال كما هو
الحال في الحيوانات وفي الانسان في بعض الأحيان. اما بناؤهم على ذلك في غير
مورد الاطمينان والظن ومخالفة العمل للاحتياط فلم يثبت.
الوجه الثاني: انه لو سلم ثبوت بناء العقلاء التعبدي على العمل بالحالة
السابقة، فهو ليس بحجة ما لم يثبت الامضاء شرعا، وهو غير ثابت، لكفاية ما
دل من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم في الردع عن مثل
ذلك (1).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 387 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
33

أقول: تقدم منه في مبحث حجية خبر الواحد الاستدلال بالسيرة على
حجية الخبر. ومناقشة دعوى ثبوت الردع عنها بالآيات الناهية عن العمل بغير
العلم: بان رادعية الآيات للسيرة يستلزم الدور، لان الاخذ بعموم الآيات يتوقف
على عدم تخصيصه بالسيرة، وعدم تخصيصه بها يتوقف على ثبوت الردع عنها.
وذكر هناك: ان الالتزام بتخصيص العموم بالسيرة أيضا دوري، لأنه
يتوقف على عدم الردع عنها، وهو يتوقف على تخصيص السيرة للعموم. لكنه
ذكر: بان الدور وان تحقق من كلا الطرفين، لكنه يكفي في الامضاء عدم ثبوت
الردع ولا يعتبر ثبوت عدمه (1).
وقد نسب إليه وجه آخر ذكره في الحاشية على قوله: " فتأمل " هناك.
ملخصه: انه يمكن الرجوع في اثبات الامضاء وعدم الردع إلى الاستصحاب،
إذ العمل بخير الواحد قبل نزول الآيات كان موردا للامضاء فكان حجة، فمع
الشك في رادعية الآيات يستصحب حجيته (2).
والخلاصة: ان له هناك وجهين لنفي رادعية الآيات واثبات حجية السيرة:
أحدهما: عدم ثبوت الردع عنها بعد ثبوت الدور في تخصيص السيرة
للعموم، وفي عموم الآيات للسيرة لتوقف كل منهما على عدم الاخر.
والآخر: الرجوع إلى استصحاب الحجية الثابتة قبل نزول الآيات
الكريمة.
ولا يخفى ان التزامه بحجية السيرة القائمة على العمل بالخبر استنادا
إلى الوجه الثاني لا ينافي عدم التزامه بحجية السيرة في باب الاستصحاب، إذ
لا يمكن الاستناد إلى الاستصحاب مع الشك في رادعية الآيات عن السيرة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / - 303 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) هامش كفاية الأصول 2 / 101.
34

القائمة عليه، لأنه هو موضوع الشك في الامضاء ومحل الكلام فعلا. وهو واضح
جدا.
نعم، قد يرد عليه: انه كما لا يمكن التمسك بالاستصحاب هنا لا يمكن
التمسك به هناك، إذ مستند الاستصحاب لديه ليس إلا الاخبار وهي لا تخرج
عن كونها اخبار آحاد، فيرجع إلى الاستدلال على حجية الخبر بما لم يثبت إلا
بخبر الواحد.
واما الوجه الأول: فهو مما يمكن تطبيقه هنا، إذ اشكال الدور يتأتى بعينه
هنا، ونتيجته عدم ثبوت الردع، وهو مما يكتفى به في الامضاء.
هذا، ولكنك عرفت فيما تقدم تقريب رادعية الآيات عن السيرة وعدم
صلاحية السيرة للتخصيص، وان المخصص ليس هو السيرة بعنوانها، بل هو
القطع بالامضاء المنتفي مع احتمال الردع بالآيات، فليس هناك ما يعارض عموم
الآيات وما يتوقف الردع بها على عدمه كي يلزم الدور، لان المخصص معلوم
العدم.
وتقدم نفي جميع ما قيل في نفي صلاحية الآيات للردع من دعوى
الانصراف والحكومة فراجع تعرف (1).
وعليه: فبناء العقلاء على العمل بالاستصحاب لو تم صغرويا، فهو غير
حجة. للردع عنه بالآيات الناهية عن العمل بغير علم. فتدبر.
الدليل الثاني: ان الثبوت في السابق يوجب الظن بالثبوت في الزمان
اللاحق، فيجب العمل به.
وقد ناقشه صاحب الكفاية بوجهين:
الوجه الأول: منع اقتضاء مجرد الثبوت للظن بالبقاء، سواء أريد الظن

(1) 4 / 299 من هذا الكتاب.
35

الشخصي أو النوعي. فإنه لا وجه لهذه الدعوى سوى دعوى غلبة البقاء فيما
يثبت، وهي غير معلومة.
الوجه الثاني: انه لو سلم اقتضاء الثبوت للظن بالبقاء فلا دليل على
اعتباره بالخصوص، فلا يكون حجة، بل الدليل على عدم اعتباره لعموم ما دل
على النهي عن العمل واتباع الظن (1).
أقول: الذي يبدو للنظر ان دعوى حصول الظن بالبقاء بواسطة الغلبة
لا ترجع إلى محصل فضلا عن عدم ثبوتها.
وذلك لان الشك في البقاء اما ان ينشأ من الشك في مقدار اقتضاء
المقتضي وقابليته. واما ان ينشأ من الشك في وجود الرافع مع احراز المقتضي
واستعداد ذات الثابت أولا للبقاء.
اما في الأول: فلان غاية ما يمكن ان يقال، ان الثابت في ماله مقتضي
البقاء هو بقاؤه بمقدار استعداد مقتضيه واقتضائه مع اجتماع سائر اجزاء علته.
وأي ربط لهذا في اثبات الظن في بقاء ما لم يعلم كيفية اقتضاء مقتضيه وأنه بأي
نحو؟. مثلا: إذا ثبت ان المقتضي للدار المبنية بالاسمنت يقتضي بقاءها خمسين
سنة، والمقتضي للدار المبنية بالطين يقتضي بقاءها خمس سنوات، ولم يعلم مقدار
اقتضاء مقتضي الدار المبنية بالجص، وأنه هل يقتضي عشرين سنة أو
عشر سنين؟.
فإذا علم ببناء دار من الجص وبعد عشر سنوات شك في بقائها للشك
في مقدار استعدادها للبقاء، فهل هناك محصل لان يقال: ان ما ثبت يدوم
بملاحظة غلبة استمرار ثبوت ماله اقتضاء ماله اقتضاء الاستمرار؟، وأي ربط لذلك بعد
ملاحظة اختلاف الأمور والموجودات في مقدار استعدادها للبقاء طولا وقصرا؟.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 388 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
36

وأما في الثاني: فلان دعوى الظن بالبقاء ترجع إلى دعوى الظن بعدم
الرافع، وهي تبتني على دعوى غلبة عدم الرافع في موارد تحقق الموجودات، وهذه
الدعوى لا وجه لها ولا مستند تستند عليه، فهي دعوى جزافية، مع أنها لا تتأتى
في ما إذا كان الشك في رافعية الموجود، الذي هو من أقسام الشك في الرافع.
الدليل الثالث: الاجماع فقد حكي عن المبادي أنه قال: " الاستصحاب
حجة لاجماع الفقهاء على أنه متى حصل حكم ثم وقع الشك في أنه طرء ما يزيله
أم لا، وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا، ولولا القول بان الاستصحاب حجة
لكان ترجيحا لاحد طرفي الممكن من غير مرجح " (1)، كما نقل عن غيره.
والاشكال في هذا الوجه واضح كما في الكفاية (2).
إذ الاجماع - ويراد به اصطلاحا الاتفاق المستكشف منه قول المعصوم
(عليه السلام)، لا مجرد الاتفاق الحاصل بين الفقهاء - اما محصل أو منقول،
وكلاهما لا أساس له ههنا.
أما المحصل: فتحققه ممنوع في مثل هذه المسالة مما اختلفت فيها المباني
والوجوه، فإنه لا يكون تعبديا كاشفا عن قول المعصوم (عليه السلام)، مع تحقق
الخلاف من كثير، حيث ذهبوا إلى منع حجيته.
وأما المنقول: فهو مضافا إلى عدم حجيته في نفسه، غير تام للعلم بثبوت
الخلاف كما عرفت.
والمتحصل: ان جميع هذه الوجوه لا تنهض لاثبات حجية الاستصحاب
والعمدة في الاستدلال عليه هو النصوص المتعددة:
منها: صحيحة زرارة قال: " قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب
الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟. فقال (ع): يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب

(1 2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 388 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
37

والاذن، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء. قلت: فان حرك على
جنبه شئ ولم يعلم به؟. قال (ع): لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجئ من
ذلك أمر بين، والا فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك، وانما
- لكن (التهذيب) - ينقضه بيقين آخر " (1).
وقد اتفق الاعلام على عدم كون الاضمار مخلا بالاستدلال، للعلم بان
المراد من الضمير هو الإمام (عليه السلام)، لان الراوي هو زرارة، وهو من
الجلالة والقدر بمكان بحيث يعلم انه لا يسال من غير الإمام (عليه السلام).
ولا يخفى ان سؤاله الأول عن ايجاب الخفقة والخفقتين للوضوء سؤال عن
شبهة حكمية، إما لاشتباه مفهوم النوم لديه وتردده بين الأقل والأكثر وشموله
للخفقة والخفقتين. واما للشك في كون الخفقة أو الخفقتين ناقضا مستقلا.
وعلى أي حال، فليست هذه الفقرة محل الاستدلال بالرواية، وانما محل
الاستدلال بها هو قوله: " والا فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا
بالشك... " الواقع في مقام الجواب عن السؤال عن حكم ما إذا حرك في جنبه
شئ ولم يعلم به، الظاهر في كونه سؤالا عن شبهة موضوعية للشك في تحقق النوم
الناقض، وهو نوم الاذن والقلب.
ولتحقيق الحال في مفاد هذه الفقرة ودلالتها على الاستصحاب لا بد من
التعرض لمحتملات مفادها وتشخيص ما هو الأصح منها، فنقول: المحتملات
التي أشار إليها الشيخ (رحمه الله). وتبعه صاحب الكفاية ثلاثة:
الاحتمال الأول: ما قربه (قدس سره) من أن الجزاء لقوله: " والا "
محذوف، وقوله: " فإنه على يقين... " علة للجزاء قامت مقامه لدلالته عليه،
فالتقدير: " وإلا فلا يجب عليه الوضوء، لأنه على يقين من وضوئه ولا ينقض

(1) وسائل الشيعة 1 / 174، حديث: 1.
38

اليقين أبدا بالشك ".
وذكر (قدس سره): ان قيام العلة مقام الجزاء لا يحصى كثرة في القرآن
وغيره مثل قوله تعالى: (وان تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) وقوله:
(ان تكفروا فان الله غني عنكم) (2) وغيرهما.
الاحتمال الثاني: أن يكون قوله: " فإنه على يقين من وضوئه " هو الجزاء
بان يكون جملة خبرية أريد بها الانشاء جدا، ككثير من الجمل الخبرية الواقعة
في مقام الانشاء.
الاحتمال الثالث: أن يكون الجزاء هو قوله: " ولا ينقض اليقين بالشك "
ويكون قوله: " فإنه على يقين من وضوئه " توطئة وتمهيدا لذكر الجزاء، فيكون
المراد: " وإن لم يستيقن أنه نام، فحيث أنه على يقين من وضوئه فلا ينقض اليقين
بالشك " (3).
وهنا احتمال رابع قربه المحقق الأصفهاني، وهو أن يكون قوله: " فإنه على
يقين من وضوئه " جزاء مع التحفظ على ظهوره في مقام الاخبار جدا، فيكون
خبرا محضا مع كونه جزاء بنفسه (4).
إذا عرفت هذه المحتملات في الرواية فلا بد من معرفة ما هو الصحيح
والمتعين منها، ثم معرفة مقدار ارتباطه بالاستصحاب. فنقول:
اما الأول: فقد عرفت تقريب الشيخ له وبنى عليه صاحب الكفاية
(رحمه الله). وهو في حد نفسه معقول وليس ببعيد عن مقتضى التركيب الكلامي،
الا انه انما يتعين الاخذ به إذا لم يكن في المحتملات الأخرى ما هو أرجح منه

(1) سورة طه، الآية: 7.
(2) سورة الزمر، الآية: 7.
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 329 - الطبعة الأولى.
الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 389 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(4) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 18 - الطبعة الأولى.
39

بلحاظ الموازين في باب الاستعمال. وسيتضح ذلك انشاء الله تعالى بعد قليل.
واما الثاني: فقد حكم الشيخ (رحمه الله) بأنه يحتاج إلى تكلف. وأفاد
صاحب الكفاية (رحمه الله) انه إلى الغاية بعيد.
ولعل السر فيه: ما أشار إليه في الكفاية من انه لا يصح الا بان يراد منه
لزوم العمل على طبق يقينه بوضوئه. وهو تكلف واضح وبعيد عن ظهور الكلام.
ولكن المحقق الأصفهاني (رحمه الله) لم يستبعد ذلك، ونفى التكلف فيه،
بأنه كسائر الموارد التي تستعمل فيها الجملة الخبرية في مقام الانشاء، كقوله:
" يعيد " أو: " يغتسل " أو نحو ذلك في مقام بيان وجوب الإعادة أو الغسل، كما يبين
ذلك في مباحث الأصول اللفظية (1).
والذي نراه عدم صحة ما أفاده المحقق الأصفهاني (رحمه الله)، إذ الثابت
في محله جواز استعمال الجملة الخبرية في مقام الانشاء إذا كانت فعلية، وهو
المعهود خارجا، دون ما إذا كانت إسمية، فلا يصح أن يقول في مقام ايجاب
الإعادة: " هو معيد ". ولم يعهد ذلك في الاستعمالات العرفية أصلا.
ولعل السر فيه: ان الجملة الفعلية تحكي عن النسبة الصدورية، فيمكن
ان يقال بان ابراز النسبة الصدورية وكأنها متحققة في مقام الانشاء، يصح ان
يجعل كناية عن إرادة الصدور، ويستعمل في مقام البعث نحو تحقيق الفعل
وايجاده.
وليس كذلك الجملة الاسمية، فإنها تتكفل الحكاية عن اتصاف الذات
بالوصف، وذلك لا يصلح أن يكون كناية عن إرادة الصدور والايجاد، ويستعمل
في مقام البعث نحو ايجاد الفعل فلا حظ.
وبما أن قوله: " فإنه على يقين من وضوئه " جملة اسمية، فلا تصلح ان

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية / 3 / 17 - الطبعة الأولى.
40

تستعمل في مقام البعث نحو العمل على طبق اليقين وايجابه.
إذن فهذا الاحتمال بهذا البيان غير سديد.
ولكن يمكن تقريبه بنحو آخر، بان يقال: ان قوله: " فإنه على يقين من
وضوئه " جملة خبرية مستعملة في مقام الانشاء، لكن لا يراد بها انشاء البعث كي
يتأتى ما ذكر، بل يقصد بها التعبد باليقين بقاء وجعل اليقين تعبدا، فيكون
المعنى: " إن لم يستيقن بالنوم فهو متيقن تعبدا بالوضوء ". وهذا المعنى لا محذور
فيه، بل يكون مفاد هذا الكلام مفاد قوله: " لا ينقض اليقين بالشك " في كونه
تعبدا باليقين.
وعليه، فان أمكن البناء على قابلية اليقين بعنوانه للتعبد ولو بلحاظ
الجري العملي كما عليه المحقق النائيني (1) فهو، والا التزم بان المراد التعبد
بالمتيقن، كما يذكر ذلك في قوله: " لا تنقض اليقين بالشك ".
وبالجملة: يكون قوله: " فإنه... "، هو الجزاء، ويكون المقصود به هو انشاء
التعبد باليقين فيكون مفاده مفاد: " لا تنقض اليقين بالشك "، وهو معنى معقول،
وليس فيه مخالفة الموازين المصححة للكلام.
ومن الغريب غفلة الاعلام عن ذلك وصرف نظرهم إلى إرادة انشاء
البعث.
واما الاحتمال الثالث: فهو مما لا يصح الالتزام به، إذ لو كان قوله: " ولا
ينقض اليقين بالشك " هو الجزاء، لما صح تصديره بالواو، بل اما أن يكون مصدرا
بالفاء أو مجردا عنهما، كما لا يخفى على من لا حظ نظائره، مثل أن يقول: " ان
جاء زيد من السفر فحيث إنه تعبان هئ له وسائل الراحة أو فهئ له ذلك ".
واما الاحتمال الرابع: فهو غير صحيح أيضا. ومحصل الاشكال فيه: ان

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 260 - الطبعة الأولى.
41

المراد من قوله: " فإنه على يقين من وضوئه " اما اليقين بالوضوء حدوثا أو بقاء.
فان أريد اليقين حدوثا، فهو غير مترتب على عدم اليقين بالنوم. وظاهر الجملة
الشرطية هو ترتب الجزاء على الشرط. وان أريد اليقين بقاء، فهو مخالف
للوجدان، كيف؟ والمفروض انه شاك في بقاء الوضوء.
وقد أنكر المحقق الأصفهاني دعوى اقتضاء الشرطية ترتب الجزاء على
الشرط واستناده إليه، بل ربما يعكس الامر، كقولهم: " ان كان النهار موجودا
فالشمس طالعة ".
ثم قرب هذا الوجه بما يبتني على تجريد متعلق اليقين والشك من
خصوصية الزمان (1). ولا يهمنا ذكره فعلا بعد أن عرفت الاشكال في أصل
الاحتمال، ولعلنا نعود إلى بيانه بعد ذلك انشاء الله تعالى.
واما انكاره اقتضاء الشرطية سببية الشرط للجزاء، فقد تقدم البحث في
ذلك في مبحث مفهوم الشرط (2).
والتزمنا هناك بان ظهور الجملة الشرطية في ذلك مما لا ينكر.
وما ذكر في المثال تقدم الجواب عنه: بان الجزاء فيه أيضا مترتب على
الشرط لكن بوجوده العلمي لا الخارجي، والملحوظ في الشرطية ذلك. وبعبارة
أخرى: الشرطية ههنا بلحاظ مقام الاثبات، والترتب فيه ثابت. فراجع.
والذي يتحصل: ان الصحيح من هذه المحتملات هو الأول والثاني
بالمعنى الذي بيناه.
ولا يخفى ان الرواية على الاحتمال الثاني تكون دالة على حجية
الاستصحاب في مطلق الموارد من دون اختصاص بباب الوضوء. فان الجزاء وان

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 18 - الطبعة الأولى.
(2) راجع 3 / 214 من هذا الكتاب.
42

كان يتكفل التعبد باليقين بالوضوء، الا ان قوله بعد ذلك: " ولا ينقض اليقين
ابدا بالشك " ظاهر في بيان قاعدة كلية يتكفل التعبد باليقين في كل موارد اليقين
والشك، فيكون التعبد باليقين في باب الوضوء من باب أنه صغرى من صغريات
هذه الكلية ومصداق من مصاديقها، فهي جملة مستأنفة تفيد أن الحكم لا يختص
بباب الوضوء، بل يجري في كل يقين وشك، نظير أن يقول: " ان جاءك زيد فأكرمه
وأكرم كل من يجيئك ".
وبالجملة: لا يراد من قوله: " لا ينقض... " خصوص اليقين بالوضوء، والا
كان تكرارا لقوله: " فإنه على يقين من وضوئه " وهو خلاف الظاهر.
واما على الاحتمال الأول، فهي بحسب الموازين ظاهرة في اختصاص
الاستصحاب بباب الوضوء، لان قوله (عليه السلام): " فإنه على يقين... " فرض
انه تعليل للحكم المقدر وهو عدم وجوب الوضوء.
والظاهر أن العلة مركبة من صغرى وهي قوله: " انه على يقين من
وضوئه "، وكبرى وهي: " لا ينقض اليقين بالشك ". ومن الواضح لزوم اتحاد
الأوسط المتكرر في الصغرى والكبرى بحسب القيود والخصوصيات، فإذا تقيد
الأوسط بقيد في الصغرى لا بد ان يتقيد به في الكبرى، ولا معنى لتجرده في
الكبرى عن القيد، إذ المقصود في القياس هو اثبات الأكبر للأصغر بواسطة
حمل الأوسط على الأصغر، وحمل الأكبر على الأوسط، فالأوسط في الكبرى
يلحظ طريقا لاثبات الأكبر للأصغر، فإذا فرض ان الأكبر ثابت له بنفسه بلا
خصوصية للقيد فلا معنى ان يكنون المحمول على الأصغر هو المقيد، إذ لا أثر
للقيد ولا خصوصية له في اثبات نتيجة القياس.
وعليه، فتقيد الأوسط في الصغرى يكشف عن تقيده في الكبرى، والا
كان التقيد لغوا، وهو خلاف. فلا يصح ان يقال: " هذا عالم بالفقه - على أن يكون
الفقه قيدا - وكل عالم يجب اكرامه " إذا فرض ان وجوب الاكرام ثابت للعالم
43

بدون خصوصية الفقاهة.
وعليه، ففيما نحن فيه إذا فرض ان الأوسط في الصغرى هو اليقين
بالوضوء، كان هو المأخوذ في موضوع الكبرى.
وعليه، فلا تفيد الكبرى سوى عدم نقض اليقين بالوضوء بالشك،
فيختص الاستصحاب على هذا التقدير بباب الوضوء.
ولا يخفى ان هذا الوجه لا يتأتى على الاحتمال الثاني، وذلك لان المقيد
هو متعلق التعبد، وهو مما لا يتنافى مع ثبوت الحكم في مطلق موارد اليقين، وذلك
لان المتعبد به ليس هو ذات اليقين أو اليقين بشئ على إجماله، بل المتعبد به هو
اليقين بالشئ بعنوانه الخاص من وضوء أو صلاة أو وجوب أو نحو ذلك، سواء
استفدنا عموم عدم نقض اليقين بالشك لمطلق الموارد أو في خصوص مورد
الوضوء، اذن فاخذ خصوصية " من وضوئه " لا تنافي عموم الاستصحاب لغير
باب الوضوء، بل هو لازم أعم.
والسر في ذلك: ان التعبد باليقين ليس هو الوسط المتكرر في القياس،
بل هو المحمول في الكبرى المستفاد من النهي عن نقض اليقين بالشك، وانما
الموضوع هو نفس اليقين والشك فيقال: هذا متيقن وشاك، وكل متيقن وشاك
يحكم عليه بأنه متيقن بما تيقن به، فهذا متيقن بما تيقن به.
وعليه: فاخذ الوضوء في المتعبدية ليس كاشفا عن تقيد الموضوع
بخصوصية الوضوء ولا ظهور له في ذلك.
وعليه فيمكن التمسك باطلاق لفظ اليقين في قوله: " ولا ينقض " لاثبات
عموم الحكم لمطلق الموارد، ولا قرينة على التخصيص الا ما يتوهم من كون
مورده خصوص اليقين بالوضوء، وهو فاسد لما تقرر في محله من أن المورد لا يقيد
الموارد. فتدبر جيدا.
وكيف كان، فيقع الكلام في ترجيح أي الاحتمالين اثباتا.
44

وقد يستفاد استناد الشيخ (رحمه الله) - في ترجيح كون قوله: " فإنه على
يقين... " علة لا جزاء - إلى ما ورد من الجمل المشابهة لها التي قامت العلة مقام
الجزاء فيها (1).
ولكن هذا قابل للدفع: باعتبار انه انما يلتزم في الأمثلة التي ذكرها الشيخ
ونحوها بقيام العلة مقام الجزاء، لا من جهة ظهور الكلام فيه، ولو بواسطة كثرة
الاستعمال فيه، بل لعدم صلاحية مدخول الفاء لكونه جزاء.
والا كان هو الجزاء - وكثرة الاستعمال في العلية معارضة بكثرة استعمال
مثل هذا التركيب في الجزاء أيضا - كما في قوله تعالى: (فان يخرجوا منها فانا
داخلون) (2). وقوله تعالى: (فان فعلت فإنك إذا من الظالمين) (3) وغيرهما.
فإذا كان مدخول الفاء فيما نحن فيه صالحا لكونه جزاء كما بيناه تعين
حمله على ذلك، لان الالتزام بتقدير الجزاء وقيام العلة مقامه، التزام بخلاف
الظاهر، فان التقدير على خلاف الأصل في الاستعمالات، مع أن الفاء ظاهرة في
كون مدخولها هو الجزاء، فيتعين الالتزام بالاحتمال الثاني. وقد عرفت أن مقتضاه
دلالة الرواية على الاستصحاب في غير باب الوضوء.
كما انك عرفت أن مقتضى الاحتمال الأول اختصاص الاستصحاب
بباب الوضوء، الا ان الشيخ (رحمه الله) تصدى لاثبات العموم ببيان: ان اللام
في قوله: " ولا ينقض اليقين... " للجنس لا للعهد، فتفيد قاعدة عامة لمطلق افراد
اليقين والشك بلا اختصاص باليقين بالوضوء (4).
ولكن يورد عليه بما أفيد من: انه لا أثر لدعوى كون اللام للجنس لا

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 329 - الطبعة الأولى.
(2) سورة المائدة، الآية: 22.
(3) سورة يونس، الآية: 106.
(4) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 330 - الطبعة الأولى.
45

للعهد، وذلك لان اليقين في الصغرى اما ان تلحظ في خصوصية الوضوء بنحو
التقييد أولا...
فان لوحظت فيه بنحو التقييد لم ينفع كون اللام للجنس في اثبات عموم
الكبرى، لما عرفت من لزوم اتحاد الأوسط المتكرر في الصغرى والكبرى في
الخصوصيات، فيكون ذلك قرينة على تقييد اليقين المأخوذ في الكبرى.
وإن لم تلحظ فيه بنحو التقييد، بل لو حظ اليقين بما هو يقين لا أكثر،
كانت الكبرى عامة لكل باب وان كانت اللام للعهد، إذا المعهود هو ذات اليقين
لا اليقين الخاص.
ومع التردد في أخذ الخصوصية بنحو التقييد أو بنحو الموردية، كان الكلام
مجملا لاحتفافه بما يصلح للقرينية.
فظهر انه لا فائدة في تحقيق ان اللام للجنس لا ثبات العموم، بل المدار
على إلغاء خصوصية تعلق اليقين بالوضوء.
ولأجل ذلك لا بد من تحقيق ان خصوصية تعلق اليقين بالوضوء، هل هي
ملحوظة في الحكم أو لا؟.
وقد ذكر صاحب الكفاية (رحمه الله) وجوها ثلاثة لا ثبات إلغاء
الخصوصية.
الوجه الأول: ما أفاده من ظهور التعليل في كونه بامر ارتكازي لا
تعبدي، وهو يقتضي أن يكون موضوع النقض مطلق اليقين لا خصوص اليقين
بالوضوء، لأنه لو قيد اليقين بالوضوء كان التعليل تعبديا وهو خلاف الظاهر.
الوجه الثاني: ان احتمال اختصاص قوله: " ولا ينقض اليقين بالشك "
بباب الوضوء ليس إلا من جهة احتمال كون اللام للعهد، مع أن الظاهر كونها
للجنس كما هو الأصل فتفيد العموم.
الوجه الثالث: ان قوله: " فإنه على يقين من وضوئه " لا ظهور له في تقيد
46

اليقين بالوضوء، بحيث يكون الأوسط هو اليقين بالوضوء، لقوة احتمال أن يكون
قوله: " من وضوئه " متعلقا بالظرف المقدر لا بلفظ اليقين، فكأنه قال: " فإنه
من طرف وضوئه على يقين "، فيكون الأوسط هو ذات اليقين لا خصوص اليقين
بالوضوء (1).
اما الوجه الأول، فقد يورد عليه: بان الحكم المذكور في العلة لا يلزم أن يكون
معلوما لدى المخاطب وفي ذهنه في مرحلة سابقة على الخطاب، بل قد يفهم
حكم العلة بنفس التعليل، كما لو قال: " أكرم زيدا لأنه عالم " ولم يكن في ذهنه
وجوب اكرام العالم، بل يستفاد وجوب اكرام العالم من نفس هذا الدليل.
وهذا الايراد قابل للدفع، ويتضح ذلك ببيان مراده (قدس سره)، فنقول:
ان العلة " تارة ": تكون حكما ارتكازيا عقلائيا أو شرعيا، كما لو قال: " لا تضرب
اليتيم لأنه ظلم "، فان حرمة الظلم عقلا وشرعا ثابتة في الأذهان. " وأخرى ":
تكون حكما تعبديا غير مرتكز ذهنا، كما لو قال: " أكرم زيدا لأنه عالم ".
والتعليل في كلا الموردين ظاهر في ملاحظة العلة، وهي الحكم العام في
مرحلة سابقة على الحكم الخاص في هذه القضية، فيدل التعليل على ثبوت الحكم
العام في حد نفسه، وانه ثابت للمورد الخاص من باب التطبيق وكونه أحد
أفراده.
ثم إنه قد يتعقب التعليل جملة تتكفل ببيان حكم الموضوع العام، مثل أن يقول
: " أكرم زيدا لأنه عالم والعام يجب اكرامه " و: " لا تضرب اليتيم لأنه ظلم
والظلم حرام أو قبيح "، فهل مثل هذه الجملة توضيح لما تقدم - لان حكم العام
قد فهم من نفس التعليل كما عرفت. ولذا لو اقتصر عليه ولم يتعقب بهذه الجملة
فهم منه حرمة مطلق الظلم ووجوب اكرام مطلق العام - أو أنه لبيان شئ آخر

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 389 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
47

متمم للتعليل كما هو مقتضى التركيب اللفظي لان ظاهر الكلام انه جزء متمم
للتعليل؟.
والذي نستظهره هو الثاني، فإنها ليست بيانا لمجرد ثبوت الحكم
للموضوع العام، كما هو مقتضى الجمود على حاق اللفظ، كي تكون توضيحا لما
تقدم، بل هي لبيان مناسبة ثبوت الحكم للموضوع العام، وان الموضوع العام
يناسب ان يثبت له هذا الحكم، فكأنه قال: " والعالم يناسب أو ينبغي ان يثبت له
وجوب الاكرام "، فيكون ذلك تعليلا بامر ارتكازي، وهذا هو معنى ظهور
التعليل في أنه بامر ارتكازي، فيحمل الكلام على ذلك، لأنه اخذ في التعليل، لا
على بيان مجرد ثبوت الحكم للموضوع العام، فإنه ليس أمرا ارتكازيا دائما، إذ
قد يكون مجهولا غير معلوم.
وعليه، ففيما نحن فيه علل نفي وجوب الوضوء في مورد السؤال في
الرواية بأنه على يقين من وضوئه، ثم عقبه بقوله: " ولا ينقص اليقين بالشك "،
وظاهر هذه الجملة الأخيرة بمقتضى ما ذكرناه أنها في مقام بيان المناسبة لعدم
نقض اليقين بالشك، والتناسب بين اليقين وعدم نقضه بالشك هي جهة
الاستحكام والابرام فيه، وجهة التزلزل في الشك فلا يناسب ان ينقض به
اليقين.
ولا يخفى انه لا خصوصية لمتعلق في ذلك بل المدار على نفس
اليقين والشك.
وعليه، فيكون الحكم ثابتا في مطلق موارد اليقين بمقتضى كون التعليل
بامر ارتكازي.
هذا غاية ما يمكن توجيه ما أفاده في الكفاية.
ولكن يمكن ان يناقش فيه: بأنه انما يتم لو كان قوله: " ولا ينقض اليقين
بالشك " تمام التعليل.
48

ولكنه ليس كذلك، بل هو جزء التعليل، فان التعليل بحسب ظاهر
الكلام مركب من جزءين: أحدهما: كونه على يقين من وضوئه، والاخر: عدم
مناسبة نقض اليقين بالشك فلو فرض ظهور الجزء الأول في دخل خصوصية
الوضوء فلا معنى لإلغائها، نظير ما لو صرح بان الملاك في ثبوت الحكم هو كونه
على يقين من الوضوء بما هو كذلك ومناسبة عدم نقض اليقين بالشك، فإنه لا
منافاة في ذلك لشئ. فلا ملازمة بين أخذ المناسبة في العلة وبين إلغاء خصوصية
الوضوء. فلا حظ.
واما الوجه الثاني: فقد عرفت المناقشة فيه حين التعرض لكلام الشيخ،
وبيان ان الملاك في العموم إلغاء خصوصية الوضوء، سواء كانت اللام للجنس أو
للعهد.
واما الوجه الثالث: فهو متين، فإنه إذا فرض عدم أخذ الوضوء في
المتعلق، بل اخذ الأوسط هو اليقين مجردا عن خصوصية تعلقه بالوضوء، كان
الدخيل في العلة هو مطلق اليقين لا اليقين الخاص. فيكون كما لو قال: " فإنه
من وضوئه على يقين "، فإنه لا يتوهم تقيد اليقين بالوضوء، ولا اثر لتأخير قوله:
" من وضوئه " أو تقديمه في ذلك.
يبقى بيان سر عدم كون قوله: " من وضوئه " متعلقا لليقين، بل بالظرف
المقدر، وهو ان اليقين انما يتعدى إلى متعلقه ب‍: " الباء " لا ب‍: " من " فيقال: تيقن
بكذا وأنا على يقين بكذا، ونحو وهو واضح.
ويضاف إلى هذا الوجه وجه آخر، وهو ما أشير إليه في بعض الكلمات
من أن اليقين لما كان من الصفات التعلقية التي تتقوم بالمتعلق مضافا إلى
الموضوع، كان ذكر المتعلق غير كاشف عن خصوصية فيه، بل انما هو من باب
لا بدية المتعلق فيه (1).

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 18 - الطبعة الأولى.
49

هذا تمام الكلام في معنى الرواية. وقد عرفت أن الأقرب ما ذكرناه.
ثم انك عرفت فيما تقدم وجود القول بالتفصيل في اعتبار الاستصحاب
بين مورد الشك في البقاء لاجل الشك في المقتضي فلا يعتبر فيه الاستصحاب.
ومورد الشك في البقاء لاجل الشك في الرافع فيعتبر فيه الاستصحاب
وممن بنى على هذا القول الشيخ (رحمه الله) مستظهرا الاختصاص من نصوص
الاستصحاب (1). وخالفه في ذلك صاحب الكفاية فذهب إلى اعتبار الاستصحاب
مطلقا، وفي كلا الموردين لعموم النصوص (2).
وقد تعرض الشيخ إلى بيان جهة الاختصاص بعد ذكره لجميع
النصوص، ولكن صاحب الكفاية تعرض إليه ههنا.
ونحن نتعرض فعلا إلى ذلك وبيان ما هو الحق لدينا، لان ترتيب أبحاثنا
يتبع نهج الكفاية.
فنقول: ان منشأ ما ذهب إليه الشيخ من اختصاص الاستصحاب بمورد
كون الشك في البقاء من جهة الشك في الرافع، هو لفظ: " النقض " الوارد في
النص، وعليه يدور محور الحديث.
فقد أفاد الشيخ (رحمه الله): ان حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتصالية
كما في نقض الحبل ونقض الغزل، والمفروض انه لم يستعمل في النص في هذا
المعنى، فيدور أمره بين ان يراد به رفع الامر الثابت الذي له اقتضاء الاستمرار،
وان يراد به مطلق رفع اليد عن الشئ بعد الاخذ به ولو كان رفع اليد لاجل
عدم المقتضي، والمتعين هو الأول لأنه أقرب إلى المعنى الحقيقي من الثاني.
وقد ذكر: ان ذلك يكون منشئا لتخصيص المتعلق باليقين المتعلق بما من

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 328 و 336 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 390 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
50

شانه الاستمرار وان كان في نفسه عاما لكل يقين، إذ الفعل الخاص يكن مخصصا
لعموم متعلقه، نظير قول القائل: " لا تضرب أحدا " المحمول على خصوص
الاحياء، لظهور الضرب في المؤلم، ولا يكون عموم: " أحد " لغير الاحياء قرينة
على إرادة مطلق الضرب عليه ولو لم يكن مؤلما.
ثم تعرض لتوهم: ان ما اختاره يستلزم التصرف في لفظ اليقين بحمله
على إرادة المتيقن منه، إذ التفصيل المزبور بلحاظ المتيقن. فدفعه: بان التصرف
لازم على كل حال، ولو التزم بالتعميم، لان النقض الاختياري المتعلق للنهي لا
يتعلق باليقين، بل المراد نقض ما كان على يقين منه كالطهارة، أو المراد احكام
اليقين لا بمعنى احكام نفس وصف اليقين، لأنها ترتفع بمجرد الشك، بل احكام
المتيقن الثابتة له بسبب اليقين. هذا خلاصة ما أفاده الشيخ (رحمه الله) (1).
واما صاحب الكفاية، فقد أوقع البحث تارة: في مادة النقض. وأخرى:
في هيئة: " لا تنقض " وذكر: ان شيئا منهما لا يستلزم التخصيص بما ذهب إليه
الشيخ.
اما من حيث المادة، فقد أفاد: ان النقض ضد الابرام، فيحسن ان يسند
إلى نفس اليقين ولو كان متعلقا بما لا اقتضاء فيه للبقاء، لما يتخيل فيه من
الاستحكام فجهة الاستحكام في اليقين هي المصححة لاسناد النقض إليه ولا
عبرة بما فيه اقتضاء البقاء إذ ليس المصحح لاسناد النقض وجود المقتضي للبقاء
والا لصح ان يقال: " نقضت الحجر من مكانه " مع أنه ركيك. ولما صح ان يقال:
" انتقض اليقين باشتعال السراج " فيما إذا شك في بقائه لاجل الشك في مقدار
استعداده، مع أنه حسن وصحيح. فيكشف ذلك عن أن مناط صحة اسناد
النقض هو جهة الاستحكام، وهي ثابتة في اليقين في كلا الموردين، فيسند

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 336 - الطبعة الأولى.
51

النقض حقيقة إلى اليقين بملاحظته لا بملاحظة متعلقة، فلا تصل النوبة إلى
التجوز كي يتوخى أقرب المجازات.
وأورد على نفسه: بان اليقين - في باب الاستصحاب - لا ينقض حقيقة،
إذ اليقين بالحدوث ثابت، فلا بد من فرض المتيقن مما له اقتضاء البقاء، كي يكون
اليقين بالحدوث حقيقة يقينا بالبقاء مسامحة، فيصح اسناد النقض إلى اليقين
مسامحة بهذه الملاحظة. بخلاف ما إذا لم يكن للمتعلق اقتضاء البقاء، فإنه لا يقين
بلحاظ البقاء ولو مسامحة، فلا معنى لاسناد النقض إلى اليقين.
وأجاب عن ذلك: بان هنا وجها آخر هو الظاهر لتصحيح اسناد النقض
إلى اليقين بلا حاجة إلى هذا الوجه، وهو لحاظ اتحاد متعلقي اليقين والشك ذاتا،
والغاء جهة اختلافهما زمانا، وهذا يصحح اسناد النقض إليه، ولا فرق في ذلك
بين تعلقه بماله اقتضاء البقاء وما ليس له اقتضاء البقاء.
واما من حيث الهيئة، فقد أفاد: بان المراد هو النهي عن النقض بحسب
البناء والعمل لا حقيقة، لان النقض الحقيقي خارج عن الاختيار سواء تعلق
باليقين أم بالمتيقن أم بآثار اليقين.
وعليه، فلا يجوز التصرف بحمل اليقين على إرادة المتيقن لاجل إبقاء
الصيغة على حقيقتها، بل يؤخذ بما هو الظاهر من النهي عن نقض اليقين.
ثم أورد على نفسه: بأنه لا محيص عن التصرف في لفظ اليقين وحمله على
إرادة المتيقن، إذا المنهي عنه وان كان هو النقض العملي، لكنه غير مراد بالنسبة
إلى اليقين وآثاره، لمنافاته لمورد النصوص، بل المراد هو النهي عن نقض المتيقن
بحسب العمل.
وأجاب عنه: بان النهي متعلق بنقض اليقين، لكن اليقين ليس ملحوظا
باللحاظ الاستقلالي، بل ملحوظا مرآة للمتيقن وبالنظر الآلي، فيكون كناية عن
لزوم البناء والعمل بالتزام حكم مماثل للمتيقن تعبدا إذا كان حكما أو لحكمه إذا
52

كان موضوعا. هذه خلاصة ما أفاده صاحب الكفاية (1).
والذي يبدو ان نقطة الخلاف بين الشيخ وبينه هو: ان نظر الشيخ إلى أن
النقض مسند في الواقع إلى المتيقن، فيعتبر فيه كونه مما فيه اقتضاء البقاء. ونظره
(قدس سره) إلى أن النقض مسند إلى اليقين بنفسه، وهو ذو جهة تصحح اسناد
النقض إليه، أعم من أن يكون متعلقه ذا اقتضاء للبقاء أو لا يكون، وهي جهة
الاستحكام فيه فلا وجه لحمله على خلاف ظاهره والالتزام بتخصيص
الاستصحاب بخصوص مورد الشك في الرافع.
وتحقيق الكلام في المقام على نحو يرتفع به بعض الابهام: ان لفظ النقض يسند
إلى الدار، فيقال: " نقض الدار " ويفسر في كتب اللغة بهدم الدار، ويسند إلى
الحبل ويفسر بحله، ويسند إلى العظام، فيقال: " نقض العظم " ويفسر بالكسر،
ويسند إلى الحكم، فيقال: " نقض الحكم " في قبال ابرامه، ونص في اللغة على أنه
مجاز (2). كما يقال: قولان متناقضان، وغير ذلك، كما أنه قد يفسر الانقاض بمعنى
التصويت كما في مثل قوله تعالى: (الذي أنقض ظهرك) (3) فإنه فسر
بالتصويت (4).
والذي يمكن الجزم به ان الكسر والهدم والحل والرفع كل ذلك ليس معنى
للنقض، وانما هو تفسير له باللازم أو المحقق لمفهومه، والمعنى الجامع بين هذه
الموارد جميعا هو ما يساوق التشتيت والنكث وفصل الاجزاء بعضها عن الاخر،
فنقض الشئ يرجع إلى رفع الهيئة الاتصالية وتشتيت الاجتماع الحاصل
للاجزاء. وبذلك يكون نقض الدار بمعنى هدمها لأنه بالهدم تنعدم الهيئة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 391 - 392 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) أقرب الموارد مادة نقض.
(3) سورة الشرح، الآية: 3.
(4) الفضل بن الحسن العلامة الطبرسي. مجمع البيان 5 / 508 - الطبعة الأولى.
53

الاجتماعية لاجزاء الدار من غرفة وسطح وصحن وغير ذلك.
كما أن نقض العظم يكون بكسره لأنه يفصل اجزاء العظم بعضها عن
الاخر.
ومعنى نقض الحبل نكثه وحله. ومثله نقض الغزل وهكذا.
وبالجملة: النقض هو اعدام الهيئة التركيبية ورفع الاتصال بين الاجزاء
ولعله مراد الشيخ (رحمه الله) من انه رفع الهيئة الاتصالية.
وعليه، فاسناد النقض إلى ما لا أجزاء له كالحكم والبيعة والعهد واليقين،
اسناد مجازي، والمصحح له أحد وجهين:
الوجه الأول: ان يلحظ استمرار وجود الشئ، فتكون له وحدة تركيبية
بلحاظ الاجزاء التدريجية المتصلة، فان الموجود التدريجي المتصل وجود واحد ذو
اجزاء بلحاظ تعدد آنات الزمان، ويكون المراد من نقضه قطع الاستمرار وعدم
الحاق الاجزاء المفروضة المقدرة بالاجزاء المتقدمة، فيصدق النقض بنحو المجاز
بهذه الملاحظة، ولا يكون صدقه حقيقيا، لعدم تحقق الاجزاء اللاحقة، بل ليس إلا
مجرد الفرض والتقدير.
والوجه الثاني: أن يكون بلحاظ عدم ترتب الأثر على المنقوض، فيشابه
المنقوض حقيقة من هذه الجهة.
ولكن المتعين هو الأول من الوجهين، إذ الثاني غير مطرد، إذ نفي الأثر
مع عدم إلغاء الهيئة التركيبية للشئ المركب حقيقة لا يطلق بلحاظه النقض ولو
بنحو المجاز، فالمصحح يتعين أن يكون هو الأول.
ثم لا يخفى عليك انه لا يعتبر أن يكون متعلق النقض مما فيه إبرام فعلا،
لصدق النقض بدونه، كما لو كان صف من اشخاص واقفين بلا استحكام وإبرام
فيه، فتفرقة افراد الصف نقض للصف مع عدم الابرام. ولعله مما يشهد لما ذكرنا:
ان أهل اللغة يفسرون نقض الحكم برفعه في مقابل ابرامه، فيجعلون الابرام في
54

عرض النقض لا في مرحلة سابقة عليه، كما لا يعتبر فيه الاستحكام أو
الاستمساك، فان جميع ذلك لزوم ما لا يلزم، لصدق النقض بدونه جزما كمثال
الصف المتقدم.
وبالجملة: لا يعتبر في متعلق النقض شئ مما ذكر من الابرام أو
الاستحكام أو التماسك، بل المعتبر كونه ذا اجزاء، فانفصام وحدته التركيبية
وانفصال اجزائه بعضها عن بعض وتشتتها يعد نقضا.
وقد عرفت أن صدق النقض فيما لا اجزاء له كالحكم والعهد انما يكون
بنحو المجاز بلحاظ الوحدة الاستمرارية.
وبذلك يظهر ان صدق النقض في مورد اليقين يكون مجازيا، لأنه لا
اجزاء له، فلا بد من ملاحظة وحدته الاستمرارية، فرفع اليد عن استمراره يكون
نقضا له.
ولا يخفى ان رفع اليد عن استمراره وانقطاع الاتصال في عمود الزمان
ينشأ..
تارة: من انتهاء أمد الشئ لتحديد ثبوته بأمد خاص، كالزوجية المنقطعة
بعد انتهاء الزمن.
وأخرى: من وجود ما يرفعه بحيث لولاه لاستمر وجوده لعدم تحديده
بأمد معين.
ونقض الشئ بلحاظ عدم استمراره انما يصدق في المورد الثاني لا المورد
الأول، فلا يكون ارتفاع الطهارة الموقتة بوقت خاص بعد حصول الوقت نقضا
لها، واما ارتفاعها بالحدث القاطع لاستمرارها فيعد نقضا لها. كما أن انتهاء
الصلاة بالسلام والخروج عن الصلاة به لا يكون نقضا للصلاة، لكن الخروج
عن الصلاة بالحدث يكون نقضا لها. والزوجية لا تنتقض بانتهاء المدة، لكنها
تنتقض بالفسخ أو الطلاق، كما أن ملكية البطون للوقف لا تنتقض بانعدام
55

البطن، ولكن الملكية تنتقض بالفسخ والكفر في بعض الموارد. وهذا واضح لا
غبار عليه.
وعلى هذا نقول: ان صدق نقض اليقين بلحاظ وحدته الاستمرارية - كما
عرفت - وبما أن اليقين يتبع المتيقن، فاستمراره باستمرار وجود اليقين وارتفاعه
بارتفاع المتيقن.
وعليه، فارتفاع اليقين تارة: يكون لاجل ارتفاع المتيقن من جهة انتهاء
أمده وتمامية استعداده للبقاء. وأخرى: لارتفاع المتيقن من جهة تحقق ما يرفعه
مع استعداده للبقاء لولا الرافع. وانتقاض اليقين انما يصدق في الصورة الثانية
دون الأولى، لما عرفت من أن ارتفاع الشئ لعدم مقتضيه وانتهاء أمده لا يعد
نقضا. وبما أن الظاهر من قوله: " ولا ينقض اليقين بالشك " كون مورد
الاستصحاب هو الشك في البقاء أو الانتقاض ودوران الامر بينهما، بحيث يكون
أحد طرفي الاحتمال هو البقاء والطرف الاخر الانتقاض، كان مقتضى ذلك
اختصاص النص بمورد الشك في البقاء من جهة الشك في الرافع المستلزم للشك
في الانتقاض، إذ مع الشك في البقاء من جهة الشك في قصور المقتضي وانتهاء
أمده لا انتقاض قطعا، بمعنى انه يعلم بعدم الانتقاض، إما للارتفاع بانتهاء
الأمد واما لعدم الارتفاع، وكلاهما لا يعد انتقاضا، فلا يكون مشمولا لدليل
الاستصحاب.
وبهذا البيان يتضح اختصاص النص بمورد الشك في الرافع كما ذهب
إليه الشيخ (رحمه الله). وتبعه عليه المحقق النائيني (1) بعد بيان مراد الشيخ بما
يقرب مما انتهينا إليه بواسطة هذا البيان، وسيتضح ذلك انشاء الله تعالى.
ومن ذلك يشكل جريان الاستصحاب في جميع موارد الشك في الموضوع

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 380 - الطبعة الأولى.
56

وستعرف هذه الخصوصيات تدريجا انشاء الله تعالى.
ومما بيناه يتضح ان ما أفاده صاحب الكفاية - من صدق النقض مطلقا
بملاحظة ما اليقين من الاستحكام، ولذا يقال: " انتقض اليقين باشتعال السراج "
إذا انطفأ لانتهاء نفطه - مثلا -، ولا يلحظ في صدق النقض قابلية الشئ
للاستمرار، ولذا لا يصدق: " نقضت الحجر من مكانه " -. في غير محله، فإنه مضافا
إلى التشكيك في تصور الاستحكام بالنسبة إلى اليقين، ان النقض لا يصدق
بلحاظ الاستحكام جزما، فإنه لا يصدق النقض على رفع الحجر المثبت في
الأرض بنحو مستحكم جدا، فلا يقال لرفعه انه نقض، بل النقض - كما عرفت
انما يصدق بلحاظ فت الاجزاء المتصلة للمركب اما حقيقة أو مسامحة.
واما دعوى صدق النقض في مثال السراج فقد عرفت ما فيها، ولم يثبت
ركاكة صدق النقض في مثال الحجر إذا كان الملحوظ انتقاض. استمرار كونه في
المكان الخاص، لا انتقاض نفس الحجر من مكانه كما هو ظاهر العبارة في المثال.
ثم إن الشيخ (رحمه الله) عبر عن النقض بأنه رفع اليد، وخصه برفع اليد
عن الامر الثابت (1).
فأورد عليه: بأنه لا وجه لتقييده برفع اليد عن الامر الثابت، بل مقتضى
الاطلاق التعميم لغير الامر الثابت (2).
ويمكن دفع هذا الايراد عنه: بأنه ليس المقصود كون حقيقة النقض
ومفهومه هو رفع اليد، بل المقصود ان النقص حيث إنه لا يصدق حقيقة لأنه
ليس من أفعال المكلف الاختيارية، فلا بد ان يراد به النقض بحسب العمل
الراجع إلى عدم ترتيب الآثار ورفع اليد عن المتيقن، فإذا فرض كون مفهوم

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 366 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 78 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
57

النقض يساوق فصم الوحدة التركيبية، كان المقصود به ههنا رفع اليد عن
خصوص الامر الثابت لانسجامه مع مفهوم النقض. فالتفت ولا تغفل.
والمتحصل: ان مقتضى النهي عن النقض اختصاص الاستصحاب
بمورد الشك في الرافع سواء تعلق النقض باليقين أم بالمتيقن.
هذا وينبغي التكلم في جهات:
الجهة الأولى: ان النقض في باب الاستصحاب هل يعقل ان يتعلق
باليقين أو لا؟. والكلام في ذلك بعد الفراغ عن قابلية اليقين في حد نفسه لتعلق
النقض به، كما عرفت ذلك بملاحظة وحدته الاستمرارية.
وتحقيق الكلام، هو: ان النقض في باب الاستصحاب لا معنى لان يتعلق
باليقين أصلا. وذلك لان نقض اليقين - على ما عرفت - يرجع إلى عدم وحدته
الاستمرارية وتخلل العدم بينها. وعليه نقول: ان لدينا يقينين: أحدهما: اليقين
بالوجود الفعلي للشئ، وهذا لا شبهة في انتقاضه بالشك بقاء أو اليقين بالخلاف،
لان اليقين بوجود الشئ له وحدة استمرارية، فإذا زالت بقاءا بالشك أو باليقين
بخلافه فقد اختلت الوحدة، ويتحقق الانتقاض، ولذا لا يجتمع اليقين بالوجود
الفعلي مع الشك فيه أو اليقين بعدمه، لان أحدهما ناقض للاخر. والاخر: اليقين
الفعلي بالوجود السابق وهذا لا ينتقض بالشك في الوجود الفعلي بقاءا أو اليقين
بعدمه بقاءا، بل قد يجتمعان في آن واحد كما لا يخفى. بل لا يكون اليقين بوجوده
فعلا استمرارا لليقين بالوجود السابق، إذ قد يحصلان في آن واحد، فلا معنى لان
يكون أحدهما استمرارا للاخر.
وسر ذلك: ان وحدة اليقين بلحاظ وحدة متعلقه، فإذا اختلف المتعلق
اختلف اليقين. فاليقين يوم السبت بعدالة زيد يوم الجمعة واليقين بعدالته يوم
السبت فردان لليقين لاختلاف متعلقهما، ولأجل ذلك لا يكون اليقين بعدم
58

العدالة يوم السبت ناقضا لليقين يوم السبت بعدالته يوم الجمعة، لعدم اخلاله
بوحدته الاستمرارية، كيف؟ وقد يجتمعان معا في آن واحد.
وإذا اتضح ذلك فنقول: ان كان المأخوذ في باب الاستصحاب هو اليقين
السابق بالوجود الفعلي، كان الشك بقاء ناقضا له لاخلاله باستمراره، فصح ان
يسند النقض إلى اليقين.
ولكن الامر ليس كذلك، فان المأخوذ هو اليقين الفعلي بالوجود السابق،
سواء كان يقين سابق بالوجود الفعلي أم لم يكن، ولذا قد يحصل الشك في البقاء
قبل اليقين بالحدوث. ومثل هذا اليقين لا يكون الشك ناقضا له - كما عرفت -،
فلا معنى للنهي عن نقضه به. فلا محيص عن أن يكون المسند إليه النقض هو
المتيقن نفسه بلحاظ انقطاع استمراره بوجود الرافع المشكوك. ويكون التعبير
باليقين طريقيا على ما يأتي بيانه في الجهة الثالثة.
واما ما أفاده الشيخ (رحمه الله) - في ذيل كلامه السابق - من عدم اسناد
النقض إلى اليقين بل إلى المتيقن فان أراد به عدم قابلية اليقين في حد نفسه
لاسناد النقض إليه - كما هو ظاهر عبارته -، فقد عرفت أنه قابل لذلك بلحاظ
الاستمرار فيه. وان أراد به ما ذكرناه من أن اليقين في باب الاستصحاب لا معنى
لاسناد النقض إليه، فهو تام كما عرفت.
واما ما أفاده صاحب الكفاية في كلامه عن مادة النقض من الايراد على
نفسه والجواب عنه. فهو مما لا ينبغي ان يصدر من مثل صاحب الكفاية. وذلك:
فان ما ذكره تحت عنوان: " ان قلت " - من أن النقض الحقيقي لا يتعلق باليقين.
إذ اليقين بالحدوث لا ينتقض، وانما يبتني صدق النقض على فرض تعلق اليقين
بالبقاء مسامحة كي ينتقض بالشك بقاء، وذلك انما يكون فيما إذا كان متعلق
اليقين ذا اقتضاء للبقاء، بحيث يكون اليقين بحدوثه يقينا ببقائه مسامحة -. يظهر
منه انه صحيح في نفسه، لكن تخلص عنه بان هنا وجها آخر لصدق النقض،
59

وهو تجريد متعلق اليقين والشك عن خصوصية الزمان وملاحظتهما أمرا واحدا
بإلغاء اختلافهما زمانا.
والذي نراه عدم سداد كل من الايراد وجوابه.
اما الايراد، فلما عرفت من أن النقض لا يعقل ان يتعلق باليقين بنحو
من الانحاء، إذ موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالوجود السابق، وهو
لا ينتقض حقيقة ولا مجازا بالشك، وليس الموضوع هو اليقين بالوجود الفعلي
حتى يتصور اليقين المسامحي بالبقاء عند تعلق اليقين بالحدوث، فيسند إليه
النقض بلحاظ منافاته مع الشك.
هذا، مع أن هذا اليقين المسامحي لا يزول بالشك، لأنه مبني على المسامحة
والفرض، وهو لا يتناقض مع وجود الشك حقيقة بالوجود الفعلي. فتدبر.
واما الجواب عنه، فلم يعرف له معنى محصل، إذ مع فرض تجريد متعلق
اليقين والشك عن خصوصية الحدوث والبقاء والغاء جهة اختلافهما زمانا، كيف
يعقل اجتماع اليقين والشك كي ينهى عن النقض بالشك؟. والمفروض ظهور
الدليل في موضوعية كل من اليقين والشك بوجودهما الفعلي بحيث يظهر منه
فرض اجتماعهما في آن واحد. هذا إذا فرض تعلق الشك بما تعلق به اليقين.
وان أريد تعلق كل منهما بالطبيعة بنحو الموجبة الجزئية، فاجتماعهما في آن
واحد ممكن، إذ يمكن أن يكون متعلق الشك الطبيعة بلحاظ حصة، ومتعلق
اليقين نفس الطبيعة بلحاظ حصة أخرى ولكنه راجع إلى اختلاف المتعلقين،
وتعلق الشك بغير ما تعلق به اليقين، وفي مثله لا يصدق النقض والبقاء كما لا
يخفى.
وجملة القول: ان ما أفاده صاحب الكفاية ههنا غير وجيه. فالمتعين ما
ذكرناه من المنع عن تعلق النقض باليقين - في باب الاستصحاب -، ولا بدية
رجوعه إلى المتيقن.
60

ولا يخفى انه لا يختلف الحال فيما ذكرناه بين الالتزام باختصاص
الاستصحاب بمورد الشك في الرافع أو عمومه لمورد الشك في المقتضي، فلاحظ.
الجهة الثانية: لو سلم امكان تعلق النقض باليقين، فهل هو كذلك اثباتا
أولا؟.
ذهب المحقق النائيني (رحمه الله) إلى: ان المنهي عنه هو نقض اليقين بما
هو، فالمجعول في الاستصحاب هو اليقين لكن بلحاظ الجري العملي لا بلحاظ
المنجزية والمعذرية، فالفرق بين الامارات والاستصحاب هو ان المجعول في
الامارات الطريقية والوسطية في الاثبات بلحاظ المنجزية والمعذرية. والمجعول
في الاستصحاب هو الطريقية بلحاظ الجري العملي وعلى هذا الأساس بني
تقديم الامارة على الاستصحاب وتقديم الاستصحاب على سائر الأصول،
وجعل الاستصحاب برزخا بين الامارة والأصول العملية، وعبر بالأصل
المحرز (1).
ولكن ما أفاده (قدس سره) لا يخلو عن بحث أشرنا إليه غير مرة،
ونوضحه فعلا فنقول: ان الالتزام بجعل اليقين بأدلة الاستصحاب مع قطع النظر
عن خصوصية الجري العملي يبتني على مقدمات ثلاث:
المقدمة الأولى: معقولية اسناد النقض إلى اليقين ههنا وقد عرفت عدم
تمامية هذه المقدمة.
المقدمة الثانية: البناء على قابلية اليقين للاعتبار، مع أنه من الأمور
التكوينية، بمعنى الالتزام بان الأثر الفعلي العملي - وهو التنجيز والتعذير -
يترتب على الوجود الاعتباري لليقين، كما هو مترتب على الوجود الحقيقي.
فيكون اليقين من الأمور القابلة للجعل، كبعض الأمور التكوينية التي يترتب

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 416 و 494 - الطبعة الأولى.
61

على وجودها الاعتباري بعض الآثار العملية، كالملكية والطلب ونحو ذلك،
وسيأتي البحث عنه عند التعرض للأحكام الوضعية وما هو المجعول منها، وهذه
المقدمة مما يلتزم بها.
المقدمة الثالثة: البناء على أن لفظ اليقين الوارد في النص باق على ظاهره
الأولي من موضوعية اليقين، فيحمل عليه بمقتضى أصالة الظهور. ويمكن المنع
عن ذلك، بدعوى أن ثبت لهذا اللفظ ظهور ثانوي في عدم موضوعية اليقين بما
هو، بل الموضوع هو المتيقن، ولو حظ اليقين عبرة ومرآة له، وذلك بملاحظة
استعمال ما يشابهه من لفظ الرؤية والتبين والعلم، مع العلم بان وصف الرؤية
وأمثاله لا دخل له في الحكم بما هو، بل الدخيل هو المتعلق والواقع على واقعه.
وعلى كل، فإذا تمت جميع هذه المقدمات والتزم بما هو ظاهر الدليل من
تعلق الجعل بنفس اليقين، فيقع الكلام فيما أفاده من تعلقه باليقين بلحاظ الجري
العملي، وهو محل مناقشة، إذ الجري العملي هو فعل المكلف نفسه، فالجعل تارة:
يتعلق به نفسه، فيتعبد بان المكلف قد أتى بالعمل، فهذا أجنبي عن باب
الاستصحاب، إذ الاستصحاب يستتبع العمل. وأخرى: يتعلق باليقين بلحاظ
كونه منشئا للجري العملي واندفاع المكلف، فالمجعول هو منشئيته للعمل.
ففيه: ان استتباع اليقين للجري العملي بلحاظ ما يترتب عليه من
التنجيز، وإلا فلا يندفع المكلف نحو العمل بدونه، فالجري العملي في طول
التنجيز، فلا يمكن جعل اليقين بلحاظ الجري العملي بلا ملاحظة ترتب التنجيز
عليه، وإذا فرض ملاحظة المنجزية كان المجعول في الاستصحاب هو المجعول
في الامارات.
هذا، مع أنه لو فرض عدم ملاحظة التنجيز في جعل اليقين وأمكن فصل
ملاحظة الجري العملي عنه، لم يترتب التنجيز على الاستصحاب، فلا تكون
مخالفة الحكم الاستصحابي مستلزمة للعقاب. وهذا مما لا يظن الالتزام به من قبله
62

(قدس سره).
هذا كله، مضافا إلى أن جعل اليقين بلحاظ الجري العملي لا يصحح اسناد
مؤدى الاستصحاب إلى الله والفتوى به، والالتزام به على أنه حكم الله تعالى،
لأنه مجهول ولا دليل على إثباته.
وقد أسهبنا الكلام في ذلك في أوائل مبحث الامارات في بيان ما هو
المجعول فيها فلاحظ وتدبر.
ثم إنه بعد ظهور عدم تعلق النهي بنقض اليقين حقيقة، إذ هو خارج عن
اختيار المكلف كيف؟ والمفروض انتقاضه بالشك، فلا بد ان يراد من النقض
النقض العملي، فمرجع النهي إلى النهي عن معاملة اليقين معاملة المنتقض، بل
المطلوب العمل كما لو كان اليقين باقيا، فيراد الابقاء العملي.
وهذا النهي اما يكون ارشادا إلى جعل صفة اليقين والطريقية في مرحلة
البقاء، أو جعل المنجزية لليقين بالوجود السابق على الحكم المشكوك بقاء، أو
جعل نفس التيقن بقاء فان الجامع بين جميع هذه الوجوه هو ترتب العمل بقاء،
كما لو كان نفس اليقين باقيا، فيمكن أن يكون النهي عن النقض العملي ارشادا
إلى أحدها، الا ان المتعين اثباتا هو الثالث، وذلك بملاحظة مورد الرواية، فإنه
(عليه السلام) نفى وجوب الوضوء عند عدم الاستيقان بالنوم بقاء معللا ذلك
بعدم نقض اليقين بالشك، وظاهر ذلك هو نفي الوجوب شرعا لا عقلا. وهذا لا
يتلائم الا مع جعل المتيقن نفسه بقاء، لا جعل اليقين أو المنجزية كما لا يخفى.
والذي يتحصل: انه يتعين الالتزام بان المجعول في باب الاستصحاب هو
المتيقن لا اليقين، سواء التزم امكان تعلق النقض باليقين في هذا الباب أو
التزم بامكانه، فمقام الثبوت ومقام الاثبات يشتركان في أن المجعول هو المتيقن.
فتدبر.
الجهة الثالثة: انك عرفت أن النقض في باب الاستصحاب لا يتعلق
63

باليقين، وانما هو متعلق بالمتيقن، فيقع البحث في كيفية ملاحظة المتيقن في
النصوص، مع أن النقض فيها - استعمالا - متعلق باليقين. فهل هو من استعمال
لفظ اليقين في المتيقن مجازا؟. أو من جعل لفظ اليقين عنوانا للمتيقن ومرآة له
- كما ذهب إليه صاحب الكفاية -. بتقريب: ان المرآتية تسري من المصداق إلى
المفهوم، فبعد ان كان مصداق اليقين مرآة لمتعلقه كان مفهوم اليقين كذلك مرآة
للمتيقن (1)؟. أو من باب الكناية والتلازم بين نقض اليقين ونقض المتيقن؟. أو
من باب التلازم بين نفس اليقين والمتيقن، فالنقض وان كان مسندا إلى لفظ
اليقين في الكلام، لكن يراد به نقض المتيقن الذي حضرت صورته في الذهن
بواسطة اليقين، فيجعل لفظ اليقين قنطرة وكناية عن المتيقن؟. وجوه:
اما الأول: فهو مردود، بأنه استعمال غير صحيح ولا يعهد مثله في
الاستعمالات.
واما الثاني: فهو مردود أيضا بان مرآتية مفهوم اليقين تتوقف على كون
اليقين من عناوين المتيقن، وليس الامر كذلك، ولذا لا يصح حمل اليقين على
المتيقن.
واما الثالث: فيمنع بأنه انما يتم لو فرض صحة تعلق النقض باليقين
ههنا، وقد عرفت أنه لا محصل له، فلا يمكن ان يراد ذلك.
فيتعين الرابع. وعلى أي حال لا اشكال في وقوع استعمال ما يشابه لفظ
اليقين من ألفاظ الطرق في مورد يكون الأثر مترتبا على نفس الواقع، ويلحظ
اللفظ الموضوع للطريق عبرة لذي الطريق، كلفظ التبين والعلم والرؤية، ولا
اشكال في صحة مثل هذا الاستعمال عرفا، فيلتزم به ههنا وفى لفظ اليقين فيما
نحن فيه وإن لم يتحقق وجهه، مع انك عرفت توجيهه.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 391 - 392 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
64

الجهة الرابعة: في جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعية.
فقد نبه عليه صاحب الكفاية (رحمه الله) في هذا المقام في ذيل كلامه،
وبنى على عموم الدليل لكلتا الشبهتين الموضوعية والحكمية (1).
وقبل الشروع في تحقيق أصل المطلب يحسن التنبيه على محل الكلام في
الاستصحاب في الشبهة الموضوعية وأثره العملي. فنقول: ان موضوع الحكم
الشرعي...
تارة: يكون من المجعولات الشرعية، كالطهارة والنجاسة والملكية
وغيرها.
وأخرى: يكون من الأمور الخارجية التكوينية، كالعدالة والفسق والعلم
وغيرها. وهو...
تارة يعد عرفا من مقومات الموضوع، كالعلم في وجوب تقليد زيد العالم،
والفقر في وجوب التصدق على زيد الفقير، ونحو ذلك.
وأخرى: يعد من حالات الموضوع المتبادلة، كعدالة زيد بالنسبة إلى
وجوب التصدق عليه. وما يكون كذلك..
تارة يكون: الأثر الشرعي مترتبا عليه حدوثا.
وأخرى: لا يكون مترتبا عليه حدوثا.
اما ما كان من الموضوعات مجعولا شرعا، فلا اشكال في جريان
الاستصحاب فيه مع الشك في بقائه، إذ ما يوهم المنع في الشبهات الموضوعية لا
يتأتى فيه كما سيتضح انشاء الله تعالى.
واما ما كان من الأمور التكوينية الخارجية، فإن كان مقوما للموضوع،
امتنع جريان الاستصحاب في الحكم السابق مع الشك فيه، ففي هذا الفرض

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 391 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
65

يظهر لجريان الاستصحاب في نفس الموضوع أثر عملي. وإن لم يكن مقوما
للموضوع وكان الحكم ثابتا حدوثا، أمكن استصحاب الحكم ولو لم يجر
استصحاب الموضوع، لان الشك فيه غير مضر في استصحاب الحكم. واما إذا
لم يكن الحكم ثابتا في مرحلة الحدوث، وانما هو يثبت في مرحلة بقاء الموضوع لو
كان باقيا، فلا مجال لا ثبات الحكم باستصحابه، إذ هو غير متيقن الثبوت في
السابق، وانما يثبت الحكم باستصحاب الموضوع، فيظهر له أثر في هذا الفرض.
فقد تبين ان محل الكلام في الاستصحاب في الشبهات الموضوعية هو
استصحاب الأمور الخارجية لا مطلق الشبهات الموضوعية كما تبين ان اثر
الالتزام بالاستصحاب في الشبهات الموضوعية يظهر في صورتين:
إحداهما: ما يكون الموضوع المشكوك من مقومات الموضوع عرفا.
والأخرى: ما لا يكون الحكم الشرعي ثابتا في مرحلة حدوث الموضوع،
إذ لا مجال لاستصحاب الحكم في كلتا هاتين الصورتين، فيحتاج في اثبات الحكم
إلى الاستصحاب الموضوعي.
إذا عرفت ذلك فنقول: انه قد يستشكل في جريان الاستصحاب في
الشبهة الموضوعية، سواء قيل إن دليل الاستصحاب يتكفل جعل اليقين أو قيل إنه
يتكفل جعل المتيقن.
اما على الأول: فلان اليقين وان أمكن تعلق الاعتبار به كبعض الأمور
التكوينية الا انه انما يصح اعتباره بلحاظ ما يترتب عليه من أثر عملي شرعي
أو عقلي.
وجعل اليقين بالموضوع مما لا اثر له، إذ اليقين الذي يكون موضوعا
للأثر هو اليقين بالحكم الفعلي باعتبار ترتب المنجزية والمعذرية عليه. واليقين
بالحكم الكلي المجعول بنحو القضية الحقيقية وإن لم يكن فعليا كوجوب الحج
على المستطيع، فان اليقين به يترتب عليه جواز الاسناد والاستناد.
66

اما اليقين بالموضوع بما هو يقين بالموضوع فلا أثر له أصلا، وانما الأثر
لليقين بحكمه.
فإذا كان هذا حال اليقين الوجداني، لم يكن اعتبار اليقين بالموضوع ذا
أثر، فان الأثر المترتب عليه هو الأثر المترتب على اليقين الوجداني. والمفروض
انه ليس بذي اثر.
واما على الثاني: فلانه يعتبر في المجعول أن يكون قابلا للجعل. والامر
الخارجي كالعدالة ليس قابلا للجعل، فلا معنى لان يتعلق به الجعل من الشارع
بما هو شارع. فيلزم من عموم الدليل للموضوع اما التقدير بان يراد جعل أثر
الموضوع وحكمه واما التجوز في الاسناد، فيكون الاسناد إلى غير ما هو له
وكلاهما خلاف الظاهر.
وقد يدفع هذا الاشكال بما تقدم بيانه في حديث الرفع من: ان الرفع
يمكن ان يتعلق بالموضوع حقيقة، وذلك بلحاظ عالم التشريع، فان الموضوع له
ثبوت في عالم التشريع بجعل الحكم له، فيمكن ان يتعلق به الرفع بلحاظ هذا
العالم ويكون الرفع حقيقيا لا مسامحة فيه، لأنه بيد الشارع. فنقول ههنا: انه
يمكن ان يجعل الموضوع ويتعبد بثبوته بلحاظ عالم التشريع، فيكون وضعا
للموضوع حقيقة بلا مسامحة وتجوز وتقدير.
لكن هذا المطلب لو سلم امكان تطبيقه فيما نحن فيه، فهو انما يتأتى في
مورد يكون للموضوع اثر شرعي في مرحلة الحدوث، لان دليل الاستصحاب لا
يتكفل مجرد التعبد بالموضوع، بل يتكفل ببقائه. ومن الواضح انه لا يصدق بقاء
الموضوع في عالم التشريع وعدم نقضه الا إذا كان ثابتا في السابق فيه. والا لم
يكن جعله فعلا في عالم التشريع ابقاء له وعدم نقض. وهذا أخص من المدعى
كما هو واضح.
هذا أساس الاشكال في جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية.
67

وقد تصدى المحقق الأصفهاني (رحمه الله) إلى تحقيق المطلب اشكالا
وجوابا بنحو دقيق مفصل. وخلاصة ما افاده (قدس سره): -
بعد أن التزم ان النهي عن نقض اليقين غير مراد جدا، بل قضية " لا
تنقض " قضية كنائية. وبعد ان ردد بين أن يكون المراد بها النهي عن النقض
العملي أو النهي عن النقض حقيقة عنوانا، مفرعا ذلك على أن اليقين بالحكم
مستلزم للفعل تكوينا بلحاظ تنجيزه، فيكون الامر بابقائه ملازما للامر بنفس
الفعل، فيكون النهي عن نقض اليقين كناية عن الامر بالفعل كصلاة الجمعة.
وبالجملة: عدم الفعل ملازم لنقض اليقين حقيقة ولنقضه عملا.
وإذا أمكن ان يحمل النهي على أحد المعنيين تعين حمله على النهي عن
النقض حقيقة ابقاء له على ظاهره، ولا محذور فيه بعد أن لم يكن مرادا جدا، بل
كناية عن الامر بالعمل، - بعد كل هذا الذي لخصناه جدا أفاده (قدس سره) -:
ان أساس المحذور في شمول اخبار الاستصحاب للشبهة الموضوعية، فهو
ان نقض اليقين بالحكم اسناد إلى ما هو له، لان الفعل يكون ابقاء عملا لليقين
بالحكم لباعثيته عقلا نحوه، واما اسناد نقض اليقين إلى الموضوع، فهو اسناد
إلى غير ما هو له، إذ الفعل لا يكون ابقاء عملا لليقين بالموضوع، إذ لا باعثية
له بنفسه، بل بلحاظ منشئيته لليقين بالحكم، فالنقض لم يسند حقيقة إلى يقين
الموضوع.
وبما أن الجمع بين الاسنادين في كلام واحد خلاف الظاهر - وان كان
ممكنا في نفسه - إذ ظاهر الاسناد الكلامي هو الاسناد إلى ما هو له، كانت اخبار
الاستصحاب قاصرة عن شمول الشبهة الموضوعية.
ودفعه (قدس سره): بأنه يبتني على كون مفاد قضية: " لا تنقض " النهي
عن النقض عملا، فان بقاء اليقين بالموضوع عملا غير مستلزم بما هو للعمل،
إذ لا باعثية له كما عرفت.
68

واما لو كان مفادها النهي عن نقض اليقين حقيقة عنوانا - كما اختاره -
لم يتأت هذا المحذور، فان عدم الفعل لازم لعدم اليقين بالموضوع أو بالحكم،
فيمكن ان يراد من اللفظ النهي عن نقض اليقين مطلقا، تعلق بالحكم أم
بالموضوع، ويكون كناية عن جعل لازمه من الحكم المماثل له لو كان المتيقن
حكما، أو لحكمه لو كان موضوعا. وبعبارة أخرى: بعد أن كان عدم الفعل لازما
لعدم اليقين بالحكم أو بالموضوع، كان النهي عن نقض اليقين والامر بابقائه
ملازما للامر بالفعل في كلا الموردين، فيعم الشبهة الموضوعية بلا محذور.
هذا خلاصة ما أفاده (قدس سره) (1).
ولكنه مردود من وجوه:
الوجه الأول: ما بنى عليه أصل كلامه من أن التلازم بين بقاء اليقين
بالحكم، وبين العمل كصلاة الجمعة، يستلزم التلازم بين الامر بابقاء اليقين والامر
بالفعل، فتكون القضية كناية عن جعل الحكم المماثل.
فإنه ممنوع، بأنه لو سلم التلازم عقلا أو عرفا بين بقاء اليقين بالحكم وبين
الفعل، ولم يناقش بامكان الانفكاك بينهما، فهو لا يستلزم التلازم بين الامر
بأحدهما والامر بالاخر، فإنه ممنوع أشد المنع إذ لم يقل به أحد، وانما أشير إليه
في مبحث الضد من باب انه توهم قد يخطر في البال، وانما المسلم عدم جواز
اختلاف المتلازمين في الحكم، لا ان الامر بأحدهما ملازم للامر بالاخر. فراجع
تعرف.
الوجه الثاني: ان ما أفاده لو تم، فهو انما يتأتى في خصوص مورد اليقين
بالحكم الالزامي، فان اليقين به يستتبع العمل، دون اليقين بالحكم غير الالزامي
كالإباحة، فان اليقين بها لا يستتبع الفعل كي يكون الامر بابقائه أمرا بالفعل.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 25 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
69

وأي معنى لهذا في مورد الإباحة، إذ لم يلزم الاتيان بالفعل باستصحابها.
ومن الواضح ان الاستصحاب لا يختص بالاحكام الالزامية، بل يعمها ويعم غير
الالزامية.
الوجه الثالث: انك عرفت أنه (قدس سره) بنى الملازمة بين بقاء اليقين
والفعل على منشئية اليقين للفعل، ثم فرع عليه ان النقض عملي أو حقيقي
عنواني، فبناء كلا الرأيين على الملازمة بين بقاء اليقين والفعل، فالتزامه - في مورد
النقض العملي - بان اليقين بالموضوع لا يستلزم الفعل لعدم منشئية اليقين
للفعل، والتزامه - في مورد النقض الحقيقي - بالملازمة. تفكيك لا وجه له بعد أن
كان مبنى التلازم على كلا الرأيين واحدا.
وهو حين نفى الملازمة على القول بالنقض العملي، بنى نفيه على عدم
الملازمة بين اليقين بالموضوع والفعل، فنفى الملازمة بين الوجودين. وحين أثبتها
على القول بالنقض بالحقيقي بنى اثباته على الملازمة بين عدم الفعل وعدم اليقين،
فجعل الملازمة بين العدمين.
ومثل هذا الاختلاف في الأسلوب على خلاف الصناعة لعدم توارد النفي
والاثبات على مورد واحد.
الوجه الرابع: ان اليقين بالموضوع لا يستلزم الفعل أصلا حتى بنحو
المسامحة، فان المراد به اليقين بذات الموضوع، وهو لا يلازم العلم بحكمه، بل قد
يتخلف عنه.
فما أفاده (قدس سره): من كون اسناد النقض إلى يقين الموضوع إسنادا
مجازيا بلحاظ استتباعه ليقين الحكم. فيه منع، لعدم صحة الاسناد بالمرة.
وخلاصة القول: ان ما أفاده (قدس سره) في المقام مع كمال دقته مما لا
يمكن قبوله.
فالتحقيق في دفع الاشكال ان يقال: ان دليل الاستصحاب ان كان
70

متكفلا للتعبد بالبقاء رأسا - بمعنى ان قضية: " لا تنقض اليقين بالشك " كانت
متكفلة للتعبد ببقاء المتيقن، كما هو ظاهر تعريف الاستصحاب بأنه ابقاء ما كان
- كان اشكال شمول الدليل للشبهة الموضوعية المتقدم ذكره محكما، لعدم قابلية
الموضوع في حد نفسه للتعبد، فشمول الدليل لشبهة الموضوع يتوقف على
التقدير أو التجوز كما مر. وهكذا الحال إذا كان التعبد والجعل متعلقا بصفة اليقين
لا بالمتيقن، لعدم ترتب الأثر العملي على اليقين بالموضوع، فيكون التعبد به لغوا
كما مر.
ولكن الظاهر أن دليل الاستصحاب بدوا لا يتكفل التعبد بالمتيقن. بيان
ذلك: انك عرفت أن النقض حقيقة لا يتعلق باليقين، لعدم تصوره في باب
الاستصحاب، بل هو متعلق بالمتيقن.
ومن الواضح: ان النهي عن نقض المتيقن بالشك مما لا معنى له، إذ
الشك لا يصلح ناقضا للمشكوك، لأنه عبارة عن التردد بين الوجود والعدم، فلا
معنى لان يكون مقتضيا للعدم، بل حاله حال الطريق، فإنه لا يتصرف في ذي
الطريق. فلا بد ان يراد النهي عن النقض العملي، بمعنى لزوم معاملة المتيقن
معاملة الثابت حال الشك وعدم جواز رفع اليد عنه لاجل الشك فيه. فالنهي
عن نقض المتيقن لا يراد به التعبد بالمتيقن، بل يراد به لزوم معاملة المتيقن
معاملة البقاء، فان هذا هو فعل المكلف الذي يصح تعلق النهي به.
وهذا النهي إرشادي إلى ثبوت ما يقتضي استمرار معاملة المتيقن معاملة
البقاء، فهو يدل بالملازمة العرفية أو بدلالة الاقتضاء على التعبد بالمتيقن بقاء إذا
كان حكما شرعيا.
ومن الواضح ان هذا المدلول الأولي للكلام - أعني النهي عن نقض
المتيقن عملا - يمكن ان يعم الموضوع والحكم بلا أي تجوز ومسامحة، ومقتضى
عمومه هو دلالته - اقتضاء أو عرفا - على جعل الحكم المماثل للمتيقن إذا كان
71

حكما، وعلى جعل الحكم المماثل لحكم المتيقن إذ كان موضوعا، إذ لزوم المعاملة
مع الموضوع معاملة البقاء لا يكون إلا إذا فرض جعل مماثل حكمه بقاء. كما أن
لزوم المعاملة مع الحكم معاملة البقاء لا يكون الا إذا فرض جعل مماثله بقاء.
وبهذا البيان يتضح صحة الالتزام بعموم دليل الاستصحاب للشبهة
الموضوعية كما أشار إليه في الكفاية (1).
ولا يختلف الحال فيه بين أن يكون متعلق النقض هو المتيقن كما اخترناه
أو يكون هو اليقين كما هو واضح، إذ أساسه على استفادة كون النقض المنهي
عنه هو النقض العملي لا الحقيقي.
وقد عرفت أن ظهوره العرفي في ذلك، لان ما يكون فعل المكلف القابل
لتعلق النهي به هو نقض المتيقن أو اليقين عملا لا النقض حقيقة. فتدبر.
هذا تمام الكلام في عموم دليل الاستصحاب للشبهة الموضوعية.
ويقع الكلام في جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية. فقد توقف فيه
جمع، منهم المحقق النراقي، وتبعه عليه في الجملة السيد الخوئي (2).
ومنشأ الاشكال الذي ذكره النراقي ليس قصور الأدلة في أنفسها عن
شمول مورد الأحكام الكلية. وانما هي جهة أخرى ستتضح انشاء الله تعالى.
وتحقيق الكلام: هو ان الشك في بقاء الحكم الشرعي..
تارة: يرتبط بمقام الجعل والتشريع، ولو لم يكن المجعول فعليا لعدم
موضوعه، كما لو ثبت جعل وجوب الحج على المستطيع في الشريعة ثم شك في
بقاء هذا التشريع والجعل ولو لم يكن مستطيع فعلا. ولا اشكال في جريان
استصحاب الجعل، ويعبر عنه باستصحاب عدم النسخ. ولا كلام في ذلك.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 392 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 36 - الطبعة الأولى.
72

وأخرى: يرتبط بمقام المجعول، كما لو ثبت الحكم الفعلي في زمان فشك
في بقائه، كالشك في بقاء حرمة وطا الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الغسل.
ومنشأ الشك في بقاء الحكم الفعلي...
تارة: يكون الشك في الأمور الخارجية مع العلم بحدود الحكم المجعول
من قبل الشارع سعة وضيقا، ويعبر عنه بالشبهة الموضوعية، كما لو علم بعدم
حرمه الوطء بعد انقطاع الدم وقبل الغسل، ولكن شك في تحقق انقطاع الدم.
وجريان الاستصحاب في الحكم أو في الموضوع في مثل ذلك خارج عن محل
الكلام.
وأخرى: يكون المنشأ هو الشك في حدود المجعول الشرعي سعة وضيقا،
فيشك في أن المجعول شرعا هل هو حرمة الوطء حين وجود العدم أو إلى حين
الغسل؟ ويعبر عنه بالشبهة الحكمية. وهي على صورتين:
الصورة الأولى: أن يكون الزمان مفردا للموضوع بنحو يكون كل آن
من الزمان موضوعا للحكم على حدة، فينحل الحكم بتعدد أفراد الزمان الطولية،
وذلك كحرمة وطء الحائض، فإنها تنحل إلى احكام متعددة بتعدد افراد الوطء
الطولية بحسب الزمان.
الصورة الثانية: أن يكون الحكم واحدا مستمرا باستمراره الزمان ولا
يتعدد ويتفرد بتعدد آنات الزمان، كنجاسة الماء المتغير، فإنها حكم واحد مستمر
من حدوثها إلى زوالها وموضوعها واحد عرفا وهو الماء، فإنه وجود واحد مستمر
بنظر العرف. وليست النجاسة في كل آن حكما غير النجاسة في الآن الاخر.
اما الصورة الأولى: فلا مجال لجريان الاستصحاب فيها مع الشك، لتعدد
افراد الحرمة بتعدد افراد الوطء بلحاظ عمود الزمان، فالفرد المشكوك حرمته من
الوطء لم يكن حكمه متيقنا في السابق، بل هو مشكوك الحدوث رأسا، لأنه فرد
حادث لا سابق.
73

واما الصورة الثانية: فهي محل الكلام في هذا البحث، فيقع الكلام في
جريان استصحاب الحكم المشكوك بقاؤه، كما لو شك في بقاء نجاسة الماء المتغير
إذا زال تغيره من قبل نفسه.
وقد عرفت أن الفاضل النراقي منع جريانه. والوجه في المنع هو: ابتلاء
استصحاب بقاء الحكم بالمعارض، وهو استصحاب عدم الجعل.
بيان ذلك: انه إذا شك في بقاء نجاسة الماء المتغير إذا زال تغيره من قبل
نفسه، فلدينا يقينان سابقان وشكان لاحقان، يقين بثبوت المجعول وهو النجاسة
في السابق، وشك في بقائها بعد زوال التغير، ومقتضى ذلك استصحاب النجاسة
المجعولة. ويقين بعدم جعل وتشريع النجاسة لهذا الموضوع - أعني الماء بعد زوال
تغيره - في صدر الاسلام، وشك في بقاء هذا العدم وزواله بجعل النجاسة له
- كما جعلت لغيره كالماء قبل زوال التغير، فان جعل النجاسة لم يكن ثابتا له أيضا -،
ومقتضى ذلك استصحاب عدم الجعل. فيكون مود الشك مجرى
الاستصحابين: استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل، وهما متعارضان.
فلا يمكن البناء على استصحاب الحكم الشرعي، لاجل معارضته
باستصحاب عدم الجعل.
وبهذا التقريب لكلام النراقي، لا يتضح ايراد الشيخ (1) عليه، فإنه
(قدس سره) أورد على النراقي بعد ذكر كلامه: بان الزمان ان لو حظ مفردا
للموضوع بنحو تكون حصة منه فردا منفصلا عن الحصة الأخرى، فلا مجال
لاستصحاب الوجود لعدم اتحاد الموضوع وان لو حظ ظرفا للموضوع تعين اجراء
استصحاب الوجود، ولا يجري استصحاب العدم لانقطاعه بالوجود. فلا يجري
الاستصحابان معا حتى يتحقق التعارض.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 377 - الطبعة الأولى.
74

ولا يخفى عليك ان الشيخ (رحمه الله) كأنه فهم من كلام النراقي: ان
مجرى الاستصحابين هو المجعول. فأورد عليه بما عرفت ولكن عرفت في تقريب
كلامه ان مركز استصحاب العدم هو الجعل، ومركز استصحاب الوجود هو
المجعول. وعليه فيمكن تصور جريان الاستصحابين معا في أنفسهما مع ملاحظة
الزمان ظرفا لا مفردا، ويتحقق التعارض حينئذ.
ومن هنا يظهر لك عدم ورود ما أفاده في الكفاية من: انه نظر تارة إلى
تحكيم نظر العرف المسامحي في الموضوع، فاجرى استصحاب الوجود. وأخرى
إلى تحكيم نظر العقل الدقي، فاجرى استصحاب العدم. والثابت هو اتباع
النظر العرفي، فلا مجال لاستصحاب العدم (1).
ووجه عدم وروده: انه يتم لو كان المنظور في كلام النراقي كون مجرى
استصحاب العدم واستصحاب الوجود شيئا واحدا وهو المجعول، فلا يمكن ان
يجري فيه الاستصحابان الا بلحاظ اختلاف النظرين.
وقد عرفت أن منظور النراقي ليس ذلك، بل مركز استصحاب العدم
غير مركز استصحاب الوجود، وهذا لا يتوقف على اختلاف النظرين، بل يمكن
ان يجريا مع كون المحكم هو نظر العرف المسامحي.
وبالجملة: ايراد الشيخ وايراد الكفاية يبتنيان على أمر واحد قد عرفت
عدم صحته، وأن نظر كلام النراقي إلى غير ما فهما منه فلا حظ.
والتحقيق: ان ما افاده النراقي وتبعه عليه السيد الخوئي بالتقريب
المتقدم يبتني على أمور:
أحدها: ان استصحاب عدم الجعل مما يترتب عليه اثر عملي مباشر، والا
كان لغوا أو مثبتا.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 410 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
75

الثاني: ان عدم الجعل مما يمكن أن يكون موردا للتعبد الشرعي والا لم
يصح ان يجري فيه الاستصحاب، لأنه ليس بمجعول شرعي وليس بموضوع
شرعي لاثر شرعي.
الثالث: ان الجعل يختلف سعة وضيقا باختلاف المجعول سعة وضيقا والا
فلو فرض انه بنحو واحد كان المجعول متسعا أو ضيقا لم يجر استصحاب عدم
الجعل فيما نحن فيه كما سيتضح انشاء الله تعالى.
وجميع هذه الأمور محل بحث وكلام، ولأجل ذلك لا بد من ايقاع البحث
في جهات:
الجهة الأولى: في أن استصحاب عدم الجعل هل يمكن ان يجري في نفسه
لترتب اثر عملي عليه أو لا؟.
وقد ذهب المحقق النائيني (رحمه الله) إلى الثاني، ببيان: ان الآثار العملية
العقلية من لزوم الإطاعة والتنجيز ونحوها انما يترتب على الحكم المجعول الفعلي
بفعلية موضوعه، واما الجعل بنفسه فلا يترتب عليه أي اثر عملي.
وعليه، فيكون التعبد بعدم الجعل لغوا، لعدم أثر عملي مترتب عليه، فلا
يصح جريان الاستصحاب فيه لوضوح ان التعبد الاستصحابي انما هو بلحاظ
الأثر العملي.
نعم، يترتب على الجعل اثر بواسطة ثبوت المجعول به، لكن ترتب ذلك
بالملازمة، فيكون الاستصحاب بلحاظه مثبتا. اذن فلا يجري استصحاب عدم
الجعل، لأنه إما لغو، بملاحظة الأثر المترتب عليه مباشرة، إذ لا أثر له واما
مثبت بملاحظة أثر المجعول لترتب المجعول على الجعل بالملازمة العقلية (1).
وقد رد المحقق العراقي هذا البيان بوجهين:

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 406 - الطبعة الأولى.
76

الوجه الأول: ان الأثر العقلي انما لا يترتب على المستصحب الا على
القول بالأصل المثبت لو كان من آثار الوجود الواقعي للمستصحب، اما إذا كان
من آثار ثبوت المستصحب للأعم من الواقعي والظاهري، فلا مانع من التعبد
بالمستصحب بلحاظه لترتبه عليه عقلا، ولا يكون ذلك من الأصل المثبت، وذلك
نظير وجوب الإطاعة، فإنه يترتب عقلا على وجود الحكم أعم من الواقعي
والظاهري، فيصح التعبد بالحكم، ويكون أثره العملي الإطاعة. وما نحن فيه
كذلك، فان المجعول يترتب على الجعل بوجوده الواقعي والظاهري، فالجعل
الظاهري يستتبع المجعول ظاهرا. وعليه، فنفي الجعل ظاهرا يستتبع نفي
المجعول، لأنه من آثار عدم الجعل الواقعي والظاهري. اذن فلا يكون
استصحاب عدم الجعل من الأصول المثبتة، بل يترتب الأثر العملي عليه بلا
محذور.
وذكر في اثبات ذلك: بأنه لولا ذلك لما صح استصحاب عدم النسخ، لان
مرجعه إلى استصحاب بقاء الجعل، مع أن جريانه وترتب الأثر عليه من
المسلمات لدى الكل ولا يتوقف فيه أحد، وليس ذلك الا لان المجعول لازم
للجعل أعم من الوجود الواقعي والظاهري.
الوجه الثاني: ان الجعل والمجعول متحدان وجودا كالايجاد والوجود، وانما
هما يختلفان اعتبارا وبالإضافة، فهما كالتصور والمتصور، فإنه لا وجود حقيقة
للتصور في غير وجود المتصور.
وعليه، فاستصحاب الجعل بنفسه اثبات للمجعول بلا ملازمة وترتب، كما أن
استصحاب عدم الجعل بنفسه اثبات لعدم المجعول بلا ملازمة (1).
وقد بنى السيد الخوئي (حفظه الله) على هذا الوجه، جريا على ما التزم

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 161 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
77

به في الواجب المشروط من تعلق الاعتبار بالوجوب على تقدير، بمعنى أن يكون
الوجوب ثابتا في ظرف الاعتبار والانشاء، لكن الثابت هو الوجوب الخاص وهو
على تقدير ونتيجة ذلك: ان تكون الآثار العقلية مترتبة عند حصول ذلك
التقدير، لا ان الوجوب ثابت في ظرف التقدير بحيث ينفك الاعتبار عن المعتبر
زمانا.
وبالجملة: يلتزم بان وجود الحكم بنفس الاعتبار، وانما الأثر يتأخر
ويترتب عند حصول التقدير. وضم إليه مقدمة أخرى، وهي: ان الأثر العملي
يترتب على امرين فقط: الجعل ووجود الموضوع، وفعلية الحكم ليست امرا وراء
ذلك. اذن فنفي الجعل يستلزم نفي الأثر العملي، لأنه جزء موضوع الأثر.
والمحصل: ان استصحاب عدم الجعل يستلزم نفي الأثر العملي بلا لزوم
محذور الأصل المثبت (1).
والحق ان كلا الوجهين مردودان:
اما الأول، ففيه: ان الجعل في مرحلة الظاهر وان كان يلازم تحقق
المجعول باعتبار ان الجعل يرجع إلى انشاء الحكم والانشاء لا ينفك عن المنشأ،
فالجعل الظاهري يستتبع مجعولا وحكما ظاهريا لا محالة لتقومه به عقلا. وعليه،
فبثبوت الجعل ظاهرا تترتب آثار المجعول لتحققه به الا ان عدم الجعل في مرحلة
الظاهر لا يستتبع سوى عدم المجعول ظاهرا، كاستتباع عدم الجعل واقعا لعدم
المجعول واقعا، وهذا لا يجدي في نفي آثار الواقع المحتمل، ولا يستلزم تأمينا
وتعذيرا عنه، إذ العقاب المحتمل عند احتمال الواقع يترتب على نفس الواقع لا
على الظاهر، فلا بد من اثبات عدم المجعول واقعا بالتعبد الظاهري بعدم الجعل
واقعا.

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 46 - الطبعة الأولى.
78

ومن الواضح ان اثباته انما يكون بالملازمة العقلية للتلازم واقعا بين عدم
الجعل وعدم المجعول. فيكون الأصل من الأصول المثبتة.
ومن هنا ظهر عدم صحة النقض باستصحاب عدم النسخ، لان مرجعه
إلى استصحاب بقاء الجعل، وقد عرفت تقوم الجعل الظاهري بالمجعول
الظاهري وثبوت الحكم الظاهري يكفي في صحة ترتيب الآثار. وهذا بخلاف
استصحاب عدم الجعل، فإنه وان ترتب عليه عدم المجعول ظاهرا، لكنه لا ينفع
في ترتب الأثر العملي. وما يترتب عليه الأثر العملي وهو عدم المجعول واقعا لا
يثبت الا بالملازمة، فيكون الأصل مثبتا.
وبالجملة: فرق بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم.
واما الوجه الثاني، فهو كما عرفت يبتني على مقدمتين:
المقدمة الأولى: وحدة الجعل والمجعول. وهذه المقدمة ترتبط بما يقرر في
حقيقة الانشاء، فهل هو عبارة عن التسبيب قولا أو فعلا، لتحقق الاعتبار
العقلائي، أو من بيده الاعتبار من دون أن يكون للمنشئ أي اعتبار، بل غاية
فعله هو نفس ايجاد الموضوع للاعتبار العقلائي، وهو الانشاء؟. أو أنه عبارة عن
ابراز الاعتبار النفساني، بدعوى أن للمنشئ اعتبارا شخصيا للمنشأ من وجوب
أو ملكية أو غيرهما، ولا يترتب الأثر عليه الا بعد ابرازه بمبرز قولي أو فعلي؟.
فالمقدمة المزبورة تبتني على الوجه الثاني، إذ ليس للجعل حقيقة سوى الاعتبار
الشخصي، وهو عين المعتبر وجودا وان اختلف معه اعتبارا. واما على الوجه
الأول، فليس الجعل سوى الانشاء الذي يكون سببا للاعتبار العقلائي في
ظرفه، والمجعول هو ما يعتبره العقلاء في ظرف الموضوع. ومن الواضح تغايره
مع الجعل وجودا وذاتا.
وقد تقدم في محله بطلان الوجه الثاني واختيار الوجه الأول. وعليه فهذه
المقدمة غير تامة.
79

ومع غض النظر عن ذلك، يقع الكلام في..
المقدمة الثانية: وهي ان الأثر العملي يترتب على الجعل بضميمة وجود
الموضوع، فيكون نفي الجعل بالأصل مستلزما لعدم ترتب الأثر. فنقول: لو
سلمنا وحدة الجعل والمجعول بالبيان المتقدم، فلا نسلم ان الأثر العملي مترتب
على وجود الجعل وان تحقق المجعول في ظرف الجعل، بل الأثر العملي انما يترتب
على تقدير وجود الموضوع، بحيث يضاف المجعول إلى فرد المكلف الخاص،
فيقال: انه ممن وجب عليه الفعل، فان مجرد الجعل قبل تحقق الموضوع لا يضاف
به الوجوب إلى المكلف الخاص، فلا يقال للمكلف قبل الزوال انه ممن وجبت
الصلاة عليه، وانما الإضافة تتحقق بعد الموضوع، كتحقق الزوال بالنسبة إلى
الصلاة، ولعله هو المراد من قوله (عليه السلام): " فإذا زالت الشمس فقد وجب
الطهور والصلاة " (1).
وبالجملة: مجرد جعل الحكم الكلي لا يترتب عليه الأثر، وانما الأثر لمرحلة
الانطباق وإضافة الوجوب إلى فرد المكلف.
وعليه، فاستصحاب عدم الجعل مما لا يترتب عليه نفي الأثر العملي الا
بتوسط نفي إضافة المجعول إلى المكلف، وهذا من اللوازم العقلية، فيكون من
الأصول المثبتة، فهو نظير استصحاب عدم الكر في الحوض في نفي كرية ماء
الحوض التي هي مورد الأثر العملي.
والخلاصة: ان الاشكال في استصحاب عدم الجعل بأنه من الأصول
المثبتة لا دافع له. فهذا أحد الايرادات على كلام النراقي المتقدم.
الجهة الثانية: في امكان تعلق التعبد بعدم الجعل.
والتحقيق: ان الجعل وعدمه ليس مما يمكن تعلق التعبد به والاعتبار.

(1) وسائل الشيعة 1 / 261، حديث: 1.
80

فيقع الكلام في مقامين:
المقام الأول: في عدم صحة التعبد بالجعل. فنقول: ان التعبد والاعتبار
انما يطرأ على الأمور الاعتبارية التي يكون وجودها بالجعل والاعتبار ولا يتعلق
بالأمور التكوينية الخارجية، فإنها لا تقبل الجعل. ومن الواضح ان الجعل
والاعتبار الصادر من المولى انما هو فعل تكويني للمولى ومن أفعاله الاختيارية
النفسية التي لها وجود واقعي وليس من الأمور الاعتبارية. نعم ما يتعلق به
الاعتبار من الأحكام الشرعية يكون اعتباريا، وإذا كان الاعتبار كذلك امتنع
أن يكون موردا للتعبد والاعتبار. وعليه فإذا فرض ان مفاد دليل الاستصحاب
هو التعبد بوجود المتيقن بقاء، لم يشمل الجعل، ولا معنى لجريان الاستصحاب
فيه.
وبالجملة: استصحاب الجعل بهذا المعنى مما لا محصل له.
واما استصحاب بقاء الجعل في مورد الشك في النسخ، فهو اما ان يرجع
إلى التمسك باطلاق الدليل الدال على الحكم بالنسبة إلى الزمان الممتد، وتكون
تسميته بالاستصحاب مسامحة. واما ان يرجع إلى استصحاب المجعول التعليقي
لا الفعلي، الذي سيأتي البحث عنه في محله.
نعم، بناء على ما قربنا به شمول دليل الاستصحاب للشبهة الموضوعية
- من: ان الدليل لا يتكفل التعبد بالمتيقن ابتداء وانما يتكفل الالزام بمعاملة
المتيقن معاملة الباقي الثابت، ويكون ذلك إرشادا إلى ثبوت التعبد في كل مورد
بحسبه - أمكن دعوى شمول الدليل للجعل، ويكون لازمه ثبوت التعبد
بالمجعول، لا التعبد بالجعل، فتكون نسبة المجعول إلى الجعل نسبة الحكم إلى
الموضوع المستصحب، فكما أن مقتضى شمول عموم: " لا تنقض " للموضوع
المتيقن التعبد بحكمه - كما عرفت -، لأنه هو القابل للتعبد دون الموضوع،
كذلك مقتضى شموله للجعل المتيقن هو التعبد بالمجعول، فإنه لازم للزوم معاملة
81

الجعل معاملة البقاء بعد عدم امكان التعبد بالجعل نفسه. فتدبر.
المقام الثاني: في عدم صحة التعبد بعدم الجعل. فنقول: بناء على ما عرفت
من عدم قابلية الجعل للتعبد والاعتبار لكونه فعلا تكوينيا للمولى، وان دليل
الاستصحاب تكفل التعبد رأسا بالمتيقن السابق. يكون امتناع التعبد بعدمه من
الواضحات، إذ ما لا يقبل الوضع الشرعي لا يقبل الرفع.
واما بناء على تقريب شمول الدليل للجعل على المسلك الذي سلكناه
في تعميم الاستصحاب للشبهة الموضوعية، فالدليل أيضا لا يشمل عدم الجعل.
وذلك لان غاية ما يمكن ان يقال في شمول الدليل له: ان المدلول
المطابقي لعموم: " لا تنقض " هو حرمه النقض العملي ولزوم معاملة المتيقن
السابق معاملة الباقي، وهذا لا مانع من شموله لعدم الجعل، ويكون ارشادا إلى
ثبوت التعبد في مورده بما يناسبه، ولا يمكن أن يكون المتعبد به هو عدم الجعل،
لما عرفت أنه غير قابل للتعبد، فلا بد أن يكون التعبد متعلقا بعدم المجعول،
فاستصحاب عدم الجعل يفيد التعبد بعدم المجعول - يعني: عدم التكليف -.
ولكن التحقيق ان التعبد بعدم التكليف غير صحيح.
وهذا مطلب برأسه يبحث عنه مع قطع النظر عن استصحاب عدم
الجعل، بل يسري إلى استصحاب عدم المجعول أيضا الذي يذكر في باب
البراءة، كما تقدم بيانه والمناقشة فيه.
فيقع الكلام في أن عدم التكليف هل يمكن التعبد به وتعلق الجعل به أو
لا؟.
وبتحقيق هذه الجهة يظهر الحال فيما نحن فيه: نقول: ان ظاهر الشيخ
(رحمه الله) في مبحث البراءة عدم صحة تعلق التعبد بعدم التكليف لأنه غير
اختياري (1).

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 197 - الطبعة الأولى.
82

ورد: بأنه بعد أن كان التكليف بيد الشارع كان عدمه كذلك لان نسبة
القدرة إلى طرفي الوجود والعدم على حد سواء. وعليه فعدم التكليف بيد
الشارع، ولا يعتبر في المستصحب إلا أن يكون أمرا بيد الشارع (1).
ولكن التحقيق: ان ما يمنع من التعبد بعدم التكليف أمر وراء ذلك، وما
ذكرناه من الاشكال فيه وجوابه لا يرتبطان بحقيقة المانع. بيان ذلك: ان اعتبار
عدم التكليف والتعبد تارة يكون واقعيا. وأخرى يكون ظاهريا.
فإن كان واقعيا، بان اعتبر الشارع عدم التكليف في الواقع، وجعل عدمه
واقعا. فلا يخلو الحال اما أن يكون التكليف ثابتا في الواقع. أو لا يكون ثابتا في
الواقع. فعلى الثاني: يلغو جعل العدم، إذ مجرد جعل التكليف في الواقع يكفي في
تحقق عدم التكليف وترتب الأثر عليه، بلا حاجة إلى اعتبار العدم فإنه مؤونة
زائدة.
وعلى الأول: يكون من الجمع بين الضدين نظير ما يقال في جعل
الوجوب والحرمة واقعا لموضوع واحد في آن واحد، فان جعل عدم التكليف
وجعل التكليف يكونا متضادين (2) بلحاظ الآثار المترتبة عليهما وبلحاظ المبدأ
لكل منهما.
وان كان ظاهريا..
فتارة: يراد به جعل العدم ظاهرا، فهو مضافا إلى عدم ترتب الأثر عليه
من التعذير والتأمين عن العقاب، إذ المدار في ذلك على عدم التكليف واقعا، فإنه
لا يحتاج إليه فإنه يكفي عنه مجرد عدم جعل التكليف في الظاهر.
وأخرى: يراد به جعل عدم التكليف الواقعي في مرحلة الظاهر - يعني

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 258 - الطبعة الأولى.
(2) لا متناقضين، لان جعل العدم وجعل الوجود أمران وجوديان، نعم التكليف وعدمه متناقضان، فالتفت.
(منه عفي عنه).
83

يجعل العدم الظاهري للتكليف الواقعي، كسائر الأحكام الظاهرية المجعولة
بلسان الواقع -، وهو غير صحيح أيضا، لان التكليف الواقعي إن لم يكن له ثبوت
كفى عدمه في ترتب الآثار بلا حاجة إلى جعل عدمه في مرحلة الظاهر. وان كان
له ثبوت فاما أن لا يترتب عليه اثر عقلي وجودي في مقام الشك، بحيث يحكم
العقل بالمعذورية والأمان من العقاب، فلا أثر لجعل العدم، إذ غاية ما يراد به
هو اثبات المعذورية، والمفروض انها ثابتة عقلا مع قطع النظر عن جعل العدم.
واما ان يترتب عليه اثر وجودي عقلي بحيث يحكم العقل بمنجزيته ولزوم الاتيان
بمتعلقه في ظرف الشك، امتنع جعل العدم لمنافاته لحكم العقل بلزوم الاحتياط
- نظير موارد العلم الاجمالي -.
نعم لو كان الحكم العقلي بالاحتياط تعليقيا لا تنجيزيا بحيث يرتفع
باعتبار الشارع عدم التكليف، كان جعل العدم ذا اثر عملي، لكن الامر ليس
كذلك، فان حكم العقل بالاحتياط في موارده يكون تنجيزيا لا تعليقيا، فيتحقق
التنافي بين جعل التكليف الواقعي وجعل عدمه ظاهرا من حيث الأثر العملي
العقلي، فلا يصح الجمع بينهما.
وبهذا البيان تعرف ان ما أجيب به عن اشكال الشيخ من اختيارية العدم
وكونه تحت القدرة لا يحل المشكلة في جعل العدم - وان فرض انه بيد الشارع
-، وهي اما اللغوية أو لزوم الجمع بين الضدين.
وكيف كان، فقد ظهر انه لا معنى محصل للتعبد بعدم الجعل وشمول دليل
الاستصحاب له، وبذلك يتحقق ايراد ثان على الفاضل النراقي ومن تبعه في
مدعاه. فتدبر.
الجهة الثالثة: في أن الجعل هل يختلف سعة وضيقا باختلاف المجعول
سعة وضيقا أو لا، يختلف الحال فيه، بل يكون بنحو واحد سواء كان المجعول
واسعا أم ضيقا؟. توضيح ذلك: ان الحكم المجعول لا اشكال في اتساع دائرته
84

وضيقها باتساع دائرة متعلقه وضيقها، فالوجوب المجعول للجلوس من الزوال
إلى الغروب أضيق دائرة من الوجوب المجعول للجلوس من الزوال إلى نصف
الليل، فيقال: ان الجعل هل يتسع بسعة المجعول ويضيق بضيقه، نظير بعض
الاعراض الخارجية العارضة على الجسم كالبياض، فإنها تزيد بسعة الجسم
وتضيق بضيقه، ونظير التصور بالنسبة إلى المتصور، فإنه يزيد بسعة المتصور
ويضيق بضيقه؟ أو ان الجعل لا يختلف سعة وضيقا بسعة المجعول وضيقه، بل
يكون على كلا التقديرين بحد واحد. واثر ذلك فيما نحن فيه واضح، فإنه إذا
كان كنفس المجعول مما تتسع دائرته وتضيق، فمع الشك - فيما نحن فيه - في
سعة المجعول وامتداده في الزمان المشكوك، يشك في زيادة الجعل، فيمكن ان
يستصحب عدمه - مع قطع النظر عما تقدم من الايرادات -. اما إذا لم يكن مما
يختلف سعة وضيقا، فلا شك فيما نحن فيه في زيادة الجعل، كما أن وجوده معلوم،
وانما الشك في كيفيته وانه بماذا تعلق، وهذا مما لا يمكن ان يجري فيه الأصل، إذ
لا حالة سابقة له، فلا يبقى مجال لجريان أصالة عدم الجعل.
اذن فجريان أصالة عدم الجعل يبتني على الالتزام بسعة الجعل وضيقه
لسعة المجعول وضيقه، كي تكون زيادة الجعل مشكوكة الحدوث بسبب الشك في
سعة المجعول واستمراره، فتكون مجرى لأصالة العدم.
وتحقيق الحال في ذلك يبتني على ما يلتزم به في معنى الانشاء، وعمدة
المسالك فيه ثلاثة:
الأول: انه عبارة عن مجرد التسبيب لتحقق الاعتبار العقلائي في ظرفه.
وبعبارة أخرى: انه عبارة عن استعمال اللفظ في المعنى بداعي تحقق اعتباره من
قبل العقلاء في ظرفه المناسب له، فلا يصدر من المنشئ سوى الاستعمال بالقصد
المزبور. وهذا هو المشهور في معنى الانشاء.
الثاني: انه عبارة عن ايجاد المعنى بوجود انشائي يكون موضوعا للاعتبار
85

العقلائي أو الشرعي في ظرفه، فما يصدر من المنشئ هو الاستعمال بقصد تحقق
وجود انشائي للمعنى يترتب عليه الاعتبار العقلائي عند وجود موضوعه وهذا
مختار صاحب الكفاية (1).
وقد قربناه بما لا مزيد عليه، فراجع مبحث الانشاء - من مباحث القطع
والأوامر..
الثالث: انه عبارة عن ابراز الاعتبار النفساني الشخصي، بدعوى أن
للمنشئ اعتبار شخصيا يكون موردا للآثار العقلائية إذا ابراز بمبرز من لفظ
أو غيره. وهذا ما ذهب إليه بعض المتأخرين (2).
وقد نفينا صحته في محله فراجع.
ولا يخفى انه بناء على المسلك الأخير، يكون الجعل مما يختلف سعة وضيقا
بسعة المجعول وضيقه. وذلك لان مرجع الجعل إلى الاعتبار الشخصي الصادر
من المعتبر. ومن الواضح ان الاعتبار في السعة والضيق يتبع الامر المعتبر، فان
نسبته إليه نسبة التصور إلى المتصور والوجود إلى الموجود، فمع سعة الامر
الاعتباري يتسع الاعتبار ومع ضيقه يضيق.
وهكذا الحال بناء على المسلك الثاني، فان مرجع الجعل إلى ايجاد الحكم
بوجود انشائي، ومن الواضح اتساع دائرة الوجود وضيقها باتساع دائرة الموجود
وضيقه.
واما على المسلك الأول المشهور، فلا يكون الجعل مما يقبل السعة
والضيق بسعة المجعول وضيقه، لان الجعل هو الاستعمال بقصد تحقق الاعتبار
في ظرفه من قبل من بيده الاعتبار. ومن الواضح ان المستعمل فيه لو كان مفهوما

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 66 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) التوحيدي محمد علي. مصباح الفقاهة 2 / 51 - الطبعة الأولى.
86

إسميا يقبل السعة والضيق بان ينشئ الوجوب بمفهومه الاسمي، أمكن ان
يتأتى فيه البيان المزبور، فيقال: ان الاستعمال يرجع إلى جعل اللفظ مرآتا
وحاكيا عن المعنى، والحكاية تتسع وتضيق بسعة المحكي وضيقه، فمع الشك في
زيادة الحكاية للشك في سعة المحكي تكون مجرى لأصالة العدم.
ولكنه غالبا يكون الانشاء بالصيغة، وهي لا تتكفل انشاء الوجوب
بمفهومه الاسمي القابل للسعة والضيق، بل المفهوم الحرفي الذي ليس له الا
نحو واحد، وهو المعبر عنه بالوجود الرابط الذي لا يقبل السعة والضيق، فلا
يتصف الانشاء بهذا المعنى بالسعة والضيق، بل له وجود واحد مردد بين نحوين
متباينين، فلا مجال حينئذ لأصالة العدم فيه بعد كون الشك في كيفيته، وانه تعلق
بهذا أو بذاك لا في أصل وجوده.
وليس الانشاء نفس القصد القلبي المزبور، كي يقال إنه مما يقبل السعة
والضيق بملاحظة متعلقه، بل القصد مأخوذ في الانشاء قيدا، بمعنى ان الانشاء
هو الاستعمال الخاص، وهو المقترن بالقصد، لا انه هو نفس القصد.
وإذا عرفت ذلك، تعرف ان كلام النراقي لا يتم بناء على المسلك المشهور
في معنى الانشاء، فهذا ايراد ثالث عليه لكنه مبنائي، بل هو وارد على النراقي
نفسه، إذ لم يكن للمسلكين الآخرين عين ولا أثر في زمانه. فتدبر.
ثم إنه مما ذكرناه في هذه الجهة يمكن تصحيح ايراد الشيخ (رحمه الله)
على النراقي الذي تقدم نقله - في صدر البحث - وتقدم الايراد عليه بأنه غفلة
عن محط نظر النراقي في دعوى المعارضة. وذلك بدعوى: ان كلام الشيخ (رحمه
الله) يبتني على عدم سعة الجعل بسعة المجعول، وقد اخذ ذلك في كلامه بنحو
المقدمة المطوية.
نعم، هنا شئ، وهو: ان الاحكام الواردة على الموضوعات المتعددة
المتباينة تستلزم تعدد الجعل ولو كان انشاؤها واحدا بالصورة، فحين يقول: " أكرم
87

كل عالم " ينحل انشاؤه إلى انشاءات متعددة بتعدد الموضوعات خارجا، فيتعدد
الجعل حقيقة وان كان واحدا صورة.
وعليه، فيتلخص ايراد الشيخ: في أنه ان لو حظ الزمان قيدا، كان الفعل
الموضوع، بل يتعين استصحاب عدم الجعل للشك في حدوثه بالإضافة إلى هذه
الحصة المشكوكة. وان لو حظ ظرفا، كان الحكم الثابت على تقدير استمراره
واحدا، فلا مجال لاستصحاب عدم الجعل لعدم الشك فيه، ولا في زيادته لعدم
قابليته للسعة والضيق، بل الشك في كيفيته، وهي لا تكون مجرى لأصالة العدم
كما عرفت، بل يتعين استصحاب وجود المجعول.
فليس نظر الشيخ إلى وحدة مجرى الاستصحابين كي يورد عليه - كما
تقدم - بان مجراهما مختلف، بل نظره إلى أن استصحاب عدم الجعل لا مجال له
الا إذا لو حظ الزمان قيدا، ومعه لا مجال لاستصحاب المجعول، فهو متنبه إلى
اختلاف مجرى الاستصحابين.
فالايراد السابق على الشيخ يمكن ان نقول: أنه ناش عن عدم التأمل
في كلامه (قدس سره) فتدبر جيدا. ومنه يمكن تصحيح ايراد الكفاية، فإنه
مأخوذ من كلام الشيخ فراجع.
والذي تلخص مما تقدم: ان جريان أصالة عدم الجعل وجعلها طرفا
لمعارضة أصالة بقاء المجعول امر لا يمكن الالتزام به، فإنه مبتن على مقدمات
كثيرة أكثرها محل منع.
وعليه، فلا مانع من التمسك في الشبهات الحكمية بأصالة بقاء المجعول
- إذ تمت شرائط الاستصحاب في أنفسها - ولا مجال لدعوى معارضته.
ثم إنه بناء على الالتزام بجريان أصالة عدم الجعل ومعارضتها
لاستصحاب المجعول. فهل يختص ذلك بما كان المجعول المشكوك من الاحكام
88

الالزامية، أو يعم ما إذا كان من الأحكام الترخيصية كالإباحة؟.
التزم السيد الخوئي بالاختصاص (1). خلافا لظاهر النراقي حيث التزم
بعموم هذا البيان لمطلق موارد الشك في الحكم الشرعي الكلي.
وتحقيق الكلام في المقام.
انه اما ان يلتزم بان الإباحة ليست من الاحكام المجعولة شرعا، بل هي
منتزعة عن عدم طلب الفعل والترك. وذلك إذ لا أثر عقليا لجعل ما يسمى
باطلاق العنان وتعلق الاعتبار به، إذ اللا حرجية في الفعل والترك تترتب على
مجرد عدم الالزام بأحدهما بلا ملزم لاعتبار ذلك.
وبالجملة: الأثر العملي العقلي المقصود ترتبه على الإباحة يترتب على
مجرد عدم الالزام بأحد الطرفين وإن لم تكن الإباحة مجعولة، فيكون جعلها لغوا.
واما ان يلتزم بتعلق الجعل بها كالوجوب والحرمة، كما هو المشهور
المتداول على الألسنة من كون الأحكام التكليفية خمسة.
فعلى الأول: لا مجال لاستصحاب عدم جعل الإباحة في الحصة الزمانية
المشكوك إباحة الفعل فيها، إذ الفرض انها غير مجعولة بالمرة. فلا شك في تعلق
الجعل بها وعدمه، بل على هذا لا مجال - في الفرض - لاستصحاب المجعول وهو
الإباحة، لعدم تعلق الجعل بها كي تستصحب ويتعبد ببقائها، فيخرج المورد عن
محل البحث في استصحاب الأحكام الكلية بل اما ان يرجع في الفرض إلى
أصالة عدم الحكم الالزامي المشكوك ان جرت أصالة العدم - كما هو المفروض،
إذ المفروض صحة استصحاب عدم الجعل -، والا فالمرجع أصالة البراءة ولا مجال
للاستصحاب مع الشك في الحلية بتاتا.
واما على الثاني: فلا مانع من جريان أصالة عدم الجعل ومعارضتها
لاستصحاب بقاء الإباحة، إذ بعد فرض كون الإباحة مجعولة فجعلها حادث لا

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 47 - الطبعة الأولى.
89

محالة، سواء كان حدوثه في هذه الشريعة أو من السابق: فإذا شك في تحقق جعل
الإباحة - في ظرفه أي زمان كان - بالنسبة إلى الزمان الخاص، فتجري أصالة
عدم الجعل وتعارض استصحاب الإباحة، كما هو الحال في مورد الأحكام الإلزامية
بلا فرض أصلا.
وكما يتأتى هذا الحديث في الأحكام الترخيصية التكليفية، يتأتى نظيره في
الأحكام الوضعية اللا اقتضائية، كالطهارة في قبال النجاسة، فإنه إن التزم بعدم
جعل الطهارة، وان حقيقة الطهارة ليست الا عدم النجاسة والقذارة، فلا مجال
لاستصحاب عدم جعل الطهارة في الزمان الخاص المشكوك، بل لا مجال
لاستصحاب الطهارة نفسها. وان التزم بجعل الطهارة، كان استصحاب عدم
جعلها معارضا لاستصحاب بقائها بالبيان المتقدم.
بل يأتي هذا الحديث في النجاسة إذا احتمل أن لا تكون مجعولة، وانها
عبارة عن عدم الطهارة. فتدبر جيدا.
وبهذا البيان تعرف ما في تقريرات بحث السيد الخوئي من الاشكال
والنظر، فلا حظ تعرف ولا حاجة إلى الإطالة. هذا تمام الكلام في هذا البحث.
ويقع الكلام بعد ذلك في سائر نصوص الباب.
فمنها: صحيحة أخرى لزرارة - مضمرة أيضا - قال: " قلت له: أصاب
ثوبي دم رعاف أو غيره أو شئ من المني،: فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء،
فحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئا وصليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك قال
(عليه السلام): تعيد الصلاة وتغسله. قلت: فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه
قد أصابه فطلبته ولم أقدر عليه، فلما صليت وجدته؟. قال (عليه السلام): تغسله
وتعيد قلت: فان ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر شيئا، فصليت
فرأيت فيه. قال (عليه السلام) تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت: لم ذلك؟. قال
(عليه السلام): لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت، فليس ينبغي لك ان
90

تنقض اليقين بالشك أبدا. قلت: فاني قد علمت أنه قد أصابه و لم أدر أين هو
فاغسله؟. قال (عليه السلام): تغسله من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها
حتى تكون على يقين من طهارتك. قلت: فهل علي ان شككت في أنه اصابه
شئ أن انظر فيه؟. قال (عليه السلام): لا ولكنك انما تريد أن تذهب الشك
الذي وقع في نفسك. قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟. قال (عليه السلام):
تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته. وإن لم تشك ثم رأيته
رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري لعله شئ أوقع
عليك، فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك " (1).
ومحل الاستشهاد بهذه الرواية فقرتان.
الأولى: قوله (عليه السلام) - بعد سؤال زرارة ب‍: " لم ذلك " -: " لأنك
كنت على يقين من طهارتك فشككت، فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك
أبدا ".
والثانية: قوله (عليه السلام) - في آخر النص -: " فليس ينبغي لك ان
تنقض اليقين بالشك ".
وتحقيق الكلام في الفقرة الأولى: ان السائل سال الإمام (عليه السلام)
عن حكم ما إذا ظن بالنجاسة ولم يتيقن بوجودها فنظر فلم ير شيئا، ثم بعد
الصلاة رأى نجاسة. فأجابه (عليه السلام) بعدم لزوم إعادة الصلاة، وعلله -
بعد مطالبة السائل بالعلة - بقوله: " لأنك كنت... ".
ولا يخفى ان قول السائل: " فرأيت فيه " يحتمل فيه وجهان:
أحدهما: أنه رأي النجاسة التي ظنها فيها قبل الصلاة بحيث علم بوقوع
صلاته مع النجاسة.
والاخر: انه رأى نجاسة لا يعلم انها حادثة بعد العمل أو هي التي ظنها.

(1) وسائل الشيعة 2 / 1061، حديث 1 و 2 / 1063، حديث: 1.
91

وقد استظهر جل الاعلام الوجه الأول، فحينئذ يكون المراد باليقين
والشك في قوله: " كنت على يقين فشككت "، هما اليقين قبل ظن الإصابة، والشك
الموجود أثناء العمل الذي يدل عليه قوله: " فان ظننت أنه أصابه ولم أتيقن ذلك ".
وعلى هذا الوجه يشكل تطبيق الاستصحاب في المورد.
وقد تعرض الاعلام (قدس الله سرهم) لبيان الاشكال بما لا يخلو عن
قصور، وقد وقع الخلط في كلمات بعضهم كما ستعرف، وتوضيح الاشكال. وتقريبه
هو: ان الإمام (عليه السلام) حكم بعدم وجوب الإعادة وعلله بحرمة نقض
اليقين بالشك بنحو يظهر منه ثبوت الحرمة الفعلية للنقض.
وعليه يقال: اما أن يكون الملحوظ في قوله: " فليس ينبغي لك ان تنقض
اليقين بالشك أبدا " هو حرمة النقض فعلا، بحيث يراد بيان ثبوت الاستصحاب
في حال ما بعد الصلاة ولو كان الموضوع هو اليقين والشك السابقين، كما هو
الظاهر من الرواية. واما أن يكون الملحوظ هو ثبوت الاستصحاب وحرمة
النقض في حال الصلاة.
فعلى الأول: يكون ظاهر التعليل ان الإعادة من مصاديق نقض اليقين
بالشك، فتثبت لها الحرمة، فيكون من التعليل بالكبرى وانطباق العنوان العام
الذي يكون متعلقا للحكم على مورد التعليل، كما إذا قال: " لا تشرب هذا المائع
لحرمة شرب المسكر "، فإنه ظاهر في كون هذا المائع من مصاديق المسكر.
ومن الواضح ان هذا مما لا يمكن الالتزام به، لان الإعادة ليست نقضا
لليقين بالشك حال الصلاة كي تثبت لها الحرمة، بل هي نقض لليقين باليقين
بوقوع الصلاة مع النجاسة.
وبالجملة الإعادة لو ثبتت، فهي من آثار العلم اللاحق بالنجاسة وعمل
به، لا من آثار الشك السابق وعمل به كي يصدق نقض اليقين بالشك.
فعلى هذا التقدير لا يتبين وجه تطبيق كبرى حرمة نقض اليقين بالشك
92

على المورد.
واما على الثاني: وهو ان يراد اجراء الاستصحاب بلحاظ حال الصلاة -
نظير اطلاق المشتق بلحاظ حال التلبس -، فلا يكون التعليل بالكبرى، إذ
حرمة النقض الثابتة أثناء العمل لا يعقل ان تتعلق بالإعادة بعد العمل، إذ لا
معنى لتعلق الحرمة السابقة بفعل متأخر بحيث لا تكون هناك حرمة في ظرف
العمل. فعدم وجوب الإعادة لا يمكن أن يكون من مصاديق كبرى حرمة
النقض بقول مطلق، فلا يكون التعليل من التعليل بالكبرى، بل الذي يظهر
من التعليل ان الإعادة منافية لحرمة النقض لا انها نقض فتتعلق بها الحرمة.
ومن هنا قد يبدو الربط بين العلة والمعلول مشكلا. وفي مثله قد يكون
التعليل مستهجنا بحسب الموازين العرفية.
وتوضيح ذلك: ان التعليل بغير الكبرى يصح في موردين.
أحدهما: التعليل بالصغرى بنحو يكون المحمول في الصغرى منطبقا
على موضوع الحكم المعلل، نظير ان يقال: " لا تشرب الخمر لأنه مسكر " فإنه
يصح التعليل ولو لم يكن هناك سبق ذهني لثبوت حرمة مطلق المسكر، بل قد
يستفاد الحكم لمطلق المسكر من نفس التعليل. ووقوع ذلك في الاستعمالات
كثير.
والاخر: ان تكون هناك مناسبة واضحة بين التعليل والمعلل يعرفها كل
أحد، فإنه يصح التعليل، كما لو قال: " لا تسلك هذا الطريق لان فيه أسدا "،
فان العلة لا تنطبق على المعلل، لكن المناسبة بينهما واضحة، وهي جهة التحرز
عن خطورة الأسد.
ويلحق به ما إذا لم تكن المناسبة واضحة عرفا، لكنها كانت معلومة لدى
المخاطب خاصة، كما لو قال: " لا تسلك هذا الطريق لان فيه زيدا "، مع سبق
معرفة المخاطب بان زيدا يحاول ايذاءه.
93

اما لو لم يكن التعليل بالصغرى ولم تكن هناك مناسبة عرفية واضحة ولا
مرتكزة في ذهن المخاطب خاصة بين العلة والمعلول، فالتعليل مستهجن بحسب
موازين المحاورات، كما إذا قال: " لا تسلك هذا الطريق لان زيدا مسافر ".
وقد يبدو ما نحن فيه من هذا القبيل، إذ ليس هو من التعليل بالصغرى،
ولا من موارد ثبوت المناسبة الواضحة بين العلة والمعلول، إذ أي مناسبة بين نفي
الإعادة والاستصحاب، ولا ظهور في النص في وجود مناسبة مرتكزة في ذهن
السائل خاصة. وإذا كان الامر كذلك كان التعليل مستهجنا.
ودعوى: ان السائل قد فهم وجود مناسبة ما على الاجمال وإن لم يفهم
خصوصيتها، بعد فرض صدور الكلام من متكلم حكيم.
مندفعة: بأنها تتم لو أن الإمام (عليه السلام) تصدى لتعليل تعبدا، لا
ما إذا كان السائل بصدد التعرف على علة الحكم كما هو ظاهر سؤاله: " لم ذلك "
المشوب بالتعجب، فإنه لا يصح في مثله ان يعلل بامر لا يفهم منه شيئا.
وملخص الاشكال: ان التعليل ان كان بلحاظ ثبوت حرمة النقض بعد
الصلاة، كان ممتنعا لعدم انطباقه على الإعادة. وان كان بلحاظ ثبوت حرمة
النقض حال الصلاة، كان مستهجنا لعدم وضوح ربطه بالحكم المعلل.
ولا يتأتى على هذا التقدير حديث كون الإعادة نقضا باليقين لا بالشك،
لما عرفت من امتناع تعلق الحرمة السابقة بالإعادة، فلا موضوع لهذا الحديث
فلا حظ.
وبهذا البيان للاشكال، يظهر لك قصور كلام الشيخ (1) في تحرير
الاشكال، فإنه نظر (قدس سره) - في مقام تحرير الاشكال - إلى التقدير الأول
خاصة عملا بظاهر الرواية، ولأجل ذلك استشكل في الرواية بان الإعادة ليست

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 331 - الطبعة الأولى.
94

نقضا لليقين بالشك، بل اليقين. نعم يمكن ان يجري الاستصحاب فيما قبل
الصلاة ليصح تعليلا لجواز الدخول في الصلاة.
وعلى هذا الأساس نفى (قدس سره) تصحيح التعليل بان الرواية ناظرة
إلى إجزاء الامر الظاهري. فان ذلك انما يتأتى فيما كان الملحوظ إجراء
الاستصحاب بلحاظ حال العمل كي تكون الإعادة منافية لحرمة النقض، لا ان
تكون هي نقضا.
اما إذا كان الملحوظ هو إجراء الاستصحاب بلحاظ ما بعد العمل
وانكشاف الخلاف فلا مجال لهذا الكلام، إذ ظاهر التعليل حينئذ كون الإعادة -
بنفسها نقضا بالشك - كما قربناه -، والمفروض انها ليست كذلك، والالتزام
باجزاء الامر الظاهري لا يجعل الإعادة نقضا، كي تنحل المشكلة نعم الإعادة
منافية لثبوت الحكم الظاهري بناء على الاجزاء، وهذا غير كونها منفية بالحكم
الظاهري ومتعلقة له كما هو ظاهر النص والتعليل، فتدبر جيدا.
كما يظهر لك ما في الكفاية من خلط احدى جهتي الاشكال بالأخرى.
وذلك في موضعين:
الأول: في صدر الكلام، فإنه (قدس سره) بعد ما نقل الاشكال المزبور
بالنحو المذكور في الرسائل - وهو: " ان الإعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة
ليست نقضا لليقين بالطهارة بالشك فيها، بل باليقين بارتفاعها، فكيف يصح ان
يعلل عدم الإعادة بأنها نقض لليقين بالشك؟ "، قال: " ولا يكاد يمكن التفصي
عن هذا الاشكال الا بان يقال: إن الشرط في الصلاة فعلا حين الالتفات إلى
الطهارة هو احرازها ولو بأصل أو قاعدة لا نفسها، فيكون قضية استصحاب
الطهارة حال الصلاة عدم اعادتها ولو انكشف وقوعها في النجاسة بعدها، كما أن
اعادتها بعد الكشف تكشف عن جواز النقض وعدم حجية الاستصحاب
95

حالها كما لا يخفى " (1).
ولا يخفى انه ان كان ناظرا إلى إجراء الاستصحاب فعلا وبلحاظ ما
بعد الصلاة، فأي اثر لكون الشرط هو الاحراز - إذ لا احراز حال العمل بعد
فرض كون الاستصحاب بلحاظ حال الفراغ -، وأي ربط له بحل اشكال كون
الإعادة نقضا باليقين لا بالشك؟. وان كان ناظرا إلى إجراء الاستصحاب بلحاظ
حال الصلاة - كما هو ظاهر كلامه بل صريحه -، فما ذكره ليس تفصيا عن
الاشكال الذي ذكره من عدم كون الإعادة نقضا بالشك بل باليقين، إذ لا موقع
لهذا الاشكال على هذا التقدير ولا موضوع له كما عرفت، وانما الاشكال هو
الاستهجان العرفي بعد عدم وضوح الربط بين التعليل والمعلل.
وبالجملة: فما افاده في الجواب أجنبي عن الاشكال الذي ذكره.
الموضع الثاني: في ذيل الكلام، فإنه (قدس سره) بعد ما انتهى من تحقيق
المطلب قال: " ثم إنه لا يكاد يصح التعليل لو قيل باقتضاء الامر الظاهري
للاجزاء كما قيل -، ضرورة ان العلة عليه انما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهري
حال الصلاة للاجزاء وعدم اعادتها لا لزوم النقض من الإعادة... " (2).
وأنت خبير - بحسب ما تقدم - ان التفصي بالالتزام بالاجزاء انما هو في
مقام رد الاشكال الوارد على تقدير ملاحظة جريان الاستصحاب في حال
العمل، وقد عرفت أنه على هذا التقدير لا يراد من التعليل كون الإعادة بنفسها
نقضا، بل منافية لحرمة النقض.
وعليه فلا معنى للايراد عليه بأنه مناف لظهور العلة في كون الإعادة
بنفسها نقضا، المبني على إجراء الاستصحاب بلحاظ ما بعد العمل.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 393 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 395 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
96

وجملة القول: ان تحرير الاشكال وجوابه لم يؤد في الكفاية بما يليق وشأنها
ووزنها العلمي.
ومن ذلك تعرف ما وقع في كلمات غيره من الخلط بين الجهتين وعدم تمييز
إحداهما عن الأخرى، فراجع.
وكيف كان، فالمهم هو معرفة ما إذا كان للاشكال الذي ذكرناه دافع.
فنقول: قد عرفت أنه ان لو حظ إجراء الاستصحاب بلحاظ ما بعد العمل،
فالاشكال من ناحية امتناع تطبيق العلة على المعلول. وان لو حظ اجراؤه بلحاظ
حال العمل، فالاشكال من ناحية استهجان التعليل به عرفا بعد عدم وضوح
الربط بين العلة والمعلول.
والاشكال من الجهة الأولى لا دافع له.
واما الاشكال من الجهة الثانية، فقد يدفع بوجوه ترجع إلى بيان الربط
بين العلة والمعلول:
الوجه الأول: ما أشار إليه الشيخ وصاحب الكفاية من التعليل بثبوت
الاستصحاب في حال العمل بملاحظة اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء الثابت
في حد نفسه، فالتعليل يرجع إلى بيان صغرى الاجزاء (1).
وقد تمسك البعض بهذا النص لاثبات قاعدة الاجزاء في الأوامر
الظاهرية بقول مطلق.
وهذا الوجه انما يتم لو كانت الملازمة بين الامر الظاهري والاجزاء
واضحة عرفا، بحيث ينتقل إلى الحكم بمجرد بيان الصغرى، وليس الامر كذلك،
فان اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ليس من الأمور الواضحة، بل هو من

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 331 - الطبعة الأولى.
الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 395 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
97

الأمور الخفية، وقد وقع الكلام فيها بين الاعلام.
ومجرد امكان كون جهة الربط ذلك لا يجدي في رفع الاستهجان العرفي
ما لم يكن من الأمور الواضحة كما عرفت.
ولم يظهر من الرواية معلومية ذلك لدى السائل خاصة، واحتمال معلوميته
لديه لا ينفع بعد فرض كون المقام مقام تفهيم وتفهم، ولم يشر إلى ذلك في النص
بقليل ولا كثير، مع لزوم الإشارة إليه لو فرض كونه هو المصحح للتعليل، لعدم
تمامية التفهيم بدونه. فتدبر.
الوجه الثاني: ما اختاره صاحب الكفاية من: ان الشرط واقعا هو احراز
الطهارة لا نفسها، فتكون الصلاة مع احراز الطهارة واجدة للشرط واقعا،
فتكون صحيحة ولا تجب معها الإعادة، فيكون تعليل عدم وجوب الإعادة
بالاستصحاب لاجل انه مع الاستصحاب يتحقق الشرط الواقعي للصلاة،
ويكون وجوب الإعادة منافيا لحكم الشارع بالاستصحاب (1).
ويمكن ارجاع ما ذكره ههنا إلى ما أفاده في مبحث الاجزاء من كون
الشرط الواقعي أعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية. ببيان: ان أصالة
الطهارة واستصحابها يكونان حاكمين على دليل الشرطية، فيوسعان دائرة
الشرط (2) وقد قربناه في محله بما لا مزيد عليه.
ويقع الكلام في هذا الوجه من ناحيتين:
الأولى: في صحة هذا الالتزام بنفسه.
والثانية: في معالجته للاشكال المتقدم.
اما الناحية الأولى: أعني صحة الالتزام به في نفسه، فقد يقال: ان الشرط

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 394 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 86 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
98

الواقعي إذا كان هو احراز الطهارة لا نفس الطهارة، لم تكن الطهارة ذات اثر
شرعي. وعليه فلا يصح إجراء الاستصحاب فيها، لان مجرى الاستصحاب لا بد
أن يكون ذا أثر شرعي فكيف تصحح الصلاة باستصحاب الطهارة؟.
ويندفع هذا القول: بان المستصحب انما يعتبر فيه أن يكون ذا أثر
شرعي إذا كان من الأمور الخارجية التكوينية كالعدالة، لعدم قابليته للتعبد الا
بلحاظ أثره. واما إذا كان من الأمور الشرعية، فلا يعتبر فيه ذلك، لأنه يقبل
التعبد بنفسه كالوجوب والحرمة. نعم يعتبر ان يترتب عليه اثر عملي ولو كان
عقليا، كترتب لزوم الإطاعة على استصحاب الوجوب.
ولا يخفى ان الطهارة من الأمور الشرعية، فهي بنفسها قابلة للتعبد ولو
لم تكن بذات اثر شرعي.
نعم، يلزم ان يترتب على التعبد بها اثر عملي لكي لا يكون لغوا، ويكفي
فيه ههنا ترتب الاجزاء وواجدية العمل للشرط الواقعي.
وبالجملة: فهذا الايراد غير تام لما عرفت.
واما ما أفاده صاحب الكفاية في مقام دفعه فهو غير سديد بكلا وجهيه:
اما الأول: فهو ان الطهارة وإن لم تكن شرطا فعلا لكنها شرط واقعي
اقتضاء، فهي ليست منعزلة عن الشرطية بالمرة، فالشرط الفعلي هو احراز
الطهارة، واما الطهارة فهي شرط اقتضائي.
وفيه: انه على تقدير الالتزام بالحكم الاقتضائي وتصوره، فهو لا ينفع في
اجراء الاستصحاب، لان الحكم الاقتضائي ليس مجعولا شرعيا، فإنه عبارة عن
وجود مقتضى الحكم ثبوتا، وذلك لا يرتبط بالشارع بما هو شارع.
واما الثاني: فهو ان الطهارة وإن لم تكن شرطا، لكنها من قيود الشرط،
إذ الشرط هو استصحاب الطهارة لا استصحاب أي شئ كان. ومن الواضح
انه يكفي في الاستصحاب كون المستصحب قيدا لموضوع الأثر الشرعي،
99

كاستصحاب عدالة زيد في ترتيب الأثر المترتب على العالم العادل (1).
وفيه: انه انما يصح ان يجري الاستصحاب في قيد الموضوع إذا كان قيدا
لموضوع واقعي يترتب عليه الأثر مع قطع النظر عن التعبد، كالعدالة في المثال
المزبور، فيكون التعبد بلحاظ جعل ذلك الأثر.
وليس الامر فيما نحن فيه كذلك، إذ موضوع الأثر هو نفس التعبد
بالطهارة، فالطهارة قيد لموضوع الأثر المترتب على نفس التعبد لا في نفسه، ومع
قطع النظر عن التعبد.
وفي مثله لا يصح التعبد، إذ لا يصح التعبد بالطهارة بلحاظ جعل الأثر
المترتب عل نفس التعبد وبعد تحققه في نفسه، فان مثل هذا الأثر يستحيل أن يكون
مصححا كما لا يخفى، فلا حظ جيدا.
فالعمدة في دفع الايراد ما ذكرناه.
واما الكلام في الناحية الثانية - أعني معالجة ما افاده (قدس سره)
للاشكال المتقدم في الرواية - فتحقيقه: ان هذا البيان وان كان موجبا لكون
الاستصحاب السابق علة لعدم وجوب الإعادة، لكنه لا يصحح تعليل عدم
الوجوب بالاستصحاب الوارد في الرواية، لكونه ليس من الأمور الواضحة عرفا
التي ينتقل إليها السائل رأسا، واحتمال معلوميته لدى السائل خاصة مندفع بعدم
ظهوره من النص.
فهذا الوجه كسابقه لا يصلح لرفع اشكال الاستهجان العرفي.
ثم إن صاحب الكفاية بعد أن التزم بان الشرط هو الاحراز لا نفس
الطهارة أورد على نفسه بما نصه: " لا يقال: سلمنا ذلك، لكن قضيته أن يكون
علة عدم الإعادة حينئذ بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة هو احراز

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 394 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
100

الطهارة حالها باستصحابها لا الطهارة المحرزة بالاستصحاب، مع أن قضية
التعليل ان تكون العلة له هي نفسها لا احرازها، ضرورة ان نتيجة قوله: لأنك
كنت على يقين... الخ انه على الطهارة لا انه مستصحبها " (1).
وهذا الايراد لا نعرف له محصلا، وذلك لأنه انما يتم إذا كان قوله (عليه
السلام): " لأنك كنت... " في مقام التعبد بالطهارة فعلا، فان مرجع التعبد إلى
جعل الطهارة، فيكون ظاهر التعليل ثبوت الطهارة لا استصحابها، إذ
الاستصحاب ملحوظ بنحو المعنى الحرفي.
ولكن الامر ليس كذلك، بل الجملة المزبورة في مقام الاخبار عن ثبوت
الاستصحاب، إذ الفرض كون الاستصحاب بلحاظ حال العمل لا الحال
الفعلي.
ومن الواضح ان ظاهر التعليل بثبوت الاستصحاب سابقا ملاحظته
مستقلا فيكون هو العلة لا المستصحب.
والذي يبدو من صاحب الكفاية قبوله لدعوى ظهور الرواية في كون
التعليل بنفس الطهارة وان أجاب عن الايراد بنحو آخر.
وجملة القول: ان ما افاده صاحب الكفاية في مقام تحقيق هذه الرواية لا
يخلو عن ضعف في كثير من مواقعه كما نبهنا عليه، والله سبحانه العاصم.
الوجه الثالث: ما التزم به المحقق النائيني من أن المأخوذ في الصلاة هو
مانعية العلم بالنجاسة.
وعليه، فيتحقق الربط بين عدم وجوب الإعادة والاستصحاب حال
العمل، لنفي النجاسة تعبدا بواسطة استصحاب الطهارة، فتكون الصلاة واجدة
للشرط الواقعي (2).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 394 - طبعة مؤسسة آلى البيت (ع).
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 348 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
101

وهذا الوجه لو تم في نفسه، فهو لا يدفع اشكال الاستهجان العرفي، لأنه
ليس من الأمور الواضحة عرفا التي تصحح التعليل عرفا، بل هو من الأمور
الخفية التي لا تخلو عن دقة، ويكون الوصول إليها بعد فحص وبحث. فلا حظ.
ثم إنه قد يثار حول التزام المحقق النائيني سؤال، وهو: انه إذا فرض ان المانع
هو العلم بالنجاسة، فمع الشك يحرز عدم المانع، لعدم العلم مع الشك، فأي
حاجة حينئذ للاستصحاب أو غيره في احراز الطهارة؟.
وقد دار - في القديم - حول هذا السؤال كلام مع بعض تلامذة المحقق
النائيني فلم نجد عندهم ما يرفع الشبهة.
والذي ينبغي ان يقال في جوابه: ان المحقق النائيني بملاحظة بعض
الأدلة الخاصة والجمع بينها وبين أدلة شرطية الطهارة أو مانعية النجاسة
- الظاهرة بدوا في النجاسة الواقعية - التزم بان المانع هو العلم بالنجاسة، لكن
ليس المأخوذ هو العلم بما هو صفة قائمة في النفس، ولا بما هو طريق إلى الواقع،
بل بما هو منجز للواقع ومعذر عنه، وقد ذكر ان هذا القسم من اخذ العلم موضوعا
فاتنا التنبيه عليه في مبحث القطع. وهو بهذه الملاحظة مما يصلح ان تقوم مقامه
جميع الطرق والأصول المحرزة وغير المحرزة، لأنها جميعها تتكفل جهة التنجيز
والتعذير. فأصالة الاحتياط في مواردها تقوم مقام العلم بهذه الملاحظة وإن لم تكن
أصلا محرزا.
وبالجملة: ان المانع في الصلاة هو النجاسة المعلومة بما هو منجز بتعبير،
والنجاسة المنجزة بتعبير آخر.
وعليه نقول: ان النجاسة المشكوكة غير المعلومة لا يمكن ان تنفى
مانعيتها الا بواسطة قيام دليل أو أصل معذر ولو عقلا بحيث ينفي التنجيز.
102

وذلك لأنه بدون قيام المؤمن يكون مجرد الاحتمال منجزا للواقع، فيقوم مقام العلم
في كونه مانعا، وانما ينفي تنجزه بواسطة الأصول العقلية أو الشرعية المؤمنة.
ومن الواضح انه مع وجود استصحاب الطهارة لا مجال لأصالة الطهارة
أو قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلحاظ اثر النجاسة التكليفي.
وعليه، فمجرد عدم العلم بالنجاسة لا يكفي في احراز عدم المانع، بل
لا بد من إجراء الأصول المؤمنة، ولا مجال في مورد الرواية لغير الاستصحاب
لحكومته على غيره، فلأجل ذلك علل عدم وجوب الإعادة بجريان
الاستصحاب. فالتفت.
ثم إنه في المقام التزم بما عرفت، لكنه في البحث الذي يتعقبه استقرب
خلافه (1). وان صحة الصلاة مع احراز الطهارة من باب (القناعة عن الواقع بما
وقع امتثالا له وليس في شئ منها ما يكون مأمورا به في عرض الواقع) وهذا لا
يخلو عن منافاة لما ذكره ههنا، إذ مقتضى ما ذكره هنا كون العمل متعلقا للامر
الواقعي، لأنه واجد للشرط الواقعي وفاقد لمانعه. فالتفت.
والذي تحصل من مجموع ما تقدم: ان الوجوه المذكورة لدفع الاشكال
الذي بيناه غير وافية.
وقد يقال: ان المورد من موارد التعليل بالصغرى وكون المحمول في العلة
منطبقا على موضوع الحكم المعلل، وقد عرفت أن مثل ذلك لا استهجان فيه،
بل يستفاد حكم الكبرى من نفس ورودها مورد التعليل. بيان ذلك: ان المستفاد
من مجموع الحديث: انه لا تجب إعادة الصلاة، لان الصلاة ذات استصحاب
الطهارة، فيستفاد منها ان كل صلاة ذات استصحاب الطهارة لا تجب اعادتها.
ولا يلزم في مثل ذلك سبق مناسبة بين العلة والمعلل، بل عرفت أنه يستفاد من

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 355 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
103

التعليل ثبوت الحكم لمطلق موارد العلة. وبهذا البيان ينحل الاشكال المتقدم
ولكن التحقيق: انه لا يمكن ان تكون الرواية ناظرة إلى بيان جريان
الاستصحاب حال العمل - الذي يبتني عليه جميع ما تقدم من الكلام -. وذلك لما
تقرر في محله ان الحكم الظاهري بما أنه حكم لو حظ فيه الطريقية إلى الواقع
والتنجيز أو التعذير عنه ورفع حيرة المكلف في مقام أداء وظيفته الشرعية - ولذا
لا يكون كل حكم موضوعه الشك حكما ظاهريا، بل يكون بعض افراده حكما
واقعيا كاحكام شكوك الصلاة -، فهو يتقوم بالوصول وليس له ثبوت واقعي مع
قطع النظر عن العلم والجهل، إذ لا معنى للتنجيز والتعذير إذا لم يصل الحكم
المنجز إلى المكلف.
وعليه، فمع تمامية العمل وانتهاء ظرف التنجيز والتعذير بلحاظ العمل
نفسه - والمفروض عدم علم السائل بالاستصحاب في آن سابق وانما دخل في
الصلاة بأصالة الطهارة مثلا، إذ الفرض ان الاستصحاب استفيد من نفس هذا
الحديث -، لا معنى لبيان ثبوت الاستصحاب في حال العمل، إذ لا أثر لجعله في
ذلك الحال مع عدم علم المكلف به ويكون لغوا.
وعلى هذا الأساس يكون محصل الايراد على التعليل بالاستصحاب: انه
ان لو حظ جريان الاستصحاب بعد العمل، فلا يصح أن يكون تعليلا لعدم
وجوب الإعادة، لأنها ليست نقضا لليقين بالشك بل باليقين وان لو حظ جريان
الاستصحاب حال العمل، فهو ممتنع لكونه لغوا بعد عدم التفات المكلف إليه في
ظرفه. فلا يمكن ان تتكفل الرواية بيان الاستصحاب على كلا التقديرين، ومثل
ذلك يمنع من الاستدلال بالرواية على الاستصحاب.
وهذا ليس من قبيل الجهل بمناسبة تعليل الحكم بالاستصحاب كي يقال إنه
لا يضر بالاستدلال، لان ذلك فرع امكان إجراء الاستصحاب بلحاظ حال
العمل في نفسه. وليس الامر كذلك على ما بيناه، إذ عرفت أن الاستصحاب
104

بلحاظ حال العمل ممتنع ولعل هذا هو السر في اغفال الشيخ (رحمه الله)
للاستصحاب بلحاظ حال العمل، وقصر نظره على الاستصحاب بلحاظ حال
ما بعد العمل.
وعلى أي حال، فلا يمكن التخلص عن هذا الاشكال الا بالالتزام بان
المراد من قوله " فرأيت فيه " هو الاحتمال الثاني أعني أنه رأى نجاسة لا يعلم
انها هي المظنونة أو حادثة، لا أنه رأى تلك النجاسة المظنونة بحيث يتبدل شكه
السابق إلى يقين وعليه فيكون المراد هو اجراء الاستصحاب فعلا بلحاظ الشك
الفعلي في النجاسة حال الصلاة، ويكون عدم وجوب الإعادة لكون الإعادة
نقضا لليقين بالشك ولا يلزم أي محذور في ذلك.
وهذا الاحتمال وان كان خلاف الظاهر، لكن لا بد من الالتزام به بعد أن
كان الالتزام بالظاهر يستلزم ورود المحذور المتقدم.
هذا مع أنه ليس مخالفا للظاهر، بل لعله هو الظاهر لما قيل من ظهور
قوله: " فرأيت فيه " من دون ضمير في كون المرئي نجاسة ما لا يعلم أنها سابقة
أو لا حقة، فتكون كالفرض الأخير في الرواية لقوله (عليه السلام): " لعله شئ
أوقع عليك "، إذ لو كان مراده انه رأى تلك النجاسة المظنونة لقال: " فرأيته فيه "
كما قال في السؤال السابق: " وجدته "، فنفس اختلاف التعبير في السؤالين
يكشف عن اختلاف المضمون.
هذا ولكنه على هذا التوجيه لا يخلو عن اشكال، وذلك لأنه إذا فرض
ان النجاسة المرئية لا يعلم انها كانت حال الصلاة أو لا؟ فمعنى ذلك أنه يشك
في طهارة ثوبه حال الصلاة، ومقتضى أصالة الطهارة مع قطع النظر عن
الاستصحاب هو وقوع الصلاة مع الطهارة. ومن الواضح جدا انه لم يكن يتوهم
أحد ويحتمل عدم إجزاء صلاته مع الطهارة الظاهرية قبل انكشاف الخلاف،
كيف؟ وهو خلاف السيرة القطعية، إذ كثيرا ما تؤدى الصلاة مع احراز الطهارة
105

بالتعبد الشرعي من دون احراز لها واقعا.
وعليه، فلا مجال للسؤال عن سبب حكمه (عليه السلام) بعدم الإعادة
ب‍: " لم ذلك " المشوب بالتعجب والاستغراب، إذ هو أمر لا يتردد فيه أحد، فلا
محالة لا مصحح لسؤاله الا ان تكون النجاسة المرئية هي النجاسة المظنونة حال
العمل، فيكون من موارد انكشاف الخلاف فلا حظ.
ويمكن ان يدفع هذا الاشكال بان السؤال لم يظهر انه عن سبب عدم
الإعادة من ناحية الشك في النجاسة كي يتأتى ما ذكر، بل يمكن أن يكون
السؤال عن تعين ما يكون طريقا لاحراز الطهارة بعد الفراغ عن الاكتفاء
بالعمل المأتي به بملاحظة أصالة الطهارة - مثلا -، وانه هل هو أصالة الطهارة
التي هي في ذهنه أو غيرها. وهذا السؤال ليس بعيدا عن مثل زرارة الذي يحاول
ان يتفهم القواعد الشرعية بحدودها. فأجابه (عليه السلام): ان السبب هو
الاستصحاب، وليس الجواب عنه من الواضحات لدى زرارة سابقا، بل القواعد
الشرعية تتضح لمثل زرارة بمثل هذه الأسئلة، وأجوبتها.
وبالجملة: ليس السؤال عن أصل الحكم بالإعادة بحيث كان يجئ في
ذهن زرارة احتمال لزوم الإعادة احتمالا معتدا به، بل السؤال عما هو السبب في
الحكم بالإعادة بعد مركوزية هذا الحكم في ذهنه، وليس في ذهنه احتمال انه ينبغي
ان يعيد الصلاة، فهو يسال عن أن السبب هل هو احراز الطهارة بأصالتها أو
بغيرها؟ فالتفت ولا تغفل.
وبهذا البيان يتضح ان هذه الفقرة مما يمكن ان يتمسك بها لاثبات
الاستصحاب.
ثم إنه لا مجال لدعوى تكفل هذه الفقرة لقاعدة اليقين بتقريب: ان
المراد باليقين هو اليقين بالطهارة بعد الفحص والنظر بعد ظن الإصابة، لا اليقين
قبل ظن الإصابة. فيكون الشك الحادث بعد الصلاة عند رؤية النجاسة من
106

الشك الساري، لا من الشك في البقاء.
فان هذه الدعوى فاسدة لعدم ظهور في الكلام في أنه قد حصل له اليقين
بالطهارة بعد الفحص، وليس له في اللفظ عين ولا أثر، كما أنه لا ملازمة عادية
بين الفحص وعدم الوجدان وبين اليقين بالعدم كما لا يخفى، كيف! وقد فرض
في سؤاله السابق عدم وجدان النجاسة بعد الفحص مع علمه الاجمالي بوجود
النجاسة ولم يتبدل علمه إلى يقين بالعدم جزما، والا لم تجب عليه الإعادة قطعا،
مع أنه (عليه السلام) حكم عليه بالإعادة. مما يكشف عن بقاء علمه، ولكنه صلى
اما غفلة ونسيانا أو بتخيل الاكتفاء بالفحص أو غير ذلك.
هذا كله مع أن قوله (عليه السلام): " فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين
بالشك " ظاهر في اليقين الفعلي ولا يقين بالفعل في مورد قاعدة اليقين كما لا
يخفى. هذا كله في الفقرة الأولى.
واما الفقرة الثانية: فدلالتها على الاستصحاب لا تكاد تنكر، فإنها
ظاهرة في مقام بيان حكم عام يكون المورد من مصاديقه، كسائر موارد ذكر
المطلق بعد السؤال عن حكم بعض افراده أو بيان بعضها، ولا مجال لدعوى
كون المراد خصوص اليقين بالطهارة، فان المورد لا يخصص الوارد.
ومن هنا ظهر ما في تشكيك الشيخ في دلالتها على العموم والجنس،
فلا حظ (1).
وليس في هذه الفقرة شئ من الشبهات التي أثيرت في سابقتها، فلو
توقفنا في الفقرة الأولى كان لنا في هذه الفقرة غنى وكفاية والله سبحانه العالم.
ومنها: رواية ثالثة لزرارة عن أحدهما (عليهما السلام) قال: " قلت له: من
لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟. قال: يركع بركعتين وأربع

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 331 - الطبعة الأولى.
107

سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويشهد ولا شئ عليه، وإذا لم يدر في ثلاث
هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شئ عليه. ولا
ينقض اليقين بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالاخر،
ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين فيبني عليه، ولا يعتد بالشك في حال
من الحالات " (1).
ومحل الاستشهاد فيها قوله (عليه السلام): " ولا ينقض اليقين بالشك ".
فإنه قد يدعى ظهوره في إرادة الاستصحاب كما هو الحال في الروايتين
المتقدمتين، ويكون تطبيقه على المورد بلحاظ اليقين بعدم الركعة الرابعة حدوثا
والشك في الاتيان بها بقاء.
ولكن تأمل الشيخ (رحمه الله) في دلالتها. وتوضيح ما أفاده (قدس سره): ان
الرواية تكفلت بيان حكم المورد أولا بقوله: " قام فأضاف إليها أخرى "، ثم
أعقبته ببيان كبرى كلية وهي: " ولا ينقض اليقين بالشك ".
وعليه: فإن كان المراد بقوله (عليه السلام): " قام فأضاف إليها أخرى "
لزوم الاتيان بركعة متصلة بلا تخلل التشهد والتسليم، كان ذلك مخالفا لمذهب
الخاصة ومنافيا لصدر الرواية الظاهر في إرادة ركعتين منفصلين بملاحظة الالزام
بفاتحة الكتاب.
وعليه، فيتعين ان يراد بقوله المزبور إضافة ركعة منفصلة على الكيفية
المقررة في صلاة الاحتياط بحسب مذهب الخاصة، فيكون حكما موافقا
للمذهب، وعلى هذا لا يمكن ان تطبق عليها الكبرى الكلية إذا كان المراد بها
الاستصحاب، إذ الاستصحاب لا يتفق مع اتيان الركعة منفصلة بل مقتضاه
اتيان الركعة متصلة.

(1) وسائل الشيعة 5 / 341، حديث: 3.
108

وبعبارة أخرى: الحكم باتيان الركعة منفصلة لا يمكن أن يكون من باب
الاستصحاب، فلا معنى لان يراد من قوله: " ولا ينقض اليقين بالشك " كبرى
الاستصحاب، بلا لا بد ان يراد به لزوم تحصيل اليقين بالبراءة بالكيفية المعهودة،
كما تدل عليه بعض النصوص الأخرى. هذا ملخص ما افاده الشيخ (رحمه
الله) (1). وسيتضح بأزيد من ذلك فيما بعد.
وقد تصدى الاعلام (رحمهم الله) إلى دفع هذا الايراد وتصحيح تطبيق
الاستصحاب ههنا وعمدة ما قيل في هذا المقام وجوه أربعة:
الوجه الأول: ما أفاده صاحب الكفاية (رحمه الله) من: ان لزوم الاتيان
بركعة منفصلة لا يتنافى مع تطبيق الاستصحاب في المقام، وانما يتنافى مع اطلاق
دليله، فان لزوم الوصل انما هو مقتضى اطلاق النقض، فلا مانع من الالتزام
بجريان الاستصحاب وتقييد اطلاق دليله بما دل على لزوم فصل الركعة، وتقييد
الأدلة ليس بعزيز (2).
الوجه الثاني: ما أشار إليه الشيخ (3)، وقر به المحقق النائيني (4)، والعراقي
(رحمهم الله) (5). من: انه يمكن البناء على كون المقصود بقوله (عليه السلام):
" ولا ينقض اليقين بالشك " كبرى الاستصحاب ويكون تطبيقها على المورد من
باب التقية، فإنه لا ينافي أصالة الجد في أصل الكبرى، فالتقية في التطبيق لا
أكثر، وقد وقع نظيره في الأدلة، كما في الرواية الواردة في سؤال الخليفة العباسي
الإمام (عليه السلام) عن العيد، فأجابه (عليه السلام) بقوله: " ذاك إلى امام

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 331 - 332 - الطبعة الأولى.
(2)
الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 396 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 332 - الطبعة الأولى.
(4) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 361 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(5) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 57 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
109

المسلمين إن صام صمنا وان أفطر أفطرنا " (1) ثم أفطر عليه السلام وعلله بالخوف
من القتل. فان قوله (عليه السلام): " ذاك إلى امام المسلمين " يستفاد منه حكم
كلي واقعي وهو إناطة الحكم بالهلال بامام المسلمين، الا انه (عليه السلام) طبقه
تقية على الخليفة العباسي. ومثله لا يمنع من استفادة الحكم الكلي الواقعي من
الكبرى.
ولا يخفى عليك ان هذين الوجهين بعيدان كل البعد عن محط نظر الشيخ
(رحمه الله) في الايراد بالنحو الذي أوضحناه.
وذلك، فان موضوع الايراد ليس هو تطبيق كبرى الاستصحاب على
مورد الشك في الركعات، بحيث يحاول ان يستفاد منه حكم الشك في الركعات،
فيورد ان مقتضاه يتنافى مع المذهب، فلا يكون الحكم واقعيا. كي يدفع الايراد
تارة بتقييد اطلاق النقض، وأخرى بان التقية في التطبيق، ولا وجه لحمل
الكبرى على التقية بعد امكان إجراء أصالة الجد فيها.
بل الملحوظ هو قوله (عليه السلام): " قام فأضاف إليها أخرى "، فإنه
هو الذي بين الإمام (عليه السلام) به حكم المورد، لا بقوله: " ولا ينقض اليقين
بالشك "، وبما أنه لا يمكن حمله على ما يخالف المذهب من إرادة الركعة المتصلة
فلا بد ان يحمل على إرادة الركعة المنفصلة ومن الواضح ان ذلك لا يمكن أن يكون
صغرى من صغريات الاستصحاب، فلا يمكن حمل قوله: " ولا ينقض "
على إرادة الاستصحاب، بل لا بد من حمله على إرادة معنى آخر.
وإذا كان هذا هو محط نظر الشيخ في الايراد، فأي مجال حينئذ لدعوى
تقييد اطلاق النقض، أو ان التقية في التطبيق لا في بيان أصل الكبرى؟!.

(1) وسائل الشيعة 7 / 95، حديث 5. ولفظ الحديث هكذا دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال
يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم فقال ذاك إلى الامام ان صمت صمنا وان أفطرت أفطرنا.
110

ومن هنا يظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين رواية الافطار، إذ من المعلوم
صدور العمل منه (عليه السلام) - وهو الافطار - تقية، ولا يمكن حمله على أنه
موافق للواقع لتصريحه (عليه السلام) بخوفه من القتل، فيكون التطبيق تقية،
ولا موجب للتصرف في الكبرى بعد امكان إبقائها على ظهورها في مقام بيان
الحكم الواقعي. وليس كذلك فيما نحن فيه، إذ من الممكن حمل قوله (ع): " قام
فأضاف... " على الركعة المنفصلة، فلا تقية في البين.
وبالجملة: محظ نظر الشيخ (رحمه الله) في ايراده جملة: " قام فأضاف... "
وتشخيص المراد منها وتعيينه بنحو لا يقبل تطبيق الاستصحاب عليه. وليس محط
نظره عدم تطبيق الاستصحاب على المورد بنحو يستفاد منه حكم المورد، كي
يتأتى الوجهان المتقدمان، فتدبر جيدا.
الوجه الثالث: ما أفاده المحقق العراقي (رحمه الله) من: ان مقتضى
الاستصحاب ليس إلا لزوم الاتيان بركعة أخرى، اما كونها موصولة أو غير
موصولة فهو أجنبي عن مفاد الاستصحاب حتى من جهة اطلاقه، بل المتبع في
ذلك الدليل الدال على الحكم الواقعي، وهو بدوا يقتضي الوصل، لكن قام
الاجماع والنصوص في خصوص المورد على لزوم الفصل بالتشهد والتسليم،
ومرجعه في الحقيقة إلى تقييد دليل الحكم الواقعي المجعول لا إلى تقييد اطلاق
دليل الاستصحاب.
وعليه، فليس في تطبيق الاستصحاب على المورد محذور الحمل على
التقية، لأنه لا يقتضي سوى صرف الاتيان بالركعة بلا خصوصية الوصل أو
الفصل.
نعم، مقتضى الدليل الأولي هو لزوم الوصل ومانعية الفصل بالتشهد
والتسليم، لكن الدليل الخاص في خصوص مورد الشك في الركعات مقيد للدليل
الأولي ورافع لمانعية الفصل المزبور.
111

ثم أورد على نفسه: بان اليقين السابق كان متعلقا بعدم اتيان الركعة
الرابعة لنحو الاتصال، ومقتضى ذلك تعلق الشك بما تعلق به اليقين، ولازم تطبيق
عدم نقض اليقين بالشك هو الاتيان بالركعة متصلة بنحو تعلق اليقين والشك
بها، فاتيان الركعة مفصولة يركع إلى تقييد دليل الاستصحاب.
وأجاب عنه: بان هذا صحيح لو فرض بقاء كبرى لزوم الاتصال المنتزع
عن مانعية التسليم والتكبير على حالها في حال الشك، واما مع قيام الدليل على
عدم المانعية في هذا الحال، فلا يلزم ما ذكر، لان تطبيق كبرى الاستصحاب لا
يقتضي الا الاتيان بذات الركعة العارية عن خصوصية الاتصال أو الانفصال.
هذا ما افاده العراقي (رحمه الله) (1).
ويمكن ان يجعل ما أفاده ناظرا إلى ما أفاده المحقق الأصفهاني ههنا.
فقد أفاده (قدس سره): في مقام بيان عدم امكان تطبيق الاستصحاب ههنا
بلحاظ الركعة المفصولة: ان صلاة الاحتياط اما ان تكون صلاة مستقلة لها امر
مستقل، تكون جابرة لنقص الصلاة على تقديره من حيث المصلحة، وعلى تقدير
التمام تكون نافلة. واما ان تكون جزء من الصلاة المشكوكة العدد.
فعلى الأول: لا مجال لاستصحاب عدم الاتيان بالرابعة، لان مرجعه إلى
التعبد بالأمر بها بعين الامر بالصلاة. والمفروض ان الامر بصلاة الاحتياط امر
مستقل، وليس هو بقاء للامر الأول له واقعا ولا ظاهرا.
وعلى الثاني: لا مجال للاستصحاب أيضا، إذ كونها جزء يرجع إلى كون
الصلاة المأمور بها ذات تسليمتين وتكبيرتين. ومن الواضح انه يعلم بعدم كون
الصلاة الواقعية كذلك، فلا يمكن التعبد الظاهري بها بواسطة الاستصحاب.
فليس الاشكال من حيث مانعية زيادة التسليمة والتكبيرة حتى يقال بتقييد

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 59 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
112

اطلاق أدلة المانعية وبقاء الامر بذوات الاجزاء على حالها، بل الاشكال من
حيث وجوب هذه الزيادات بنحو الجزئية التي لا مجال لدخولها في الواجب الا
بتبدل الامر بما عداها إلى الامر بما يشتمل عليها.
وبعبارة أخرى: ان الامر المتيقن في السابق غير الثابت فعلا، فلا يكون
هذا الامر بقاء للسابق كي يصح إجراء الاستصحاب بلحاظه.
هذا خلاصه ما افاده في مقام بيان عدم امكان عمل " ولا ينقض... " على
الاستصحاب (1).
والذي ينظر إليه (قدس سره) هو: ان مقتضى جزئية صلاة الاحتياط
تبدل الامر الصلاتي السابق إلى أمر بمركب آخر يشتمل على تسليم وتشهد
زائدين. وهذا مما لا يحتمل ان يثبت في الواقع كي يتعبد به في مرحلة الظاهر.
والسر فيه هو: ان مثل هذا الحكم على تقديره ثابت لموضوع خاص، وهو
خصوص من كانت صلاته في الواقع ناقصة، إذ صلاة الاحتياط على تقدير التمام
تكون لغوا. ومن الواضح ان العلم بهذا الموضوع مستلزم لارتفاع الحكم لزوال
الشك، ومع الجهل به لا يكون الحكم فعليا لان فعليته بالعلم بموضوعه. اذن فلا
يكون هذا الحكم فعليا في حال من الأحوال، فهو نظير عنوان الناسي الذي لا
يمكن ان يؤخذ موضوعا للحكم الشرعي، لان العلم به ملازم لزواله فالمحذور
في ثبوت مثل هذا الحكم واقعا هو المحذور في ثبوت الحكم لعنوان الناسي. ولكن
هذا المحذور يتأتى فيما إذا فرض جزئية التشهد والتسليم. اما لو فرض ان
مقتضى دليل صلاة الاحتياط هو عدم مانعية التشهد والتسليم الزائد، فلا محذور،
وذلك لامكان تقيد المانعية واقعا في مرحلة البقاء بغير صورة الشك في عدد
الركعات، فلا يكون التشهد والسلام الزائدان مانعين واقعا على تقدير نقصان

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 39 - الطبعة الأولى.
113

الصلاة.
والى هذه الجهة ينظر المحقق العراقي (رحمه الله) في كلامه السابق. فقد
ركز كلامه على تقيد أدلة المانعية بغير صورة الشك. ومن هنا يظهر ارتباط كلامه
بكلام المحقق الأصفهاني.
وعليه فيقع الكلام مع المحقق العراقي في ناحيتين:
الناحية الأولى: في أن مقتضى دليل صلاة الاحتياط هل هو رفع مانعية
السلام في غير محله، أو هو يتكفل اثبات جزئية هذا السلام؟. وهذه هي نقطة
اختلاف المحقق العراقي مع المحقق الأصفهاني. ويمكن ان يرجح منظور
المحقق العراقي بأنه لا دليل على ثبوت الامر الشرعي بالسلام من باب الجزئية،
وذلك لان المصلي عند الشك يتردد امره بين مانعية التسليم - لو كان صلاته
ناقصة - وجزئيته - لو كانت تامة -، فإذا رفع الشارع مانعية التسليم لو كان
زائدا، كان مقتضى الاحتياط اللازم لزوم الاتيان بالسلام لحكم العقل به، لأنه
مقتضى قاعدة الاشتغال لاحتمال انه في الركعة الأخيرة، فيؤتى به برجاء
المطلوبية، ومعه لا حاجة إلى الامر الشرعي، بل يكون الاتيان بصلاة الاحتياط
بهذا النحو مما يحكم به العقل بعد رفع مانعية التسليم لو كان زائدا. لكن هذا ان
تم فهو بالنسبة إلى التسليم دون التكبير الزائد، فان الامر به ظاهرا في كونه
لاجل الجزئية، إذ لا يحكم به العقل وإن لم يكن مانعا.
الناحية الثانية: في تمامية ما افاده من صحة تطبيق الاستصحاب على
تقدير رفع الشارع مانعية السلام.
والذي يبدو لنا انه غير تام وذلك: لان مقتضى ما افاده انه لا يمكن
تطبيق الاستصحاب الا بملاحظة تقييد دليل المانعية، والا فمع المانعة كيف
يصح تطبيق الاستصحاب على الركعة المنفصلة بالتسليم؟. إذ يكون مقتضاه ان
تكون الركعة موصولة. وعليه فيعتبر ان يقوم - في مرحلة سابقة على
114

الاستصحاب - دليل على عدم مانعية التسليم. ثم يأتي تطبيق دليل الاستصحاب
بعد ذلك. وليس الامر كذلك، لان دليل عدم مانعية التسليم هو نفس دليل
الاتيان بركعة منفصلة بعنوان عدم نقض اليقين بالشك، وليس دليل رفع المانعية
في مرحلة سابقة عليه، بل بنفس هذا الدليل، فيمتنع حمله على الاستصحاب.
والذي يتلخص ان الاشكال على المحقق العراقي من ناحيتين. فلا حظ.
الوجه الرابع: ما ذكره المحقق العراقي أيضا من: ان مجرى الاستصحاب
في المقام ليس هو عدم الاتيان بالركعة الرابعة كي يتأتى الحديث السابق،
بل هو الاشتغال بالصلاة المتيقن سابقا المشكوك لا حقا، فالمراد عدم نقض
اليقين بالاشتغال، بالشك فيه.
وعليه، فيلزمه البناء على اشتغال ذمته بالصلاة، ومقتضاه لزوم الامتثال
يقينا، وهو يكون - بمقتضى الأدلة الخاصة وهذا بالخصوص - بالاتيان بصلاة
الاحتياط (1).
ويمكن الخدش فيه: بان المراد بالاشتغال المستصحب ان كان هو
الاشتغال العقلي، فهو مما لا مجال لاستصحابه لأنه حكم عقلي. وان كان المراد
به وجوب الصلاة شرعا، فمن الواضح ان وجوب الصلاة ليس إلا وجوب
الاجزاء بالاسر، لان الصلاة هي عين الاجزاء بالاسر، وليست هي امرا مسببا
عن الاجزاء وخارجا عنها.
وعليه، فمع الاتيان بسائر الركعات لا يشك في بقاء الامر المتعلق بها،
وانما الشك في بقاء وجوب الركعة المشكوكة خاصة، فيرجع إلى استصحاب عدم
الاتيان بالركعة الرابعة الذي عرفت الكلام فيه.
والذي يتلخص: انه لا يمكن ان يراد بقوله (عليه السلام): " ولا ينقض

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 62 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
115

اليقين بالشك " الاستصحاب، فلا بد من حمله.. على أحد امرين.
الأول: ما ذكره الشيخ (قدس سره) من: إرادة النهي عن صرف النظر
عن تحصيل اليقين بالبراءة ولزوم تحصيله بالنحو المعروف من صلاة الاحتياط (1).
والمناقشة فيه: بان التعبير بعدم نقض اليقين في مقام الامر بتحصيله
خلاف الظاهر جدا.
مندفعة: بان المراد من النقض إذا كان عبارة عن رفع اليد - كما عبر عنه
الاعلام -، فليس التعبير خلاف الظاهر، إذ كثيرا ما يسند رفع اليد عن الامر
المستقبل الذي كان بصدد تحصيله، ولا يختص بالأمر المتلبس به حالا. فيقال:
رفع اليد عن العمل الفلاني إذا كان مصمما على الاتيان به ولم يصدر منه. وهكذا
الحال لو كان المراد من النقض هو رفع الهيئة الاتصالية، بان يكون المسند إليه
النقض هو البناء على تحصيل اليقين لا نفس اليقين. فلا حظ.
الامر الثاني: حمله على ما ذكره المحقق الأصفهاني من: ان المراد باليقين
هو اليقين بالثلاث المذكور في صدر الصحيحة. بتقريب: ان اليقين المحقق هو
اليقين بالثلاث لا بشرط في قبال الثلاث بشرط لا - الذي هو أحد طرفي الشك -
والثلاث بشرط شئ - الذي هو الطرف الاخر -، والاخذ بكل من طرفي
الشك فيه محذور النقض بلا جابر أو الزيادة بلا تدارك، بخلاف رعاية اليقين
بالثلاث لا بشرط، فإنها لا يمكن الا بالوجه الذي قرره الإمام (عليه السلام)
من الاتمام على ما أحرز وإضافة ركعة منفصلة، فإنها جابرة من حيث الأثر على
تقدير النقص وزيادة خارجة غير مضرة على تقدير التمامية. واما إضافة ركعة
متصلة فإنها من مقتضيات اليقين بشرط لا، والمفروض انه لا بشرط، كما أن
الاقتصار على الثلاث المحرزة فقط من مقتضيات اليقين بالثلاث بشرط شئ،

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 332 - الطبعة الأولى.
116

فان المفروض ان الفريضة رباعية، مع أن الاحراز متعلق بالثلاث لا بشرط،
فرعاية مثل هذا اليقين وعدم رفع اليد عنه لا تكون الا بما قرره الإمام (عليه السلام)
. هذا ما أفاده نقلناه بنصه (1).
ونحن لا يهمنا تحقيق صحة هذا الوجه أو غيره مما قيل في توجيه الرواية
بعد أن كان ذلك أجنبيا عن الجهة الأصولية في هذه الرواية. فتدبر والله سبحانه
العالم.
ومنها: رواية محمد بن مسلم المروية في الخصال عن أبي عبد الله (عليه
السلام) قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام) من كان على يقين فشك فليمض
على يقينه، فان الشك لا ينقض اليقين " (2). وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام):
" من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه فان اليقين لا يدفع
بالشك " (3).
والكلام في هذه الرواية من ناحيتين:
الأولى: ناحية الدلالة. والأخرى: ناحية السند.
اما الدلالة: فقد استشكل الشيخ (رحمه الله) فيها - بعد بيان امتناع
اجتماع وصفي اليقين والشك في شئ واحد في آن واحد، وان تعلق الشك واليقين
بشئ واحد لا يصح الا باختلاف زمان الوصفين مع وحدة زمان المتعلق. أو
باختلاف زمان المتعلق مع وحدة زمانهما -: بان صريح الروايتين اختلاف زمان
وصفي اليقين والشك وظاهرهما وحدة المتعلق، فتنطبق على قاعدة اليقين ولا تقيد
الاستصحاب فتكون أجنبية عما نحن فيه. ثم استشكل (رحمه الله) في ذلك
بقوله: " اللهم الا ان يقال بعد ظهور كون الزمان الماضي في الرواية ظرفا لليقين

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 41 - الطبعة الأولى.
(2) الخصال / 619 (حديث الأربعماءة).
(3)
مستدرك وسائل الشيعة 1 / 31 من أبواب نواقض الوضوء حديث 4 - الطبعة الأولى.
117

ان الظاهر تجريد متعلق اليقين عند التقييد بالزمان، فان ظاهر قول القائل كنت
متيقنا أمس بعدالة زيد ظاهر في إرادة أصل العدالة لا المقيدة بالزمان الماضي،
وان كان ظرفه في الواقع ظرف اليقين لكن لم يلاحظه على وجه التقييد، فيكون
الشك فيما بعد هذا الزمان بنفس ذلك المتيقن مجردا عن ذلك التقييد ظاهرا في
تحقق أصل العدالة في زمان الشك، فينطبق على الاستصحاب فافهم " (1).
ولكن يظهر منه عدم البناء على ذلك لامره بالفهم، ولعله ينظر إلى أن ما
أفاده لا يلازم كون الشك متعلقا بالعدالة - مثلا - بعد الفراغ عن حدوثه، بل
هو لازم أعم، فيمكن ان يفرض تعلق الشك بالحدوث.
وعليه، فلا يصلح ذلك لرفع اليد عن الظهور الأولي للكلام في اختلاف
زمان الوصفين ووحدة متعلقهما.
لكنه ذكر في ذيل كلامه ان الرواية ظاهرة في الاستصحاب بملاحظة قوله
في الذيل: " فان الشك لا ينقض اليقين "، فإنه ظاهر في نفسه في ثبوت اليقين
فعلا، وان النقض يتعلق باليقين الفعلي كما هو ظاهر كل موضوع للحكم.
وهذا لا يتلاءم الا مع مورد الاستصحاب، إذ لا يقين فعلا في مورد قاعدة
اليقين. مع ورود هذا التعبير فيما تقدم من روايات الاستصحاب، فيكون قرينة
على كون المراد به بيان الاستصحاب. ومع ظهور الذيل فيما عرفت يرفع اليد
عن ظهور الصدر في موضوعية اختلاف زمان الوصفين ويحمل على الغالب، فلا
يكون له ظهور في قاعدة اليقين. هذا ما أفاده الشيخ (رحمه الله) بتلخيص
وتوضيح.
وما افاده أخيرا متين جدا وبمقتضى ذلك تكون هذه الرواية دالة على
الاستصحاب.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 333 - الطبعة الأولى.
118

ولا بأس بالتنبيه على امرين:
الامر الأول: ان المحقق النائيني (رحمه الله) فهم من كلام الشيخ (رحمه
الله) انه يلتزم بأخذ الزمان في متعلق اليقين - في قاعدة اليقين - بنحو القيدية.
واستشكل فيه: بأنه لا يعتبر في قاعدة اليقين أزيد من وحدة زمان متعلق اليقين
والشك، سواء كان الزمان مأخوذا قيدا أو ظرفا (1).
وأنت خبير بأنه لا ظهور لكلام الشيخ (رحمه الله) فيما فهمه منه المحقق
النائيني، فان الشيخ (رحمه الله) أفاد بان ظاهر النص - بما أنه لم يقيد متعلق
اليقين بالزمان الخاص - هو تجريد متعلق اليقين بما هو متعلق له عن خصوصية
الزمان، وانما المتعلق هو ذات العدالة - مثلا -. وعليه فيكون الظاهر أن الشك
تعلق بالعدالة بعد المفروغية عن أصل الحدوث.
وهذا لا يرتبط بعدم أخذ الزمان قيدا، وانما اخذ ظرفا في متعلق اليقين
فانتبه.
الامر الثاني: ان المحقق النائيني (2) والعراقي (رحمهما الله) (3) في مقام
تقريب دلالة الرواية على الاستصحاب ذكرا ان قوله. " فليمض على يقينه "
ظاهر في لزوم المضي على اليقين بعد فرض وجوده وانحفاظه في زمان العمل وهو
لا ينطبق الا على الاستصحاب.
وهذا البيان لا يخلو عن خدشة، لأنه من الظاهر أن المراد من اليقين في
قوله (عليه السلام) المزبور هو اليقين السابق الذي كان عليه، فإذا فرض ظهور
الموضوع في نفسه في تبدل اليقين إلى الشك - كما هو مقتضى قاعدة اليقين -
كان المراد من: " يقينه " يقينه السابق الزائل، ولا ظهور له في اليقين الفعلي. وهذا

(1) (2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول 4 / 365 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 64 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
119

واضح لا ريب فيه. فالمتعين التمسك لذلك بقوله: " فان الشك لا ينقض اليقين "
الوارد بعنوان الكبرى، فان ظهوره في إرادة اليقين الفعلي الثابت مما لا ينكر،
فيكون ظاهرا في الاستصحاب، ويكون ظهوره موجبا للتصرف في ظهور الصدر،
لأنه بمنزله التعليل. فلا حظ.
وبالجملة: فالرواية من ناحية الدلالة تامة.
واما ناحية السند فقد ضعفه الشيخ (رحمه الله) (1) لاجل اشتماله على
القاسم بن يحيى، وهو ممن ضعفه العلامة (رحمه الله) في الخلاصة (2).
وقد رد بعضهم تضعيف العلامة (رحمه الله): بأنه مستند إلى تضعيف ابن
الغضائري وهو غير قادح.
ولكن يمكن الخدشة فيه: بأنه لم يثبت استناد العلامة في تضعيفه إلى
تضعيف ابن الغضائري. ومجرد عدم تضعيف غير ابن الغضائري ممن سبق
العلامة، لا يلازم استناد العلامة إليه، بل لعل مستنده أمر خفي علينا. هذا مع أن
عدم قدح تضعيف ابن الغضائري محل كلام فتدبر.
ومنها: مكاتبة علي بن محمد القاساني قال: " كتبت إليه وأنا بالمدينة عن
اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟. فكتب (عليه السلام): اليقين
لا يدخله الشك، صم للرؤية وافطر للرؤية " (3).
وقد جعلها الشيخ أظهر روايات الباب في الدلالة على حجية
الاستصحاب. ببيان: ان تفريع تحديد وجوب الصوم والافطار على رؤية الهلال

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 334 - الطبعة الأولى.
(2) رجال العلامة الحلي / 248 - الطبعة الثانية.
(3) وسائل الشيعة 7 / 184، حديث: 12.
120

لا يستقيم الا بان يراد عدم جعل اليقين السابق مزاحما بالشك، وهو عين
الاستصحاب (1).
وقد يناقش في دلالتها بوجوه:
الأول: ان المراد باليقين ليس هو اليقين بعدم دخول شهر رمضان، بل
يراد به اليقين بدخول رمضان، فيكون المراد ان اليقين بدخول رمضان الذي
يعتبر في صحة الصوم لا يدخله الشك، بمعنى لا يدخل في حكمه الشك، ولا
يترتب عليه اثر اليقين، فلا يجوز صوم الشك من رمضان، والقرينة على ذلك هو
تواتر الاخبار على اعتبار اليقين بدخول رمضان في صحة الصوم، فيكون موجبا
لظهور الرواية في ذلك، وبذلك تكون أجنبية بالمرة عن الاستصحاب. وهذا
الوجه يستفاد من الكفاية (2).
ولكن يرد عليه: ان مجرد ثبوت الحكم المزبور - أعني اعتبار اليقين
بدخول رمضان في صحة الصوم - في الروايات المتواترة لا يصح قرينة على
صرف هذه الرواية عن ظهورها في الاستصحاب، إذ لا منافاة بين الحكمين، وهي
في حد نفسها ظاهرة في ثبوت اليقين والشك فعلا، وهذا يتناسب مع الاستصحاب
ولا يتناسب مع البيان المزبور، لعدم اليقين الفعلي بحسب الفرض.
الوجه الثاني: ما أفاده المحقق العراقي من: عدم امكان تطبيق
الاستصحاب فيما نحن فيه، لان وجوب الصوم مترتب على ثبوت كون النهار
المشكوك من رمضان بنحو مفاد كان الناقصة، ومن الواضح ان استصحاب بقاء
شعبان أو بقاء رمضان لا يثبت ان هذا النهار من شعبان أو من رمضان الا
بالملازمة.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 334 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 397 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
121

وعليه، فلا يمكن حمل الرواية على الاستصحاب، لأنه لا يجدي في ترتب
الأثر الشرعي (1).
وهذا الوجه تبتني تماميته وعدمها على ما يستفاد من الأدلة الفقهية، ولا
يحضرنا فعلا من الأدلة ما يظهر منه أخذ عنوان نهار رمضان بنحو مفاد كان
الناقصة، بل الشئ المرتكز هو أخذه بنحو الظرفية ومفاد كان التامة، فإذا ثبت
رمضان بالاستصحاب ثبت وجوب الصوم وتحقيق ذلك في محله.
الوجه الثالث: وهو العمدة: انه بناء على اخذ اليقين بدخول رمضان في
وجوب الصوم وأخذ اليقين بشوال في وجوب الافطار لا مجال للاستصحاب
أصلا، إذ مع الشك في دخول رمضان يعلم بعدم الموضوع للحكم الشرعي، فيعلم
بعدم الحكم، فلا معنى للاستصحاب حينئذ، لأنه بلحاظ الحكم الشرعي
والمفروض العلم بعدمه.
ولا أدري لم غفل الاعلام عن هذا الوجه الواضح مع بنائهم على
موضوعية اليقين في وجوب الصوم والافطار؟. فلا حظ.
هذا مع أن الرواية ضعيفة السند.
هذا تمام الكلام في الروايات العامة التي استدل بها على الاستصحاب.
وقد عرفت أن العمدة فيها هو الصحيحتان الأولتان، واما غيرهما فاما ليس بتام
الدلالة أو ليس بتام السند أو ليس بتامهما.
وقد قال الشيخ (رحمه الله) بعدما أنهى الكلام عن مكاتبة القاساني: " هذه
جملة ما وقفت عليه من الاخبار المستدل بها للاستصحاب، وقد عرفت عدم
ظهور الصحيح منها وعدم صحة الظاهر منها، فلعل الاستدلال بالمجموع
باعتبار التجابر والتعاضد " (2).

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 65 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 334 - الطبعة الأولى.
122

وفيه: منع واضح، إذ لا معنى لجبر الرواية الضعيفة السند بالرواية التامة
السند الضعيفة الدلالة. نعم لو كانت الدلالة تامة في الكل أمكن تحقق
الاستفاضة لعدم اعتبار تمامية السند في الاستفاضة.
ثم إنه قد استدل على الاستصحاب ببعض الروايات الواردة في موارد
خاصة بضميمة عدم القول بالفصل.
كرواية عبد الله بن سنان الواردة فيمن يعير ثوبه الذمي، وهو يعلم انه
يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، قال: " فهل علي ان أغسله؟. فقال (عليه
السلام): لا لأنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن انه نجسه " (1). ودلالتها
واضحة على استصحاب الطهارة، لان الحكم بعدم لزوم الغسل وان كان أعم من
كونه لاجل قاعدة الطهارة أو لاجل استصحابها، لكن التعليل المذكور لا يتلاءم
الا مع الاستصحاب كما لا يخفى.
ورواية ابن بكير قال (عليه السلام): " إذ استيقنت أنك توضأت فإياك
ان تحدث وضوء! حتى تستيقن انك أحدثت " (2) ودلالتها على استصحاب
الطهارة الحدثية مما لا يخفى.
هذا ولكن لا يمكن استفادة الحكم العام من هذين الروايتين وانما يستفاد منها
جريان الاستصحاب في خصوص الطهارة الحدثية والخبثية، والتمسك في تسرية
الحكم إلى غيرها من الموارد بعدم القول بالفصل كما ترى، إذ بعد هذا الخلاف
الكبير في باب الاستصحاب حتى زادت الأقوال فيه على العشرة كيف يستفاد
عدم القول بالفصل! هذا مع أن مثل هذا الاجماع المركب لو تم غير حجة بعد
احتمال استناد المجمعين إلى الأدلة الظاهرة. فلا يكون اجماعا تعبديا. فالاشكال

(1) وسائل الشيعة 2 / 1095 باب 74 من أبواب النجاسات، حديث 1.
(2) وسائل الشيعة 1 / 176 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء، حديث 7.
123

في عدم القول بالفصل صغروي وكبروي فانتبه.
ومن الروايات الخاصة التي استدل بها على الاستصحاب.
رواية عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: " كل شئ نظيف
حتى تعلم انه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك " (1).
وقد وقع الكلام - أخيرا - فيما هو مفاد هذه الرواية. والوجوه المذكورة
في مفادها ستة:
الأول: انها تفيد قاعدة الطهارة وقاعدة الاستصحاب. وهذا هو المنسوب
إلى صاحب الفصول (رحمه الله).
الثاني: انها تتكفل جعل الطهارة الواقعية للأشياء والاستصحاب. وهو
ما قربه صاحب الكفاية في كفايته (2).
الثالث: انها تتكفل أمورا ثلاثة: الطهارة الواقعية للأشياء. والطهارة
الظاهرية للمشكوك. والاستصحاب. وهو ما قربه صاحب الكفاية في حاشيته
على الرسائل (3).
الرابع: انها تتكفل جعل الطهارة الواقعية للأشياء مقيدة بعدم العلم
بالنجاسة. وهو المنسوب إلى صاحب الحدائق (4).
الخامس: انها تتكفل جعل الاستصحاب خاصة.
السادس: انها تتكفل جعل الطهارة الظاهرية للأشياء خاصة، وهو المعبر
عنه بقاعدة الطهارة. وهذا هو المشهور في مفادها.

(1) وسائل الشيعة 2 / 1054، حديث 4.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 398 - 399 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية الفرائد / 185 - 186 الطبعة الأولى.
(4) البحراني الفقيه الشيخ يوسف. الحدائق الناضرة 1 / 136 - الطبعة الأولى.
124

اما الوجه الأول: فقد حكاه الشيخ (رحمه الله) في رسائله عن صاحب
الفصول، فذكر أنه قال: " ان الرواية تدل على أصلين:
أحدهما: ان الحكم الأولي للأشياء ظاهرا هي الطهارة مع عدم العلم
بالنجاسة، وهذا لا تعلق له بمسألة الاستصحاب.
الأصل الثاني: ان هذا الحكم مستمر إلى زمن العلم بالنجاسة، وهذا من
موارد الاستصحاب وجزئياته ".
وأورد عليه الشيخ (رحمه الله): بان المشار إليه في قوله: " هذا الحكم ".
ان كان هو الحكم الظاهري المستفاد من الرواية. ففيه:
أولا: ان استمرار هذا الحكم، وهو الحكم بالطهارة عند عدم العلم
بالنجاسة. ليس مغيى بالعلم بالنجاسة بل مغيى بنسخ الحكم في الشريعة.
وفيه ثانيا: ان الغاية المذكورة في الرواية يمتنع ان تكون غاية لكلا
الحكمين، لان الحكم بالاستمرار متأخر عن الحكم بالطهارة لتفرعه عليه، لان
الحكم بأصل الطهارة موضوع للحكم بالاستمرار، فإذا جعلت الغاية غاية
للحكم بأصل الطهارة امتنع ان تجعل غاية للحكم بالاستمرار، فإنه يستلزم
استعمال اللفظ في معنيين طوليين، وهو واضح الامتناع.
وان كان المشار إليه هو الحكم الواقعي، كان مفاد الرواية ان الطهارة إذا
ثبتت واقعا في زمان، فهو مستمر ظاهرا إلى زمان العلم بالنجاسة، فينحصر مفاد
الرواية في الاستصحاب، ولا تفيد حينئذ قاعدة الطهارة كما ذهب إليه. هذا
محصل ايراد الشيخ عليه ببعض توضيح (1).
أقول: ان ما ذهب إليه صاحب الفصول انما هو بعد الفراغ عن أمرين:
أحدهما: عدم الجامع بين قاعدتي الطهارة والاستصحاب، لما ذكر الشيخ

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 335 - الطبعة الأولى.
125

(رحمه الله) في صدر كلامه من كون المقصود في قاعدة الطهارة مجرد ثبوت الطهارة
ظاهرا للأشياء، والمقصود في الاستصحاب هو بيان استمرار الحكم لا أصل
الثبوت، بل يكون أصل الثبوت مفروغا عنه، والجامع بين هاتين الجهتين مفقود
كما لا يخفى.
الامر الثاني: امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى، فإنه من الأمور
المسلمة لديهم.
اذن فدعوا استفادة القاعدتين من الرواية لا يمكن أن يكون مبينا على
استعمالها في الجامع لفرض عدمه، أو على استعمالها في كل منهما لامتناع استعمال
اللفظ في أكثر من معنى.
بلا لا بد أن يكون مبتنيا على تعدد الدال والمدلول، ولو بدعوى أن مفاد
الرواية: " كل شئ طاهر وتستمر هذه الطهارة حتى تعلم... ".
وعلى هذا فلا مانع من فرض الغاية غاية لكلا الحكمين، إذ لا يلزم
الاستعمال في أكثر من معنى بعد فرض تعدد الدال والمدلول واستفادة الحكمين
من دالين. فلا حظ.
واما ما ذكره (قدس سره) في الشق الثاني من الترديد، وهو ما إذا كان
مراد الفصول بالمشار إليه الحكم الواقعي. ففيه:
أولا: انه لا وجه لاحتماله بعد صراحة عبارته المنقولة عنه في إرادة الحكم
الظاهري.
وثانيا: انه لا اشكال فيه إذا كانت دعوى الفصول على استفادة
استصحاب الطهارة الواقعية بدال آخر غير ما يدل على الطهارة الظاهرية، ولو
كان قرينة حالية فلا يلزم أن لا يكون مجال لاستفادة قاعدة الطهارة الظاهرية
ثبوتا.
فالعمدة في الايراد على صاحب الفصول هو: ما ذكره (قدس سره) أولا
126

مبنيا على ما هو ظاهر كلامه من إرادة استصحاب الطهارة الظاهرية.
وتوضيحه: ان الطهارة الظاهرية مشروطة بالجهل بالنجاسة، واستمرارها
إلى زمان العلم بها انما هو لبقاء موضوعها، وهو الجهل بالنجاسة. وهذا ليس من
الاستصحاب في شئ، بل هو كسائر الأحكام الواقعية والظاهرية المستمرة
باستمرار موضوعها، وهو الحكم بالطهارة المقيدة بالجهل، فاستمراره ليس مغيى
بالجهل بالنجاسة، بل هو ثابت حتى مع العلم بالنجاسة، وانما هو مغيى بالنسخ.
فلا شك حينئذ في بقاء الحكم بالطهارة مع الجهل بالنجاسة، الا من حيث نسخ
هذا الحكم ورفعه وهو الا يرتبط بالمدعى بشئ. فلا حظ.
ثم لا يخفى عليك ان ما دار حول كلام صاحب الفصول مما نقلناه انما
يرتبط بمقام الثبوت، ومع الغض عن مقام الاثبات. والا فمقام الاثبات قاصر
أيضا عن إفادة مدعاه كما لا يخفى.
واما الوجه الثاني: فقد التزم به صاحب الكفاية في كفايته بدعوى: انه
يستفاد من قوله (عليه السلام): " كل شئ نظيف " الحكم بالطهارة للأشياء
بعناوينها الأولية، كما يستفاد من الغاية الاستمرار الظاهري للطهارة الواقعية ما
لم يعلم نجاسته، لا تحديد الموضوع كي يكون ظاهر النص بيان قاعدة الطهارة.
وقد يورد عليه: بان الرواية مشتملة على غاية ومغيى، ولا موهم لاستفادة
الاستصحاب من المغيى كما هو واضح.
واما الغاية، فلا يصح استفادة الحكم بالاستمرار الظاهري منها لوجهين:
الأول: ان الغاية من توابع المغيى وملحوظة بلحاظه بنحو المعنى الحرفي،
فلا يعقل استقلالها بالانشاء في قبال انشاء المغيى
الثاني: ان الاستصحاب عبارة عن ابقاء الطهارة الواقعية عنوانا،
والمجعول في المغيى هو الطهارة الواقعية حقيقة لا عنوانا، فما هو قابل للامتداد
إلى هذه الغاية - وهو الطهارة الواقعية عنوانا - غير مقصود من المغيى وما هو
127

المقصود من المغيى - وهو الطهارة الواقعية حقيقة - غير قابل لمثل هذه الغاية.
ومثل ذلك ينافي تبعية الغاية للمغيى.
وهذا الايراد مندفع: بأنه يمكن ان يستفاد الحكم بالاستمرار من المدلول
الالتزامي للكلام بمجموعه صدرا وذيلا وهو الاستمرار، فان الكلام الدال على
حدوث شئ في زمان وارتفاعه في زمان متأخر يدل بالملازمة على استمراره إلى
الزمان المتأخر، كما لو قال: " جاء زيد إلى المدرسة صباحا وخرج منها ظهرا "،
فيكون انشاء الاستصحاب بالمدلول الالتزامي.
واما ما أفيد من وجهي المنع عن استفادة الاستصحاب من الغاية
فكلاهما مردود:
اما الأول: فلان كون الغاية ملحوظة بنحو المعنى الحرفي لا يمنع من
استقلالها بالانشاء. كيف؟! وسائر الانشاءات انما هو بالهيئات وهي من الحروف
كهيئة الامر.
واما الثاني: فلان الاستصحاب يتكفل ثبوت نفس المتيقن حقيقة، لكن
بعنوان البقاء، فالبقاء عنواني لا نفس الباقي. فالباقي عنوانا هو الواقع حقيقة
لا الواقع عنوانا فتدبر.
والمتحصل: انه لا نرى هناك مانعا ثبوتيا يمنع من مختار الكفاية.
نعم هو مما لا يساعد عليه مقام الاثبات، لان ظاهر الغاية كونها غاية
للطهارة المجعولة في الصدر لا غاية لاستمرارها، كيف! والاستمرار انما يستفاد
بعد ذكر الغاية، فهو متأخر إثباتا عن نفس الغاية، فلا يمكن ان تكون الغاية
غاية له.
وإذا كانت الغاية غاية للطهارة المذكورة في الصدر لم يساعد مقام الاثبات
استفادة كلا الحكمين كما قربه (قدس سره).
نعم، لو قيل: " كل شئ طاهر وتستمر طهارته حتى تعلم انه قذر " اتجه
128

ما ذكره.
واما الوجه الثالث الذي ذكره في الحاشية: فهو مجمع الايرادات على
صاحب الفصول والكفاية لأنه يجمع كلا القولين.
ونزيد على ما تقدم ان الجمع: - في الصدر - بين الطهارة الواقعية والطهارة
الظاهرية لا يمكن الا بالاطلاق - بان يراد من الشئ أعم منه بعنوانه الأولي،
ومنه بعنوان انه مشكوك الطهارة كما قربه به - وهو ممتنع، لأنه يستلزم ملاحظة
الشئ بعنوانه الأولي وهو لا بشرط من الشك بنجاسته، وملاحظة بشرط الشك
في نجاسته، والجمع في امر واحد بين لحاظه بشرط شئ ولا بشرط ممتنع كما لا
يخفى.
واما الوجه الرابع: المنسوب إلى صاحب الحدائق فقد عرفت أنه دعوى
تكفل الرواية لجعل الطهارة الواقعية وتقيدها بعدم العلم بالنجاسة، بحيث يكون
الشئ المجهول النجاسة طاهر واقعا.
ولا يخفى ان الالتزام به لا يستلزم محذورا فقهيا، بل آثار النجاسة بلحاظ
الجهل تتلاءم مع الطهارة الواقعية، الا انه لا يمكن الالتزام به لامرين:
الأول: نفس الغاية في الرواية، فإنها ظاهرة في وجود نجاسة واقعية يتعلق
بها الجهل تارة، والعلم أخرى، إذ المراد بالقذرة ههنا هو النجاسة كما لا يخفى.
الامر الثاني: ما ورد في بعض الروايات المتقدمة من استصحاب الطهارة،
وهو لا يتلاءم مع الطهارة الواقعية في ظرف الجهل من ناحيتين:
الأولى: فرض الشك واليقين بالطهارة.
الثانية: نفس التعبد بالطهارة واجراء الاستصحاب، إذ لو كان عدم العلم
موضوع الطهارة الواقعية لما كان هناك حاجة إلى اجراء الاستصحاب، بل امتنع
اجراؤه، لان مجرد الشك يستلزم العلم بالطهارة فلا مجال للاستصحاب، فتدبر.
واما الوجه الخامس: فهو يبتني على أن يكون الملحوظ هو الحكم
129

باستمراره الطهارة بعد الفراغ عن أصل ثبوتها للشئ، بان يكون مفاد الرواية:
" كل شئ طهارته إلى زمان العلم " أو: " كل شئ طاهر طاهر حتى تعلم انه
قذر ". ولكن هذا خلاف الظاهر، فان ظاهر النص هو الحكم فعلا بثبوت الطهارة
المقيدة بعدم العلم للشئ لا الحكم باستمرار الطهارة المفروضة الثبوت.
فيتعين أن يكون مفاد الرواية هو الوجه السادس كما فهمه المشهور.
وعلى ذلك تكون أجنبية عن الاستصحاب.
ثم إن الشيخ (رحمه الله) في مقام تقريب دلالة الرواية على الاستصحاب
قال: " بناء على أن مسوق لبيان استمرار طهارة كل شئ إلى أن يعلم حدوث
قذارته لا ثبوتها له ظاهرا، واستمرار هذا الثبوت إلى أن يعلم عدمها، فالغاية وهي
العلم بالقذارة على الأول غاية للطهارة ورافعة لاستمرارها، فكل شئ محكوم
ظاهرا باستمرار طهارته إلى حصول العلم بالقذارة، فغاية الحكم غير مذكورة
ولا مقصودة. وعلى الثاني غاية الحكم بثبوتها والغاية وهي العلم بعدم القذارة رافعة
للحكم، فكل شئ يستمر الحكم بطهارته إلى كذا، فإذا حصلت الغاية انقطع
الحكم بطهارته لا نفسها. والأصل في ذلك أن القضية المغياة سواء كانت اخبارا
عن الواقع وكانت الغاية قيدا للمحمول كما في قولنا: " الثوب طاهر إلى أن يلاقي
نجسا "، أم كانت ظاهرية مغياة بالعلم بعدم المحمول كما فيما نحن فيه، قد يقصد
المتكلم مجرد ثبوت المحمول للموضوع ظاهرا أو واقعا من غير ملاحظة كونه
مسبوقا بثبوته له، وقد يقصد المتكلم به مجرد الاستمرار لا أصل الثبوت، بحيث
يكون أصل الثبوت مفروغا عنه " (1).
والذي يظهر من هذه العبارة: ان الغاية بناء على استفادة قاعدة الطهارة
من الرواية تكون غاية للحكم بالطهارة لا نفس الطهارة. واما بناء على استفادة

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 334 - الطبعة الأولى.
130

الاستصحاب منها، فالغاية غاية الطهارة نفسها، وغاية الحكم غير مقصودة ولا
مذكورة. كما يظهر منه انه بنى ذلك على كون مفاد الرواية على الأول مجرد ثبوت
المحمول للموضوع. وعلى الثاني الحكم بالاستمرار، بحيث يكون أصل الثبوت
مفروغا عنه.
وهذا المطلب قد خفي على البعض تحقيقه وتوضيحه، ولم تعط العبارة
حقها من الشرع في عبارات المحشين.
وتوضيح مراده (قدس سره): ان لدينا أمرين واضحين:
أحدهما: ان الحكم بالطهارة والتعبد بها غير نفس الطهارة، فان الحكم
بها عبارة عن الجعل ونفس الطهارة عبارة عن المجعول.
والاخر: ان ظاهر الكلام المتقدم في حد نفسه رجوع القيد - وهو الغاية -
إلى النسبة الحكمية التي مفادها التعبد بالمحمول وجعله. نعم قد يرفع اليد عن
هذا الظاهر لقرينة.
وعليه، نقول: ان الراية إذا كانت في مقام الحكم بثبوت الطهارة
الظاهرية، كان ظاهر الكلام رجوع الغاية إلى الحكم والتعبد به، لا إلى المتعبد
به وهو الطهارة، وان ارتفع المجعول بارتفاع الجعل. واما إذا كانت في مقام الحكم
بالاستمرار مع المفروغية عن أصل ثبوت الحكم، فيما انه لا نظر إلى جعل الحكم
وثبوته، وانما المنظور بيان استمرار الحكم الثابت بحيث يكون مفاد " كل شئ
نظيف حتى تعلم أنه قذر ": " كل شئ طهارته إلى زمان العلم "، فتدل بالالتزام
على الاستمرار ويقصد انشاء الاستصحاب بالمدلول الالتزامي.
وعليه، فالغاية في الكلام ليست غاية الحكم بثبوت الطهارة، إذ ليس هذا
محط النظر، بل هو أمر لو حظ مفروغا عنه، فيتعين ان تكون غاية لنفس الطهارة
المذكورة في الكلام، والمفروغ عن تحقق الحكم بها حدوثا، وبذلك ظهر معنى
قوله: " فغاية الحكم غير مذكورة ولا مقصودة ".
131

وبالجملة: كلمة " طاهر " - على القول بالاستصحاب - ليست انشاء
للطهارة لا حدوثا وهو واضح، ولا استمرارا - كي يقال ان الغاية غاية الحكم -،
إذ انشاء الاستمرار بالمدلول الالتزامي لمجموع الكلام، وانما الملحوظ بها
الإشارة إلى الطهارة الثابتة للشئ، فتكون الغاية للمجعول لا للجعل
فتدبر جيدا.
وهذا التوجيه لكلامه (قدس سره) لم نعهد من سبقنا إليه والله سبحانه
ولي العصمة.
هذا تمام الكلام في اخبار الاستصحاب العامة والخاصة.
ويبقى امر مختصر لا بد من التنبيه عليه، وهو: انك عرفت فيما تقدم بيان
اختصاص الروايات المشتملة على لفظ النقض بمورد الشك في الرافع وعدم
عمومها لمورد الشك في المقتضي، وذلك: بملاحظة لفظ النفض.
ولكن قد يدعى امكان استفادة عموم دليل الاستصحاب لمورد الشك في
المقتضي من الروايات الأخرى، كقوله (عليه السلام) في رواية زرارة الثالثة:
" ولا يعتد بالشك في حال من الحالات "، فإنه ظاهر في النهي عن الاخذ بالشك
مع اليقين السابق من دون اعتبار صدق النقض.
وكرواية الخصال المتقدمة، إذ ورد فيها التعبير بالمضي على اليقين، وهو
يعم صورة الشك في المقتضي. وأوضح من الكل مكاتبة القاساني، لان موردها
وهو الشك في بقاء شهر رمضان وشوال من الشك في المقتضي جزما كما لا يخفى.
والتحقيق ان شيئا من ذلك لا يعتمد عليه، اما رواية زرارة الثالثة، فقد
عرفت انها لا ترتبط بمسألة الاستصحاب، وليس المراد باليقين والشك فيها هو
اليقين السابق والشك اللاحق. واما رواية الخصال، فقد عرفت الكلام فيها سندا
ودلالة، لاحتمال نظرها إلى قاعدة اليقين. واما رواية القاساني، فهي على ما
عرفت محل تشكيك من ناحية السند والدلالة.
132

وجملة القول: ان عمدة نصوص الاستصحاب صحيحتا زرارة الأولتان
وقد عرفت اختصاص دلالتهما على الاستصحاب في مورد الشك في الرافع،
بسبب لفظ النقض. فلا حظ وتدبر.
الأحكام الوضعية
وبعد جميع هذا يقع الكلام في الأحكام الوضعية وانها مجعولة أو غير
مجعولة شرعا، وسيتضح مقدار ربط ذلك بمسألة الاستصحاب.
وقد أشار صاحب الكفاية إلى بعض الجهات التي يبحث عنها في الأحكام الوضعية
، وأهمل تحقيقها بصورة مفصلة لعدم الأثر المهم، فان الجهة المهمة هي
جهة البحث عن أن الأحكام الوضعية هل هي مجعولة شرعا كالاحكام التكليفية
أو ليست مجعولة شرعا؟.
والذي افاده (قدس سره) في هذا المقام: ان الأحكام الوضعية على انحاء
ثلاثة:
النحو الأول: ما لا يمكن أن يكون مجعولا شرعا أصلا لا بالجعل
الاستقلالي ولا بالجعل التبعي، بل يكون مجعولا تكوينا عرضا بجعل موضوعه
تكوينا.
النحو الثاني: ما لا يمكن أن يكون مجعولا شرعا بالاستقلال، وانما يكون
مجعولا بتبع التكليف.
النحو الثالث: ما يمكن أن يكون مجعولا شرعا بالاستقلال وبتبع
التكليف، وان كان الصحيح كونه مجعولا بالاستقلال وكون التكليف من آثاره
واحكامه.
ولا بد من التكلم في كل نحو على حدة.
اما النحو الأول: فقد جعل من مصاديقه السببية والشرطية والمانعية
133

والرافعية لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعه ورافعه، كسببية الدلوك لوجوب
الصلاة، فإنها غير مجعولة للدلوك لا استقلالا ولا تبعا. واستدل على ذلك
بوجهين:
الأول: انه لا يعقل ان تكون السببية ونحوها منتزعة عن التكليف
لتأخره عنها، فإذا كانت منتزعة عنه لزم تأخرها عنه وهو خلف.
وهذا الوجه - كما لا يخفى - يتكفل نفي الجعل التبعي.
الوجه الثاني: ان سببية الشئ - كالدلوك - للتكليف لا بد ان تكون
ناشئة عن خصوصية في ذات السبب تستدعي ترتب التكليف عليه ضرورة
اعتبار أن يكون في العلة باجزائها ربط خاص تكون بسببه مؤثرة في المعلول
دون غيره لا يكون غيرها مؤثرا فيه، ولولا ذلك لزم ان يؤثر كل شئ في كل
شئ، وهو ضروري البطلان.
ومن الواضح ان تلك الخصوصية المستلزمة لتأثير ذيها في التكليف
خصوصية تكوينية لا تناط بجعل السببية، فإنها ان كانت موجودة لم يحتج إلى
الانشاء ولا أثر له، وإن لم تكن موجودة لم توجد بسبب انشاء السببية، فالجعل
وجودا وعدما لا تأثير له في وجود الخصوصية وعدمها، وعلى هذا تكون السببية
منتزعة عن أمر تكويني لا دخل للجعل فيه أصلا.
وهذا الوجه ينفي الجعل الاستقلالي كما ينفي الجعل التبعي كما لا
يخفى (1).
أقول: لا اشكال في أن السببية التكليف ونحوها لا يتعلق بها الجعل
الاستقلالي مع غض النظر عما افاده (قدس سره) - وان كان تاما على ما يأتي
تحقيقه -، وذلك للغوية جعل السببية، وذلك لأنه حين يجعل السببية للدلوك لا

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 400 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
134

يخرج الوجوب عن كونه اختياريا للجاعل، بمعنى ان جعله بيده.
وعليه، نقول: اما ان يجعل الشارع الوجوب عن الدلوك أو لا، فان جعله
عند الدلوك لا حاجة إلى جعل السببية لانتزاعها من التكليف. وإن لم يجعله لم
ينفع جعل السببية في ترتبه. اذن فيكون جعلها لغوا.
وانما البحث يدور بين الاعلام في أنها منتزعة عن التكليف أو انها امر
واقعي غير مجعول.
وقد عرفت ما افاده صاحب الكفاية (رحمه الله) في هذا المقام.
وقد استشكل في كلا وجهيه.
اما الاشكال في الأول: فبان ما يكون التكليف متأخرا عنه هو ذات
السبب لا عنوان السببية، فلا يلزم من انتزاع عنوان السببية من ترتب التكليف
على ذات السبب الخلف، إذ ما هو المتأخر عن التكليف غير ما هو المتأخر عنه
التكليف، نظير العلية في الأمور التكوينية، فان المعلول متأخر عن ذات العلة،
ولكن العلية والمعلولية تنتزعان من ترتب المعلول على علته.
واما الاشكال في الثاني: فبان للتكليف مقامين: مقام المصلحة والغرض،
ومقام الجعل والاعتبار.
ومن الواضح ان دخالة السبب في المصلحة تكوينية لا جعلية، إذ المصلحة
من الأمور التكوينية، الخارجة عن دائرة الجعل.
واما مقام الجعل والاعتبار، فصيرورة الشئ سببا للتكليف انما هو بيد
الشارع، فان أخذه في موضوع الحكم انتزع عنه عنوان السببية، والا لم يكن
سببا للتكليف وان كان سببا للمصلحة.
ومن الواضح ان محل الكلام هو سببية الشئ للتكليف لا للمصلحة،
وهي لا محالة منتزعة عن كيفية الجعل ومقام التشريع.
ومرجع كلتا المناقشتين: ان استدلال المحقق الخراساني (رحمه الله) في كلا
135

وجهيه مبني على الخلط. ففي الوجه الأول خلط بين عنوان السببية وذات
السبب. وفي الثاني خلط بين مقام المصلحة ومقام الجعل والتشريع (1).
والتحقيق: ان كلتا المناقشتين غير واردتين:
اما مناقشة الوجه الأول، فيدفعها: ان السببية على نحوين:
أحدهما: السببية الشأنية، وهي عبارة عن كون الشئ مؤثرا في وجود
المسبب لو انضمت إليه الشرائط، فهي عبارة عن قضية شرطية.
والاخر: السببية الفعلية، وهي عبارة عن تأثير السبب في وجود المسبب
فعلا.
وعليه، فحين يقال: ان النار سبب للاحراق، تارة: يراد به بيان قابلية النار
للتأثير وانها ذات خصوصية واقعية مستلزمة للحرقة عند اجتماع سائر الشرائط
من المماسة ويبوسة المحل، وهذا العنوان يصح اطلاقه على النار ولو لم يكن للنار
ولا للحرقة وجود. وأخرى: يراد به بيان ترتب الاحراق فعلا على النار، وهذا هو
معنى السببية الفعلية.
وقد اتضح بهذا البيان: ان السببية المنتزعة عن وجود المسبب خارجا هي
السببية الفعلية. اما السببية الشأنية، فهي في مرحلة سابقة على وجود المسبب،
وهي تنتزع عن الخصوصية الواقعية الموجودة في السبب التي بها يؤثر في المسبب
عند حصول شرائط التأثير، فإنه لولا تلك الخصوصية لا يقال عنه انه سبب لعدم
قابليته للتأثير.
وهذا البيان بنفسه يتأتى في سبب التكليف، فان السببية المقصودة تارة
يراد بها السببية الشأنية. وأخرى السببية الفعلية. وما ينتزع عن التكليف الفعلي
هو السببية الفعلية دون السببية الشأنية، فإنها في مرحلة سابقة على التكليف،

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 395 - 397 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
136

فيطلق على الدلوك انه سبب للوجوب ولو لم يوجد بعد، ويمتنع ان تكون منتزعة
عن نفس التكليف، كيف؟ وهي ثابتة قبل وجود التكليف كما عرفت.
وإذا عرفت ما ذكرناه، فنقول: ان محل الكلام فيما نحن فيه، هو السببية
الشأنية دون السببية الفعلية، وذلك لان المبحوث عنه هو ما يطلق عليه السبب
والشرط مع قطع النظر عن وجوده في الخارج، كما يقال: " الدلوك سبب لوجوب
الصلاة " و: " الاستطاعة شرط لوجوب الحج "، فان السببية والشرطية هي
الشأنية لا الفعلية كما لا يخفى.
وهي كما عرفت لا يصح ان تنتزع عن التكليف لتأخره عنها، فلو
انتزعت عنه لزم الخلف، بل هي منتزعه اما عن خصوصية واقعية في ذات السبب،
واما عن كيفية الجعل والانشاء - على ما سيأتي تحقيقه -.
فلا خلط في كلامه (قدس سره) بين ذات السبب والسببية، بل نظره
(قدس سره) إلى السببية الشأنية السابقة على التكليف، لا الفعلية كي يحصل
الخلط. اذن فهذا الايراد غير وجيه.
نعم، يمكن ان يورد على صاحب الكفاية: بان من يدعي كون السببية
الشأنية منتزعة عن التكليف لا يريد انها منتزعة عن نفس التكليف الفعلي، كي
يتأتى ايراده المتقدم، بل يريد انها منتزعة عن مقام الجعل وكيفية الجعل، فان
جعل المولى التكليف مقيدا بشئ انتزع عنه ان ذلك الشئ شرط - مثلا -،
وان جعله مطلقا من ناحية ذلك الشئ لم ينتزع عنه شرطية ذلك الشئ.
ولا يخفى ان مقام الجعل ليس متأخرا عن السببية الشأنية. اذن فالايراد
من هذه الناحية - أعني: تأخر التكليف عن السببية ولزوم الخلف لو كانت
منتزعة عنه - غير تام.
وانما المهم هو تحقيق ان السببية الشأنية هل هي منتزعة عن كيفية الجعل
- كما قيل -، أو انها منتزعة عن خصوصية واقعية بلا دخل لكيفية الجعل، كما
137

ذهب إليه صاحب الكفاية في الوجه الثاني؟.
وهذه الجهة ستتضح في مناقشة الايراد الثاني على صاحب الكفاية.
وتحقيق ذلك يتم ببيان امرين:
الأول: ان مرجع كون الشئ سببا للتكليف أو شرطا له هو كونه دخيلا
في اتصاف الفعل بالمصلحة، بحيث يكون الفعل به ذا مصلحة وبدونه ليس بذي
مصلحة، فنسبته إلى الفعل نسبة المرض إلى استعمال الدواء، فان شرب الدواء
بدون المرض لا مصلحة فيه، بل قد يكون مضرا، وانما يصير ذا مصلحة عند
تحقق المرض.
وبعبارة مختصرة: ان موضوع التكليف ما كان دخيلا في تحقق الاحتياج
إلى الفعل، والأمثلة العرفية كثيرة.
الامر الثاني: ان الحكم التكليفي الفعلي قد اختلف في حقيقته وواقعه،
والوجوه المعروفة فيه أربعة:
الأول: انه عبارة عن نفس الإرادة التشريعية المتعلقة بفعل الغير.
الثاني: انه عبارة عن الاعتبار العقلائي للحكم المترتب على الانشاء
الصادر من المولى.
الثالث: انه عبارة عن نفس اعتبار المولى في ظرفه الخاص، بحيث يكون
الاعتبار منوطا بتحقق الموضوع.
الرابع: انه عبارة عن اعتبار المولى في ظرف الانشاء، لكن يكون
الاعتبار على تقدير، بمعنى ان الاعتبار من الآن على تقدير تحقق الموضوع،
فتحقق الموضوع دخيل في ترتب الأثر العقلائي على الاعتبار، وهو المعبر عنه
بفاعلية الاعتبار، وليس دخيلا في تحقق نفس الاعتبار كما هو الحال في الوجه
الثالث.
وعليه، نقول: بعد فرض كون المولى حكيما يتتبع الحكمة في أفعاله ولا
138

يجازف، فيتعين عليه ملاحظة موارد المصلحة في تشريعاته، فلا يشرع حكما على
خلاف المصلحة والا كان منافيا للحكمة، فإذا فرض ان كون الفعل ذا مصلحة
منوط بامر خاص، كالدلوك بالنسبة إلى الصلاة، امتنع تحقق التكليف وجعله
من قبل المولى بلا ربط له بالدلوك، والا كان خلاف الحكمة، ومن هذه الجهة
تنتزع شرطية الدلوك للوجوب، لان معنى الشرطية هو امتناع تحقق المشروط
بدون الشرط، وهذا ثابت في الدلوك بعد فرض كونه دخيلا في اتصاف الفعل
بالمصلحة وبعد فرض حكمة المولى وعدم مجازفته.
ومن الواضح ان هذا المعنى ليس جعليا، بل هو تابع للخصوصية الواقعية
الموجودة في الدلوك، ولا تناط بجعل المولى التكليف منوطا به، بحيث لولاه لما
كان شرطا - بالمعنى الذي عرفته -. بيان ذلك:
اما بناء على كون التكليف الفعلي هو الإرادة التشريعية، فلان تبعية
إرادة الحكيم لحصول الشرط الدخيل في المصلحة تكوينية، لان الإرادة تابعة
للشوق، وهو لا يحصل الا لما فيه المصلحة، فبدون الشرط لا يحصل الشوق فلا
تحصل الإرادة. فتأثير الشرط في الإرادة تكويني قهري لا تناله يد الجعل بالمرة
ولا يكون تابعا لكيفية الجعل أصلا.
وبعبارة أخرى: ان المولى لو كان يتمكن من أن يريد الفعل بدون هذا
الشرط، لكان لدعوى تبعية شرطيته لتعليق الإرادة عليه من قبيل الشارع مجال،
ولكنه لا يتمكن ان يريد الفعل بدون هذا الشرط، لأنه يستحيل تحقق الإرادة
من دون شوق، وهو لا يحصل بالنسبة إلى الفعل الخالي عن المصلحة، وشرطية
الشرط للإرادة تكوينية ليست منوطة بالشارع.
واما بناء على كون التكليف الفعلي هو الاعتبار العقلائي المترتب على
الانشاء الصادر من المولى، فلا يخفى ان العقلاء إذا أدركوا ان كون الفعل بدون
هذا الشرط خال عن المصلحة لم يعتبروا التكليف بدونه وكان اعتبارهم منوطا
139

بوجوده سواء ربط المولى حكمه به أو كان انشاءه مطلقا.
وان كان فرض حكمته انه لا بد ان ينشؤه مقيدا به، فترتب الحكم الفعلي
على الشرط ليس منوطا بكيفية الجعل، بل هو تابع لدخالته في المصلحة وهي
جهة تكوينية واقعية لا جعلية.
ومنه يتضح الحال على الوجهين الآخرين في حقيقة الحكم التكليفي، فان
المراد بالشرط - كما أشرنا إليه - هو ما يمتنع وجود التكليف بدونه بحيث يلزم
من عدمه العدم.
وهذه الجهة تتحقق في الشرط بملاحظة كونه دخيلا في الاحتياج إلى
الفعل وكونه ذا مصلحة، إذ يمتنع حينئذ تحقق التكليف من المولى الحكيم بدونه
ويلزم من عدمه عدم التكليف، والا كان منافيا للحكمة. اذن فانتزاع الشرطية
منوط بامر واقعي ولا ربط لكيفية الجعل به أصلا، بل كيفية الجعل من المولى
الحكيم تابعة للشرطية الواقعية.
والذي يتحصل: ان شرطية التكليف الصادر من الحكيم - بناء على تبعية
الاحكام للمصالح والأغراض العقلائية، كما هو الحق الذي لا يقبل الانكار،
والا لما كان وجه للتقييد بشئ دون آخر - منتزعة عن خصوصية واقعية - كما
ذهب إليه صاحب الكفاية -، لا عن مقام الجعل والتشريع. وليس في كلامه خلط
بين مقام المصلحة ومقام التشريع، بل نظره إلى الشرطية في مقام التشريع والحكم
كما عرفت.
كما ظهر مما ذكرنا أن ما أورده المحقق النائيني (رحمه الله) على صاحب
الكفاية - من: انه خلط بين مقام الجعل والمجعول، فان شرائط الجعل تكوينية
لا تناط بالجعل، واما شرائط المجعول فشرطيتها منتزعة عن كيفية الجعل، ولولا
جعل المولى التكليف مقيدا بالشرط لم يعنون بعنوان الشرطية - وقد تبعه عليه
140

غيره (1) في هذا الايراد غير تام، لما عرفت من كون نظر صاحب الكفاية إلى
نفس المجعول وشرائطه، وان شرطية المجعول غير مجعولة، بل هي تابعة
لخصوصية واقعية ان كانت موجودة، كان الشئ شرطا وإن لم يتقيد به المجعول
في مقام الجعل، وإن لم تكن موجودة لم يكن شرطا وان تقيد به في مقام الجعل،
لعدم امتناع تحقق التكليف الفعلي بأي معنى من معانيه بدونه حينئذ.
ويزيدك وضوحا ملاحظة شرطية القدرة للتكليف، فإنها شرط عقلي يمتنع
التكليف بدونه للغويته.
ولم يخطر في ذهن أحد أن شرطية القدرة تابعة للجعل وكيفيته، إذ هي
شرط مع كون الجعل مطلقا من ناحيتها. فكما تكون شرطية القدرة منتزعة عن
جهة واقعية، فكذلك نقول في سائر الشرائط المذكورة في لسان الشارع، فإنها
شرط واقعي للتكليف بملاحظة تقيد الشارع بمقتضي الحكمة والمصلحة وعدم
خروجه عنهما. فتدبر جيدا.
واما النحو الثاني - وهو ما امتنع جعله مستقلا وجعل تبعا -: فقد جعل
من مصاديقه الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية لما هو جزء المكلف به وشرطه
ومانعه وقاطعه، كجزئية السورة للصلاة وشرطية الطهارة لها، ومانعية النجاسة
وقاطعية الاستدبار، فإنها مجعولة بالتبع. وبعبارة أخرى: انها منتزعة عن التكليف
المتعلق بالعمل.
وقد أوضح ذلك: ان الجزئية ذات مراتب ثلاث:
الأولى: الجزئية بلحاظ الوفاء بالغرض، وذلك بان يكون غرض واحد
مترتبا على مجموع أمور، فيكون كل واحد منها جزء ما يفي بالغرض، وتكون
جهة الوحدة الجامعة بين الأمور المتباينة هي الوفاء بالغرض.

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 81 - الطبعة الأولى.
141

الثانية: الجزئية بلحاظ تعلق اللحاظ، بان يتعلق لحاظ واحد بمجموع
أمور، فان كل واحد منها جزء الملحوظ ومجموعها هو الكل.
الثالثة: الجزئية بلحاظ مقام الامر والتكليف، وذلك بان يتعلق امر واحد
بعدة أمور، فيكون كل منها بعض المأمور به وجزئه.
ولا يخفى ان الجزئية لا تنتزع مع قطع النظر عن الامر، إذ هذه الأمور
متباينة لا ربط بينها ولا جهة وحدة. اما بعد تعلق الامر بها فهو جهة وحدة
تصحح انتزاع الجزئية لكل واحد منها، فليست الجزئية للمأمور به امرا واقعيا
ثابتا مع قطع النظر عن الامر، بل هي متفرعة عن تعلق الامر بالأمور المتكثرة
بحيث تربط بينها وتوحدها جهة تلعق الامر بها (1).
وهذا الالتزام من صاحب الكفاية وقع موقع القبول من الاعلام، الا ان
المحقق العراقي خالفه في الشرطية، فذهب إلى: ان الشرطية تنتزع في مرحلة
سابقة عن تعلق الامر، وذلك لان الشرطية الثابتة للشرط انما هي فرع اضافته
إلى المشروط وتقيده به، فيكون شرطا لحصول المقيد به، ومن الواضح ان جهة
التقيد والإضافة سابقة عن تعلق الامر، ولا تتوقف على الامر، بل هي معروضة
للامر، إذ الامر بالمقيد فرع اخذ التقيد في متعلق الامر، وهذا يقتضي سبق التقيد
على الامر.
نعم، كون الشئ شرطا للمأمور به يتوقف به يتوقف على الامر، لا ان أصل
شرطيته متوقفة على الامر، نظير مقدمة الواجب، فان أصل المقدمية لا يتوقف
على التكليف، ولكن عنوان: " المقدمية للواجب " لا يكون الا بعد ثبوت
الوجوب.
ولكن هذا غير ما نحن بصدده، فان البحث عن توقف أصل الجزئية

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 401 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
142

والشرطية على الامر. وهذا وان تم في الجزئية، لأنها تنتزع عن جهة الوحدة، وهي
في المأمور به ليس إلا الامر وكونه متعلقا له، فبعد تعلقه بذوات الاجزاء ينتزع
عنه عنوان الجزئية لها. ولكنه لا يتم في الشرطية، لأنها تنتزع عن جهة تقيد
العمل بالشرط واضافته له، وهذا غير منوط بالأمر، بل عرفت أنه سابق على
الامر لأنه مأخوذ في موضوعه. فمثلا الصلاة المشروطة بالطهارة يتعلق بها الامر،
ولا يخفى ان كون الطهارة شرطا انتزع عن تقيد الصلاة بها، وهو سابق على
الامر. نعم كونها شرطا للواجب ينتزع عن الامر كما عرفت لا أصل الشرطية.
مثل: " اكرام العالم الواجب الاحترام ". فان كونه اكراما للعالم لا يرتبط بالأمر
ووجوب احترام العالم، بل هو امر ثابت في حد نفسه، لكن كونه اكراما لمن يجب
احترامه ينتزع عن الامر باحترام العالم. فتدبر (1).
هذا ما افاده العراقي (قدس سره) - ببعض توضيح منا وتلخيص -
وهو كلام متين يزداد لدينا وضوحا كلما ازددنا فيه تأملا وتفكرا.
هذا، ولكن لا يخفى انه - على متانته - لا أثر له فيما هو المهم فيما نحن
فيه. وتوضيح ذلك: ان الكلام في كون الأحكام الوضعية كالجزئية مجعولة وعدم
كونها مجعولة، انما هو بلحاظ صحة جريان الأصل فيها وعدم صحته.
وقد أشير في الكفاية إلى صحة جريان الاستصحاب في مثل الجزئية مما
يكون مجعولا بالتبع، ببيان: انه لا يعتبر في مجرى الأصل سوى كون امره بيد
الشارع يتمكن من وضعه ورفعه ولو بتبع امر آخر، والجزئية للمأمور به كذلك،
فإنها مجعولة يتبع جعل الامر، فيصح ان تكون مجرى الأصل، ولا يمنع منه عدم
تسمية الجزئية حكما شرعيا، إذ لا يعتبر ذلك في مجرى الأصل، بل المعتبر ما
عرفت من كونه بيد الشارع وهو كذلك.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 91 - 92 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
143

واما ما كان دخيلا في التكليف، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه لعدم
كونه بيد الشارع ولو بالتبع كما عرفت، ولا يترتب عليه شرعا حكم شرعي، إذ
التكليف وان كان مترتبا عليه الا انه ليس بترتب شرعي. هذا ما أفيد في
الكفاية. (1).
ولكن الحق انه لا مجال لجريان الاستصحاب في مثل الجزئية مما كان
منتزعا عن التكليف ومجعولا بالتبع، لان وصول النوبة إلى اجراء الأصل في
الجزئية وجودا أو عدما انما هو فيما إذا لم يكن منشأ انتزاعها - وهو الامر النفسي
المتعلق بالكل - مجرى للأصل، لقصور في المقتضي أو لوجود المانع، كما في موارد
دوران الامر بين الأقل والأكثر وعدم انحلال العلم الاجمالي فيه، كما هو مبنى
صاحب الكفاية، إذ أصالة عدم الامر بالأكثر معارضة بأصالة عدم الامر بالأقل.
واما مع امكان جريان الأصل فيه، فلا مجال للأصل في الجزئية.
وعليه، فنقول: ان الامر الانتزاعي حيث إنه لا وجود له الا في ضمن
منشأ انتزاعه ولا مطابق له خارجا سواه، والا فهو أشبه بالفرض، فلا يقبل
الجعل وجودا وعدما الا بلحاظ تعلق الجعل وعدمه بمنشأ انتزاعه، والمفروض انه
- أي منشأ الانتزاع - لا يصح أن يكون مجرى للأصل وللتعبد.
والا استغني بالتعبد به عن التعبد بما ينتزع عنه.
هذا إذا كان مفاد دليل الاستصحاب هو التعبد ببقاء المتيقن.
واما إذا كان مفاده هو معاملته معاملة البقاء من دون تقيد للتعبد به، بل
هو ارشاد اما إلى التعبد به كما لو كان حكما، أو إلى التعبد بأثره كما لو كان
موضوعا، فقد يقال إنه يشمل الجزئية ويكون مقتضاه وقوع التعبد بما يلازمها،
وهو منشأ انتزاعها.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 403 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
144

لكن نقول: ان الأصل العملية لا يصح ان تجري الا فيما ترتب على
جريانها أثر عملي بحيث تنفع المكلف في مقام عمله.
ولا يخفى انه لا ثمرة عملية تترتب على جعل الجزئية - بما هي - وجودا
وعدما. وانما الأثر العملي العقلي يترتب على الامر النفسي المتعلق بالمجموع،
وهو منشأ انتزاع الجزئية، فإنه يختلف حكم العمل باختلاف سعة دائرة شموله
وضيقها.
اما الجزئية - بعنوانها -، فلا اثر يترتب عليها أصلا، فلا مجال لجريان
الأصل فيها وان فرض كونها مستقلة في الوجود عن منشأ انتزاعها. وبعبارة
أخرى: ان الأثر العملي لا يرتبط بها بأي ارتباط كي يكون ترتبه ابقاء لها عملا
فلا يشملها الامر بالابقاء عملا، وليس الامر في الموضوع الشرعي كذلك، فان
ما يترتب على الحكم من أثر يعد ابقاء له عملا كما هو واضح.
وإذا عرفت ذلك، يظهر انه لا قيمة - بلحاظ ما هو المهم فيما نحن فيه -
في اثبات كون الشرطية انتزاعية كالجزئية ومجعولة بالتبع مثلها، أو واقعية غير
مجعولة، لأنها على كلا التقديرين لا تكون مجرى للأصل.
واما ما هو الدخيل في التكليف كالسببية، فهو مما لا مجال لجريان الأصل
فيه أيضا، سواء كان مجعولا أو غير مجعول، وذلك لان الشك فيه اما حدوثا بان
يشك بان هذا سبب يتوقف على حدوثه حدوث التكليف، بحيث إذا نفينا سببيته
ثبت التكليف قبل تحققه لعدم ارتباطه به، كما لو شك بان وجوب الظهر منوط
بالزوال أو لا، واما بقاء بان يشك في إناطة التكليف به بقاء، بحيث إذا نفينا
سببيته بقاء يبقي التكليف كما لو شك بعد زوال العلم عن العالم في أن عنوان
العالم موضوع للتكليف حدوثا أو حدوثا وبقاء.
اما الأول: فلا مجال لجريان حديث الرفع لمنافاته للامتنان.
واما الاستصحاب، فهو وإن لم يكن فيه محذور من هذه الجهة، لكنه لا
145

اثر له عملي، فالمرجع هو استصحاب عدم التكليف قبل حدوث السبب
المشكوك، أو أصالة البراءة منه.
واما الثاني: فاستصحاب السببية لا اثر له عملا كما عرفت، إذا الأثر
العملي يترتب على نفس التكليف المنوط بالسبب. فالمتعين اجراء الأصل في
منشأ انتزاعه لو كان جاريا في حد نفسه.
والذي يتلخص: ان البحث عن مجعولية السببية وعدمها، وهكذا الجزئية،
مما لا قيمة له من الناحية العملية التي نتوخاها في باب الاستصحاب. نعم هو
بحث علمي يترتب عليه فائدة علمية.
واما النحو الثالث - وهو ما جعل استقلالا وان أمكن جعله تبعا -: فقد
جعل من مصاديقه الحجية والقضاوة والحرية والملكية والزوجية، وقد التزم بأنها
مجعولة بالاستقلال كالتكليف، وليست منتزعة عنه - كما يراه. الشيخ (1) (رحمه
الله) -.
وقد استدل على ذلك بوجوه عديدة:
الأول: انه من الضروري صحة انتزاع الملكية بمجرد تحقق العقد ممن
بيده الاختيار بلا ملاحظة ترتب التكاليف والآثار، بل مع الغفلة عن ذلك، مثل
هذا لا يصح لو كانت أمورا انتزاعية عن التكليف.
الوجه الثاني: انه يلزم من كونها انتزاعية أن لا يقع ما قصد ويقع ما لم
يقصد، وهو مناف لتبعية العقود للقصود. بيان ذلك: ان المنشئ للبيع - مثلا -
يقصد بانشائه وقوع التمليك لا أمر آخر، فإذا لم تترتب الملكية اعتبارا على
قصده، بل ترتب التكليف الذي ينتزع عنه الملكية، كان هذا مستلزما لوقوع ما
لم يقصد وقصد ما لم يقع.

(1) لأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 351 - الطبعة الأولى.
146

الوجه الثالث: انه لا يصح دعوى أن الملكية منتزعة عن جواز التصرف
بالمال لثبوت الجواز مع عدم الملكية قطعا، كما في الولي على المال أو المأذون
بالتصرف.
وهذه الوجوه ذكرها في الكفاية (1).
الوجه الرابع: انه ليس في الأحكام الوضعية ما يختص بحكم تكليفي لا
يشاركه فيه غيره، فكيف يكون منشأ لانتزاعه بخصوصه؟ ودعوى: ان الحكم
الوضعي ينتزع عن جملة من الأحكام التكليفية التي بجملتها تختص به. كما
ترى، مع أن هذا أيضا لا يمكن في بعض المقامات، فان الحجية والطريقية من
الأحكام الوضعية التي ليس في موردها حكم تكليفي قابل لانتزاع الحجية منه.
وهذا الوجه ذكره المحقق النائيني (2).
الوجه الخامس: ما ذكره المحقق العراقي من أن ظواهر الأدلة لا تساعد
على دعوى الانتزاع، لأنه قد اخذت فيها هذه الأمور الوضعية موضوعا
للأحكام التكليفية، مثل ما دل على حرمة التصرف بمال الغير بغير طيب نفسه (3)،
وما دل على سلطنة الناس على أموالهم (4). وهذا يقتضى كون الإضافة في مرتبة
سابقة على الحكم فكيف يكون الحكم منشئا لانتزاعها (5).
أقول: البحث في مجعولية هذه الأمور.
تارة: ينظر فيه مقام الاثبات، بحيث تكون معقولية تعلق الجعل
الاستقلالي بها مفروغا عنها ولا كلام فيها وانما الكلام في الدليل عليه.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 402 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 387 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) وسائل الشيعة 3 / 424 باب 3 من أبواب المصلي حديث 1.
(4) عوالي اللئالي 1 / 222 ح 99.
(5) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 103 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
147

وهذا ما نهجه الاعلام (قدس الله سرهم)، فان الذي يظهر منهم
المفروغية عن الامكان الثبوتي، وذكروا البحث على مقام الاثبات.
وقد عرفت مجموع الوجوه التي ذكرت بهذا الصدد، وهي بمجموعها
توجب حصول الاطمئنان بتعلق الجعل الاستقلالي بهذه الأمور، وان أمكن
البحث في كل وجه وجه إذا بنينا على التدقيق.
وأخرى: ينظر فيه مقام الثبوت، وانه هل يعقل تعلق الجعل الاستقلالي
بهذه الأمور أو لا؟.
وهذا ما لم يتعرض إليه الاعلام ولم يشيروا إليه بقليل ولا كثير، بل فرضوا
الامكان مفروغا عنه - كما عرفت -.
لكن يجول في الذهن من القديم اشكال ثبوتي ومحصله: ان تعلق الاعتبار
العقلائي أو الشرعي بامر انما هو لاجل ترتيب الآثار العقلائية أو الشرعية، والا
فهو بنفسه بلا ملاحظة اثر عملي لغو لا يصدر من العاقل الحكيم.
وعليه، نقول: انه حين اعتبار الملكية عند تحقق سببها كعقد البيع، اما ان
يتعلق اعتبار آخر بآثارها التكليفية كجواز التصرف بالمال وحرمة تصرف غيره
فيه بدون اذنه وغير ذلك، أولا يتعلق اعتبار آخر بآثارها.
فعلى الأول: يكون اعتبار الملكية مما لا حاجة إليه، إذ يمكن تعلق
الاعتبار رأسا بالاحكام التكليفية عند حصول العقد بلا حاجة إلى توسيط
اعتبار الملكية.
وعلى الثاني: يلزم أن لا يترتب أي اثر تكليفي على اعتبار الملكية، إذ
الأحكام التكليفية لا تترتب قهرا من دون اعتبار.
فيكون جعل الملكية لغوا على كلا التقديرين، والاشكال ههنا نظير ما
تقدم من الاشكال في تعلق الجعل الاستقلالي بالسببية.
ومحصله: ان اعتبار الامر الوضعي لا يغني بنفسه عن اعتبار الحكم
148

التكليفي المفروض ترتبه عليه، ومع اعتبار الحكم التكليفي لا حاجة إلى جعل
الحكم الوضعي.
ويمكن الجواب عن هذا الاشكال: بان الملكية والزوجية ونحوهما ليست
من المجعولات الشرعية التأسيسية، بل هي من المجعولات الامضائية، بمعنى
انها مجعولة لدى العقلاء والشارع أمضى اعتبارهم.
ومن الواضح انه ليس لدى العقلاء احكام تكليفية من وجوب وتحريم،
بل ليس لديهم الا الحكم بالحسن والقبح، وهما يتفرعان على الظلم وعدمه،
والظلم لديهم هو التعدي عن الحقوق الثابتة لديهم. وعليه فقبح التصرف بالمال
لديهم وحسنه يتفرعان على أن يكون التصرف تعديا عن الحق وعدم كونه كذلك،
هذا يتوقف على اعتبار ملكية المتصرف وعدمها.
وكيف كان، فليس لديهم اعتباران ومجعولان، بل لديهم اعتبار واحد يتعلق
بالملكية ويترتب عليه حكمهم بالحسن والقبح. واعتبارهم للملكية لاجل تحقيق
موضوع التحسين والتقبيح، هذا شان العقلاء.
واما الشارع، فهو قد أقر العقلاء على اعتبارهم الملكية وليس لديه جعل
جديد، ورتب على ذلك احكاما تكليفية من وجوب وحرمة وغيرهما نسبتها إلى
الملكية نسبة الحسن والقبح اللذين يحكم بهما العقلاء، فالملكية العقلائية التي
أقرها الشارع هي موضوع احكامه التكليفية ودخيلة في تحققها، وفي مثل ذلك
لا محذور من لغوية أو غيرها.
اذن، فلا مانع من الالتزام بمجعولية مثل الملكية بعد أن كان مقام
الاثبات يساعد عليه.
ثم إنه وقع الكلام في بعض الأمور الوضعية، وانها مجعولة أو ليست
بمجعولة كالصحة والفساد، والطهارة والنجاسة، ولا بأس بالتكلم عنها بنحو
مختصر، فنقول:
149

اما الصحة والفساد فقد تقدم البحث عن تعلق الجعل بهما في مبحث
اقتضاء النهي الفساد بنحو مفصل فلا نعيد.
واما الطهارة والنجاسة، فقد ذهب بعض إلى انهما أمران واقعيان كشف
عنهما الشارع.
ولكن الصحيح خلافه، وذلك لان مرجع هذه الدعوى إلى كون الطهارة
والنجاسة هي الاستقذار العرفي وعدمه، لا انهما موجودان بوجود واقعي مع قطع
النظر عن النظر العرفي إذ الاستقذار امر عرفي، ولذا قد تختلف فيه الطبائع.
وعليه، نقول: ان من النجاسات شرعا ما يقطع بعدم جهة واقعية فيه
بحيث يختلف واقعا بلحاظ حالتي طهارته ونجاسته، كالكافر، فإنه من المقطوع
ان إظهار الشهادتين ليس له دخل واقعي في جسم الكافر بحيث يصير طاهرا
به بعد أن كان نجسا وأوضح من هذا مثالا ابن الكافر الذي ينجس ويطهر
بتبعية أبيه، مع أنه من المعلوم عدم تأثير اسلام أبيه وكفره في بدنه. كما أن من
الأجسام الطاهرة ما هو قذر جزما كلعاب الفم وماء الانف وغير ذلك. اذن فبين
ما هو قذر عرفا وليس بقذر، وما هو قذر شرعا وليس بقذر، عموم من وجه، فلا
يمكن ان يقال ان الطهارة والنجاسة أمران واقعيان كشف عنهما الشارع، بل هما
اعتباريان يتعلق بهما الجعل ويترتب عليهما احكام شرعية.
150

تنبيهات الاستصحاب
التنبيه الأول: في جريان الاستصحاب في مؤدى الامارات.
وهذا التنبيه انفرد به صاحب الكافية عمن قبله، ومنشأ الاشكال في
إجراء الاستصحاب فيما قامت الامارة على حدوثه هو: ان ظاهر دليل
الاستصحاب هو اعتبار اليقين بالحدوث والشك في البقاء، والحكم الواقعي الذي
قامت عليه الامارة لا يقين به، فمع الشك في بقائه لا يمكن استصحابه لاختلال
أحد ركني الاستصحاب. مثلا لو قامت الامارة على وجوب احترام زيد وشك في أن
وجوب احترامه مستمر إلى ثلاثة أيام أو هو ثابت في يومين. فقط، ففي اليوم
الثالث يشك في بقاء الوجوب، والامارة لا تصلح لاثباته لأنها مجملة من هذه
الناحية، فليس هنا الا الاستصحاب وقد عرفت الاشكال فيه.
ولا يخفى عليك ان مبنى الاشكال على عدم قيام الامارة - بدليل
اعتبارها - مقام القطع الموضوعي. وإلا فلا اشكال، إذ الأثر الشرعي الثابت
لليقين بالحدوث، وهو حرمة النقض، ثابت للامارة بحسب الفرض، فقيام الامارة
على الحدوث يجدي في الاستصحاب لأنها بمنزلة اليقين.
واما بناء الاشكال على عدم تكفل دليل الاعتبار جعل المؤدى وانشاء
احكام ظاهرية شرعية، بل تكفله التنجيز والتعذير لا غير - كما يظهر من
الكفاية -، فليس بسديد، وذلك لان الحكم الظاهري الثابت يقينا بالامارة ارتفع
يقينا بارتفاع سببه، وهو الامارة، فإنه منوط بقيامها، وهي لم تقم على أكثر من
زمان اليقين، والحكم الواقعي مشكوك الحدوث بحسب الفرض، وسيأتي توضيح
الكلام في ذلك انشاء الله تعالى.
151

وبالجملة: مبنى الاشكال ما عرفت من عدم قيام الامارة مقام القطع
الموضوعي.
وقد أجيب عنه بوجوه:
الوجه الأول: ما افاده في الكفاية من: ان دليل الاستصحاب يتكفل
التعبد بالبقاء على تقدير الحدوث، فنظره إلى بيان بقاء الحادث، وان الحادث يدوم
بلا خصوصية لليقين به، بل لو حظ طريقا إلى متعلقه. وبعبارة أخرى: ان دليل
الاستصحاب يتكفل جعل الملازمة الظاهرية بين الحدوث والبقاء وان كان ما هو
حادث باق تعبدا، فالحدوث أخذ موضوعا للتعبد بالبقاء، واليقين لو حظ طريقا
لاحراز الموضوع، كاليقين بسائر موضوعات الاحكام، فالمجعول هو البقاء على
تقدير الحدوث واقعا.
وعليه، فإذا قامت الامارة على الحدوث كانت حجة على البقاء كما هي
حجة على الحدوث، نظير سائر الامارات القائمة على الموضوعات، فإنها تكون
حجة على الحكم المترتب عليها، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنه بعد أن كان
المجعول هو البقاء ظاهرا على تقدير الحدوث واقعا، كان الحدوث الواقعي
موضوعا للحكم الظاهري بالبقاء، فإذا قامت الحجة على الحدوث كانت حجة
على حكمه واثره وهو البقاء الظاهري، فتكون الامارة مثبتة لموضوع الحكم
الاستصحابي. هذا ما افاده في الكفاية بتوضيح منا (1).
وقد أورد عليه إيرادات عديدة:
الايراد الأول: انه لا تصل النوبة إلى هذا الكلام، لان دليل اعتبار
الامارة يتكفل جعل الطريقية والوصول والمحرزية، فهو يعتبر الامارة علما.
وعليه فيترتب عليها جميع آثار العلم العقلية والشرعية، ومنها التعبد بالبقاء،

(1) الخراساني المحقق محمد كاظم. كفاية الأصول / 405 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
152

فيندفع الاشكال بحذافيره.
وفيه: أولا: ان هذا الايراد مبنائي لا يمكن ان يلزم به مثل صاحب الكفاية
ممن لا يرى جعل الطريقية.
وقد عرفت أن أصل الاشكال في استصحاب مؤدى الامارة مبني على عدم
الالتزام بقيام الامارة مقام القطع الموضوعي، فدبر.
وفيه ثانيا: انه لو التزم بجعل الطريقية والوسطية في الاثبات فلا ينفع،
وذلك لان غاية ما يجدي هذا الالتزام هو امكان قيام الامارة مقام القطع
الموضوعي، وترتب جميع الآثار المترتبة على العلم - عقلية أو شرعية - عليها،
واندفاع المحذور الثبوتي في الالتزام بقيامها مقام القطع الموضوعي والطريقي
بناء على جعل المؤدى الذي تقدم البحث فيه في مباحث القطع.
ولكن مجرد امكان ذلك ثبوتا لا ينفع ما لم يساعد عليه مقام الاثبات. وهو
قاصر عن إفادة تنزيل الامارة منزلة القطع في جميع آثاره أو اعتبار الامارة علما
بلحاظ مطلق آثار العلم، إذ ليس لدينا - في باب خبر الواحد مثلا - دليل لفظي
بلسان: " ان خبر الواحد علم " ونحوه من التعبيرات حتى يؤخذ باطلاقه، ويلتزم
بترتب جميع آثار العلم عليه، بل عمدة الأدلة هو السيرة العملية القائمة على
حجية الخبر، والقدر الثابت منه هو ترتيب آثار العلم العقلية من تنجيز وتعذير
على خبر الواحد، وليس في الأحكام العقلائية ما هو مرتب على اليقين بعنوانه
كي يرى ان السيرة قائمة على معاملة خبر الواحد معاملة اليقين بالنسبة إليه أو
ليست قائمة على ذلك، ومثل ذلك النصوص التي استدل بها على حجية الخبر
- بناء على دلالتها -، فان قوله (عليه السلام) - في العمري وابنه -: " ما أديا عني
فعني يؤديان " (1) ظاهر في اثبات التنجيز والتعذير لخبرهما كما لا يخفى. اذن فمن

(1) وسائل الشيعة 18 / 99 باب 11 من أبواب صفات القاضي حديث 4.
153

أين نجزم بان الشارع قد اعتبر الامارة علما بلحاظ جميع آثار العلم كي نلتزم
بقيامها مقام القطع الموضوعي؟!.
وبالجملة: ما أفيد في هذا الوجه مضافا إلى كونه مبنائيا لا ينفع القائل
بالمبنى المزبور، فلا حظ.
الايراد الثاني: ان الملازمة كالسببية مما لا تنالها يد الجعل الشرعي، فلا
يتجه الالتزام بان المجعول في باب الاستصحاب هو الملازمة بين الحدوث والبقاء.
وفيه: ان المقصود - كما أوضحناه - ليس جعل الملازمة بعنوانها، بل هو
جعل واقع الملازمة، أعني البقاء في فرض الحدوث بحيث يكون الحدوث ملحوظا
موضوعا للتعبد بالبقاء، فالمتعبد به هو البقاء على تقدير الحدوث، وينتزع عن
ذلك جعل الملازمة، نظير جعل كل حكم مرتب على موضوعه فإنه ينتزع عنه
الملازمة بين الموضوع والحكم. فتدبر.
الايراد الثالث: ان الملازمة المجعولة واقعية، إذ لو كانت ظاهرية كانت
مترتبة على الشك، وكان الشك مأخوذا في موضوعها، وهو غير موجود، لأنه مع
الشك في الحدوث يمتنع الشك في البقاء بل هو متفرع على احراز الحدوث. نعم
مع الشك في الحدوث يكون الشك في البقاء تقديريا ومعلقا على الحدوث، بمعنى
انه يشك في البقاء على تقدير الحدوث، وإذا لم تكن الملازمة ظاهرية، بل كانت
واقعية كان مقتضى ذلك أن يكون الاستصحاب من الامارات كسائر الأدلة
المتكفلة للاحكام الواقعية.
وفيه: ان الشك له وجودا فعلي، وانما التعليق في متعلقه، فالشك فعلا ثابت
ومتعلق بالبقاء على تقدير الحدوث، فيكون التعبد بالبقاء تعبدا ظاهريا لا
واقعيا.
وقد أشار المحقق الأصفهاني إلى وضوح هذا الامر بنحو لم ير صاحب
154

الكفاية داعيا إلى بيانه (1).
وهذه الايرادات الثلاثة على الكفاية ذكرها المحقق النائيني (رحمه
الله) (2).
الايراد الرابع: ما ذكره المحقق الأصفهاني (رحمه الله) من: ان دليل
الاستصحاب إذا كان يتكفل التعبد على تقدير الحدوث واقعا، ففيما لو
تيقن بالحدوث وشك بالبقاء واجري الاستصحاب، ثم انكشف لديه ان يقينه
كان جهلا مركبا، لزم أن لا يكون هناك تعبد استصحابي حقيقة بل تخيلا، وهذا
مما لا يلتزم به. بخلاف ما لو كان الموضوع هو اليقين بالحدوث، فإنه حاصل في
ظرفه وان تبدل بعد ذلك إلى غيره (3).
أقول: ليس في الالتزام بعدم ثبوت الاستصحاب الا تخيلا في الصورة
المزبورة اي محذور، ولم يظهر ان الالتزام بالاستصحاب فيها من المسلمات التي
لا تقبل الانكار، فليس هذا من اللوازم الباطلة التي تقتضي بطلان ملزومها،
فتدبر.
ثم إنه (قدس سره) خص الاشكال بصورة ثبوت المستصحب واقعا في
مرحلة البقاء. ولم نعلم وجه دخله في الاشكال، فسواء كان المستصحب موجودا
واقعا أو غير موجود يرد الاشكال المذكور من كون التعبد الاستصحابي تخيلا
على مبنى صاحب الكفاية، فلا حظ.
الايراد الخامس: ما ذكره المحقق الأصفهاني (رحمه الله) أيضا من: ان
الاستصحاب بما أنه حكم طريقي مجعول بلحاظ تنجيز الواقع، فهو يتقوم
بالوصول، إذ قوام التنجيز بالوصول ولا يعقل تحققه بدون الوصول. وعليه فمع

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 67 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 407 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 66 - الطبعة الأولى.
155

الجهل بموضوع الحكم بالبقاء وهو الحكم الاستصحابي لا يكون له ثبوت واقعي
كي يقبل ان يقوم عليه المنجز بواسطة قيامه على الموضوع، فالالتزام بان الامارة
القائمة على الحدوث تتكفل تنجيز الحكم الظاهري بالبقاء كما تتكفل تنجيز
الحكم حدوثا ليس بسديد، فان الحكم الذي حقيقته التنجيز لا يقبل التنجيز
بمنجز آخر (1).
وفيه: ان الملتزم في الأحكام الظاهرية ليس كون حقيقتها هو المنجزية
بحيث تكون المنجزية متعلقة للجعل ابتداء، بل هي احكام وانشاءات لو حظ
فيها تنجيز الواقع والتحفظ على مصلحة الواقع من دون ان تكون هناك مصلحة
في المؤدى، فالتنجيز ملحوظ غاية لا انه مجعول ابتداء.
وعليه، فعدم وصول الحكم الظاهري الطريقي وان امتنع معه تحقق
التنجيز، لكن لا يتنافى مع وجوده واقعا، فان له واقعا محفوظا يكون موردا للعلم
والجهل، وعليه فلا مانع من تنجيزه بالامارة القائمة على موضوعه. فتدبر.
والمتحصل: ان ما وجه من الايرادات على صاحب الكفاية قابل للدفع
بأجمعه، وان ما ذكره صاحب الكفاية لا محذور فيه.
نعم، يبقى سؤال واحد وهو: ان ما افاده لا يساعده مقام الاثبات وان
كان خاليا عن الاشكال في مقام الثبوت، لان ظاهر دليل الاستصحاب كون
موضوع التعبد هو اليقين، فكيف يلغى عن الموضوعية ويدعى ان نفس الحدوث
هو الموضوع؟.
والجواب عن ذلك واضح على ما التزم به صاحب الكفاية ووافقناه عليه
من أن اليقين ههنا لوحظ مرآة لمتعلقه وان المراد به هو المتيقن، نظير: " صم
للرؤية وافطر للرؤية " في عدم كون الرؤية بما هي موضوعا. وقد أوضحناه فيما

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 67 - الطبعة الأولى.
156

تقدم عند الكلام في صحيحة زرارة الأولى فراجع.
وعليه، فالوجه الأول في حل اشكال جريان الاستصحاب في مؤدى
الامارات، وهو ما افاده في الكفاية لا اشكال فيه ثبوتا ولا اثباتا.
الوجه الثاني: ان موضوع التعبد بالبقاء ليس هو الحدوث كما هو مبنى
الوجه الأول الراجع إلى إلغاء اليقين عن الموضوعية بالمرة، بل هو اليقين لكن لا
بوصف كونه يقينا، بل بما أنه منجز للواقع وحجة عليه، فيكون موضوع التعبد
هو الحجة على الواقع، وهي جهة جامعة بين اليقين وغيره من الحجج العقلائية
والشرعية، فإذا قامت الامارة على الحدوث فقد تحقق موضوع التعبد بالبقاء
تكوينا وهو الحجة على الواقع، فلا مجال للاشكال.
وهذا الوجه ان تم فهو أقرب - اثباتا - من الوجه الأول، لا نفيه تحفظا
على موضوعية اليقين في الجملة - كما عرفت -. وتماميته تتوقف على إقامة القرينة
على إرادة بما هو حجة لا بما هو، قربناه في محله، وسيأتي الكلام فيه في مبحث
الحجة من اليقين الناقض كما قربناه في محله، وسيأتي الكلام فيه في مبحث
حكومة الامارة على الاستصحاب انشاء الله تعالى فانتظر.
الوجه الثالث: انه بناء على تكفل دليل الاعتبار جعل المؤدى، فبقيام
الامارة يثبت حكم ظاهري، وبما أنه يحتمل كونه مطابقا للواقع، فمع انتهاء حد
قيام الامارة يحتمل بقاء الحكم فيستصحب.
وهذا الوجه غير صحيح، وذلك لأنه من القسم الثالث من استصحاب
الكلي، إذ الحكم بوجوب الاحترام - مثلا - كان متيقنا في ضمن الفرد الظاهري
وهو مؤدى الامارة وهو قد زال قطعا بزوال الامارة، ويحتمل بقاء الكلي لاحتمال
وجود الحكم الواقعي مقارنا للحكم الظاهري، وفي مثل ذلك لا يجري
استصحاب كلي الحكم كما قرر في محله.
الا ان يقال: ان الحكم الظاهري على تقدير مصادفته للواقع هو عين
157

الحكم الواقعي وليس فردا في قباله. نعم على تقدير مخالفته له يكون حكما
مستقلا.
وعليه، فمع احتمال المصادفة يتردد امر الحكم المتحقق بين الفرد المقطوع
الارتفاع وهو الظاهري وبين الفرد المحتمل البقاء وهو الحكم الواقعي، فيكون
من موارد القسم الثاني من استصحاب الكلي، والمحقق جريانه.
ويندفع ذلك بأنه يبتني على مقدمتين:
إحداهما: الالتزام بعدم جعل حكم ظاهري غير الحكم الواقعي على
تقدير المصادفة، بحيث يتكفل دليل الحجية انشاء الحكم جدا على تقدير دون
آخر.
والأخرى: وجود اثر عملي على الجامع بين الحكم الواقعي والظاهري،
كي يصح بلحاظه استصحاب الكلي.
وكلتا المقدمتين ممنوعتان:
اما الأولى، فلانه لا محصل لدعوى أن دليل الحجية يتكفل الانشاء
الجدي على تقدير والانشاء غير الجدي على تقدير آخر.
واما الثانية: فلانه لا اثر للحكم الظاهري بما هو من لزوم الامتثال وغير
ذلك.
وعليه، فلا يتصور اثر مترتب على الجامع بين الحكمين.
والى بعض ما ذكرناه أشار المحقق العراقي (قدس سره) (1).
والذي يتحصل: ان المتعين في دفع الاشكال المتقدم أحد الوجهين: الأول
والثاني، واما غيرهما فليس بتام والله سبحانه العالم.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 108 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
158

التنبيه الثاني: في استصحاب الكلي.
لا يخفى انه لا يختلف الحال - بملاحظة دليل الاستصحاب بين كون
المستصحب أمرا شخصيا جزئيا وكونه امرا كليا، لاطلاق دليله وعدم الموجب
للتقييد. وهذا مما لا اشكال فيه كبرويا، وانما الاشكال والكلام في بعض مصاديق
استصحاب الكلي ولأجله عقد هذا التنبيه في مباحث الاستصحاب.
وقد ذكر للاستصحاب الكلي أقسام ثلاثة:
القسم الأول: ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد ثم يشك في بقاء الكلي
للشك في بقاء ذلك الفرد الذي تحقق في ضمنه.
القسم الثاني: ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد مردد بين طويل العمر
وقصيره ثم يشك في بقاء الكلي بعد مضي مقدار عمر القصير للشك في أن الحادث
هو الطويل المقطوع البقاء أو القصير المقطوع الارتفاع.
الثالث: ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد ثم يعلم بزوال ذلك الفرد،
ولكنه يشك في بقاء الكلي للشك في حدوث فرد آخر مقارن لزوال الفرد الأول.
وقد زاد البعض قسما وقع محلا للكلام أيضا في مباحث المتأخرين وجعل
في بعض الكتب قسما رابعا وهو: ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد ثم يعلم
بزواله وبعد ذلك يرى فدا معنونا بعنوان يحتمل انطباقه على الفرد الذي علمنا
ارتفاعه ويحتمل انطباقه على فرد آخر، فيلزم من ذلك الشك في وجود الكلي، ومثل
له: بما إذا علمنا بالجنابة ليلة الخميس - مثلا - وارتفعت تلك الجنابة بالغسل، ثم
رأينا المني يوم الجمعة في الثوب، فيحصل العلم بأننا جنب حين خروج هذا المنى،
ولكن نحتمل أن يكون من الجنابة التي اغتسلنا منها ونحتمل أن يكون جنابة
جديدة غيرها (1).

(1) الواعظ الحسيني السيد محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 104 - الطبعة الأولى.
159

وقد وقع الكلام في كل قسم على حدة.
استصحاب الفرد المردد
ولكن قبل الدخول في ذلك يحسن بنا التعرض للبحث عن استصحاب
الفرد المردد فيما كان الحادث مرددا بين الفرد الطويل والقصير، فقد تعرض له
البعض في هذا المقام وله آثار عملية فقهية لا تخفى على من راجع كتب الفقه.
فنقول وعلى الله سبحانه الاتكال: ان الجهة الفارقة بين استصحاب الفرد
المردد واستصحاب الكلي في مورده - بعد الاشتراك في عدم تميز المستصحب
وتعينه في ضمن أحد الفردين المعين -، ان المقصود في استصحاب الكلي ترتيب
الأثر المترتب على العنوان الجامع بين الفردين، كالأثر المرتب على عنوان الحدث
الجامع بين الأصغر والأكبر، مثل حرمة مس كتابة المصحف، والمقصود في
استصحاب الفرد المردد ترتيب الأثر المترتب على كل من الفردين بخصوصيته،
سواء لم يكن للكلي الجامع اثر أو كان ولكن لم يلحظ في الاستصحاب ولم يقصد
ترتيبه.
وكيف كان فقد منع جريان الاستصحاب في الفرد المردد، كالحدث المردد
بين الأصغر والأكبر بعد الوضوء بوجوه - وليعلم ان محل الكلام ما كان يعلم
بارتفاعه على تقدير انه الفرد القصير بحيث يكون فعلا مرددا بين ما هو مقطوع
الارتفاع وما هو مقطوع البقاء، كمثال الحدث المردد بعد الوضوء. فإنه مرتفع
قطعا على تقدير كونه الأصغر، وباق قطعا على تقدير كونه الأكبر -:
الوجه الأول: ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني من عدم تحقق اليقين
بالحدوث المعتبر في الاستصحاب، وذلك لان العلم الاجمالي انما يتعلق بالجامع بين
الفردين بلا سراية له إلى الخارج، فهو علم بالجامع، وشك في كل فرد، فلا يمكن
160

اجراء الاستصحاب لفقدانه ركنه (1).
وهذا الوجه يبتني على ما التزم به من أن العلم الاجمالي يتعلق بالجامع ولا
يسري إلى الخارج. ولكن عرفت فيما تقدم ان العلم الاجمالي وان تعلق بالجامع
لكنه يرتبط بالخارج ويسري إليه، بحيث لو انفتح له باب العلم التفصيلي
لأمكنه أنه يقول هذا هو معلومي بالاجمال. وبعبارة أخرى: انه يعلم بالتفصيل
بوجود ما هو منطبق العنوان الجامع في الخارج، وانما يجهل خصوصيته وما يميزه
عن الفرد الاخر، فقد يسمع كلاما من متكلم يتردد امره بين زيد وعمرو، فهو
قد تعلق علمه بشخص جزئي وهو المتكلم - إذ التكلم لا يصدر الا من فرد جزئي
-، لكنه يتردد بين شخصين لدى العالم نفسه لجهله بما يميز زيد عن عمرو أو
لجهله بأنه واجد لمميزات زيد أو مميزات عمرو.
وبالجملة: المعلوم بالاجمال له وجود واقعي معين، وانما التردد لدى العالم
نفسه في كونه هذا أو ذاك فلدينا علم تفصيلي بالوجود الشخصي، لكن بنحو
مجمل وهذا ما يجعله علما اجماليا. اذن فالفرد الواقعي على واقعه المردد بين فردين
خاصين، يكون متعلقا للعلم بهذا المقدار لا أكثر، فيكون مجرى للاستصحاب
بهذا المقدار.
وقد عرفت أن هذا العلم بهذا الحد علم تفصيلي لكن المعلوم محدود، فلا
اثر لدعوى أن المراد باليقين في باب الاستصحاب هو خصوص اليقين التفصيلي
فلا يشمل اليقين الاجمالي.
مع أن هذه الدعوى ممنوعة أشد المنع بعد فرض شمول مفهوم اليقين
لكلا فرديه التفصيلي والاجمالي، وفرض منجزية العلم الاجمالي كالتفصيلي.
والخلاصة: ان ما افاده (قدس سره) لا يمكن قبوله، وقد مر في بيان

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 71 - الطبعة الأولى.
161

حقيقة العلم الاجمالي ما له نفع في المقام.
الوجه الثاني: ما افاده المحقق النائيني من عدم تحقق الشك في البقاء،
فان الفرد المردد على واقعه غير مشكوك البقاء، لأنه على أحد تقديريه متيقن
الزوال فكيف يقال إنه مشكوك البقاء على واقعه وكلا تقديريه (1)؟.
وقد استشكل المحقق الأصفهاني في هذا الوجه بما توضيحه: ان اليقين
بالفرد المردد من الحدث مرجعه إلى اليقين بموجود جزئي، اما يكون منطبقا
للحدث الأصغر - مثلا - أو منطبقا للحدث الأكبر، ولديه علم بالتلازم بين بقائه
وكونه حدثا أكبر، وحيث يحتمل أن يكون حدثا أكبر، فهو يحتمل البقاء جزما
بعد الوضوء، فكيف ينفي الشك في البقاء (2)؟.
والصحيح هو ما أفاده النائيني (قدس سره)، وتوضيح ذلك: انه لا اشكال
في أن الشخص بعد الوضوء يتحقق لديه شك في بقاء حدثه، وهذا أمر بديهي لا
يقبل الانكار، الا ان هذا الشك لا يجدي في جريان الأصل وذلك لأنه يلزم أن يكون
الشك متعلقا بما تعلق به اليقين.
وليس الامر ههنا كذلك، وذلك لان اليقين قد تعلق بالموجود الشخصي
الذي يشار إليه على واقعه سواء كان حدثا أصغر أم حدثا أكبر، ولا شك - بعد
الوضوء - بذلك الموجود الشخصي المبهم بحيث يمكن الإشارة إليه ويقال انه
مشكوك، لأنه على أحد تقديريه قد زال قطعا، فلا شك فيه على واقعه وعلى ما
هو عليه.
وبالجملة: ما كان متعلقا لليقين وهو الموجود المبهم على ما هو عليه ليس
متعلقا للشك وليس هو مشكوك بهذه الصفة، فلا أستطيع ان أشير إليه وأقول
أنه مشكوك.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 126 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 71 - الطبعة الأولى.
162

واما الشك الفعلي الذي اعترفنا ببداهة وجوده، فهو متعلق - بعد
التحليل - بوجود الفرد الطويل في هذا الآن الثاني لاحتمال حدوثه في الآن
الأول، فان الملازمة بين الحدوث والبقاء فيه توجب التلازم بين احتمال حدوثه
واحتمال بقائه فعلا وعلى تقدير الحدوث، لأنه على تقدير الحدوث متيقن البقاء.
ولكن هذا الشك لا ينفع في جريان الاستصحاب، لأنه فاقد لليقين
بالحدوث، فما يتعلق اليقين بحدوثه لا شك في بقائه. وما يشك في بقائه لا يقين
بحدوثه. فتدبر.
ثم لا يخفى عليك ان ما ذكرناه في تقريب نفي الشك في البقاء انما يتأتى
مع العلم بارتفاع الفرد القصير لو كان هو الحادث، كمثال الحدث المردد بعد
الوضوء.
واما مع الشك في ارتفاع الفرد القصير على تقدير كونه هو الحادث، كما
لو شك في صدور الوضوء منه مثال الحدث المردد، فلا يتأتى البيان المزبور، إذ
الشك يتعلق ببقاء الفرد المردد على واقعه، فيصح ان يقال إنه يشك في بقاء ذلك
الحدث المردد على اي تقدير، فلا بد من التفصيل بين الصورتين من هذه الجهة.
الوجه الثالث: ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره) من عدم تعلق
اليقين والشك بموضوع ذي اثر شرعي لأنه يعتبر في صحة التعبد بشئ تعلق
اليقين والشك به بالعنوان الذي يكون به موضوعا للأثر الشرعي، ولا يكفي
تعلق الشك بغيره من العناوين غير ذات الأثر الشرعي، وبما أن الأثر الشرعي
في أمثال المقام انما هو للمصداق بما له من العنوان التفصيلي، كصلاة الجمعة
وصلاة الظهر، وهو مما لا يمكن إجراء الأصل فيه لعدم اليقين بالحدوث، واما
العنوان العرضي الاجمالي كعنوان الفرد المردد، فهي ليست بذات اثر شرعي
لترتب الآثار الشرعية في أدلتها على العناوين التفصيلية.
ورتب (قدس سره) على ذلك أمرين:
163

أحدهما: عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردد لو كان الشك في
البقاء ناشئا عن الشك في ارتفاع الفرد القصير لو كان هو الحادث، ولا يختص
المنع بصورة العلم بارتفاع القصير لو كان هو الحادث، لاشتراكهما فيما ذكره في
ملاك المنع، وهو عدم الأثر الشرعي للعنوان الاجمالي.
ثانيهما: ان ما ذكره في وجه المنع لا يختص بالاستصحاب بل يعم سائر
الأصول.
وعليه، ففي مثل ما لو صلى عند اشتباه القبلة إلى أربع جهات، وعلم بعد
الفراغ منها بفساد صلاة معينة منها، فلا يجوز الاكتفاء بالصلوات الباقية في
افراغ الذمة، بل تجب إعادة تلك الصلاة، للشك في فساد الصلاة الواقعية منها،
ولا يمكن إجراء قاعدة الفراغ في العنوان المردد منها.
واما لو علم بفساد واحدة مرددة منها، فإنه يمكن إجراء قاعدة الشك
بعد الفراغ في كل واحدة منها بعينها للشك - في صحتها على تقدير كونها إلى
القبلة - فتجرى القاعدة فيها مقيدة بهذا التقدير. ولا ضمير في العلم بمخالفة
أحد هذه الأصول للواقع، لاحتمال كون الفاسدة هي المأتي بها إلى غير القبلة
فلا علم بالمخالفة العملية (1).
وهذا الوجه قابل للرد والمنع، فان ما ذكره من لزوم تعلق اليقين والشك
بالشئ بالعنوان الذي يكون به موضوعا للأثر الشرعي. مجرد دعوى لا نعرف
لها وجها أصلا وهو لم يذكره الا بنحو الدعوى. وذلك لان مقتضى اطلاق دليل
الاستصحاب وغيره من الأصول هو شموله لمطلق موارد عدم العلم، الا انه
حيث إنه يتكفل التعبد بالمشكوك، والتعبد الشرعي لا يمكن ان يتعلق الا بحكم
شرعي أو موضوع ذي حكم قيد بواسطة هذه القرينة الخارجية العقلية بلزوم

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 114 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر
الاسلامي.
164

كون المشكوك حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي. ولا دليل على التقيد بما
ذكره.
وعليه، ففي مورد تعلق اليقين والشك بالفرد المردد إذا كان المورد مما يصح
التعبد به من قبل الشارع بحسب واقعه على ما هو عليه من الترديد لدى
المكلف، لم يكن مانع من شمول دليل الاستصحاب لذلك المورد ولا مقيد له من
الخارج، ويثبت له التعبد بتوسط العنوان الاجمالي المشير إليه. كما لو فرض
اليقين بالحكم المردد بين وجوب الظهر ووجوب الجمعة والشك في بقائه، فإنه
لا محذور في التعبد بذلك الحكم المردد على واقعه، ويترتب عليه أثره العقلي من
لزوم تفريغ الذمة كما في صورة اليقين الاجمالي به.
وعليه، ففي مثال الصلاة الذي ذكره لا مانع من جريان قاعدة الفراغ
في الصلاة الواقعية إلى القبلة للشك في أنها فاسدة من ناحية ترك الركوع أولا،
ولا يمنع ترددها من إجراء قاعدة الفراغ.
هذا مضافا إلى أن المطلوب في باب متعلقات الاحكام هو وجود الطبيعي
بما هو بلا ملاحظة خصوصيات الافراد بالمرة، وليس الحال فيه كالحال في
موضوعات الاحكام الملحوظة بنحو الانحلال وترتب الحكم على كل فرد بما هو
فرد، فالأثر في متعلقات الاحكام لا يترتب إلا على وجود الطبيعي المأخوذ في
متعلق الحكم، وهو فيما نحن فيه متعلق اليقين والشك وإن لم يعلم بالخصوصية
الفردية، فلا مانع من جريان الأصل فيه مع الشك في صحته، فلو فرض - تنزلا -
تمامية ما أفاده كبرويا فانطباقه على مثال الصلاة ونحوه غير واضح.
والمحصل: ان العمدة في المنع عن استصحاب الفرد المردد هو عدم ثبوت
الشك في بقائه. وقد عرفت أن مقتضاه التفصيل بين صورتي الشك في ارتفاع
الفرد القصير على تقدير حدوثه، واليقين بارتفاعه على تقدير حدوثه، فلا يجري
الأصل في الصورة الثانية، ويجري في الصورة الأولى، ويترتب عليه أثره العقلي
165

والشرعي.
هذا تمام الكلام في استصحاب الفرد المردد. ويقع الكلام بعد ذلك في
استصحاب الكلي وقد عرفت أنه على أقسام أربعة:
اما القسم الأول: فهو ما إذ علم بوجود الكلي في ضمن فرد معين ثم
شك في بقاء الكلي للشك في بقاء ذلك الفرد، مثل ما إذا علم بوجود الانسان في
الدار لعلمه بوجود زيد فيها، ثم شك في بقاء زيد في الدار، فيلزم منه الشك في
بقاء الانسان الكلي.
ولا اشكال في جريان الاستصحاب في الكلي لو كان موردا للأثر العملي،
كما لا اشكال في جريان الاستصحاب في الفرد لترتيب أثر الفرد.
نعم، هنا بحث أشار إليه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل (1)
وحققه المحقق الأصفهاني (2).
وهو: انه هل يغني استصحاب الفرد في اثبات أثر الكلي، أو استصحاب
الكلي في اثبات أثر الفرد؟. وهذا البحث لا أثر له عملي فيما نحن فيه لامكان
إجراء الاستصحاب في كل من الفرد والكلي فيترتب عليه الأثر المرغوب، نعم
لهذا البحث اثر فيما يأتي في القسم الثاني الذي لا يمكن اجراء استصحاب الفرد
فيه، فيقال: ان استصحاب الكلي يغني في ترتيب أثر الفرد. ولأجل ذلك لا نوقع
البحث فيه فعلا ونوكله إلى محله.
واما القسم الثاني: فهو ما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد مردد بين
طويل البقاء وقصير البقاء، فيشك في بقاء الكلي بعد مضي زمان الفرد القصير
على تقدير حدوثه للشك في ما هو الحادث، كما لو علم بخروج سائل مردد بين

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول / 202 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 69 - الطبعة الأولى.
166

البول والمني، فقد علم بحصول كلي الحدث لحصول فرده المردد بين الأصغر
والأكبر، فإذا توضأ يتحقق لديه الشك في بقاء كلي الحدث، لاحتمال كون الحادث
هو الأكبر الذي لا يزول بالوضوء.
وقد التزم جمع من الاعلام - كالشيخ (1) والخراساني (2) وغيرهما (3) -
بجريان الاستصحاب في الكلي في مثل ذلك لتمامية أركانه من اليقين بالحدوث،
والشك في البقاء، فيكون مشمولا لاطلاق دليل الاستصحاب، ويترتب على
جريان الأصل في الكلي الآثار المترتبة على وجوده، كحرمة مس المصحف
الشريف في مثال الحدث لترتبها على عنوان المحدث.
وقد يورد على إجراء الاستصحاب في الكلي في مثل ذلك بايرادات:
الايراد الأول: ما ذكره في الكفاية من أن الكلي موجود في ضمن فرده
المردد، وهو على أحد تقديرية مقطوع الارتفاع بالوجدان، وعلى التقدير الاخر
مقطوع العدم بالتعبد فلا شك. بيان ذلك: انه لو كان الفرد المتحقق في ضمنه
الكلي هو الفرد القصير فقد ارتفع قطعا، ولو كان هو الفرد الطويل فهو مشكوك
الحدوث والأصل عدم حدوثه فيثبت عدمه بالتعبد. اذن فالشك منتف بضميمة
الوجدان إلى الأصل والتعبد.
وهذا الايراد - بهذا البيان - واضح الدفع - كما في الكفاية - وذلك بداهة
ان الشك في بقاء الكلي موجود بلا ريب، ومنشؤه احتمال كون الحادث هو الفرد
الطويل، ونفي حدوثه تعبدا لا يرفع الشك وجدانا في بقاء الكلي بل ولا تعبدا -

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 371 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 406 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الواعظ الحسيني محمد سرور: مصباح الأصول 3 / 105 - الطبعة الأولى.
الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 413 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 122 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
167

كما يتضح في رد الايراد الثاني - فلا اختلال في ركني الاستصحاب (1).
الايراد الثاني: ما ذكره الشيخ (2) (رحمه الله) وصاحب الكفاية من: ان
استصحاب الكلي وان كان في حد نفسه جاريا، لكنه مبتلى بالحاكم عليه، وذلك
لان الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل، فأصالة
عدم حدوث الفرد الطويل حاكمة على أصالة بقاء الكلي لحكومة الأصل السببي
على الأصل المسببي.
وقد دفعه في الكفاية بوجوه:
الأول: ان الشك في بقاء الكلي وارتفاعه ليس مسببا عن الشك في حدوث
الفرد الطويل وعدم حدوثه، بل هو مسبب عن الشك في كون الحادث هو الفرد
الطويل ليترتب عليه البقاء أو الفرد القصير ليترتب عليه الارتفاع، فان
الارتفاع في الكلي من آثار ارتفاع الفرد القصير لا من آثار عدم حدوث الفرد
الطويل. ومن الواضح انه لا أصل يعين كيفية الحادث لعدم الحالة السابقة،
وأصالة عدم حدوث الفرد الطويل لا تعين ان الحادث هو القصير الا بالملازمة.
الوجه الثاني: ان بقاء الكلي بعين بقاء الفرد الطويل لا من لوازمه، لان
وجود الكلي بعين وجود افراده وليس له وجود منحاز عن وجود افراده.
الوجه الثالث: انه لو سلم كون بقاء الكلي مسببا عن حدوث الفرد
الطويل، فلا ينفع في الحكومة المدعاة، إذ الحكومة تتوقف على أن يكون اللزوم
والسببية شرعية ناشئة من جعل الشارع أحد الامرين أثرا للاخر وحكما له.
ومن الواضح ان الملازمة بين بقاء الكلي وحدوث الفرد لو سلمت فهي عقلية لا
شرعية، فلا تصحح دعوى الحكومة (3).

(1) (3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 406 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 371 - الطبعة الأولى.
168

وقد زاد المحقق النائيني وجها رابعا وهو: ان الأصل السببي المفروض في
المقام مبتلي بالمعارض. وذلك لمعارضة أصالة عدم حدوث الفرد الطويل بأصالة
عدم حدوث الفرد القصير، ومع التعارض يكون الأصل المسببي جاريا لعدم
نهوض ما يصلح للحكومة عليه (1).
أقول: اما الوجه الأول الذي أفاده في الكفاية، ويظهر أيضا من عبارة
الشيخ (رحمه الله) فقد يورد عليه: بأنه يبتني على ملاحظة البقاء والارتفاع طرفي
شك واحد، فالشك في البقاء أو الارتفاع - فان الشك ذو طرفين -، فيقال انه
ناش من الشك في كون الحادث هو الفرد الطويل أو القصير، ولكن هذا بلا ملزم،
إذ المأخوذ في الاستصحاب هو الشك في البقاء وعدمه، فيكون الطرف الاخر هو
عدم البقاء لا الارتفاع. ومن الواضح ان البقاء وعدمه يترتبن على حدوث الفرد
الطويل وعدمه، فأصالة عدم الفرد الطويل تثبت أحد طرفي الشك وهو عدم
البقاء فيلغى تعبدا.
وبالجملة: لدينا شكان تعلق أحدهما بالبقاء وعدمه، الاخر بالارتفاع
وعدمه، وموضوع الأصل في الكلي هو الأول، وهو محكوم لأصالة عدم حدوث
الفرد الطويل.
وهذا الايراد لا بأس به، لكن للمنع عنه مجال وذلك، لان دليل
الاستصحاب لم يتكفل التعبد بالبقاء بعنوانه، وانما التعبير بذلك ورد في كلمات
الأصحاب واما دليل الاستصحاب فهو يتكفل التعبد بالبقاء بعنوان عدم
النقض، وهو عدم رفع اليد. ومن الواضح ظهور ذلك في اخذ الشك في الارتفاع
في موضوع التعبد، لظهور الدليل في تكفله إلغاء أحد طرفي الشك واثبات
الطرف الاخر، فموضوع الاستصحاب اخذ فيه الشك في الارتفاع لا مجرد عدم

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 418 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
169

البقاء فلا حظ وتدبر.
واما الوجه الثاني المذكور في الكفاية، فقد أورد عليه: بأنه من قبيل الفرار
من المطر إلى الميزاب، فان أصالة عدم حدوث الفرد الطويل لو كانت مانعة عن
استصحاب الكلي بناء على السببية، فهي مانعة بطريق أولى على القول بالعينية،
فالاشكال على هذا القول اكد منه على القول بالسببية.
ولكن الذي يبدو لنا عدم ورود هذا الايراد عليه، وانه ناش عن الغفلة
عن خصوصية في كلامه، وذلك لأنه (قدس سره) لم يدع وحدة بقاء الكلي مع
حدوث الفرد الطويل والعينية بينهما، بل ذهب إلى وحدة بقاء الكلي وبقاء فرده. ومن
الواضح ان بقاء الفرد ليس من آثار الحدوث ومسبباته، بل كل منهما تؤثر فيه
علته، وليس الحدوث علة للبقاء بلا ريب، فأصالة عدم الحدوث لا تكون بالنسبة
إلى أصالة بقاء الكلي من قبيل الأصل السببي.
واما الوجه الثالث: فهو مما لا شبهة فيه ولم يتردد فيه أحد، وسيأتي في
مباحث الأصل المثبت وحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ماله نفع في
المقام.
واما الوجه الرابع الذي افاده المحقق النائيني (قدس سره)، فقد أورد
عليه: بان العلم الاجمالي بتحقق الفرد المردد بين القصير والطويل تارة يتحقق
وكلا الفردين داخلان في محل الابتلاء. وأخرى يتحقق واحدهما وهو الفرد
القصير خارج عن محل الابتلاء.
ففي الأول يتعارض الأصلان لمنافاتهما للعلم الاجمالي، الا انه في مثل
ذلك لا حاجة لاستصحاب الكلي لتنجز الآثار الشرعية بواسطة العلم الاجمالي
بلا حاجة إلى الاستصحاب.
وفي الثاني لا اثر للعلم الاجمالي لخروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء،
ويجرى الأصل في الفرد الطويل بلا معارض لخروج الطرف الاخر عن محل
170

الابتلاء، فيعود حديث السببية والحكومة.
فخلاصة الاشكال: انه في المورد الذي يحتاج فيه إلى استصحاب الكلي
لا معارضة بين الأصول الموضوعية. وفي المورد التي تتحقق فيه المعارضة لا يحتاج
فيه إلى استصحاب الكلي، فتدبر.
والمتحصل: ان الايراد الثاني على استصحاب الكلي غير تام.
الايراد الثالث: ان وجود الكلي في ضمن افراده ليس وجودا واحدا، بل
وجودات متعددة بتعدد الافراد، فكل فرد توجد في ضمنه حصة من الكلي غير
الحصة الموجودة بالفرد الاخر.
وعلى هذا الأساس أنكر استصحاب الكلي القسم الثالث على ما يأتي
بيانه انشاء الله تعالى، وملخصه: ان المتيقن من وجود الكلي غير المشكوك.
وعليه، فنقول: ان المستصحب في محل الكلام هو وجود الكلي لا مفهومه
وعنوانه، إذ لا أثر بالنسبة إليه. ومن الواضح ان المتيقن من وجود الكلي مردد
بين الطويل والقصير، فيتأتى ما تقدم من الاشكال في استصحاب الفرد المردد،
من عدم الشك في بقاء ما هو المتيقن، إذ المتيقن المردد غير متعلق للشك على
كل تقدير، إذ هو على أحد تقدير به مقطوع الارتفاع، فلا يمكن ان يشار إلى
الكلي الموجود سابقا ويقال انه مشكوك فعلا، على ما تقدم بيانه، بل الاشكال
من ناحية عدم اليقين بالحدوث - لو سلم - متأت ههنا أيضا، لان وجود الكلي
معلوم اجمالا، فالعلم يتعلق بالجامع بين الوجودين فلا حظ.
نعم، لو كان الاشكال في استصحاب الفرد المردد ما أفاده العراقي (رحمه
الله)، فلا مانع عن اجراء الاستصحاب ههنا لتعلق اليقين والشك بما هو موضوع
الأثر وهو الكلي، فراجع تعرف.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 124 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر
الاسلامي.
171

وبالجملة: الاشكال المختار في الفرد المردد متأت ههنا حرفا بحرف.
ويتفرع على هذا اشكال آخر وهو: ان التمسك بعموم دليل
الاستصحاب في استصحاب الكلي يكون من التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية لنفسه، وذلك لأنه مع احتمال كون الكلي موجودا في ضمن الفرد
القصير المتيقن الارتفاع، لم يحرز ان نقض اليقين السابق انما هو بالشك، بل
يحتمل انه باليقين.
وقد رده المحقق العراقي: بان اليقين بارتفاع الفرد القصير انما يقتضي
اليقين بانعدام الطبيعي المحفوظ في ضمنه لا الطبيعي المحفوظ في الفردين وهو
الجهة المشتركة بينهما، الذي كان متعلقا لليقين، فلا يحتمل انتقاض اليقين المتعلق
بالجهة المشتركة باليقين بانعدام أحد الفردين (1).
وهذا الرد لا مجال له بعد أن عرفت تقريب الاشكال وان مبناه على تعلق
اليقين بوجود الطبيعي المردد بين الوجودين وقد علم انتقاض أحدهما، فهو لا
يعلم ان رفع اليد عن اليقين السابق المتعلق بأحد الوجودين واحدى الحصتين
نقض له بالشك، لاحتماله كونه الحصة هي الموجودة في ضمن الفرد القصير
المتيقن ارتفاعه. وليس المستصحب مفهوم الكلي وعنوانه الجامع كي يقال إنه لا
يختل بزوال أحد فرديه، فتدبر.
والذي يتحصل: انه لا مجال للالتزام باستصحاب الكلي في هذا القسم،
ولو التزمنا بجريانه لكان اللازم القول بجريان استصحاب الفرد المردد، فان
الاشكال فيهما واحد فلا حظ.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 125 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر
الاسلامي.
172

استصحاب الكلي في الاحكام
ثم إنه لو التزم بجريان الاستصحاب الكلي، فقد يقال: بلزوم التفصيل بين
الاحكام والموضوعات، فيجري في الموضوعات دون الاحكام، وذلك لان
الاستصحاب في الأحكام الشرعية يقتضي تعلق الجعل بها بأنفسها. ومن
الواضح ان الكلي لا يمكن ان يتحقق من دون أن يكون متخصصا بالفصل
الخاص، فلا يمكن جعل الكلي بما هو كلي، فيمتنع تعلق الجعل بكلي الحكم بما
هو كلي. وجعل الكلي متخصصا بخصوصية خاصة لا يتكفله دليل الاستصحاب.
وعليه، فلا مجال لاستصحاب كلي الطلب عند دوران الامر بين الوجوب
والاستصحاب.
واما في الموضوعات، فيما انها لا تقبل الجعل الشرعي، بل المجعول هو
الأثر المترتب عليها، فلا محذور في اجراء الاستصحاب في الموضوع الكلي إذا
كان موردا للأثر الشرعي الخاص، ويكون التعبد في الحقيقة بأثره لا بنفسه، فلا
يرد الاشكال الوارد في استصحاب كلي الحكم.
ولا يخفى ان هذا البيان لا يختص بهذا القسم من استصحاب الكلي.
ثم إنه يصلح ايرادا على صاحب الكفاية، لان عنوان كلامه هو
استصحاب الكلي في الاحكام، وعطف عليه في آخر كلامه استصحابه في
الموضوعات. وقد أجيب عنه في كلمات بعض المحققين (1)، وملخصه: ان المنشأ في
الوجوب والاستحباب واحد وهو الطلب والبعث بداعي جعل الداعي، وليست
خصوصية الندب أو الوجوب مقومة للمنشأ والمجعول، وانما هي تنتزع عن مبدأ
الحكم المجعول، فإذا كانت المصلحة لزومية ثبت الوجوب وإذا كانت المصلحة

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 79 - الطبعة الأولى.
173

غير لزومية ثبت الندب، فالفرق بينهما في المبدأ.
ولا يخفى ان هذه الجهة المميزة انما هي بالنسبة إلى الأحكام الواقعية لأنها
هي التي تنشأ عن المصالح في المتعلقات، واما بالنسبة إلى الحكم الظاهري فهو
لا ينشأ عن مصلحة واقعية بل عن مصلحة في نفسه.
وعليه، فلا مانع من انشاء الطلب ظاهرا بلا ان يثبت له عنوان الوجوب
والاستحباب، فالجامع بين الوجوب والاستحباب قابل للجعل ظاهرا، لما عرفت
من أن خصوصية الوجوب والاستحباب لا ترتبط بالمنشأ بل في مرحلة المبدأ،
والمنشأ فيهما واحد. فتدبر.
هذا تمام الكلام في هذا القسم من استصحاب الكلي.
الشبهة العبائية
ويبقى هنا بحث قد آثاره المرحوم المحقق السيد إسماعيل الصدر (رحمه
الله) عرف على الألسنة وفي العبارات ب‍: " الشبهة العبائية ".
وملخص هذه الشبهة - بعد الالتزام بعدم انفعال ملاقي أحد أطراف
الشبهة المحصورة للنجاسة -: انه لو فرض انه قد تنجس جانب من عباءة لا
يعرف بعينه بل كان مرددا بين الا على والأسفل، ثم طهر الأعلى - مثلا - فلاقى
جسم الانسان الجانب الاخر وهو الأسفل، فإنه لا يحكم بنجاسة الجسم لعدم
العلم بنجاسة الجانب الأسفل، والمفروض ان ملاقاة أحد أطراف الشبهة
المحصورة لا تستلزم الانفعال. واما لو لاقى الجسم تمام العباءة بجانبيها، فان
مقتضى استصحاب بقاء النجاسة في العبائة هو الحكم بنجاسة الجسم، ومثل هذا
الحكم غريب، إذ بعد عدم الحكم بالنجاسة عند ملاقاته للجانب غير المطهر،
فكيف يحكم بنجاسته إذا انضم إليها ملاقاة الجانب المطهر؟ لوضوح عدم تأثير
ملاقاة الطاهر في الانفعال ضرورة. وبعبارة أخرى: يلزم الحكم بنجاسة ملاقي
174

مقطوع الطهارة ومشكوك النجاسة.
والمحصل: ان استصحاب الكلي ههنا يستلزم حكما غريبا لا يمكن البناء
عليه.
وقد تصدى الاعلام (قدس الله سرهم) إلى دفع هذه الشبهة.
وقد ورد في كلمات المحقق النائيني وجهان:
الوجه الأول: ما جاء في أجود التقريرات من عدم جريان استصحاب
النجاسة في المثال لاثبات نجاسة الملاقي، لعدم ترتب اثر شرعي عليها، وذلك
لان نجاسة الملاقي تترتب على امرين:
أحدهما: احراز الملاقاة. والاخر: احراز نجاسة الملاقي - بالفتح - ومن
المعلوم ان استصحاب النجاسة الكلية المرددة بين الطرف الأعلى والأسفل لا
يثبت تحقق ملاقاة النجاسة الذي هو الموضوع لنجاسة الملاقي (1).
الوجه الثاني: ما جاء في تقريرات الكاظمي من أن محل الكلام في
استصحاب الكلي ما إذا كان المتيقن السابق بحقيقته وهويته مرددا بين ما هو
مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع، واما إذا كان الاجمال في محل المتيقن
وموضوعه فلا يكون استصحابه من استصحاب الكلي، بل يكون كاستصحاب
الفرد المردد، كما لو علم بوجود الحيوان الخاص في الدار وتردد بين أن يكون في
الجانب الشرقي أو في الجانب الغربي، ثم انهدم الجانب الغربي واحتمل تلف
الحيوان بانهدامه لاحتمال أن يكون في الجانب المنهدم، وكما لو علم بوجود درهم
خاص لزيد فيما بين هذه الدراهم العشر ثم ضاع أحد الدراهم واحتمل أن يكون
الضائع هو درهم زيد، فإنه لا يجري الاستصحاب في المثالين، لان المتيقن أمر
جزئي حقيقي لا ترديد فيه، وانما الترديد في محله وموضوعه، فهو أشبه

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 395 - الطبعة الأولى.
175

باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد. وما نحن فيه من هذا
القبيل كما لا يخفى، فان التردد في النجاسة بلحاظ محلها لا حقيقتها، فتدبر (1).
أقول: تحقيق الكلام في حل هذه الشبهة - لو سلمت انها شبهة مستلزمة
لمحذور فقهي، فان للتأمل في ذلك مجالا واسعا - ان اسناد النجاسة إلى العباءة
اسناد مسامحي، فان تمام العباءة ليس متنجسا وانما أحد طرفيها، فالفرد المتنجس
مردد بين فردين.
وعليه، فيرد على جريان الاستصحاب في النجاسة في المثال وجهان:
الأول: انه من استصحاب الفرد المردد، وذلك لان الأثر الشرعي في باب
الانفعال المأخوذ في موضوعه النجس مترتب على النجس بنحو العموم
الاستغراقي، فالموضوع هو كل فرد من افراد النجس، وليس هو مترتبا على كلي
النجس، فالمستصحب في المثال هو الفرد الواقعي للمتنجس المردد بين ما هو
مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع، ولا معنى لاستصحاب كلي المتنجس
لاثبات الانفعال. وقد عرفت أن استصحاب الفرد المردد لا مجال له.
ولعل ما ذكرناه هو مراد المحقق النائيني (رحمه الله) في وجهه الثاني وإن لم
يكن صريحا فيه فتدبر.
واما ما ذكره من أمثال الدرهم الضائع، فلم يتضح لنا وجهه، إذ أي اثر
لجريان الاستصحاب في مورد الضياع حتى يبحث فيه، إذ هو لا يخرج عن
الملكية بالضياع كما لا تجوز المطالبة به لعدم القدرة على تسليمه بعد اشتباهه
بغيره واحتمال ضياعه. نعم لو مثل له بالتلف كان استصحاب بقائه وعدم تلفه مؤثرا
في بقاء الملكية لزوال الملكية بالتلف. فتدبر والأمر سهل.
الوجه الثاني: انه لو سلم جريان الأصل في الفرد المردد في نفسه أو

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4 / 422 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
176

جريانه في كلي النجس الموجود، فلا ينفع في ترتب الانفعال، إذ الانفعال مترتب
على ملاقاة ما هو نجس بمفاد كان الناقصة، فموضوع التنجيس هو كون
الملاقي نجسا، وهذا لا يثبت باستصحاب بقاء النجس - بنحو الكلي أو الفرد
المردد - إلا بالملازمة، فهو نظير استصحاب بقاء الكر في الحوض لاثبات كرية
الماء الموجود فيه، فاستصحاب بقاء النجس لا يثبت نجاسة الموجود الملاقي إلا
على القول بالأصل المثبت.
وما ذكره المحقق النائيني في الوجه الأول يمكن أن يكون المقصود به
ذلك، ويمكن أن يكون المقصود به ان موضوع الانفعال هو ملاقاة النجس
بحيث تتحقق إضافة الملاقاة إلى النجس، وهذا المعنى لا يثبت باستصحاب بقاء
النجس، وهو الاشكال الوارد في جميع موارد الموضوعات المأخوذة في متعلق فعل
المكلف المحكوم بالحكم الشرعي، كالخمر في حرمة شرب الخمر، فان استصحاب
خمرية شئ لا يثبت ان شربه شرب خمر الا بالأصل المثبت وهكذا. وقد أجيب
عنه بجواب جامع محصله دعوى اخذ خصوصية الموضوع بنحو التركيب لا
التقييد، فلا يكون الأصل مثبتا لترتب الأثر على الاستصحاب بضميمته إلى
الوجدان.
فما أفاده (قدس سره) يتجه لو كان المراد به ما ذكرناه من أن
الاستصحاب لا ينفع في اثبات موضوع الانفعال، لا انه لا ينفع في تحقق
الإضافة إلى النجس المأخوذة في الانفعال.
كما أنه يمكن ان يراد بما جاء في تقريرات العراقي (1) في مقام دفع
الشبهة ما ذكرناه، ولذا صح التفصيل بين استصحاب وجود النجاسة لاجل عدم
جواز الدخول في الصلاة فيجرى، وبين استصحابه لاجل نجاسة الملاقي فلا

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 131 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر
الاسلامي.
177

يجري، لان عدم جواز الدخول في الصلاة مرتبت على وجود النجس بمفاد
كان التامة.
ولو كان مراده ما يظهر من صدر عبارته - من أن النجاسة من العوارض
الطارئة على الموجودات الخارجية لا على الطبائع الصرفة. فهي لا تقبل العروض
إلا على الموجود الخارجي المعين دون القدر الجامع فاستصحاب نجاسة القطعة
الشخصية المرددة، من استصحاب الفرد المردد - لأشكل الامر في استصحاب
وجود النجاسة لاجل المنع عن الدخول في الصلاة، وذلك لان المستصحب ان
كان هو النجاسة العارضة على الطبيعي فهو مما يمنع منه. وان كان هو النجاسة
العارضة على الفرد، فالمفروض انه فرد مردد، فيكون استصحابها من استصحاب
الفرد المردد فلا حظ.
فالعمدة هو ما بيناه من كون الاستصحاب مثبتا.
هذا ولكن يمكن تقريب الاستصحاب بنحو لا يكون مثبتا، بان يقال:
إنا نعلم بملاقاة البدن لجميع اجزاء العبادة، فنحن نعلم بأنه لاقى ذلك الطرف
الذي كان نجسا، لكن نشك انه نجس حين الملاقاة أولا، فنستصحب بقاء
نجاسته، فتثبت - بالاستصحاب - ملاقاة ما هو نجس بمفاد كان الناقصة
ويترتب الانفعال حينئذ.
نعم يبقى اشكال كونه من استصحاب الفرد المردد، لتردد المتصف
بالنجاسة بين تقديرين يقطع على أحدهما بزوال المستصحب وهو النجاسة، فلا
شك بما هو المتيقن على كل تقدير.
فالمتحصل: ان اندفاع الشبهة العبائية ينحصر بكون استصحاب
النجاسة من استصحاب الفرد المردد. وهو لا يجري على ما تقدم بيانه، اذن فما
أفاده السيد الصدر (رحمه الله) لا يصلح اشكالا في جريان القسم الثاني من
استصحاب الكلي. فتدبر.
178

واما القسم الثالث: فهو ما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد معين ثم
علم بزوال ذلك الفرد وشك في بقاء الكلي لاحتمال حدوث فرد آخر مقارن لزوال
ذلك الفرد نظير ما لو علم بوجود الانسان في الدار لوجود زيد فيها، ثم علم
بخروج زيد من الدار واحتمل دخول عمر وفيها مقارنا لخروج زيد.
وهذا لا يمكن أن يكون مجرى الاستصحاب، لان الوجود المتيقن للكلي
قد علم بارتفاعه والمشكوك هو وجود آخر غير الوجود الأول لان وجود الكلي
يتعدد بتعدد افراده فالشك في الحقيقة ليس شكا في بقاء ما هو المتيقن، بل في
الحدوث، ومثله غير مجرى للاستصحاب. وهذا مما لا اشكال فيه.
نعم استثنى من ذلك ما إذا كان الفرد المشكوك حدوثه يعد من مراتب
الفرد المعلوم الزوال، كما إذا كان الكلي من المقولات التشكيكية كالألوان القابلة
للشدة والضعف، فمثلا لو علم بثبوت كلي السواد في ثوب لاتصافه بمرتبة
شديدة منه، ثم علم بزوال تلك المرتبة الشديدة وشك في تبدلها إلى مرتبة ضعيفة
منه، أو زوالها بالمرة وحدوث لون آخر، أمكن اجراء الاستصحاب في كلي السواد.
والسر في ذلك: ان المرتبة الضعيفة التي يتبدل إليها الفرد المتيقن ليست
فردا مغايرا للأول بنظر العرف - بل بالدقة على ما قيل -، فيكون ثبوتها بقاء
للكلي، فالشك فيها شك في البقاء والارتفاع فيكون من موارد الاستصحاب.
وهذا الاستثناء مما نبه عليه الشيخ (رحمه الله) (1).
ويظهر من الكفاية موافقته عليه كبرويا، وان أوقع الكلام فيه صغرويا،
فقد تحدث عن أن الوجوب والاستحباب كذلك أو لا؟ وذهب إلى الثاني ببيان:
ان الاستحباب وان كان مرتبة ضعيفة من الطلب واختلافه مع الوجوب من جهة
شدة الطلب وضعفه، إلا أنه عرفا يعد فردا للحكم مغايرا للوجوب بنظر العرف،

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول 372 - الطبعة الأولى.
179

فمع العلم بزوال الوجوب والشك في تبدله إلى الاستحباب لا يمكن إجراء
الاستصحاب في كلي الطلب، لان المدار في باب الاستصحاب على النظر العرفي
لا الدقي (1).
وقد ناقشه المحقق الأصفهاني بما ملخصه: ان التغاير بين الوجوب
والاستحباب ليس بالشدة والضعف كما قيل، فان الوجوب والاستحباب من
الأمور الاعتبارية التي توجد بانشاء مفاهيمها وتتحقق بالاعتبار. ومن الواضح ان
الاعتبار لا يقبل الشدة والضعف.
نعم، يتفاوت الوجوب والاستحباب في الشدة والضعف بلحاظ مبدئهما
وهو الإرادة، فإنها قابلة للشدة والضعف، لكن مجرى الاستصحاب ليس هو
الإرادة بل هو الحكم الشرعي وهو كلي الطلب، وقد عرفت أنه لا يقبل الشدة
والضعف لأنه من الأمور الاعتبارية، فالوجوب والاستحباب كما هما متغايران
عرفا كذلك هما متغايران دقة وعقلا، فلا مجال لاستصحاب كلي الطلب مع العلم
بزوال الوجوب والشك في حدوث الاستحباب أو غيره من الاحكام. فتدبر
جيدا (2).
واما القسم الرابع: فهو ما إذا علم بوجود عنوانين يحتمل انطباقهما على
واحد، فزال أحدهما قهرا وشك في بقاء الكلي للشك في أن العنوان الاخر نفس
العنوان الزائل وجودا أو لا. كما إذا علم بوجود القرشي في الدار وعلم أيضا
بوجود العالم، وشك في أن العالم عين القرشي أو غيره، ثم علم بزوال العالم، فإنه
يشك في بقاء القرشي في الدار لاحتمال انه نفس العالم فيكون قد خرج أو غيره
فهو باق بعد.
ويمثل له بما إذا كان متطهرا ثم توضأ واحدث وشك في أن وضوءه بعد

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 407 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 78 - الطبعة الأولى.
180

الحدث أو قبله - من باب الوضوء التجديدي -، فهو فعلا يشك في بقاء الطهارة
الموجودة حال الوضوء الاخر.
كما أن من أمثلته ما إذا كان جنبا فاغتسل ثم رأى منيا في ثوبه وشك في أنه
من الجنابة التي اغتسل منها أو هي جنابة جديدة، فهو يعلم بالجنابة حال
خروج المني، ويشك في بقائها فعلا.
ففي جميع هذه الأمثلة في بقاء الكلي. وقد وقع الكلام في استصحابه.
فذهب البعض إلى جريان الاستصحاب فيه لتمامية أركانه من اليقين
بالحدوث والشك في البقاء فيستصحب بقاء القرشي في الدار لليقين بحدوثه
والشك في بقائه. كما يستصحب بقاء الطهارة الموجود حال الوضوء الاخر لليقين
بها والشك في بقائها. وهكذا يستصحب بقاء الجنابة المتيقنة عند خروج المني
المرئي في الثوب (1).
وقد ذهب الفقيه الهمداني (رحمه الله) - في كتاب الطهارة - إلى التفصيل
بين العلم بوجود فردين وشك في تعاقبهما كمثال الحدث، وبين ما إذا لم يعلم الا
بوجود فرد واحد وشك في فرد آخر لاحتمال انطباق العنوانين على فرد واحد،
كمثال الجنابة وأمثال العالم والقرشي. فالتزم بجريان الاستصحاب في الأول دون
الثاني (2).
ورد: بأنه لا فرق بين الصورتين في جريان الاستصحاب لتمامية أركانه في
كلتا الصورتين لليقين السابق بوجود الكلي والشك في بقائه في كلتيهما. وما ذكر
في الفرق فليس بفارق. هذا ما جاء في كلمات بعض الاعلام (3) نقلناه باختصار.

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 118 - الطبعة الأولى.
(2) الفقيه الهمداني. مصباح الفقيه كتاب الطهارة / 205 - الطبعة الأولى.
(3) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 120 - الطبعة الأولى.
181

التنبيه الثالث: في استصحاب الأمور التدريجية.
لا يخفى ان الموجودات على نحوين: الموجودات القارة، وهي التي تتحقق
بجميع اجزائها في آن واحد مثل زيد وعمرو، والموجودات التدريجية، وهي التي لا
يكون لاجزائها تحقق دفعي وفي آن واحد، بل يكون وجودها تدريجيا بحيث يوجد
كل جزء في ظرف انعدام ما قبله كالمشي والكلام ونحوهما.
ولا اشكال في جريان الاستصحاب في الأمور القارة لتحقق أركانه. وانما
وقع البحث في جريانه في الأمور التدريجية، لاجل الاشكال في تحقق أركانه،
وذلك لأنه بعد أن كان وجود الامر التدريجي بنحو التدريج بحيث يوجد كل
جزء منه ويتصرم ثم يوجد جزء آخر منه وهكذا لم يتحقق الشك في البقاء بالنسبة
إليه، لان ما تعلق به اليقين وهو الجزء السابق مما انعدم وتصرم قطعا، والجزء
اللاحق مشكوك الحدوث، لان الجزء في كل آن وظرف غير الجزء في ظرف آخر،
ومثل ذلك لا يكون مشمولا لدليل الاستصحاب.
وقد تصدى الاعلام (قدس الله سرهم) لدفع هذا الاشكال واثبات صحة
جريان الاستصحاب في التدريجيات، ولا بد من ايقاع البحث في مقامين:
المقام الأول: في جريان الاستصحاب في الزمان كالليل والنهار والشهر
ونحوها.
والمقام الثاني: في جريانه في سائر الأمور التدريجية الواقعة في الزمان
كالمشي والتكلم ونحوهما.
اما استصحاب الزمان: فالاشكال فيه من أربعة جهات:
الأولى: ما تقدم من الاشكال في الأمور التدريجية بقول مطلق، فان الزمان
منها، فيتأتى فيه الاشكال.
وقد أجيب عنه بما محصله: ان المدار في باب الاستصحاب على صدق
182

النقض بالشك عرفا، وهذا يثبت مع الوحدة العرفية للموجود في مرحلة حدوثه
وبقائه، والامر التدريجي - كالزمان - وان كانت اجزاؤه متدرجة في الوجود بحيث
تنصرم وتنعدم، إلا أن تخلل هذا العدم بين الاجزاء لا يوجب الاخلال بالوحدة
عرفا - بل قيل دقة -، فالزمان واحد مستمر لا أنه وجودات متعددة، فالنهار
موجود واحد مستمر يتحقق بحصول أول أجزائه وينتهي بانتهائها ويصدق على
الآنات الحاصلة بين المبدأ والمنتهى، فمع الشك في الاستمرار يجري
الاستصحاب، لان رفع اليد عنه في ظرف الشك يعد نقضا لليقين بالشك.
الجهة الثانية: ان موضوع الاستصحاب هو الشك في البقاء، كما أن
الاستصحاب هو التعبد ببقاء ما كان، والبقاء عبارة عن الوجود في الآن الثاني،
وهذا المعنى لا يتصور في نفس الزمان، فلا يتصور البقاء في الزمان لأنه لا يوجد
في زمان آخر.
ويندفع هذا الاشكال:
أولا: بان الوجود في الآن الثاني لم يؤخذ في مفهوم البقاء وانما هو لازم له
في ما يقبل الوجود في الزمان كالزمانيات، اما مثل الزمان مما لا يوجد في الزمان،
فلا يكون بقاؤه ملازما لذلك، كيف! ويصدق البقاء على المجردات كالذات
المقدسة، فليس مفهوم البقاء الا مساوقا للاستمرار والدوام في الوجود.
وثانيا: انه لم يؤخذ في دليل الاستصحاب التعبد بالبقاء، بل هو وارد في
كلمات الفقهاء والأصوليين، وانما الوارد في الأدلة هو عدم نقض اليقين بالشك،
وليس موضوعه الا الشك في وجوده المتأخر بعد اليقين بوجوده السابق، وهو
موجود. فلا حظ.
الجهة الثالثة: ان الشك في الامر التدريجي..
تارة: ينشأ من الشك في حصول ما يمنع من استمراره مع احراز قابليته
للاستمرار في نفسه.
183

وأخرى: ينشأ من الشك في حصول غايته ومنتهاه، كما لو علم أن
الشخص يتكلم ساعتين وشك في بقاء تكلمه للشك في انتهاء الساعتين.
والشك في الزمان من قبيل الثاني، إذ لا احتمال لوجود ما يقطع النهار قبل
حصول غايته، وانما الشك في بقائه ينشأ من الشك في حصول غايته وانتهاء أمده
وعدمه.
وعليه، فينشأ من هذا اشكال في جريان الاستصحاب في الزمان. وتقريبه:
ان متعلق الشك بعد اليقين ان كان هو بقاء النهار - مثلا -، بمعنى وجوده في الآن
اللاحق، فهذا ما عرفت أنه غير متصور بالنسبة إلى الزمان وان كان هو الوجود
اللاحق للنهار، بحيث يؤخذ وصف اللحوق قيدا لمتعلق الشك، فليس الوجود
اللاحق مسبوقا بالحالة السابقة بل هو مشكوك الحدوث. واما ذات وجود النهار
فهذا مما لا شك فيه.
وببيان آخر نقول: ان متعلق الشك ليس بقاء النهار والآن الواقع بين
الحدين، بل متعلق الشك هو كون هذا الآن نهارا أو ليس بنهار، وذلك لأنه بعد
فرض وحدة النهار بجميع آناته وملاحظته موجودا واحدا فيستحيل تعلق اليقين
والشك فيه، الا بتغاير الزمانين، والمفروض انه غير متصور في الزمان، فالشك
الموجود فعلا ليس إلا في كون هذا الآن نهارا أو لا، وان أطلق الشك في بقاء
النهار لكنه مسامحي بعد ملاحظة ان النهار اسم لمجموع الآنات الخاصة وليس
له وجود غيرها، والمشكوك هو نهارية الآن الذي نحن فيه وعدمه، وهذا مما لا
حالة سابقة له.
وهذا الاشكال لا يتأتى في سائر الأمور التدريجية القابلة للواقع في
الزمان، لتصور الشك في وجودها الواحد في الزمان اللاحق، فيقال: كان التكلم
موجودا والآن يشك فيه فيستصحب. فهذا الاشكال يختص بالزمان. وهو مما لا
دافع له ولم يتعرض له الاعلام. ومع الغض عنه يقع الكلام في الاشكال.
184

الجهة الرابعة: وهو ما أشار إليه الاعلام (قدس الله سرهم) وتصدوا
لدفعه.
ومحصله: ان استصحاب النهار - مثلا - لا يتكفل أكثر من اثبات وجود
النهار، كما لو كان متعلق الحكم اخذ فيه الوقوع في النهار مثل الامساك في باب
الصوم، فإنه يعتبر أن يكون في النهار، فمع الشك في بقاء النهار لا يجدي
استصحاب النهار في اثبات وقوع الامساك في النهار.
نعم، لو كان وجود النهار موضوعا للحكم من دون ان يتقيد به متعلقه
كان استصحاب النهار مجديا في اثبات الحكم.
وبالجملة: لا ينفع استصحاب الزمان الخاص في الموارد التي يؤخذ فيها
قيدا لمتعلق الحكم، كالصوم والصلاة ونحوهما، فتقل الفائدة فيه لان أغلب
الموارد التي يراد استصحاب الزمان فيها من هذا القبيل.
أقول: بهذا البيان ونحوه بين الاشكال، إلا أنه لم يبين جهة الاستشكال
وما هو المحذور المترتب على ذلك، وما هو اللازم الباطل المترتب على عدم احراز
وقوع الامساك - مثلا - في النهار، إذ لقائل أن يقول: انه بعد استصحاب وجود
النهار يثبت الحكم بوجوب الصوم، فيأتي الانسان بالامساك رجاء ولو لم يحرز ان
الزمان نهار، فإن كان الزمان نهارا فقد امتثل وإلا فلا يضره شئ، فلا يكون
الاستصحاب عديم الفائدة، كيف؟ ولولاه لم يثبت الحكم الذي ترتب عليه العمل
ولو احتياطا، كما أنه ليس بلا أثر عملي كما جاء في أجود التقريرات (1) في تقريب
الاشكال - إذ يكفي في لزوم الاتيان بالعمل بعنوان الاحتياط وهو اثر عملي
واضح. فما جاء في كلمات الاعلام لا يخلو عن قصور.
والحق ان يقال: إنه ان التزمنا بان الملحوظ في دليل الاستصحاب هو
تنجيز الواقع المجهول فلا اشكال أصلا، إذ مرجع التنجيز إلى بيان ترتب

(1) الخراساني الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 400 - الطبعة الأولى.
185

المؤاخذة على تقدير ثبوت الواقع، ومثله لا يعتبر فيه احراز ثبوت الواقع، بل
احتماله يكفي في الاندفاع للعمل.
وعليه، فيكفي استصحاب وجود النهار بلا حاجة إلى احراز كون
الامساك في النهار، لان مرجع الاستصحاب المزبور إلى تنجيز الحكم بوجوب
الامساك على تقدير ثبوته في الواقع، ولا يتكفل اثبات الحكم.
وعليه، فلا بد من الاتيان بالامساك فرارا عن العقاب المحتمل، لاحتمال
ثبوت الحكم لاحتمال بقاء النهار.
واما إذا التزمنا بان المجعول هو المتيقن كجعل المؤدى في باب الامارات،
فيتكفل دليل الاستصحاب جعل حكم ظاهري مماثل للحكم الواقعي ولو التزمنا
بذلك أشكل الامر، وذلك لان الحكم الواقعي هو وجوب الامساك المقيد بكونه
في النهار - مثلا -، وهذا مما لا يمكن ان يثبت في مرحلة الظاهر باستصحاب بقاء
النهار، إذ بعد عدم احراز ان الزمان الذي نحن فيه نهار أو ليل لا يحرز ان
الامساك في النهار - فعلا - مقدور لاحتمال ان هذا الزمان ليل، واستصحاب بقاء
النهار لا يثبت ان هذا الآن نهار - كما هو المفروض -، فيكون ثبوت وجوب
الامساك في النهار محالا، لأنه تكليف بامر لا يعلم انه مقدور أو ليس بمقدور،
فالاشكال على هذا المبنى في الاستصحاب دون غيره.
وقد تصدى الاعلام - كما أشرنا إليه - لدفع الاشكال، والمذكور في
الكلمات وجوه:
الأول: ان الزمان لم يؤخذ في متعلق الحكم أصلا وانما هو شرط لأصل
ثبوت الحكم، والحكم متعلق بالطبيعة بلا تقيد وقوعها في الزمان الخاص.
وعليه، فيثبت الحكم باستصحاب موضوعه ولا قيمة لعدم ثبوت أن هذا
الآن نهار أو ليس بنهار. وهذا الوجه أشار إليه المحقق العراقي (رحمه الله) (1).

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 150 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
186

ولكن للمناقشة فيه مجال واسع، فإنه مخالف لظواهر الأدلة، كأدلة
اشتراط الوقت في الصلاة (1)، ودليل الصوم الظاهر في لزوم كون الصوم في
رمضان، كقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (2).
الوجه الثاني: ما افاده العراقي (رحمه الله) أيضا واختص به من: انه كما يمكن
استصحاب بقاء النهار بفرض الوحدة العرفية بين الاجزاء المتدرجة في الوجود،
كذلك يمكن استصحاب نهارية الموجود، فان وصف النهارية من الأوصاف
التدريجية كذات الموصوف ويكون حادثا بحدوث الآنات وباقيا ببقائها، فإذا
اتصف بعض هذه الآنات بالنهارية وشك في اتصاف الزمان الحاضر به يجري
استصحاب بقاء النهارية الثابتة للزمان السابق لغرض وحدة الموصوف، فيكون
الشك شكا بالبقاء (3).
وما أفاده (قدس سره) لا يمكن البناء عليه لامرين:
الأول: ان وصف النهارية ونحوها ليس أمرا آخر وراء ذوات الآنات
الواقعة بين المبدأ والمنتهى، فلفظ النهار لا يعبر إلا عن تلك الذات لا عن عرض
قائم بالذات غيرها، فهو اسم للذات لا وصف لها، فهو نظير لفظ زيد بالنسبة
إلى ذاته، ولفظ حجر إلى ذات الحجر، لا نظير عالم بالنسبة إلى زيد.
وعليه، فلا معنى لاجراء الاستصحاب في وصف النهارية منضما إلى
استصحاب نفس الذات النهارية، فإنه من قبيل استصحاب وجود زيد
واستصحاب زيديته لا من قبيل استصحابه واستصحاب عالميته.
هذا مضافا إلى أنه لو فرض كون وصف النهار من قبيل العنوان لا من
قبيل الاسم، فمن الواضح ان النهارية تتقوم بكون الزمان بين المبدأ والمنتهى

(1) وسائل الشيعة 3 / 78 - أبواب المواقيت.
(2) سورة البقرة الآية. 185.
(3) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 149 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
187

الخاص بحيث يكون ذلك مسببا لتعدد حقيقة أنواع الزمان عرفا من ليل ونهار،
والا فذات الزمان موجود واحد مستمر إلى الأبد.
وعليه، فمع الشك في كون الآن بين المبدأ والمنتهى لا يمكن استصحاب
وصف نهاريته لتقومها به عرفا، وليس هو من الحالات.
وهذا الاشكال يسري في كل مورد يشك في تبدل الموجود السابق إلى
حقيقة أخرى عرفا، فإنه لا يجري استصحاب الوصف السابق للشك في بقاء
الموضوع العرفي للمستصحب، كما لو شك في تبدل الخمر إلى الخل وغير ذلك.
فتدبر.
الامر الثاني: ان المشكوك كونه نهار هو هذا الآن لا مجموع الآنات
الملحوظة شيئا واحدا. ومن الواضح ان هذا الآن لا حالة سابقة له والشك
بالنسبة إليه شك في الحدوث. ولا معنى لغرض وحدته مع ما تقدم، إذ فرض
الوحدة هو فرض لحاظ الكل شيئا واحدا بحيث لا ينظر إلى كل جزء
بخصوصه، وليس الامر كذلك فيما نحو فيه، لان المفروض النظر إلى هذا الجزء
بخصوصه وملاحظته بمفرده لأنه هو المشكوك دون غيره فانتبه.
الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الأصفهاني (رحمه الله) من: إن المأخوذ في
متعلق الحكم إذا كان هو الامساك في النهار لا الامساك النهاري، بان يكون
النهار بوجوده المحمولي قيدا دخيلا في المصلحة لا بوجوده الناعتي، كان جريان
الاستصحاب في النهار مجديا ولو لم يحرز أن هذا الآن نهار، لان ثبوت القيد
تعبدي والتقيد وجداني، فيثبت ان هذا إمساك وجداني في النهار التعبدي (1).
وما أفاده (قدس سره) يتوجه عليه:
أولا: ان استصحاب بقاء النهار لا يثبت إضافة الامساك إلى النهار وتقيده
به الا بالملازمة، فهو نظير استصحاب كون هذا المائع خمرا، فإنه لا يثبت كون

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 81 - الطبعة الأولى.
188

شربه شرب خمر إلا بالملازمة، والمفروض ان المطلوب اثبات كون الامساك في
النهار.
وثانيا: لو سلمنا ان استصحاب الموضوع يثبت به الحكم المتعلق بما يتقيد
به ويضاف إليه، فيقال ان الخمر أثره حمرة شربه، فإذا ثبتت خمرية شئ ظاهرا
ترتب عليه حرمة شربه، فهو انما ينفع فيما كان الاستصحاب يتكفل اثبات
الموضوع بمفاد كان الناقصة، إذ التقيد والإضافة وجداني تكويني، وانما الشك
في وصف المضاف إليه وهذا يثبته الأصل. واما إذا كان مجرى الاستصحاب هو
الموضوع بمفاد كان التامة، فالتقيد والإضافة لا تتحقق أصلا، إذ وجود الموضوع
تعبدا ليس إلا وجوا اعتباريا فرضيا ولا معنى لوقوع الفعل فيه. فهل يجدي
استصحاب بقاء الكر في الحوض في اثبات الغسل بالكر؟.
فاستصحاب بقاء النهار بمفاد كان التامة لا يصحح إضافة الامساك إلى
النهار ووقوعه فيه، فلا حظ والتفت.
الوجه الرابع: ما ذكره الشيخ (رحمه الله) من إجراء استصحاب الحكم (1).
وقد أورد عليه المحقق النائيني في دورة من دورات بحثه: بأنه لا يجدي في
احراز وقوع الفعل في الزمان الخاص، ولو كان مجديا لكفى استصحاب الموضوع
لترتب الحكم عليه (2).
ولكنه في دورة أخرى رد هذا الاشكال: بان استصحاب الحكم يكفي في
احراز وقوع الفعل في الزمان الخاص، كاستصحاب وجوب الصوم، فإنه يترتب
عليه كون الامساك في النهار بخلاف استصحاب نفس الزمان، لان استصحاب
الزمان لا يترتب عليه إلا أثره الشرعي وهو أصل وجوب الصوم، واما كون
الصوم في النهار فهو أثر عقلي لبقائه لا شرعي. واما استصحاب الوجوب

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 375 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظم الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 438 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
189

فمرجعه إلى التعبد بجميع خصوصياته التي كان عليها، والمفروض ان
الحكم كان متعلقا بما لو أتى به كان واقعا في النهار، فيستصحب ذلك على نحو ما
كان (1).
ولكن ما ذكره توجيها لكلام الشيخ (رحمه الله) غير سديد، لأنه لو سلم
ان التعبد بالوجوب يقتضي التعبد بجميع خصوصياته فإنما ذلك في الخصوصيات
الشرعية لا التكوينية. ومن الواضح ان كون الفعل واقعا في الزمان الخاص أمر
تكويني فلا معنى للتعبد به لأنه لا يقبل الجعل والتعبد شرعا.
الوجه الخامس: ما افاده في الكفاية من: اجراء الاستصحاب في المقيد
بما هو مقيد، فيقال: ان الامساك كان في النهار فالآن كذلك (2).
وفيه: ان المشار إليه من الامساك اما أن يكون الجزء الموجود منه أو الجزء
الذي بعد لم يوجد. فإن كان هو الجزء الموجود، فهو لا أثر له لان الحكم لا يتعلق
بما هو الموجود. وان كان هو الجزء الآتي، فهو مما لا حالة سابقة له، بل هو
مشكوك الحدوث فلا يجري فيه الاستصحاب الا بنحو الاستصحاب التعليقي،
وهو لا يجري في الموضوعات.
الوجه السادس: ما أفاده العراقي وغيره من: أن الزمان لم يؤخذ في المتعلق
قيدا للفعل بحيث كان المتعلق هو الفعل الخاص بنحو التقييد، بل اخذ في
المتعلق بنحو المعية في الوجود والمقارنة. وبعبارة أخرى: اعتبر هو والفعل بنحو
التركيب وبنحو الاجتماع في الوجود. وهذا مما يثبت بالاستصحاب، فإنه يثبت
أحد الجزئين وهو الزمان الخاص، والجزء الاخر يثبت بالوجدان وهو الفعل (3).
وهذا الوجه كسوابقه قابل للمناقشة، فان أخذ الزمان بنحو التركيب بلا

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 3 / 401 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 409 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 150 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
190

ملاحظة تقيد الفعل به واضافته إليه ممكن بالنسبة إلى الموضوع لا المتعلق، إذ
المتعلق مما يكون التكليف محركا نحوه وباعثا إليه، ولا يعقل البحث نحو الزمان
لأنه غير اختياري، فاخذه في المتعلق لا بد وان يرجع إلى ملاحظة تقيد الفعل به
وايقاعه فيه، فان هذا المعنى قابل للتحريك والبعث.
وعليه، فيعود الاشكال، لأنه لا يحرز باستصحاب الزمان وقوع الفعل
فيه. فتدبر.
وجملة القول: ان استصحاب الزمان بملاحظة ورود هذه الاشكالات مما
لا يمكن الركون إليه والجزم به.
واما سائر الأمور التدريجية غير الزمان كالتكلم والمشي والسيلان، فلا
اشكال في جريان الاستصحاب فيها الا من الوجه الأول من وجوده الاشكال
في استصحاب الزمان، وقد عرفت دفعه وعدم تماميته. وعليه فلا مانع من الالتزام
به فيها.
ثم إنه وقع الكلام في جريان الاستصحاب في موارد تعلق الحكم بالفعل
المقيد بالزمان. وهو على صورتين:
الأولى: أن يكون الشك في بقاء حكمه للشك في بقاء قيده وهو الزمان.
وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا.
الثانية: أن يكون الشك في بقاء حكمه مع القطع بانتهاء قيده من جهة
أخرى، كما إذا احتمل اخذ الزمان بنحو تعدد المطلوب لا وحدته، فيشك في بقاء
الحكم بعد انتهاء الزمان.
وقد أفاد في الكفاية: بان الزمان إذا كان مأخوذا ظرفا لثبوته كان
استصحاب الحكم جاريا. وان كان قيدا مقوما لمتعلقه فلا يجري استصحاب
الحكم، بل يجري استصحاب عدمه. ثم أشار إلى دفع ما أفاده النراقي من
191

جريان كلا الاستصحابين - أعني: استصحاب الوجود والعدم - وتعارضهما (1).
وقد تقدم الكلام في كلام النراقي وتوجيهه ورده بنحو التفصيل في البحث
عن جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية فراجع.
وأما ما أفاده من التفصيل في جريان الاستصحاب بين أخذ الزمان ظرفا
وأخذه قيدا، فالظاهر أن مراده هو: التفصيل بين كونه حالة بنظر العرف وبين
كونه قيدا مقوما، والا فهو قيد على كلا التقديرين.
وعليه، فلا يرد عليه: ان أخذ ظرفا لا معنى له في قبال أخذه قيدا، إذ
لا معنى لظرفية الزمان الا تقيد الفعل به.
وكيف كان، فلا بد من تحقيق ان الزمان في متعلق الحكم هل هو من
الحالات الطارئة على معروض الحكم بنظر العرف، أو انه بنظره من مقوماته التي
ينتفي بانتفائه؟.
واما مجرى الترديد الكبروي - كما اقتصر عليه في الكفاية - فلا فائدة
كبيرة فيه.
وتحقيق ذلك: ان ما يؤخذ قيدا للموضوع قد يعد عرفا من مقوماته
بحيث ينتفي معروض الحكم بانتفائه. وقد يعد من حالاته وعوارضه فلا ينتفي
عرفا بانتفائه. وهذا يختلف بحسب اختلاف ارتباط الحكم بالقيد.
فالأول نظير وجوب تقليد العالم، فان جهة العلم من مقومات وجوب
التقليد عرفا، لان التقليد انما هو لجهة علمه.
والثاني نظير وجوب الصلاة خلف العالم، فان العلم لا يعد عرفا من
مقومات الموضوع، بل يعد من حالاته.
وبعبارة أخرى: تعد جهة العلم عرفا من الجهات التعليلية للحكم
بوجوب الصلاة خلفه ولكنها تعد من الجهات التقيدية بالنسبة إلى الحكم بوجوب

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 409 - 410 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
192

تقليده.
ولكن هذا إنما يأتي في موضوعات الاحكام لاختلاف نسبة الحكم وكيفية
ارتباطه بالقيد.
واما بالنسبة إلى متعلق الحكم، فكل قيد فيه يكون مقوما بنظر العرف،
إذ متعلق الحكم ما اخذ الحكم داعيا إليه ومحركا نحوه، فإذا كان المدعو إليه هو
الفعل الخاص كانت الخصوصية مقومة عرفا، فمع انتفائها يمتنع جريان
الاستصحاب.
وبعبارة أخرى، المراد الموضوع هو معروض المستصحب، ومعروض
الحكم المستصحب بنظر العرف هو الفعل بخصوصياته لا ذات الفعل.
وعليه، فالزمان إذا كان قيدا للمتعلق فهو قيد مقوم دائما، فمع تخلفه
وانتفائه يمتنع جريان استصحاب الحكم.
وقد نبهنا على ذلك في مبحث تعذر بعض اجزاء الواجب أو شرائطه من
مباحث الأقل والأكثر. فراجع.
ثم إن صاحب الكفاية (رحمه الله) تعرض لما حكي عن النراقي من
التمسك عند الشك في ناقضية المذي للطهارة باستصحاب جعل الوضوء سببا
للطهارة بعد المذي، ومعارضته لاستصحاب الطهارة قبل المذي.
فأورد عليه: بان الطهارة الحديثة والخبثية وما يقابلهما تكون مما إذا وجدت
بأسبابها لا ترتفع الا برافع، بحيث يكون منشأ الشك فيها هو الشك في الرافع
ولا يشك فيها من جهة الشك في مقدار تأثير السبب، فإنه لا شك فيه لان تأثيره
في الطهارة المستمرة، وعدمها يكون لاجل الرافع لا لقصور السبب.
وعليه، فلا مجال لأصالة عدم سببية الوضوء للطهارة بعد المذي (1).
أقول: لا ظهور لكلام النراقي في كون مجرى الاستصحاب هو نفس

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 410 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
193

السببية، بل من الممكن أن يكون نظره إلى منشأ انتزاعها وهو ثبوت الطهارة
على تقدير الوضوء.
وعليه، فيكون مقصوده ايقاع المعارضة بين استصحاب الطهارة الثابتة
قبل المذي، واستصحاب عدم جعلها بعد الذي، الذي تقدم بيانها في مبحث
استصحاب الحكم الكلي عند بيان مرامه، فمجرى الاستصحاب نفيا واثباتا هو
المسبب لا سببية السبب حتى يورد عليه بأنه لا شك في السببية.
وبهذا الحمل لكلامه (رحمه الله) ظهر انه لا وجه لإطالة الكلام بتحقيق
ان الوضوء مقتض للطهارة، والحدث هل يكون من قبيل الرافع أو يكون عدمه
متمما للمقتضي؟. كما تصدى إلى ذلك المحقق الأصفهاني في بيان مسهب مفصل
فراجع (1).
التنبيه الرابع: في استصحاب الأمور التعليقية.
لا يخفى ان الامر المشكوك البقاء...
تارة: يكون له وجود فعلي تنجيزي في السابق يشك في زواله وبقائه،
كنجاسة الماء المتغير إذا شك فيها بعد زوال تغيره من قبل نفسه.
وأخرى: يكون له وجود تقديري تعليقي لا فعلي كحرمة العنب على
تقدير غليانه إذا شك فيها بعد تبدله إلى زبيب.
والاستصحاب في الفرض الأول لا شبهة فيه.
وانما الكلام في الاستصحاب في الفرض الثاني، وهو ما يعبر عنه
بالاستصحاب التعليقي، والاطلاق مسامحي، ويراد به استصحاب الامر
التعليقي.
والامر التعليقي الذي يتكلم في استصحابه تارة: يكون من الاحكام،

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 84 - 89 - الطبعة الأولى.
194

كالمثال المتقدم. وأخرى: من الموضوعات.
والكلام فعلا في استصحاب الاحكام التعليقية: ولا يخفى ان البحث فيه
ذو أثر عملي كبير في باب الفقه للتمسك به في موارد كثيرة من الأحكام التكليفية
والوضعية.
وكيف كان فقد نفى جريانه فريق والتزم به فريق آخر.
وممن التزم به صاحب الكفاية، وذكر في تقربيه: ان قوام الاستصحاب من
اليقين بالحدوث والشك في البقاء متحقق في الأمور التعليقية، لان غاية ما يقال
في نفيه: ان الحكم التعليقي لا وجود له قبل وجود ما علق عليه فلا يقين بحدوثه.
وهذا قول فاسد، لأنه لا وجود له فعلا قبل الشرط، لا أنه لا وجود له أصلا ولو
بنحو التعليق، فان وجوده التعليقي نحو وجود يكون متعلقا لليقين والشك، ولذا
كان موردا للخطابات الشرعية من ايجاب وتحريم. هذه خلاصة ما أفاده في
الكفاية (1).
وخالفه المحقق النائيني (رحمه الله) فذهب إلى نفي جريان الاستصحاب
في الحكم التعليقي، ومحصل ما أفاده: ان الحكم له مقامان: مقام الجعل، وهو جعل
الحكم الكلي على الموضوع الكلي. ومقام المجعول وهو الحكم الفعلي الحاصل
بحصول موضوعه باجزائه وقيوده.
والشك في بقاء الحكم بلحاظ مقام الجعل لا ينشأ الا من قبل الشك في
النسخ وعدمه، وهو أجنبي عما نحن فيه، ومع عدم الشك في النسخ يعلم ببقاء
الجعل والانشاء ولا رافع له، إذ هو ثابت حتى مع عدم تحقق الموضوع بالمرة.
اما بلحاظ مقام المجعول والفعلية فبالنسبة إلى الحكم التعليقي غير
متصور. لان المفروض عدم الفعلية للحكم لعدم تحقق كلا جزئي الموضوع، فلا
يقين بالحدوث. وليس للحكم التعليقي مقام آخر يتصور جريان الاستصحاب

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 411 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
195

بلحاظه.
وبالجملة: ما له ثبوت فعلي وهو الجعل لا شك فيه، وما هو مورد الشك
وهو المجعول لا يقين بحدوثه هذه خلاصة ما أفاده (قدس سره) (1).
والتحقيق ان يقال: ان المسالك المعروفة في حقيقة الحكم التكليفي وكيفية
جعله ثلاثة:
المسلك الأول: ما هو مسلك المشهور من: أنها عبارة عن أمور اعتبارية
يتسبب لها بالانشاء وتكون فعلية الاحكام منوطة بوجود الموضوع بخصوصياته،
فبدونه لا ثبوت الا للانشاء بلا أن يتحقق اعتبار الحكم فعلا. والى هذا يرجع ما
افاده المحقق النائيني من انفكاك مقام الجعل عن مقام المجعول، وأنه قد يتأخر
المجعول عن الجعل.
المسلك الثاني: ان المجعول لا ينفك زمانا عن الجعل، ففي ظرف الجعل
يتحقق الحكم فعلا، الا انه يتعلق بامر على التقدير، فيكون التقدير دخيلا في
ترتب الأثر العقلي على الحكم الثابت سابقا لا دخيلا في أصل تحقق الحكم
وفعليته - كما عليه المشهور -، فالتقدير - على ما قيل - دخيل في فاعلية الحكم
لا في فعليته، بل الحكم فعلي قبل تحقق التقدير.
المسلك الثالث: ان حقيقة الحكم التكليفي هي الإرادة والكراهة المبرزة
والمظهرة، فليس هو أمرا مجعولا كالاحكام الوضعية، بل هو امر واقعي تكويني
يترتب عليه الأثر العقلي والعقلائي عند ابرازه. وهذا مما قربه المحقق العراقي
(رحمه الله) (1).
ولا يخفى ان المطلوب في المقام هو تحقيق انه في مورد الحكم التعليقي هل
هناك امر شرعي قبل وجود المعلق عليه يمكن استصحابه أو لا؟

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد. الأصول 4 / 466 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي نهاية. الأفكار 4 / 163 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
196

ولا بد من تحقيق الكلام بلحاظ كل مسلك من هذه المسالك الثلاثة،
فنقول:
اما على الأول - وهو مسلك المشهور المنصور -: فالمتجه القول بعدم
جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي لان الثابت لدينا على هذا المسلك
أمران:
أحدهما: ما يرتبط بمقام الانشاء والجعل، وهو الحكم المنشأ على الموضوع
الكلي، وهو لا يرتبط بوجود الموضوع في الخارج، لأنه متحقق ولو مع عدم
الموضوع. ومن الواضح ان هذا مما لا شك في بقائه، لأنه معلوم الثبوت والبقاء
سواء وجد العنب - مثلا - أو انعدم، وسواء تحقق الغليان أو لم يتحقق، لأنه لا
يرتبط الا بالموضوع الكلي لا بالخارج.
نعم يمكن ان يحصل الشك في بقائه من جهة الشك في النسخ، وهذا مما
لا يرتبط بما نحن فيه.
وثانيهما: ما يرتبط بمقام الفعلية والمجعول، وهو الحكم الفعلي الثابت عند
وجود موضوعه بشرائطه. ومن الواضح ان هذا الحكم لا يقين بحدوثه قبل تحقق
المعلق عليه، فلا معنى لاستصحابه.
وليس لدينا أمر شرعي آخر غير هذين، ففي اي شئ يجري
الاستصحاب؟.
ومن هنا يظهر ان استدلال صاحب الكفاية على جريان الاستصحاب
في الحكم التعليقي بان له نحو وجود، ولذا كان موردا للخطابات الشرعية، غير
وجيه، لان ما هو مورد للخطابات الشرعية هو الحكم الانشائي الذي عرفت
الحال فيه.
نعم، إذا ثبت ان الحكم الفعلي يكون له نحو وجود بتحقق أحد جزئي
موضوعه ويكمل بحصول الجزء الاخر. وبعبارة أخرى: نقول - مثلا - ان الحرمة
197

المرتبة على العنب المغلي، تكون فعلية من جهة عند تحقق العنب قبل الغليان،
فتثبت للعنب حرمة فعلية قبل غليانه، أمكن على هذا استصحاب هذه الحرمة
الفعلية من جهة لو شك في بقائها عند تبدل العنب إلى زبيب.
لكن هذا المعنى لا يعدو الفرض والخيال، إذ لا ثبوت للحكم أصلا وبوجه
من الوجوه قبل ثبوت موضوعه بكامل أجزائه كما هو مقتضى مفاد الانشاء
والجعل.
ودعوى: ان العنب قبل الغليان - مثلا - يتصف بالحرمة على تقدير
غليانه، وهذا لا ثبوت له في غير العنب كالبرتقال. ومن الواضح ان هذه الحرمة
التي يتصف بها ليست بالحرمة الفعلية المتأخرة عن الغليان ولا الانشائية، لأنها
واردة على الموضوع الكلي فيكشف ذلك عن وجود أمر وسط بين الحرمة
الانشائية والحرمة الفعلية التامة.
مندفعة: بان هذه الحرمة التقديرية التي يتصف بها العنب قبل غليانه لا
حقيقة لها سوى الحرمة الفعلية الثابتة على تقدير الغليان التي يتعلق بها ادراك
العقل من الآن، فالعقل فعلا يدرك تلك الحرمة، فيعبر عنها بالحرمة على تقدير
الغليان، لا أنها ثابتة بثبوت فعلي من جهة كما يحاول ان يدعي، وقس ما ذكرناه
في الأمور التكوينية فإنه لو فرض ان العنب على تقدير غليانه يكون مسكرا
فقبل غليانه يوصف بأنه مسكر على تقدير الغليان.
وهل يتوهم أحد ان الاسكار ثابت من جهة تحقق أحد جزئي
موضوعه؟، بل هذا التعبير لا يعبر إلا عن ادراك العقل لمرحلة فعلية الاسكار
عند الغليان، فهو إشارة إلى ذلك الوصف الفعلي الثابت عند تحقق كلا جزئي
موضوعه، بل لا مقتضي لان نقول بأنه معنى انتزاعي عقلي ثابت بالفعل،
فليست الحرمة الفرضية والتقديرية أمرا وراء الحرمة الفعلية الثابتة في ظرفها،
بل هي تعبير عنها وإشارة إليها، كما هو الحال في الأمور التكوينية التعليقية.
198

ومن هنا يظهر ان ما أفاده الشيخ (رحمه الله) من اجراء الاستصحاب في
الملازمة ليس بسديد، إذ ليست الملازمة المفروضة الا تعبيرا آخر عن تحقق الحرمة
عند تحقق كلا الجزئين وهو أمر واقعي متعلق لادراك العقل، فتدبر.
وجملة القول: ان إجراء استصحاب الحكم التعليقي على هذا المسلك مما
لا أساس له.
فان قلت: هذا يتم بناء على مسلك المشهور في الانشاء من كونه استعمال
اللفظ بقصد التسبيب إلى الاعتبار العقلائي في وعائه المناسب، إذ ليس لدينا
سواء الانشاء الذي لا شك في بقائه، والاعتبار العقلائي وهو الذي لا يقين
بحدوثه.
وأما بناء على مسلك صاحب الكفاية الذي قربناه وقررناه من: انه
التسبيب إلى وجود المعنى بوجود انشائي يكون موضوعا للاعتبار العقلائي في
وعائه، - فلا يتم منع استصحاب الحكم التعليقي، وذلك لان الحكم موجود بالفعل
- قبل تحقق شرطه - بوجود انشائي وان توقفت فعليته على تحقق شرطه. وهذا
الحكم ثابت للفرد الخارجي من الموضوع، لان المنشأ - مثلا - هو حرمة شرب
ماء العنب إذا غلى. ومن الواضح ان الشرب يرتبط بالعنب الخارجي، فحرمة
الشرب ثابتة للموضوع الخارجي. فالعنب عند وجوده تثبت له حرمه إنشائية،
فإذا شك في بقائها وزوالها بعد تبدل وصف العنبية إلى الزبيبية جرى استصحابها
وترتب عليه الأثر.
نعم، هذا يتم لو اخذ معروض الحرمة ذات العنب وكان الغليان ملحوظا
شرطا. واما لو كان الغليان قيدا للموضوع بحيث كان الموضوع هو العنب المغلي
امتنع الاستصحاب لعدم ثبوت الحرمة الانشائية لذات العنب بل العنب المغلي،
والمفروض عدم تحققه. فتدبر.
قلت: الحكم الانشائي الذي التزمنا به لا يعرض على كل فرد من افراد
199

الموضوع المأخوذ في العنوان، بل معروضه هو نفس الكلي، لكن بلحاظ وجوده
في الخارج.
اما كون معروضه وموضوعه هو الكلي دون الافراد الخارجية، فلانه يوجد
مع قطع النظر عن تحقق فرد الموضوع خارجا، بل هو ثابت حتى مع فرض عدم
وجود أي فرد بالفعل لموضوعه، بل قد يكون الداعي في جعل الحكم هو اعدام
الموضوع كالاحكام الثابتة في باب الحدود.
واما لحاظ الوجود في الكلي المأخوذ في موضوعه، فلان الفعل المضاف إلى
الموضوع - كالشرب بالنسبة إلى العنب - لا يضاف إليه بما هو كلي، بل بما هو
موجود في الخارج.
وإذا ظهر أن الحكم الانشائي طار على الموضوع الكلي فقد عرفت أنه
لا يشك في بقائه الا من جهة النسخ، نعم يشك في شموله للزبيب - مثلا -، ومثله
لا معنى. لاستصحابه، لأنه شك في الحدوث.
نعم، إذا وجد فرد من الموضوع في الخارج تتحقق هناك إضافة بينه وبين
الحكم من باب انه مصداق للموضوع الكلي. والشك في البقاء يطرء على هذه
الإضافة بعد تبدل وصف الفرد الخارجي، كتبدل العنب إلى الزبيب.
ولكن من المعلوم ان هذه الإضافة ليست شرعية كي يتكفل
الاستصحاب بقائها، فلا يجري فيها الاستصحاب.
وبهذا البيان تعرف: ان ما أفاده المحقق الأصفهاني (رحمه الله) - من
التفصيل في اجراء الاستصحاب في الحكم الانشائي بين ما إذا كان الشرط
كالغليان قيدا للموضوع، بحيث كان الموضوع هو العنب المغلي فلم يلحظ في
الموضوع إلا تقدير واحد، وهو تقدير العنب المغلي وبين ما إذا كان شرطا للحكم
لا قيدا للموضوع، بحيث كان الموضوع هو العنب. فهنا تقديران: أحدهما تقدير
العنب. والثانية في تقدير الغليان. ففي الأول لا يجري الاستصحاب لعدم ثبوت
200

الحكم لذات العنب قبل الغليان، لأنه مضاف إلى العنب المغلي، والعنب ليس
محكوما بالحرمة لا الانشائية ولا الفعلية. وفي التقدير الثاني يجري، لان الحكم
ثابت لذات العنب ومضاف إليه وان اخذ الغليان شرطا له، لكنه مضاف إلى ذات
العنب لا العنب المغلي، فيقال: يحرم العنب إذا وجد وإذا غلا، فقد أضيفت الحرمة
إلى ذاته، فمع وجوده تثبت له الحرمة فتستصحب عند تبدل الوصف إلى
الزبيبية (1) ما أفاده (قدس سره) غير متجه، لأنه مبني على كون الحكم الانشائي ثابتا
للافراد الخارجية رأسا، وهو ما عرفت نفيه، وان الحكم لا يثبت للفرد الخارجي،
بل يضاف إليه من باب انه مصداق للموضوع الكلي، وهذه الإضافة ليست من
الأمور الشرعية كي تستصحب.
والذي يتحصل: ان الاستصحاب في الحكم التعليقي لا مجال له على هذا
المسلك في جعل الاحكام.
واما على المسلك الثاني: وهو الالتزام بفعلية المجعول من زمان الجعل
وعدم امكان انفكاكهما، فقد يفصل بين صورة أخذ التقدير المعلق عليه الحكم
غير الحاصل بالفعل قيدا لمعروض الحكم، وصورة اخذه قيدا لنفس الحكم.
توضيح ذلك: ان الغليان المأخوذ في حرمة العنب..
تارة: يلتزم بأنه دخيل في معروض الحكم بحيث يكون المعتبر بالفعل هو
الحرمة المطلقة للعنب المغلي.
وأخرى: يلتزم بأنه دخيل في نفس الحكم، بمعنى ان المعتبر بالفعل هو
الحرمة المقيدة بالغليان والموضوع ذات العنب، فالمعتبر حصة خاصة من الحرمة
هي الحرمة على تقدير الغليان، وهي ثابتة بالفعل ومعروضها هو العنب.
ففي الصورة الأولى: لا يجري استصحاب الحرمة، لأنها وان كانت ثابتة
بالفعل: الا ان موضوعها هو العنب المغلي، فالعنب قبل غليانه لا تثبت له تلك

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 89 - الطبعة الأولى.
201

الحرمة، فمع تبدله إلى الزبيب لا يمكن استصحاب الحرمة لعدم ثبوتها له سابقا
بل هي ثابتة للعنب الخاص.
وفي الصورة الثانية: يجري الاستصحاب، لان العنب كان معروضا
للحرمة الخاصة، فتستصحب عند تبدله إلى الزبيب، ويترتب عليها الأثر عند
حصول الغليان.
ولكن يشكل هذا التفصيل، لاجل الاشكال في مبناه، وهو اعتبار الحرمة
على تقدير متأخر، فإنه قد مر الاشكال فيه، وانه يستحيل ان تعبر بالفعل الحرمة
على تقدير متأخر بحيث يكون لها وجود فعلي قبل حصول التقدير، فراجع
مباحث الواجب المشروط. ولا حاجة إلى إطالة الكلام فيه فعلا.
واما على المسلك الثالث - الذي قربه المحقق العراقي -: وهو الالتزام
بان حقيقة الحكم التكليفي ليست الا الإرادة والكراهة المبرزتان بالانشاء،
وليست هي حقيقة جعلية كحقيقة الحكم الوضعي بل هي حقيقة واقعية.
فقد قرب المحقق العراقي جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي،
ببيان: ان الإرادة بما انها من الأوصاف الوجدانية التي تعرض على الصور
الذهنية لا من الأمور الخارجية، لم يكن وجودها منوطا بحصول الشرط في
الخارج، بل الشرط هو الوجود الفرضي اللحاظي، وهو حاصل بالفعل، فالإرادة
متحققة فعلا بلا ان يعلق وجودها على وجود الشرط خارجا، وانما يكون وجود
الشرط دخيلا في فاعلية هذه الإرادة ومحركيتها. وإذا كان الحكم فعليا دائما كان
مجرى الاستصحاب عند تبدل حالة الموضوع، ولم يكن فيه اشكال.
ولكن ما افاده (قدس سره) مردود من وجهين:
الأول من جهة أصل المبنى، وهو الالتزام بان الحكم حقيقته الإرادة
وليس هو من الأمور الجعلية فإنه غير صحيح، فان المرجع في تشخيص ذلك هو
الاحكام العرفية المنشأة من قبل الموالي. ومن الواضح ان المحسوس ان المولى
202

يقوم بجعل الحكم لا مجرد ابراز الإرادة، كيف؟ ولازمه عدم صحة الحكم في مورد
تكون المصلحة فيه نفسه لا في متعلقه، إذ في مثل ذلك لا تكون هناك إرادة متعلقة
بالفعل لأنها تتبع المصلحة فيه، مع أن ثبوت الاحكام في مثل هذا المورد لا يقبل
الانكار.
هذا مع أنه يستلزم عدم قابلية الحكم للجعل الظاهري والتعبد به ظاهرا،
لأنه امر واقعي لا يقبل الجعل، كما أنه يستلزم عدم قابليته لرفعه منة، إذ ارتفاع
الإرادة لارتفاع المصلحة لا منة فيه. فما أفاده انكار لما هو المسلم المعروف ولا
يمكننا الاخذ به.
الوجه الثاني: من جهة البناء، فإنه لو سلم بان الحكم حقيقته الإرادة،
فالالتزام بفعلية الإرادة قبل تحقق الشرط لا نسلمه، بيان ذلك: ان القيود الدخيلة
في المصلحة على قسمين:
أحدهما: ما كان دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة وكونه ذا مصلحة،
نظير المرض بالنسبة إلى الدواء، فان الدواء لا مصلحة فيه إذا لم يحصل المرض.
والاخر: ما كان دخيلا في فعليه المصلحة وترتبها على الفعل، كجعل
الدواء مدة معينة على النار الدخيل في تأثيره في رفع المرض وترتب المصلحة.
ولا يخفى ان القسم الأول من القيود يعير عنه بقيود الموضوع، لاخذها
في موضوع الحكم، بحيث يترتب الحكم على وجودها. بخلاف القسم الثاني،
فإنهما قيود المتعلق، ولذا تؤخذ في المتعلق ويكون للحكم تحريك ودعوة نحوها.
ومن الواضح ان القسم الأول دخيل في تحقق الإرادة بحيث انه لا
تتحقق الإرادة قبل وجوده خارجا، فلا شوق لاستعمال الدواء قبل حصول
المرض، ولا شوق للأكل قبل حصول الجوع وهكذا، وهذا آمر لا يكاد ينكره
الوجدان. وكون متعلق الإرادة هو الوجود الذهني لا ينافي ما قلناه، لان هذه
القيود ليست مأخوذة في المتعلق، بل هي دخيلة في تحقق أصل الإرادة لا انها
203

معروضة للإرادة. اذن فكون الحكم التكليفي هو الإرادة لا يلازم تحققه بالفعل،
وقبل تحقق موضوعه بشرائطه.
ما افاده لا يبعد أن يكون خلطا بين قيود المتعلق المعروض للإرادة
بوجوده الذهني وقيود الموضوع الدخيل في نشوء الإرادة وعروضها على متعلقها.
ودعوى: ان الإرادة موجودة فعلا، وانما هي متعلقة بالفعل على تقدير
الموضوع.
منافية للوجدان الذي لا يحس بالشوق قبل حصول الموضوع، بل قد
يحس بالفعل بعكس الشوق، فلا حظ.
وبالجملة: ما أفاده (قدس سره) ممنوع مبنى وبناء فتدبر.
والذي يتضح لدينا من جميع ما ذكرناه: انه لا مجال لجريان الاستصحاب
في الحكم التعليقي.
ثم إنه لو سلمنا تمامية المقتضي لجريان الاستصحاب فيه. فقد يشكل:
بأنه محفوف بالمانع دائما، وهو المعارض، وذلك لان المحكوم بالحرمة التعليقية -
مثلا - محكوم بالحلية التنجيزية قبل حصول المعلق عليه بالحرمة، فبعد حصوله
يستصحب الحكم التنجيزي، فيتحقق التعارض بين الاستصحابين دائما، ففي
مثل الزبيب إذا حكم بحرمته على تقدير الغليان بواسطة الاستصحاب، يعارض
ذلك باستصحاب حليته المنجزة الفعلية المتيقنة قبل الغليان، فيكون مقتضاه
الحلية بعد الغليان، ومقتضى استصحاب الحرمة التعليقية هو الحرمة بعد الغليان،
فيتعارضان.
وقد تصدى الاعلام (قدس سرهم) لدفع هذا الاشكال. وعمدة ما قيل
في دفعه وجهان:
الوجه الأول: ما أفاده في الكفاية من: أن الحلية الثابتة للعنب ليست
حلية مطلقة، بل هي حلية مغياة بالغليان، فالغليان كما هو شرط للحرمة كذلك
204

هو غاية للحلية. وعليه فمع تبدل حالة العنب إلى الزبيب، فكما يستصحب
الحرمة التعليقية الثابتة أولا كذلك يستصحب الحلية المغياة ولا تعارض بين هذين
الاستصحابين لعدم التنافي بين الحكمين، كما كانا ثابتين في حالة القطع، ومقتضى
الاستصحاب انتفاء الحلية عند حصول الغليان لحصول الغاية.
وجملة القول: ان الحلية الثابتة للزبيب قبل الغليان حلية خاصة لا تتنافى
مع الحرمة المعلقة بوجه من الوجوه وهي الحلية المغياة (1).
وتحقيق الكلام فيما افاده صاحب الكفاية: أن الغاية الثابتة للحلية اما ان
تكون عقلية، واما ان تكون شرعية.
وعلى الثاني: اما أن يكون مفاد دليل الغاية نفي الحكم بعدها لا أكثر،
فيرجع الدليل الدال على الحكم المغيى إلى بيان امرين: أحدهما: ثبوت الحكم
مستمرا إلى الغاية. والاخر: نفيه بعد حصولها.
واما أن يكون مفاد دليل الغاية بيان خصوصية وجودية لازمها الانتفاء
فيما بعد الغاية، ونظير هذا الترديد ما يقال في أداة الاستثناء. وان انتفاء حكم
المستثنى منه عن المستثنى هل هو بالمنطوق أو بالمفهوم؟ فراجع.
وعليه، نقول: انه لا شك في أن استصحاب الحلية المغياة لا يجري بلحاظ
ما بعد الغاية للقطع بارتفاع تلك الحلية عند حصول الغاية. وانما الملحوظ في
جريان الاستصحاب هو زمان ما قبل حصول الغاية. ومن الواضح ان أصل
الحلية قبل حصول الغاية لا يشك فيها للقطع بثبوتها، وانما المشكوك هو
خصوصية كونها مغياة وعدمه بعد أن كانت ثابتة، فالاستصحاب انما يجري في
يقاء هذه الخصوصية للحلية فالمستصحب هو ثبوت كون الحلية مغياة.
وحينئذ يقال:
ان الغاية ان كانت عقلية فلا مجال لاستصحابها، لان الاستصحاب

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 412 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
205

يجري في الأمور الشرعية.
وان كانت شرعية، فإن كان مرجعها إلى عدم ثبوت الحكم فيما بعدها لا
أكثر بلا ان تكون هناك خصوصية وجودية، فمرجع الشك فيها إلى الشك في
بقاء الحلية بعد حصول الغاية وعدم بقائها، والمفروض ثبوت الحلية قبل الغاية
فلا مجال الا لاستصحاب الحلية بعد الغاية لا عدمها. نعم ان كان مرجعها إلى
ثبوت خصوصية وجودية تلازم عدم الحكم فيما بعدها، فالشك فيها شك في بقاء
تلك الخصوصية فتستصحب، ولازمها انتفاء الحكم عند حصولها.
اذن فاستصحاب المغياة بالنحو الذي أفاده انما يأتي على التقدير الأخير،
وهو غير ثابت، وذلك لان ثبوت اخذ الغليان - مثلا - غاية للحلية شرعا انما هو
بدليل العقل، باعتبار ان الحرمة الثابتة بعد تحقق لا يمكن ان تجتمع مع الحلية
للتضاد، فالدليل الدال على الحرمة بعد الغليان يقتضي بحكم العقل انتفاء الحلية
بعده. ومن الواضح ان مفاد هذا ليس إلا ارتفاع الحلية عند الغليان، فيكون
مرجع الغاية ههنا إلى نفس عدم الحلية بعد الغليان لا إلى خصوصية وجودية
تلازم ارتفاع الحلية، فالمشكوك رأسا هو ارتفاع الحلية وعدمه لا بقاء الخصوصية
وعدمه.
وبالجملة: دليل الغاية ليس دليلا شرعيا لفظيا كي يستفاد منه خصوصية
وجودية تلازم الانتفاء فيما بعد الغاية - لو سلم ذلك في نفسه - بل هو دليل عقلي
ومرجعه إلى ما عرفت من الحكم بالانتفاء فيما بعد الغاية رأسا. فتدبر.
فالمتحصل: ان ما أفاده (قدس سره) لا يمكن الموافقة عليه.
ثم إنه لو فرض جريان هذا الاستصحاب بالنحو الذي قربناه من كون
مرجع الغاية إلى تقيد الحكم بخصوصية وجودية، فيستصحب ذلك التقيد ولازمه
انتفاء الحكم فيما بعد تحقق الغاية. فلا مجال لما أورد عليه من معارضته
باستصحاب الحلية الفعلية الثابتة قبل الغليان بنحو استصحاب الكلي، للعلم
206

بثبوت كلي الحلية الفعلية الثابتة قبل الغليان، ويشك في ارتفاعه بعد الغليان
للشك في خصوصية الفرد الحادث فتستصحب الحلية، ويكون من مصاديق القسم
الثاني من استصحاب الكلي.
والوجه في عدم ورود هذا الايراد: ان استصحاب الحلية المغياة بالنحو
الذي ذكرناه لا يبقي مجالا لاستصحاب كلي الحلية..
اما على الالتزام بان العلم التفصيلي بثبوت فرد معين مع احتمال انطباق
الكلي العلوم بالاجمال عليه يستلزم انحلال العلم الاجمالي تكوينا. فهو واضح
لو قلنا بان الحكم الظاهري على تقدير مصادفته للواقع هو عين الواقع لا فرد
آخر مماثل له. وذلك لأنه باستصحاب الحلية المغياة نعم بثبوت الحلية المغياة
فعلا، ونحتمل ان تكون هي الحلية الواقعية المتعلقة للعلم الاجمالي، ونحتمل أن لا
تكون هي لاحتمال كون الحلية الواقعية مطلقة.
وعليه، فينحل العلم الاجمالي تكوينا، فلا يقين لدينا الا بفرد معين دون
الجامع، فلا مجال للاستصحاب، لعدم اليقين بحدوث الكلي المردد بين فردين بعد
فرض الانحلال حقيقة.
وأما لو لم نقل بالانحلال الحقيقي باحتمال الانطباق على الفرد المعلوم
بالتفصيل، أو لم نقل بان الحكم الظاهري على تقدير مصادفته للواقع هو عين
الواقع، بل فرد مماثل له غيره، فلا ينحل العلم بكلي الحلية المردد بين انطباقه
على الحلية المغياة والحلية المطلقة حقيقة، لكنه ينحل حكما باستصحاب الحلية
المغياة، ويترتب على الانحلال الحكمي نظر المورد نفسه عدم جريان
الاستصحاب فيه كمورد الانحلال الحقيقي. نعم لو لم نقل بتأثير الانحلال
الحكمي إلا في رفع منجزية العلم الاجمالي، فلا تأثير له في استصحاب الكلي
بقاء، لكنه خلاف ما يلتزم به المورد نفسه. فهذا الايراد لا يصلح صدوره من مثله.
فالتحقيق في الايراد على صاحب الكفاية ما ذكرناه.
207

الوجه الثاني: ما أفاده الشيخ (رحمه الله) من: ان استصحاب الحرمة
المعلقة حاكم على استصحاب الحلية المطلقة، وعلل ذلك: بان الشك في الحلية
مسبب عن الشك في الحرمة المعلقة، فيكون الاستصحاب في الحرمة سببيا
والاستصحاب في الحلية مسببا، والأصل السببي حاكم على الأصل المسببي (1).
وقد ذكر هذا الوجه المحقق النائيني (رحمه الله) وقد أورد عليه في بعض
الكلمات: بأنه لا سببية ومسببية بين الحرمة المعلقة والحلية المطلقة، بل هما حكمان
متضادان يعلم اجمالا بثبوت أحدهما، فهما في مرتبة واحدة. هذا مع أن لو سلمت
السببية والترتب بينهما فهو ليس بشرعي بل عقلي، فان ثبوت الحرمة المعلقة
لازمها عقلا عدم الحلية على تقدير الغليان، لا بحكم الشارع (2).
والتحقيق: ان استصحاب الحرمة المعلقة وإن لم يكن سببيا بلحاظ
استصحاب الحلية لما ذكر، الا انه مقدم عليه بنفس ملاك تقدم الأصل السببي
على الأصل المسببي.
وتوضيح ذلك: ان ملاك تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي هو ما
أشير إليه في الكفاية (3) وأوضحناه في محله من: ان العمل بالأصل السببي لا يلزم
منه محذور، الا ان الاخذ بالأصل المسببي ورفع اليد عن السببي اما أن يكون
بلا وجه أو بوجه دائر، لان الاخذ به مبني على عدم جريان الأصل السببي
الرافع لموضوعه، وهو متوقف على تخصيص دليله بواسطة العلم بالأصل المسببي
فيلزم الدور.
وهذا الملاك يجري فيما نحن فيه، فان استصحاب الحرمة التعليقية
الجاري قبل الغليان يلزمه ترتب الحرمة عند الغليان، وهذه الملازمة وان كانت

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 380 الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 473 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 431 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
208

عقلية، لكن اللازم لازم أعم للحرمة المعلقة الواقعية والظاهرية، فان المجعول يثبت
بثبوت الجعل ظاهرا.
وعليه، فالاستصحاب المزبور يبين حكم الشك في الحرمة والحلية بعد
الغليان ويتكفل اثباته، فهو ينظر إلى مؤدى استصحاب الحلية الجاري بعد
الغليان.
وأما استصحاب الحلية، فهو لا يتكفل بيان حكم الشك في الحرمة المعلقة
ولا يترتب عليه نفيها، فالأخذ به وطرح استصحاب الحرمة المعلقة اما أن يكون
بلا وجه أو بوجه دوري، يعني يكون متوقفا على الاخذ باستصحاب الحلية
المتوقف على سقوط استصحاب الحرمة، إذ لا يمكن الاخذ بهما معا، وليس الامر
كذلك لو اخذ باستصحاب الحرمة المعلقة، فان طرح استصحاب الحلية يكون
بواسطة تكفل استصحاب الحرمة المعلقة لحكم الشك فيها، لأنه كما عرفت
يتكفل بيان حكم فردين من الشك، فلا يكون بلا وجه أو بوجه دائر. فتدبر
جيدا.
وبعبارة أخرى: ان لدينا شكين: أحدهما: الشك في الحرمة المعلقة
وثانيهما الشك في الحلية الفعلية بعد الغليان. واستصحاب الحرمة المعلقة يتكفل
بيان حكم كلا الشكين، واما استصحاب الحلية الفعلية، فهو لا ينظر إلى الشك
في الحرمة المعلقة ولا يتكفل بيان حكمها.
وعليه، فالأخذ به يستلزم طرح استصحاب الحرمة المعلقة بلا وجه.
بخلاف الاخذ باستصحاب الحرمة، فان عدم العمل باستصحاب الحلية يكون
بسب تصدي استصحاب الحرمة لبيان حكم الشك، فلا يكون رفع اليد عن
مقتضى استصحاب الحلية بلا وجه.
والمتحصل: ان اشكال المعارضة مندفع. نعم العمدة في الاشكال في
استصحاب الحكم التعليقي هو دعوى قصور المقتضي كما مر بيانه وتقريبه.
209

هذا كله في جريان الاستصحاب التعليقي في الاحكام.
ولا بأس بالحاقه بالتكلم في جريان الاستصحاب التعليقي في
الموضوعات - على تقدير الالتزام بجريانه في الاحكام - وهو لا يخلو عن فائدة
عملية، كما لو شك في كون اللباس من مأكول اللحم أو لا، فإنه يقال، كانت
الصلاة قبل لبس هذا الثوب المشكوك لو وجدت ليست في ما لا يؤكل لحمه،
والآن هي كذلك ونحو هذا المثال كثير.
وقد مر في الكلام في التدريجيات اجراء استصحاب كون الامساك نهاريا،
والتنبيه على أنه من الاستصحاب التعليقي - بلحاظ بعض تقاديره -.
والتحقيق: انه لا مجال لجريان الاستصحاب فيها أصلا، إذ ليس هنا امر
شرعي يكون مجرى الاستصحاب أو يكون إجراء الاستصحاب بلحاظه. وذلك
لان الحكم الشرعي متعلق بالطبيعة الخاصة بلحاظ وجودها.
اما الفرد الخارجي الموجود، فهو مسقط للتكليف وليس متعلقا له، فما
يترتب على الفرد الخارجي هو سقوط التكليف، وهو من آثار الوجود الفعلي
للطبيعة وما هو متعلق الامر هو نفس الطبيعة على تقدير وجودها.
ولا يخفى ان ما شك في واجديته للشرط الذي يراد استصحابه أجنبي
عن متعلق الامر، إذ لا شك في مقام تعلق الامر، وانما الشك في مرحلة انطباق
الطبيعي وتحققه في الخارج وهذا لا يرتبط بالشارع ولا اثر له شرعا، لان الحكم
الشرعي مرتب على الطبيعة لا الفرد الخارجي. كما أنه أجنبي عن مرحلة سقوط
الامر لان سقوط الامر يتحقق بالفرد الموجود فعلا لا تقديرا. اذن فمجرى
الاستصحاب لا يرتبط لا بمقام تعلق الامر ولا بمقام سقوطه، فأي أثر شرعي
يترتب على جريان الاستصحاب فيه. نعم لازم الاستصحاب ان الفرد المتحقق
في الخارج يكون من مصاديق المأمور به، وهذا ليس بلازم شرعي كما لا يخفى.
وبالجملة: الاستصحاب التعليقي في الأمور الخارجية من متعلقات
210

الاحكام أو موضوعاتها لا أساس له ولا يمكن الالتزام به فلا حظ.
التنبيه الخامس: في استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى احكام
الشرائع السابقة وبالنسبة إلى احكام هذه الشريعة الثابتة في صدر الاسلام (1).
وقد ذكر لهذا المبحث ثمرات أشار إليها الشيخ (رحمه الله).
النبيه السادس: في الأصل المثبت.
وتحقيق الكلام: ان مجرى الاستصحاب تارة يكون حكما شرعيا. وأخرى
يكون موضوعا شرعيا لحكم شرعي. وثالثة لا يكون حكما شرعيا ولا موضوعا
لحكم شرعي، وانما هو ملازم لما هو موضوع للحكم الشرعي بالملازمة غير
الشرعية.
ومحل الكلام في هذا التنبيه هو هذا القسم، فيبحث في أن الاستصحاب
هل يجري لاثبات الآثار الشرعية غير المترتبة شرعا على المستصحب وانما
تترتب على ما يلازمه أولا يجري؟.
وبتعبير اخر: الكلام في ثبوت الآثار غير الملازمة شرعا للمستصحب.
والمتجه ان يقال: ان دليل الاستصحاب على اختلاف المباني في المجعول
فيه من كونه المتيقن أو الموصول والطريقية أو اليقين بلحاظ الجري العلمي أو
لزوم الالتزام، لا يتكفل سوى التعبد في حدود اليقين السابق، فما كان على يقين
منه هو مجرى الاستصحاب وهو موضوع التعبد، فلا يتصدى إلى أكثر من ذلك.
وعليه فلا يتعبد باللازم العقلي أو العادي للمستصحب، لأنه ليس مورد اليقين
السابق - لفرض كونه ملازما بقاء والا كان هو مجرى الاستصحاب نفسه -، كما

(1) وبما أن السيد الأستاذ - دام ظله - لم يزد على ما جاء في الكفاية من النقض والابرام لعدم الضرورة
في الإطالة، أهملنا كتابة ما افاده اتكالا على الكفاية نفسها، فان فيها غنى وكفاية. والله سبحانه
الموفق العاصم وهو حسينا ونعم الوكيل.
211

لا يتعبد بأثره، لأنه ليس من احكام المستصحب، بل من احكام لازمه الذي لم
يتحقق التعبد به.
وبعبارة أخرى: ان دليل الاستصحاب يتكفل النهي عن نقض اليقين
بالشك، فمفاده ليس إلا التعبد في حدود المتيقن والمشكوك لا أزيد من ذلك، فما
ليس متعلقا لليقين والشك لا نظر لدليل الاستصحاب إليه.
وقد يقرب شمول التعبد للآثار المترتبة على لوازم المستصحب بوجهين:
الأول ان دليل الاستصحاب يتكفل الالزام بمعاملة المتيقن السابق
معاملة البقاء بحيث يفرض الشاك نفسه متيقنا بالمشكوك، ولازم ذلك العمل
بكل ما ينشأ من يقينه به أعم من أن يكون ترتبه بواسطة عقلية أو عادية أو غير واسطة.
ولعل هذا الوجه هو ما يشير إليه في الكفاية من: ان التعبد بالشئ تعبد
بلوازمه، لاتحاد جوابه عنه مع جواب الشيخ (قدس سره) (1).
فقد أجاب عنه الشيخ (رحمه الله): بان دليل الاستصحاب وان كان يتكفل
ذلك، لكنه بتكفل لزوم العمل بكل عمل ينشأ من تيقنه بالمشكوك خاصة دون
العمل الناشئ من اليقين بملازمته. ومن الواضح ان اثار الواسطة تترتب بلحاظ
اليقين بالواسطة لا اليقين بذي الواسطة، والمفروض ان التعبد انما كان باليقين
بذي الواسطة خاصة لأنه هو مورد اليقين السابق ولا ينفع في ترتب اثار
الواسطة (2).
الوجه الثاني: ان اثر الواسطة اثر لذي الواسطة، فإذا كان التعبد
بالمستصحب بلحاظ اثره - كما هو المفروض - ترتبت الآثار المترتبة بواسطة لأنها
من اثاره عرفا.
وهذا الوجه باطل، وذلك لأنه لم يرد في دليل التعبد لفظ الأثر وعنوانه

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 414 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 383 - الطبعة الأولى.
212

كي يقال ان اثر الأثر اثر، بل التعبد بالموضوع انما هو بلحاظ التعبد بحكمه
العارض عليه صونا للتعبد عن اللغوية، لان الموضوع لا يقبل التعبد. ومن
الواضح ان الحكم الثابت للواسطة لا معنى لان يقال إنه ثابت لذي الواسطة
ولا محصل له، فان نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة العارض إلى معروضه لا نسبة
المعلول إلى علته والأثر إلى مؤثره. ومن الواضح ان العارض على اللازم لا يكون
عارضا على الملزوم ولو قيل بان اثر الأثر اثر.
وبالجملة: الوجه المزبور مبنى على الخلط بين الأثر بمعنى المسبب
والمعلول، والأثر بمعنى الحكم العارض على المستصحب. وما يكون التعبد
بلحاظه هو الثاني، ولم يؤخذ عنوان التعبد بالأثر في دليل الاستصحاب وانما
لو حظ واقع التعبد به وهو راجع إلى التعبد بحكم المستصحب القابل للتعبد،
وحكم الواسطة ليس حكما لذيها.
هذا مع اختصاص هذا الوجه بما كانت الواسطة مترتبة على المستصحب
ولازمة له، فلا يشمل ما إذا كانت ملزومة له أو كانا لازمين لملزوم واحد، إذ لا
تكون الواسطة في هذين الموردين اثر للمستصحب كي يكون اثرها اثر له.
وجملة القول: ان عمدة انكار الأصل المثبت هو ما ذكرناه. ونبه عليه
الشيخ وتبعه غيره من: ان الذي يتكفله الاستصحاب هو التعبد في حدود ما كان
على يقين منه، ولا يتعداه لغرض كون المنهي عنه نقض اليقين بالشك، فالمنظور
هو اليقين السابق، فلا يتكفل التعبد بما ليس متعلقا لليقين السابق من اللوازم
ولا بآثارها، لعدم ثبوت موضوعهما، والمفروض انها ليست احكاما
للمستصحب.
ولا يخفى ان ما ذكرناه لا يختلف الحال فيه باختلاف المجعول في باب
الاستصحاب، بل يتأتى على جميع المباني، لان مرجعه إلى ضيق موضوع التعبد
بمقتضى دليله اي شئ كان المتعبد به من اليقين أو المتيقن أو غير ذلك. ومنه
213

يظهر التسامح الواقع في كتابي الرسائل والكفاية من ظهور بناء مسالة الأصل
المثبت على جعل الحكم المماثل لذكر ذلك تمهيدا للبحث الظاهر في ارتباطه به،
إذ لولا ارتباطه به لما اتجه ذكره كما لم يذكره في سائر التنبيهات.
ثم إنه يؤاخذ صاحب الكفاية بأمرين آخرين:
أحدهما: ما ذكره في مقام بيان حجية الأصل المثبت من: ان التعبد
بالمستصحب تعبد به بلوازمه العقلية والعادية، كما هو الحال في تنزيل مؤديات
الطرق والامارات (1).
فان هذا هو عين الدعوى، وكان ينبغي ان يذكر وجه ذلك، واما الاكتفاء
بمجرد الدعوى فهو بعيد عن الأسلوب العلمي.
هذا مع أنه سيأتي منه انكار ذلك حتى في الامارات، وارجاع التعبد بلوازم
المؤدى فيها إلى جهة أخرى.
ثانيهما: ما ذكره من أن اثر الأثر اثر، ونفاه بقصور مقام الاثبات لعدم
اطلاق دليل الاستصحاب، والمتيقن منه التعبد بالمستصحب بلحاظ آثار نفسه لا
اثار لازمه (2).
فإنك عرفت أنه لا وقع لهذا الكلام - أعني اثر الأثر اثر في هذا المقام
-، وانه أجنبي عنه بالمرة فلا وجه لتسليمه ههنا ورده بقصور الدليل. فانتبه.
وقد تصدى المحقق النائيني (رحمه الله) إلى تحقيق أصل المطلب، فذهب
إلى عدم حجية الاستصحاب المثبت لقصور مقام الثبوت دون مقام الاثبات.
وذكر في وجه ذلك: ان دليل الاستصحاب يتكفل التعبد باليقين بلحاظ
الجرى العملي بلا نظر إلى الواقع، فلا يثبت به سوى الجري العملي بالمقدار
الثابت من التعبد، وهو مقصور على مورد اليقين والشك لاخذه في موضوعه، فلا
يلزم سوى ترتيب الآثار الشرعية المرتبة على نفس المتيقن لعدم اليقين والشك

(1) (2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 414 - 415 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
214

بلوازمه وملزوماته.
ثم تعرض لوجه تعميم التعبد إلى اثار الواسطة ببيان: ان اثر الأثر اثر.
ورده: بان الأثر المترتب على الأثر إذا كان من سنخه، كما إذا كانا
تكوينين وتشريعين، فلا ريب ان اثر الأخير اثر لما يترتب عليه الأثر الأول،
اما في التكوينيات فظاهر لان معلول المعلول معلول للعلة الأولى. واما في
التشريعيات، كما لو ترتب على ملاقاة - النجس - نجاسة اليد، وترتب على
ملاقاتها نجاسة الثوب وهكذا، فان الآثار الطولية مترتبة بأجمعها على الملاقاة
الأولى ومن احكامها، فإذا جرى الاستصحاب وثبت به نجاسة شئ ترتب عليه
نجاسة ملاقيه ولو بألف واسطة.
واما إذا لم يكونا من سنخ واحد، كما إذا ترتب حكم شرعي على معلول
تكويني لشئ، فلا يصح القول بان اثر الأثر اثر، لان الأحكام الشرعية لا
تترتب على موضوعاتها ترتب المعلول على العلة، فلا يكون الحكم الثابت للمعلول
حكما ثابتا للعلة. هذا خلاصة ما افاده في المقام (1).
أقول: اما ما أفاده في انكار الأصل المثبت الراجع إلى بيان قصور التعبد
ثبوتا، فهو مستقى مما أفاده الشيخ (رحمه الله) الذي تقدم ذكره.
واما ما أفاده في رد القول بان أثر الأثر اثر، فيرد عليه ان الملحوظ ان
كان عنوان الأثر المساوق للمعلول، فهذه القاعدة تامة سواء كانت الآثار
الطولية من سنخ واحد أو من سنخين، فان المعلول الشرعي للمعلول التكويني
معلول للعلة الأولى لا محالة وان كان الملحوظ هو الحكم العارض على موضوعه،
فهو غير مسلم حتى مع كون الآثار من سنخ واحد، كما في مسالة الملاقاة، لما
عرفت أن حكم اللازم لا يكون حكما للملزوم.
نعم جميع هذه الأحكام الطولية تترتب لكن بواسطة التعبد بموضوعاتها

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 488 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
215

لا بواسطة التعبد بالملاقاة الأولى فقط، فتسليمه القاعدة مع وحدة السنخ دون
اختلافه مبني على الخلط بين الأثر بمعنى المعلول والأثر بمعنى الحكم.
وقد تقدم منا الكلام في تطبيق هذه القاعدة في المقام وانه لا محصل له أصلا.
ثم إن الشيخ (رحمه الله) استثنى من عدم حجية الأصل المثبت ما لو
كانت الواسطة خفية بنظر العرف، بحيث يعد العرف الأثر المترتب على
الواسطة مترتبا على المستصحب مباشرة ومن احكامه، فيكون عدم ترتيبه نقضا
لليقين بالشك. ومثل له باستصحاب الرطوبة في الملاقي - بالفتح - لاثبات
نجاسة ملاقيه، مع أن النجاسة من اثار السراية عرفا لا مجرد رطوبة الملاقي،
والسراية والتأثر برطوبة الملاقي من لوازم رطوبته، لكنها من اللوازم الخفية (1).
وقد تابعه على ذلك صاحب الكفاية وأضاف عليه صورة جلاء الواسطة
ووضوحها بنحو يمتنع التفكيك عرفا بين المستصحب والواسطة تنزيلا، كما لا
تفكيك بينهما واقعا، ويكون التعبد بأحدهما تعبدا بالاخر، ومثل له بمثالين:
الأول: العلة التامة والمعلول، فان التعبد بالعلة مستلزم للتعبد بالمعلول.
والثاني: المتضائفان كالأبوة والبنوة، فان التعبد بالأبوة تعبد بآثار البنوة
أيضا، لوضوح الملازمة بينهما (2).
واستشكل المحقق النائيني (قدس سره) في ذلك ببيان: ان العرف انما
يكون متبعا في تعيين مفاد الدليل، فقد يفهم العرف من دليل الحكم ثبوته للأعم
أو الأخص، كما يكون متبعا في تشخيص ما هو مقوم للموضوع وما هو من
حالاته ومن الجهات التعليلية بحسب مرتكزاته، وما يراه من مناسبات الحكم
والموضوع، ليتحقق بقاء الموضوع عند زوال تلك الخصوصية على الثاني دون
الأول، ويكون الرجوع إلى العرف في ذلك باعتبار انه الرجوع إليه في تعين مفاد
لفظ النقض الوارد في أدلة الاستصحاب.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 386 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 415 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
216

واما في غير هذين الموردين فلا يكون نظر العرف متبعا، لان العرف لا
يرجع في مقام التطبيق والتشخيص.
وعليه، فإن كان المراد من خفاء الواسطة ان الحكم - بنظر العرف بحسب
فهمه من الدليل أو بحسب مناسبات الحكم والموضوع المرتكزة لديه - ثابت
وعارض على ذي الواسطة، وتكون الواسطة من علل ثبوت الحكم، فهو راجع
إلى انكار الواسطة لكون معروض الحكم هو ذو الواسطة رأسا. وان كان المراد
به ان الحكم ثابت للواسطة، لكن لخفائها يرون ان انه احكام ذيها من باب
التسامح في التطبيق، فهو لا عبرة به كما عرفت (1).
وما أفاده (قدس سره) متين بل نقول: ان ما أفيد من أن العرف
عند خفاء الواسطة يرى ان الأثر الثابت للواسطة اثر لذيها ليس بسديد، وذلك
لما عرفت أن المراد بالأثر هو الحكم العارض على موضوعه. ومن الواضح ان
حكم الواسطة لا يعد حكما لذيها بنظر العرف مهما كانت الواسطة خفية، فان
العارض على اللازم لا يكون عارضا على الملزوم.
اذن فما افاده الشيخ (قدس سره) من استثناء صورة خفاء الواسطة من
عدم حجيته الأصل المثبت ممنوع كبرويا.
واما ما ذكره مثالا له من مورد استصحاب الرطوبة لاثبات الانفعال
الذي هو من أثار السراية والتأثر فتحقيق الكلام فيه:
أن أدلة الانفعال بملاقاة النجس أو المتنجس لا تقتضي الانفعال بمجرد
الملاقاة، ولو مع عدم الرطوبة المسرية في كلام المتلاقيين، وذلك أن الشارع قد
اعتمد في كيفية الانفعال على تشخيص العرف بملاحظة كيفية الانفعال
بالقذارات الخارجية الحقيقية وبما أن التعذر في تلك الموارد دائما يحصل مع رطوبة
أحد المتلاقيين بحيث تكون الملاقاة ملاقاة للرطب المساوق لتأثره وسراية بعض

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 494 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
217

الاجزاء القذرة إليه، ثبت ذلك في مورد القذارات الشرعية الاعتبارية، فان
السراية حقيقة وان كانت غير متصورة فيها بعد فرض كون النجاسة الشرعية
اعتبارية لا واقعية، الا ان كيفية انفعال الملاقي فيها مثل كيفية انفعاله في
القذارات الخارجية. وقد عرفت أنه قد يتوقف على رطوبة أحد المتلاقيين بحيث
يتحقق التأثر. فالمراد بالسراية الملحوظة ههنا ليس السراية الحقيقة كي يقال
بأنها غير مقصودة فيما نحن فيه، بل يراد ان موضوع الحكم بالانفعال هو ملاقاة
الرطب النجس بحيث تستند الملاقاة إلى الرطب بما هو رطب وهذه جهة مقومة
بنظر العرف نظير تقوم التقليد بالعلم والزكاة بالفقر، فان الحكم بالقذارة عرفا
لا يكون الا بملاحظة هذه الجهة وبدونها لا تقذر ولا قذارة. وعليه فموضوع الأثر
هو ملاقاة الرطب، فكما أن الملاقاة والرطوبة دخيلتان في ترتب الأثر كذلك
إضافة الملاقاة إلى الرطب وتقيدها ذلك. بحيث تكون الملاقاة ملاقاة الرطب.
وعليه، فباستصحاب الرطوبة لا يمكن اثبات الانفعال لعدم احراز كون
الملاقاة الرطب.
وبعبارة أخرى: لا يجوز إضافة الملاقات إلى الرطب المفروض انه
لخصوصية مقومة للموضوع، ولا معنى لاثبات الأثر بمجرد استصحاب الرطوبة
ببيان: ان أثر الواسطة الخفية أثر لذيها، إذ المفروض ان الرطوبة دخيلة في الأثر
في حد نفسها ومع قطع النظر عن الواسطة، وانما يشك في ترتب الأثر للشك في
تحقق جزء الموضوع، وهذا مما لا يثبت بالاستصحاب. وعليه يتضح ان المثال
أجنبي عن مبحث الواسطة الجلية والخفية، لان مورده ما إذا لم يكن ذو الواسطة
جزء الموضوع، بحيث يثبت له الأثر من طريق الواسطة فيتأتى حديث الواسطة
الخفية والجلية، دون ما إذا كان لو الواسطة بنفسه جزء الموضوع ودخيلا في ترتب
الأثر كما فيما نحن فيه فالتفت ولا تغفل.
واما ما ذكره صاحب الكفاية من استثناء صورة وضوح الملازمة، بنحو
يكون التعبد بأحدهما ملازما للتعبد بالاخر، كما في العلة التامة والمعلول، وكما في
218

المتضائفين.
فقد استشكل فيه المحقق الأصفهاني (قدس سره) (1) وتبعه عليه غيره (2): بان
هذا وان سلم كبرويا لكنه صغرويا لا مورد له واما مورد العلة والمعلول فهو خارج
عن محل الكلام، لان اليقين بحدوث العلة التامة يستلزم اليقين بالمعلول، فكما
تكون العلة التامة مجرى الاستصحاب كذلك يكون المعلول بنفسه لاجتماع
أركانه بالنسبة إليه. وهكذا الحال بالنسبة إلى المتضائفين، لأنهما متكافئان بالقوة
والفعلية خارجا وعلما، فاليقين بالأبوة مستلزم اليقين بالبنوة، فمع فرض تحقق
اليقين بأحدهما لا بد ان يفرض اليقين بالاخر فيكون كلامهما مجرى
الاستصحاب.
أقول: يمكن فرض مورد يتحقق اليقين بالعلة التامة ولا يمكن اجراء
الأصل في المعلول، كما لو فرض ان فعلا واحدا تدريجيا يكون علة لحصول
موجودات متكثرة ومتعددة بحسب استمرار وجوده، كما لو فرض ان حركة اليد
علة للقتل ما دامت مستمرة، ففي كل آن يحصل فرد للقتل، فمع الشك في بقاء
العلة التامة وهي الحركة يمكن استصحابها، ولا يمكن اجراء الأصل في المعلول
لتكثره وتعدد افراده، فهو في هذا الآن مشكوك الحدوث، وما تعلق به اليقين قد
تصرم وانتهى ولا شك في بقائه.
واما في المتضائفين، فما أفيد من التلازم بين الوجود الفعلي لهما تام بالنسبة
إلى مثل الأبوة والبنوة، واما مثل التقدم والتأخر والسبق واللحوق، فوجود
السابق متقدم زمانا على وجود اللاحق كما هو واضح جدا، وكون التقدم والتأخر
من المتضائفان مما لا يقبل الشك والتردد.
وعليه، فمع اليقين بتحقق الوجود السابق على وجود آخر، فإذا شك في

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 99 - الطبعة الأولى.
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصابح الأصول 3 / 160 - الطبعة الأولى.
219

زمان في بقاء ذلك الوجود بوصف كونه سابقا يستصحب كونه سابقا على الوجود
الاخر، ولازمه تأخر الوجود الاخر عنه بلحاظ ذلك الزمان. فيمكن ان يدعى
ان التعبد بسابقية أحد الوجودين لا ينفك عن التعبد بتأخر الوجود الاخر، ولذا
قد يعبر عن اشتراط البعدية باشتراط القبلية، كما ورد بالنسبة إلى صلاة الظهر
والعصر التعبير بان: " هذه قبل هذه "، مع أن الشرط هو كون صلاة العصر بعد
الظهر لا كون صلاة الظهر قبلها.
وبالجملة: مناقشة المحقق الأصفهاني (رحمه الله) الصغروية غير وجيهة.
وتحقيق الحال في المتضائفين ان يقال: ان العناوين المتضائفة كالأبوة
والبنوة والفوقية والتحتية ونحو ذلك عناوين انتزاعية عن خصوصية واقعية ونسبة
خاصة متحققة في ذاتي المتضائفين. فمن ملاحظة الوجودين بنحو خاص ينتزع
عنوان الفوق والتحت.
ولا يخفى ان الخصوصية الواقعية التي ينتزع عنها الفوقية والتحتية
واحدة، وانما التعدد في طرفي النسبة والربط وفي العنوان المنتزع، لا ان خصوصية
الفوقية غير خصوصية التحتية، نظير الملكية التي هي ربط خاص وعلاقة واحدة
ذات طرفين ومنشأ لانتزاع العناوين المتعددة.
وعليه، نقول: ان موضوع الأثر الشرعي الذي يكون مجرى التعبد...
ان كان هو منشأ انتزاع العناوين المتضائفة وهي تلك الخصوصية الواقعية
والربط الخاص - كما هو الصحيح حيث إن الدخيل هو منشأ الانتزاع لا نفس
العنوان -، كان التعبد بأحد المتضائفين غير التعبد بالاخر بلا ان تكون ملازمة
في البين، لان مرجع التعبد بالأبوة إلى التعبد بتلك الإضافة الخاصة التي تكون
منشأ لانتزاعها - والتعبد بها، كما يقتضي ترتيب آثار الأبوة يقتضي ترتيب آثاره
البنوة، لان الموضوع واحد وقد تحقق التعبد به.
واما ان كان موضوع الأثر هو نفس العنوان الانتزاعي وهو مجرى التعبد
الشرعي، فلا ملازمة بين التعبد بأحد المتضائفين والتعبد بالاخر، إذ لا وجه
220

لدعوى التلازم بين التعبدين بعد فرض تعدد العنوانين وتباينهما، فاستصحاب
الأبوة لا يقتضي التعبد بالبنوة. فتدبر.
ثم إنه قد ذكرت بعض الفروع التي قيل إن الاعلام تمسكوا فيها
بالأصل المثبت لا بأس بالتعرض إلى بعضها والتكلم فيها:
فمنها: ما لو شك في دخول الشهر، فإنه يتمسك باستصحاب بقاء الشهر
السابق في يوم الشك ويرتب بواسطته آثار أول الشهر على اليوم التالي كآثار
يوم العيد في شوال.
ومن الواضح ان الاستصحاب لا يثبت الأولية الا بالملازمة العقلية، بل
يرتب بواسطته آثار غير الأول من أيام الشهر كيوم التاسع والعاشر بالنسبة إلى
شهر ذي الحجة بلحاظ احكام الحج.
ولا يخرج الاستصحاب عن المثبتية الا بدعوى: ان عنوان الأول ليس إلا
منتزعا عن نفس كون هذا اليوم من هذا الشهر وكون سابقه من الشهر
السابق، فهو مركب من هذين الامرين، فيثبت باحراز أحدهما بالأصل والاخر
بالوجدان.
لكن هذا لا يلتزم به، فان عنوان الأولية منتزع عن خصوصية وجودية
بسيطة ونسبة خاصة في المتصف بها، وهذه الخصوصية لا تثبت بالأصل
الا بالملازمة. فيكون من الأصول المثبتة. وعليه فيشكل الامر في الموارد المزبورة.
وقد تفصى المحقق النائيني (رحمه الله): بأنه لا حاجة إلى الاستصحاب
في اثبات الأولية كي يشكل بأنه من الأصول المثبتة، فإنه يكفي في اثبات ذلك
ما ورد من النصوص الدالة على كون المدار في الصيام والافطار هو رؤية الهلال
أو مضي ثلاثين يوما من الشهر السابق (1)، فمع الشك في وجود الهلال يبني على
كون يوم الشك من الشهر السابق - بحكم هذه النصوص -، ومقتضاها ان أول

(1) وسائل الشيعة 7 / 182 باب 3 من أبواب احكام شهر رمضان.
221

الشهر اللاحق هو اليوم الآتي (1).
ولكن أورد عليه: بان هذه النصوص تختص بشهري رمضان وشوال، ولا
تعم سائر الشهور كشهر ذي الحجة، وقد عرفت ترتيب بعض الآثار على العنوان
العددي لبعض أيام فيها (2).
ولكن المورد - وهو السيد الخوئي - تفصي عن الاشكال بالالتزام
بجريان الاستصحاب في نفس أول الشهر ونظائره من الثاني والثالث. وذلك
ببيان: انه عند دخول اليوم الذي يتلو يوم الشك يحصل اليقين بحصول اليوم
الأول للشهر، اما باليوم السابق، أو بهذا اليوم، ويشك في بقائه للتردد المزبور
فيستصحب وجوده، فيثبت بقاء اليوم الأول من الشهر، وإن لم يحرز ان هذا اليوم
الذي هو فيه أول أو ليس بأول لان الأثر لا يترتب على اتصاف هذا اليوم
بالأولية. بمفاد كان الناقصة، بل يترتب على وجود اليوم الأول بمفاد كان التامة،
كما مر نظيره في استصحاب بقاء النهار والشهر ونحو ذلك مما تقدم في استصحاب
الزمان.
وهذا البيان مردود لوجوه:
الأول: ان اليوم الأول لا واقع له خارجي إلا ذات النهار مع خصوصية
فيه، وليس له وجود وراء النهار مع تقيده بالخصوصية التي يتصف بها.
ومن الواضح ان ذات النهار لا يشك فيها، وانما يشك في اتصافه
بالخصوصية التي ينتزع عنه عنوان الأولية، فلا شك لديه الا في كون هذا النهار
هل هو أول أو ليس بأول؟، واما الشك في بقاء اليوم الأول فهذا مما لا أساس
له، إذ عرفت أن اليوم الأول لا واقع له الا النهار المتصف بالخصوصية، فلا وجود
له وراء ذلك، فلا معنى لان يكون وجود اليوم الأول مشكوك وراء الشك في تحقق

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 499 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 165 - الطبعة الأولى.
222

الخصوصية واتصاف النهار المعلوم وجوده بها، إذ لا وجود للمجموع غير واقع
اجزائه كي يكون متعلقا لليقين والشك بنفسه.
وبالجملة: موضوع الأثر ليس هو عنوان اليوم الأول، بل هو واقعه، وقد
عرفت أنه لا يعدو الذات مع تقيدها بالخصوصية، فالشك واليقين اللذان يتعلقان
باليوم الأول انما يتعلقان بالذات مع التقيد، فإذا فرض ان الذات كانت معلومة
فالمشكوك ليس إلا تقيدها بالخصوصية. فلا محصل لدعوى تعلق اليقين بوجود
اليوم الأول والشك في بقائه كي يستصحب.
نعم، اليقين والشك يتعلقان بعنوان: " اليوم الأول " وانطباقه، لكن العنوان
بما هو لا اثر له ولا حكم يترتب عليه، وانما المدار على المعنون، وقد عرفت أنه
ليس إلا الذات مع تقيدها بالوصف وليس هناك وراء ذلك موجود ولو اعتبارا،
فتدبر تعرف.
الوجه الثاني: ان هذا الاستصحاب من باب استصحاب الكلي المردد بين
ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء، وقد تقدم منا الاشكال في جريانه
بنفس الاشكال في استصحاب الفرد المردد.
الوجه الثالث: انه لو سلم جريان الاستصحاب في الكلي مع تردده بين
فردين أحدهما مقطوع البقاء والاخر مقطوع الارتفاع، فلا مسرح له ههنا، بل
الاستصحاب ههنا من استصحاب الفرد المردد، وذلك لان المستصحب مردد
حدوثا وفي مرحلة اليقين بين ما هو منتف وما هو باق، ولا جامع بين هذين كي
يقال إنه متعلق اليقين بحيث يمكن الإشارة إليه على اجماله، كما هو الحال في
استصحاب القسم الثاني من الكلي، إذ لا جامع بين النسبة المتحققة والنسبة
الفعلية كي يكون متعلق العلم، بل المتيقن مردد حدوثا بين فردين، فيكون من
استصحاب الفرد المردد وقد عرفت الاشكال فيه.
والمتحصل ان اجراء الاستصحاب في اليوم الأول مما لا محصل له.
والتحقيق: انه ان استطعنا ان نستفيد من النصوص الواردة التعبد
223

الشرعي بالأولية مع انقضاء ثلاثين يوما عند الشك إلى كل شهر بلا
اختصاص بشهري رمضان وشوال فهو، والا فان أمكن الجزم بقيام السيرة على
ذلك فلا اشكال أيضا. واما مع التوقف في إلغاء الخصوصية في النصوص، وعدم
حصول الجزم بقيام السيرة لعدم ثبوت حصول الشك لدى الشيعة بالنسبة إلى
الأهلة، بل كان يحصل العلم اما نفيا أو اثباتا للتصدي للاستهلال وسهولة
الرؤية في الأراضي المنكشفة مما يستلزم العلم بالهلال وجودا وعدما، أشكل الامر
في موارد الشك لعدم الفائدة للاستصحاب كما عرفت فلا حظ.
ومنها: ما إذا اختلف مالك العين مع من كانت العين في يده وتلفت، فادعى
المالك ان يده يد ضمان، وادعى ذو اليد انها ليست يد ضمان كما ادعى انها كانت
عارية.
فقد نسب إلى المشهور الحكم بأنها يد ضمان، وان القول قول المالك.
وهذا الحكم منهم إذا كانت مستندا إلى استصحاب عدم رضا المالك إذنه
فقد يقال إنه من الأصول المثبتة، لان أصالة عدم تحقق الرضا من المالك لا يثبت
كون اليد عارية والاستيلاء بغير رضا المالك الا بالملازمة.
وذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى: ان الاستصحاب ههنا ليس
بمثبت، وذلك لان الموضوع للضمان هو الاستيلاء على الشئ مع عدم رضا
المالك بالمجانية بنحو التركيب، واحد الجزئين محرز بالوجدان وهو اليد، والاخر
محرز بالأصل وهو عدم رضا المالك، فيتم الموضوع ويثبت الحكم (1).
وهذا الالتزام منه ليس بسديد، وذلك لأنه يرى ان العام المخصص
بمخصص منفصل يكون معنونا بغير الخاص بنحو العدم النعتي لا المحمولي.
وعليه، بنى عدم صحة جريان استصحاب العدم الأزلي عند الشك في
المخصص مصداقا.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 502 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
224

وما نحن فيه من هذا القبيل، لان عموم: " على اليد " بما إذا رضى المالك
بالمجانية. ومقتضاه تقيد موضوع الضمان بعدم رضا المالك بنحو التوصيف والعدم
النعتي لا التركيب والعدم المحمولي، فالموضوع للضمان هو الاستيلاء غير
المرضي به، ولا يخفى ان أصالة عدم تحقق رضا المالك لا يثبت اتصاف اليد بعدم
الرضا الا بالملازمة. اذن فما افاده غير تام على مبناه.
نعم، على المبنى الاخر القائل بان العام يتقيد بعنوان عدمي بنحو
التركيب الذي يبتني عليه جريان استصحاب العدم الأزلي يصح جريان
الاستصحاب المزبور ههنا وينفع في ترتب الحكم بالضمان.
وقد يدعى ان المحقق النائيني (قدس سره) انما يذهب إلى تقيد العام
بالعدم النعتي إذا كان عنوان الخاص بالنسبة إلى العام من قبيل العرض ومحله،
كالعالم العادل، لا ما إذا كانا عرضين لمعروضين. وما نحن فيه كذلك، لان
الاستيلاء عرض قائم بالمستولي، والرضا عرض قائم بالمالك وليس قائما
بالاستيلاء، فلا يلحظان الا بنحو التركيب، وقد صرح (قدس سره) بذلك في
مبحث العام والخاص فراجع (1).
وفيه: ان الرضا وان كان قائما بالمالك الراضي، إلا أنه ذو محل، وهو متعلقه
لأنه من الصفات التعليقية كالعلم.
وعليه، فالاستيلاء والتصرف معروض للرضا وعدمه، ولا يعتبر في القيام
أن يكون قيام الفعل بفاعله بل أعم من ذلك، كما في الضرب القائم بالضارب
والمضروب باعتبارين. اذن فيمكن أخذ اليد بوصف عدم الرضا لا مقارنة لعدم
الرضا، فتدبر.
وجملة القول: ان استصحاب عدم الرضا على هذا المبنى من الأصول
المثبتة، فلا وجه لفتوى المشهور. إلا أن يكون مستندا إلى التمسك بالعام في

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 2 / 530 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
225

الشبهة المصداقية وقد حقق عدم تماميته. أو مستندا إلى قاعدة المقتضي والمانع
وهي غير تامة أيضا.
وهذه بعض الفروع المرتبطة بالأصل المثبت أشرنا إليها اتماما للفائدة.
وكيف كان، فقد عرفت أنه لا مجال لدعوى ترتيب الآثار غير الشرعية
للمستصحب ولا الآثار الشرعية المترتبة عليها.
والنكتة في ذلك ما عرفت من كلام الشيخ (رحمه الله) من: ان دليل
الاستصحاب على أي مسلك في المجعول فيه لا يتصدى الا إلى التعبد بمقدار
ما تعلق به اليقين السابق وحدوده ولا يزيد عليه، فلا تترتب الآثار المترتبة عل
لوازمه العقلية لعدم كونها احكاما للمتيقن السابق، كما أن موضوعها لم يقع موردا
للتعبد.
هذا وقد قال: إنه قد تقدم في الكلام في جريان الاستصحاب في
الموضوعات الخارجية: ان دليل الاستصحاب لا يتكفل التعبد ببقاء المتيقن
رأسا، والا لاختص الاستصحاب بالأحكام الشرعية دون الموضوعات الخارجية،
وانما يتكفل الالزام بمعاملة المتيقن معاملة البقاء وعدم نقض المتيقن عملا، وان
هذا الالزام يكون إرشادا - بمقتضى دلالة الاقتضاء أو الملازمة العرفية - إلى
جعل الحكم المماثل للمستصحب لو كان حكما، وجعل الحكم المماثل لحكمه إذا
كان المستصحب موضوعا.
وعلى هذا تكون نسبة دليل الاستصحاب إلى الاحكام المجعولة
والموضوعات الخارجية على حد سواء، فيكون شاملا لهما معا.
وبناء على هذا الاستظهار يمكن دعوى صحة الأصل المثبت، بان يقال:
ان دليل الاستصحاب يتكفل لزوم التعامل مع المتيقن معاملة البقاء، وهو يشمل
موارد الموضوعات التي لا يكون لها أثر شرعي، بل يكون الأثر مترتبا على
لازمها. ومقتضى النهي عن نقض اليقين به عملا والالزام بمعاملته معاملة البقاء
ترتيب تلك الآثار الشرعية الثابتة بواسطة صونا للكلام عن اللغوية.
226

ولكن هذا القول فاسد، وذلك لان مفاد دليل الاستصحاب - كما أشير
إليه - هو معاملة المتيقن معاملة البقاء، وهذا يقتضي اختصاصه بما يكون الأثر
العملي الثابت بواسطة الاستصحاب أثرا للمستصحب نفسه، بحيث يعد ترتبه
ابقاء عمليا للمستصحب، وفرضا للمستصحب انه باق.
وبعبارة أخرى: يلزم أن يكون الأثر المترتب من اثار بقاء المستصحب
وليس الامر كذلك في موارد الأصول المثبتة، إذ الأثر الذي يراد ترتيبه من آثار
ملازم للمستصحب، فلا يعد من آثار بقاء المستصحب، بل من آثار ما يلازم بقائه.
وعليه، فترتيبه لا يكون ابقاء عمليا للمتيقن السابق، ولا يكون معاملة
له معاملة الباقي، لعدم ارتباط الأثر العملي به، بل بما يلازمه، والمفروض ان ما
يلازمه غير متيقن. اذن فهذا المورد لا يكون مشمولا لدليل الاستصحاب ولا
يقاس بمورد الموضوع ذي الأثر الشرعي، كعدالة زيد المستصحبة، فان الاقتداء
بزيد من آثار عدالته فيكون ترتيبه ابقاء عمليا للعدالة، فيكون مشمولا لدليل
الاستصحاب. فلا حظ وتدبر.
وجملة القول: انه لا مجال للالتزام بالأصل المثبت.
واما الامارات، فالمعرف ان المثبت منها حجة، فيترتب على قيام الامارة
آثار المؤدى الشرعية كما تترتب عليه آثار لوازمه العقلية، فإذا أخبرت البينة عما
يلازم موت زيد يترتب عليه هذا الاخبار موت زيد وآثار الشرعية.
وقد تصدى الاعلام (قدس سره) لبيان الوجه في ذلك والكشف عن نقطة
الفرق بين الأصول والامارات.
ونذكر مما قيل وجهين:
الأول: ما افاده المحقق النائيني (قدس سره) من: ان دليل الاعتبار في
باب الامارات يتكفل بجعل الطريقية والمحرزية، وبما أن العلم بالشئ وجدانا
يستلزم العلم بلوازمه وملزوماته مع الالتفات إليها، وكذلك العلم بالتعبدي
بالشئ، فإنه يستتبع ثبوت العلم تعبدا بلوازمه وملزوماته، لعدم الفرق بينهما الا
227

بالوجدانية والتعبدية.
وعليه، فالتعبد بقيام العلم بالنسبة إلى مؤدى الامارة يستتبع التعبد بالعلم
بلوازمه (1).
وهذا الوجه مردود - مع قطع النظر عن الاشكال في المبنى وهو جعل
الطريقية -، فان الملازمة بين العلم الوجداني بالشئ والعلم بلوازمه لا يقتضي
التلازم بينهما في مقام التعبد، بل التعبد يدور مدار دليله، فإذا ثبت التعبد بالعلم بشئ
بلحاظ آثاره فلا يلازم التعبد بالعلم بلوازمه مع قصور الدليل عن اثباته، وبما أن
دليل الامارة يتكفل حجية الامارة بلحاظ مؤداها، فهو لا يتكفل سوى اعتبار
العلم بالنسبة إلى المؤدى دون لوازمه، وقد عرفت امكان التفكيك بينهما، فتدبر.
الوجه الثاني: ما افاده صاحب الكفاية من: ان الامارة كما تقوم على
المؤدى تقوم على لوازمه، فالخبر كما يحكي عن مؤداها كذلك يحكي عن لوازم
المؤدى، فلدينا خبران أحدهما: خبر عن المؤدى. والاخر: خبر عن لوازمه.
فيكون كل منهما داخلا تحت دليل الحجية ومشمولا له، فالاختلاف بين الامارة
والأصل ليس في كيفية التعبد، بل في الموضوع (1).
وأورد عليه المحقق النائيني (قدس سره) بان الحكاية عن الأمور
القصدية، فيختص موردها بما إذا كان الحاكي ملتفتا إلى لوازم الملزومات، كما في
موارد اللزوم البين بالمعنى الأخص، فلا وجه لحجية المثبت منها مطلقا (2).
ويمكن الجواب عنه بما أفاده المحقق العراقي (قدس سره): من انه لا
يعتبر في الاخبار الذي يكون حجة القصد التفصيلي للمخبر به المتوقف على
الالتفات إليه، بل يكفي القصد الاجمالي الارتكازي (3).

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 487 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 416 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
228

وهذا حاصل في باب الاخبار، فان من يخبر عن شئ ويحكي عنه يخبر
عن لوازمه بنحو الاجمال ولو لم يلتفت إلى خصوصياتها، بل لم يلتفت إلى الملازمة،
فيتحقق منه القصد الارتكازي، وهو كاف في صدق الخبر عنه ومما يشهد لذلك
موارد الاقرار بشئ حيث يعد اقرارا بلوازمه ويترتب عليه أثر الاقرار على
نفسه، وإن لم يكن ملتفتا إلى الملازمة، بل ربما يستغفل عن الملازمة لاجل إلزامه
بالاقرار. والسيرة العقلائية والفتاوى شاهدة على ما قلناه فراجع.
اذن فما أفاده صاحب الكفاية لا مانع من الالتزام به. والله سبحانه العالم.
التنبيه السابع: تعرض صاحب الكفاية في التنبيه الثامن الذي ذكره
عقيب البحث في الأصل المثبت إلى جهات ثلاث:
الأولى: انه لا فرق بين ترتب الأثر على المستصحب رأسا وبلا واسطة،
وبين ترتبه بواسطة عنوان كلي ينطبق عليه ويحمل عليه بالحمل الشائع، سواء
كان منتزعا عن مرتبة ذاته كالانسان وفرده، أو منتزعا عن بعض عوارضه مما
يكون من الخارج المحمول كالامر الانتزاعي بالنسبة إلى منشاء انتزاعه،
كالفوق والسقف والأب وزيد. دون ما كان منتزعا عن بعض عوارضه المتأصلة
" المحمول بالضميمة " كالأسود والأبيض بالنسبة إلى معنونة.
وعلل ذلك: بان الأثر في الصورتين الأوليين يكون للمستصحب حقيقة
لعدم ما يكون بحذاء الكلي في الخارج سواه. وعليه فالاستصحاب في الصورتين
لا يكون مثبتا.
الثانية: انه لا فرق في الأثر المترتب على المستصحب بين أن يكون
مجعولا شرعا بنفسه أو بمنشأ انتزاعه، كالجزئية والشرطية، فإنها بيد الشارع
رفعا ووضعا ولو بلحاظ ووضع منشأ انتزاعها ورفعه. وعليه فاستصحاب الشرط
لترتيب الشرطية لا يكون من الأصل المثبت كما توهم.
الثالثة: ان الأثر الشرعي المستصحب أو المترتب على المستصحب لا
229

يختلف الحال فيه بين أن يكون وجود الحكم أو عدمه، لان عدم التكليف بيد
الشارع كثبوته، ولا يعتبر في الاستصحاب أكثر من أن يكون المجعول بيد
الشارع رفعا ووضعا، سواء كان حكما أو لم يكن.
وعليه، فلا مانع من استصحاب عدم التكليف في اثبات البراءة.
ولا وجه لاستشكال الشيخ (رحمه الله) فيه: بان عدم استحقاق العقاب
في الآخرة الذي يراد ترتيبه عليه ليس من اللوازم المجعولة (1).
والسر في عدم صحة هذا الاشكال: ان عدم استحقاق العقوبة وإن لم
يكن بمجعول، إلا أنه لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول بعد أن كان المستصحب
بنفسه مما أمره بيد الشارع، فيجري فيه الاستصحاب ويترتب عليه عدم
الاستحقاق، لأنه من لوازم عدم المنع أعم من الواقعي والظاهري. هذا ما أفاده
في الكفاية (2).
ولا يخفى عليك انه كان ينبغي الحاق هذا المبحث بمبحث الأصل المثبت،
لأنه من شؤونه ومتفرعاته، لا جعله مبحثا مستقلا برأسه.
وكيف كا نفلا بد من التعرض إلى كل جهة من جهات كلامه على حده،
فنقول:
اما الجهة الأولى: فهي على ما يبدو لا تخلو عن غموض في المراد، بحيث
يكون له صورة وجيهة. وذلك لان الصور المتصورة في دخالة العنوان الانتزاعي
في ترتب الحكم متعددة، لان موضوع الأثر إما وجود العنوان بما هو، كوجود
عنوان الفوق والتحت والأب والابن وغير ذلك. واما وجود الذات مع الخصوصية
التي ينتزع عنها العنوان الخاص.
واما الذات التي ينطبق عليها العنوان الخاص.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 204 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 417 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
230

فعلى الأول، يمكن اجراء الاستصحاب في نفس العنوان إذا كانت له
حالة سابقة، فيستصحب وجود عنوان الأب والابن.
وعلى الثاني، يمكن اجراء الاستصحاب مع الشك في وجود الذات
المتصفة بالخصوصية مع الحالة السابقة، فيستصحب وجودها إذا كان مشكوكا، أو
اتصافها بالخصوصية إذا كان أصل وجودها معلوما والخصوصية مجهولة.
وعلى الثالث، فإن كان الشك في أصل وجود الذات، أشكل
الاستصحاب لان استصحاب وجود العنوان أو وجود الذات مع الخصوصية لا
يوجد بثبوت الانطباق الا بالملازمة. نعم مع العلم بوجود الذات والشك في بقاء
الانطباق يستصحب كونها منطبة للعنوان. ولا يخفى وضوح الحكم في هذه
الصور، ولا موهم لامر آخر فيها.
وعليه، مراد صاحب الكفاية ان كان هو استصحاب نفس العنوان
وترتيب آثاره، فهو مما لا اشكال فيه ولا موهم بكونه من الأصول المثبتة، كي
يحتاج إلى تنبيه والفات نظر. وان كان هو استصحاب الفرد لترتيب آثار العنوان
اللازم لبقائه لا لحدوثه، كاستصحاب وجود زيد لترتيب آثار وجود الأب، أو
استصحاب بقاء الجسم على ما كان لترتيب أثر كونه فوقا، فهذا من أوضح انحاء
الأصل المثبت، وهل يتوهم أحد صحة جريان الأصل المزبور؟. فما أفاده (قدس
سره) غير واضح المراد.
نعم، بالنسبة إلى الكلي الطبيعي وفرده يصح استصحاب الفرد لترتيب
أثر الكلي، لاجل ان وجود الفرد وجود للكلي، فاستصحابه استصحاب الكلي
الموجود في ضمنه. وليس الامر كذلك في العنوان الانتزاعي ومعنونه.
ولا ندري ما فهم المحقق الأصفهاني (قدس سره) (1) من كلام الكفاية

(1) الاصفهان المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 102 - الطبعة الأولى.
231

الذي ردد في مراده بين ان يراد بالعنوان العنوان الاشتقاقي بلحاظ قيام مبدئه
بالذات، فذهب إلى أنه فرق بين ما كان مبدؤه قائما بقيام انتزاعي أو بقيام
انضمامي. مما يظهر منه انه صحح كلام الكفاية في نفسه، لكنه أورد عليه بعدم
صحة تخصيصه بالعنوان القائم مبدؤه بقيام انتزاعي؟.
فهل فهم أنه يريد جريان الاستصحاب في العنوان نفسه؟ الذي عرفت
أنه لا موهم لكونه من الأصول المثبتة حتى يتعرض صاحب الكفاية لدفعه. أم
فهم انه يريد جريان الاستصحاب في المعنون لترتيب آثار العنوان - كما قد يظهر
ذلك من قوله: " فتلخص مما ذكرنا.. " وإن لم يظهر من صدر كلامه - الذي عرفت أنه
من أوضح أنحاء الأصل المثبت، إذ وجود الذات يلازم وجود العنوان، فكيف
يثبت باستصحابها أثره؟. فتسليمه (قدس سره) ذلك لا نعرف له وجها.
وبالجملة: لم يتضح لنا مراده صاحب الكفاية، كما لم يتضح لنا ما أفاده
المحقق الأصفهاني وتبعه غيره (1). والله سبحانه هو العاصم.
اما الجهة الثانية: فقد تقدم في مبحث الأحكام الوضعية بيان عدم صحة
جريان الأصل في الجزئية والشرطية، لعدم قابليتهما للجعل ولا أثر عملي يترتب
عليهما أصلا، ولازمه عدم صحة جريان الأصل في ذات الجزء والشرط لترتيب
الجزئية والشرطية ولا نعيد. فراجع.
واما الجهة الثالثة: فقد تقدم غير مرة - في مبحث البراءة، وتأسيس
الأصل في باب الحجية، وفي مبحث استصحاب الأحكام الكلية - التعرض
تفصيلا وإشارة إلى عدم جريان استصحاب عدم التكليف وبيان ما أثير حوله
من اشكالات.
وعمدة ما يمكن ان يقال في منعه هو: ان دليل الاستصحاب اما أن يكون

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 171 - الطبعة الأولى.
232

متكفلا للتعبد ببقاء المشكوك رأسا. أو يكون متكفلا بمعاملة المتيقن معاملة
البقاء، ويكون هذا إرشادا للتعبد ببقاء المتيقن إن كان حكما، أو حكمه ان كان
موضوعا. وليس الامر بعدم النقض امرا مولويا إلزاميا، كيف والاستصحاب
يجري في غير الأحكام الإلزامية من إباحة واستحباب وكراهة، ولا معنى للالزام
بعدم النقض عملا في مواردها.
فإن كان مفاد دليل الاستصحاب هو الأول، فمن الواضح ان التعبد
بعدم شئ لا معنى له إذا كان معدوما حقيقة، بل اعتبار العدم يعرض على
الشئ بلحاظ فرض وجوده، فيعتبر الموجود معدوما. وهكذا اعتبار الوجود انما
يعرض على المعدوم، والا فالموجود لا معنى لاعتباره موجودا.
وعليه، نقول: ان التعبد بعدم الحكم المشكوك في حق الشاك لا يرجع إلى
نفي التكليف الواقعي حقيقة والغائه رأسا، فإنه خلاف المفروض في الأحكام الواقعية
، وانما يرجع إلى التعبد بعدمه ظاهرا يعني في حق الشاك بما هو شاك.
ومن الواضح أن الشاك بما هو شاك لم يثبت في حقه حكم كي يصح
التعبد بعدمه. إذن فلا معنى للتعبد بعدم الحكم في حق الشاك للعلم بعدم ثبوت
الحكم في حقه، إذ الفرض انه لم يثبت إلزام شرعي ظاهري في مرحلة الشك.
وإن كان مفاد دليل الاستصحاب هو الثاني - كما قربناه فيما تقدم -، فلا
يشمل عدم التكليف، وذلك لان استفادة التعبد من الامر بمعاملة المتيقن معاملة
البقاء إنما كان بالملازمة العقلية أو العرفية، بلحاظ كونه في مقام التشريع والجعل.
وهذا انما يتم لو فرض انه ليس هناك ما يقتضي المعاملة معاملة البقاء.
اما مع وجود ما يقتضي ذلك فلا تتم الملازمة، وبدونها يكون المدلول المطابقي
قاصر الشمول. وما نحن فيه كذلك، إذ بعد فرض عدم تحقق الالزام الشرعي
الظاهري يكون مقتضى حكم العقل هو البراءة وعدم الكلفة بالنسبة إلى
التكليف المشكوك، ومرجع ذلك إلى معاملة عدم التكليف معاملة البقاء، فلا مجال
233

حينئذ لشمول دليل الاستصحاب لعدم تحقق الملازمة المصححة لشمول الدليل
لمورده.
وبذلك ظهر: ان دعوى جريان الاستصحاب في عدم التكليف لا ترجع
إلى محصل، وليس الوجه فيه ما قيل من انه تحصيل الحاصل، أو من أردأ أنحائه.
فقد عرفت التفصي عن ذلك، بل العمدة ما ذكرناه هنا، فتأمل فيه وتدبر.
ثم إن ارتباط هذا المبحث بمبحث الأصل المثبت من جهة ملاكه وهو
كون مفاد الاستصحاب التعبد بالأمور المجعولة دون غيرها، حيث يقع الكلام
في أن عدم التكليف قابل للجعل أو لا، والأمر سهل.
التنبيه الثامن: أشار صاحب الكفاية (رحمه الله): إلى أن ما ذكر من
عدم ترتب الآثار غير المجعولة على المستصحب أو الآثار المجعولة المترتبة على
اللازم غير المجعول للمستصحب، انما هو فيما كانت الملازمة للوجود الواقعي
للمستصحب. اما إذا فرض ان اللازم العقلي لازم للأعم من الوجود الواقعي
للمستصحب والوجود الظاهري، كان مترتبا على المستصحب لا محالة، لتحقق
موضوعه واقعا وحقيقة، وذلك مثل وجوب الإطاعة المترتب عقلا على ثبوت
الحكم الشرعي الواقعي والظاهري، فإذا ثبت الوجوب الشرعي بالاستصحاب
ترتب عليه الحكم بوجوب الإطاعة قهرا (1).
وهذا الامر واضح، وكان ينبغي ان يجعل من توابع الأصل المثبت، لان ان
يفرد له تنبيه على حده. والأمر سهل.
التنبيه التاسع: قد يتوهم ان المستصحب لا بد أن يكون حكما أو
موضوعا ذا حكم في مرحلة الحدوث.
ولعل الوجه فيه هو ان الاستصحاب عبارة عن الابقاء الشرعي بضميمة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 417 - 418 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
234

ان مرجعه إلى جعل الحكم المماثل، وهذا لا يصح إلا إذا كان المتيقن حكما
شرعيا، وإلا لم يكن الحكم المجعول في مقام الشك ابقاء شرعيا للمتيقن.
ولكنه توهم فاسد، إذ لم يؤخذ في دليل الاستصحاب هذا العنوان - أعني:
عنوان الابقاء -، بل المأخوذ فيه هو عدم النقض عملا ومعاملة المتيقن السابق
معاملة الباقي لا حقا، وهذا لا يستلزم أكثر من كون المتيقن بقاء حكما شرعيا أو
ذا حكم شرعي بقاء، ويكون المجعول حكما مماثلا للمشكوك على تقدير وجوده
واقعا. ولا يعتبر أن يكون كذلك حدوثا، لعدم تكفل الدليل للإبقاء، بل للامر
بالعمل في مقام الشك عمل الباقي واقعا، فانتبه.
ولعل إلى ما ذكرناه من وجه التوهم ودفعه ينظر صاحب الكفاية في تعليله
بقوله: " وذلك لصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عنه والعمل، كما إذا قطع
بارتفاعه يقينا " (1). فلا حظ والله سبحانه هو العالم العاصم الموفق الهادي إلى سواء
السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل. (2)
التنبيه العاشر (3): الشك تارة يكون في حدوث الحادث وعدمه. وأخرى
يكون في تقدمه وتأخره مع العلم بحصوله في زمان خاص.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 418 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) إلى هنا نقف عن الاستمرار في كتابة الدروس لأنا قد كتبنا التنبيهات الآتية إلى أواخر مباحث التعادل
والتراجيح عند حضورنا دروس الدورة السابقة، وقد رأيت الاكتفاء بالتنبيه على مواضع الاختلاف
والزيادات في هذه الدورة على هامش الكتابات السابقة. والحمد لله تعالى شانه أولا وأخرا ونسأله أن يوفقنا
للعلم والعمل الصالح إنه سميع مجيب. وقع الفراغ منه الاثنين المصادف 18 / ع 2 / 1393 ه‍. وأنا الأقل
عبد الصاحب الحكيم.
(3) ذكر (قدس سره) عند ما حضر درس المقرر له - دام ظله - في تاريخ 1 / 12 / 81 كان هذا التنبيه
الحادي عشر ولكن بحسب ترتيب هذه الدورة فهو العاشر.
235

فالأول: لا اشكال في جريان الاستصحاب فيه، وهو محط الكلام سابقا.
والثاني: - وهو مورد الكلام في هذا التنبيه -: يدور الكلام فيه في محورين:
المحور الأول: ما كان الملحوظ فيه التقدم والتأخر بالإضافة إلى أجزاء
الزمان، كالشك في حصول موت زيد يوم الجمعة مع العلم به في يوم السبت،
والعلم بعدمه يوم الخميس.
المحور الثاني: ما كان الملحوظ فيه التقدم والتأخر بالإضافة إلى حادث
زماني آخر، كالشك في تقدم موت المورث على اسلام الوارث أو تأخره عنه، مع
العلم بتحققهما في يوم السبت وعدم تحققهما في يوم الخميس.
اما المحور الأول - وهو الشك بلحاظ اجزاء الزمان -، فقد ذكر الشيخ (1)
والمحقق الخراساني (2) (قدس سرهما): انه يجري استصحاب العدم فيه،
فيستصحب في المثال عدم الموت إلى يوم الجمعة، اما بالنسبة للآثار الشرعية فهي
ثلاثة.
الأول: الآثار المترتبة على عدم الموت يوم الجمعة ولا اشكال في ترتبها
على الاستصحاب المذكور.
الثاني: الآثار المترتبة على الحدوث في يوم السبت، والحال فيها يختلف لان
الحدوث اما أن يكون بسيطا أو مركبا فإن كان الحدوث أمرا بسيطا ينتزع عن
وجود الشئ في زمان وعدمه في زمان آخر فلا تثبت آثاره باستصحاب العدم إلى
يوم الجمعة، لأنه إنما يثبت العدم في يوم الجمعة لا أكثر، فيكون من الأصول
المثبتة بالنسبة إلى الحدوث. نعم مع القول بخفاء الواسطة عرفا في المورد، وترتيب
الآثار مع خفائها، تترتب الآثار المذكورة على الاستصحاب. وإن كان الحدوث

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتض ى. فرائد الأصول / 387 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 419 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
236

أمرا مركبا من وجود الشئ في زمان وعدمه في الزمان الذي قبله، ترتب آثار
الحدوث على الاستصحاب لثبوت الحدوث باحراز أحد جزئية بالوجدان، وهو
الوجود في يوم السبت، والاخر بالأصل، وهو العدم في يوم الجمعة، فيتم الموضوع
ويتحقق فتترتب عليه آثاره.
الثالث: الآثار المترتبة على عنوان التأخر عن يوم الجمعة، وهي لا تثبت
لكون التأخر أمرا وجوديا بسيطا منتزعا، فالاستصحاب مثبت بالنسبة إليه، فلا
تترتب عليه آثاره لعدم ثبوته بالاستصحاب إلا على القول بخفاء الواسطة عرفا
وترتيب الآثار معه.
واما المحور الثاني - وهو الشك بلحاظ حادث زماني آخر - فتارة يجهل
بتاريخ كلا الحادثين.
وأخرى يعلم بتاريخ أحدهما دون الاخر فالكلام في موردين:
المورد الأول: الجهل بتاريخ كلا الحادثين، وقد ذكر له صاحب الكفاية
(رحمه الله) أقساما أربعة:
القسم الأول: أن يكون الأثر مترتبا على الوجود بنحو خاص من التقدم
والتأخر والتقارن بمفاد كان التامة، فقد ذكر (رحمه الله) ان الأثر ان كان مترتبا
على الوجود الخاص لأحدهما فقد جرى استصحاب عدمه بلا اشكال. وان كان
مترتبا على الوجود بكل أنحائه تعارض الاستصحاب، لان استصحاب العدم
بأحد الانحاء يعارض استحباب العدم بالنحوين الآخرين. وكذا لو كان الأثر
مترتبا على الوجود الخاص لكل من الحادثين، فان استصحاب العدم في أحدهما
يعارض باستصحابه في الاخر (1).
ولا بد من التعرض في هذا المورد إلى امرين:

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 419 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
237

الامر الأول: في بيان مراد صاحب الكفاية من ترتب الأثر على الوجود
بنحو خاص من التقدم والتأخر والتقارن بشكل نحتفظ فيه على جهتين:
إحداهما: كون الموجود المترتب عليه الأثر بمفاد كان التامة. والثانية:
ملاحظة الخصوصية مع الوجود. وقد فسرت بوجوه ثلاثة:
الأول: ان الأثر مترتب على الوجود بمفاد كان التامة والخصوصية
مأخوذة ظرفا للوجود، فيكون المعنى: ان الأثر مترتب على الوجود في زمان
متأخر أو متقدم أو مقارن. فالأثر مترتب على الوجود بمفاد كان التامة ولكن
ظرفه هو الزمان المتأخر أو المتقدم أو المقارن. فالجهتان محافظ عليهما في هذا
التفسير كما لا يخفى.
ولكن هذا التفسير غير مراد صاحب الكفاية قطعا، لأنه قد حكم
بجريان استصحاب العدم فيما إذا كان الأثر مترتبا على الوجود بنحو التأخر،
وانه يعارض استصحاب العدم فيما لو كان للوجود بنحويه الآخرين أثر أيضا.
مع أن لازم هذا التفسير عدم جريان استصحاب العدم فيما لو ترتب الأثر على
الوجود بنحو التأخر، للعلم بانتقاض الحالة السابقة فيه، لأنه في الزمان المتأخر
يصدق ان أحد الحادثين موجود في زمان متأخر عن الحادث الاخر.
الوجه الثاني: ان الأثر مترتب على التقدم والتأخر، والتقارن بمفاد كان
التامة.
وهذا التفسير وإن لم يرد عليه ما ورد على التفسير الأول لان التأخر غير
محرز، ولكنه بعيد عن ظاهر عبارة الكفاية، لان ظاهرها كون الأثر مترتبا على
الوجود بمفاد كان التامة بالنحو الخاص، لان كونه مترتبا على النحو الخاص كما
يتضمنه التفسير.
الوجه الثالث - وهو المختار - وبيانه: ان الأمور الانتزاعية تنتزع عن
الذات باعتبار تخصصها بخصوصية غير زائدة في الوجود عن أصل الذات،
238

فالفوقية تنتزع عن السقف باعتبار تخصصه بخصوصية، وهذا الخصوصية غير
زائدة عن ذاته.
والتقدم وأخواه من الأمور الانتزاعية التي تنتزع عن الوجود باعتبار
خصوصية فيه غير زائدة عن ذاته.
فمراد صاحب الكفاية يكون: ان الأثر مترتب على حصة خاصة من
الوجود إذا لوحظت انتزع عنها وصف التأخر أو التقدم أو التقارن، وبهذا
التفسير نكون قد حافظنا على كلتا الجهتين، فالأثر مترتب على الوجود بمفاد
كان التامة، والخصوصية من التقدم والتقارن والتأخر ملحوظة.
ولا يرد عليه ما ورد على التفسير الأول، لعدم العلم بانتقاض الحالة
السابقة بالنسبة إلى الحصة الخاصة المنتزع عنها وصف التأخر لا مكان أن يكون
الوجود بنحو خاص ينتزع عنه عنوان التقدم في حدثوه، فيمكن اجراء
استصحاب العدم في صورة ترتب الأثر على الوجود بنحو التأخر (1).
الامر الثاني: حول ما ذكره من المعارضة بين الأصول في صورة ترتب
الأثر على الوجود بكل من أنحائه، أو على وجود كل من الحادثين بنحو خاص.
فنقول: المعارضة في صورة ترتب الأثر على الوجود بكل من أنحائه
مسلمة.
واما في صورة ترتيبه على وجود كل من الحادثين بنحو خاص فلا.
فان استصحاب عدم وجود الموت الخاص من التقدم مثلا لا يعارض
استصحاب عدم وجود الاسلام الخاص، لامكان أن يكون وجودهما بالتقدم أو
القسم الثاني: أن يكون الأثر مترتبا على الوجود المتصف بالتقدم أو

(1) في جريان هذا الاستصحاب اشكال يظهر مما تقدم في الاشكال في جريان استصحاب أول الشهر في
بعض فروع الأصل المثبت. فراجع لكنه يبتني على أن لا تكون الخصوصية الانتزاعية من كيفيات وجود
الذات بحيث ليس غير وجود الذات شئ آخر والصحيح هو ذلك.
239

التقارن أو التأخر بمفاد كان الناقصة. وقد حكم (قدس سره) بعدم جريان
الاستصحاب في هذا المورد لعدم اليقين السابق.
ولكن في اطلاقه تأمل يتضح بتقديم مقدمتين:
الأولى: انه إذا اخذ أمران في موضوع حكم، فتارة يؤخذان موضوعا
للحكم بلا لحاظ أمر زائد عليهما، بل الملحوظ في تحقق الأثر كونهما معا. وأخرى
يؤخذان مع لحاظ امر زائد عليهما وهو تقيد أحدهما بزمان الاخر واتصافه به،
فيكون الموضوع هو الامر المقيد بشئ وجودي أو عدمي.
ويصطلح على الشكل الأول بالتركيب، وعلى الثاني بالتقيد.
المقدمة الثانية: قد ذكرنا سابقا ان الصفات المقيد بها موضوعات
الاحكام.
تارة: تكون لا حقة للحادث بمعنى انها عارضة عليه بعد حدوثه، كالعدالة
والعلم والشجاعة وغيرها. وجريان الاستصحاب في مثل هذه الصفات واضح
لوجود حالة سابقة للحادث وهو عدمها، فمع الشك فيها يستصحب عدمها.
وأخرى: تكون مقارنة لحدوثه، بمعنى انه حين وجوده اما أن يكون
متصفا بالصفة أو بغيرها، بحيث لا تكون هذه الصفة مسبوقة بالعدم بعد حدوث
الحادث ثم تعرض عليه، كالقرشية وغيرها، والعربية وغيرها.
والشك في هذه الصفات هو مورد استصحاب العدم الأزلي الذي وقع
الكلام فيه فيما إذا ورد عام ثم ورد خاص موضوعه مقيد باحدى هذه الصفات،
وشك في فرد انه من افراد الخاص كي يشمله حكمه أو لا، كما لو ورد: " أكرم
العلماء " ثم ورد: " لا تكرم الأموريين " وشك في فرد عالم انه أموي أو لا، ولما كان
العام لا يجوز التمسك به في الشبهة المصداقية، فهل هناك أصل موضوعي يعين
الوظيفة العملية؟. وقع الكلام في ذلك.
وينشأ الخلاف في جريان الاستصحاب العدم الأزلي في المورد، من
240

الاختلاف في أن عنوان الخاص بعد وروده هل يستوجب تقيد الباقي بشئ أو
لا يستوجب سوى اخذ عدم العنوان في موضوع حكم العام بنحو التركيب -
المصطلح عليه بالعدم المحمولي في قبال العدم النعتي المأخوذ قيدا -؟.
فعلى الأول: لا يجدي استصحاب عدم الوصف في اثبات عدم تقيد الفرد،
واستصحاب عدم تقيد الفرد غير ممكن لعدم اليقين السابق بعدم تقيد هذا الفرد.
وعلى الثاني: يكون استصحاب عدم تحقق الوصف مجديا إذ لا نحتاج في
إثبات حكم العام إل إلى احراز الجزئين، فالاستصحاب يثبت أحدهما وهو عدم
الأموي، والجزء الثاني وهو العام محرز بالوجدان فيتم الموضوع ويثبت الحكم.
وعليه، فاستصحاب العدم الأزلي المصطلح انما يصح على القول بالثاني.
وقد اختار المحقق الخراساني (رحمه الله) الثاني كما هو صريح عبارته في
مباحث العام والخاص (1). ولذلك أجرى استصحاب عدم القرشية في ادخال
المرأة المشكوكة تحت حكم العام.
إذا عرفت فتحقيق الحال في القسم الثاني بنحو يتضح به الاشكال
على المحقق الخراساني: ان الحكم فيه.
إن لم يكن له تعلق بذات الموضوع، بل لا علاقة للموضوع به الا كونه
موضوعا له - كما لو قال: " إذا وجد زيد الهاشمي وجب عليك التصدق " -،
فاستصحاب العدم جار سواء قلنا باستصحاب العدم الأزلي أو لا: كما
يستصحب عدم وجود زيد الهاشمي في نفي وجوب التصدق مع الشك، وإن لم
يحرز ان هذا الفرد غير هاشمي (2).
وان كان له تعلق بذات الموضوع - مثل ما لو قال: " إذ وجد زيد

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 223 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) في جريان مثل هذا الاستصحاب اشكال يظهر مما ذكره - دام ظله - في البحث الأصل المثبت عند
التعرض لجريان استصحاب أول الشهر فراجع. (منه عني عنه).
241

الهاشمي فأكرمه " -، فإن كان بنحو التخصيص لحكم عام آخر، فاستصحاب
العدم جار عند القائل باستصحاب العدم الأزلي كصاحب الكفاية. وإن لم يكن
بنحو التخصيص لم يجر الاستصحاب لعدم احراز عدم اتصاف هذا الوجود بهذا
الوصف مع الحاجة إليه في اثبات الحكم الاخر له، لاخذ العدم فيه بنحو التقييد
لا التركيب. فقد ظهر لك ما في اطلاق صاحب الكفاية لعدم جريان
الاستصحاب، فان عدم جريانه يتم في الصورة الأخيرة فقط دون جميع الصور.
القسم الثالث: أن يكون الأثر مترتبا على أحد الحادثين متصفا بالعدم
في زمان حدوث الاخر بمفاد ليس الناقصة. وقد حكم صاحب الكفاية (رحمه الله)
بعدم جريان الاستصحاب فيه لعدم اليقين السابق بحدوثه كذلك في زمان (2).
والكلام فيه عين الكلام الذي عرفته في القسم الثاني (1).
القسم الرابع: أن يكون الأثر مترتبا على عدم أحدهما أو كل منهما في
زمان الاخر بمفاد ليس التامة. وقد صار هذا القسم مجالا للكلام ومحطا للنقض
والابرام وقد ذكر للمنع في جريان الاستصحاب فيه وجوه:
الوجه الأول: ما اختاره صاحب الكفاية (رحمه الله) من عدم جريان
استصحاب العدم، لعدم امكان التمسك بعموم دليل التعبد بالاستصحاب في
المورد، لكون الشبهة مصداقية، وذلك لاعتبار اتصال زمان الشك بزمان اليقين
في جريان الاستصحاب (3).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 419 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) لكن لا يجري فيه الاشكال المبني على استصحاب العدم الأزلي لان الكلام في استصحاب العدم
الأزلي فيما إذا كان عنوان الخاص وجوديا كي يتقدم العام بعدمه لا ما إذا كان عدميا، كما إذا ورد: " أكرم
العلماء " ثم ورد: " لا تكرم من ليس بعادل " فإنه لا يأتي فيه حديث التقيد بعنوان عدمي كما هو واضح: وما
نحن فيه من هذا القبيل كما لا يخفى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 420 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
242

والمراد من زماني الشك واليقين هنا المعتبر اتصالها هو المشكوك زمانا
والمتيقن، لا نفس صفة الشك واليقين. وهذا عند من يقول بكون كل من الشك
واليقين في الروايات مأخوذا بنحو المرآتية عن المتيقن والمشكوك - كما عليه
الشيخ (رحمه الله) (1) - فواضح. واما عند من يقول بان المراد منهما في الروايات
صفتا اليقين والشك دون المتيقن والمشكوك، فلانه لا اشكال في عدم اعتبار تقدم
زمان نفس اليقين على الشك، فقد يتقدم الشك على اليقين، وانما يصحح نسبة
النقض إلى اليقين بلحاظ انتقاض المتيقن.
والوجه في اعتبار اتصال المشكوك بالمتيقن زمانا، هو دخله في تحقق صدق
النقض، إذ بدون الاتصال لا يصدق النقض المنهي عنه. بيان ذلك: ان النقض
انما يصدق في صورة ما إذا كان متعلق الشك ومتعلق اليقين أمرا واحدا مع إلغاء
خصوصية الزمان الموجبة لتعلق الشك في البقاء واليقين بالحدوث، بمعنى انه إذا
غض النظر عن اختلاف المتعلقين زمانا كانا أمرا واحدا، وعند ذلك يصدق
النقض عند عدم العمل بالمتيقن. ومع انفصال زمان المشكوك عن زمان المتيقن
لا يتحقق النقض لعدم كون المتيقن والمشكوك أمرا واحدا حتى مع إلغاء
خصوصية الزمان، فمثلا لو علمنا بعدالة زيد عند الصباح ثم علمنا بفسقه حين
الزوال، ثم شككنا بعدالته بعد الزوال، فالحكم بعدم عدالته بعد الزوال لا يعد
نقضا لليقين بعدالته حين الصباح ولو مسامحة كي يشمله دليل: " لا تنقض "، لان
المشكوك غير المتيقن. فالنقض لا يصدق بعد انفصال زمان الشك عن زمان
اليقين، بل انما يصدق في صورة اتصالهما.
وعليه، فلا بد من اعتبار الاتصال كي يصدق النقض في مورده، فيكون
مشمولا للنهي العام. ولأجل ذلك لم تجر أدلة الاستصحاب مع الشك في الاتصال

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 336 - الطبعة الأولى.
243

وعدمه، للشك في صدق النقض حينئذ كي يشمله النهي، وعدمه كي لا يشمله،
فتكون الشبهة مصداقية ويمتنع التمسك بالعموم فيها.
وقد حمل السيد الخوئي (حفظه الله) كلام الآخوند على إرادة اتصال صفتي
اليقين والشك لا المتيقن والمشكوك. ووجهه: باستظهار ذلك من بعض روايات
الاستصحاب الظاهرة في كون الشك متصلا باليقين، كقوله (ع): " إذا كنت على
يقين... فشككت " فان ظاهر الفاء كون الشك متصلا باليقين ومتأخرا عنه زمانا.
وأورد عليه: بان التعبير المذكور مبني على ما هو المتعارف والغالب في
موارد استصحاب من تحقق الشك بعد اليقين، فلا يصح التمسك به في اثبات
اعتبار اتصال (1) اليقين والشك.
ولكن لا وجه لما ذكره (حفظه الله) بعد ما عرفت ارادته المتيقن والمشكوك
لا صفتي اليقين والشك، كي يستشهد له بالرواية ويورد عليه، كيف؟ وقد جعل
ظهور الرواية البدوي قرينة على إرادة قاعدة اليقين منها مما يكشف بوضوح ان
خصوصية سبق اليقين غير معتبرة في الاستصحاب بتاتا، فلا يحتمل في حق
صاحب الكفاية انه يرى لزوم سبق اليقين واتصاله بالشك.
إذا عرفت هذا، فذهاب الخراساني (قدس سره) إلى عدم جريان
استصحاب العدم المذكور انما كان لاجل عدم احراز اتصال زمان الشك بزمان
اليقين، فلا يحرز صدق النقض، فلا يمكن التعبد بالاستصحاب لمصداقية
الشبهة.
وتوضيحه: ان لدينا آنات ثلاث: الأول، يحرز فيه عدم كل من الحادثين.
والثاني: يحرز فيه حدوث أحدهما. والثالث: يحرز فيه حدوث الاخر. فكل منهما
يحتمل حدوثه في الآن الثاني وفي الآن الثالث، وزمان الشك في أحدهما هو زمان

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 183 - الطبعة الأولى.
244

وجود الاخر، وهو مردد بين الآن الثاني والآن الثالث. فإن كان الآن الثاني كان
زمان الشك متصلا بزمان اليقين. وان كان الآن الثالث كان زمان الشك منفصلا
عن زمان اليقين، فينشأ التردد في حصول الاتصال وعدمه، ومنه ينشأ التردد في
صدق النقض، ومعه لا يصح إجراء الاستصحاب كما لا يخفى.
وقد أورد عليه المحقق النائيني - كما في أجود التقريرات -: بأنه لا مجال
للتردد في حصول الاتصال وعدمه، لان الشك واليقين من الصفات الوجدانية
التي لا تقبل التردد، فلا معنى لحصول الشبهة المصداقية بالنسبة إلى الشك
واليقين. والشك هاهنا حاصل فيحرز الاتصال ويجري الاستصحاب (1).
وهذا الاشكال مبني على إرادة صفتي اليقين والشك من اليقين والشك في
موضوع الاتصال، لا المتيقن والمشكوك، وتفسير اليقين والشك في المورد بذلك،
فان اليقين والشك من الأمور الوجدانية التي لا تقبل التردد. اما بناء على
تفسيرهما بالمتيقن والمشكوك - كما عرفت - فلا يرد هذا الاشكال، لكونهما حينئذ
من الصفات الواقعية التي تقبل الشك - كما اعترف به المحقق المذكور -. فمنشأ
الاختلاف هو الاختلاف في مراد صاحب الكفاية باليقين والشك في المقام،
فالمحقق النائيني تخيل بان المراد صفة اليقين وصفة الشك - عطفا على اليقين
والشك المأخوذ في الروايات - فأورد عليه بما عرفت. ولكنك عرفت عدم إرادة
نفس الصفة، بل المتيقن والمشكوك، للجزم بعدم اعتبار صاحب الكفاية تقدم
زمان اليقين على زمان الشك. فالتفت.
هذا، مضافا إلى أنه لو فرض انه (قدس سره) يلحظ نفس وصفي اليقين
والشك، فلا يرد عليه ما ذكر، وذلك لان مدعاه الشك في اتصال زماني اليقين
والشك لا الشك في نفس اليقين والشك، فهو قد فرض حصول اليقين في زمان

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 429 - الطبعة الأولى.
245

وحصول الشك في زمان آخر، وانما يشك في اتصال الزمانين. واتصال الزمانين
ليس من الأمور الوجدانية التي لا تقبل الشك. فانتبه ولا حظ.
وهذا الذي ذكرناه في بيان عبارة الكفاية هو أحد التفسيرات لعبارته
المغلقة حيث فسرت بتفسيرات أخرى تعرفها فيما بعد انشاء الله تعالى.
وقد أورد على نفسه ايرادا تحت عنوان: " لا يقال... " وحاصل الايراد: ان
اتصال زمان الشك بزمان اليقين محرز في المقام، لان زمان الشك هو مجموع
الزمانين حيث يشك في حدوث كل من الحادثين في أحد الزمانين، وهو متصل
بزمان اليقين - أعني الآن الأول -، وإذا استصحب العدم في مجموع الزمانين فقد
ثبت العدم في زمان الحادث الاخر لعدم خروجه عنهما.
وقد دفع الايراد المذكور بعبارة لا تخلو عن اغلاق (1).
وقد فسرت: بان مجموع الزمانين انما يكون زمانا للشك إذا لو حظ العدم
مضافا إلى عمود الزمان، اما إذا لو حظ مضافا إلى حادث آخر - كما هو المفروض
- فلا يكون مجموعهما زمان الشك، لان زمان الحادث الاخر أحد الأنين لا
كليهما، وهو غير محرز فلا يحرز الاتصال.
وأورد عليه: بان كون الملحوظ اضافته إلى حادث آخر لا يضر في اتصال
زمان الشك بزمان اليقين، لأنه على تقدير كون زمان الحادث الاخر واقعا هو
الآن الثالث فالآن الثاني أيضا زمان الشك في العدم، لان اختلاف اللحاظ لا
يوجب عدم كونه زمان الشك، وعدم كون التعبد في الآن الثاني موضوعا للأثر،
لا يضر لعدم اعتبار ترتب الأثر على الشك حدوثا بل بقاء وفي حال
الاستصحاب.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 420 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
246

وهذا الايراد انما يرد بناء على ما هو ظاهر العبارة من امكان العدم،
مضافا إلى أجزاء الزمان، ومضافا إلى حادث آخر. غاية الامر ان الإضافة إلى
أجزاء الزمان غير ملحوظة، والتفسير المذكور ناشئ من ذلك.
ولكنه خلاف المراد، لان مجموع الزمانين لا يكون زمان الشك في كل من
الحادثين إذا لو حظ مضافا إلى اجزاء الزمان، للعلم بانتقاض الحالة السابقة في
الآن الثالث.
وعليه، فلا يمكن لحاظ العدم مضافا إلى اجزاء الزمان، لان المفروض ان
الأثر انما يترتب فيما إذا أمكن سراية التعبد إلى الزمان الثالث حتى يثبت العدم
في زمان الحادث الاخر، وهو لا يمكن في المورد للعلم بانتقاض الحالة السابقة.
فلا بد من تقييد الزمان بخصوصية زائدة حتى يحصل الشك فيه ويسري إلى
مجموع الزمانين، وذلك يكون لفرض لحاظه بالإضافة إلى زمان الحادث الاخر.
لسراية التعبد إلى الآن الثالث، لاحتمال كون الحادث الاخر في ذلك الآن وفي
الآن الثاني. وإذا فرض ملاحظة العدم بالإضافة إلى الحادث الاخر جاء النفي
المدعى، وهو عدم احراز اتصال زمان اليقين بزمان الشك، لتردد زمان الاخر بين
الأنين الثاني والثالث، فلا يكون الآن الثاني زمانا لشك على تقدير كون زمان
الحادث الاخر هو الآن الثالث. فيتحقق انفصال زمان الشك عن زمان اليقين،
وحيث يتردد زمان الحادث الاخر بين الأنين لا يتحقق احراز الاتصال، فلا يصح
إجراء استصحاب العدم إلى زمان الاسلام، لعدم احراز زمان الاسلام، فلا يكون
زمانا للشك رابطا بين الآن الأول والآن الثاني.
ومن هنا تعرف ان مراد الكفاية هو ان مجموع الزمانين الاتصال
لو لوحظ العدم بالإضافة إلى أجزاء الزمان، ولكنه حيث لم يلحظ كذلك لعدم
247

امكانه ولا حظ بالإضافة إلى حادث آخر لم يحرز الاتصال لتردد زمان الحادث
الاخر بين الأنين.
ولعل الاشتباه في التفسير نشأ عما يتضمنه الايراد من كون مجموع
الزمانين زمان الشك في حدوث كل من الحادثين الظاهر في كون المجموع زمان
الشك، فقول المحقق الخراساني: " نعم " يظهر في تسليمه، والغفلة عن انه زمان
الشك في الحدوث، وهو مسلم، إلا أنه هو غير محل الكلام، لان محله هو الشك
في الحادثين لا في حدوثهما. فالايراد لا يخلو عن المغالطة. فالتفت.
والموجود في تقريرات المرحوم الكاظمي (قدس سره) تفسير آخر لعبارة
الآخوند (رحمه الله)، بيانه: ان موضوع الأثر إذا كان مركبا من جزئين، فالتعبد
بأحد الجزئين انما يكون في صورة احراز الجزء الاخر اما بالوجدان أو بالأصل،
إذ مع عدم الجزء الاخر لا يترتب على ذلك الجزء، فيكون التعبد به لغوا
لعدم الأثر فيه.
وفيما نحن فيه الموضوع للأثر مركب من جزئين: أحدهما: عدم الموت
والاخر: زمان الاسلام. فمع عدم احراز الاسلام لا معنى للتعبد بعدم الموت لعدم
ترتب اثر عليه، والإسلام محرز في الآن الثالث. فالتعبد بعدم الموت في زمان
الاسلام على تقديره انما يصح في الآن الثالث، لأنه زمان الشك حيث أحرز فيه
الجزء الاخر وهو الاسلام المضاف إليه عدم الموت، فيكون فيه شك بعدم الموت
في زمان الاسلام. ولا يصح التعبد في الآن الثاني لعدم احراز الاسلام فيه، فلا
يكون زمان الشك بعدم الموت بهذه الإضافة والاستصحاب غير جار في الآن
الثالث لعدم احراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين، لاحتمال كون الحادث في
الآن الثاني هو الموت.
وأورد عليه: بان موضوع الأثر ان كان عدم الموت وزمان الاستلام بنحو
التقييد، فالاستصحاب غير جار، ولكنه لا لاجل عدم اتصال زمان الشك بزمان
248

اليقين، بل لاجل عدم اليقين السابق بالعدم المقيد بزمان الاسلام كي
يستصحب. وان اخذ في الموضوع الأثر بنحو التركيب بان كان زمان الاسلام
ظرفا لعدم الموت، فزمان الشك متصل بزمان اليقين، لان الآن الثاني يشك فيه
بعدم الموت أيضا، فيكون كل من الأنين الثاني والثالث زمانا للشك. غاية
الامر ان الآن الثالث يفترق عن الثاني بإضافة الاسلام إليه، وهو ليس فرقا
أساسيا يوجب الاختلاف من ناحية التعبد بعدم الموت (1).
والكلام المذكور لا يخلو عن نظر في تفسيره وايراده.
اما تفسيره، فلان لازمه احراز عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين
الناشئ من جعل زمان الشك هو الآن الثالث. وعليه فلا تكون الشبهة
مصداقية، بل يكون المورد معلوم الخروج عن عموم دليل الاستصحاب، مع أن
صريح عبارة الكفاية كون المحذور عدم احراز الاتصال والانفصال وكون
الشبهة مصداقية.
اما الايراد، فلا اشكال في عدم إرادة الشق الأول لكونه خلاف
المفروض، لان المفروض كون الأثر يترتب على العدم في ظرف الاسلام بنحو
التركيب، فلا وجه لفرضه. والشق الثاني راجع إلى ما ذكر في الكفاية من الايراد
تحت عنوان: " لا يقال " من دعوى كون مجموع الزمانين زمانا للشك، فلا معنى
للايراد به، لأنه أجاب عنه بما عرفت، فإذا كان الايراد مسلما عنده فليكن
الاشكال على الجواب لا ايراد نفس الايراد.
وقد فسر المحقق الأصفهاني (قدس سره) عبارة الكفاية بعين ما ذكرناه
من التفسير.
وأورد عليه: بان اتصال المعتبر في إجراء الاستصحاب محرز، وغير

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 517 - 521 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
249

المحرز غير معتبر. بيان ذلك: ان المعتبر انما هو اتصال زمان المشكوك بما هو
مشكوك بزمان المتيقن بما هو متيقن، وليس المعتبر اتصال زمان ذات المشكوك
بزمان ذات المتيقن، لان تحقق ركني الاستصحاب لا يتوقف على ثبوت المتيقن
والمشكوك واقعا، بل انما يتوقف على حصول اليقين والشك، وكون المتيقن
حاصلا في أفق اليقين والمشكوك حاصلا في أفق الشك، ولو لم يكن لهما ثبوت
واقعي أصلا. وإذا ثبت ان الأثر انما يترتب على المتيقن والمشكوك بما هو متيقن
مشكوك، كان المعتبر هو اتصال زمان المشكوك بما هو مشكوك بالمتيقن بما هو
متيقن، وهو محرز لان المشكوك هو عدم الموت في زمان الاسلام، وهذا الشك
حاصل في الآن الثاني، إذ لو التفت الانسان في الآن الثاني إلى عدم الموت في
زمان الاسلام، فاما ان يحصل له اليقين به أو بخلافه أو يشك فيه. والفرضان
الأولان منتفيان فيثبت الثالث وهو الشك، فالآن الثاني زمان الشك أيضا، فلا
ينفصل زمان الشك عن زمان اليقين، واليقين بزمان الحادث الاخر لم يؤخذ جزء
لموضوع الأثر وإلا لكان الموضوع معلوم الارتفاع لا مشكوكه - كي تكون
الشبهة مصداقية -، لعدم اليقين بزمان الحادث الاخر، ومعه لا يتحقق أحد جزئي
الموضوع، فيعلم ارتفاعه (1).
ويورد عليه (2): ان عدم الموت في زمان الاسلام اما ان يؤخذ بنحو العام

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 109 - الطبعة الأولى.
(2) المناقشة فيما أفاده (قده) يتم ببيان أمرين:
الأول: إن ما يكون دخيلا في موضوع الحكم تارة يكون دخيلا فيه بنحو تقييد بان يكون الموضوع
هو الحصة الخاصة المقيدة به. وأخرى يكون دخيلا فيه بنحو الجزئية بان يكون الموضوع مركبا منه ومن
الجزء الاخر. ويترتب على الأول: أنه لا يعتبر في ترتب الحكم سوى إحراز الحصة الخاصة فلا يلزم إحراز
القيد نفسه.
نعم يكون إحرازه قهريا فيما كان إحراز الحصة الخاصة بالوجدان.
وأما إذا كان بالتعبد، فهو لا يلازم إحراز نفس القيد، ولا يلزم إحرازه لان الأثر يترتب على نفس
ثبوت الحصة الخاصة تعبدا. ويترتب على الثاني: انه لا يعتبر في ترتب الحكم إحراز كلا جزئي الموضوع،
ولذا يتعدد التعبد مع عدم احرازهما بالوجدان، وأما في صورة التقييد فلا يتعدد التعبد بل يكون هناك
تعبد واحد بالمقيد.
وجملة القول: قيد الموضوع لا يعتبر إحراز في ترتب الحكم، وإنما يلزم إحراز التقيد به. وأما جزء
الموضوع فهو مما يعتبر إحرازه في ترتب الأثر.
الثاني: أن الأثر:
تارة: يكون مترتبا على الوجود الخاص للشئ بحيث تكون الخصوصية قيدا للوجود، فاستصحاب
عدمه يكون المقصود منه نفي الأثر المرتب على الوجود.
وأخرى: يكون مترتبا على العدم الخاص بحيث تكون الخصوصية قيدا للعدم، فيكون المقصود
في استصحاب العام ترتيب الأثر.
فالفرق: أن استصحاب العدم في القسم الأول لنفي الموضوع. وفي الثاني لاثباته وموارد ترتب الأثر
على العدم الخاص كثيرة في العرفيات والشرعيات. ولا يخفى أنه في القسم الأول يمكن إجراء
استصحاب العدم مع الشك في الخصوصية، إذ الوجود الخاص مسبوق بالعدم فيستصحب عدمه. وأما
في القسم الثاني مما كانت الخصوصية قيد للنفي لا للمنفي. فيشكل جريان استصحاب العدم في مورد
الحادثين المجهولي التاريخ، لان العدم المقيد بالخصوصية المجهول تاريخهما ليس له حالة سابقة، إذ لم
يكن متحققا مع الخصوصية في زمان كي يستصحب، ولا الخصوصية مسبوقة بالعدم كما لا يخفى.
إذا عرفت ذلك فيقع الكلام فيما نحن فيه مما كان الأثر الشرعي مترتبا على عدم كل من الحادثين
في زمان الاخر، ومثاله الصحيح: هو ماذا قسمت تركة المورث وأسلم الوارث وشك في المتقدم منهما. فان
عدم القسمة إلى زمان الاسلام يترتب على إرث المسلم. وعدم الاسلام إلى زمان القسمة يترتب عليه
محروميته من الإرث، فالأثر يترتب على عدم كل منهما في زمن الاخر.
وقد عرفت أنه (قده) فرض موضوع الأثر هو عدم الاسلام إلى زمان القسمة وبالعكس وأجرى
استصحابه في الآن الثاني لأنه مشكوك بعد اليقين به سابقا. وظاهر ذلك أنه لا حظ الموضوع هو العدم
المقيد بزمان القسمة. ويرد عليه..
أولا: إن الأثر لا يترتب على العدم الخاص، بلا دخل للخصوصية بل هو يترتب على العدم مع
الخصوصية فالموضوع مركب من جزئين لا مقيد، إذ من الواضح أن عدم القسمة لا يترتب عليه الإرث
ما لم ينضم إليه الاسلام كما أن عدم الاسلام لا يترتب عليه المحرومية من الإرث ما لم ينضم إليه تحقق
القسمة وعليه فمجرد استصحاب عدم أحدهما في زمان الاخر في الآن الثاني لا ينفع في ترتب الأثر ما
لا ينضم إليه إحراز الجزء الاخر.
وثانيا: لو فرض - جدلا - أن الموضوع هو عدم أحدهما في زمان الاخر بنحو التقييد، فهو من موارد
كون التقييد راجعا إلى العدم نفسه، فان موضوع الأثر هو العدم الخاص لا الوجود الخاص.
ومن الواضح أنه لا حالة سابقة له كما عرفت في الامر الثاني فلا يمكن إجراء الاستصحاب فيه، ولو
كانت له حالة سابقة بان فرض تحقق العدم في زمان الاخر كان الأثر مترتبا عليه من السابق فلا حاجة
إلى الاستصحاب. فما أفاده فيما نحن فيه من إجراء الاستصحاب في العدم الخاص مما لا ينبغي صدوره من
مثله ممن هو علم في التحقيق والتدقيق.
250

المجموعي، بمعنى ان الاسلام قيد لعدم الموت، فالأثر يترتب على أمر عدمي
متصف بوصف وجودي، بحيث يكون هناك شك واحد واحراز واحد. واما ان
يؤخذ بنحو التركيب وكون كل منهما جزء الموضوع للأثر، فيكون هناك شكان
أحدهما متعلق بعدم الموت والاخر بالاسلام.
فعل الأول: وان صح ما ذكره من تعلق الشك بعدم الموت في زمان
الاسلام في الآن الثاني، لكنه أولا خلاف المفروض كما عرفته.
وثانيا: لا يصح استصحابه لكونه غير مسبوق باليقين سابق
بعدم الموت المتصف بكونه في زمان الاسلام.
وعلى الثاني: فعدم الموت في ألن الثاني وان كان مشكوكا، ولكن أثره انما
يترتب مع احراز زمان الاسلام في الآن الثاني كي يستصحب كما عرفت، وهو
غير محرز فلا يجدي الشك في عدم الموت في صحة اجراء الاستصحاب.
وقد تبين من هذا كله عدم ورود أي اشكال على عبارة الكفاية بناء على
ما ذكرناه من التفسير. ومعه يتم المحذور الأول في جريان الاستصحاب في مجهول
التاريخ حاصله: كون زمان الشك عنوانا اجماليا هو زمان الاسلام - وليس هو
مطلق الزمان -، ويمكن انطباقه على كلا الأنين فلا يحرز اتصال زمان الشك
بزمان اليقين، فتكون الشبهة مصداقية.
الوجه الثاني: - من وجوه المنع من جريان الاستصحاب في القسم الرابع -:
ان زمان الشك بعدم الموت زمان خاص وهو زمان الاسلام، وهو محتمل الحدوث
252

في الآن الثالث، والموت معلوم الوجود في هذا الآن، فإذا أردنا استصحاب عدم
الموت إلى زمان الاسلام احتمل انطباق المتيقن على المشكوك، لاحتمال كون
زمان الاسلام هو الآن الثالث، والموت معلوم الوجود فيه، فيلزم التعبد بالعدم في
زمان العلم بالوجود، وهو غير معقول.
وقد ذكره بعضهم تفسيرا لكلام الكفاية (1). ولكنه أجنبي عنه كما لا يخفى.
وكيف كان، فهذا المحذور صوري، لان المانع من احتمال كون التعبد في
زمان اليقين لا يخلو اما أن يكون لاجل ارتفاع موضوع التعبد وهو الشك. أو
لاجل المناقضة بين التعبد المذكور واليقين التفصيلي الموجود. أو لاجل شمول
ذيل الراية للمورد، وهو: " ولكن تنقضه بيقين آخر ".
والأول ممنوع لوجود الشك ضرورة، وذلك لان الزمان الملحوظ في
الاستصحاب هو زمان خاص وهو زمان الاسلام، والعدم بلحاظه ليس متيقن
الارتفاع. نعم بلحاظ أصل الزمان متيقن الارتفاع في الآن الثالث. ومجرد احتمال
انطباق زمان الاسلام على الآن الثالث لا يمنع من تحقق الشك في العدم
بالإضافة إلى زمان الاسلام.
والثاني انما يتم لو كان لليقين التفصيلي أثر شرعي يتنافى مع الأثر
المترتب على التعبد، كما لو كان أثر اليقين بالموت وجوب الصدقة واثر التعبد
بعدمه حرمة الصدقة، فمع التعبد بعدم الموت إلى زمان الاسلام مع احتمال كونه
في زمان اليقين بالموت يحتمل اجتماع الضدين من وجوب الصدقة وحرمتها.
وليس الامر كذلك لان اليقين بالموت في زمان الاسلام لو كان هو الآن الثالث
لا أثر له شرعا. هذا مع أنه لو فرض ترتب الأثر، فهو بوجوده الواقعي لا يمنع
من الحكم الظاهري على خلافه، كما هو الحال في جميع موارد الأحكام الظاهرية،

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 210 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
253

لان الأثر الواقعي على تقديره غير فعلي، فلا حظ.
والثالث سيأتي الكلام فيه في المحذور الآتي.
وبالجملة: ما نحن فيه نظير ما لو علم بعدم وجوب اكرام زيد الفاسق
وكان هناك شخص مشكوك في أنه زيد الفاسق أو لا، فان التعبد بأنه ليس بزيد
الفاسق ويجب اكرامه لا يتنافى مع احتمال انطباقه على من يعلم عدم وجوب
اكرامه.
الوجه الثالث: ما ذكر بعنوان التفسير لعبارة الكفاية، وبيانه: ان أحد
الحادثين - وهو الموت مثلا - لما كان ملحوظا بالإضافة إلى الحادث الاخر، وكان
هناك علم اجمالي بحصول الموت اما في الآن الثاني أو في الآن الثالث. وعلم
اجمالي آخر بحصول الحادث الاخر في أحد الأنين، احتمل أن يكون الحادث
الاخر - وهو الاسلام مثلا - قد حصل في الآن الثالث، فيكون الموت قد حصل
في الآن الثاني، وهو مورد العلم الاجمالي.
وعليه، فيحتمل أن يكون نقض اليقين السابق بعدم الموت، قد انفصل
بزمان اليقين الاجمالي وهو الآن الثاني، فزمان الشك وهو زمان الاسلام لا يحرز
اتصاله بزمان اليقين وهو الآن الأول، بل يحتمل أن يكون قد انفصل باليقين
الاجمالي الناقض، لاحتمال ان زمان الاسلام هو الآن الثالث، فيكون الآن الثاني
هو زمان اليقين الاجمالي بالارتفاع.
وبالجملة: المورد من موارد احتمال انطباق ذيل الرواية، فلا يصح
الرجوع إلى العموم لكون الشبهة مصداقية لا يصح التمسك بعموم دليل
الاستصحاب (1).
وهذا الوجه يقطع بعدم ارادته من العبارة من جهتين:

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 210 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
254

الأولى: انه يبتني على القول بعدم شمول دليل الاستصحاب لأطراف
العلم الاجمالي.
وصاحب الكفاية لا يقول بذلك، بل يقول بشموله لأطرافه - كما ستعرف
الجهة الثانية: انه يقتضي أن يكون المورد من مصاديق ذلك الحكم -
أعني: عدم شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الاجمالي -، فلا وجه لجعل
المحذور في جريان الاستصحاب في المورد شيئا آخر برأسه - غير ذلك -، وهو:
" عدم احراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين " - كما هو صريح العبارة -.
ثم (1) ان المحقق العراقي (رحمه الله) بعد ما ذكر كلام الآخوند بهذا

(1)
تحقيق الكلام في هذا البيان وما أفاده المحقق العراقي في رده أن يقال:
أما أصل المحذور بالبيان المزبور فيدفعه أن قوله (ع): " ولكن تنقضه بيقين آخر " ليس تقييدا لدليل
الاستصحاب أو تخصيصا لعمومه، فهو ليس بمنزلة الاستثناء أو الوصف، بل هو بيان لحكم آخر مستقل
ذكر بعنوان الاستدراك لما يتوهم من عدم قابلية اليقين الحادث للنقض بتاتا - كما هو ظاهر قوله " لكن "
- ومحصل هذا الحكم هو بيان أن ما من شان النقض هو اليقين الاخر المخالف لليقين بالحدوث فلا يلزم
منه تغيير موضوع دليل الاستصحاب وتقييده بل موضوعه على ما هو عليه بلا تغير.
فلو فرض عمومه - أي الذيل - لليقين الاجمالي فهو يصطدم مع دليل الاستصحاب ويتنافى معه في
مورد إحراز انطباقه، مع إحراز انطباق دليل الاستصحاب، فإنه يتحقق التهافت بين الدليلين - على ما
قيل - نظير الدليلين المتعارضين، ومقتضى التصادم هو التساقط، لا أنه يخرج مورده عن عموم دليل
الاستصحاب رأسا - كما هو شان الدليل المخصص -.
ومن الواضح أن التصادم إنما يحصل مع احراز انطباقه إما مع الشك في انطباقه على مورد
الاستصحاب فلا يصادم دليل الاستصحاب، لأنه لا يكون حجة مع الشك في الانطباق، فيكون دليل
الاستصحاب حجة بلا مزاحم، إذن فمجرد الشك في انطباق اليقين الاجمالي لا يضر بجريان
الاستصحاب، إذ لا تكون الشبهة مصداقية بالنسبة إلى عموم دليل الاستصحاب، بعد أن لم يكن دليله
مقيدا بمفاد الذيل، فتنبه.
وأما ما أفاده المحقق العراقي في رده: فقد عرفت ما توجه عليه، ولكن يمكن توجيه ما أفاده (قده)
بان نظره ليس إلى مجرد تعلق العلم الاجمالي بالصورة الذهنية وعدم سرايتها إلى الخارج كي يقال إن
هذا الكلام متأت في العلم التفصيلي بل الشك وغيره من الصفات النفسية التعلقية. بل نظره (قده) إلى
أن تعلق العلم بالصورة الذهنية يمنع من تحقق النقض بالعلم الاجمالي. بيان ذلك: إن العلم والشك من
الصفات المتضادة التي لا يمكن اجتماعها في شئ واحد، فإذا كان متعلق الشك أو العلم هو الشئ
بوجوده الخارجي فيما أنه لا تعدد فيه يمتنع أن يكون موردا للشك والعلم في آن واحد، فإذا فرض تحقق
العلم الاجمالي، وتعلقه به لم يكن متعلقا للشك. وبذلك يتحقق انتقاض اليقين السابق.
أما إذا فرض تعلق الشك أو العلم بالشئ بوجوده الذهني فيما أن الشئ يمكن أن يكون بلحاظ
صورة الذهنية متعددا لتعدد العناوين المنطبقة عليه أمكن أن يكون متعلقا للشك والعلم في آن واحد مع
تعدد العنوان، لاختلاف متعلق الوصفين حقيقة - بعد أن كان هو العنوان والصورة الذهنية - فيكون
متعلقا للشك بعنوان ومتعلقا للعلم بعنوان آخر.
وعلى هذا الأساس يمكن أن يجتمع العلم الاجمالي مع الشك ولا ينتقض الشك به لان متعلق العلم
هو الشئ بعنوانه الاجمالي ومتعلق الشك هو الشئ بعنوانه التفصيلي. وإذا لم يكن العلم الاجمالي
مناقضا للشك ورافعا له لم يكن ناقضا لليقين السابق لا محالة. ولذلك لم يكن العلم الاجمالي صالحا
للنقض، بخلاف العلم التفصيلي فإنه يتعلق الشك فيه فيستلزم نقضه وارتفاعه فيكون ناقضا
لليقين السابق.
وبالجملة: مرجع ما أفاده (قده) إلى عدم صلاحية العلم الاجمالي لنقض اليقين السابق
واختصاص اليقين الناقض التفصيلي، فاشكاله في المقام هو الاشكال في كبرى المسالة - بلا
خصوصية للمقام - وهي عدم جريان الاستصحاب في موارد العلم الاجمالي أو جريانه. وسيأتي تحقيقه
في محله، فتدبر.
255

التفسير وأسهب في توضيحه، أورد عليه: بأنه انما يتم بناء على سراية العلم
الاجمالي إلى الخارج، مع أن الامر ليس كذلك، فان العلم الاجمالي انما يتعلق
بالصورة الذهنية للشئ - ويعبر عنها بالمعلوم بالذات -. اما الصورة الخارجية
فهي معلومة بالعرض ولا يسري العلم إليها، فهي في نفسها مشكوكة (1).
ولا يظهر لهذا الايراد وجه وجيه أصلا، فان الصورة الذهنية التي تعلق
بها العلم تطابق الصورة الخارجية - ولأجل ذلك كانت الصورة الخارجية معلومة
بالعرض - والمحذور المتأتي بناء على سراية العلم الاجمالي إلى الصورة الخارجية
- وهو احتمال كون نقض اليقين باليقين لا بالشك - متأت من جهة المطابقة بين
الصورتين، فالمحذور تام على كلا الوجهين والبنائين.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 211 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
256

نعم، لو قلنا بعدم مطابقة الصورة الذهنية للصورة الخارجية، وانه لا
علاقة له بالصورة الخارجية لم يتأت المحذور. ولكنه لا قائل به، لاستلزامه ارتفاع
منجزية العلم الاجمالي بالمرة وعدم أثر له خارجي أصلا.
وبعبارة أخرى: ان ما أفاده من عدم السراية متأت حتى بالنسبة إلى
العلم التفصيلي، مع أن الالتزام بناقضيته ليست محل اشكال.
ويتحصل مما ذكرنا: ان ما ذكر في تفسير عبارة الكفاية غير تام لا في
نفسه ولا بعنوان توجيه كلام الكفاية.
إذا عرفت هذا كله. فالحق في المقام عدم جريان الاستصحاب - كما ذهب
إليه المحقق الخراساني (قدس سره) - لمحاذير ثلاثة:
المحذور الأول (1): ما ذكره المحقق الخراساني في الكفاية بالتوجيه الذي
ذكرناه.

(1) قد يورد: على ما أفاده صاحب الكفاية بالتقريب الذي بيناه فان الشك في اتصال المشكوك بالمتيقن
لاجل تردد زمان الحادث الاخر بين الأنين الثاني والثالث لا يضر بالاستصحاب، لأنه يمكن جر العدم
من زمان اليقين إلى زمان الشك أي آن كان الثاني والثالث، واحتمال ارتفاعه في الأثناء لا يضر في التعبد
بالبقاء لان مرجعه إلى عدم تحقق الانفصال نظير ما لو تيقن بعدالة زيد صباحا، وشك في تحققها ليلا
لكونها مورد الأثر العملي، واحتمل ارتفاعها ظهرا، فإنه من موارد احتمال الانفصال، مع أنه لا يضر
بالاستصحاب جزما. ففي ما نحن فيه نقول: يمكن استصحاب عدم الاسلام - مثلا - إلى زمان تحقق
القسمة الواقعي واحتمال الانفصال لا يضر بعد ما كان مرجع التعبد الاستصحابي هو التعبد بالبقاء
وعدم الانفصال.
والجواب عن هذا الايراد يتضح بتقديم مقدمة وهي: أن مصادفة التعبد لما يخالف اليقين لا يضر في
صحة التعبد إذا لم يكن التعبد بالحكم بالعنوان الذي تعلق به اليقين بالخلاف، فمثلا لو علم بحرمة
إكرام الفاسق، وشك في زيد أنه فاسق أولا، فان التعبد بجواز إكرامه بقول مطلق سواء كان في الواقع
فاسقا أو ليس بفاسق لا ينافي العلم بحرمة إكرامه لو كان فاسقا، وإن احتمل مصادفة مورد التعبد
لمورد العلم، وذلك لان الحرمة الثابتة المعلومة ثابتة لزيد بما هو فاسق، والحلية الثابتة ثابتة له بما هو
مشكوك مع قطع النظر عن فسقه وعدم فسقه، لان مرجع الاطلاق إلى رفض القيود. فالحكم الظاهري
لا يحتمل انطباقه على ما هو معلوم الخلاف فلم أن يبق سوى محذور اجتماع الحكمين المتضادين، ولكنه
محذور سار في مطلق موارد الأحكام الظاهرية، واتضح اندفاعه في محله.
نعم إذا كان التعبد بالجواز على كلا تقديريه بنحو يكون كلا من تقديريه دخيلا في الحكم على تقدير
تحققه، بان كان مباح الاكرام بما هو فاسق. أو بما هو ليس بفاسق كان ذلك ممتنعا لاحتمال كون الحكم
الظاهري بالإحالة ثابتا لما يقطع بالحرمة بالنسبة إليه.
وكما يمتنع جعل الحكم الظاهري مع العلم بالخلاف، كذلك يمتنع جعله مع احتمال انطباقه مع مورد
العلم بالخلاف، لتقيد موضوعه بغير العلم، فلا يمكن الجزم به والحال هذه، لأنه مستلزم لاحتمال اجتماع
المتنافيين وهو محال كالقطع به.
إذا عرفت ذلك نقول: إن الآن الثالث من الآنات الثلاثة يعلم فيه بتحقق كلا الحادثين وارتفاع
المتيقن السابق.
وعليه فإذا فرض التعبد بالعدم إلى زمان الحادث الاخر على أي تقدير أي: سواء كان هو الآن
الثاني أو الآن الثالث، فمرجع ذلك إلى احتمال جر العدم إلى الآن الثالث مضافا إلى الآن الثاني -
لان عموم الاستصحاب بلحاظ الزمانين شمولي لا بدلي فخصوصية الزمانين ملحوظة فيه لا ملغاة - كما
في مثل التعبد بجواز إكرام زيد سواء كان فاسقا أم عادلا - فمرجع الاطلاق ههنا إلى ملاحظة كلا
الزمانين لأنه شمولي. والمفروض أن العدم في الآن الثالث معلوم الارتفاع، فيلزم سراية التعبد أي زمان
يعلم فيه بعدم بقاء المتيقن، فيكون من التعبد بالشئ مع العلم بخلافه، وقد عرفت امتناع احتماله
كامتناع الجزم به، لأنه جمع بين المتنافيين. فكيف يحتمل أن يسري التعبد بالعدم إلى زمان العلم بارتفاعه
الملازم للعلم بعدم التعبد به؟.
هذا إذا أريد جر العدم إلى زمان الحادث الآخر على كلا تقديريه بحيث أريد إبقاؤه إلى الآن
الثالث.
وأما إذا لو حظ العدم بالإضافة إلى زمان الاخر مع قطع النظر عن كونه في هذا الآن أو ذاك، بل لو حظ
بحياله - كما هو ظاهر الكفاية - فمن الواضح أنه زمان واحد مردد بين آنين أحدهما متصل بزمان المتيقن
والاخر منفصل، فيتأتى اشكال عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين.
والذي يتحصل: أنه إن كان العدم ملحوظا بالنسبة إلى زمان الاخر بما هو أحد الزمانين الثاني أو
الثالث بحيث أريد جره إليه أينما كان، كان الاشكال فيه ما ذكرناه من احتمال مصادفته لمورد العلم
بالخلاف - وهو الذي تقدم بيانه - وإن لو حظ بالنسبة إلى زمان الاخر الاجمالي مع قطع
النظر عن الزمانين الثاني والثالث، جاء إشكال عدم إحراز تحقق اتصال زمان الشك بزمان اليقين الذي
هو ظاهر الكتاب. فالاشكال وارد على أي تقدير.
هذا غاية ما يقرب به كلام صاحب الكفاية، فتأمل فيه وفي أطرافه فإنه لا يخلو عن دقة.
257

المحذور الثاني (1): ان الأثر انما يترتب على عدم الحادث في زمان وجود

(1) لا يخفى أن هذا الوجه مع الوجه الأول الذي ذكره صاحب الكفاية بالبيان الذي ذكرناه ليسا في
عرض واحد ولا يردان على تقدير واحد، بل كل منهما وارد على تقدير.
وتوضيح ذلك: أن الموضوع للأثر المردد بين أمرين تارة يكون له واقع خارجي مشخص بأحد
المشخصات لكنه مردد بين عنوانين يحتمل انطباق كل منهما عليه، كما لو رأيت شيخا يتكلم لكنه كان
مرددا بين كونه ابن زيد أو ابن عمرو. وأخرى لا يكون له واقع مشخص بل يكون واقعه مرددا بين
وجودين، كما لو تردد الجائي بين كونه زيدا أو عمرو.
ففي الأول يكون موضوع الأثر وجودا معينا لكنه مردد بين عنوانين. وهو المرئي أو المسموع صوته،
فان هذا العنوان يشير إلى واقع مشخص.
وفي الثاني يكون موضوع الأثر مرددا بين وجودين، كعنوان الجائي فإنه لا يشير إلى واقع معين
مشخص بل يشير إلى واقع مردد بين وجودين أحدهما زيد والاخر عمرو.
والفرق بين الصورتين: أنه في الصورة الأولى يمكن جعل هذا المردد موضوع الأثر على كل تقدير
وإن كان على أحد تقديريه لا يثبت له الحكم واقعا، فيمكن الحكم في المثال المتقدم باكرام هذا المتكلم
سواء كان ابن زيد أو ابن عمرو. وإن كان حكم ابن زيد هو عدم وجوب الاكرام، لتحقق الشك في
وجوب إكرام هذا الموجود فيتعبد بوجوب إكرامه، ولا يتنافى الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي المخالف
له. وأما في الصورة الثانية، فلا يمكن التعبد بترتب الأثر على كل تقدير إذا فرض أنه غير ثابت له
واقعا على أحد تقديريه.
وذلك لان المفروض أن العنوان يشير إلى وجود مردد، والوجود هو موضوع الأثر لا العنوان،
والمفروض أن الوجود على أحد تقديريه لا يشك في ثبوت الحكم له، فلا يمكن التعبد الظاهري بوجوب
إكرام الداخل سواء كان زيدا أو عمرا، لأنه - مثلا - لو كان زيدا يعلم بعدم وجوب إكرامه فلا شك
في الحكم بالنسبة إليه، فكيف يتعبد بوجوب إكرام الداخل - وهو عنوان مشير إلى أحد الوجودين -
على كل تقدير بعد أن كان فردا مرددا؟ والتعبد فرع الشك.
إذا اتضح ذلك: فنقول: إن موضوع الأثر فيما نحن فيه هو عدم التقسيم في زمان الاسلام - مثلا
-، وزمان الاسلام على الفرض مردد مجهول الانطباق على أي الأنين - الثاني أم الثالث -.
وعليه، فان لو حظ زمان الاسلام مما له واقع مشخص غاية الامر أنه يتردد عنوانه، نظير الشبح المرئي
المردد بين كونه ابن زيد أو ابن عمرو. فالتعبد بعدم القسمة في زمانه على كل تقدير لا محذور فيه كما
عرفت، لكن يجئ اشكال صاحب الكفاية من تردد هذا الزمان بين زمانين أحدهما منفصل والاخر
متصل فلا يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين.
وإن لو حظ زمان الاسلام عنوانا مشيرا إلى وجود مردد بين فردين وهما الآن الثاني والآن الثالث. كما هو الظاهر حيث أنه لا واقع له سوى أحد هذين الأنين وهو بالنسبة إليهما من قبيل العنوان المشير
وليسا هما بالنسبة إليه من قبيل العنوان إلى المعنون - جاء ما ذكرناه من الايراد - في المتن - وهو أن
العدم لا يشك فيه على كل تقدير من تقديري زمان الاسلام، لأنه على تقدير كون الآن الثالث فهو
منتقض ومتبدل إلى الوجود قطعا.
نعم هو مشكوك في الآن الثاني الذي يحتمل بكون زمان الاسلام أيضا. فالشك فيه على أحد
تقديري زمان الاسلام لا على كلا تقديريه، فلا يمكن التعبد به على كلا التقديرين، والمتعبد على أحد
التقديرين لا أثر له شرعا لعدم إحراز الجزء الاخر، وهو الاسلام معه وفي ظرفه. فظهر أن هذين
الايرادين لا يردان على تقدير واحد.
والذي يتلخص في مقام نفي الاستصحاب في مجهول التاريخ في نفسه: أنه إن كان زمان الحادث
الاخر ذا وجود مشخص غاية الامر أنه مردد بين عنوانين، لم يجر الاستصحاب لعدم إحراز اتصال زمان
الشك بزمان اليقين. وإن كان مرددا بين وجودين، لم يجر الاستصحاب لعدم الشك على كل تقدير.
وعلى هذا التقدير يتفرع الايراد الثالث الذي ذكرناه مفصلا في المتن. وخلاصة المحذور فيه: أن
عنوان زمان الحادث الاخر لا يصدق إلا مع العلم بتحققه لان معنى زمان الحادث هو زمان تحقق
الحادث، ولا يمكن الحكم على زمان بأنه زمان تحقق الحادث إلا إذا كان معلوم التحقق فيه، والآن الثاني
لا يعلم أنه قد تحقق فيه الاسلام، فاجراء إصالة عدم القسمة فيه لا يتحقق به التعبد بالعدم في زمان
الاسلام بل في زمان احتمال الاسلام، وهو غير موضوع الأثر، فلا مجال لاحراز أنه زمان الاسلام إلا
بنحو يستلزم الدور وكون الأصل مثبتا فتأمل في ذلك تعرف.
259

الحادث الاخر، فموضوع الأثر مركب من عدم الحادث ووجود الحادث الاخر.
والتعبد بأحد الجزئين لا يصح إلا في ظرف إحراز الجزء الاخر، لا بمعنى ان التعبد
لا بد وأن يكون في ظرف إحراز الاخر، بل بمعنى ان المتعبد به هو الجزء في ظرف
يحرز فيه الاخر. وبعبارة أخرى: ان ظرف المتعبد به لا بد أن يكون زمان إحراز
الاخر، وان كان التعبد قبل الاحراز فالأثر انما يترتب فيما إذا أحرز عدم الحادث
في ظرف يحرز فيه الحادث الاخر.
ولما لم يكن الشك في بقاء عدم الحادث بهذه الإضافة - أعني: إلى زمان
الاخر على كل تقدير وبقول مطلق - لأنه على تقدير انطباق زمان الحادث
الاخر على الآن الثالث لا يشك في بقاء العدم على هذا التقدير للعلم بانتفائه
260

وانتقاضه. نعم الشك في بقاء عدم الحادث حاصل مع تقدير فرض انطباقه على
الآن الثاني، للشك في هذا الآن دون الآن الثالث. فالشك في بقاء عدم
الموت إلى زمان الاسلام ليس على كل تقدير، بل على خصوص تقدير كون زمان
الاسلام هو الآن الثاني. - امتنع جريان الاستصحاب في المورد، لان التعبد بعدم
الحادث إلى زمان الحادث الاخر في الآن الثاني، لا يجدي في ترتب الأثر لعدم
احراز الحادث الاخر في هذا الظرف - لتردده بين الأنين -، والتعبد به في جميع
الأزمنة التي يحتمل وجود الحادث الاخر فيها بحيث يحرز تصادف العدم مع
الحادث الاخر غير ممكن، لانطباق الاستصحاب على الآن الثالث، وقد عرفت
عدم الشك فيه.
والحاصل: ان التعبد بعدم الحادث في زمان الاخر على تقدير دون تقدير
لا يجدي في ترتب الأثر، لعدم احراز كلا الجزئين في ظرف واحد وعلى جميع
التقادير غير ممكن، لعدم الشك على بعض التقادير.
المحذور الثالث: وقبل بيانه لا بد من بيان شئ وهو انه هناك فروضا
ثلاثة تذكر في الاستصحاب لها علاقة بما نحن فيه:
الفرض الأول: أن يكون موضوع الأثر تحقق بقاء الحادث إلى زمان
حادث آخر، وعلم اجمالا بحصول الحادث الاخر في أحد زمانين، واحتمل بقاء
الحادث إلى زمان الحادث - المعلوم بالاجمال -، فلا اشكال في استصحاب
بقاء الحادث إلى زمان الحادث الاخر.
الفرض الثاني: أن يكون موضوع الأثر كذلك، ولكن كان الحادث
الاخر محتمل الحصول في زمان معين كالزوال لا معلوما. فقد يتوهم جريان
الاستصحاب في هذه الصورة باعتبار وجود الشك في بقاء الحادث إلى زمان
الحادث الاخر. ولكنه توهم فاسد يبتني على المغالطة، فان صدق زمان الحادث
الاخر - كزمان مجئ زيد - متقوم باحراز الحادث الاخر - وهو المجئ - وثبوته،
261

وإلا فلا يصدق سوى زمان احتمال مجئ زيد. فلا شك في بقاء الحادث إلى زمان
الحادث الاخر لعدم صدق: " زمان الحادث الاخر "، فلا يجري الاستصحاب في
المورد.
الفرض الثالث - وهو وسط بين الفرضين -: أن يكون موضوع الأثر
كذلك أيضا، وكان الحادث الاخر محتمل الحصول في زمان معين أيضا، ولكن
كانت هناك ملازمة واقعية بين بقاء الحادث كجلوس عمرو وحصول الحادث
الاخر في ذلك الزمان المعين، بمعنى ان الحادث لو استمر إلى ذلك الزمان لكان
الحادث الاخر قد حصل في ذلك الزمان.
فهو كالفرض الأول من جهة وجود الملازمة التي نتيجتها حصول العلم
بالحادث الاخر لو علم باستمرار الحادث، ولا يبقى مشكوكا.
وكالفرض الثاني، من جهة الشك بحصول الحادث الاخر في ذلك الزمان
المعين. واما من جهة صحة جريان الاستصحاب في هذا الفرض وعدم صحته،
فهو كالفرض الثاني، لان جريان الاستصحاب فيه يستلزم محذورين، الدور
وكونه مثبتا.
لان موضوع الاستصحاب هو الحادث إلى زمان الحادث الاخر. وصدق:
" الشك في بقاء الحادث إلى زمان الحادث الاخر " يتوقف على احراز الحادث
الاخر، لتقوم صدق: " زمان الحادث الاخر " باحرازه - كما عرفت -، فاستصحاب
الحادث إلى الزمان الحادث الاخر متوقف على احراز الحادث الاخر، مع أن
الاحراز انما يكون به - أعني: بالاستصحاب - فيلزم الدور. كما أنه يكون مثبتا
بالنسبة إلى الحادث الاخر لان ثبوته بالملازمة.
وبالجملة: فالاستصحاب غير جار لعدم احراز الحادث الاخر من جهة
تقوم صدق الشك بالحادث نفي زمان الحادث الاخر باحرازه، لان من جهة توقف
ترتب الأثر عليه، فالتفت.
262

إذا عرفت هذا، فما نحن فيه من قبيل الفرض الثالث، لما عرفت من أن
الشك في بقاء عدم الحادث إلى زمان الحادث الاخر ليس على كل تقدير، لأنه
في فرض انطباق زمان الحادث الاخر على الآن الثالث لا شك في العدم للعلم
بانتفائه. نعم هو حاصل على تقدير انطباقه على الآن الثاني، والحادث الاخر في
هذا الآن محتمل الحصول لتردد حصوله بين الأنين.
وهناك ملازمة واقعية بين بقاء عدم الحادث وبين تحقق الحادث الاخر،
بمعنى ان العدم لو استمر إلى ما بعد الآن الثاني كان الحادث موجودا في الآن
الثاني.
وعليه، فلا يصح استصحاب عدم الحادث إلى زمان الحادث الاخر - فيما
نحن فيه - للزوم المحذورين. فالنكتة - فيما نحن فيه - في حصر زمان الشك
الذي يمكن التعبد فيه بزمان الحادث الاخر على تقدير انطباقه على الآن الثاني،
لا مطلقا ولو انطبق على الآن الثالث، والا كان كالفرض الأول، فيجري فيه
الاستصحاب.
الوجه الرابع: ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره) في تقريب منع
جريان الاستصحاب بنفسه في مجهول التاريخ - ذكره البروجردي في
تقريراته (1) -.
يشترك مع المحذور الثاني في وحدة المدعى من عدم امكان التعبد بعدم
الحادث إلى زمان الحادث الاخر على جميع التقادير، وما يمكن التعبد عليه من
التقادير لا يجدي في ترتيب الأثر.
ويشترك مع المحذور الثالث بما ذكره - في تقريب المدعى - من أن التعبد
بالمستصحب في زمان يحتمل انه زمان الحادث الاخر، كما يدل عليه قوله: " وبعبارة

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 207 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
263

أخرى: يكون الشك فيه من جهة الشك في كون الزمان الذي حكم ببقاء
المستصحب فيه هو زمان وجود غيره بلحاظ تردد زمانه بين الزمانين ".
ولكنه - في تقريب مدعاه - يختلف مع ما ذكر ناه في أمرين:
الأول: ما ذكر من وجود شكين فيما نحن فيه: أحدهما: الشك بعدم
الحادث بالإضافة إلى الزمان، والاخر: الشك في مقارنة البقاء التعبدي لزمان
وجود الغير.
وظاهر كلامه كون هذين الشكين عرضيين، بحيث يمكن حصول
أحدهما دون الاخر. وعليه فيمكن حصول الشك في مقارنة البقاء لزمان الغير
ولو أحرز البقاء بالإضافة إلى الزمان. مع أنه قد عرفت - في بيان المحذور الثالث -
انه لا يشك بالمقارنة على تقدير البقاء، بل هناك علم بها للملازمة الواقعية بين
بقاء الحادث إلى زمان وتحقق الحادث الاخر في ذلك الزمان.
الامر الثاني: ما ذكره في بيان عدم امكان جر المستصحب في جميع
محتملات أزمنة وجود الغير التي منها الزمان الثالث من: ان الزمان الثالث زمان
انتقاض اليقين بكل منهما بيقين آخر. مع أن اللازم هو التعليل بعدم كون الزمان
الثالث زمان الشك - كما ذكرناه لانتفاء موضوع الاستصحاب -، لا انه زمان
اليقين بالخلاف، لما عرفت في دفع أحد المحذورات من انه لا ضير في احتمال
انطباق المستصحب على المتيقن.
إلى هنا ينتهي الكلام في مجهولي التاريخ. ويتضح لدينا عدم امكان
جريان الاستصحاب فيهما أو في أحدهما بنفسه للمحاذير الثلاثة التي عرفتها.
المورد الثاني: ما كان أحدهما معلوم التاريخ والاخر مجهوله. فاستصحاب
عدم المجهول إلى زمان المعلوم لا اشكال فيه لعدم تأتي أحد المحذورات الثلاثة
فيه أصلا كما لا يخفى.
وانما الاشكال في جريان استصحاب عدم المعلوم إلى زمان المجهول.
264

وقد حكم الشيخ (قدس سره) في رسائله بعدم جريانه. بتقريب: ان
الوجود بنفسه غير مشكوك في زمان أصلا والوجود في زمان وجود الغير لا يقين
بعدمه سابق كي يستصحب (1).
وتقريب مدعاه يبتني على مقدمتين:
الأولى: ان الشك بالمعلوم بذاته غير موجود في زمان، بل لا بد في تحققه
من ضم خصوصية للمعلوم.
الثانية: انه مع ضم الخصوصية يكون الشك واقعا متعلقا بها لعدم الشك
في الحادث أصلا، وإضافة الشك إلى الحادث مع الخصوصية من باب المسامحة.
وعليه، فلما لم يكن للاتصاف بالخصوصية حالة سابقة من وجود وعدم
لعدم المتصف، لم يجر الاستصحاب. ومع عدم ضم المقدمة الثانية لا يتم كلام
الشيخ (رحمه الله)، لان ضم الخصوصية يوجب كون موضوع الشك هو الخاص،
والخاص بما هو خاص أمر حادث مسبوق بالعدم، فيمكن استصحابه. فضم
الخصوصية إلى الحادث لا يجدي ما لم يكن الشك في الواقع متعلقا بالخصوصية
لا بالمجموع، والا فالمجموع بما هو مجموع مسبوق بالعدم فيستصحب بمفاد
ليس التامة.
وقد خالف المحقق الخراساني (قدس سره) في الكفاية الشيخ، لأنه حكم
بالتفصيل لا بعدم جريان الاستصحاب مطلقا كما عرفت من الشيخ فإنه - بعد
ما ذكر: ان الأثر في المعلوم والمجهول تارة لوجود أحدهما بنحو خاص بمفاد كان
التامة. وأخرى لوجود أحدهما المتصف بذلك النحو بمفاد كان الناقصة. وان
الحكم في الأول جريان الاستصحاب مع عدم المعارضة. وفى الثاني عدم جريانه
لعدم اليقين السابق بنحو ما عرفته في مجهولي التاريخ.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 388 - الطبعة الأولى.
265

ذكر صورة ما إذا كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الاخر بمفاد ليس
التامة، فاجرى الاستصحاب في طرف المجهول لاتصال زمان شكه بزمان اليقين
دون طرف المعلوم. ببيان: ان الشك في المعلوم بذاته غير موجود في زمان، وانما
يحصل الشك فيه بضم خصوصية إليه وهي اضافته إلى زمان الاخر. ومعه...
تارة: تؤخذ هذه الخصوصية مع الحادث بمفاد كان التامة، بان يلحظ
الوجود الخاص المحمولي وهو تحقق أحدهما في زمان الاخر.
وأخرى: تؤخذ بنحو كان الناقصة، بان يلحظ الوجود المتصف بكونه في
زمان الاخر.
فعلى الأول يجري استصحاب العدم ويترتب عليه الأثر. وعلى الثاني لا
يجري لعدم الحالة السابقة (1).
وهذا الذي ذكرناه هو مراده من قوله: " وقد عرفت جريانه... "، حيث لا
تخلو هذه العبارة من اجمال وغموض في المراد.
وكأنه يحاول ان يبين ان ملاحظة الحادث المعلوم بالإضافة إلى الحادث
الاخر موجبة لرجوع هذه الصورة إلى إحدى الصورتين الأولتين اللتين عرفت
حكمها وهما خارجان عما نحن فيه. ومن غير الإضافة لا شك في عمود الزمان
فلا يجري الأصل.
ومن هنا يتضح ان المحقق الخراساني (قدس سره) قد وافق الشيخ
(قدس سره) في تقريب نفي الاستصحاب بأخذ الخصوصية في الحادث، وان
خالفه في النتيجة حيث حكم بالتفصيل لا بالعدم مطلقا.
وللمحقق النائيني - كما في أجود التقريرات - وجه آخر في منع جريان
الاستصحاب في معلوم التاريخ، وهو جعل المورد من موارد حكومة استصحاب

(1) الخراساني المحقق محمد كاظم. كفاية الأصول / 421 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
266

الجزء على استصحاب عدم الكل.
وتوضيحه: انه لو حصل الشك في الكل باعتبار الشك في الجزء. وأمكن
استصحاب الجزء، فلا مورد لاستصحاب عدم الكل حينئذ، لأنه أصل مسببي،
واستصحاب الجزء أصل سببي، والأصل السببي حاكم على الأصل المسببي،
لأنه رافع للشك حكما. فلو شك في الصلاة مع الطهارة من جهة الشك في
الطهارة، وأمكن استصحاب الطهارة كان استصحابها حاكما على استصحاب
عدم الصلاة مع الطهارة.
ولما كان ما نحن فيه من هذا النحو، لان الشك في وجود الحادث المعلوم
في زمان الاخر ناشئ من الشك في تحقق الاخر المجهول في زمان الحادث المعلوم
- وهو الزوال مثلا -، فاستصحاب عدم تحقق الاخر المجهول عند الزوال حاكم
على استصحاب عدم الحادث في زمان الاخر. ومن هنا يعلم ان الالتزام بجريان
الاستصحاب في معلوم التاريخ يلزمه الالتزام بجريانه في سائر موارد الشك في
الكل، مع امكان استصحاب الجزء، لأنها من نحو واحد وبملاك واحد (1).
وقد عرفت عدم جريانه في جميع الموارد - لأنها مورد اخبار الاستصحاب
- بملاك حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي. فاشكال المحقق النائيني
(قدس سره) أشبه بالاشكال النقضي.
وقد يورد على الشيخ (قدس سره) في حصر الترديد بين شقين ومنع
جريان الاستصحاب في كل منهما، فلا يجري الاستصحاب في معلوم التاريخ
أصلا -: بامكان تصور شق ثالث يجري فيه الاستصحاب، وذلك بجعل
الخصوصية المحصلة للشك في ظرف الزمان، بان يضاف الحادث المعلوم إلى زمان
خاص، وهو زمان الحادث الاخر، لان هناك زمانا واقعيا قد تحقق فيه الحادث

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 426 - الطبعة الأولى.
267

الاخر فيلحظ الحادث المعلوم مضافا إلى ذلك الزمان الواقعي، ويكون هذا
الزمان جزأ للموضوع أو ظرفا لجزء الموضوع، بان يكون الجزء الاخر هو الحادث
الاخر، فيكون الموضوع مركبا من ذاتي الحادثين أو من الحادث المعلوم والزمان
الخاص، ولا اشكال في تحقق الشك في الحادث إلى هذا الزمان بشهادة الوجدان
ولما كان هذا الزمان مسبوقا بأزمنة متسلسلة قد تحقق فيها العدم يستصحب العدم
إلى هذا الزمان للشك فيه في هذا الزمان.
فالخصوصية لم تلحظ في جانب الحادث، وهو التقيد بزمان الاخر، كي يقال
بعدم الحالة السابقة. كما لم يلحظ الحادث مضافا إلى ذات الزمان، كي يقال بعدم
الشك فيه في زمان، بل لوحظت في ظرف الزمان، وحصل الشك وأمكن
الاستصحاب.
فالمتحصل: ان حصر الترديد بين شقين لا وجه له، لامكان فرض شق
ثالث يحصل فيه الشك ويكون موردا للاستصحاب.
ومن هنا تعرف الاشكال على المحقق الخراساني (قدس سره) في تقريبه،
لأنه فيه قد وافق الشيخ، حيث حصر الترديد بين شقين أيضا وان خالفه في
النتيجة - أعني: اجراء الاستصحاب - لما عرفت من تفصيله.
ومنه يظهر الاشكال (1) في نقض المحقق النائيني (قدس سره) المذكور، فإنه

(1) تحقيق الحال فيما أفاده المحقق النائيني: أن عدم جريان استصحاب عدم الكل في مورد استصحاب
الجزء ليس لاجل الحكومة التي ذكرها وإلا أورد عليه بما ذكرناه في ذيل المبحث أن السببية والمسببية ليست
شرعية بل عقلية وهي لا تصحح الحكومة كما لا يخفى. بل الوجه هو أن فرض الموضوع هو المركب راجع
إلى فرض الموضوع ذوات الاجزاء المجتمعة بلا أخذ خصوصية زائدة.
وعليه فان أريد من استصحاب عدم الموضوع عدم الموضوع بوصف الموضوعية فهو راجع إلى
استصحاب عدم الحكم لان موضوعية الموضوع عبارة أخرى عن ثبوت الحكم له، وإن أريد استصحاب
عدم ذات الموضوع، فالمفروض أنه عبارة عن الاجزاء بذواتها، ولا شك فيها إلا في الجزء المفروض
جريان الاستصحاب لاثباته لا لنفيه، فليس هناك شك في الكل وراء الشك في الجزء كي يتأتى حديث
المعارضة أو الحكومة.
نعم هنا شك في لامر الانتزاعي وهو وصف مجموع الاجزاء لكنه ليس مورد الأثر نفيا أو إثباتا، فلا
مجال لجريان الأصل في نفيه.
هذه خلاصة ما يقال في دفع الاشكال في موارد استصحاب جزء الموضوع لا ما أفاده من حديث
الحكومة لما عرفت من عدم تماميته.
ثم إن ما نحن فيه ليس من هذا الباب، وذلك لان متعلق الشك في ما نحن فيه هو ثبوت عدم الحادث
المعلوم في زمان الحادث الاخر الاجمالي، ومن الواضح أن تعلق الشك وتحققه لا يقبل الانكار وليس من
قبيل تعلق الشك بوجود الكل الذي يرجع في الحقيقة إلى الشك بوجود جزئه، كما أن المشكوك هو مورد
الأثر، وبعبارة أخرى: أن المشكوك فيما نحن فيه ليس هو الكل بل هو ثبوت الجزء في زمان الجزء الاخر
فالاستصحاب يجري في الجزء لا في الكل، فلا يتأتى فيه ما ذكرناه في رد استصحاب عدم الكل.
ومن هنا يظهر أن الاشكال على المحقق النائيني من ناحيتين: إحداهما: تقريب تقديم استصحاب
الجزء على استصحاب عدم الكل، والاخر: جعله ما نحن فيه من موارد الاستصحاب الجاري في الكل.
وكيف كان: فموضوع الاستصحاب فيما نحن فيه هو عدم الحادث المعلوم - ونفرضه الاسلام - في
زمان الحادث الاخر - ونفرضه التقسيم -، وقد عرفت أن هذا المعنى متعلق للشك، وإن كان عدم
الاسلام بلحاظ الأزمنة التفصيلية لا شك فيه أصلا.
والذي نراه أنه لا مجال لاجراء الاستصحاب في المعلوم لان المتيقن أن فرض هو العدم السابق
المتصل بزمان الحدوث كما لو كان زمان حدوث المعلوم أول الزوال فيفرض العدم في الآن السابق على
الزوال المتصل به، فاستصحابه إلى زمان الحادث الاخر لا يحرز أنه إبقاء له لاحتمال أن يكون زمان
الحادث الاخر سابقا على زمان اليقين، فاثبات العدم فيه لا يكون إبقاء للمتيقن بل هو أشبه
بالاستصحاب القهقري. وإن فرض المتيقن هو العدم السابق على زماني الحادثين كالعدم أول النهار
فإنه سابق على زمان الحادث الاخر جزما، فبقصد جره إلى زمان الحادث الاخر. ففيه ما تقدم من أن
زمان الاخر مردد بين زمانين، أحدهما: متصل بزمان اليقين، والاخر: منفصل، فلا يجوز اتصال زمان
الشك بزمان اليقين.
وبالبيان الثاني: لا يكون الشك في البقاء على كل تقدير بل الا امر ههنا أوضح لأنه على كلا
التقديرين لا شك لديه لفرض العلم بلحاظ الأزمنة التفصيلية كلها على خلاف مورد الجهل بالتاريخ،
فراجع تعرف.
268

بناء على هذا التصوير يمكن التفريق بين المورد وبين مورد الشك في الكل من
جهة الشك في الجزء، لتحقق الشك فيما نحن فيه بعد فرض زمان واقعي لو حظ
الحادث مضافا إليه. بخلاف تلك الموارد، لعدم فرض زمان واقعي للطهارة لعدم
269

العلم بتحققها، فلا شك في الصلاة في زمان الطهارة لعدم احراز الطهارة، وفي
زمان احتمال الطهارة لا شك فيها لليقين بها فيه فلا ملازمة بين إجراء
الاستصحاب في معلوم التاريخ وبين إجرائه هناك لحصول الفرق على هذا
التصوير، فلا وجه للاشكال على جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ
بالنقض.
وقد ينفى إجراء الاستصحاب في هذا الشق بوجهين:
الأول: انه كما تلحظ الخصوصية في طرف الوجود لتحصيل الشك، كذلك
لا بد أن تلحظ في طرف العدم لذلك، لأنه لا شك في العدم بالنسبة إلى ذات
الزمان، فيكون موضوع الأثر هو العدم في الزمان الخاص، والعدم في الزمان
الخاص لا حالة سابقة له كي يستصحب.
الوجه الثاني: انه على تقدير وجود الحالة السابقة، فاستصحاب العدم إلى
الزمان الخاص لا يجدي في اثبات الخصوصية، وترتب الأثر يتوقف على احرازها
لأنها جزء الموضوع.
ولكن ينفى الوجه الأول: بان الزمان الخاص لم يؤخذ مع العدم بنحو
التقييد - كما هو المفروض -، كي يشكل بأنه لا حالة له سابقة. بل أخذا بنحو
التركيب، فالمستصحب هو العدم بذاته، وهو متيقن في الأزمنة السابقة على
الزمان الواقعي، فيستصحب إلى زمان الشك وهو زمان الحادث الاخر.
ولو اخذ بنحو التقييد، فلا مجال للحكم بعدم الاستصحاب مطلقا،
لجريان التفصيل الذي عرفته في الاشكال على اطلاق المحقق الخراساني (رحمه الله) في
القسم الثاني من مجهولي التاريخ، فراجع.
وينفى الوجه الثاني: بان تحقق الجزء الاخر وهو الاسلام أو الزمان
الخاص معلوم ومحرز، وانما المشكوك هو ثبوت الجزء الاخر وهو عدم الموت في
ظرفه، فمع استصحابه يتم الموضوع بتحقق كلا جزئيه، ويترتب الأثر. ولا حاجة
270

إلى احراز الخصوصية بالاستصحاب لأنها محرزة بغيره.
فالايراد على هذا الشق المفروض بهذين الوجهين غير تام.
نعم، يمكن الايراد عليه بأنحاء ثلاثة:
النحو الأول: انه لا شك في بقاء عدم الحادث المعلوم إلى زمان الحادث
الاخر المجهول، لان الشك في هذا الفرض - أعني: عدم الحادث المعلوم التاريخ
إلى زمان الحادث الاخر، لا منشأ له الا احتمال وجود الحادث الاخر قبل زمان
الحادث، - أعني الزوال -. وهذا الاحتمال على تقدير نشوء شك منه فلا ينشأ منه
الا الشك في مقارنة عدم الحادث المعلوم لزمان الاسلام في مرحلة بقائه. اما الشك
في بقاء عدم الحادث المعلوم إلى ذلك الزمان فلا وجود له، لأنه على تقدير تحقق
الحادث الاخر قبل زمان الحادث المعلوم، فلا يقال بان عدم الحادث استمر إلى
زمان الحادث الاخر، بل يقال إنه صادف زمان الحادث الاخر في مرحلة بقائه.
فتصوير الشك في بقاء عدم المعلوم إلى زمان المجهول لا يخلو عن نوع مغالطة
فالتفت.
النحو الثاني: انه قد بينا فيما تقدم ان أدلة الاستصحاب تفيد ان
الاستصحاب هو جر المستصحب ومده في ظرف الشك. وليس في استصحاب
عدم الحادث المعلوم إلى زمان المجهول مد له في زمان أصلا، لأنه معلوم الحد
والمقدار.
النحو الثالث: ان التعبد بالشئ انما يكون بعد انقضاء اليقين به. ولما
كان من الممكن أن يكون زمان الحادث الاخر المجهول قبل زمان الحادث
المعلوم. فعلى تقدير كونه كذلك يكون استصحاب عدم الحادث المعلوم إلى زمان
آخر مقتضيا للتعبد به قبل انقضاء اليقين بالمتعبد، فكيف يصح هذا
الاستصحاب؟!.
ومنه يتبين عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ.
271

اما ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) في تعليل عدم الاستصحاب في
الموردين من حكومة الأصل الجاري في الجزء - لأنه سببي - على الأصل الجاري
في عدم الكل - لأنه مسببي -، فهو غير تام. لان حكومة الأصل السببي على
الأصل المسببي انما تكون في السببية والمسببية الشرعيتين لا غيرهما، ومسببية
الشك في الكل عن الشك في الجزء ليست شرعية بل تكوينية كما لا يخفى.
فالوجه في عدم جريان الاستصحاب في الكل مع نشوء الشك فيه عن
الجزء هو: ان المفروض أخذ الجزئين موضوعا للأثر بنحو التركيب، ومعناه لحاظ
ذاتي الجزئين بدون لحاظ أي شئ زائد على ذاتيهما أصلا في مقام ترتيب الأثر.
وعليه، فمع العلم بأحد الجزئين والشك في أحدهما لا شك في الكل، بل
التعبير بالشك في الكل مسامحي، والمشكوك انما هو الجزء فقط. نعم لو اخذ بنحو
التقييد كان الشك في أحد الجزئين موجبا للشك في تحقق الموضوع المركب. لكن
المفروض خلافه.
إلى هنا ينتهي الكلام في مجهولي التاريخ ومعلومه ومجهوله ويبقى الكلام
في:
تعاقب الحادثين المتضادين
وموضوع البحث فيه: ما إذا علم اجمالا بحصول حادثين متضادين وشك
في المتقدم والمتأخر منهما - كما لو علم بحصول الطهارة والحدث وشك في المتقدم
منهما والمتأخر هل هو الطهارة أم الحدث؟ -. وذلك اما للجهل بتأريخهما أو بتاريخ
أحدهما فالكلام في موضعين.
الموضع الأول: في مجهولي التاريخ.
والفرق بين هذه المسالة مجهولي التاريخ المتقدمة: ان موضوع
الأثر في هذا المسالة بسيط - وهو أحد الحادثين - لا مركب كما في تلك المسالة،
272

لتضاد الحادثين، فلا معنى لاخذ الموضوع مركبا منهما كما هو المفروض في تلك
المسالة.
والذي يظهر من كلام الشيخ (رحمه الله) جريان الاستصحاب في كل
منهما وسقوطه بالمعارضة (1).
وقد ذهب المحقق الخراساني (قدس سره) إلى عدم جريانه في كل منهما
لذاته، لعين المحذور السابق الذي ذكره في جريان الاستصحاب في مجهولي
التاريخ، وهو عدم احراز اتصال زماني الشك واليقين - والمراد بهما المتيقن
والمشكوك -.
إلا أن الفرق: ان عدم احراز الاتصال المذكور هناك ناشئ من عدم
احراز زمان الشك لتردده بين الأنين مع احراز زمان اليقين وهو الآن الأول. وهنا
ناشئ من عدم احراز زمان اليقين لتردده بين الأنين مع احراز زمان الشك وهو
الآن الثالث. ولأجل ذلك غير تعبيره بعدم احراز اتصال زمان الشك بزمان
اليقين إلى التعبير بعدم احراز اتصال زمان اليقين بزمان الشك (2).
ولم يذكر (رحمه الله) وجه عدم الاحراز. ولعل الوجه فيه: ان زمان الشك
في البقاء انما هو الآن الثالث لا الآن الثاني، لأنه ليس في الآن الثاني الا احتمال
الوجود فقط، إذ لو كان الموجود في الآن الأول هو هذا الحادث فهو في الآن
الثاني مرتفع لا محالة لحصول الحادث الاخر فيه. وان كان الموجود في الآن الأول
هو الحادث الاخر فهو قد حدث في الآن الثاني. فعلى كلا التقديرين يكون
الشك في الآن الثاني في الوجود لا في البقاء والشك في البقاء انما هو الآن الثالث.
وعليه، فإن كان الحادث قد حصل في الآن الثاني، فقد اتصل زمان اليقين
بزمان الشك. وان كان في الآن الأول فقد انفصل.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 388 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 421 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
273

وحيث لم يحرز حصوله في أحد الأنين المعين، احتمل انفصال زماني اليقين
والشك ولم يحرز اتصالهما، فلا يصلح التمسك بعموم دليل الاستصحاب، لعدم
احراز صدق النقض، فتكون الشبهة مصداقية (1).
وقد حمل المحقق العراقي كلام الكفاية على احتمال تخلل اليقين الناقض
- كما تقدم في مجهولي التاريخ -. وأورد عليه بما تقدم. ثم ذكر ما ذكرناه في تفسير
كلام الكفاية على أنه وجه مستقل ونسبه إليه في درسه (2).
وأنت خبير بان ما ذكرناه هو ظاهر كلام الكفاية ولا وجه لاحتمال غيره
من العبارة.
وقد ناقش المحقق الأصفهاني (قدس سره) ما ذكره صاحب الكفاية:
بان ثبوت الشئ واقعا ليس ملاك الحكم الاستصحابي، بل ثبوته العنواني المتقوم
باليقين هو ملاك جريانه، والمفروض ثبوت اليقين بالطهارة سابقا والشك في
بقائها فعلا لا في حدوثها. وهكذا الكلام في الحدث. انتهى ملخصا (3).
وفيه: ان ما أفاده لا يعلم له معنى محصل، لأنه وإن لم يكن الاستصحاب
متقوما بالوجود الواقعي، الا ان الحكم الاستصحابي حكم بالابقاء وعدم
النقض، ومع احتمال تخلل اليقين بالعدم لا يحرز أن الحكم بالطهارة في زمان الشك
ابقاء للطهارة وعدم نقض لها، ومجرد تحقق اليقين بالحدوث والشك في البقاء لا
ينفع في احراز ذلك، فتدبر.
وقد فسر السيد الخوئي (حفظه الله) عبارة الكفاية بفاصلية اليقين
بالارتفاع. وأورد عليه: بعدم اعتبار اتصال زمان اليقين بزمان الشك، بل ليس
المعتبر إلا فعلية كل منهما (4).

لم يتعرض السيد الأستاذ (دام ظله) لهذه الوجوه في الدورة الثانية. (منه عفي عنه).
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 214 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 113 - الطبعة الأولى.
(4) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصولي 3 / 206 - الطبعة الأولى.
274

وقد عرفت توجيهه بغير ذلك مما هو خال عن الاشكال. كما عرفت
اعتبار الاتصال، والايراد بعدم اعتباره ينشأ من توهم إرادة اتصال زمان صفة
اليقين بزمان صفة الشك. وقد عرفت إرادة اتصال زمان المتيقن بزمان المشكوك،
كما تقدم الاشكال فيه حتى بناء على إرادة صفتي اليقين والشك فراجع.
وللمحقق العراقي وجوه ثلاث في منع جريان الاستصحاب فيما نحن
فيه:
الأول: انه لا شك في البقاء أصلا، بل هنا يقين اما بالارتفاع أو بالبقاء،
لان الحادث ان حدث في الآن الأول فهو مرتفع قطعا. وان كان قد حدث في
الآن الثاني فهو باق قطعا. وعلى تقدير وجود الشك في البقاء، فهو ناشئ من
الشك في كيفية الحدوث، ودليل الاستصحاب صرفا أو انصرافا لا يتكفل جواز
التعبد بالشئ إذا كان الشك فيه ناشئا عن التردد في كيفية حدوثه.
الوجه الثاني: وهو عين الوجه الأول، الا انه يختلف عنه من جهة وهي:
انه فرض في الوجه الأول وجود الشك في البقاء، ولكنه ناشئ عن الشك في كيفية
الحدوث. وفرض في الوجه الثاني عدم الشك أصلا الا في كيفية الحدوث وما يرى
من الشك في البقاء فهو حقيقة راجع إلى الشك في كيفية الحدوث وزمانه.
الوجه الثالث: ان منصرف دليل الاستصحاب إلى كون الزمان الذي
يراد جز المستصحب فيه بنحو لو رجعنا إلى الأزمنة السابقة عليه بنحو
القهقري، لعثرنا على زمان اليقين بوجود المستصحب. وما نحن فيه ليس كذلك،
إذ لا نعثر مع الرجوع القهقري على زمان اليقين تفصيلا بالحدوث، بل ينتهي
المقام بنا إلى زمان عدم كل منهما، فلا يجري الاستصحاب حينئذ. نعم بالنسبة
إلى الأزمنة الاجمالية يمكن الاستصحاب لاحراز الاتصال بهذا النحو، ولكنه لا
275

يجدي فيما كان الأثر مترتبا على البقاء التفصيلي، كصحة الصلاة بالنسبة إلى
الطهارة (1).
ولكن هذه الوجوه غير تامة:
اما الأول: فلان دعوى الانصراف تمنع بدعوى الاطلاق، فان الدليل
يدل باطلاقه على التعبد بالبقاء كيف ما كان.
واما الصرف، فيحتاج إلى دليل عليه، لان بقاء الصرف قصور
الدليل بنفسه عن شموله للمورد، فلا بد من صرفه إليه من قيام دليل عليه، ولا
دليل على صرفه إلى ما ذكره المحقق المذكور.
اما الثاني: فلان الوجدان قاض بوجود الشك في بقاء كل من الحادثين.
واما الثالث: فلان المراد من اليقين في أدلة الاستصحاب أعم من
التفصيلي والاجمالي، ولا يختص بالتفصيلي. مضافا إلى أنه يلتزم بجريان
الاستصحاب فيما لو علم اجمالا بحدوث المستصحب في أحد زمانين واحتمل
ارتفاعه في الزمان الثاني من حدوثه، مع أن ما ذكر من عدم العثور على زمان
اليقين بالحدوث تفصيلا جار فيه كما لا يخفى.
هذا كله في صورة الجهل بتاريخ كلا الحادثين المتضادين.
الموضع الثاني: في صورة العلم بتاريخ أحدهما، كما لو علم بحصول
الحدث أول الزوال وشك في تقدم الطهارة عليه وتأخرها عنه. فلا اشكال في
جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ لعدم اختلال أي شرط من شروط
الاستصحاب فيه - كما لا يخفى -.
وانما الاشكال في جريانه في المجهول.
والتحقيق عدم جريانه مطلقا، الا ان ملاك عدم الجريان يختلف باختلاف

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 215 - 216 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر
الاسلامي.
276

الموارد.
فتارة: يكون الشك لاجل انحلال العلم الاجمالي بحصول الحادث في
أحد الزمانين إلى علم تفصيلي وشك بدوي، فلا يقين بالحدوث، وذلك كما لو علم
بالطهارة - مثلا - عند الصباح وعلم استمرارها إلى الزوال، ثم علم بحصول
الحدث عند الزوال وعلم اجمالا بحصول الوضوء اما قبل الزوال أو بعده، فيدور
بين أن يكون تجديديا أو تأسيسيا.
وهذا العلم الاجمالي منحل بالعلم التفصيلي بالطهارة عند الصباح، لأنه
علم تفصيلي بالطهارة قبل الصباح، فلا يكون هناك الا شك بدوي بالطهارة
بعد الزوال، فالعلم الاجمالي المذكور لا يسبب يقينا بالطهارة كي تستصحب،
لأنه على تقدير لا يكون تأسيسيا بل تجديديا.
وأخرى: يكون لاجل عدم احراز اتصال زمان اليقين بزمان الشك، وذلك
كما لو علم بالحدث عند الزوال، وعلم اجمالا بحصول الطهارة اما قبل الزوال
أو بعده - ولم تكن هناك طهارة سابقة -، فالزوال والآن الذي بعده الذي يحتمل
وقوع الطهارة فيه ليس زمان الشك في البقاء، بل اما زمان العلم بالعدم - وهو
الزوال -. أو زمان احتمال الوجود - وهو الآن الذي بعده -. ولما كان من المحتمل
حصول الطهارة قبل الزوال يحتمل انفصال زمان اليقين عن زمان الشك لتخلل
زمانين بينهما ليسا زماني الشك في البقاء.
وقد ظهر أن الامر في المعلوم والمجهول في الموضوعات البسيطة على العكس
فيهما في الموضوعات المركبة، فان الأصل هناك انما يجري في المجهول دون
المعلوم وههنا بالعكس.
تتمة في بيان شئ
ذكر المحقق النائيني (قدس سره) في مجهولي التاريخ عند بيان المراد من
277

اتصال زمان الشك بزمان اليقين، وانه قد لا يتضح في بعض الموارد، فروضا ثلاثة
حكم بجريان الاستصحاب في أحدها وبعدمه في الآخرين وبنى على ذلك بعض
المسائل الفقهية التي وقعت محل الخلاف.
وبيانه باجمال: - انه لو كان هناك إنائان غربي وشرقي، وعلم تفصيلا
بنجاسة كل منهما، وأصاب المطر أحدهما، فههنا فروض ثلاثة:
الأول: أن يكون ما أصابه المطر مجملا مرددا بينهما على حد سواء، فيعلم
اجمالا بطهارة أحدهما غير المعين.
الثاني: أن يكون ما أصابه المطر معلوما بالتفصيل، كالإناء الشرقي مثلا،
فيعلم بطهارة خصوص الاناء الشرقي، وكان متميزا حين العلم ثم اشتبه بالاناء
الغربي.
الثالث: عين الفرض الثاني، إلا أن الاناء الشرقي لم يكن متميزا حين
العلم أصلا، بل كان مشتبها بالاخر، فهو وسط بين الفرضين كما لا يخفى.
ولا اشكال في سبق اليقين بالنجاسة بكلا الإنائين والشك في بقائها - على
جميع الفروض -، لعدم معرفة الطاهر منهما، فكل منهما يشك في بقاء نجاسته
المعلومة، الا انه مع ذلك لا يجري استصحاب النجاسة في كلها، بل انما يجري
في خصوص الفرض الأول، لاتصال زماني اليقين والشك، لعدم تخلل أي يقين
بالخلاف بينهما، لان نسبة العلم بالطهارة إلى كل منهما على حد سواء، لعدم أخذ
أي خصوصية في متعلقه، فكل منهما كان متيقن النجاسة والآن مشكوكها
فتستصحب - مع قطع النظر عن جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي وعدمه.
اما الفرض الثاني: فلا يجري فيه الاستصحاب بلا اشكال، لانفصال
زمان اليقين عن زمان الشك في أحدهما المعين، لتخلل اليقين بالخلاف فيه، فلا
يمكن استصحاب النجاسة في كل منهما لاحتمال انفصال زمان شكه عن زمان
يقينه من جهة احتمال أن يكون هو ذلك الاناء.
278

واما الفرض الثالث: فهو كالفرض الثاني في عدم جريان الاستصحاب
لعين الملاك لتخلل اليقين بالخلاف في أحدهما المعين وهو الاناء الشرقي، ولما كان
كل منهما من المحتمل أن يكون هو الاناء الشرقي امتنع جريان الاستصحاب
في كل منهما، لاحتمال انفصال زمان شكه عن زمان يقينه.
وبالجملة: فالاستصحاب لا يجري الا في الفرض الأول. خلافا للمرحوم
الطباطبائي (قدس سره) صاحب العروة حيث حكم بجريانه في جميع الفروض
كما هو ظاهر عبارته (1).
وبعد ان قرر المحقق النائيني (رحمه الله) ذلك فرع عليه عدم جريان
استصحاب النجاسة في الدم المردد بين كونه مسفوحا وبين كونه من المتخلف،
بناء على نجاسته مطلقا ولو قبل خروجه من البطن لعدم احراز اتصال الشك
باليقين زمانا، للعلم بطهارة أحدهما المعين وهو المتخلف عند الذبح ثم اشتبه في
الخارج ومثله الدم المردد بين كونه من بدن الانسان أو مما امتصه البق، للعم
بطهارة ما امتصه البق واشتباهه خارجا. هذا محصل كلامه (قدس سره) (2).
ولكنه انما يتم بناء على اعتبار وجود يقين سابق وشك لا حق في جريان
الاستصحاب، حيث يقال عليه: ان اليقين السابق قد انتقض باليقين بالخلاف،
فلا اتصال بين زماني الشك واليقين.
أما بناء على ما حقق من عدم اعتبار ذلك، بل اعتبار خصوص وجود
يقين بالحدوث وشك بالبقاء فعليين ولو حصلا في آن واحد، فلا يتم ما ذكره لتحقق
اليقين والشك الفعليين في الفروض الثلاثة جميعا، ولا معنى لدعوى الاتصال أو
الانفصال، لعدم التعدد الزماني بينهما.

(1) العروة الوثقى 1 / 511 مسالة 493 (فصل في طريق ثبوت التطهير) طبعة مدينة العلم.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 515 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
279

ومن الغريب (1) ان المحقق المذكور لا يعتبر سوى فعلية اليقين والشك،
ثم يذهب إلى عدم جريان الاستصحاب في الفرضين المذكورين، فالتفت ولا
تغفل والله سبحانه المسدد.

(1) ما ذكرناه في الايراد عليه (قده) هو الذي ذكره غيرنا أيضا، ولكن حمل كلامه على ظاهره من اعتبار
اليقين السابق وعدم انتقاضه بيقين متأخر عنه لا يمكننا الالتزام به لقرينتين:
إحداهما: أنه قد صرح مرارا من أول الاستصحاب إلى هذا المبحث بل صرح في هذا المبحث
بالخصوص بأنه لا يعتبر في الاستصحاب سوى اليقين والشك الفعليين إلا أن أحدهما يتعلق بالحدوث
والاخر بالبقاء وجعل هذا هو المائز بين الاستصحاب وقاعدة اليقين، ولا نحتمل في حقه (قده) أنه يعتبر
اليقين السابق في الاستصحاب.
والأخرى: ما ذكره من مثال الدم المحتمل كونه دم بق، فان الظاهر أنه مثال لما هو المتعارف من
وجدان الانسان دما على ثوبه يحتمل أنه من جرح بدنه أو أنه من البق، ومن الواضح أن الشخص في
مثل ذلك لم يحصل له يقين بنجاسة فردي الدم، ثم حصل له يقين بطهارة أحدهما وهو ما امتصه البق
ثم اشتبه الحال بين الفردين بل اليقين والشك فعليان، حاصلان بالفعل من دون تقدم زماني بينهما. فالمثال
لا ينطبق على ما حمل عليه كلامه.
ويمكن أن يوجه ما أفاده وإن كان على خلاف ظاهر عبارة التقريرات ببيان مقدمتين:
أحدهما: أن اليقين الاجمالي الناقض لليقين السابق والرافع له هو اليقين بالنحوين الأخيرين دون
الأول، فلو علم تفصيلا بنجاسة كلا الإناءين ثم علم بطهارة أحدهما من دون مميز أصلا لم يتحقق
انتقاض اليقين السابق بهذا اليقين، فلا يمكن الإشارة إلى أحدهما واقعا والحكم عليه بأنه متيقن
الطهارة. (ظاهر كلام النائيني في التقريرات هو تحقق العلم التفصيلي - في الفرض الثاني - ثم عروض
الاشتباه، ولكن السيد الأستاذ دام ظله حمل كلتا الصورتين على الاجمالي والفرق في كثرة المميزات
وعدم الكثرة، فانتبه).
وهذا بخلاف ما إذا تعلق اليقين الاجمالي بطهارة أحدهما مع مميز له سواء كان تمييزه بالعناوين
المتعددة التي يسهل تشخيصه تفصيلا ويكون مشابها للمعلوم بالتفصيل، كما في الفرض الثاني أم بعنوان
واحد كعنوان الاناء الشرقي - مثلا - كما في الفرض الثالث فان مثل هذا اليقين يكون ناقضا لليقين
بالنجاسة التفصيلي، إذ يمكن الإشارة إلى ذلك الاناء بعنوانه المميز له والحكم عليه بأنه قد ارتفع عنه
اليقين بالنجاسة وتعلق اليقين بطهارته.
الثانية: أن دليل الاستصحاب يتكفل اعتبار تعلق اليقين بالحدوث والشك في البقاء، وظاهره اعتبار
فعلية كلا الوصفين، فلا لكون أحدهما ناقضا للاخر، كما أنه تكفل الحكم بنقض اليقين باليقين
الاخر، وهذا غير متصور في باب الاستصحاب لاجتماع اليقينين في آن واحد. إذن فما معنى الحكم
بالنقض وعدمه؟ الذي يراد بالنقض كما عرفت هو النقض العملي، وإطلاق النقض إنما هو بملاحظة
أن اليقين الاخر لو تعقب اليقين الأول واتحد متعلقهما لكان ناقضا له، فالمراد باليقين الناقض في باب
الاستصحاب هو هذا الفرد من اليقين، الذي لو فرض تعلقه بما تعلق به اليقين الأول وكان متأخرا عنه
كان ناقضا له ورافعا لوجوده، وإلا فلا نقض حقيقة في باب الاستصحاب، وأما غير هذا الفرد من
اليقين فلا يكون مشمولا لقوله: " ولكن تنقضه بيقين آخر ".
إذا عرفت هذا اتضح مراده (قده) فإنه اليقين الاجمالي في الفرض الأول حيث لا يحصل لنقض
اليقين السابق التفصيلي، فلا يكون لوجوده أثر في المنع عن الاستصحاب لأنه غير مشمول للذيل.
بخلافه في الفرضين الآخرين لأنه صالح لنقض اليقين السابق كما عرفت. فليس مراده اعتبار اليقين
السابق كما توهم، بل مراده هو اليقين الفعلي المتعلق بالحدوث، وإن اليقين الاجمالي المقترن معه يصلح
لنقضه في بعض الصور فيكون مشمولا للحكم بالنقض في الذيل، فيكون المورد من موارد الشبهة
المصداقية للذيل، فتدبر جيدا.
هذا غاية ما يمكن أن يوجه به كلامه لكنه مبني أولا: على كون المستفاد من قوله: " ولكن تنقضه
بيقين آخر " حكما شرعيا مستقلا موضوعه اليقين بالنحو الذي عرفته، فيعارض الحكم الاستصحابي أو
يقيده. وأما بناء على كون المستفاد منه تحديد جريان الاستصحاب بارتفاع موضوعه وهو الشك كما
يستفاد من قوله: " لا حتى يستيقن " فهو بيان لحكم ارشادي عقلي، فلا يتم ما أفاده لأنه لا يزيد على
اعتبار الشك في جريان الاستصحاب ويكون متما لذلك. ومن الواضح أن الشك فيما نحن فيه موجود
بالنسبة إلى كل من الإناءين، فلا مانع من جريان الاستصحاب وتحقيق ذلك فيما يأتي إن شاء الله.
وثانيا: على الفرق بين الفرض الأول والفرضين الآخرين ببيان أن العلم في الأول لا يرتبط بالخارج
بل هو متعلق بالجامع كما تقدم في مبحث العلم الاجمالي، وقد تقدم منا بيان ارتباط مثل هذا المعلوم
بالاجمال بالخارج وإمكان الإشارة إلى أحدهما واقعا بواسطة منشأ العلم، كوقوع المطر ونحوه، فراجع.
وثالثا: على تحقيق المراد باليقين الناقض وأنه هل يختص باليقين التفصيلي أو يعم غيره، وعلى تقدير
عمومه لغيره فهل يختلف الحال بين الفروض أو لا؟ وتحقيقه في محله إن شاء الله.
ثم ليعلم أن مثال اشتباه الدم بدم ابق إنما يتم لو علم بامتصاص البق لدمه واحتمل أن يكون
الدم الذي يراه هو ذلك الدم الممتص، وأما لو لم يعلم ذلك أصلا وإنما احتمله احتمالا فلا مجال لهذا
الكلام لعدم تحقق اليقين الناقض فلا مجال إلا لاستصحاب النجاسة.
هذا تمام الكلام في استصحاب مجهولي التاريخ، ولا بأس في التعرض إلى فرع ذكر في هذا المبحث
وجعل من فروع المسالة وهو ما إذا علم بكرية الماء وملاقاته للنجاسة وشك في أن الملاقاة سابقة على
كرية الماء فيكون نجسا - بناء على عدم طهارة الماء النجس المتمم كرا - أو أن الكرية سابقة على الملاقاة فيكون الماء طاهرا.
فقد ذكر أن هذا الفرع من مصاديق المسالة وذكر له صور ثلاثة: إحداهما: أن يجهل بتاريخ كل من
الملاقاة والكرية. والثانية: أن يعلم بتاريخ الكرية دون الملاقاة، والثالثة: أن يعلم بتاريخ الملاقاة دون
الكرية.
وإن حكم الصور الثلاث من حيث جريان الاستصحاب وعدمه هو ما تقدم في مجهولي التاريخ
ومختلفيهما. فمثلا تجري - في صورة الجهل بتأريخهما - أصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة وأصالة عدم
الملاقاة إلى زمان الكرية فيتعارضان ويتساقطان بناء على أن المانع من جريان الأصل في مجهولي التاريخ
هو المعارضة، كما أنهما لا تجريان في أنفسهما بناء على أن المانع من جريان الأصل في المجهولين في نفسه
كما ذهب إليه صاحب الكفاية.
أقول: هذه الصورة وإن كانت من موارد مجهولي التاريخ صورة لكنها ليست منها اصطلاحا، فان
موضوع البحث في مجهولي التاريخ - على ما تقدم أن يكون موضوع الأثر هو عدم أحدهما في زمان
الاخر بنحو الموضوع المركب، والامر ليس كذلك فيما نحن فيه، فان عدم الكرية والملاقاة موضوع
مركب للحكم بالنجاسة، فيصح إجراء أصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة لاثبات الموضوع المركب
للحكم بالنجاسة ولكن عدم الملاقاة والكرية ليس موضوعا للحكم بالطهارة إذ مع الكرية لا أثر
للملاقاة وعدمها فلا معنى لاستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرية، نعم عدم الملاقاة في زمان عدم
الكرية موضوع للحكم بالطهارة.
280



وعليه نقول: بناء على ما حققناه من امتناع جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ بالإضافة إلى
زمان الحادث الاخر في نفسه، لا يصح جريان أصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة الذي يقصد به إثبات
عدم الكرية في زمن الملاقاة.
وأما استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرية فقد عرفت أنه لا أثر له ولا معنى لجريانه لان الأثر
يترتب على عدم الملاقاة في زمان عدم الكرية، لا على عدم الملاقاة في زمن الكرية. نعم يصح إجراء
أصالة عدم الملاقاة إلى زمن الكرية بالمعنى المساوق لا ثبات عدم الملاقاة في زمن عدم الكرية بان لا
يحاول جر المستصحب إلى زمان الكرية بل جره وينتهي بزمن الكرية، فيكون المقصود من " إلى زمن
الكرية " الانتهاء بزمن الكرية لا السراية إلى زمانه وإثباته فيه، إذ بذلك يخرج عن استصحاب المجهول
الاصطلاحي ولا يتأتى فيه المحذور المتأتي في استصحاب مجهول التاريخ.
ومنه يظهر الحال فيما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ، فإنه إن كانت الكرية معلومة التاريخ دون الملاقاة
جرى استصحاب عدم الملاقاة أي زمان الكرية، ولا يجري استصحاب عدم الكرية إلى زمان الملاقاة
لعدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ.
وإن كانت الملاقاة معلومة دون الكرية، جرت أصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة فيثبت بها
الموضوع المركب للنجاسة، ولا يجري الأصل في عدم الملاقاة للعلم بالتاريخ.
فخلاصة الحكم في صور هذا الفرع بنجاسة الماء في صورة العلم بتاريخ الملاقاة. والحكم
بطهارته في صورتي العلم بتاريخ الكرية والجهل بتأرخيهما. هذا بناء على ما التزمنا به في مجهولي التاريخ
ومختلفيهما، فراجع.
وقد ذهب المحقق النائيني (قده) إلى الحكم بنجاسة الماء في جميع الصور الثلاث:
أما صورة الجهل بتأريخهما: فلجريان أصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة، فيثبت بها النجاسة
لاحراز الملاقاة بالوجدان وعدم الكرية بالأصل. ولا مجال لجريان استصحاب عدم الملاقاة إلى حين
الكرية لعدم ترتب الأثر الشرعي عليه، لان الحكم بالطهارة مترتب على كون الكرية سابقة على
الملاقاة، والاستصحاب المزبور لا يثبت كون الكرية سابقة على الملاقاة إلا بالملازمة.
وأما صورة العلم بتاريخ الملاقاة والجهل بتاريخ الكرية، فلعدم جريان أصالة عدم الملاقاة للعلم
بالتاريخ مضافا إلى كونه مثبتا. وجريان أصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة، فيثبت بها موضوع الحكم
بالنجاسة.
وأما صورة العلم بتاريخ الكرية والجهل بتاريخ الملاقاة، فلعدم جريان أصالة عدم الكرية للعلم
بالتاريخ، ولا جريان أصالة عدم الملاقاة لكونه مثبتا، فيرجع في المقام إلى عموم الانفعال بالملاقاة، لا
إلى أصالة الطهارة، لما أسسه (قده) من أنه إذا ثبت حكم إلزامي للعام واستثنى منه عنوان وجودي،
كان المدار في الحكم بالتخصيص على إحراز ذلك العنوان، فمع عدم إحرازه يكون المرجع هو العموم،
كما لو قال المولى لعبده لا تدخل علي أحدا إلا العالم، فإنه لا يجوز له إدخال مشكوك العالمية عملا
بأصالة البراءة. وما نحن فيه من هذا القبيل، لثبوت حكم عام بانفعال ملاقي النجس، وقد خرج منه
عنوان الكر، فمع الشك في كرية الملاقي يكون المرجع هو العموم على الانفعال بالملاقاة. هذه خلاصة
ما أفاده (قده) في المقام.
أقول: قد يتساءل بان أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية - في صورة الجهل بتأريخهما - وإن لم تكن
مثبتة لورود الملاقاة على الكرية، لكنها تنفع في إثبات الطهارة وعدم النجاسة، إذ لا شك في أن عدم
الملاقاة في زمان القلة ينفي موضوع النجاسة وهو ملاقاة القليل، فيكون الاستصحاب مجديا من هذه
الجهة وهي نفي موضوع النجاسة وهي كافية في جريانه. فلماذا أهملها المحقق النائيني وحكم بعدم
جريان الأصل؟ ويمكن أن يوجه كلامه بوجوه:
التوجيه الأول: أن يقال: أن الحكم بطهارة الماء الأولية وبحسب ذاته يزول بعروض ملاقاة النجس
عليه وحينئذ فان كانت الملاقاة عارضة على الكر حكم بطهارة الماء وإلا حكم بنجاسته. فالطهارة
الثابتة بعد عروض الملاقاة حكم جديد غير الطهارة الثابتة للماء في حد نفسه وقبل عروض مقتضي
النجاسة.
وعليه ففيما نحن فيه بما أنه يعلم بالملاقاة، فطهارة الماء الأولية مرتفعة قطعا، وإنما يشك في ثبوت
الطهارة التي موضوعها ملاقاة الكر.
ومن الواضح أن استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرية أو في زمان القلة لا يثبت موضوع الطهارة
فلا ينفع في إثبات الحكم بالطهارة.
وهذا التوجيه لا يمكن الاخذ به وتشكل نسبته إلى المحقق النائيني لوجوه:
الأول: أنه بناء عليه لا فرق بين القول باعتبار ورود الملاقاة على الكرية وسبق الكرية للملاقاة في
تحقق الاعتصام والحكم بالطهارة والقول بكفاية بينهما، إذ استصحاب عدم الملاقاة في زمان القلة لا
يجدي في إثبات ملاقاة الكر سواء ان اعتبر تأخر الملاقاة عن الكرية أو لم يعتبر. مع أن ظاهر كلامه
بناه عدم جريان الأصل المزبور على ما التزم به من اعتبار ورود الملاقاة على الكرية بحيث لو التزم
بالقول الاخر كان الأصل مجديا، فكيف يمكن نسبة هذا الوجه إليه (قده).
الثاني: أنه بعد أن كان موضوع النجاسة هو ملاقاة غير الكر، كان استصحاب عدم الملاقاة إلى
زمن الكرية مجديا في نفي النجاسة وإن لم يجد في إثبات الطهارة، فيترتب عليه نفي الآثار المترتبة على
مانعية النجاسة. ولازم ذلك معارضته لاستصحاب عدم الكرية إلى زمان الملاقاة المثبت للنجاسة، فان
الاستصحاب النافي والمثبت متعارضان.
الثالث: عدم تمامية مبنى التوجيه، فان كون الطهارة المجعولة للكر الذي لاقته النجاسة حكما آخر
غير الطهارة الأصلية، وإن كان ممكنا ثبوتا لكن مقام الاثبات لا يساعد عليه، فان ظاهر مثل قوله
(ع): " إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شئ ": إن الكر لا ينفعل بالنجاسة فهو باق على طهارته بلا
عروض مزيل عليها فالطهارة السابقة على الملاقاة والمتأخرة عنها واحدة لا متعددة.
التوجيه الثاني: أن إذا أخذ في موضوع الطهارة خصوصية سبق الكرية أو لحوق الملاقاة وورودها
على الكر بحيث كان موضوع الطهارة هو الملاقاة اللاحقة للكرية أو المسبوقة بالكرية، فلا محالة يتقيد
موضوع الحكم العام بالنجاسة بعدم ذلك العنوان، فيكون موضوع النجاسة هو الملاقاة غير المسبوقة
بالكرية.
ومن الواضح أن أصالة عدم الملاقاة في زمان القلة لا تجدي في نفي موضوع النجاسة إلا بالملازمة.
وهذا الوجه لا يتأتى بناء على القول بكفاية مقارنة الكرية للملاقاة في عدم الانفعال، إذ عليه لا
يعتبر في موضوع الطهارة أزيد من ذات الامرين الملاقاة والكرية. فلا يكون موضوع النجاسة سوى
الملاقاة والقلة، فيكون استصحاب عدم الملاقاة في زمان القلة مجديا في نفي النجاسة.
ولكنه كسابقه مما لا يمكن نسبته إلى المحقق النائيني (قده)، وذلك لان لازمه عدم صحة جريان
أصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة لعدم كون موضوع النجاسة مركبا بل مقيدا كما عرفت. والأصل
المزبور لا يثبت موضوع النجاسة إلا بالملازمة كما لا يخفى. مع أنه (قده) التزم بجريانه وترتب النجاسة
280



عليه، مما يصح نسبته إليه (قده).
التوجيه الثالث: أن موضوع الطهارة - بنظره (قده) - ليس هو الملاقاة المسبوقة بالكرية، بل هو
ملاقاة ما كان كرا في زمان سابق على الملاقاة، فملاقاة الكر المتخصص زمانه بهذه الخصوصية هي
الموضوع للطهارة ولازمه أن يكون موضوع النجاسة هو ملاقاة ما ليس كرا في زمان سابق على الملاقاة
- أعم من كونه كرا حال الملاقاة أو قليلا...
وعليه فاستصحاب عدم الملاقاة في زمان القلة لا يجدي في إثبات الطهارة ولا نفي النجاسة إلا
بالملازمة كما هو واضح، ولا معنى لجريان الأصل في عدم الملاقاة في زمان عدم الكرية في زمان سابق على
الملاقاة، فإنه خلف ولا محصل له كما لا يخفى.
وأما استصحاب عدم الكرية إلى زمان الملاقاة لاثبات النجاسة فلا مانع منه لان مرجعه إلى استصحاب
عدم الكرية في الزمان السابق على الملاقاة، فيثبت موضوع النجاسة، وهو الملاقاة الثابتة بالوجدان
وعدم الكرية في زمان سابق عليها الثابت بالأصل.
وهذا التوجيه متين ولا يخلو عن دقة.
ولكنه إنما ينفع في الحكم بالنجاسة على مسلك المحقق النائيني الذي التزم بصحة الاستصحاب في
مجهولي التاريخ في نفسه.
وأما على ما حققناه من عدم صحته في نفسه - لا من جهة المعارضة - فلا أثر لهذا البيان، لان غايته
عدم جريان استصحاب عدم الملاقاة في زمان القلة، إلا أنه كما لا يجري هذا الأصل لا يجري الأصل
الاخر المثبت للنجاسة وهو عدم الكرية إلى زمان الملاقاة. وإذا لم يجر الاستصحاب في كلا الطرفين
فالمرجع قاعدة الطهارة.
هذا كله بالنسبة إلى ما أفاده في صورة الجهل بتأريخهما.
وأما صورة الجهل بتاريخ الكرية والعلم بتاريخ الملاقاة فقد عرفت منا ومنه أن الحكم هو النجاسة،
فلا كلام.
وأما صورة الجهل بتاريخ الملاقاة والعلم بتاريخ الكرية، فقد عرفت أنه (قده) حكم بالنجاسة بعد
عدم جريان كلا الأصلين، لتمسكه بالعام الدال على لزوم الاجتناب على كل ما لاقى نجسا الذي
خرج منه عنوان وجودي وهو الكر، للقاعدة التي أسسها وبنى عليها كثيرا من الفروع الفقهية، وهي
أنه إذا ورد عام يتكفل حكما إلزاميا وخصص ذلك العام بعنوان وجودي، فمع عدم إحراز العنوان الوجودي للخاص يكون المرجع هو العام. ولأجل ذلك بنى على حرمة النظر إلى من يشك كونها من
المحارم عملا بعموم وجوب الغض عن النساء. وذكر أن هذه القاعدة عليها بناء العرف والعقلاء.
والذي يمكن أن يقال: هو أنه لو سلم تمامية القاعدة المزبورة فهي لا تنطبق على ما نحن فيه وذلك
لان موضوعها كما أشير ا ليه هو ورود عموم يتضمن حكما إلزاميا ثم يخصص بعنوان وجودي.
ومن الواضح أن الحكم الالزامي فيما نحن فيه هو لزوم الاجتناب عن الماء النجس في الشرب مثلا،
فإنه يحرم شرب الماء النجس كما يجوز شرب الماء الطاهر.
ولا يخفى أن نسبة ما دل على جواز شرب الطاهر إلى دليل الحرمة ليس نسبة الخاص إلى العام إذ
ليس لدينا دليل عام دال على حرمة شرب الماء بقول مطلق وخرج منه الطاهر. بل دليل الحرمة
موضوعه الماء النجس رأسا، كما أن دليل الجواز موضوعه الماء الطاهر، فمع الشك في موضوع الحلية
وهو الطهارة لا معنى للتمسك بدليل الحرمة بعد فرض عمومه لكل فرد من أفراد الماء.
وبعبارة أخرى: ليس المورد من موارد الشك في مصداق المخصص بل الشك في مصداق كلا
الدليلين. وليس الملحوظ هو الحكم الوضعي وهو الطهارة والنجاسة كي يقال بان لدينا عام يدل على
انفعال كل ماء يلاقي النجس وقد خرج عنه الكر، فمع الشك في الكرية يرجع إلى عموم الانفعال إذ
ليس الحكم الوضعي حكما إلزاميا كما هو واضح، وقد عرفت اختصاص القاعدة بمورد تكفل العام
الحكم الالزامي. فتطبيق القاعدة على ما نحن فيه غير صحيح لما عرفت من أن دليل الحرمة ليس دليلا
عاما كي يرجع إليه عند الشك. هذا أولا.
وثانيا: أنه لو فرض أن دليل الحرمة دليل عام خرج عنه الماء الطاهر فإنه يجوز شربه، فقاعدة
الطهارة تعين كون الفرد من أفراد المخصص فلا مجال للرجوع إلى العام حينئذ.
والخلاصة أنه لا مانع من الرجوع في هذه الصورة إلى قاعدة الطهارة، فتشترك مع الصورة الأولى
في الحكم. وتنفرد الثانية عنهما. هذا تحقيق الكلام فيما أفاده (قده).
وقد نوقش (قده) فيما أفاده في الصورة الأولى من عدم جواز الرجوع إلى أصالة عدم الملاقاة في زمان
عدم الكرية بان عدم الانفعال أخص من الطهارة. فان الأول فرع وجود المقتضي للانفعال، بخلاف
الطهارة فإنها قد تتحقق مع عدم المقتضي رأسا كصورة عدم الملاقاة أصلا.
وعليه فالأصل المزبور وإن لم يثبت عدم الانفعال لعدم إثباته كون الملاقاة واردة على الكرية، إلا
أنه ينفع في إثبات الطهارة لأنه يثبت عدم الملاقاة في زمان القلة، والماء القليل غير الملاقي للنجاسة
طاهر.
كما نوقش ما أفاده في الصورة الثالثة من الرجوع إلى القاعدة المزبورة بان القاعدة لا أساس لها
إذ لا يمكن أن يفرض كون الاحراز دخيلا في الحكم الواقعي، ضرورة عدم دوران طهارة الماء مدار
احراز ورود الملاقاة على الكرية. كما لا يصح أن يطون الدليل متكفلا للحكم الظاهري إذ يشكل أن
يكون الدليل الواحد متكفلا لحكمين مع اختلاف الموضوع والرتبة والطولية بين الحكمين. مضافا ألى
عدم الدليل على ذلك اثباتا
وأما ثبوت الرجوع إلى العموم في مسألة الشك في الكحارم فهو بواسطة الرجوع إلى أصالة العدم
الأزلي التي يلتئم بها موضوع الحكم للعام وهوحرمة النظر لا من جهة تقيد العنوان الخاص بالاحراز.
هذه خلاصة بغض ما نوقش (قده) به.
ولكن جميع ما ذكر قابل للرد
أما ما ذكره من جريان أصالة عدم الملاقاة في زمان القلة لاثبات الطهارة فهو لا يخلو عن غرابة
فإنه بعد فرض كون موضوع الحاص هو الملاقاة الواردة على الكر _ كما أفاده النائيني (قده) _ فلا
محالة يتقيد موضوع العام بعدم ذلك فيكون موضوع النجاسة هو ملاقاة ما ليس بكر في زمان سابق
من دون أن يؤخذ فيه عنوان وجودي كعنوان القليل أو نحو ذلك فملاقاة القليل بعنوانه ليس موضوعا
للنجاسة
وعليه فمع العلم بالملاقاة كما فيما نحن فيه تكن أصالة عدم الملاقاة في زمان القلة بما لا أثر لها لا
في اثبات الطهارة ولا في نفي النجاسة كما تقدم ونفي الملاقاة بقول مطلق مما لا يصح للعلم
بتحققها
وأما مناقشة القاعدة فيمكن ردها بالالتزام بأن الحكم المعلق على الاحراز ظاهري ولا يتكفله نفس
لدليل بل الدليل عليه هو أصالة الظهور وبناء العقلاء على حجية العام في مثل ذلك فيكون التزاما
بحجية العام في الشبهة المصداقية في خصوص هذه الموارد وهو مما لا محذور فيه
وأما الدليل عليه اثباتا فهو السيرة العقلائية على ذلك فإنها لا تكاد تنكر في أنه إذا علق الترخيص
على عنوان وجودي لم يجزي الرجوع إلى أصالة الإباحة عند الشك في المصداق بل يرجع إلى دليل
التحريم وملاحظة الشواهد العرفية خير دليل على ما نقول وإذا ثبتت السيرة كفى في ثبوت القاعدة
ولو لم يحرز منشؤها فإنه لا أهمية له.
وأما دعوى الرجوع في مثال الشك في المحارم إلى أصالة العدم الأزلي فيردها:
أولا: أن أصالة العدم الأزلي ليست مما يلتفت إليها العرف ويقتنع بها كيف؟ وهي تصورا وتصديقا
280



محل الكلام الدقيق بين الأعلام فلا يمكن أن يكون العمل العرفي مستندا إليها وأن كانت جارية في
نفسها
وثانيا: إن المورد ليس من موارد الأصل الأزلي فإن مورده ما إذا كان هناك عام يخصص بعنوان
وجودي فيكون موضوع الحكم في العام مركبا من عنوان العام وعدم الخاص فاضا جرت أصالة عدم
الخاص يلتئم الموضوع بثبوت جزئية أحدهما بالوجدان والاخر بالأصل. وليس ما نحن فيه كذلك، فان
آية وجوب الغض لا تتكفل في نفسها حرمة النظر إلى كل امرأة بحيث يكون خروج المحارم
بالتخصيص. ولذا لم يتوقف أحد من المسلمين عند نزول الآية عن النظر إلى أمه وأخته حتى يرد
المخصص، وليس ذلك إلا أن المنظور بدوا في الآية الكريمة إلى الأجانب رأسا، فلدينا موضوعان:
أحدهما، موضوع حرمة النظر، والاخر، موضوع الجواز.
ونفي أحدهما بالأصل بلا يستلزم إثبات الاخر على القول بالأصل المثبت. فالأصل الأزلي لا يجدي
في إثبات موضوع الحرمة، فتدبر.
ثم إن هذا القائل وإن التزم هنا بجريان أصالة الملاقاة إلى زمان الكرية أو في زمان القلة، لكنه أنكره
في مباحثه الفقهية حين تعرض لمسألة اختلاف المتبايعين في تأخر الفسخ عن زمان الخيار عدم تأخره،
فان الشيخ (ره) ذكر أن في تقديم مدعى التأخير لأصالة بقاء العقد وعدم حدوث الفسخ في أول الزمان،
أو مدعى عدمه لأصالة الصحة، وجهين.
وقد ذكر القائل: أن هذه المسالة سيالة في كل مورد كان موضوع الحكم أو متعلقه مركبا من جزءين
وعلمنا بتحقق أحدهما ثم يتحقق الاخر مع ارتفاع الجزء الأول، ولكن لم يعلم المتقدم منهما على الاخر.
كما لو شك في أن الفسخ وقع قبل انقضاء زمن الخيار أو بعده. أو شك في أن ملاقاة النجاسة للماء
المسبوق بالقلة هل وقع قبل عروض الكرية أو بعده، أو شك المصلي المسبوق بالطهارة وعلم بصدور
حدث منه في أن صلاته وقعت قبل الحدث أو بعده.
والذي بنى عليه في تحقيق هذه المسالة: أنه تجري أصالة بقاء الخيار إلى زمان الفسخ فيتم بها
موضوع الحكم، وهو الفسخ الثابت بالوجدان وبقاء الخيار المحرز بالاستصحاب. لان الموضوع مركب
منهما، واعتبر تقارنهما في الوجود لا أزيد. ولا يعارض هذا الأصل بأصالة عدم تحقق الفسخ في زمان
الخيار، لان الفسخ قد تحقق خارجا في زمان حكم الشارع بكونه زمن الخيار، فلا شك لنا في تحققه في
ذلك الزمان ليحكم بعدمه، فأصالة بقاء الخيار إلى زمان الفسخ ترفع الشك في تحقق موضوع الحكم فلا
مجال لاجراء أصالة عدم الفسخ في زمن الخيار. وإلا لجرى هذا الأصل في صورة الجهل بانقضاء زمن
الخيار، لا في تقدمه وتأخره عن الفسخ. فمثلا لو شك في بقاء الخيار وارتفاعه جرى استصحاب بقائه
وبعد ذلك لو فسخ ذو الخيار الانفساخ، مع أنه لو تم ما تقدم من المعارضة لجرى في هذه الصورة
استصحاب عدم تحقق الفسخ في زمن الخيار، وهو مما لا يلتزم به.
والكلام بعينه يجري في سائر الموارد. ففي مورد الشك في تقدم الكرية على الملاقاة تجري أصالة
عدم الكرية إلى زمان الملاقاة ويترتب عليها الحكم بالنجاسة، ولا تعارض بأصالة عدم الملاقاة في زمان
القلة، وإلا جرت المعارضة مع الشك في أصل عروض الكرية.
كما أنه في مورد الشك في تقدم الحدث على الصلاة تجري أصالة الطهارة إلى زمن الصلاة ويترتب
عليها صحة الصلاة، ولا تعارض بأصالة عدم الصلاة في زمن الطهارة، وإلا جرت المعارضة مع الشك
في أصل عروض الحدث.
هذا ما ذكره " حفظه الله تعالى " مما يرتبط بما نحن فيه. والذي يظهر منه أنه نفى الاستصحاب
الجاري لنفي الموضوع ومعارضته للاستصحاب في إثباته لوجهين:
أحدهما: حلي، وهو زوال الشك بجريان الأصل في إثبات جزء الموضوع مع إحراز الجزء الاخر
بالوجدان.
والاخر: نقضي، وهو النقض بصورة الشك في أصل بقاء أحد جزئي الموضوع لا في تقدمه وتأخره
كما هو مورد الكلام، ولكن كلا الوجهين مردودان.
أما الأول: فلان زوال الشك المانع من جريان الاستصحاب إما أن يكون تكوينا ووجدانا وإما أن
يكون تعبدا، ولا زوال للشك تكوينا، إذ الشك في تحقق الموضوع موجود بالوجدان حتى بعد جريان
الاستصحاب كما لا زوال له تعبدا، إذ زوال الشك تعبدا إنما يتحقق فيما كان مجرى الاستصحاب
موضوعا شرعيا للمشكوك، فالاستصحاب نفيا أو إثباتا يتكفل التعبد بزوال الشك في الحكم، وليس
الامر فيما نحن فيه كذلك، فان الشك في تحقق الجزء الاخر للموضوع وهو الفسخ في زمن الخيار مثلا،
ليس مسببا شرعا عن الشك في الجزء الاخر وهو الخيار في زمن الفسخ، فلا يكون الاستصحاب في
أحدهما رافعا للشك في الاخر تعبدا.
وإلا لأمكن أن نعكس الكلام فنقول إن أصالة عدم الفسخ في زمن الخيار ترفع الشك في تحقق
الموضوع، فلا تعارض بأصالة بقاء الخيار في زمن الفسخ.
وبالجملة: لا سببية ومسببية شرعية بين الشكين (بل لا سببية بينهما أصلا) كما لا يخفى.
وأما الثاني: فلان الفرق بين موارد النقوض التي ذكرها وبين ما نحن فيه موجود، وذلك لأنه فيما
نحن فيه يعلم بتحقق كلا جزأي الموضوع بذاتهما كالفسخ والخيار، لكن يشك في تقارنهما أو ارتفاع
أحدهما قبل حصول الاخر. فكما يمكن إجراء أصالة بقاء الخيار في زمن الفسخ فيتم الموضوع، كذلك
يمكن أن يجري أصالة عدم الفسخ في زمن الخيار فينفي الموضوع بنفي أحد جزئيه.
وبعبارة أخرى: إن الشك في ارتفاع الخيار قبل حصول الفسخ يلازم الشك في تحقق الفسخ في زمن
الخيار فلدينا شكان ولا مانع من جريان الاستصحاب فيهما، فيتحقق التعارض.
وهذا بخلاف موارد النقض، فان المشكوك فيها أصل تحقق الجزء الاخر مع إحراز أحدهما وتاريخه
كالشك في الخيار مع إحراز الفسخ وتاريخه، فمع استصحاب الخيار يثبت كلا الجزءين ويترتب الأثر، ولا
معنى لاستصحاب عدم الفسخ في زمن الخيار، لان الفسخ يعلم تحققه في زمن الخيار التعبدي وهو يكفي
في ترتب الأثر. والخيار الواقعي لا يعلم بثبوته كي يستصحب عدم الفسخ في زمانه. فمرجع الاستصحاب
المزبور إلى استصحاب عدم المجموع، وقد تقدم أنه مع استصحاب الجزء لا مجال لاستصحاب عدم
المجموع المركب، لان المركب الموضوع للأثر هو عين الاجزاء وليس شيئا وراءها، والمفروض أنه لا
شك لدينا سوى الشك في الجزء الذي يجري الاستصحاب فيه، فلا مجال لاستصحاب عدم المركب،
وهكذا الكلام في سائر موارد النقض.
فخلاصة الفرق بين ما نحن فيه وبين موارد النقض، أن الاستصحاب النافي فيما نحن فيه الذي
يفرض معارضته للاستصحاب المثبت يجري في نفي الجزء في زمان الجزء الاخر، وأما في موارد النقض
فخلاصة الفرق بين ما نحن وبين موارد النقض، أن الاستصحاب النافي فيما نحن فيه الذي
يفرض معارضته للاستصحاب المثبت يجري في نفي الجزء في زمان الجزء الاخر، وأما في موارد النقض
فهو يجري في نفي المجموع المركب، وفرق واضح بينهما من ناحية المعارضة وعدمها، إذ في ما نحن فيه
لدينا شكان وفي موارد نفي المجموع لدينا شك واحد هو مورد الأثر وهو الشك في وجود الجزء الذي
يجري فيه الأصل المثبت لا النافي، فتدبر ولا تغفل.
280

التنبيه الحادي عشر: حول الاستصحاب في الأمور الاعتقادية، وانه هل
يجري أو لا؟.
وقد أفاد المحقق الخراساني (قدس سره) في الكفاية: ان الأمور
الاعتقادية..
تارة: يكون المطلوب والمهم فيها شرعا هو الانقياد، وعقد القلب وأمثال
ذلك من الاعمال القلبية الاختيارية.
وأخرى: يكون المطلوب فيها هو تحصيل اليقين والعلم بها.
اما على الأول، فلا مانع من جريان الاستصحاب مع تمامية أركانه حكما
وموضوعا، فإذا شك في بقاء وجوب الاعتقاد أمكن استصحابه، وكذا لو شك في
بقاء موضوعه أمكن استصحابه، لصحة التنزيل وعموم دليل الاستصحاب، لعدم
اختصاصه بالاحكام الفرعية. ولا مانع منه الا ما يتصور من أن الاستصحاب
من الأصول العملية. ولكن ذلك لا يصلح للمانعية، لان التعبير بالأصل العملي
ليس له في دليل الاستصحاب أو غيره عين ولا أثر كي يدعى انصرافه إلى عمل
الجوارح دون عمل الجوانح. وانما هو تعبير اصطلاحي عبر به الأصوليون عما
كان وظيفة للشاك تعبدا، لجعل الفرق بينه وبين الامارات الحاكية عن الواقع.

في ترتب الأثر. والخيار الواقعي لا يعلم بثبوته كي يستصحب عدم الفسخ في زمانه. فمرجع الاستصحاب
المزبور إلى استصحاب عدم المجموع، وقد تقدم أنه مع استصحاب الجزء لا مجال لاستصحاب عدم
المجموع المركب، لان المركب الموضوع للأثر هو عين الاجزاء وليس شيئا وراءها، والمفروض أنه لا
شك لدينا سوى الشك في الجزء الذي يجري الاستصحاب فيه، فلا مجال لاستصحاب عدم المركب،
وهكذا الكلام في سائر موارد النقض.
فخلاصة الفرق بين ما نحن فيه وبين موارد النقض، أن الاستصحاب النافي فيما نحن فيه الذي
يفرض معارضته للاستصحاب المثبت يجري في نفي الجزء في زمان الجزء الاخر، وأما في موارد النقض
فخلاصة الفرق بين ما نحن وبين موارد النقض، أن الاستصحاب النافي فيما نحن فيه الذي
يفرض معارضته للاستصحاب المثبت يجري في نفي الجزء في زمان الجزء الاخر، وأما في موارد النقض
فهو يجري في نفي المجموع المركب، وفرق واضح بينهما من ناحية المعارضة وعدمها، إذ في ما نحن فيه
لدينا شكان وفي موارد نفي المجموع لدينا شك واحد هو مورد الأثر وهو الشك في وجود الجزء الذي
يجري فيه الأصل المثبت لا النافي، فتدبر ولا تغفل.
290

وعليه فيعم عمل الجوارح والجوانح معا.
واما في الثاني، فالاستصحاب في الحكم جار - فلو شك في بقاء وجوب
اليقين بشئ بعد اليقين بالوجوب يستصحب البقاء، ولا مانع منه، ويترتب عليه
لزوم تحصيل اليقين بذلك الشئ والعلم به - دون الموضوع، لان المفروض كون
المطلوب تحصيل اليقين به والاستصحاب لا يجدي في ذلك، لعدم رفعه الشك الا
تعبدا، كما لا يخفى. هذا ما افاده المحقق الخراساني (قدس سره) في المقام (1).
وهو ناظر إلى ما أفاده الشيخ (رحمه الله) من عدم جريان الاستصحاب
في الأمور الاعتقادية بقول مطلق، بتقريب: ان الاستصحاب ان اعتبر من باب
الاخبار والتعبد، فمع الشك يزول الاعتقاد، فلا يصح التكليف به. وان اعتبر
من باب الظن، ففيه:
أولا: ان الظن في أصول الدين غير معتبر.
وثانيا: ان الظن غير حاصل، لان الشك في العقائد الثابتة بالطريق
العقلي أو النقلي القطعي انما ينشأ من تغير بعض ما يحتمل مدخليته وجودا أو
عدما في المستصحب (2).
والذي يقصده الشيخ من زوال الاعتقاد مع الشك بالشئ الذي يتعلق
به فلا يصح التكليف به حينئذ: ان الاعتقاد مع الشك يزول قهرا وتكوينا، فلا
يمكن تحصيله، لا انه يزول فعلا فيمكن الامر بتحصيله بواسطة الاستصحاب.
وما ذكره (رحمه الله) في عدم إفادة الاستصحاب الظن ناظر إلى الشبهة
الحكمية دون الموضوعية - كما لا يخفى ذلك من كلامه -، لان حصول الظن انما
يكون لاجل غلبة بقاء المتيقن السابق، فإنها توجب الظن الظن ببقائه، وهذا انما يتأتى

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 422 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 390 - الطبعة الأولى.
291

في الموضوعات الثابتة تكوينا، لكون الشك فيها في بعض الموارد شكا في الرافع
مع العلم بقابلية المقتضي للبقاء فيظن ببقائه نوعا. اما الأحكام الشرعية فلا
غلبة فيها، لان الشك دائما في قابلية المقتضي للبقاء، ومعه لا يظن ببقائه - كما
لا يخفى -، لان الشك في ارتفاع الحكم انما ينشأ من تغير بعض الخصوصيات
التي يحتمل دخلها في الموضوعية وعدمه، لأنه مع بقاء موضوعه بخصوصياته لا
يرتفع جزما للزوم الخلف.
ولا يخفى عليك الفرق بين ما أفاده (قدس سره) وبين ما أفاده المحقق
الخراساني (قدس سره) حيث إنه أطلق الحكم بعدم جريان الاستصحاب حكما
وموضوعا. مع أن المحقق الخراساني فصل الكلام بما عرفته وحكم بعدم جريانه
موضوعا في خصوص ما كان المهم فيه تحصيل اليقين والمعرفة.
الا انه لا يخفى ان مركز الخلاف بينهما (قدس سرهما) هو متعلق الاعتقاد
لا الأعم منه ومن الحكم - أعني: وجوب الاعتفاد -. وذلك لان كلام الشيخ (رحمه
الله) يدور حول جريان الاستصحاب في متعلق الاعتقاد وغرضه نفيه فيه لا غير،
ويشهد لذلك أمران:
الأول: ان جريان الاستصحاب في الحكم لا منشأ للاشكال فيه ولا
يتوهم أحد في صحة جريانه، فهو جار بلا اشكال.
الثاني: ان التنبيه المذكور عقده في الرسائل لنفي التمسك باستصحاب
النبوة.
وعليه، فمراده من قوله: " الشرعية الاعتقادية " متعلقات الاحكام
الاعتقادية المعبر عنها بالأمور الاعتقادية لا نفس الاحكام الاعتقادية، كما
فسره بذلك المحقق الخراساني في الحاشية (1).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول / 221 - الطبعة الأولى.
292

ومن هنا يظهر الوجه في تعرض المحقق الخراساني للاستصحاب في
الاحكام الاعتقادية واثباته، مع ما عرفت من عدم المنشأ للاشكال في جريانه،
فالتفت.
ولعل الوجه (1) في حكم الشيخ بعدم جريان الاستصحاب في الأول -

(1)
تحقيق الكلام في المقام بنحو يتضح فيه الحال في كلمات الاعلام: أن الشك في مورد الأمور الاعتقادية
تارة يكون في بقاء الحكم كما لو علم بوجوب الاعتقاد بحالة من حالات البرزخ أو القيامة ثم شك في
بقائه. وأخرى يكون في بقاء الموضوع المترتب عليه وجوب الاعتقاد أو اليقين.
ففي الأول: لا إشكال في جريان الاستصحاب لاطلاق أدلته وعدم الموهم لعدم جريانه سوى التعبير
عنه بالأصل العملي، وقد عرفت دفعه بما أفاده في الكفاية، لكن لا يخفى أن ذلك مجرد فرض لا واقع
له إذ ليس لدينا من الأمور الاعتقادية ما يشك في بقاء وجوب الاعتقاد به، ولعله إلى ذلك أشار في
الكفاية بقوله: " وكذا موضوعا فيما كان هناك يقين سابق وشك لا حق ".
وأما الشك في بقاء الموضوع فلا فرض له بحسب الظاهر سوى الشك في حياة الإمام (ع). وإلا
فسائر الأمور الاعتقادية استقبالية لم تحدث كي يشك في بقائها بالشبهة الموضوعية.
ولا يخفى أن الشك في حياة الإمام (ع) فيها بالنسبة الينا مجرد فرض لا واقع له.
ولكن لا بأس بايقاع الكلام فيه على سبيل الفرض فنقول: إن الأثر الملحوظ في حياة الامام تارة
يكون هو وجوب الاعتقاد. وأخرى يكون وجوب اليقين به.
ويقع الكلام في جريان الاستصحاب بلحاظ كلا الأثرين..
أما جريان الاستصحاب بلحاظ ترتيب وجوب الاعتقاد فتحقيقه: أن الاستصحاب تارة يجري في
حياة زيد مثلا - خاصة، وأخرى في إمامته، وثالثة في حياته وإمامته بنحو المجموع المركب.
أما جريان الاستصحاب في إمامته: فهو ممنوع للشك في موضوعها وهو الحياة، إذ الإمامة متقومة
بحياة الامام فمع الشك في الحياة كيف نستصحب الإمامة.
وأما جريان الاستصحاب في المجموع المركب من الحياة والإمامة: فمع قطع النظر عن الاشكال
في جريان الاستصحاب في المجموع المركب بقول مطلق، يمنع بان المراد ترتيبه على ذلك هو وجوب
الاعتقاد، وهو لا يترتب إذ الاعتقاد والايمان بالشئ وإن كان من الأمور القلبية الاختيارية لكنها لا
تحصل مع الشك بل هي تتوقف على اليقين، فمع عدمه لا يمكن تحققه. ومن الواضح أن الاستصحاب
لا يرفع الشك، فلا يجب الاعتقاد لعدم اليقين الذي يتقوم به. وذلك لان اليقين إما أن يكون من قبيل
شرائط الوجوب وإما أن يكون من قبيل شرائط وجود الاعتقاد الواجب.
فعلى الأول: يكون عدم وجوب الاعتقاد مع الشك واضحا لعدم حصول موضوعه فلا ينفع
الاستصحاب.
وعلى الثاني: فقد يتخيل أن وجوب الاعتقاد يترتب على الاستصحاب وهو يدعو إلى تحصيل اليقين
كسائر مقدمات الواجب. ولكن يندفع بان الاستصحاب لاجل وجوب الاعتقاد يكون لغوا لان ظرف
داعوية الوجوب وتأثيره هو ظرف العمل الواجب، ومن الواضح أنه بعد تحصيل اليقين لا مجال
للاستصحاب.
وعليه فالوجوب الثابت بالاستصحاب في ظرف تأثيره وداعويته لا بقاء له وفي ظرف حدوثه لا
داعوية له لعدم القدرة على متعلقه. ومثل ذلك يكون لغوا محصا.
وأما جريان الاستصحاب في الحياة خاصة ليترتب عليها الإمامة وهي أمر شرعي، فيترتب وجوب
الاعتقاد بها. ففيه:
أولا: أنه يتوقف على كون الإمامة عبارة عن نفس السلطنة والولاية ويترتب عليها نفوذ التصرفات
بحيث يمكن الحكم بفعليتها مع الشك الوجداني في الحياة، وأما لو كانت الإمامة عبارة عن نفس الحكم
بنفوذ التصرفات فمن الواضح أن مثل ذلك يتوقف على إحراز الحياة لكي يحرز صدور التصرف أو
قابليته لصدور التصرف منه.
وأما مع الشك في حياته فلا معنى للحكم بنفوذ تصرفاته. فما نحن فيه نظير وجوب الاطعام الثابت لزيد،
فإنه مع الشك في حياته لا ينفع استصحابها في ترتيب وجوب إطعامه لان متعلق الحكم لا يجوز إلا
باحراز الحياة. وليس نظير وجوب التصدق على الفقراء على تقدير حياة زيد.
وثانيا: لو فرض كون الإمامة عبارة عن أمر وضعي يترتب عليه نفوذ التصرفات، وغض النظر عن
الاشكال في جريان الاستصحاب بناء عليه أيضا فان له مجالا آخر، فلا يجري الاستصحاب أيضا،
للشك المانع من تحقق الاعتقاد.
نعم لو بنى على أن الاعتقاد بالواقع يحصل مع الشك به، يمكن إجراء الاستصحاب ليترتب وجوب
الاعتقاد، لكنه لا مجال للالتزام به كما أشرنا إليه.
وأما جريان الاستصحاب في الحياة بلحاظ وجوب المعرفة واليقين. فالملحوظ في الاستصحاب تارة
حدوث هذا الأثر وأخرى سقوطه. يعني: تارة يراد باستصحاب حياة الامام ترتيب وجوب معرفته فيلزم
على المكلف تحصيل اليقين به وأخرى يراد به سقوط هذا التكليف من باب قيام الاستصحاب مقام
اليقين والاستصحاب لا يجري بكلا اللحاظين، أما لو كان الملحوظ هو حدوث التكليف بالمعرفة فلان
موضوع وجوب معرفة الامام بعينه يترتب على أصل العلم بأصل ثبوت الامام وجعله من قبله تعالى ولا
يترتب على حياة زيد بعنوانه أو عمرو. فاجراء الاستصحاب في حياة زيد ليس إجراء له في موضوع
الحكم الشرعي.
وببيان آخر نقول: أن وجوب معرفة الامام ثابت مع الشك ومع قطع النظر عن الاستصحاب، فلا
أثر للاستصحاب في ترتيبه وحدوثه.
وأما لو كان الملحوظ هو سقوط التكليف فلان اليقين بالامام مأخوذ بما هو صفة لا بما هو طريق
ولذا يعبر عنه بالمعرفة، ومثله لا يقوم الاستصحاب مقامه.
والخلاصة، إن الاستصحاب الموضوعي في باب الإمامة لا مجال له على جميع تقاديره وفروضه. وبعد
ذلك يحسن بنا التنبيه على بعض الجهات الواردة في كلمات الاعلام وهي متعددة:
الأولى: ما أفاده الشيخ في نفي الاستصحاب لاجل عدم الاعتقاد مع الشك، وما أفاده قد يبدو
غامضا لان مجرم عدم الاعتقاد مع الشك لا يمنع من ترتب وجوب الاعتقاد المستلزم لوجوب مقدماته
ومن جملتها اليقين. ولكن يتضح كلامه بما ذكرناه في نفي الاستصحاب لترتيب وجوب الاعتقاد سواء
كان اليقين من مقدمات الوجوب أو الواجب.
الثانية: ما أفاده صاحب الكفاية في نفي الاستصحاب الموضوعي في مورد يطلب فيه اليقين، وعلله
بوجوب تحصيل اليقين. فهل هو ناظر - في جريان الاستصحاب نفيا أو إثباتا - إلى ترتيب وجوب
تحصيل اليقين أو إلى إسقاطه؟ والصحيح أنه ناظر إلى اسقاط التكليف لا حدوثه كما يدل عليه قوله:
293



" بل يجب تحصيل اليقين بموته... " فإنه لا معنى له لو كان الملحوظ في جريان الاستصحاب حدوث
التكليف بوجوب تحصيل اليقين لأنه هو الأثر المقصود بالاستصحاب فلا معنى لنفي الأصل وتعليله
بلزوم تحصيل اليقين كما لا يخفى. ويدل عليه أيضا ما ذكره بعد ذلك من الاكتفاء بالاستصحاب إذا كان
المورد من الموارد التي يكتفى فيها بالظن وكان الاستصحاب من باب الظن.
وعليه فلا وجه لما ارتكبه المحقق الأصفهاني من حمل كلامه على نظره إلى ثبوت التكليف، فتدبر.
نعم قوله: " فلا يستصحب لاجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه " ظاهر في كون النظر إلى مرحلة الثبوت
لكن بعد صراحة ما بعده فيما ذكرناه لا بد من الالتزام بان مراده من هذه العبارة " لاجل ترتيب أثر
لزوم المعرفة " فلا تنافي ما بعدها.
الثالثة: قد عرفت الإشارة إلى أن الشك في الاعتقاديات من حيث الحكم مجرد فرض لا واقع له.
ولكن ذكر المحقق الأصفهاني أنه يتم في طرف الوجود لا في طرف العدم. كما لو شك في حدوث
تكليف اعتقادي بشأن من شؤون المحشر، فينفي بالاستصحاب لعدم ثبوته قبل الشريعة أو في أوائلها.
وأنت خبير أن الاستصحاب الذي يختلف الحال فيه وجودا وعدما هو استصحاب نفس التكليف لا
عدمه، إذ استصحاب العدم يتفق مع أصالة البراءة فلو لم يجر الاستصحاب لا يختلف الحال من الناحية
العملية لجريان البراءة. فما أفاده لو تم علميا فلا أثر له عمليا.
هذا مع ما عرفت من منع الاستصحاب في عدم التكليف تبعا للشيخ (ره)، فانتبه.
الرابعة: ذكر المحقق الأصفهاني (ره) عند تعرضه لما أفاده صاحب الكفاية في المورد الذي يطلب
فيه اليقين، وأن الاستصحاب لا ينفع في ذلك، ذكر أن استصحاب الأمور المجعولة شرعا كالإمامة يرجع
إلى جعلها بجعل مماثل للواقع واعتبار آخر غير الواقع وليس مجرد الالزام بترتيب الأثر، وعليه فمع
جريان الاستصحاب يحصل اليقين بالإمامة الظاهرية المجعولة، فيكون الاستصحاب مجديا إذا فرض
أن المعتبر لو تعلق إليه بالإمامة أعم من وجودها والواقعي.
وأما جريان الاستصحاب لاجل لزوم تحصيل اليقين فهو ممنوع لان اليقين بالإمامة (بالحياة) رافع
لموضوع الاستصحاب، فيلزم أن يقتضي الاستصحاب ما يرفع موضوعه ويستلزم عدمه فيكون مما يلزم
من وجوده عدمه وهو محال. وما أفاده (قده) صدرا وذيلا لا يرد على ناحية واحدة. فان محط النظر في
الصدر إلى الجدوى في جريان الأصل من ناحية سقوط التكليف بوجوب تحصيل اليقين إذ مع حصول
اليقين قهرا لا معنى للامر بتحصيله. ومحط النظر في الذيل إلى ناحية حدوث التكليف وبتحصيل اليقين
مع أن ظاهر كلامه هو أن ما نفاه في الذيل عين ما أفاده في الصدر، فيكون خلطا بين المقامين.
ثم إن ما أفاده في نفي جريان الاستصحاب لاجل ترتيب لزوم تحصيل اليقين من استلزام وجود
الاستصحاب لعدمه غير تام، إذ يرد عليه أنه لا إشكال في جواز أمر الشاك بشئ بتحصيل اليقين به
ورفع شكه فيقال: إذا شككت في وجود زيد وجب عليك تحصيل اليقين به. والسر فيه: أن المترتب على
الاستصحاب ليس هو اليقين بل الامر به وهو لا ينفي الشك، نعم امتثاله ينفي الشك ولكنه متأخر
عن الامر، وارتفاع الشك بقاء لا يمنع من جريان الاستصحاب حدوثا. نعم لو كان الاستصحاب
يقتضي ارتفاع الشك حدوثا جاء المحذور ولكن الامر ليس كذلك بل المرتفع هو الشك في مرحلة البقاء
وهو خال عن المحذور كيف؟ وكثير من موارد الاستصحاب كذلك، كما لو استصحب عدم الاتيان
بالواجب فجاء به أو استصحب الحدث فتطهر، فان الشك يرتفع بعد امتثال الحكم الظاهري، فانتبه.
الخامسة: أن السيد الخوئي نفى الاستصحاب في الأمور الاعتقادية لاجل تقيد الموضوع بالعلم فلا
يلزم الاعتقاد والمعرفة إلا بالأمر المعلوم.
ولا يخفى أن ما أفاده لو فرض تسليمه لا يرتبط بأي ارتباط بموضوع الكلام بين الاعلام في المقام
نفيا أو إثباتا. نعم هو التزام مستقل يترتب عليه عدم جريان الاستصحاب. هذا مع أنه كان ينبغي أن
ينبه على عدم قيام الاستصحاب في المقام مقام العلم المأخوذ في الموضوع، وإلا فمجرد كون العلم
مأخوذا في الموضوع لا ينفي جريان الاستصحاب إذا كان يقوم مقام العلم، فتدبر.
وكيف كان فقد عرفت منع جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقادية المطلوب فيها الاعتقاد أو المعرفة،
كالإمامة ومنه يظهر الحال في النبوة.
وتحقيق ذلك: إن المقصود بالنبوة التي يراد استصحابها إما نفس المزية الخاصة النفسية الثابتة
لشخص النبي، وأما المقام المجعول للنبي وهو مقام تبليغ الاحكام والرسالة، نظير مقام الإمامة، وأما
مجموع الاحكام التي جاء بها النبي.
ولا يخفى أن النبوة بالمعنى الأول لا يشك في بقائها لعدم زوالها بعد اتصاف النبي بها. وبالمعنى الثاني
يعلم بارتفاعها بالموت، إذ لا محصل لجعل المنصب المزبور شرعا بعد الموت.
نعم هي بالمعنى الثالث قابلة للاستصحاب لامكان تعلق الشك بها، لكن نقول أن المتيقن هو
الاحكام المحدودة بمجئ نبينا (ص) بحيث تكون خصوصية التحديد مأخوذة في متعلق اليقين، ومثله
لا يشك في بقائه بل يعلم بارتفاعه، فليس المتيقن أحكام الشريعة السابقة على الاجمال بل الاحكام
الخاصة وهي المحدودة بالحد الخاص فلا تثبت بعد الحد جزما، فيمتنع التمسك بالاستصحاب.
ولعله إلى ذلك يرجع ما ذكره بعض أفاضل السادة في رد الكتابي الذي تمسك بالاستصحاب، فهو
لا يريد أن المتيقن أحكام شريعة موسى وعيسى المحدودة.
وتنكر الاحكام غير المحدودة، فيرجع التحديد إلى الاحكام التي يراد استصحابها، لا إلى نفس
موسى وعيسى كي يقال إنهما فردان جزئيان لا كليان فلا يقبلان التقييد الموجب للتفرد والتخصيص لأنه
شان المفاهيم الكلية لا الجزئية.
وأما ما ورد عن الإمام الرضا (ع) في جواب الجاثليق فهو لا يرتبط بالاستصحاب لا سؤالا ولا
جوابا ويمكن أن يكون منظوره " سلام الله وصلواته عليه " إلى ما قلناه من كون المتيقن أمرا خاصا،
فتدبر. والأمر سهل كما لا يخفى، والله سبحانه العالم.
293

أعني ما كان المهم فيه هو الاعتقاد الذي هو محل الخلاف بينهما - هو: ان الاعتقاد
بالشئ لا ينفك عن اليقين به، فمع الشك فيه أو اليقين بعدمه لا يمكن تحقق
الاعتقاد. وان انفك اليقين عن الاعتقاد، فيمكن حصول اليقين ولا يحصل
الاعتقاد، كما تدل عليه الآية الكريمة: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) (1).
فاليقين منفك عن الاعتقاد والاعتقاد غير منفك عن اليقين.
وإذا كان الاعتقاد ملازما لليقين، فلا يجدي استصحاب متعلقه في صحة
الاعتقاد به لعدم رفعه الشك إلا تعبدا.
وقد ذكر المحقق الخراساني في الحاشية وجها لاجراء الاستصحاب في
الاعتقاد به لعدم رفعه الشك إلا تعبدا.
وقد ذكر المحقق الخراساني في الحاشية وجها لاجراء الاستصحاب في
المتعلق - على تقدير القول بعدم انفكاك الاعتقاد عن اليقين - تقريبه: انه يمكن

(1) سورة النمل، الآية: 14.
297

الاعتقاد بالشئ على تقدير ثبوته واقعا، فيمكن استصحابه والاعتقاد به على
هذا النحو (1).
وفيه ما لا يخفى، فان التعليق ان كان في جانب المتعلق بان كان الاعتقاد
فعليا والمتعلق تقديريا - فانا اعتقد فعلا بشئ على تقدير ثبوته -، فهو ممنوع،
لان الاعتقاد الفعلي مساوق لليقين بالمقدر، والمفروض عدم اليقين به. وان كان
في جانب الاعتقاد، بان كان معلقا على ثبوت الشئ. ففيه: ان التعليق انما يكون
في المفاهيم التي يعرض عليها الوجود، ولا يكون في الوجودات، لعدم قبولها
التعليق، لان الوجود اما متحقق أو ليس متحقق. والاعتقاد من الوجودات فلا
يقبل التعليق.
وقد وجه المحقق العراقي (قدس سره) استصحاب المتعلق مع الشك فيه:
بان الانقياد والتسليم ههنا بالإمامة - مثلا - الظاهرية أو النبوة الظاهرية، لأنه
بعد التعبد بها تثبت ظاهرا فيسلم بها بهذا النحو، لا على طريق الجزم واليقين،
كي يورد عليه بتنافيه مع الشك في أصل الإمامة أو النبوة (2).
الا ان ما ذكره ممنوع على اطلاقه، فإنه انما يتم لو كانت الإمامة من
المناصب المجعولة للشارع، فيمكن التعبد بها بقاء لكونها من الأحكام الشرعية
كالطهارة والملكية وغيرهما. اما لو كانت من الأمور التكوينية غير المجعولة فلا
يتم ما ذكره، لان التعبد بالأمر التكويني لا معنى له الا ثبوت حكمه، فالتعبد
بحياة زيد معناه ثبوت وجوب التصدق - مثلا -، فالتعبد بالإمامة لا معنى له إلا
ثبوت حكمها الشرعي، وليس هو الا وجوب الاعتقاد، وهو غير ممكن لعدم
اليقين بمتعلقه.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم حاشية فرائد الأصول / 221 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 220 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
298

واما ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في الكفاية من عدم جريان
الاستصحاب موضوعا لو كان المهم وجوب المعرفة (1)، فهو يحتمل وجهين:
الأول: أن يكون وجوب المعرفة متوقفا على الاستصحاب، لتوهم ترتب
وجوب المعرفة على وجود الامام الواقعي، فالشك في وجود يوجب الشك في
وجوب المعرفة، فالاستصحاب يجري ليترتب عليه وجوب المعرفة، كما يجري
استصحاب حياة زيد ليترتب عليه وجوب التصدق. وعليه فهل يجري
الاستصحاب أم لا؟.
الوجه الثاني: أن يكون وجوب المعرفة ثابتا على كل تقدير، ولكن الكلام
في الاكتفاء عن المعرفة بالاستصحاب وعدمه، فيقع الكلام في جريانه وعدمه.
ومراده الوجه الثاني ويشهد له أمران:
أحدهما: ان الكلام في نفسه لا بد أن يكون حول ذلك، لعدم تعليق وجوب
المعرفة على حياة الامام، بل هي واجبة فعلا علم بحياة الامام أو لم يعلم.
والاخر: ظهور ذلك واضحا من قوله: " بل يجب تحصيل اليقين بموته
وحياته ". ومما ذكره من كفاية الاستصحاب لو اعتبر من باب الظن في بعض
الموارد، فان الظاهر من هذين الموردين كون الكلام حول الاكتفاء
بالاستصحاب وعدمه، فتأمل.
إذ قد يتوهم كفايته باعتبار ما قرر في محله من قيام الاستصحاب مقام
القطع الموضوعي.
وحيث إن المستفاد بمناسبة الحكم والموضوع كون القطع الموضوع ههنا
مأخوذا بنحو الصفتية - أعني: بما أنه صفة - لا بنحو الطريقية والحجية لم يقم
الاستصحاب مقامه بل لا بد من تحصيله.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 422 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
299

ولكن الظاهر من العبارة وجه آخر غير هذين الوجهين، وهو كون وجوب
المعرفة مترتبا على اليقين بالحياة لا على الوجود الواقعي، كما - هو مقتضى الوجه
الأول. ولا مطلقا كما هو مقتضى الوجه الثاني وان الكلام في الاكتفاء
باستصحاب الحياة عن اليقين بها. وظاهر المحقق الخراساني أخذ اليقين بها بما أنه صفة،
ولذلك أوجب تحصيله وعدم كفاية الاستصحاب عنه إلا في مورد يكتفى فيه
بالظن - كما لو اخذت المعرفة بمعنى أعم من القطع والظن - وكان الاستصحاب
من باب الظن. فالتفت.
وقد فسر المحقق الأصفهاني (قدس سره) العبارة بالوجه الأول. وأورد
على جريان الاستصحاب: بان استصحاب حياة الامام إذا كان يترتب عليه لزوم
المعرفة، فمع تحصيلها يرتفع موضوع الاستصحاب، فيلزم من وجود التعبد عدمه
وهو محال (1).
وفيه: ان المعرفة توجب رفع موضوع الاستصحاب بقاء ولا محذور فيه،
وانما المحذور لو استلزمت رفعه ابتدا وحدوثا، ولكنه غير حاصل.
وقد تبين مما ذكرنا حال الاستصحاب في الإمامة والنبوة.
فان الإمامة، اما ان تكون من الصفات النفسانية التي هي عبارة عن
درجة خاصة من الكمال. واما أن تكون من المناصب المجعولة، وهي إمارته على
الناس ونفوذ حكمه فيهم وما شابه ذلك. والشك في الإمامة ينشأ عن الشك في
الموت وعدمه.
والإمامة بالمعنى الأول لا تزول بالموت ولا بغيره، فلا شك فيها أصلا،
بل يحرز بقائها. ولكنها بالمعنى الثاني تزول بالموت، لان أداء الاحكام والامارة
على الناس يتقوم بالحياة، فمع الشك في بقاء الحياة يشك في بقاء الإمامة بهذا

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 113 - الطبعة الأولى.
300

المعنى، ولا بد في جريان الاستصحاب فيها من ترتب أثر عملي عليها. وهو اما
تحصيل المعرفة واليقين. أو حصول الاعتقاد. فعلى الأول يمتنع الاستصحاب،
لأنه لا يقوم مقام اليقين المأخوذ في المقام على نحو الصفتية. وعلى الثاني يجري
الاستصحاب بناء على امكان تحقق الاعتقاد مع الشك وعدم ملازمته لليقين. كما أنه
يمكن جريانه فيها للالتزام بها ظاهرا - كما تقدم عن المحقق العراقي -.
واما النبوة، فهي أيضا أما ان تكون من الصفات النفسانية أو المناصب
المجعولة كأداء الرسالة وتبليغ الاحكام. ولا شك فيها بالمعنيين أصلا بعد الموت.
لأنها بالمعنى الأول يعلم ببقائها بعده. وبالمعنى الثاني يعلم بارتفاعها بالموت، فلا
شك فيها أصلا، فلا مورد للاستصحاب. والشك في النبوة بالمعنى الثاني وان كان
يحصل من جهة الشك في الموت، ولكنه خارج عن محل الابتلاء.
ولو تنزلنا وقلنا يتحقق الشك فيها بنحو ما، فأثرها العملي اما بوجوب
الاعتقاد أو استمرار شريعة النبي.
اما على الأول، فجريان الاستصحاب يتوقف على القول بمجامعة
الاعتقاد للشك.
واما على الثاني، فلا ترتب لان استمرار الشريعة غير مترتب على بقاء
النبوة ببقائه، إذ من يلتزم بان النبوة بالمعنى الثاني يقول باستمرار الشريعة بعد
الموت ولا يقول بارتفاعها به، فلا يجري الاستصحاب.
ومما ذكرنا تعرف انه لا مجال لتمسك الكتابي باستصحاب نبوة نبيه، وقد
ذكر في جوابه وجوه متعددة:
الوجه الأول: ان تمسكه بالاستصحاب لا يخلو اما أن يكون لاجل اقناع
نفسه، أو لاجل إلزام المسلمين، أو لاجل دفع كلفة الاستدلال عن نفسه. وان
الدليل لا بد أن يكون على مدعى الدين الجديد، لان الدين إذا ثبت فهو مستمر
بمقتضى الطبيعة والقاعدة حتى يثبت خلافه وهذا هو معنى الاستصحاب.
301

فإن كان غرضه هو اقناع نفسه، فجريان الاستصحاب انما يكون بعد
الفحص، فلا بد له من الفحص قبل تمسكه بالاستصحاب ومع الفحص يحصل
له اليقين بنبوة محمد (ص).
وان كان غرضه إلزام المسلمين، فهو انما يتم لو التزم المسلمون بتحقق
اليقين والشك لديهم، لان الالزام انما يكون بالمسلمات لدى الخصم، والمسلمون
انما يعتبرون الاستصحاب مع تحقق اليقين والشك، والشك ليس بحاصل لديهم
بل يعلمون بالارتفاع، لغرض كونهم مسلمين.
وان كان غرضه دفع كلفة الاستدلال عن نفسه والقاء كلفته على
المسلمين، فهو ممنوع، لان الدين كما يحتاج إلى دليل في مرحلة حدوثه كذلك
يحتاج إليه في مرحلة بقائه، فلا بد له من إقامة الدليل على بقاء دينه.
والتمسك بالاستصحاب لا يجديه على كل من الفروض الثلاثة.
الوجه الثاني: ان تمسكه بالاستصحاب انما يصح لو ثبت اعتباره في كلا
الشريعتين، إذ لو تعين ثبوته في خصوص شريعته فهو مشكوك البقاء كباقي
الأحكام الشرعية الثابتة فيها. ولو اختص ثبوته في الشريعة اللاحقة، فهي غير
ثابتة الصحة والحقية كي يتمسك باحكامها.
الوجه الثالث: ان ثبوت نبيه انما علمناها من اخبار نبينا (ص)، فلو
استصحبنا النبوة السابقة يلزم نفي نبوة نبينا (ص)، ومعه ينتفي اليقين بالنبوة.
السابقة، فيلزم من وجود الاستصحاب عدمه وهو محال.
وأيضا، فمع معرفة النبوة السابقة من طريق نبينا (ص) - بما أنه نبي -
يرتفع الشك في البقاء، بل يعلم بالارتفاع، كما لا يخفى.
الوجه الرابع: انه لا معنى لاستصحاب النبوة الا وجوب التدين بما جاء
به النبي السابق - لان النبوة صفة نفسانية غير قابلة للارتفاع -، ومما جاء به
النبي السابق التبشير بنبوة نبينا (ص)، فنحن نعلم بثبوت احكام الشريعة
302

السابقة مغياة بمجئ نبينا محمد (ص).
الوجه الخامس: وهو يرجع - تقريبا - إلى الوجه الرابع، وهو مضمون ما أجاب
به الإمام الرضا (ع) الجاثليق (1)، وحاصله: انا نؤمن بكل عيسى وموسى بشر
بنبوة محمد (ص)، ولا نؤمن بكل عيسى وموسى لم يخبر عن نبوة نبينا (ص).
وبهذا الجواب أجاب السيد القزويني - كما يحكى - حين أشكل عليه
الكتابي بالاستصحاب.
وأورد عليه الشيخ (رحمه الله): بأنه لا وجه له، لان عيسى وموسى ليس
كليا كي يعترف ببعض افراده وينكر الافراد الاخر، بل هو جزئي حقيقي
وشخص معلوم نعترف بنبوته.
ولكن يمكن توجيهه: بان الايمان بعيسى وموسى الشخصيين كان بملاك
تبشيرهما بنبينا (ص)، فلا طريق إلى الاعتراف الا هذه الخصوصية، فالخصوصية
مقومة للاعتراف. والترديد من ناحيتها.
وهذه الوجوه الخمسة ذكرها الشيخ (قدس سره) في رسائله مع اختلاف
بسيط جزئي (2). فالتفت.
التنبيه الثاني عشر: في استصحاب حكم المخصص.
وموضوع الكلام فيه: ما إذا ورد عام مطلق من حيث الزمان، بان دل على
استمرار الحكم في جميع الأزمنة إلى الأبد، ثم خصص ببعض افراده في زمان
معين، وشك بعد انقضاء زمان الخاص في حكم الفرد الخاص في أنه محكوم بحكم
الخاص أم لا؟، فهل يستصحب حكم الخاص أو يتمسك بالعموم؟.
وقد حكم الشيخ (قدس سره) بالتفصيل بين ما إذا لو حظ الزمان في العام
أفراده وحصصا متعددة، بحيث يكون كل فرد من أفراد العام محكوما باحكام

(1) عيون أخبار الرضا (ع) 1 / 154 ح 1.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 393 - 493 - الطبعة الأولى.
303

متعددة بتعدد آنات الزمان وقطعه. وبين ما إذا لو حظ الزمان قطعة واحدة
لاستمرار الحكم، ولا عموم إلا بلحاظ الافراد دون الازمان. فقال بجريان
الاستصحاب في نفسه في الثاني وعدم كونه موردا لأصالة العموم. بخلاف الأول،
فإنه مورد لأصالة العموم دون الاستصحاب (1).
اما المحقق الخراساني في الكفاية، فقد وافق الشيخ في تفصيله للعام
وتقسيمه إلى قسمين. ولكنه خالفه في اطلاق الحكم بعدم كون القسم الثاني موردا
لأصالة العموم، والقسم الأول موردا للاستصحاب.
أما القسم الثاني، فقد وافقه في عدم كونه موردا لأصالة العموم لو كان
التخصيص في الأثناء. أما لو كان التخصيص من أول أزمنة العموم - كتخصيص
عموم: (أوفوا بالعقود) (2) بخيار المجلس -، كان المورد من موارد أصالة
العموم.
واما في القسم الأول، فقد جعل الملاك في عدم جريان الاستصحاب في
نفسه كون الخاص قد أخذ الزمان فيه قيدا، سواء اخذ الزمان في العام مفردا أو
ظرفا لاستمراره. ولو أخذ الزمان في الخاص ظرفا، كان المورد من موارد
الاستصحاب، سواء كان الزمان في العام قد أخذ مفردا أو ظرفا أيضا. وليس
الملاك في عدم كونه من موارد الاستصحاب اخذ الزمان في العام مفردا - كما أفاده
الشيخ (ره) (3) -.
والمهم في البحث هو ما إذا لو حظ الزمان في العام والخاص ظرفا، لان
صورة ما إذا لو حظ في الخاص قيدا قد بين عدم جريان الاستصحاب فيها فيما
سبق في الكلام عن جريان الاستصحاب في الزمان والزمانيات. وان اخذ ظرفا

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 395 - الطبعة الأولى.
(2) سورة المائدة، الآية: 1.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 424 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
304

لجرى الاستصحاب فيه، فلا كلام في ذلك. وعليه فلا بد من بيان الوجه في
عدم كون الصورة المذكورة من موارد أصالة العموم، وبيان الوجه في مخالفة
صاحب الكفاية للشيخ. فالكلام في محورين:
المحور الأول: في وجه عدم كون الصورة من موارد أصالة العموم.
وقد علل الشيخ ذلك: بان أصالة العموم انما تجري مع الشك في
التخصيص واحتمال عدم إرادة العموم. اما في غير ذلك فلا تجري. ولما كان -
المفروض اخذ الزمان ظرفا لاستمرار العام وأن لا عموم للعام الا من ناحية
الافراد، وأن كل فرد له حكم مستمر لا احكام متعددة بتعدد الزمان، وخصص
العام بأحد الافراد في زمان معين - لم يكن عدم الحكم على الخاص بحكم العام
فيما بعد ذلك الزمان تخصيصا كي يتمسك لنفيه بأصالة العموم -.
وقد علل المحقق الخراساني ذلك بوجهين: ذكر أحدهما في الكفاية، وذكر
الاخر في حاشيته على الرسائل.
اما الأول الذي ذكره في الكفاية فهو: ان العام له دلالتان: الأولى: ثبوت
الحكم للفرد. والثانية: استمرار هذا الحكم.
اما ثبوت الحكم للفرد، فقد تحقق بنحو الموجبة الجزئية إلى ما قبل
التخصيص. واما الاستمرار فقد دل على انتفائه التخصيص. فلا معنى لشمول
العام لهذا الفرد بعد زمان التخصيص (1).
واما الوجه الثاني الذي ذكره في الحاشية فهو: ان العام يدل على ثبوت
حكم واحد مستمر، فلو أردنا اثبات حكم العام للفرد بعد زمان التخصيص، كان
هذا الحكم غير الحكم الذي كان قبل زمان التخصيص، كما أنه منفصل عنه
بزمان التخصيص. وعليه فالعام لا يتكفل اثبات الحكم للفرد بعد زمان

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 424 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
305

التخصيص، لان العام انما يدل على ثبوت حكم واحد مستمر لا حكمين
منفصلين، كما هو مقتضى ثبوت حكمه للفرد بعد ذلك الزمان (1).
وقد ذكر المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية هذا الوجه. ثم نفاه
ونفى تقريب الشيخ بما ذكره لا ثبات ما ذهب إليه من كون المورد من موارد
التمسك بالعام.
وتلخيص ما ذكره - مع توضيحه -: ان العام له حيثيتان: حيثية عمومه
وحيثية اطلاقه الأزماني. ومقتضى عمومه ثبوت الحكم لفرد في الجملة. ومقتضى
اطلاقه ثبوت الحكم للفرد في الزمان المستمر. فالتمسك بالعموم عند الشك غير
ممكن لخروجه بالتخصيص، ولا يكون عدم شمول الحكم له في غير زمان الخاص
تخصيصا زائدا كي ينفى مع الشك بأصالة العموم كما عرفت.
ولكن يمكن التمسك بالاطلاق، فإنك عرفت بان للعام اطلاقا أزمانيا،
فإذا قيد هذا الاطلاق بزمان، يبقى ثابتا في الأزمنة الباقية. فان الزمان المأخوذ
ظرفا قابل لان يقيد، لان وحدته طبيعية لا شخصية. فإذا قيد مطلق الزمان بزمان
خاص جعله التقييد حصة والحصة محافظة على وحدتها الطبيعية واستمرارها،
فيكون مفاد الاطلاق والتقييد ثبوت الحكم لفرد في غير هذا الزمان الخاص.
وبالجملة: فالاطلاق في العام كغيره من الاطلاقات في أنها إذا قيدت بقيت
في غير مورد التقييد على اطلاقها.
وقد يتوهم: وجود الفرق بين هذا الاطلاق وبين غيره من جهتين:
الجهة الأولى: ان سائر المطلقات لها جهات عرضية، كالايمان والكفر
والعلم والجهل والذكورة والأنوثة وغيرها في الرقبة، فيمكن لحاظ هذه الجهات
واطلاق الحكم بالإضافة إليها بلا منافاة لشئ.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول / 225 - الطبعة الأولى.
306

اما ما نحن فيه، فلما لم يكن الزمان المستمر بنفسه ذا افراد متكثرة بل
لا يكون كذلك الا بالتقطيع. ولحاظه بنحو التقطيع والاطلاق بالإضافة إليها
خلاف المفروض، لان المفروض عدم لحاظه كذلك.
أولا: ان الايراد المذكور يبتني على كون الاطلاق هو الجمع بين القيود -
بمعنى انه تلحظ القيود جميعها ويجعل الحكم بإزاء كل واحد منها -، كي يرجع
فيما نحن فيه إلى جعل الحكم في كل قطعة من قطعات الزمان، فيلزم الخلف. أما
بناء على ما هو الحق من انه عبارة رفض القيود لا الجمع بينها - بمعنى ان
الحكم متعلق بطبيعي متعلقه بلا دخل لاي قيد فيه - فلا يتم هذا الايراد. لان
النظر إلى قطعات الزمان وعدم تقييد طبيعي الزمان بها لا وجودا ولا عدما لا
يستلزم الخلف. وانما الذي يستلزم الخلف هو النظر إليها وجعلها ظروفا للحكم.
وثانيا: ان الزمان المستمر اما ان يلحظ في مقام الثبوت مهملا. أو مقيدا
- يعنى متقطعا -. أو مبنيا من ناحية الاطلاق وأنه شامل لجميع الافراد.
اما الأول، فهو محال لمحالية الاهمال في مقام الثبوت.
واما الثاني: فهو خلف.
فيتعين الثالث، وهو يتوقف على لحاظ الخصوصيات المقيدة لها ونفيها
بأخذه لا بشرط، لا بشرط شئ ولا بشرط لا.
الجهة الثانية: انه لما كان المطلق فيما نحن فيه له ظهور واحد في معنى
واحد مستمر، وبعد رفع اليد عنه بالتخصيص لا ظهور اخر يتمسك به في اثبات
الحكم. فثبوت الحكم بعد زمان التخصيص انما يكون لو كان للمطلق ظهورات
متعددة بتعدد قطع الزمان، فإذا ارتفع أحدها بقيت الأخرى على حالها. وليس
فيما نحن فيه إلا ظهور واحد.
والجواب: ان جميع المطلقات والعمومات لها ظهور واحد في معنى واحد
307

وليس لها ظهورات متعددة، والتخصيص والتقييد انما يفيدان رفع حجية الظهور
في الفرد رفع نفس الظهور، بل هو باق لا يرتفع. فيمكن التمسك به في اثبات
حكم العام والمطلق للفرد مع الشك.
وقد يستشكل: بان عدم التمسك بالعموم أو الاطلاق انما هو لاجل أن
ظاهر العام بحيثيته ثبوت حكم واحد مستمر - كما هو المفروض، لان المفروض
كون الزمان مأخوذا لبيان الاستمرار -، وثبوت الحكم للفرد بعد زمان التخصيص
انما يقتضي ثبوت حكمين منفصلين لا حكم واحد مستمر.
والجواب: بان الوحدة المنثلمة انما هي الوحدة الخارجية، وهي غير معتبرة
قطعا، لقيام البرهان على ذلك لتعدد إطاعة الحكم وعصيانه، وهو كاشف عن
تعدد الحكم في الخارج، إذ لا يتصور إطاعة وعصيان لحكم واحد. وانما المعتبر هو
الوحدة في مقام الجعل والانشاء. والمراد منها في هذا المقام جعل طبيعي البعث أو
حصة منه في قبال جعل بعثين أو حصتين منه - فان البعث في هذا المقام مفهوم
صالح لان يقيد ويحصص، فان جعل طبيعة أو حصة واحدة منه فقد جعل بعث
واحد. وان لوحظ مقيدا محصصا، فقد تعدد -، وهي فيما نحن فيه متحققة، لان
المجعول انما هو بعث واحد لا متعدد.
ومثله الكلام في الاستمرار، فان المعتبر ليس هو الاستمرار في الخارج
لعدم امكانه لفرض التعدد في هذا المقام. وانما المعتبر هو الاستمرار في مرحلة
الانشاء والجعل وهو متحقق، فإنه قد جعل الزمان المستمر - وهو ما عدا يوم
الجمعة مثلا - ظرفا للبعث. إلى هنا ينتهي ما افاده المحقق الأصفهاني مما له
علاقة بتقريب ما ذهب إليه من امكان التمسك بالاطلاق في الفرض المذكور (1).
ونفي كلامي الشيخ - الذي يدعي ظهور العموم في وحدة الحكم الثابت

(1)
الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 116 - الطبعة الأولى.
308

وصاحب الكفاية (قدس سره) - الذي يدعى ظهوره في وحدة الحكم
واستمراره -، ولكنه بكلامه الأخير لا يخلو عن نظر (1).

(1) تحقيق الكلام في مناقشة المحقق الأصفهاني (ره) وتصحيح ما أفاده الشيخ وصاحب الكفاية: أن
الاطلاق تارة يراد به الاطلاق الاصطلاحي الراجع إلى ثبوت الحكم على الطبيعة بلا قيد وشرط،
فيستفاد إرادة جميع الحصص بمعونة مقدمات الحكمة. وأخرى يراد به ثبوت الحكم بالنسبة إلى مطلق
الحصص لكن لا على أن يكون ذلك مستفادا من مقدمات الحكمة الراجعة إلى إثبات فرض القيود،
بل هو مستفاد من نفس الكلام لوضعه إلى جميع الحصص، نظير دلالة لفظ " يوم " على جميع أجزاء النهار
فإنها ليست بالاطلاق المصطلح، نعم يصح أن يقال إنه يراد به مطلق أجزاء النهار بلا تقييد، ولكن ذلك
لا يعني أنه يراد به التمسك بمقدمات الحكمة بل من جهة " اليوم " اسم لجميع هذه الاجزاء من المبدأ
إلى المنتهى. ومثل ذلك دلالة لفظ " قوم " على جميع الافراد فإنها تختلف عن دلالة لفظ العالم على إرادة
جميع أفراد العالم. فان دلالة لفظ العالم على جميع أفراده بالاطلاق الاصطلاحي ومقدمات الحكمة
بخلاف دلالة لفظ " قوم " فإنه يدل على جميع الافراد لوضعه إلى مجموع الافراد ولذا يسمى باسم الجمع،
والفرق بين هذين النحوين أن الدليل المقيد في المورد الأول لا يتنافى مع مدلول الكلام وإنما يستلزم
اخراج الفرد عن مقتضى مقدمات الحكمة، ويبقى الدليل المطلق حجة في سائر الحصص. أما في المورد
الثاني فالدليل المقيد يتنافى مع نفس المدلول رأسا ولذا قلنا - في مبحث العموم والخصوص - إنه لو ورد
ما يدل على إكرام عشرة علماء ثم ورد ما يدل على عدم إكرام واحد منهم كان الدليلان متعارضين لان
مدلول عشرة ليس هو الطبيعة بل مجموع الافراد رأسا، ولأجل ذلك لم تكن من أفراد العموم.
فلو ورد ما يدل على مجئ القوم، ثم ورد ما يدل على عدم مجئ واحد منهم كزيد كان الدليلان
متعارضين.
نعم حيث أن مثل القوم يستعمل في البعض مسامحة يحمل لفظ: " القوم " في مثل " جاء القوم إلا زيدا "
مما يعلم إرادة البعض مسامحة لأنه يكون له ظهور ثانوي في ذلك ومثله ما لو كان المخصص
منفصلا
وبذلك يختلف عن مثل لفظ: " عشرة " فإنه ليس له ظهور ثانوي في الأقل ولذا يستقر التعارض بين
دليل إكرام العشرة ودليل عدم إكرام واحد منهم. وكيف كان فالتمسك بمثل لفظ القوم في غير مورد
الاستثناء ليس من جهة الرجوع إلى الاطلاق في غير مورد التقييد بل من جهة الرجوع إلى الظهور
الثانوي المحمول عليه الكلام بقرينة ما هو أظهر منه.
وإذا اتضح ما ذكرناه: فاعلم أن الدليل الدال على استمرار الحكم في الحصص الزمانية - بعنوان
الاستمرار - سواء كان بنحو المعنى الاسمي كان يقول: " يجب الجلوس مستمرا إلى الغروب " أو بنحو
المعنى الحرفي كان يقول: " يجب الجلوس من الآن إلى الغروب " لا يدل على ثبوت الحكم في جميع أجزاء
الزمان المفروض بالاطلاق ومقدمات الحكمة بل بمدلوله الوضعي نظير لفظ " اليوم " الدال على أجزاء
الزمان بين المبدأ والمنتهى، لان الاستمرار اسم لثبوت الحكم في تمام الأزمنة ومجموعها.
وعليه فإذا دل الدليل على انقطاع الحكم وعدم ثبوته في الأثناء لم يكن ذلك من تقييد المطلق ببعض
حصصه كي يرجع إليه في سائر الحصص، بل هو مناف لأصل الدليل على الاستمرار ومسقط له عن
الاعتبار، ومعه لا دليل على ثبوت الحكم بعد زمان التخصيص فلفظ الاستمرار نظير لفظ " عشرة " في
سقوطه مع معارضته بما هو أقوى منه وعدم الرجوع إليه في غير مورد الدليل المعارض.
نعم دلالة الدليل على ثبوت الحكم في الجملة تبقى على حالها لعدم ما يعارضها. ويبقى سؤال أنه إذا
انتفت دلالة الدليل على الاستمرار وبقيت دلالته على الحكم في الجملة فما هو الوجه في الالتزام بثبوت
الحكم قبل زمان التخصيص، إذ يكون ما قبل زمان التخصيص و ما بعده بالنسبة إليه على حد سواء؟
والجواب عنه هو ما سيأتي - في تحقيق كلام الكفاية - من الالتزام بوجود ظهور آخر للدليل وهو ظهوره
في ثبوت الحكم بمجرد تحقق موضوعه، ومقتضاه ثبوت الحكم فيما قبل زمان التخصيص.
وإذا تحقق لديك ما بيناه فنقول: إن محط كلام الشيخ (ره) وغيره هو ما إذا كان الدليل دالا على
استمرار الحكم ولو بنحو المعنى الحرفي، وعليه فلا يتجه ما أفاده المحقق الأصفهاني في مناقشته
بالرجوع إلى الاطلاق الأزماني وبيان أن الاطلاق رفض القيود، إذ عرفت أن دلالة الدليل المزبور على
ثبوت الحكم في تمام الأزمنة ليس بالاطلاق الراجع إلى رفض القيود بل بمقتضى الوضع نظير دلالة
لفظ اليوم على جميع الاجزاء بين المبدأ والمنتهى، فيمكن أن نقول: أن ما أفاده (قده) لا يخلو عن خلط
بين المقامين، فتدبر ولا تغفل.
309

فان الوحدة والاستمرار الذين يدعي ظهورهما من العموم، يراد منها
الوحدة والاستمرار في مرحلة الخارج، لا الوحدة والاستمرار في مرحلة الانشاء
والجعل، وهما غير متحققين بعد التخصيص وثبوت الحكم للخاص بعد زمانه،
ولأجل ذلك لا يتمسك بالعموم فيه.
واما ما ساقه من البرهان على عدم اعتبار الوحدة الخارجية من عدم
تحققها أصلا لتعدد الإطاعة والمعصية الكاشف عن تعدد الحكم، فلا ينافي ما
ذكرناه، فان المراد من الوحدة الخارجية المعتبرة انما هو الوحدة بنظر العرف التي
يمكن انطباقها على التعدد الدقي، وهي متحققة في حكم العام بالنسبة إلى
افراده، وتنثلم بالتخصيص. فعدم امكان الوحدة في مرحلة الخارج بمعنى، لا
يتنافى مع دعوى الوحدة في هذه المرحلة بمعنى آخر.
310

وكذلك المراد من الاستمرار، هو الاستمرار بنظر العرف القابل للانطباق
على المنقطع بالنظر الدقي. وهو ينثلم بالتخصيص.
فالمراد بالوحدة والاستمرار نظير الوحدة والاستمرار في سائر الأمور
التدريجية التي لا تتنافى مع التجدد والتصرم. هذا مع أنه لم نعرف معنى محصلا
للاستمرار في مقام البعث، كيف! وهو من شأن الموجود، فكيف فرض الحكم
المجعول مستمرا بعد فرض انقطاعه في الأثناء؟ واستمراره في مقام البعث. لا
نعرف له معنى ظاهرا فتدبر.
وبهذا تعرف عدم تمامية ايراد المحقق الأصفهاني (رحمه الله) على الشيخ
والمحقق الخراساني (قدس سرهما) في عدم تمسكهما بالعموم في هذا الفرض.
وقد استظهر المحقق النائيني (رحمه الله) من كلام الشيخ (رحمه الله)
التفصيل بين العام المجموعي والاستغراقي، بعدم التمسك في الأول دون
الثاني.
ولما كان هذا مخالفا لما عليه الأصوليون من التمسك بالعام المجموعي
عند الشك في التخصيص، التزم بتأويل كلامه وحمله على خلاف ما استظهره مما
بنى عليه في المقام من: ان الزمان..
تارة: يؤخذ ظرفا لمتعلق الحكم كالاكرام والوفاء وغيرهما.
وأخرى: يؤخذ ظرفا لنفس الحكم.
فعلى الأول يمكن أن يكون الدليل متكفلا لاستمرار الحكم دون الثاني
لان نسبة الاستمرار إلى الحكم نسبة العرض إلى معروضه، والحكم إلى موضوعه،
فثبوت الاستمرار يتوقف على ثبوت الحكم في مرحلة سابقة عليه. فدليل الحكم
لا يتكفل ثبوت استمراره، لأنه انما يثبت بعد فرض تحقق الحكم، بل لا بد في
اثباته من دليل اخر منفصل يكون موضوعه الحكم. ودليل الاستمرار لا يثبت
الحكم، لعدم ثبوته مع عدم ثبوت الحكم، فكيف يثبت الحكم بدليله؟!. وعليه فمع
311

الشك في ثبوت الحكم بعد زمان التخصيص لا يمكن التمسك لا بدليل العام،
لأنه انما يدل على ثبوت الحكم في الجملة. وقد ثبت. ولا بدليل الاستمرار، لان
ثبوته فرع ثبوت الحكم، والمفروض الشك فيه.
فعلى هذا، حمل كلام الشيخ وانه تفصيل بين ما إذا اخذ الزمان ظرفا
للمتعلق فيتمسك بالعموم، وبين ما إذا اخذ ظرفا للحكم فلا يتمسك به. وان كان
هذا الحمل خلاف الظاهر للعلم بعدم إرادة الشيخ لظاهر الذي عرفته (1).
ولكن ما ذكره (قدس سره) ممنوع. بجهتيه: (2)
اما الأولى: وهي ما استظهره من كلام الشيخ من التفصيل بين العام
المجموعي والاستغراقي - والذي اصر عليه السيد الخوئي وبين على اشتباه
أستاذه في التأويل -، فان استظهاره لا وجه له، لان القسم الثاني الذي ذكره

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 345 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) تحقيق الاشكال فيما أفاده (قده): أن ما أفاده من عدم تكفل الدليل الدال على الحكم لاستمراره،
لتفرع الاستمرار عن نفس الحكم يرد عليه أنه خلط بين مقام الجعل والمجعول. فان ما أفاده يمكن أن
يقرر في الجعل فان استمرار الجعل متفرع عن ثبوته، فلا يمكن أن يتكفل دليل ثبوت التشريع والجعل
استمراره الجعل في نفس الوقت لان مرجع استمراره الجعل إلى إدامة التشريع والثبات عليه وعدم نسخه
وهذا لا يمكن أن يفرض إلا متأخرا عن تحقق الجعل والتشريع.
وأما في المجعول وهو الحكم فلا يتم ما أفاده فإنه يمكن أن ينشأ الحكم المستمر في آن واحد بلا لزوم
لانشائه أولا ثم بيان استمراره، نظير الملكية المستمرة المنشأة بدليل واحد وإنشاء واحد. وبعبارة أخرى
إن المجعول يتبع كيفية جعله فقد يجعل في زمان خاص وقد يجعل في جميع الأزمنة بجعل واحد، ولا يخفى
أن محط الكلام فيما نحن فيه هو الحكم المجعول لا الجعل.
هذا مع أن ما أفاده غير تام في الجعل والتشريع أيضا وذلك لان الجعل والتشريع ليس مدلولا للكلام
والدليل، بل هو فعل من أفعال الجاعل نظير أخباره، فان مدلول الكلام هو المخبر به لا الاخبار، وإنما
الاخبار فعل خارجي يتحقق بالكلام والاستعمال فنسبة الاخبار والجعل إلى الكلام نسبة المسبب إلى
السبب لا المدلول إلى الدليل.
وعليه فلا موضوع لان يقال إن استمرار الجعل لا يمكن أن يتكفله نفس الكلام الذي يتكفل ثبوت
الجعل.
312

الشيخ يجتمع مع العموم الاستغراقي والمجموعي معا. ويشهد لذلك انه جعل من
هذا القسم ما يمكن أن يكون عاما استغراقيا، وهو: (أوفوا بالعقود) (1)، فان
الوفاء بكل عقد واجب، في كل زمان وآن، وليس الزمان كله اخذ موضوعا واحدا
وبنحو الارتباطية لوجوب الوفاء بالعقد، بل على تقدير تسليم ظهور كلامه في
ذلك، فلا وجه لتأويله بما ذكر من أن المراد من القسم الثاني ما كان الزمان فيه
ملحوظا ظرفا، لأنه مثل له مثالا يتنافى مع ذلك وهو: (أكرم العلماء دائما)، لظهور
تكفل اعتبار الاستمرار بنفس الدليل، وقد صرح (قدس سره) بلزوم التكفل
بدليل منفصل يكون موضوعه الحكم كما عرفت، فالتفت.
واما الجهة الثانية: وهي ما ذكره من كون نسبة الاستمرار مع الحكم نسبة
العرض مع معروضه، وانه لا بد في ثبوت الاستمرار من ثبوت الحكم، لان
الاستمرار أمر انتزاعي ينتزع عن الوجود بعد الوجود بلا فاصل، وثبوت الحكم
في الأزمنة المتعاقبة، فنسبته إلى الحكم نسبة العنوان إلى المعنون - لأنه ينتزع
عن ثبوت خاص للحكم -، وحينئذ فدليل الاستمرار يتكفل ثبوت الحكم في
الأزمنة التالية للزمان الأول، وثبوت الحكم في الزمان الثاني والثالث معناه
الاستمرار.
وعليه، فيمكن التمسك بدليل الاستمرار في اثبات الحكم فيما بعد زمان
التخصيص. ولا يتوقف على احراز تحقق الحكم، بل مع احرازه لا نحتاج إلى
دليل الاستمرار.
وبعبارة أخرى: انه ما المقصود من لزوم احراز تحقق الحكم في ثبوت
الاستمرار؟، هل احرازه في الآن الثاني بعد التحقق أو احرازه في الجملة ولو في
الآن السابق؟. فعلى الأول: لا نحتاج إلى اثبات الاستمرار. وعلى الثاني:

(1) سورة المائدة، الآية: 1.
313

المفروض ثبوت الحكم في الآن السابق، فتدبر.
ويتم لدينا - من جميع ذلك -: ان ما ذكره الشيخ والخراساني في توجيه
دعواهما بعدم التمسك بالعام فيما إذا ثبت أخذ الحكم بنحو الوحدة والاستمرار
تام كبرويا، بمعنى انه إذا ثبت اخذ الحكم بهذا النحو من دليل العام أو من دليل
خارجي - كما لو قال: " أكرم العلماء إلى الأبد " فان: " إلى الأبد " تدل على
استمرار الحكم -، امتنع التمسك بالعموم فيما بعد التخصيص لانتفاء الاستمرار
وتعدد الحكم.
ولكن الكلام يدور معه صغرويا، بمعنى ان العمومات الثابتة لا دلالة
فيها على اخذ الحكم فيها بنحو الوحدة والاستمرار كعموم: (أوفوا بالعقود)
الذي ساقه مثالا لدعواه، فان: (أوفوا بالعقود) لا دلالة فيها الا على وجوب
الوفاء بالعقد في كل زمان. اما أخذ الحكم بنحو الوحدة والاستمرار فلا دلالة
له عليه. نعم الوحدة والاستمرار ينتزعان عن مثل هذا الوجوب باعتبار تعاقب
ثبوت الوجوب وعدم انفصاله، فيرى عرفا حكما واحدا مستمرا. ولكنه لا يجدي
في عدم التمسك بالعموم فيها بعد التخصيص لعدم استفادة اعتباره بدليل، وانما
منطبق على نحو ثبوت الحكم في الزمان.
المحور الثاني: في مخالفة صاحب الكفاية للشيخ فيما لو كان التخصيص
في الابتداء، فقد عرفت أنه ذهب إلى جواز التمسك بالعام في هذا الفرض. دون
الشيخ، لاطلاقه المنع.
وحاصل ما ذكره في تقريب ما ذهب إليه: ان المانع من التمسك بالعام لو
كان التخصيص في الأثناء - وهو لزوم ثبوت حكمين منفصلين مع دلالة العام على
ثبوت حكم واحد متصل - غير موجود لو كان التخصيص في الابتداء، لان كلا
من الوحدة والاستمرار لا ينثلم بثبوت حكم العام بعد زمان التخصيص كما لا
يخفى.
314

والذي (1) ينبغي ان يقال: ان للعام جهتين: جهة العموم التي تقتضي ثبوت
الحكم لافراد العام. وجهة الاطلاق التي تقتضي ثبوت هذا الحكم للفرد في جميع
الأزمنة. فلا بد من ملاحظة دليل العام من جهة عمومه، فإن كان يقتضي ثبوت
الحكم للفرد في الجملة كان ما ذكره صاحب الكفاية من صحة التمسك بالعام
بعد زمان التخصيص في محله، لان التخصيص انما يزاحم الاطلاق المقتضي
لثبوت الحكم في جميع الأزمنة، فيقتصر على مورد المزاحمة وهو زمان التخصيص،
ويبقى الفرد في الأزمنة الأخرى مشمولا للاطلاق. وان كان يقتضي ثبوت الحكم
للفرد بمجرد ثبوته، لم يكن ما ذكره صاحب الكفاية تاما لان التخصيص زاحم
دلالة العام ورفعها، فلا يبقى مجال للتمسك بالعموم ولا بالاطلاق، لأنه فرع

(1) التحقيق: إن الدليل الذي يتكفل ثبوت الحكم إلى الغاية المعينة كوجوب الجلوس إلى الليل إذا جاء
زيد من السفر يشتمل على مداليل ثلاثة: أصل ثبوت الحكم وثبوته عند حصول موضوعه وبمجرده
واستمراره إلى الليل.
ولذا قد يفكك بين هذه المداليل في الصدق والكذب، كما لو قال القائل: " إذا قام عمرو يقوم زيد
إلى الليل " فإنه إذا فرض قيام زيد عند عمرو لكنه لا يستمر إلى الليل فإنه يقال أنه كذب في
جهة وصدق في جهة، كما أنه لو استمر قيامه إلى الليل لكن لم يتحقق بمجرد قيام عمرو يقال إنه كذب
من جهة وصدق من أخرى.
وبالجملة: لا ينبغي الاشكال في أن مثل هذا الاخبار ينحل إلى أخبار ثلاثة.
وعليه نقول: إنه إذا قام الدليل على التخصيص من الأول، كان ذلك مصادما لظهور الدليل العام
في ثبوت الحكم بمجرد تحقق الموضوع من دون منافاة للظهورين الآخرين، فرفع اليد عن هذا الظهور
لا يتنافى مع الالتزام بالظهورين الآخرين، ومقتضاه ثبوت الحكم بعد زمان التخصيص مستمرا إلى
الغاية المحددة.
وهذا بخلاف ما إذا كان التخصيص في الأثناء فان دليل التخصيص يصادم ظهور الدليل الاخر
في الاستمرار وهو مدلول واحد كما عرفت، فيمتنع أن يثبت الحكم بعد زمان التخصيص.
فما أفاده صاحب الكفاية متين وجيه، وهو مما يمكن أن ينسب إلى الشيخ وإن لم يصرح به لالتزامه
بلوازمه، ولذا لم يتوقف في الرجوع إلى عموم الوفاء بالعقود بعد انقضاء المجلس، فلا حظ. وبهذا البيان
تعرف الاشكال فيما بيناه في الدورة السابقة.
315

ثبوت العموم، والمفروض انه غير ثابت لنفي التخصيص له.
إلى هنا ينتهي الكلام في هذا التنبيه، وقد تبين تمامية ما ذكره الشيخ
والمحقق الخراساني (قدس سرهما) من عدم التمسك بالعام فيما لو كان
التخصيص في الأثناء كبرويا وعدم تماميته صغرويا. كما تبين ما في اطلاق المحقق
الخراساني لصحة التمسك بالعام لو كان التخصيص في الابتداء، وانه لا بد من
التفصيل الذي عرفته. فتدبر جيدا.
التنبيه الثالث عشر: في بيان المراد من الشك في الاخبار.
ذكر المحققون: ان المراد بالشك في اخبار الاستصحاب خلاف اليقين،
فيعم الشك بمعنى تساوي الطرفين والظن والوهم. واستدلوا لذلك بوجوه...
كتصريح اهل اللغة بعموم معناه وتعارف استعماله في الاخبار في غير هذا
الباب.
وقوله (ع): " ولكن تنقضه بيقين آخر " الدال على تحديد الناقض وانه
خصوص اليقين دون غيره.
وغير ذلك - ما جاء في الرسائل (1) والكفاية (2) - (3) وذلك مما لا اشكال
فيه. ولا يستدعي زيادة بيان. وبذلك تنتهي تنبيهات المسالة التي ذكرها صاحب
الكفاية.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 398 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 425 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) ومن الجملة ما استدل به على كون المراد بالشك هو مطلق غير العلم وجهان ذكرهما الشيخ (ره):
أحدهما: الاجماع القطعي على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الاخبار.
والاخر: إن الظن غير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل فمعناه أن وجوده كعدمه عند الشارع
وإن كل ما يترتب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتب على تقدير وجوده وإن كان مما شك في اعتباره
فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشك. وقد ناقشهما صاحب
الكفاية (ره):
فناقش الأول: بأنه لا وجه لدعواه ولو سلم اتفاق الأصحاب على الاعتبار لاحتمال أن يكون ذلك
من جهة ظهور دلالة الاخبار.
وناقش الثاني: بان قضية عدم اعتبار الظن لالغائه أو لعدم الدليل على اعتباره ليست إلا عدم ثبوت
المظنون به تعبدا لتترتب عليه آثاره، لا ترتيب آثار الشك على الظن وتنزيل وصف الظن منزلة عدمه
بلحاظ آثار عدم الظن.
والمناقشة في الأول لا بأس بها ومرجعها إلى عدم اليقين بكون الاجماع تعبديا ليكشف عن قول المعصوم (ع).
وأما المناقشة في الوجه الثاني فهي غير واردة على كلا شقي الترديد في كلام الشيخ. توضيح ذلك:
أن الظن غير المعتبر على قسمين:
أحدهما: ما قام الدليل على إلغائه وعدم اعتباره كالظن القياسي، وهذا ما ألحقه الشيخ بالشك ببيان
أن دليل الالغاء بتكفل تنزيله منزلة العدم فيترتب عليه كل ما يترتب شرعا على عدمه.
والاخر: ما لم يقم دليل على اعتباره فيكون مقتضى الأصل عدم حجيته كالشهرة. وهذا ما ألحقه
الشيخ بالشك ببيان أن رفع اليد عن اليقين السابق بسببه يكون من باب نقض اليقين بالشك.
والظاهر إن نظره (ره) إلى نظير ما يقال في رد شمول الآيات الناهية عن العمل بغير العلم للظن
المعتبر بأنه خارج تخصصا، لأنه بعد قيام الدليل القطعي على حجيته لا يكون العمل به عملا بغير
العلم به عملا بالعلم باعتباره، فيقال فيما نحن فيه إن رفع اليد عن اليقين السابق بالظن المشكوك
اعتباره يكون استنادا إلى الشك ونقضا لليقين بالشك باعتبار الظن.
ولا يخفى عليك أن ما أفاده صاحب الكفاية - وتبعه غيره - في مناقشة الشيخ إنما يرد على ما أفاده
بالنسبة إلى الظن الذي قام على عدم اعتباره الدليل، إذ يقال أن الدليل على الالغاء ناظر إلى عدم
إثبات المظنون به تعبدا لا تنزيل الظن منزلة عدمه في آثار عدم الظن الشرعية. ولا يرد على ما أفاده
بالنسبة إلى الظن المشكوك اعتباره بالبيان الذي عرفته ولا يرتبط به بوجه أصلا كما لا يخفى، فالجمع
بين القسمين في مقام المناقشة ليس بسديد.
فالمتجه أن يقال في مناقشة الشيخ: أن العمل في مورد الظن المشكوك الاعتبار لا يستند إلى الشك
بل إلى الظن، فإنه لو سلم صحة استناد العمل في مورد العلم بالحجية إلى العلم لا إلى نفس الظن
المعلوم الحجية فهو لا يسري إلى ما نحن فيه، إذ العلم في مورد الفرض أقوى من الظن فيصلح أن
يكون هو المستند إليه لضعف الظن بالإضافة إليه. وليس الامر كذلك فيما نحن بل الامر بالعكس،
فان الشك أضعف من الظن، فمع اجتماعهما يكون المستند هو الظن، فيقال عمل بالظن لا بالشك.
وبالجملة: الملاحظ في سيرة العقلاء هو الاستناد إلى أقوى الجهتين مع اجتماعهما بحيث يعلل العمل
به لا بالأضعف، فتدبر. وكيف كان في غير هذين الوجهين مما أشرنا إليه تبعا للغير كفاية.
ثم إن بعض كلمات الكفاية في المقام لا يخلو عن غموض واشكال لأول وهلة، وهو قوله: - بعد أن
استشهد على العموم بقوله (ع): " لا حتى يستيقن أنه قد نام " بعد السؤال عما إذا حرك في جنبه وهو
لا يعلم وترك الاستفصال بين ما إذا أفادت هذه الامارة الظن وما إذا لم تفد -: " وقوله (ع): بعده ولا
تنقض اليقين بالشك أن الحكم في المغيى مطلقا هو عدم نقض اليقين بالشك " فان دلالة قوله: " ولا
تنقض اليقين بالشك " على ثبوت حرمة النقض في موارد الشك بقول مطلق ليس محل الكلام وإنما
محل الكلام إرادة مطلق عدم العلم من الشك وهذا لا يثبت بظهور الكلام في حرمة نقض اليقين بالشك
مطلقا.
ويمكن رفع الغموض عن كلامه بان يقال أن مراده: إن ظاهر قوله: " ولا تنقض اليقين بالشك " أنه
تطبيق على ما أفاده في قوله: " لا حتى... " وهو الحكم المغيى، فيستكشف أن الحكم الثابت في المغيى
بقول مطلق مصداق لعدم نقض اليقين بالشك، وبعد ضميمة عموم الحكم في المغيى لصورة الظن
الحاصل من تحريك شئ وهو لا يعلم، يثبت أن المراد بالشك ما يعم الظن، فلا حظ والأمر سهل.
316

ويبقى في المقام تنبيهان اخران ذكرهما الشيخ في الرسائل، لا بد من
التعرض لهما لما يترتب عليهم من آثار عملية.
اما التنبيه الأول: فالكلام فيه حول استصحاب الصحة. (1)

(1) لا يخفى أن البحث في استصحاب الصحة عند طرو مشكوك المانعية أو القاطعية بحث صغروي لا
كبروي ومرجعه إلى تشخيص أن المورد من موارد الاستصحاب بالحدود المقررة له أو لا؟ نظير مبحث
استصحاب العدم الأزلي على ما تقدم في محله.
وتحقيق الكلام في استصحاب الصحة عند وجود مشكوك المانعية، كالتبسم في الصلاة - مثلا - بنحو
يستوعب جميع احتمالاته أن يقال: إن الصحة كما بين في محله بمعنى التمامية، والتمامية من الأمور
الإضافية التي تختلف باختلاف الأثر الملحوظ والنتيجة المترقبة فقد يكون العمل تاما من جهة وليس
تاما من جهة أخرى.
وعليه نقول: إن الصحة المشكوكة عند طرو مشكوك المانعية إما أن يراد بها تماميته من حيث ترتب
الأثر وإما أن يراد بها التمامية من حيث موافقة الامر، أو من حيث سقوط الامر.
أما الصحة من حيث ترتب الأثر بمعنى المصلحة المترتبة على العمل، فان أريد بها صحة مجموع
العمل فهي مشكوكة الحدوث فلا معنى لاستصحابها، وإن أريد بها صحة الاجزاء السابقة فتحقيق الحال
فيها: إن الأثر المترتب على العمل تارة يكون ترتبه دفعيا يحصل بالاتيان بجميع الاجزاء فلا يترتب
على كل جزء جزء أي شئ وأخرى يكون ترتبه تدريجيا بحيث تحصل مرتبة منه عند أول جزء وهكذا
يتصاعد بتحقق الاجزاء إلى أن يتحقق بكامله عند تحقق الجزء الأخير، نظير الحرارة المتصاعدة تدريجا
باستمرار النار. وعلى هذا التقدير فشأن حدوث المانع في الأثناء.
إما المنع عن ترتب مراتب الأثر على الاجزاء اللاحقة.
إما المنع عن ترتب مراتب الأثر على الاجزاء اللاحقة.
وإما رفع الأثر المترتب على الجزء السابق، نظير الماء البارد والملقى على الماء المغلي فإنه يرفع الحرارة
الثابتة للماء.
وإما دفع الأثر المترتب على الجزء السابق بان يكون ترتب الأثر عليه مقيدا ومنوطا بعدم حصول
المان ع، فيصير حاصل الاحتمالات أربعة.
أما على الاحتمال الأول: - وهو ما إذا كان ترتبه دفعيا عند حصول جميع أجزاء العمل - فلا مجال
للاستصحاب لعدم اليقين بحدوث الصحة قبل انتهاء العمل.
وأما على الاحتمال الثاني: فعند حصول المشكوك يشك في ترتب الأثر على الاجزاء اللاحقة وهو
غير مسبوق باليقين بل هو مشكوك الحدوث رأسا فلا يجري الاستصحاب بلحاظها، وأما بلحاظ
الاجزاء السابقة فلا شك في البقاء لان الأثر المترتب على الجزء لا يرتفع بالمانع على الفرض فالبقاء
متيقن.
وأما على الاحتمال الرابع: فصحة الاجزاء السابقة مشكوكة الحدوث رأسا عند حصول مشكوك
المانعية.
نعم على الاحتمال الثالث: يكون لدينا يقين بالحدوث وشك في البقاء لليقين بتحقق مرتبة من الأثر
والشك في زوالها، ولكن لا يخفى عليك أن الصحة بهذا المعنى ليست حكما مجعولا ولا موضوعا لحكم
مجعول، فلا تكون مجرى الاستصحاب.
والذي يتلخص أن الصحة بمعنى ترتب الأثر لا تكون موردا للاستصحاب بتاتا.
ولكن الذي يبدوا لنا بوضوح: أن الصحة بلحاظ ترتب الأثر يراد بها غير ما ذكرناه تبعا لبعض
الاعلام، إذ المبحوث عنه في المسالة هو إثبات عدم مانعية المشكوك بالاستصحاب وتمامية العمل
والاكتفاء به في مقام الامتثال بحيث لا تجب عليه الإعادة وهذا أجنبي بكل معنى الكلمة عن ترتب
المصلحة على العمل وعدمه فالملحوظ في الأثر هو الاكتفاء به في مقام الامتثال لا ترتب المصلحة عليه،
ومنه ظهر الاشكال في كلمات المحقق الأصفهاني (ره) فلا حظ. وكيف كان فإذا عرفت أن البحث عن
الصحة بلحاظ الاكتفاء بها في مقام الامتثال، فقد يقال: إن جواز الاكتفاء في مقام الامتثال مما تناله يد
الجعل الشرعي كما في موارد قاعدتي الفراغ والتجاوز، سواء كان مجعولا رأسا أو بتبع غيره فان ذلك لا
يهم، بل المهم إنه مما يقع موردا للتعبد الشرعي.
وعليه فيمكن أن يكون مورد للاستصحاب فيما نحن فيه فان العمل قبل حصول مشكوك المانعية كان
مما يكتفى به في مقام الامتثال المشكوك يشك في بقاء صحة بهذا المعنى، فتستصحب.
ولكن يرد عليه: إن المقصود إن كان استصحاب صحة مجموع العمل فهو بعد لم يتحقق، فلا يقين
بالحدوث. وإن كان استصحاب صحة الاجزاء المتحققة فقط، فهي غير مشكوكة البقاء لأنها وقعت
امتثالا فلا تنقلب عما وقعت عليه، وإنما يشك في تحقق سائر الأجزاء والشرائط وامتثال الامر من
جهتها.
فاستصحاب الصحة لا يجري إما لعدم اليقين بالحدوث أو لعدم الشك في البقاء.
وقد يجعل مورد الاستصحاب المزبور هو الاجزاء اللاحقة لكن بنحو الاستصحاب التعليقي، فيقال:
إن الاجزاء اللاحقة كانت قبل عروض مشكوك المانعية مما يكتفى بها في مقام الامتثال لو وجدت، فالآن
كذلك.
ولكن للتأمل في هذا الاستصحاب - مع قطع النظر عن ابتنائه على جريان الاستصحاب التعليقي
الذي لا نقول به في الاحكام والموضوعات كما تقدم - مجال واسع وذلك لوجهين:
الأول: إن الاكتفاء بالعمل في مقام الامتثال وإن سلم أنه مما يقع موردا للتعبد الشرعي كموارد
قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز والأوامر الظاهرية، إلا أنه تابع للدليل عليه، ولذا لا يكون شرعيا مع
الاتيان بالأمور به بالأمر الواقعي بل يكون عقليا تصدي الشارع للتعبد به بل هو مما يحكم به
العقل.
وعليه نقول: إن جواز الاكتفاء في مقام الامتثال الثابت للاجزاء ليس مما تعبد به الشارع بل هو مما
يحكم به العقل باعتبار موافقة الامر الواقعي. فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه لأنه حكم عقلي أولا،
318



ولتبدل الموضوع ثانيا، لان كل ما يكون دخيلا في الحكم العقلي يكون مأخوذا في موضوعه.
ومن الواضح أن العقل كان يحكم بالاكتفاء بالاجزاء مقيدا بعدم مشكوك المانعية لاجل إحراز
موافقة الامر، فمع حصول المشكوك يتبدل الموضوع، للشك في موافقة الامر.
الثاني: إن المورد ليس من موارد الاستصحاب التعليقي الذي تقدم الكلام فيه نفيا وإثباتا، وذلك
لان موضوع الاستصحاب التعليقي هو ما إذا كان الحكم ثابتا لموضوع موجود بالفعل على تقدير شرط
لم يتحقق بعد، كالحرمة الثابتة للعنب على تقدير الغليان، فإذا تبدل إلى الزبيب يقال: هذا كان محرما
على تقدير الغليان فالآن كذلك. فموضوع الحكم موجود بالفعل ويكون للحكم التعليقي - بما هو
تعليقي - ثابتا له بالفعل.
وما نحن فيه ليس كذلك، لان الاكتفاء في مقام الامتثال المترتب على الاجزاء اللاحقة ليس
موضوعه طبيعي الاجزاء وشرطه هو وجودها، فيقال: إن طبيعي الاجزاء يكتفى به في مقام الامتثال على
تقدير وجوده، كي يجري الاستصحاب التعليقي عند طرو مشكوك المانعية، لان الموضوع غير الشرط
الذي لا وجود له فيمكن فرضه بالفعل وقبل وجوده الذي هو الشرط.
وإنما موضوعه هو وجود الطبيعة فإنه هو الذي يكتفى به في مقام الامتثال، فقبل وجود الاجزاء ليس
لدينا ما يقال إنه كان يكتفى به في مقام الامتثال على تقدير والآن كذلك. وعند وجودها يكون الاكتفاء
مشكوك الحدوث رأسا، فلا مجال للاستصحاب المدعى.
وأما الصحة من حيث موافقة الامر، فالكلام في استصحابها هو الكلام في استصحاب الصحة بلحاظ
مقام الامتثال من عدم الشك في البقاء لو أريد صحة الاجزاء السابقة وعدم اليقين بالحدوث لو أريد
بها صحة المجموع المركب، وكونه من الاستصحاب التعليقي الذي عرفت إشكاله لو أريد صحة
الاجزاء السابقة.
هذا مع أن موافقة الامر ليست من الأمور الشرعية بل هي تنتزع عن مطابقة المأتي به للمأمور به
وليست مجعولة بل تتحقق بتحقق أمرين والعمل الخارجي المطابق.
ومن الواضح إنها تبتني على وجود الامر في مرحلة سابقة على العمل، إذ لا يتعلق الامر بما هو موجود
كي يكون المأتي به قبل الامر مطابقا للمأمور به بعد الاتيان.
ومن هنا اتضح أن الامر الشرعي وإن كان دخيلا في انتزاع عنوان الموافقة لكن ذلك لا ينفع في
قابلية الموافقة للجعل والرفع ولو بلحاظ منشأ انتزاعه، لان الامر لو كان هو الجزء الأخير من العلة
لأمكن الالتزام بذلك، لكن عرفت أنه أسبق من الجزء الاخر وهو العمل الخارجي، فالجزء الأخير
لانتزاع عنوان الموافقة هو عمل المكلف وهو ليس بشرعي، فتدبر.
ومن هنا يظهر الاشكال فيما أفاده المحقق العراقي من جريان استصحاب الصحة بمعنى موافقة
الامر ببيان أنها شرعية لشرعية منشأ انتزاعه وهو أمر الشارع وتكليفه، وقد عرفت منع كونها شرعية،
كما أن ما أفاده في تقريب جريانه بان الموافقة من الأمور التدريجية بتدرج الاجزاء، فمع الشك في مانعية
الموجود يجري استصحاب الموافقة على نحو جريانه في سائر الأمور التدريجية، يرد عليه أن جريان
الاستصحاب في الامر التدريجي إنما ينفع في إثبات الامر التدريجي بمفاد كان التامة كبقاء النهار
والكلام والجريان ولا ينفع في إثبات اتصاف الموجود بالوصف التدريجي، فلا يثبت باستصحاب النهار
نهارية الموجود.
وعليه فاستصحاب الموافقة التدريجية لا يثبت سوى بقائها وأما اتصاف المأتي به بالموافقة فهو لا
يثبت بالاستصحاب. ومحل الأثر هو كون المأتي به موافقا له، فلا حظ.
وأما الصحة من حيث بقاء الامر بالعمل وعدم سقوطه فتحقيق الحال فيها: إن الامر الذي يتعلق
بالمركبات التدريجية كالصلاة إما أن يلتزم بأنه موجود دفعة من حين العمل، غاية الامر أن داعويته
واقتضاءه تدريجي الحصول بتدرج العمل فعند أول جزء يكون داعيا إليه وبعد إتيانه يدعو للجزء الاخر
وهكذا.
وإما أن يلتزم بأنه موجود تدريجا بتدريج العمل، فيحصل جزء منه عند أول جزء ثم يحصل جزء آخر
منه عند الجزء الاخر من العمل وهكذا، ومبنى هذا القول هو الالتزام باستحالة الواجب المعلق،
فيستحيل الحكم الفعلي من الآن بجميع أجزاء العمل التدريجي لان تعلقه بغير الجزء الأول يكون من
قبيل الواجب المعلق.
فعلى المبنى الأول، إذا تخلل مشكوك المانعية يحصل الشك في سقوط اقتضاء الامر بالنسبة إلى الجزء
اللاحق لحصوله بعد إتيان الجزء السابق وقبل الاتيان بمشكوك المانعية، فقد يقال باستصحاب اقتضاء
الامر بالنسبة إلى الجزء اللاحق ويترتب عليه لزوم إتيانه، ولكن لا يخفى أن اقتضاء الامر ليس أمرا
شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي فلا مجال للاستصحاب.
وأما على لمبنى الثاني، فتخلل مشكوك المانعية يوجب الشك في سقوط الامر المتعلق بالجزء اللاحق
لحصوله بعد إتيان الجزء السابق وقبل إتيان المشكوك. والامر مما يمكن استصحابه ويترتب عليه لزوم
الاتيان به عقلا ويحصل الامتثال.
لكن المبنى نفسه ما لا نلتزم به كما حقق في محله.
فتلخص: أن استصحاب الصحة بجميع احتمالاته لا مجال له إلا على فرض واحد لا نلتزم بمبناه،
فتدبر.
وبملاحظة هذه الشقوق في استصحاب الصحة تعرف القصور في كلمات الشيخ والمحقق النائيني
لعدم استيعابها لجميع هذه الشقوق، والأمر سهل.
هذا تمام الكلام في استصحاب الصحة عند طروء مشكوك المانعية.
318

والكلام في مقامين:
المقام الأول: في استصحابها مع الشك في مانعية الموجود أو اعتبار المفقود.
المقام الثاني: في استصحابها مع الشك في طرو القاطع المعبر عنه
باستصحاب الهيئة الاتصالية.
اما الكلام في المقام الأول: فتحقيقه: انه قد يتمسك عند الشك في أحدهما
باستصحاب صحة العبادة.
وقد نفى الشيخ في مبحث الاشتغال جريان الاستصحاب المذكور.
بتقريب: ان المستصحب إن كان صحة مجموع العمل، فهو بعد لم يتحقق، فلا
معنى لاستصحابه. وان كان صحة الاجزاء السابقة، فالمراد بصحتها لا يخلو اما
322

أن يكون موافقتها للامر الضمني أو الغيري المتعلق بها. واما أن يكون ترتب
الأثر عليها، وهو حصول المركب بها مع انضمامها إلى باقي الأجزاء والشرائط.
وهي بكلا معنييها مقطوعة البقاء، لأنها حين الاتيان بها وقعت مطابقة للامر
المتعلق بها فلا تنقلب عما وقعت عليه، كما انها بنحو لو انضم إليها تمام الأجزاء والشرائط
لحص الكل. فعدم حصول الكل الناشئ من عدم انضمام تمام ما يعتبر
فيه إليها لا يوجب الاخلال بصحتها بهذا المعنى. كما هو الحال في المركبات
الخارجية مثل: " الاسكنجبين "، فإنه لا يضر في صحة " الخل " - بما أنه جزء -
عدم انضمام باقي الاجزاء إليه.
وعليه، فلا معنى لاستصحاب الصحة.
وبعد ان ذكر هذا التقريب أورد على نفسه بما محصله: انه بناء على ما
ذكر يمتنع عروض البطلان على الاجزاء إلى الأبد، مع انا نرى وقوع التعبير
ببطلانها في النصوص والفتاوى، وهو ينافي ما ذكر.
وأجاب عنه: بأنه لا ضير في الالتزام بعروض البطلان عليها، ومعناه عدم
الاعتداد بها في حصول الكل (1). ومن هنا كان في كلامه مجال لتوهم جريان
الاستصحاب، لأنه بعد التزامه بامكان عروض البطلان والصحة على الاجزاء
بهذا المعنى، فمع الشك فيه يمكن اجراء الاستصحاب. وهو لم يتعرض لمنع
جريانه. ولكنه أشار إلى منعه بما ذكره من تعليله لعدم الاعتداد بعدم التمكن من
ضم باقي الاجزاء إليها.
وتقريب منعه بوجهين:
الأول: ان المتعبد به شرعا لا بد أن يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم
شرعي أو أمرا منتزعا عن حكم شرعي، ويمثل للأخير - وهو مركز الاستشهاد

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 389 - الطبعة الأولى.
323

- بالتعبد بالصحة، بمعنى موافقة الامر، وبمعنى الاكتفاء بالمأتي به في مقام
الامتثال. فان الشك في صحة العمل.
تارة: يكون سابقا على الاتيان - وهو المراد بها بمعنى موافقة الامر -،
بمعنى انه حين إرادة الامتثال يشك في أن مجموع هذا العمل موافق للامر أولا.
وأخرى: يكون بعد الاتيان به - وهو المراد بها بمعنى الاكتفاء بالمأتي به
في مقام الامتثال -، بمعنى انه بعد الاتيان بالعمل يشك في الاكتفاء به في الامتثال
وسقوط الامر وعدمه. وموافقة الامر ليست حكما شرعيا، ولا موضوعا لحكم
شرعي، بل هي انما تنتزع عن تعلق الامر بما يطابق المأتي به وهو أمر شرعي.
وكذلك الاكتفاء به في الامتثال، فإنه أمر عقلي يدور مدار سقوط الامر وعدمه -
وان خالف في ذلك بعض الأعاظم، فجعله بيد الشارع (1) -، ولكنه ينتزع عن
بقاء الامر وعدم بقاء وهو أمر شرعي، كما لا يخفى. والصحة بكلا هذين المعنيين
وإن لم تكن من الأحكام الشرعية ولا من موضوعاتها، ولكنها منتزعة عن أمر
شرعي. فالتعبد بها بلحاظ منشأ انتزاعها. وما نحن فيه ليس كذلك، لان الصحة
والبطلان بالمعنى المذكور - وهو الاعتداد بها وعدمه - تنتزعان عن التمكن من
ضم باقي الاجزاء إليها وعدم التمكن، وهو ليس بامر شرعي. وان كان منتزعا
عن أمر شرعي، فلا يجري الاستصحاب فيها لأنها تنتزع عن أمر غير شرعي
بل انتزاعي.
الوجه الثاني: ان المشكوك على تقدير مانعيته نسبته إلى الاجزاء السابقة
واللاحقة على حد سواء، فكما يمنع عن الاعتداد بالاجزاء السابقة كذلك يمنع
عن الاعتداد باللاحقة، فاستصحاب بقاء الاعتداد بالاجزاء السابقة لا يجدي.
في اثبات الاعتداد بالاجزاء اللاحقة وصحتها بهذا المعنى، الا بنحو الأصل

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 241 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
324

المثبت. وقد اعترض المحقق الهمداني (رحمه الله) على الشيخ (رحمه الله) في جوابه
المذكور: بأنه التزام منه باتصاف الاجزاء بالصحة والبطلان. ثم التزم بجريان
الاستصحاب بتقريبين.
الأول: انه يجري استصحاب صحة الاجزاء السابقة لنفي وجوب
الإعادة، ويترتب عليه وجوب المضي في العمل، وهو حكم شرعي وبذلك دفع
الاشكال عليه بكونه مثبتا.
التقريب الثاني: انه يجري استصحاب تنجز وجوب الاجزاء اللاحقة،
لأنه بعد الاتيان بالجزء السابق بتنجز وجوب الجزء اللاحق، فعند الاتيان
بمشكوك المانعية يشك في بقاء تنجز الوجوب وارتفاعه فيستصحب.
ولكن كلا تقريبيه غير تامين:
اما التقريب الثاني: فلانه اما ان نقول: بان وجوب المركب التدريجي
فعلي قبل الاتيان به. أو نقول: بان فعلية الامر وتنجزه تدريجية أيضا بتدريجية
الاجزاء. فعند حصول كل جزء والاتيان به يتنجز الامر بالجزء الاخر. وهكذا -
كما عليه المحقق المذكور على ما هو ظاهر كلامه في المقام -.
وعلى كلا القولين لا يصح ما ذكره.
فعلى القول الأول: فلا مجال للاستصحاب أصلا، لان الحكم الشرعي
بخصوصياته المرتبطة بالشارع ثابت قبل الاتيان بها وباق ولا شك فيه. وامكان
الاتيان بالجزء اللاحق وعدمه أمر عقلي ناشئ من حكم العقل بالتمكن من
الاتيان به عند الاتيان بما سبقه وعدم التمكن منه عند عدم الاتيان بسابقه.
325

وعلى القول الثاني (1): فلانه وان أمكن تصور الاستصحاب بالنسبة إلى
وجوب الجزء اللاحق الأول حيث كان منجزا فيستصحب، ولكنه لا ينفع بالنسبة
إلى الاجزاء الأخرى اللاحقة. وقد عرفت أن الشك فيها موجود للشك في طرو
المانع.
وتوهم: ان تنجز وجوب الجزء اللاحق بامتثال الجزء السابق، فمع الاتيان
به بعد استصحاب تنجز وجوبه يتنجز وجوب الجزء اللاحق الاخر.
مندفع: بأنه انما يتم لو كان امتثال الجزء السابق موضوعا لتنجز وجوب
الجزء اللاحق، ولكنه ليس كذلك، لان المفروض ان الاجزاء متلازمة في مقام
الامتثال ومترابطة، ولا امتثال لكل منها مستقلا وعلى حدة، والموضوعية تقتضي
استقلال كل منها بالامتثال. وانما تنجز وجوب الجزء اللاحق ملازم لامتثال الجزء
السابق - والملازمة عقلية واقعية -، فتحققه بامتثال الجزء السابق يتوقف على
القول بالأصل المثبت، لأنه امتثال ظاهري بمقتضى الاستصحاب لا واقعي.
واما التقريب الأول: فموضوع الاشكال عليه يتوقف على بيان ان وجوب
الإعادة هل هو أمر عقلي أو شرعي؟. وما علاقة وجوب المضي به؟.
وتحقيق ذلك: انه قد اختلف في كيفية تعلق الامر بالمركب الاعتباري
التدريجي إلى مسالك ثلاثة:
الأول: انه متعلق بالاجزاء مع لحاظ عنوان زائد عليها، وهو سابقية الجزء

(1) لم يرتض سيدنا الأستاذ هذا الاشكال في هذه الدورة ولذا تقدم التزامه بجريان الاستصحاب بناء على
الالتزام بتدريجية الوجوب، وإنما منع أصل المبنى، وعلله بان الامر إذا كان تدريجيا، أمكن استصحاب
بقائه بمجرد حصوله وتعلقه بالجزء اللاحق الأول، فعند وصول النوبة إلى الجزء اللاحق الثاني
يستصحب بقاء الامر، لأنه واحد تدريجي لا متعدد.
ولكن في النفس منه شئ، فان استصحاب بقاء الامر بالصلاة لا ينفع في إثبات تعلق الامر بهذا
العمل وهذا الجزء، كما التزم به في سائر الأمور التدريجية، فتدبر.
326

على الاخر ولا حقية الاخر له. فالامر الضمني المتعلق بالجزء لا يسقط الا مع
الاتيان به وحفظ عنوانه من السبق أو اللحوق، فمع عدم الاتيان بالجزء اللاحق
لا يسقط الامر بالجزء السابق، بل يبقى على ما كان عليه من اقتضاء الاتيان به
بعنوانه، ومع الشك في الاتيان بالجزء اللاحق وعدمه، يشك في كون الاتيان بالجزء
السابق بعنوانه المأخوذ فيه وعدمه. فيشك في صحته وموافقته للامر من أول
الامر. ومعه تجري أصالة عدم الصحة. ولا مجال لاستصحاب الصحة لعدم
تحققها، بل هي مشكوكة التحقق والحدوث.
وعليه، تجب إعادة هذا الجزء لبقاء أمره على اقتضائه.
المسلك الثاني: انه متعلق بذوات الاجزاء بلا لحاظ أي عنوان زائد على
ذواتها، وانه امر واحد متعلق بالجميع ويسقط بالاتيان بالكل. غاية الامر ان فيه
اقتضاءات متعددة بتعدد الاجزاء يحكم العقل بها، فعند الاتيان بكل جزء يسقط
اقتضاء الامر الخاص بذلك الجزء وهكذا، فإذا طرء المانع في الأثناء تجدد اقتضاء
الامر للاتيان بالاجزاء السابقة بنظر العقل، فتجب اعادتها حينئذ ووجوب
الإعادة بهذا المعنى عقلي.
المسلك الثالث: انه متعلق بذوات الاجزاء بلا لحاظ أي عنوان زائد على
ذاتها، وانه أمر واحد ولكنه يسقط الاتيان بكل جزء بقدره. فإذا طرء المانع في
الأثناء ثبت أمر اخر يتعلق بالمجموع بنفس الملاك الذي اقتضى الامر أولا،
لغرض بقاء الملاك مع عدم الاتيان بالمركب، فتجب إعادة الاجزاء السابقة
حينئذ. ووجوب الإعادة بهذا المعنى شرعي.
ولا يخفى ان الصحة على كلا المسلكين الأخيرين معلومة التحقق،
فيمكن تصور الشك في بقائها عند الشك في طرو المانع. بخلاف المسلك الأول
فإنها عليه مشكوكة التحقق عند الشك في طرو المانع، لان مرجع الشك في
المانعية إلى أخذ عدمه جزءا، فيشك في أن الاجزاء السابقة هل انحفظ فيها
327

عنوان السبق على الجزء الاخر أو لا؟، فيشك في أصل الصحة.
وإذا تبين ما ذكرناه، تعرف انه لا مجال للكلام في استصحاب الصحة - على
المسلك الأول -، كي يبحث في صحة ترتب عدم وجوب الإعادة عليه، لغرض
عدم اليقين بها أصلا في صورة الشك في طرو المانع. وقد عرفت أن الأصل عدم
الصحة.
نعم، يتأتى الكلام فيه على المسلكين الأخيرين لتحقق موضوعه.
الا انه حيث كان وجوب الإعادة المدعى المترتب على استصحاب
الصحة عقليا - على المسلك الثاني - لا شرعيا، لأنه يكون - عليه - عبارة عن
اقتضاء الامر الاتيان بهذا الجزء بنظر العقل، لم يجر الاستصحاب لعدم ترتب
عدم وجود الإعادة عليه كما ادعي.
نعم، بناء على المسلك الثالث يكون وجوب الإعادة شرعيا، لأنه عبارة
عن ثبوت امر اخر يشمل هذا الجزء، فيترتب على استصحاب الصحة عدم
وجوب الإعادة.
إلا أن الغرض من استصحاب الصحة وعدم وجوب الإعادة ليس هو
الا اثبات صحة الاجزاء اللاحقة - لما عرفت من أن نسبة الشك إليه نسبة إلى
الاجزاء السابقة -، ولا طريق إليه إلا اثبات ترتب وجوب المضي على عدم
وجوب الإعادة، وهو ممنوع، لان وجوب المضي أمر عقلي ينتزعه العقل من أمر
شرعي، وهو الوجوب الشرعي المتعلق بالاجزاء اللاحقة، وأمر تكويني، وهو
الاتيان بالاجزاء السابقة، فان الوجوب المتعلق بالاجزاء اللاحقة محفوظ وثابت
لا يرتفع بحال اما في ضمن الكل أو بنفسها بعد الاتيان بسابقها، فوجوب المضي
ينتزع عقلا عنه وعن الاتيان بالاجزاء السابقة، والا فهو مما لا أثر له في لسان
الشارع، وعليه فلا يترتب على عدم وجوب الإعادة.
نعم، لو كان وجوب المضي بمعنى وجوب الاتمام وحرمة الابطال، وسلمنا
328

بثبوت وجوب تكليفي للاتمام اخر غير الامر بالعبادة. كان وجوب المضي حكما
شرعيا، لأنه عبارة أخرى عن وجوب الاتمام. لكن لا يجدي ترتبه على
الاستصحاب في الاكتفاء بالعمل في مقام امتثال الامر بالعبادة، لان المضي
والاتمام انما يكون امتثالا للامر بالاتمام، لأنه حكم تكليفي مستقل - كما هو
المفروض - ويشك في كونه امتثالا للامر بالعبادة.
نعم، لو قلنا: إن وجوب الاتمام ليس حكما تكليفيا اخر غير وجوب نفس
العمل، وانما يرجع إلى تعيين امتثال الامر الطبيعي في خصوص هذا الفرد. كان
الاستصحاب مجديا، فإنه يستصحب صحة الاجزاء السابقة، فيترتب عليها
وجوب الاتمام وهو حكم شرعي معين لامتثال ذلك الامر بهذا الفرد. فإذا جئ
بباقي الاجزاء امتثل الامر بالطبيعي.
وقد نقل السيد الخوئي - كما في بعض تقاريره - عن الشيخ - بعد ما نقل
عنه: ان استصحاب الصحة بمعنى تمامية مجموع الأجزاء والشرائط لا يجري،
لأنها بهذا المعنى مشكوكة الحدوث -: أن صحة الاجزاء السابقة التي هي عبارة
عن الصحة التأهلية، بمعنى كونها قابلة لانضمام الاجزاء إليها، لا تكون محتملة
الارتفاع بل هي باقية يقينا، فلا مجال لجريان الاستصحاب الا على نحو
التعليق، بان يقال: ان الاجزاء السابقة كانت لو انضم إليها سائر الاجزاء قبل
حدوث هذا الشئ لحصل الامتثال فالآن كما كان.
ثم حكم بعد نقل هذا: بمتانة ما ذكره من عدم جريان الاستصحاب،
وانه لا يمكن جريانه الا على نحو التعليق، وهو غير حجة لا سيما في
الموضوعات، كما في المقام (1).
ولا يخفى ان ما ذكره حكاية عن الشيخ من عدم جريان الاستصحاب

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 211 - الطبعة الأولى.
329

الا على نحو التعليق يبتني على أمرين:
الأول: أن يكون الملحوظ في قابلية الاجزاء السابقة الانضمام إلى
الاجزاء الأخرى المعينة بنحو القضية الخارجية، لأنه إذا لوحظت الاجزاء
الأخرى بنحو القضية الحقيقة، وان الانضمام إلى باقي الاجزاء لا إلى هذه
الاجزاء المعينة الباقية، لا يكون هناك شك أصلا لليقين بحصول الامتثال
واستمراره - حتى بعد طرو المانع - مع انضمام الاجزاء السابقة إلى باقي الاجزاء
المعتبرة. فالشك انما يتحقق إذا لوحظت الاجزاء الأخرى بالنحو الأول.
الامر الثاني: ان يلحظ الأثر المترتب على الكل - وهو حصول الامتثال -،
فإنه إذا أضيف إلى بعض الاجزاء اقتضى تعليقها على انضمام البعض الاخر
إليها.
والا فلو لو حظ الأثر المترتب عليها فلا معنى للتعليق - كما لا يخفى -.
ومن الواضح ان هذين الامرين لا اثر لهما في كلام الشيخ، لأنه لا حظ
الاجزاء الأخرى بنحو القضية الحقيقية لا بنحو القضية الخارجية، لما عرفت من
كلامه من أن الصحة، بمعنى ترتب الأثر تتصور على نحوين:
أحدهما: ان الاجزاء السابقة لو ضم إليها تمام ما يعتبر في الكل لالتئام
الكل، وهي مقطوعة البقاء حتى مع العلم بطرو المانع.
النحو الثاني: ان الاجزاء السابقة معتد بها في الكل المعبر عنها بعدم
لغوية الاجزاء، وهي التي كانت مجالا للايراد كما عرفت.
ولا اثر - في كلا النحوين - لهذا الوجه الذي نقله عن الشيخ من لحاظ
الاجزاء السابقة منضمة إلى الاجزاء الأخرى بنحو التعيين.
كما أن الشيخ - بصريح كلامه - لا حظ الأثر المضاف إلى الاجزاء اثرها
الخاص المترتب عليها.
330

ثم (1) ما ذكره من متانة حكم الشيخ بعدم الاستصحاب لعدم جريان
الاستصحاب التعليقي لا سيما في الموضوعات. لا وجه له، لان المستصحب أمر
شرعي، فان حصول الامتثال - على رأيه - بيد الشارع. والشيخ يقول بجريان
الاستصحاب التعليقي في الاحكام وان نفاه في الموضوعات.
والمحقق العراقي (قدس سره) بعد ما بين - أن سبب الشك في الفساد
والصحة يتصور على وجوه. وأجرى الأصل في بعض الموارد في نفس السبب دون
المسبب. ومنع جريانه في نفس السبب في بعض الموارد الأخرى، وانه على تقدير
جريان الأصل فيها، فهو انما يجري في المسبب وهو الصحة وانه قد وقع الخلاف
فيه - أفاد: بان الشيخ اختار المنع عنه بتقريب: ان المراد بالصحة المستصحبة
للاجزاء ان كان هو الصحة الشأنية فهي مقطوعة البقاء، فلا مجال لاستصحابها.
وان كا هو الصحة بمعنى المؤثرية الفعلية فلا مجال لاستصحابها لعدم اليقين
بحدوثها، لأنها انما تكون عند الاتيان بالكل من الأجزاء والشرائط و المفروض
الشك في ذلك.
وأورد عليه: بأنه انما يتم لو كان ترتب الأثر عليها دفعيا عند حصول تمام
اجزاء المركب. اما مع فرض تدريجية حصوله بتدريجية الاجزاء، فكل جزء يؤثر
في مرتبة من مراتبه حتى يتم المركب، فلا وجه لمنع الاستصحاب، فإنه بعد تحقق
جزء أو جزئين يعلم بتحقق الصحة التدريجية، أو بعد طرو المشكوك يشك في
بقائها بتلاحق بقية الأجزاء والشرائط فتستصحب.

(1) بينا في دفتر الاستدراكات انه لا مجال للاستصحاب التعليقي ههنا. فراجع.
ثم إن ما ذكرناه كان بالنسبة إلى الحكم التعليقي الثابت للاجزاء اللاحقة، ومحل الكلام هنا هو
الحكم التعليقي الثابت للاجزاء السابقة. والفرق بينهما موجود، لوجود الاجزاء السابقة، فيرتفع
الاشكال الذي بيناه. ولكن نقول: ان الحكم التعليقي لا يثبت للاجزاء السابقة وحدها، فلا يصح، بل
هي منضمة إلى سائر الاجزاء، فلا يصح ان يقال: ان الاجزاء السابقة كانت لو انضم إليها سائر ما
يفيد لتحقق الامتثال بها، بل يتحقق الامتثال بها وبغيرها من الاجزاء فانتبه ولا تغفل.
331

ثم استظهر من ذلك امكان جريان استصحاب الصحة، بمعنى موافقة
الامر، فإنها تدريجية الحصول، فمع طرو المشكوك يشك في بقاء هذه الموافقة
التدريجية فتستصحب. كما يستصحب غيرها من الأمور التدريجية (1).
ولكن يرد على استصحاب الصحة بمعنى المؤثرية التدريجية - مع
الاغماض عن مثبتيته التي تتضح فيما سيأتي انشاء الله تعالى -:
أولا: ان المؤثرية ليست من الأمور الشرعية، بل هي من الأمور
التكوينية اللازمة للاجزاء.
وثانيا: ان هذه المؤثرية المترتبة على الجزء ليست هي ملاك تعلق الامر،
والا للزم الامر بكل جزء مستقل، مع أن المفروض ارتباطيتها وتلازمها، فلا كلام
في استصحابها وعدمه أصلا.
واما استصحاب الموافقة التدريجية، فيدفعه: ان الاجزاء متلازمة في مقام
الامتثال وسقوط الامر، فالاتيان بالجزء لا تحصل به الموافقة الا مع ملحوقية غيره
له وسابقيته على غيره، اما بنحو الشرط المتأخر أو اخذه بوصف الملحوقية، فمع
احتمال طرو المانع يشك في أصل الموافقة، فلا مجال لاستصحابها لأنها مشكوكة
الحدوث والتحقق.
ويتحصل من جميع ما ذكرناه: أن لا مجال لاستصحاب الصحة عند الشك
في طرو المانع بأي معنى من المعاني اخذت. وان ما ذكره الشيخ (قدس سره)
متين وتام ومسلم.
يبقى الكلام في:
المقام الثاني: وهو استصحاب الهيئة الاتصالية.
وقد بين الفرق بين القاطع والمانع، بان كليهما وان كانا يشتركان في أن

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 239 - 241 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
332

عدمها مما لا بد منه في الصلاة، الا ان عدم المانع مأخوذ متعلقا للامر بنحو
القيدية أو الجزئية. بخلاف عدم القاطع، فإنه غير متعلق للامر، وانما هو مانع من
تحقق الجزء الصوري المعتبر في الصلاة، المعبر عنه بالهيئة الاتصالية. فإنه قد
يستفاد من التعبير بالقاطع وجود جزء صوري للصلاة مضافا إلى الجزء المادي -
الذي هو اجزاؤها التي تأتلف منها.
ومن هنا يعلم انه لا بد من الكلام في جهتين:
الجهة الأولى: في صحة استصحاب الهيئة الاتصالية وعدمها.
والجهة الثانية: في تحقيق انه هل يوجد فرق بين القاطع والمانع، بحيث
يختلفان في الآثار أم انهما شئ واحد، والاختلاف بينهما اصطلاحي لا أكثر.
اما الكلام في الجهة الأولى: فقد أفاد الشيخ (رحمه الله) في مبحث
الاشتغال انه يمكن إجراء الاستصحاب على نحوين:
الأول: ان يستصحب الهيئة الاتصالية الحاصلة بوجود بعض اجزاء
الصلاة، لان الهيئة الاتصالية من الوجودات التدريجية التي تحصل بحصول بعض
اجزائها، وهي وجود واحد عرفا وان كان متعددا عقلا وذاتا، فيمكن استصحابها
عند الشك في بقائها.
الثاني: ان يستصحب قابلية الاجزاء السابقة للاتصال بالاجزاء اللاحقة،
فإنه قبل طرؤ محتمل القاطعية كانت القابلية متحققة فيها، وبعد طروه يشك في
بقائها فتستصحب.
ثم أورد على النحو الأول: بان المراد من الهيئة الاتصالية المستصحبة، ان
كان طبيعي الهيئة الاتصالية، فهو لا يجدينا نفعا. وان كان الهيئة الاتصالية
الحاصلة بين الاجزاء السابقة، فهي مقطوعة البقاء. وان كان الهيئة الاتصالية بين
الاجزاء السابقة واللاحقة فهي مشكوكة الحدوث.
وأورد على النحو الثاني: بان استصحاب القابلية لا يبعد أن يكون من
333

الأصول المثبتة.
وأجاب عن الايراد على الأول: بان الاجزاء السابقة واللاحقة وجود
واحد بنظر العرف - كما يظهر من تشبيهه له باستصحاب الكربة -، فيمكن
استصحاب الهيئة الاتصالية فيه عند تحقق بعض اجزاءه (1).
أولا: ان الاجزاء متباينة ذاتا، ووحدتها بالاعتبار، بمعنى اعتبار الاتصال
بينها الذي تحققه هاهنا محل الكلام، فكيف تستصحب الهيئة الاتصالية باعتباره!.
وثانيا: ان المستصحب في الأمور التدريجية انما هو الامر التدريجي بمفاد
كان التامة فلا يتكفل الاستصحاب ثبوت الوجود التدريجي بمفاد كان الناقصة.
وعليه، فاستصحاب الهيئة الاتصالية انما يجدي لو كان المعتبر وجود
طبيعي الهيئة الاتصالية، مع أنه ليس كذلك، لان المعتبر انما هو الاتصال بين
اجزاء الصلاة المأتي بها، والاستصحاب لا يثبته وانما يدل على بقاء الهيئة
الاتصالية. اما انها متحققة في هذا الفرد الخاص فلا يدل عليه الا بالملازمة.
وقد تقدم الكلام مع المحقق العراقي في ذلك في مبحث استصحاب الأمور
التدريجية. وبينا ان الوصف التدريجي إذا كان معروضه تدريجيا - كالنهارية لذات
النهار، والهيئة الاتصالية لاجزاء الصلاة وغير ذلك - لا يتكفل الاستصحاب
سوى اثبات الوصف بمفاد كان التامة، فلا يجدي فيما إذا كان الأثر مترتبا على
مفاد كان الناقصة، فراجع تعرف. وان كانت جميع الايرادات في استصحاب
النهارية لا تتأتى فيما نحن فيه، فلا حظ.
وأجاب عن الايراد على النحو الثاني: بأنه لما كان المقصود الأصلي من
ثبوت القابلية عدم وجوب استئنافها، كان الحكم بثبوتها في قوة الحكم بعدم

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 290 - الطبعة الأولى.
334

وجوب استئنافها.
ولا يخفى ان هذا - على تقدير تماميته - لا يمنع من كون الأصل مثبتا،
لأنه لا ينافي وجود الواسطة العرفية بين المستصحب والحكم الشرعي، وان كان
الحكم الشرعي هو المقصود الأصلي من المستصحب.
فتبين مما ذكرنا عدم صحة جريان استصحاب الصحة بمعنييه عند الشك
في طرؤ القاطع.
واما الكلام في الجهة الثانية: فهو تارة يكون في مرحلة الثبوت والامكان.
وأخرى في مرحلة الاثبات والوقوع.
واما الكلام في مرحلة الثبوت: فقد نفي المحقق الأصفهاني امكان اعتبار
الهيئة الاتصالية. بتقريب: ان الهيئة الاتصالية بمعنى محال وبمعنى آخر لا
يجدي، إذ لا يكون في البين فرق بين القاطع والمانع.
لأنه ان أريد من الهيئة الاتصالية الهيئة الاتصالية الواقعية التي هي
عبارة عن الحركة من محل آخر، المعبر عنها بالحركة من المبدأ إلى المنتهى،
فهو محال، لأنها - على تقدير كونها في جميع المقولات - انما تكون في مقولة واحدة
لا بين مقولات متعددة، كالهيئة الاتصالية الحاصلة بين المشي أو الكلام أو أمثالهما.
- والصلاة - كما لا يخفى - مؤلفة من مقولات متعددة، فلا يمكن تحقق الهيئة
الاتصالية الواقعية فيها.
وان أريد منها الهيئة الاتصالية الاعتبارية، بمعنى اعتبار الشارع
الاتصال بين هذه الاجزاء على نحو يؤخذ عدم القاطع موضوعا لهذا الاعتبار:
فهو لا يجدي، لأنه مع تحقق القاطع في الأثناء تنفي الهيئة الاتصالية من أول
الاجزاء، لانتفاء اعتبارها مع تحققه، لانتفاء موضوعه، وهو عدم القاطع، لا أنه يكون
هناك اتصال بين الاجزاء السابقة وينتفى استمراره. وعليه فمع طرو
مشكوك القاطعية لا يجري استصحاب الهيئة الاتصالية للشك في تحققها
335

وحدوثها.
فلا يكون هناك فرق بين القاطع والمانع حينئذ، لان المانع ما كان وجوده
مخلا بالعمل بكامله ورافعا لاثر الكل (1).
ولكن ما ذكره (قدس سره) من عدم اعتبار الهيئة الاتصالية ثبوتا غير
تام، لامكان تصوير الهيئة الاتصالية بمعنى ثالث ممكن ومجد. وهو ان يقال: بان
المراد من الهيئة الاتصالية هو توالي الاجزاء وتعاقبها بنحو يعد مجموعها واحدا
بنظر العرف، وهو معنى واقعي لا اعتباري، كي يقال إنه مقيد بعدم القاطع، كما أنه
ليس بمحال كما لا يخفى. وعليه فمع تحقق القاطع لا ينتفي الاتصال من
رأس، بل انما ينتفي استمراره ودوامه، فيمكن استصحابه عند طرو مشكوك
القاطعية، ويتحقق الفرق بين القاطع والمانع.
وهذا المعنى مما يمكن استفادة ارادته من حكم الفقهاء ببطلان الصلاة
بالفعل الماحي لصورتها كالسكتة الطويلة أو الأكل والشرب، مما لم يصرح
الشارع باعتبار عدمه، فإنه يكشف عن وجود هيئة صورية للصلاة عرفية
يعتبرها الشارع، بحيث يرى العرف انقطاعها عند السكوت الطويل أو الأكل
في الأثناء ويكون حكم الشارع بقاطعية الحدث وأمثاله مما لا يدرك العرف
قاطعيته كالسكتة والأكل، تنبيها على أنه مثلهما في محو صورة الصلاة وقطعه لها
باعتبار ذلك منه.
واما الكلام في مرحلة الاثبات: فقد نفى المحقق النائيني اعتبار الهيئة
الاتصالية بوجهين:
الأول: انه لم يثبت لدينا اعتبار هيئة اتصالية وجزء صوري في الصلاة،
بل ليس الثابت الا اعتبار عدم بعض الأمور فيها.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 290 - الطبعة الأولى.
336

- ووافقه المحقق الأصفهاني. فقد أفاد: ان الالتزام بالقاطع بالمعنى
المقابل للمانع بلا ملزم، بل القاطع سنخ من المانع، وانما يطلق عليه القاطع إذا
وقع في الأثناء، لأنه رافع لما سبق ودافع لما لحقه، ولذا لو وقع في أول العمل كان
دافعا محضا، كما أنه إذا وقع بعد العمل كان رافعا محصا، فالحدث المقارن للصلاة
مانع دفاع والواقع في أثنائها قاطع، والواقع بعد الوضوء ناقص ورافع لاثره (1) -.
الوجه الثاني: انه على تقدير استفادة اعتبار هيئة اتصالية في الصلاة، إلا أنه
يحتمل أيضا أن يكون هذا القاطع مما قد اعتبر عدمه بنفسه، فيكون مانعا
كما يكون قاطعا. وحينئذ فاستصحاب الهيئة الاتصالية لا يجدي في نفي مانعية
الموجود الا بالملازمة، بل لا بد من الرجوع إلى الأصول من براءة أو اشتغال
على الخلاف في مسالة الأقل والأكثر (2).
ولكن الوجه الأول غير تام، فان التعبير بالقاطع والنهي عنه بما هو كذلك
يستفاد منه اعتبار جزء صوري في الصلاة المعبر عنه بالهيئة الاتصالية، ومن ذلك
حكم الفقهاء بابطال الفعل الماحي لصورة الصلاة، ولا أظن ان المحقق النائيني
لا يلتزم بذلك.
هذا ولكن الانصاف ان يقال: ان القطع وان كان يتوقف على ثبوت
الاتصال للشئ فعلا أو شانا، بان يكون من شانه أن يتصل باجزاء لا حقة فلا
يتصل، إلا أنه كما يصدق على مجرد الفصل بين الاجزاء وإزالة الجزء الصوري
كذلك يصدق على ما يمنع من لحوق الاجزاء السابقة، ولذا يقال ان زيدا قطع
كلام عمرو إذا منعه من الاستمرار في الكلام. وعليه فاعتبار القاطع في مثل
الصلاة كما يمكن أن يكون مضرا بالهيئة الاتصالية المعتبرة - لاعتبار الموالاة في

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 290 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول 4 / 235 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
337

الصلاة - كذلك يمكن أن يكون لاجل امتناع تحقق الاجزاء اللاحقة عند تحققه
لاعتبار عدمه في الاجزاء. والمفروض ان مشكوك القاطعية لا يقطع الهيئة
الاتصالية تكوينا، والا لم يحصل شك فيه. بل كان نظير الحدث. وعليه
فاستصحاب الهيئة الاتصالية لا ينفع في نفي الشك، فتدبر جيدا.
وقد قرب السيد الخوئي اعتبار عدم القاطع في الصلاة، بحيث يكون له
حيثيتان: حيثية القاطعية وحيثية المانعية. بأنه اما أن لا يعتبر عدمه في العمل أو
يعتبر. والأول خلف لأنه مساوق لعدم اعتبار الهيئة الاتصالية والمفروض
اعتبارها. وعلى الثاني يثبت المدعى (1).
ولكنه أولا: منقوض بلوازم الواجب من اعدام ووجودات غير متعلقة
للامر.
وثانيا: ان هذا التقريب، وهو الترديد بين الاطلاق والتقييد انما يتأتى في
صورة ما إذا كان الاتيان بالقيد وعدمه ممكنا، لا في صورة ما إذا كان تحققه
قهريا، كما في ما نحن فيه، باعتبار الهيئة الاتصالية وتوقفها على عدمه، فالالتزام
بثبوت حيثية المانعية للقاطع بنحو الجزم بلا وجه. نعم احتمالها - كما افاده النائيني -
لا مدفع له. وعليه فلا يكون الاستصحاب مجديا للاحتياج إلى أصالة البراءة
في نفي المانعية، ومع جريان البراءة لا حاجة إلى الاستصحاب، فلا حظ.
بقي (2) في المقام شئ وهو: انه كثيرا ما يعبر في النصوص بالناقض، فهل
هو قسم آخر على حدة غير المانع والقاطع، أم انه يرجع إلى أحدهما؟.

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 122 - الطبعة الأولى.
(2) خلاصة الكلام في الناقض، إن الظاهر من لفظ الناقض كونه رافعا للأثر السابق الموجود.
وعليه فالشك في ناقضية الموجود في الأثناء ملازم للشك في ارتفاع الأثر السابق بعد تحققه.
وعليه فكلما كان الأثر السابق من الأمور الشرعية أو موضوع الحكم الشرعي كان مجرى
الاستصحاب. وإلا فلا مجال لاستصحابه، فتدبر.
338

والظاهر من كلام المحقق الهمداني (رحمه الله) ان فيه جهة القطع، ولكنه
يفترق عن القاطع في أنه يرفع مؤثرية الاجزاء السابقة في الأثر المترتب عليها
على تقدير انضمام سائر الاجزاء إليها.
ومن ذلك جزم بجريان الاستصحاب عند الشك في طرو الناقض، وانه
مما لا يتأتى عليه الاشكال كما يتأتى على غيره. بتقريب: انه عند الشك في
طروه، كالشك في ناقضية الحدث الأصغر للغسل، يشك في خروج الاجزاء
السابقة عن صفتها التي كانت عليها، وهي تأثيرها في الأثر لو انضم إليها سائر
الاجزاء، فيستصحب هذا الحكم الشرعي التعليقي. ويترتب عند حصول المعلق
عليه، وهو انضمام الاجزاء السابقة (1).
وما ذكره (قدس سره) بظاهره غير تام لوجهين:
الأول: انه لا فرق بين الناقض والمانع أصلا، بل كل منهما اعتبر عدمه
في العمل واخذ متعلقا للامر، ولم يلحظ في اعتبار عدم الناقض رافعيته للأثر
المترتب على الاجزاء، بدليل التعبير به في نقض بعض الآثار الاعتبارية
كالطهارة، مما يكشف عن اعتبار عدمه بالخصوص في تحقق الطهارة.
الوجه الثاني: ان المراد من الحكم الشرعي المستصحب تعليقيا، ان كان
نفس الأثر المترتب كالطهارة في المثال، فهذا الاستصحاب جار في جميع موارد
الشك في طرو المانع، وقد تقدم الاشكال فيه مفصلا. وان كان تأثير هذه الاجزاء
في الأثر كما هو الظاهر، فالتأثير ليس من الأحكام الشرعية، لما تقرر في محله
من أن السببية ليست من المجعولات الشرعية. كما أنه ليس بموضوع لحكم
شرعي، لان الامر انما تعلق بذوات الاجزاء ولم يتعلق بها بما هي مؤثرة، كي تكون
المؤثرية موضوعا لحكم شرعي فتستصحب.

(1) المحقق الهمداني هامش. فرائد الأصول / 290 - الطبعة الأولى.
339

وعلى تقدير تعلق الامر بها بما هي مؤثرة، فهي حينئذ وان كانت مما يصح
استصحابها لكونها موضوعا لحكم شرعي، إلا أنه كما أخذت المؤثرية في موضوع
الامر بالاجزاء السابقة كذلك اخذت في الاجزاء اللاحقة. وهي مشكوكة عند
طرو مشكوك الناقضية، لما عرفت من أن نسبة الشك إلى جميع الاجزاء السابقة
واللاحقة على حد سواء، فاستصحاب مؤثرية الاجزاء السابقة لا يجدي في ترتب
الأثر للشك في مؤثرية الاجزاء اللاحقة، وهي مشكوكة التحقق.
والمتحصل، من جميع ما ذكرنا: عدم صحة جريان استصحاب الصحة
عند الشك في طرو المانع أو القاطع أو الناقض.
واما التنبيه الثاني (1) - من التنبيهات التي ذكرها الشيخ في الرسائل -
فالكلام فيه حول استصحاب الوجوب عند تعذر بعض اجزاء المركب، وأساس
الشك في الوجوب هو تردد اخذ الجزء في المركب بين أن يكون في خصوص حال
الاختيار والامكان. وأن يكون بنحو مطلق: فيسقط الوجوب عند تعذر الجزء
على الثاني لتعذر المركب دون الأول.
فمع الشك في بقاء الوجوب عند تعذر بعض الاجزاء هل يصح جريان
استصحابه أو لا يصح؟. باعتبار كون الوجوب الثابت للاجزاء الباقية قبل
التعذر غير الثابت لها بعده - على تقدير ثبوته واقعا -، فالمتيقن ثبوته سابقا
مقطوع الارتفاع، والذي يراد اثباته بالاستصحاب مشكوك الحدوث.
وقد ذكر الشيخ (قدس سره) في رسائله وجوها ثلاثة لجريان
الاستصحاب في المورد:
الوجه الأول: ان يستصحب مطلق المطلوبية الثابتة في السابق لهذه
الاجزاء ولو في ضمن مطلوبية الكل، لكون أهل العرف لا يرونها مغايرة في

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 293 - 294 - الطبعة الأولى.
340

الخارج لمطلوبية الاجزاء في نفسها، فيكون من القسم الثالث من استصحاب
الكلي.
وقد أورد عليه:
أولا: بان الامر بالجزء ليس أمرا غيريا.
وثانيا: ان استصحاب كلي الوجوب لا يجدي نفعا ما لم يثبت به انه
الوجوب النفسي، لان الوجوب الغيري لا تجب موافقته، والغرض من اثبات
الوجوب هو الامتثال والإطاعة.
وثالثا: بان الوجوب الغيري فرد مباين للوجوب النفسي، وليس
اختلافهما من قبيل الاختلاف في المراتب كي يصح الاستصحاب (1).
ولكن الايرادين الأوليين انما يردان لو ثبت كون مراده من مطلق
المطلوبية القدر المشترك بين الوجوب النفسي والغيري.
الا انه وان كان ظاهرا من كلامه في مبحث الاشتغال، غير أنه غير ظاهر
منه في مبحث الاستصحاب، فيمكن ان يريد القدر المشترك بين الوجوب
النفسي الاستقلالي والضمني - كما لعله الظاهر من كلامه - فيتعين الوجه الثالث
في الايراد عليه، وهو كون هذا الاستصحاب من القسم الثالث من استصحاب
الكلي، والوجوبان متغايران عرفا، فلا يصح الاستصحاب.
الوجه الثاني: ان يستصحب الوجوب النفسي المتعلق بالباقي بنحو
المسامحة العرفية، حيث يرى العرف ان موضوع الوجوب النفسي باق على
حاله، ووجود الجزء وفقده من قبيل الحالات المتبادلة للمستصحب، نظير
استصحاب بقاء كرية الماء الناقص منه شئ.
والاشكال فيه يتضح ان شاء الله تعالى فيما سيأتي من بيان اعتبار بقاء

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 444 - الطبعة الأولى.
341

الموضوع في صحة الاستصحاب، وان هذه المسامحة فيما نحن فيه وفي استصحاب
الكرية مجدية أو لا فانتظر.
الوجه الثالث: ان يستصحب الوجوب النفسي الثابت سابقا، ليثبت به وجوب
هذه الأجزاء الباقية، نظير استصحابه وجود الكر في الاناء لا ثبات كرية الموجود
فيه (1).
وقد يتوهم: بان هذا من القسم الثالث من استصحاب الكلي، لان
الوجوب النفسي سابقا متعلق بمجموع الاجزاء، فمع فقد أحد الاجزاء يشك
في اتصاف الباقي بوجوب نفسي، وهو فرد آخر غير ذلك الفرد الثابت سابقا،
فاستصحاب كلي الوجوب النفسي بلحاظ الشك في بقائه لاحتمال حدوث فرد
آخر منه يكون من القسم الثالث من استصحاب الكلي.
ولكنه يندفع: بان الشك في كون الواجب بالوجوب النفسي هو هذه
الأركان مع ما يتمكن من باقي الاجزاء أو مع باقي الاجزاء مطلقا، فالشك في
بقاء كلي الوجوب النفسي انما هو لتردد الفرد المحقق له بين ما هو باق قطعا وما
هو مرتفع قطعا، لا من جهة احتمال حدوث فرد آخر له مع العلم بارتفاع الفرد
السابق، فيرجع هذا الوجه من الاستصحاب إلى القسم الثاني من استصحاب
الكلي.
ولكن الاشكال فيه واضح، لأنه من الاستصحابات المثبتة كما لا يخفى.
تذييل: قد يفرق في جريان استصحاب الوجوب - على تقدير جريانه -
بين تعذر الجزء بعد دخول الوقت وتنجز التكليف فيجري الاستصحاب المذكور.
وبين تعذره قبله فلا يجري لعدم ثبوت الوجوب واليقين به، بل الشك في أصل
حدوثه وتحققه لا في بقائه.
وقد نفى الشيخ (رحمه الله) الفرق بين الحالين، لان المستصحب هو

(1) هذا الوجه ذكره المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية 2 / 297 - الطبعة الأولى.
342

الوجوب النوعي المنجز على تقدير اجتماع الشرائط لا الوجوب الشخصي
المتوقف على تحقق الشرائط فعلا (1).
والمراد من استصحاب الحكم الكلي، ما كا اجراءه من وظيفة المجتهد
فقط، وهو لا يتوقف على فعلية الخطاب وتحقق الشرائط خارجا.
نعم، لابد فيه من تحقق الموضوع وتحقق الشرائط واختلال بعضها
ليحصل الشك في البقاء، كاستصحاب المجتهد نجاسة الماء المتغير الزائل عنه
التغير، فإنه لا يتوقف على وجود الماء المتغير خارجا، بل يكفي فيه فرض وجود
الماء المتغير بهذا النحو فيجري فيه الاستصحاب، فاستصحاب الوجوب مثله
يفرض فيه وجود الموضوع وتحقق الشرائط.
الا انه لا وجه لقياس ما نحن فيه باستصحاب نجاسة الماء المتغير، لان
المجتهد حين يفرض الموضوع فيه يحصل لديه اليقين والشك فيصح اجراؤه
الاستصحاب، بخلاف ما نحن فيه، فإنه مع فرض الموضوع فيه لا يحصل اليقين
بحدوث الوجوب لما عرفت من الشك فيه. وقد وجه المحقق النائيني (قدس
سره) - كما في تقريرات الكاظمي - جريان الاستصحاب فيه قياسا على
الاستصحاب في الماء المتغير: بان فرض وجود الموضوع لا يتوقف على فرض
تمكن المكلف من الجزء في أول الوقت وطرو العجز بعد انقضاء مقدار منه، فان
المفروض ان التمكن من الجزء المتعذر ليس من مقومات الموضوع، والا لم يجر
الاستصحاب رأسا (2)..
ولكن كلامه لا يخلو عن خلط، فان الموضوع الذي يجب فرضه هو
الموضوع العقلي الذي هو عبارة عن كل ما له دخل في الحكم من جزء وشرط.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 294 - الطبعة الأولى. حيث يظهر من اطلاق كلامه نفي
الفرق.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول 4 / 515 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
343

والموضوع الذي يعتبر بقائه في اجراء الاستصحاب هو معروض الحكم، فتخرج
عنه الشرائط والقيود. ولا يخفى ان التمكن من الجزء المتعذر وإن لم يكن من
مقومات الموضوع بالمعنى الثاني - بنظر العرف -، الا انه من مقوماته بالمعنى
الأول، وقد عرفت أن الموضوع المفروض وجوده انما هو الموضوع بالمعنى
الأول.
وبالجملة: فما ذكر من التفصيل لا اشكال عليه، فلا بد من الالتزام به.
إلى هنا ينتهي بنا الكلام عن تنبيهات الاستصحاب.
344

خاتمة: في شروط الاستصحاب
قد ذكرت للعمل بالاستصحاب شروط:
الأول: بقاء الموضوع.
وفسر الشيخ (قدس سره) الموضوع: بأنه معروض المستصحب.
ولعله لدفع ما قد يتوهم من: ان الالتزام ببقاء الموضوع في باب
الاستصحاب ينافي ما ذكر في بيان الموضوع في غير هذا الباب من انه جميع ما
أخذ مفروض الوجود في مقام فعلية الحكم، بارجاع كل قيد وشرط اخذ في
الخطاب إليه، فإنه إذا اعتبر بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب لا يتحقق
الشك أصلا، لان الشك انما يكون مع تغير حالة أو صفة من صفات الموضوع،
فمع اعتبار بقائه بخصوصياته وقيود لا يحصل الشك في بقاء الحكم، بل يعلم
ببقائه قطعا.
ويندفع هذا التوهم: بما ذكره الشيخ من: ان المراد بالموضوع في هذا
الباب المعتبر بقاؤه معروض الحكم المستصحب، بمعنى ما كانت نسبته إلى
المستصحب نسبة المعروض إلى العارض، وهو غير ذلك الموضوع، فالزوال مثلا
345

غير دخيل في موضوع الوجوب في هذا الباب، لان الوجوب لا يعرض عليه،
كما لا يخفى. بل انما يعرض على الموضوعات الخارجية، مع أنه دخيل فيه في ذلك
الباب.
كما فسر بقائه: بتحققه حال الشك على نحو ثبوته، وتحققه حال اليقين
من وجوده الخارجي أو وجوده الذهني التقرري. وبذلك يندفع الاشكال على
كلية اعتبار بقاء الموضوع بالنقض بموارد الشك في نفس الوجود، فإنه لا
اشكال في جريان الاستصحاب فيه مع عدم احراز الوجود، فإنه ناشئ عن توهم
إرادة بقاء الموضوع بوجوده الخارجي والغفلة عن إرادة الأعم، وان المراد تحققه
في اللاحق بنحو الذي كان معروضا للمستصحب في السابق. هذا محصل ما أفاده
(قدس سره) في بيان المراد من بقاء الموضوع (1).
وظاهره يدل على أن المعتبر في استصحاب المحمولات الثانوية تحقق
المعروض ووجوده خارجا، فمع الشك فيه يمتنع جريان الاستصحاب.
وهذا يقتضي عدم جريان الاستصحاب عند الشك في بقاء صفة كانت
متقومة بموضوع يشك في بقائه الآن إذا كان الأثر مترتبا على بقاء الصفة بمفاد
كان التامة، لابقاء اتصاف الموصوف بمفاد كان الناقصة، كالشك في بقاء قيام
زيد أو عدالته مع الشك في وجود زيد. مع أن الشيخ وغيره لا يلتزمون بعدم
جريانه، بل لا مقتض للالتزام به. فظاهر العبارة يستلزم الايراد عليه بما عرفت.
والذي يظهر من الشيخ: انه جعل اعتبار بقاء الموضوع من فروع اعتبار
وحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة.
وقد خالفه صاحب الكفاية في البيان، فذكر: ان المعتبر هو بقاء الموضوع،
بمعنى اتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة، بمعنى ان ما كان متعلق اليقين

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 399 - الطبعة الأولى.
346

سابقا لا بد أن يكون هو متعلق الشك، فإذا كان المتيقن قيام زيد فلا بد أن يكون
هو المشكوك لا قيام عمرو. واما بقاؤه في الخارج فغير معتبر في الاستصحاب،
وانما هو معتبر في مقام ترتب الأثر إذا كان الوجود الخارجي دخيلا فيه (1).
ولا يتوجه عليه الايراد المذكور على الشيخ، لان المعتبر من اتحاد
المشكوك مع المتيقن متحقق في الموارد المذكورة، فان المشكوك هو قيام زيد أو
عدالته، وهو عين المتيقن، فيجري الاستصحاب وان شك في بقاء المعروض.
ولكنه (قدس سره) في حاشيته على الرسائل، أرجع عبارة الشيخ إلى ما
ذكره في الكفاية، فجعله تفسيرا لعبارته لا وجها آخر (2).
وحينئذ لا يرد عليه ما عرفت، ولكنه خلاف الظاهر من العبارة جدا. فإنه
لا حاجة معه إلى ما ذكره من اعتبار الوجود الخارجي أو التقرري دفعا للاشكال
على كلية اعتبار بقاء الموضوع بالانتقاض بموارد الشك في نفس الوجود. فان
المعتبر في الاستصحاب - على هذا التفسير - متحقق في هذه الموارد، لان
المشكوك وهو وجود زيد - مثلا - عين المتيقن في السابق، فالاشكال على هذا
مندفع بنفسه.
واما ما ذكره في ذيل كلامه من استصحاب العدالة على تقدير الحياة. فهو
لا يؤيد حمل المحقق الخراساني لعبارته على ما ذكره في الكفاية، لما ستعرفه من
تفسير العبارة بشكل لا يتنافى مع احراز الحياة، بل بتكفل هذه الجهة فانتظر.
وبعد كل هذا اتضح: بان المعتبر هو اتحاد متعلق الشك واليقين موضوعا
ومحمولا، والدليل على اعتبار هذا واضح، لأنه مما يتوقف عليه صدق النقض
والابقاء المعتبر في الاستصحاب، فان رفع اليد عن الحالة السابقة انما. يعد نقضا

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 427 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول / 229 - الطبعة الأولى.
347

إذا كان متعلق الشك عين متعلق اليقين، كما أن عدم رفع اليد حينئذ. يعد ابقاء.
اما مع اختلاف متعلقهما، فلا يعد رفع اليد نقضا ولا عدمه ابقاء، كي يكون
مشمولا لأدلة الاستصحاب. فإذا كان المتيقن سابقا قيام زيد والمشكوك قيام
عمرو، فالحكم بقيام عمرو لا حقا لا يعد ابقاء للقيام السابق، كما أن عدم الحكم
به لا يعد نقضا له.
وهذا مما لا اشكال فيه، وانما الاشكال فيما ذكره الشيخ (رحمه الله) من:
الدليل العقلي على اعتبار بقاء الموضوع الذي محصله: انه عدم بقاء الموضوع
اما ان يبقى العرض بلا موضوع وهو محال كما لا يخفى. واما أن يكون له
موضوع آخر وهو أيضا محال، لاستحالة انتقال العرض من معروضه لتقومه
به (1).
ويرد هذا البرهان: بان مفاد الاستصحاب جعل حكم مماثل للحكم
السابق بحسب الظاهر، ولكنه مغاير له واقعا، الا انه معنون بعنوان كونه ابقاء
لذلك الحكم لا أكثر، وحينئذ فعلى تقدير كون الموضوع المستصحب لا حقا غيره
سابقا لا يكون ذلك من نقل العرض من موضوع إلى آخر، بل من اثبات حكم
آخر لموضوع آخر فالتفت.
وقد تصدى المحقق العراقي لدفع الايراد على الشيخ بتأويل كلامه،
الذي محصله: استحالة بقاء العرض بلا موضوعه الأول، وذلك بارجاعه إلى كون
المورد من موارد الشك في استعداد المستصحب للبقاء وقابليته للاستمرار، فلا
يجري الاستصحاب حينئذ لاختصاص مسلك الشيخ بمورد يكون الشك فيه
من جهة الشك في الرافع. ومحصل ما ذكره في هذا المقام: ان عدم بقاء العرض
بلا معروضه الأول لاجل امتناع بقائه بلا موضوع أو انتقاله من موضوعه إلى

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 400 - الطبعة الأولى.
348

موضوع آخر، مرجعه إلى عدم استعداد العرض القائم به للبقاء وقابليته
للاستمرار عند عدم موضوعه. وحينئذ فمع الشك في بقاء الموضوع يشك في
استعداد العرض القائم به للبقاء، فلا يكون المورد مشمولا لأدلة الاستصحاب
على رأي الشيخ (1)، فجعل الدليل العقلي الذي ساقه الشيخ مقدمة لبيان
صيرورة المورد حينئذ من موارد الشك في المقتضى الذي لا يجرى فيه
الاستصحاب، فيتركز توجيهه على أمرين:
الأول: عدم امكان بقاء العرض بلا موضوعه الأول المستحصل من
استحالة بقائه بلا موضوع أو في موضوع آخر.
الثاني: ان نتيجة هذا هو الشك في قابلية العرض للبقاء وعدم احراز
استعداده للاستمرار عند الشك في بقاء الموضوع.
والأول مسلم لا كلام لنا فيه. وانما الكلام في الامر الثاني، فإنه لا نسلم
كون نتيجة ذلك أو مرجعه إلى كون الشك في بقاء الموضوع يلازم الشك في
استعداد العرض القائم به للبقاء مطلقا، بل الامر يختلف باختلاف منشأ الشك
في بقاء الموضوع: فإن كان من جهة عدم احراز استعداده للبقاء، بان كان
الموضوع بحيث لو خلي وطبعه غير باق إلى هذا المقدار - الذي يفسر به عدم
احراز المقتضي في المقام -، كان الشك في بقاء العرض من جهة الشك في
استعداده للبقاء طبعا. وان كان من جهة احتمال وجود الرافع، بان كان الموضوع
بحيث لو خلي وطبعه يستمر في وجوده لولا حدوث حادث زماني، كان الشك في
بقاء العرض من جهة وجود الرافع أيضا لاحراز قابليته للبقاء باحراز قابلية
موضوعه له، فلا بد من ملاحظة موارد الشك في بقاء الموضوع، وانه على أي نحو،
فإنه يختلف كما عرفت.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 4 - القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
349

بالجملة: فاستحالة بقاء العرض بلا موضوعه الأول لازم أعم لعدم
استعداد للبقاء، لأنه قد يكون ناشئا عن وجود الرافع.
وبهذا تبين عدم ارتباط ما ذكره الشيخ ههنا بما ذكره هناك. ولو سلمنا
ارتباطه وتماميته في نفسه، فلا يمكننا حمل كلام الشيخ عليه، ضرورة ان مرجعه
إلى عدم صدق: " لا تنقض " على المورد، لعدم صدق النقض، فالأدلة قاصرة عن
شمولها له، وهذا هو ما ذكره في الشق الثاني من الترديد الذي ظاهره كونه قسيما
للشق الأول من حيث المحذورية في قوله: " اما لاستحالة انتقال العرض، واما
لان المتيقن سابقا وجوده في الموضوع السابق والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع
الجديد ليس نقضا للمتيقن السابق ".
فالعبارة تأبى حمل الشق الأول على ما ذكره المحقق العراقي، لأنه حينئذ
يشترك مع الشق الثاني في المحذورية، مع ظهورها في كونه محذورا مستقلا
وبرأسه.
وبالجملة: ما ذكره (قدس سره) في مقام تصحيح ما أفاده الشيخ غير تام.
وعليه (1)، فيتجه ما أوردنا على الشيخ.

يمكن دفع الاشكال المزبور وتصحح استدلال الشيخ (ره) بتقريب: أن إذا فرض أن المأخوذ هو
العرض المتقدم بمعروضه بنحو مفاد كان الناقصة كعدالة زيد - لا ذات العرض بوجوده التام كالعدالة
فإنه لا يفرض لها موضوع خاص كي يجب إحرازه، بل الاستصحاب يجري في وجودها فهي معروض
المستصحب نظر وجود زيد - كان مقتضى ذلك ملاحظة النسبة بين العرض ومعروضه واتصاف
المعروض بالعرض الخاص، ومن الواضح إن النسبة من المعاني الحرفية التي تقوم بالطرفين وحقيقتها
كيفية من كيفيات الطرفين - كما تقدم بيانه مفصلا في محله - وهي مما لا يكاد يتعلق بها اللحاظ مستقلا
بل أخذها مستلزم لملاحظة الطرفين بشكل خاص كما أنه لا بد فيها من فرض تحقق الطرفين. فاخذ
عدالة زيد في الموضوع مرجعه إلى ملاحظة زيد العادل، فلا يمكن أن تتحقق عدالة زيد بلا فرض
وجود زيد، وعلى هذا البيان تقوم دعوى ن الموضوع إذا كان مؤلفا من العرض ومحله فلا بد أن يكون
العرض مأخوذا بنحو الاتصاف ومفاد كان الناقصة لا التامة.
وعليه: فعدالة زيد في ظرف الشك - بعد فرض ضرورة فرض الموضوع للعدالة بحيث يشار إليه ويقال إنه مشكوك العدالة - إما أن تفرض بلا موضوع وهو محال لما عرفت من كونها ملحوظة بمفاد
كان الناقصة لا التامة. وإما أن يفرض لها موضوع آخر وهو من انتقال العرض من موضوع إلى
موضوع آخر، إذ المفروض أن المشكوك هو نفس عدالة زيد ففرض كون تلك العدالة لغير زيد هو
فرض الانتقال المزبور. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: إن الشك في عدالة غير زيد ليس شكا في بقاء عدالة زيد فلا يصدق النقض
على رفع اليد عن الحالة السابقة.
وبهذا البيان ظهر أن محط نظر الشيخ هو مقام الشك الذي هو موضوع التعبد الاستصحابي، لا
مقام التعبد الطارئ على الشك، كما حمل عليه كلامه وأورد عليه بان الوجود التعبدي غير الموجود
الواقعي، فتنبه.
350

واعلم أن الشيخ (قدس سره) بعد ما اعتبر العلم ببقاء الموضوع في
جريان الاستصحاب. تعرض (1) إلى بيان حكم بعض الصور التي يشك فيها
ببقاء الموضوع من جريان الاستصحاب في الحكم أو الموضوع وعدم جريانه.
وقد تعرض لهما الآخرون ممن لم يعتبروا سوى اتحاد القضية المتيقنة
والمشكوكة.
وهي فروض ثلاثة:
الفرض الأول: ما إذا كان الشك في العرض غير مسبب عن الشك في

(1) تعرضه كان بعنوان الجواب عن الاشكال الذي أورده على نفسه بعنوان: " إن قلت... " ولا يخفى أن كيفية
السؤال والجواب لا تخلو عن إجمال، لان المراد بالموضوع الذي يريد المستشكل إجراء الاستصحاب
فيه:
إن كان هو موضوع الحكم الشرعي فالسؤال يكون غير مرتبط بما قبله لان البحث فيما قبله عن
إحراز معروض المستصحب. والمفروض فيه أن لا يكون موضوعا للأثر الذي يترتب على عرضه وإلا
كان هو مجرى الاستصحاب لا عرضه. وكان هو مستصحبا لا معروضه.
وإن كان المراد به هو معروض المستصحب فالسؤال يرتبط بما قبله لكن الجواب بتفصيله لا يرتبط
به بل كان ينبغي أن يكون الجواب إن الاستصحاب في المعروض لا يجري لعدم كون الاستصحاب في
العرض المترتب عليه من الآثار الشرعية.
ولعله (قده) ذكر الاشكال بهذا العنوان تمهيدا لبيان الأقسام الثلاثة من موارد الشك في المعروض،
والأمر سهل.
351

موضوعه، كالشك في عدالة زيد المجتهد مع الشك في حياته.
وقد أفاد الشيخ بأنه لا نحتاج في إجراء استصحاب العدالة إلى احراز
الحياة، لان المستصحب هو العدالة على تقدير الحياة، لكون الموضوع هو زيد
على تقدير الحياة. هذا مجمل ما ذكره الشيخ (1).
وقد وقع الكلام بين الأعاظم في مقام تفسيره.
ومنشأ ذلك أمران:
الأول: ما يتراءى من مخالفة ما ذكره هنا لما ذكره أولا من اعتبار بقاء
الموضوع، حيث ذكر أنه لا يحتاج إلى إحراز الحياة في استصحاب العدالة.
الامر الثاني: انه إذا كان الأثر مترتبا على احراز العرض وموضوعه،
كجواز الائتمام - مثلا -، فاستصحاب العدالة على تقدير الحياة لا يجدي في ترتب
الأثر ما لم تحرز الحياة، واحرازها بالاستصحاب لا يجدي في ترتب العدالة، لان
ترتبها عقلي تكويني لا شرعي.
والظاهر من العبارة بدوا: ان المستصحب أمر على تقدير بان يستصحب
فعلا العدالة على تقدير الحياة، نظير استصحاب نجاسة الماء المتغير فعلا على
تقدير زوال تغيره.
وقد حمل المحقق الخراساني في حاشيته على الرسائل كلام الشيخ على
إرادة استصحاب عدالة الفعلية ولو لم تحرز الحياة فعلا - بناء على تفسيره
بقاء الموضوع باتحاد متعلق الشك واليقين، وهو متحقق فعلا، لان متعلق الشك
عدالة زيد الحي وهو عين المتيقن -.
هذا إذا كان الأثر مترتبا على مجرد إحراز العدالة، فإنه يترتب حينئذ
بالاستصحاب المذكور.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 400 - الطبعة الأولى.
352

واما إذا كان ترتبه متوقفا على احراز الحياة أيضا، فيجري استصحاب
الحياة، وينضم أحدهما إلى الاخر. ويترتب الأثر.
واما لم يحمله على ما يظهر منه بدوا من إرادة استصحاب أمر على تقدير،
لما يرد فيما إذا توقف ترتب الأثر على احراز الحياة من: انه باستصحاب
الحياة لا يثبت التقدير المذكور الا بناء على القول بالأصل المثبت، لان ترتب
الامر المقدر على ما علق عليه ترتب عقلي لا شرعي. فلا تحرز العدالة
باستصحاب الحياة (1).
ولكن ما ذكره في تفسيره لكلام الشيخ مردود لوجهين:
الأول: ان كلام الشيخ كالصريح في أن المعتبر هو احراز بقاء الموضوع
عند إرادة استصحاب عرضه ومحموله.
الثاني: انه إذا كان ترتب الأثر متوقفا على احراز الحياة أيضا، فلا
يجدي استصحاب الحياة في ترتبه، لان مرجع ذلك إلى كون الأثر يترتب على
ثبوت الحي العادل، فالعدالة والحياة مأخوذتان في موضوع الحكم بنحو التوصيف
لا التركيب، كما هو شان كل عرض ومحله إذا اخذا في الموضوع للحكم، فحيث إن
الحياة موضوعها الجسم الموجود، فيمكن استصحاب حياة هذا الجسم
الخاص. ولكن استصحاب العدالة على ما قرره - أعني: استصحاب عدالة الحي -
لا يثبت اتصاف الموجود بالعدالة بضم استصحاب الحياة الا بنحو الأصل
المثبت كما عرفت.
واستصحابها بمفاد كان الناقصة - أعني استصحاب عدالة هذا الموجود -
غير ممكن، لعدم احراز بقاء موضوعه وهو الحياة.
ولعل المحقق النائيني في كلامه ناظر إلى هذه الجهة وتصحيحها. ولا بد في

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 331 - الطبعة الأولى.
353

توضيح كلامه من بيان شئ وهو: انه قد أشكل على الاستصحاب في
الموضوعات بان الحكم لا يترتب عليها مباشرة وانما يترتب على عنوان مضاف
إلى الموضوع، فاستصحاب الموضوع لا يثبت تحقق العنوان المذكور، مضافا إلى
موضوعه، كي يترتب عليه الحكم الا بنحو الأصل المثبت، مثلا الحرمة مترتبة
على شرب الخمر وليست على الخمر نفسه، فاستصحاب خمرية الخمر لا يثبت
ان شرب المستصحب شرب للخمر الا على القول بالأصل المثبت.
وقد أجيب عن هذا الاشكال بأجوبة لا تخلو من نظر.
وعمدة الجواب: هو الالتزام بان موضوع الحكم مركب من الوصفين وهما:
الشرب والخمرية - مثلا -، وهما وصفان عرضيان يتواردان على موضوع واحد
وهو المائع، فلم يؤخذ في موضوع الحرمة الشرب المتصف بالخمرية، بل شرب مائع
وخمريته، فإذا أحرز أحدهما بالوجودان والاخر بالأصل، التام الموضوع وترتب
الحكم.
إذا اتضح هذا، فمحصل ما ذكره النائيني ان الموضوع فيما نحن فيه قد
اخذ مركبا، فالعدالة والحياة اخذا بنحو التركيب في الموضوع لا بنحو التوصيف.
وشان كل الموضوعات المركبة أن يكون الحكم مترتبا على أحد الجزئين على
تقدير الجزء الاخر، فإذا أحرز الجزء الاخر تم الموضوع وثبت الحكم. وهذا هو
معنى استصحاب العدالة على تقدير الحياة (1).
وبهذا التوجيه لكلامه يتوجه أن يكون تفسيرا لكلام الشيخ، إلا أنه لا
يخلو عن نظر لامرين:
الأول: ان الملحوظ في كلام الشيخ هو احراز الموضوع، وكلامه دائر
حول هذا الامر وما ذكره خارج عن ذلك.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 570 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
354

الامر الثاني: انه لا يمكن ان يلتزم بما ذكره، لأنه قد بنى على أن
الموضوع إذا كان مؤلفا من العرض ومحله كانا مأخوذين بنحو التوصيف لا
التركيب. وليست العدالة عارضة على الذات كي تكون في عرض الحياة - كما
ذكره قده -، بل العدالة في طول الحياة، لان موضوعها الذات الحية لا مطلق
الذات، كما لا يخفى.
وحينئذ فالذي ينبغي ان يقال في توجيه كلام الشيخ: ان بقاء الموضوع
انما يعتبر احرازه فعلا إذا كان ترتب الحكم متوقفا على احرازه واثباته، كما إذا
كان دخيلا في موضوع الحكم، اما مع عدم توقفه على ذلك فلا يعتبر احراز
الموضوع.
وحينئذ ففي صورة ما إذا كان زيد على تقدير مماته جائز التقليد، وعلى
تقدير حياته يشك في عدالته، فيمكن استصحاب العدالة على تقدير الحياة، بان
يؤخذ ظرف الحياة ظرفا للمستصحب، فالاستصحاب فعلا للعدالة في فرض
الحياة.
فإن كان حيا واقعا فهو. وان كان ميتا تقليده كما هو مقتضى
الفرض. فكلام الشيخ ناظر إلى هذه الصورة وهذا الفرض، وهو ما إذا لم يكن
ترتب الأثر متوقفا على احراز الموضوع، ويكون هذا من قبيل الاستدراك على
كلية اعتبار بقاء الموضوع. ويكون المراد من العبارة ما هو الظاهر منها من كون
المستصحب امرا على تقدير.
بل يمكن ان يقال: ان الذي يعتبر هو بقاء الموضوع في ظرف
المستصحب وفعلية التعبد الاستصحابي، فلو فرضنا ان ظرف المتعبد به غير
ظرف التعبد، كان اللازم بقاء الموضوع في ظرف المتعبد به. وعليه ففيما نحن فيه
بما أن الاستصحاب انما هو للعدالة في ظرف الحياة وعلى تقديرها، ففعلية التعبد
الاستصحابي انما تكون على تقدير الحياة، فلو كان زيد ميتا فلا استصحاب ولا
355

مستصحب. اذن فالموضوع محرز في ظرف فعلية التعبد، غاية الامر لا تحرز
بالفعل فعلية التعبد لعدم احراز الحياة، ولكن على تقدير الحياة يكون هناك تعبد
ومعه يكون هناك موضوع، فلا يكون هذا الفرض استدراكا كما بين لعدم تخلف
الشرط فيه. فتدبر.
وهذا التفسير سالم عن الاشكال كما لا يخفى، الا انه لا يجدي فيما إذا
كان الأثر متوقفا على احراز الموضوع كالحياة في المثال، لان استصحاب الحياة
لا يجدي في اثبات اتصاف زيد بالعدالة كي يترتب الأثر، لان استصحاب
اتصاف زيد بالعدالة في ظرف الحياة انما يثبت تحقق الاتصاف في ظرف تحقق
الحياة واقعا، فمفاده من قبيل جعل الملازمة من الاتصاف بالعدالة والحياة
الواقعية. فاحراز الحياة ظاهرا بالاستصحاب لا يترتب عليه ثبوت الاتصاف إلا
على القول بالأصل المثبت.
وبتقريب أوضح: ان التعبد بالموضوعات مفاده التعبد بحكم مماثل للحكم
الواقعي المترتب عليه، فالتعبد بالعدالة في ظرف الحياة مرجعه إلى التعبد بالحكم
المماثل في ظرف الحياة. ولكن ترتبه على الحياة بواسطة العدالة وهي أمر غير
شرعي. وحينئذ فباستصحاب الحياة لا يترتب الحكم المماثل المتعبد به، لان ترتبه
بواسطة غير شرعية، فيبتني على القول بالأصل المثبت، فالتفت.
وتحقيق الكلام في هذا الفرض باجمال: إن الأثر...
تارة: يكون مترتبا على مجرد وجود الوصف والحكم بمفاد كان التامة من
دون لحاظ اتصاف الموضوع به.
وأخرى: يكون مترتبا على وجوده النعتي الذي هو مفاد كان الناقصة بان
يلحظ اتصاف الموضوع به.
وعلى الثاني أما أن يكون ترتب الأثر متوقفا على وجود الموضوع الفعلي
بحيث لا يترتب الا إذا كان الموضوع متحققا في الخارج. واما أن لا يكون
356

كذلك، بل يكفي في ترتبه فرض وجود الموضوع وتقديره، وذلك كالمثال السابق..
فإن كان الأثر على النحو الأول - أعني: مترتبا على الوصف، بمفاد كان
التامة وبوجوده النفسي - فلا اشكال في جريان استصحاب بقاء الوصف
كاستصحاب العدالة ويترتب عليه الأثر. وان كان على النحو الثالث، فلا كلام
في جريان استصحاب الوصف - بوجوده النعتي - على تقدير الموضوع، ويترتب
عليه الأثر فعلا، كاستصحاب عدالة زيد على تقدير الحياة. وبعبارة أصح:
كاستصحاب اتصاف زيد بالعدالة في ظرف الحياة.
لكنه لا يجري إذا كان على النحو الثاني، لان الاستصحاب على تقدير
لا يثبت الموضوع، واستصحاب الموضوع معه لا يستلزم فعلية التقدير لان
الترتب عقلي لا شرعي كما عرفت.
ومن هنا يظهر الاشكال فيما ذكره السيد الخوئي - كما في بعض تقريراته - (1)
من جريان الاستصحاب في الاتصاف في بعض فروع الفرض: بان يستصحب
تحقق العدالة لزيد أو زيد المتصف بالعدالة. ونظر له بما إذا شك في بقاء الزوجية
بين امرأة وزوجها الغائب لاحتمال موته، فإنه يجري استصحاب بقاء الزوجية.
فان الشك في بقاء زيد العادل مرجعه إلى شكوك ثلاثة: تعلق أحدها ببقاء زيد.
والآخرة ببقاء العدالة. والثالث ببقاء الاتصاف، واستصحابه غير ممكن لعدم
احرازه بقاء موضوعه المتقوم به.
واما ما ذكره من التنظير، فهو خارج عن محل الكلام، لأنه فيما إذا كان
الشك في الموضوع التكويني المستصحب لا الشرعي، وترتب الزوجية على حياة
الزوج ترتب شرعي لا عقلي. وحينئذ فمع وجود الموضوع والشك فيها
تستصحب، كاستصحابها بالإضافة إلى المرأة، ومع الشك فيه يستصحب بقاؤه

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 231 - الطبعة الأولى.
357

وتترتب عليه الزوجية، كما يستصحب بقاء الزوج وتترتب عليه احكام زوجيته.
الفرض الثاني: ما إذا كان الشك في الحكم ناشئا ومسببا عن الشك في
بقاء الموضوع مع العلم بحدود الموضوع. نظير ما لو علم بان الموضوع للنجاسة
هو التغير وشك في بقاء تغير الماء وعدمه. ففي مثل هذه الصورة يجري
الاستصحاب في الموضوع ويترتب حينئذ الحكم بلا كلام، ولا مجال لاستصحاب
الحكم مع عدم جريانه في الموضوع بعد الفراغ، من كون الوصف مقوما.
الفرض الثالث: ما إذا كان الشك في العرض مسببا عن الشك في بقاء
الموضوع للشك في مفهوم الموضوع وتردده بين ما هو باق ومرتفع.
وقد مثل له الشيخ بمثالين: أحدهما: ما إذ تردد موضوع النجاسة بين
أن يكون هو الماء المتغير ولو آنا ما أو المتغير فعلا. والمثال الثاني: ما إذا تردد
موضوع النجاسة بين أن يكون هو الكلب بوصف انه كلب، بان يكون الموضوع
متقوما بالصورة الشرعية، أو المشترك بين الكلب وما يستحال إليه من الملح أو
غيره، بان يكون الموضوع هو الجامع بين الحالتين (1).
ولكن المثال الأول خارج عن مورد الشبهة المفهومية، لان الشك ليس
في مفهوم التغير ولا في الماء، بل انما هو في كون الوصف - أعني: التغير -
هل هو من قبيل الحالات للموضوع أو من المقومات له؟، فيندرج تحت الشبهة
الحكمية. بخلاف المثال الثاني فان الشك في مفهوم الكلب وانه ما هو؟.
وعلى كل فقد حكم الشيخ في هذا الفرض بعدم جريان الاستصحاب لا
في الموضوع ولا في الحكم.
اما استصحاب ذات الموضوع، فهو لا يثبت انه هو الموجود الخارجي
المشكوك، نظير استصحاب الكرية في عدم اثبات كرية الموجود.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 400 - الطبعة الأولى.
358

واما استصحاب الموضوع بما هو موضوع فهو من قبيل استصحاب
الحكم، لان وصف الموضوعية انما يصح استصحابه مع احراز معروضه وهو
الذات.
واما استصحاب الحكم، فهو لا يجري، لعدم احراز موضوعه فلا يعلم
كون رفع اليد عن اليقين السابق نقضا كي تشمله أدلة الاستصحاب.
وقرب آخرون المنع عن الاستصحاب في الموضوع: بأنه ليس لدينا شك
راجع إلى الموجود الخارجي، ففي مثال الكلب الصورة النوعية مقطوعة الزوال،
والجسم بدونها مقطوع التحقق ولا شك فيه. ومع عدم تعلق الشك بالموجود
الخارجي فما هو الذي يستصحب حينئذ؟، وانما الشك في نفس المفهوم، وهو لا
يصحح الاستصحاب (1).
ولكن ما ذكره الشيخ وغيره من عدم جريان الاستصحاب في الموضوع
غير تام بهذا التقريب، فان الذي يراد استصحابه هو انطباق المفهوم على هذا
الموجود الخارجي، يعني كلبية هذا الجسم، فإنه قبل زوال الصورة النوعية كان
المفهوم منطبقا على هذا الجسم، وبعد زوالها يشك في بقاء انطباقه عليه
فيستصحب. وتوضيح ذلك: ان اللفظ لا يوضع بإزاء الوجود الخارجي ولا الوجود
الذهني، وانما يوضع بإزاء المفهوم والماهية المنطبق على الموجود. فلفظ الكلب -
مثلا - المأخوذ في موضوع الحكم موضوع للمفهوم المردد بين ما يكون متقوما
بالصورة النوعية وما لا يكون، بل كان هو الجامع بين الحالتين. وهذا المفهوم
المأخوذ في موضوع الحكم كان منطبقا على هذا الجسم وهذا الموجود الخارجي
حين اتصافه بالصورة النوعية. وبعد زوال الصورة النوعية يشك في بقاء انطباقه
على هذا الموجود فيستصحب ويترتب الحكم عليه، فيقال: كان هذا كلبا والآن

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 234 - الطبعة الأولى.
359

كما كان.
وبهذا التقريب لجريان الاستصحاب لا يبقى مجال لما ذكره الشيخ في مقام
المنع من أن استصحاب ذات الموضوع لا يثبت موضوعية الموجود الا بنحو
الأصل المثبت، لان المستصحب ليس هو ذات الموضوع، بل انطباق الموضوع
- وهو الكلبية - على هذا الموجود.
كما أن ما ذكره غيره من عدم الشك في نفس الموجود، لا وجه له حينئذ،
لان الذي يراد استصحابه هو الانطباق وهو متعلق للشك وليس بمعلوم.
فكلا الوجهين في تقريب المنع لا يرتبط بأصل المدعى.
ولكن هذا التقريب أيضا غير تام، لان الخصوصية إذا كانت مأخوذة في
مقام التسمية والموضوع له كانت من مقومات الموضوع، فإذا كانت الصورة
النوعية مأخوذة عند وضع اللفظ لمفهوم الكلب، بمعنى ان المفهوم كان هو المتقوم
بالصورة النوعية فعند انتفائها ينتفي موضوع الاطباق، لأنه يكون حينئذ
الوجود بصورته النوعية. فمع الشك في دخل هذه الخصوصية - أعني الصورة
النوعية مثلا - في المفهوم المسمى والموضوع له اللفظ، يشك عند انتفائها في بقاء
موضوع الانطباق ومعروضه، لاحتمال أن يكون هو الوجود المتقوم بالصورة
النوعية لا الأعم. فلا يصح استصحاب الانطباق لعدم العلم ببقاء موضوعه، فلا
يعلم انه ابقاء للحالة السابقة، بل يحتمل أن يكون اسراء للمستصحب من
معروض إلى آخر.
وبتقريب اخر يقال: بعد فرض كون الخصوصية إذا كانت دخيلة في
المسمى والموضوع تكون مقومة للمسمى بحيث ينتفي بانتفائها. كان المفهوم
مرددا بين المتباينين واجد الخصوصية والأعم، لان التردد بين العام والخاص تردد
بين المتباينين، فالواجد مباين للأعم مباينة الشئ بشرط شئ والشئ بشرط
لا، وحينئذ فالمفهوم المردد يرجع إلى الفرد المردد. ويكون المورد من
360

مصاديق الفرد المردد. وقد حقق في ذاك الباب عدم جريان الاستصحاب فيه،
فلا يجري في المفهوم المردد الذي هو محل الكلام.
ولعله هذا مراد ما ذكره المحقق النائيني في أجود التقريرات من: انه لا
يجري الاستصحاب لان الامر دائر بين ما هو معلوم البقاء وما هو معلوم
الارتفاع. وإن لم يكن بمكان من وضوح المراد.
وعليه، يتجه القول بالمنع عن جريان استصحاب الموضوع في الشبهات
المفهومية، الا انه بالنسبة إلى استصحاب الوجود مسلم لا اشكال فيه. واما
بالنسبة إلى استصحاب العدم فيمكن ان يقال بجريانه في موارده، كما فيما إذا
شك في تحقق المغرب عند سقوط القرص لتردد مفهومه بين ذهاب الحمرة
المشرقية وبين سقوط القرص، فإنه يستصحب عدم تحققه بأي مفهوم كان، لأنه
قبل سقوط القرص كان معلوم العدم وبعده يشك في تحققه فيستصحب عدمه (1).
ولكن بعد ما عرفت من رجوع المفهوم المردد إلى الفرد المردد وكونه من
مصاديقه، وعرفت سابقا عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردد مطلقا وباي
وجه كان، فلا مجال لهذا القول خصوصا فيما ذكره من المثال، فان المغرب من
أوضح مصاديق الفرد المردد لتردده بين المتباينين.
كما يظهر مما عرفته عدم صحة القول بجريان الاستصحاب في المفهوم
المردد إذا كان الأثر مترتبا على وجوده بمفاد كان التامة، لا وجوده في ضمن
الموجود الخارجي، حيث إنه كان متيقن الحدوث والآن مشكوك البقاء
فيستصحب ويترتب الأثر، لان المحذور في عدم جريان الاستصحاب فيه ليس
ما ذكره الشيخ من أن استصحاب ذات الموضوع لا يثبت موضوعية الموجود
الذي مرجعه جعل المورد من موارد القسم الثاني من استصحاب الكلي، كي يقال

المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 447 - الطبعة الأولى.
361

بان هذا لا يمنع إذا كان الأثر مترتبا على الذات بمفاد كان التامة. وانما هو كون
المورد من موارد استصحاب الفرد المردد، وهو ممنوع الجريان مطلقا كما حقق في
محله.
وبالجملة: ما يذكر ويحقق في مسالة الفرد المردد من عدم جريان
الاستصحاب فيه مطلقا أو في الجملة بعينه جار هنا، لان المورد من مصاديق تلك
المسألة.
ويتحصل مما ذكرناه: عدم جريان الاستصحاب موضوعا في المفهوم
والعدم وجودا وعدما.
وإذا لم يجر الاستصحاب في الموضوع، فهل يجري في الحكم أو لا؟. ظاهر
الاعلام المحققين اطلاق الحكم بعدم جريانه.
ولكن مقتضى التحقيق هو التفصيل بين ما إذا كانت الخصوصية المنتفية
المقومة للمسمى بحيث لا يوجب انتفاؤها انتفاء معروض الحكم وموضوعه بنظر
العرف، وان كانت دخيلة في المسمى والموضوع له، بان كانت في نظره دخيلة
بنحو العلة لثبوت الحكم، وحصول الشك من جهة التردد في كونها علة حدوثا
وبقاء للحكم أو حدوثا فقط. وبين ما إذا كانت بحيث يوجب انتفاؤها انتفاء
الموضوع بنظره. فيجري على الأول دون الثاني، وسيتضح هذا عند بيان المراد
من الموضوع العرفي. انشاء الله تعالى فانتظر.
وبعد كل هذا نقول: ان الشك في الحكم لا يتحقق الا من جهة تبدل
بعض الحالات التي كان عليها الموضوع، حيث يشك في أن اخذ هذه الحالة
والصفة في موضوع الخطاب والحكم هل هو من جهة كونه من المقومات له
فينتفي الموضوع بانتفائها، أو ليس إلا لكونها من الحالات المتبادلة فلا ينتفي
الموضوع بانتفائها؟. فلا بد من وجود ما يعين الموضوع ويكون هو الحكم في هذا
المضمار. وهو أحد أمور ثلاثة:
362

الأول: العقل (1)، ومقتضاه رجوع جميع القيود المأخوذة أو الواردة في

(1) هذا ما أفاده الشيخ (ره) وتقريبه بوجهين:
الأول: ما أشير إليه في المتن المأخوذ من كلام الشيخ (ره) وتوضيحه: من أن القضية ذات أجزاء
ثلاثة: الموضوع والمحمول والنسبة، والقيود لا يمكن أن ترجع إلى النسبة لأنها معنى حرفي، وهي غير
راجعة إلى الحكم لان خلاف المفروض إذ المفروض أن الحكم غير مشروط، وقد يمتنع رجوع بعضها
إليه، فيتعين أن تكون راجعة إلى الموضوع.
وفيه: أن من القيود ما يكون سببا لعروض العرض على معروضه من دون أن يكون مقوما
للمعروض، كالعلل الغائية، فعدمه يوجب تخلف عدم العروض من دون مساس بنفس المعروض، وقس
على ذلك العوارض والمعروضات الخارجية من الأجسام ونحوها.
الثاني: ما ذكره المحقق الأصفهاني (ره) من أن جميع القيود والجهات بنظر العقل جهات تقييدية لا
تعليلية، فيتعين أن تكون قيودا للموضوع.
وفيه: أن هذا لو سلم فإنما يسلم في الاحكام العقلية المبتنية على التحسين والتقبيح لا في الأحكام الشرعية
الصرفة غير المبتنية على الاحكام العقلية أصلا.
مع أنه غير مسلم في الاحكام العقلية أيضا كما تقدم البحث في ذلك في بعض مباحث مقدمة الواجب،
فراجع.
إذن فما أفيد من رجوع جميع القيود إلى الموضوع غير مسلم.
ولو سلم ذلك فهل يمتنع الاستصحاب في مطلق الاحكام - كما اخترناه في المتن - أو يختص بغير
مورد الشك في الرافع كما هو ظاهر الشيخ؟ ولذا أورد عليه بأن ما ذكره بعنوان اللازم الباطل لتحكيم
النظر العقلي في الموضوع مما التزم به فيما سبق. وبعبارة أخرى أنه لا ثمرة - على مبناه - في الترديد بين
النظر العقلي وغيره بعد الالتزام باختصاص الاستصحاب حتى بناء على غير النظر العقلي بمورد الشك
في الرافع.
وقد حمل المحقق النائيني (ره) - كما في تقريرات الكاظمي - مراد الشيخ بالرافع هنا على غير مراده
بالرافع هناك وإن المراد به هنا أخص من المراد به هناك، فراجعه تعرف. وعلى ذلك لا يتوجه عليه
الايراد المزبور.
لكن يرد على المحقق النائيني..
أولا: أنه لا قرينة على ما ذكره أصلا وهو لم يذكر وجها يقربه، فهو جمع تبرعي.
وثانيا: إن الرافع بالمعنى الذي ذكره يكون عدمه أيضا مأخوذا في الموضوع ولأي سبب لا يكون
من قيود الموضوع؟.
ولكن الذي يبدو لنا أن مراد الشيخ (ره) من الرافع ههنا ما كان عدمه مأخوذا قيدا لاستمرار الحكم لا الموضوع مثل الملاقاة التي يكون عدمها مأخوذا قيدا لاستمرار الحكم بالطهارة، والطلاق الذي
يكون عدمه مأخوذا قيدا لاستمرار الزوجية وهكذا، فان بعض الاحكام حين تحصل بأسبابها تستمر
حتى يحصل ما يرفعها بلا أن يكون عدم الرافع مقوما وقيدا للموضوع بل قد يكون الموضوع متصرم
الوجود كالعقد في الزوجية والملكية ونحوهما.
وفي قبال ذلك القيد الذي يكون راجعا للموضوع نظير العلم الذي يكون عدمه قيدا لموضوع
الأحكام الظاهرية الثابتة بالأصول العملية.
وعليه ففيما إذا كان القيد من قيود استمرار الحكم فمع الشك في ارتفاعه لا شك في بقاء الموضوع،
بل الموضوع لم يتغير وإنما الشك في بقاء الحكم فيستصحب.
وقد رأينا ما أفاده المحقق النائيني في أجود التقريرات يشير إلى ما ذكرناه من عدم تقيد الموضوع
بعدم الرافع وإنما هو قيد الحكم لكن بيانه لا يخلو عن إجمال.
ومن الغريب أن السيد الخوئي نقل عنه ما جاء في تقريرات الكاظمي ورد عليه بما مر.
وكيف كان فما ذكره الشيخ بالتوجيه الذي عرفته لا إشكال فيه، فتدبر.
363

الخطاب إلى الموضوع بحيث ينتفي بانتفائها، لأنه ليس في القضية الشرعية
سوى المحمول والموضوع، فترجع القيود إلى الموضوع فمع الشك في دخل قيد
أو حال في الحكم، فحيث يرجع إلى الموضوع لو كان في الواقع دخيلا، فعند
انتفائه يشك في بقاء الموضوع.
ولازم هذا عدم جريان الاستصحاب في مطلق الاحكام، لان الشك فيها
لا يكون الا من جهة الشك في أن القيد الزائل دخيل في ترتب الحكم أو ليس
بدخيل - إذ لو علم بعدم دخله لا يحصل الشك ويعلم بقاء الحكم، وكذا إذا علم
بدخله فإنه يعلم بارتفاعه -، ومعه يشك في بقاء الموضوع. ويختص جريانه
بالموضوعات، لان الشك فيها قد يحصل على ما هي عليه من الخصوصيات التي
كانت عليها حدوثا.
وإن ألحق الشيخ بها ما إذا كان الشك في الحكم الشرعي من جهة الشك
في وجود الرافع أو رافعية الموجود، لان الشك فيه لا يرجع إلى الشك في بقاء
الموضوع، كما إذا كان الحكم بالطهارة مترتبا على ما غسل بالكر، وغسل ثوب
364

به، ثم شك في ملاقاته للنجس أو في كون ملاقيه نجسا، فان الموضوع باق على
ما كان، فتستصحب طهارة الثوب (1).
ولكنه غير تام، لان مرجع جعل مانعية شئ، أو شرطيته إلى تقييد
الموضوع به واخذه في موضوع الحكم وجودا أو عدما، فموضوع الطهارة هو ما
غسل بالكر ولم يلاق نجسا، فمع الشك في الملاقاة يشك في بقاء الموضوع.
الامر الثاني: الدليل، بان يكون الميزان ما يفهمه العرف من الدليل وان
الموضوع هو هذا، فيفرق بين ما إذا اخذ الوصف بنحو الشرط، نحو: " الماء إذا
تغير ينجس ". وما إذا اخذ بنحو النعت، نحو: " الماء المتغير ينجس ". فيكون
الموضوع في الأول هو ذات الماء، فيجري الاستصحاب مع الشك في مدخلية
التغير. وفي الثاني هو الماء المتلبس بالتغير فينتفي الحكم بانتفائه.
الامر الثالث: العرف، والمراد به ما يفهمه العرف بحسب مرتكزاته من
قياسات الاحكام والموضوعات في قبال ما يفهمه بحسب متفاهم الألفاظ وفي
مقام المحاورة الذي هو مفاد تحكيم الدليل، فقد يفهم العرف بحسب لفظ
الدليل كون الموضوع للحكم هو الامر الكذائي، ولكن بحسب مرتكزاته من
مناسبة الحكم وموضوعه، يرى عدم تبدل الموضوع عند زوال بعض صفاته
المقومة بحسب الدليل، وان الحكم ثابت للأعم، فهو يرى بحسب الدليل ان
الحنطة هي موضوع الحلية، ولكنه بحسب مرتكزاته يرى ان عروض الحلية لا
يختص بالحنطة بل يعمها ويعم الدقيق، كما يرى بحسب مرتكزاته ان موضوع
النجاسة هو ذات الماء وان التغير يؤثر فيه بنحو العلية. ويشترط أن لا يكون
الفهم العرفي المذكور من القوة بحيث يكون من القرائن المتصلة أو المنفصلة
الموجبة لانقلاب ظهور اللفظ من معناه وانعقاده في المفهوم العرفي، أو المانعة عن

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 360 - 361 - الطبعة الأولى.
365

حجيته في ما هو ظاهر فيه، والا رجع الامر الثاني - أعني: لسان الدليل -.
وبما ذكرنا (1) يندفع ما قد يقال: من انه ما المراد من جعل النظر العرفي

(1) تحقيق الكلام في هذا المقام أن يقال: إن الحكم الشرعي بناء على ما هو الصحيح من كونه غير الإرادة
والكراهة، بل هو أمر اعتباري يتحقق بالانشاء القولي أو الفعلي لا واقع له سوى مقام الانشاء والدليل
بمعنى أن الانشاء والدليل في مقام الاثبات ليس كاشفا عن الحكم بوجوده الواقعي بل هو محقق للحكم
وسبب لتحقق الاعتبار، فنسبة الانشاء إلى الحكم ليست نسبة الدال إلى المدلول بل نسبة السبب إلى
المسبب، وليس له وجود واقعي منفصل عن الانشاء ويكون الانشاء طريقا إليه كما يظهر من بعض
التعبيرات، كالتعبير بمقام اللب والواقع ومقام الانشاء والاثبات فان ذلك ليس بسديد. وإذا كان الامر
كذلك فلا محصل لدعوى تشخيص موضوع الحكم بطريق العقل أو العرف قبالا للدليل، بل الحكم
يدور مدار الانشاء وما قصده المنشئ بانشائه لا يتعدا بتاتا وأي دخل للعقل في ذلك؟ وكيف يتصور
حكم العقل بان موضوع الحكم كذا إذا فرض أن الانشاء عل خلافه؟ بل حكم العقل يناط بكيفية
الانشاء الذي هو سبب الحكم. فإنه يدرك المسببات من طريق أسبابها.
ولا سبيل له لادراك مناطات الاحكام كي يستطيع للحكم بدخالة قيد وعدم دخالة آخر ومثل ذلك
يقال في نظر العرف، فإنه لا أساس له، إذ ليس الحكم من أحكام العرف كي يكون له نظر فيه، فلا
معنى لان يكون له نظر في الحكم الشرعي يخالف الدليل.
نعم قد يكون له نظر خاص في باب الألفاظ أو من ناحية ارتكازاته بنحو يكون موجبا لتغيير ظهور
الدليل البدوي إذا كان بمنزلة القرينة المتصلة، أو موجبا لعدم حجيته إذا كان بمنزلة القرينة المنفصلة
المانعة عن الحجية أو الكاشفة عن عدم الظهور كما في المقيد المنفصل على التحقيق، لكنه نظر يرجع
إلى تشخيص المراد والمقصود بالدليل لا أنه في قبال الدليل وما يراد به.
ومثله يقال في بعض أحكام العقل التي يقيد بها الدليل كتقييد الاحكام بالقدرة أو الشعور والتمييز،
فإنه يرجع إلى تشخيص أن المراد بالدليل رأسا هو المقيد.
وبالجملة: كل ما يقصده المنشئ هو المتبع والكاشف عنه الدليل الانشائي ولو بضميمة حكم العقل
أو العرف وقرينتيهما المتصلة أو المنفصلة.
وأما غير ذلك فلا محصل له، بل عرفت أن العقل والعرف لا معنى لان يكون له نظر في قبال ما
يحكيه الدليل عن قصد المنشئ، فالمقابلة غير سديدة.
وإذا عرفت ما بينا فنقول: ليس المراد بالموضوع الذي يعتبر بقاؤه بكل ما يكون دخيلا في تحقق الحكم،
بل ما كان معروضا للحكم فان بقاؤه هو المحقق لوحدة القضيتين وصدق البقاء والنقض.
ولا نريد بالمعروض هو المعنى المصطلح له، وذلك لان معروض الحكم - بالمعنى المصطلح - هو
خصوص متعلقه كالاكرام في مثل " أكرم زيدا " أما متعلق المتعلق كزيد في المثال فليس معروضا للحكم
الذي يراد استصحابه، فلو أريد من المعروض هو المعنى المصطلح لزم أن لا يعتبر بقاء زيد في
استصحاب وجوب الأكارم وهو واضح البطلان. إذن فالمراد بالمعروض كل ما كان الحكم مرتبطا به وله
إضافة إليه وتعلق به ولو كان يكن محمولا عليه.
فمثل زيد يكون كذلك فان الحكم يضاف إليه بتوسط متعلقه، وعلى هذا الأساس يعتبر بقاؤه
ويكون انتفاؤه مخلا بصدق البقاء والنقض. وتشخيص ارتباط الحكم وإضافته.
تارة: يكون بواسطة ظهور اللفظ نظير المثال المزبور.
وأخرى: قد يكون بواسطة العرف القطعي وإن لم يظهر من الدليل كما لو قال: " أطعم زيد الفقير "
فان العرف بمرتكزاته يفهم أن المراد رفع حاجة الفقير، فيكون المطلوب رفع حاجته، فإذا زال الفقر
عن زيد انتفى الموضوع فينتفي الحكم لان الحكم مرتبط بالحاجة والفقر ومضاف إليها لأنها متعلق
المتعلق على الفرض، وإن كان الظهور البدوي ليس كذلك.
وليس الامر كذلك لو قال: " أطعم زيدا العالم " فان العلم ليس كالفقر بنظر العرف فإذا زال أمكن
استصحاب الحكم مع الشك لبقاء موضوعه وهو ذات زيد، والعلم يعد من الحالات الطارئة عليه لا من
مقوماته المأخوذة في مقام ارتباط الحكم.
نعم في مثل ما إذا قال: " قلد زيدا العالم " يكون زوال العلم موجبا لزوال الحكم، لان العلم ما يضاف
إليه الحكم، إذا التقليد هو أخذ الرأي واتباع العلم فإذا زال العلم فقد زال المعروض.
وثالثة: قد يكون بواسطة حكم العقل القطعي، لتقوم التكليف بالتمييز والشعور، لأنه التحريك
والبعث وهو يرتبط بالمميز والشعور، وليس كذلك الحال في عدم البلوغ. ولذا يصح استصحاب عدم
التكليف الثابت في ظرف عدم البلوغ، بخلاف العدم الثابت في ظرف عدم التمييز كالجنون.
ولا يخفى أن اتباع العرف أو العقل في تشخيص ما يرتبط به الحكم إنما هو فيما كان نظره قطعيا أو
يوجب الوثوق والاطمئنان بحيث يوجب التصرف في ظهور الدليل، وفيما عدا ذلك لا عبرة به إذا كان
للدليل ظهور في شئ معين، بل يتبع ما هو ظاهر الدليل. ومع إجماله يشكل جريان الاستصحاب لأنه
يستلزم الشك في بقاء الموضوع. هذا تحقيق هذا تحقيق القول في هذه المسالة، فلا حظ.
366

في مقابل النظر بحسب لسان الدليل؟ - هذا السؤال الذي يقرب صورته المحقق
النائيني كما في أجود التقريرات: بأنه -.
ان أريد من الظهور بحسب الدليل ما يفهمه العرف من لفظ الدليل،
ولو كان الظهور التصديقي الحاصل من ضم اجزاء الكلام بعضها إلى بعض
وملاحظة ما يكتنف به من القرائن المقالية أو الحالية، بحيث يكون المراد من
النظر العرفي حينئذ هو المسامحات العرفية في مقام التطبيق، فلا مجال لتوهم
367

اعتبار النظر العرفي في قبال النظر بحسب لسان الدليل، لعدم الاعتبار بالعرف
في مقام التطبيق، بل العرف معتبر في مقام تعيين المفهوم.
وان أريد من النظر بحسب الدليل هو خصوص الظهور التصوري
الحاصل بمجرد سماع اللفظ، ومن النظر العرفي الظهور التصديقي، فلا مجال
لتوهم اعتبار النظر الدليلي بهذا المعنى، لما قرر من أن الظهور التصوري لا
يمكن نسبته إلى المتكلم والقول بان المتكلم اراده (1).
والذي يقرب صورته المحقق العراقي - كما في نهاية الأفكار -: بأنه..
ان أريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في مقام تعين مفهوم اللفظ،
فهذا يرجع إلى تحكيم الدليل وليس قسما آخر.
وان أريد منه الرجوع إليه في مقام التطبيق وصدق المفهوم على مصاديقه،
فلا عبرة بالعرف في هذا المقام كي يحتمل انه المحكم والمرجع في تعين
الموضوع (2).
فإنه بعد أن عرفت أن للعرف نظرين:
أحدهما: بما هو من اهل المحاورة وفي مقام التفاهم.
والاخر: بحسب ما يرتكز لديه من مناسبات الحكام وموضوعاتها.
وانه قد يختلفان في تعيين الموضوع وقد يتفقان، وان المراد من تحكيم
الدليل هو تحكيم العرف بنظره الأول، ومن تحكيم العرف تحكيمه بالنظر الثاني،
يتضح الجواب عن السؤال المذكور ولا يبقى له مجال.
ثم إنه قد يرد اشكال اخر على المقابلة المذكورة ذكره المحقق الأصفهاني
في حاشيته على الكفاية ومحصله: ان موضوع الحكم له مرحلتان: مرحلة الواقع

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 449 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 10 - القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
368

واللب. ومرحلة الانشاء والدلالة. وهو باعتبار الأولى عقلي دقي، وباعتبار الثانية
موضوع دليلي. ولا يكون الطلب متعلقا بشئ في غير هاتين المرحلتين. ونظر
العرف في الموضوع انما هو طريق محض إلى ما هو الموضوع عند الشارع - لعدم
كون الموضوعية من الأمور الاعتبارية المتقومة بالاعتبار، كي يصح للعرف
اعتبارها حقيقية -، وبعد فرض كون الموضوع لا ثبوت له الا في مرحلة اللب
واللفظ، فنظر العرف في كون هذا الشئ موضوعا للحكم مرجعه إلى المسامحة
في الموضوع في قبال العقل والنقل، ولا يصح اخذه مقابلا، لان المسامحة في
الموضوع تقتضي المسامحة في الحكم - بمقتضى التضائف -، فلا يقين بثبوت
الحكم لهذا الموضوع شرعا كي يحرم نقضه ورفع اليد عنه (1).
ويمكن تقرير هذا الاشكال بشكل أوضح، بيانه: ان الحكم المجعول لا
واقع له الا مقام الانشاء واللفظ.
وعليه، فلا بد من لحاظ الموضوع في هذه المرحلة - وهذا المقام -، لأنه
مرحلة موضوعيته وترتب الحكم عليه، فالمحكم هو لسان الدليل، وما يراه العرف
يرجع إلى التسامح في التعيين، وهي غير معتبرة قطعا في مقابل الدليل، فلا مجال
للمقابلة.
والجواب عن هذا الاشكال: ان الحكم - سواء قلنا: انه عبارة عن امر
واقعي حقيقته الإرادة والكراهة. أو قلنا: بأنه أمر اعتباري يتقوم باعتبار كل
معتبر بنفسه. أو انه أمر اعتباري عقلائي، والانشاء تسبيب للاعتبار العقلائي
- له واقع اما الإرادة أو الكراهة واما الاعتبار، والانشاء كاشف عن ذلك الواقع
فللموضوع في مقام ترتب الحكم واقع متحقق. وحينئذ يقع الكلام في أن تعيين
الموضوع في واقعه هل يكون بنظر العقل، أو بنظر العرف بحسب ما يفهمه من

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الأفكار 3 / 124 - الطبعة الأولى.
369

الدليل، أو بنظره بحسب مرتكزاته من مناسبة الحكم وموضوعه، فتصح المقابلة
المذكورة.
إذا عرفت هذا، فلا بد من بيان المختار من الطرق في مقام التعيين.
وقد أفاده المحقق الأصفهاني: ان موضوع الكلام في التقابل ليس هو
نفس النقض، وان المعتبر هو النقض الحقيقي أو النقض المسامحي العرفي، إذ لا
شك في عدم اعتبار النقض المسامحي إذ دار الامر بينه وبين إرادة النقض
الحقيقي، كما أنه ليس الموضوع هو الاتحاد وعدمه الذي به قوام صدق النقض،
لأنه لا اشكال في اعتبار الاتحاد الحقيقي، لأنه مع الوحدة المسامحية لا يصدق
النقض حقيقة، بل يكون مسامحيا فلا يشمله النهي. وانما الموضوع هو موضوع
الحكم المستصحب، بمعنى ان الموضوع الذي رتب عليه الحكم، هل المرجع في
تعيينه العقل أو النقل أو العرف؟.
مع إرادة الاتحاد الحقيقي والنقض الحقيقي، الا ان صدق النقض حقيقة
يختلف باختلاف الانظار المعينة للموضوع.
والمشهور بين المحققين هو الرجوع إلى العرف في تعيين الموضوع.
وقد أفاد المحقق الأصفهاني في مقام اثبات ذلك ما بيانه: انه كما أن حجية
الظاهر عند الشارع تستفاد من كونه كأحد أهل العرف في مقام المحاورة
والتفهم، فكذلك إذا كان للظاهر مصاديق حقيقية، وكان بعضها مصداقا له بنظر
العرف، فإنه باعتبار كون مخاطبته للعرف كأحدهم يستفاد ان هذه المصاديق
الحقيقية بنظر العرف متعلقة لإرادته الجدية - كما لو كان ملقي الكلام أحد أهل العرف
-، ما لم ينصب قرينة على تعيين مراده الجدي من المصاديق، لأنه إذا لم
يكن له اصطلاح خاص به، فلا بد أن يكون قد أراد ما هو عند العرف مصداق
حقيقي، مع عدم نصب قرينة على العدم.
وعليه، ففيما نحن فيه يكون مراد الشارع الجدي - حيث لم ينصب قرينة
370

على تعيينه - من مصاديق النقض مصاديقه العرفية الحقيقية، ومرجع صدق
النقض حقيقة عرفا إلى تعيينه الموضوع، فإنه بعد ما يرى ان الموضوع هو كذا
يرى ان رفع اليد عن الحالة السابقة نقض حقيقة، فإذا اعتبر نظره في صدق
النقض يكشف عن اعتباره نظره في التعيين (1).
ويشكل ما ذكره: بان نظر العرف في تعيين موضوع الحكم ان بلغ بحد
يقطع بأنه المراد للشارع، فهو يوجب التصرف في حجية لسان الدليل، لان
الظاهر انما يكون حجة فيما إذا لم يحصل القطع بخلافه، أو كان بمنزلة القرينة
الحالية، فهو يوجب التصرف في ظهور الدليل.
وكلا الفرضين خارجان عن محل الكلام، لان محل الكلام في الاخذ
بالنظر العرفي مع بقاء لسان الدليل على ظهوره وحجيته كما عرفت. وإن لم يبلغ
حد القطع بل كان ظنيا، فلا دليل على اعتبار هذا الظن لا شرعا ولا عقلائيا،
فلا يصح التمسك بالاطلاق والرجوع إلى العرف في مصداق النقض، إذ لا دليل
على اعتبار العقلاء للنظر العرفي في المصداق المبتني على الظن في تعين الموضوع.
وقد أفاد المحقق العراقي في المقام ما محصله: انه لا اشكال في احتياج
اعمال الاستصحاب إلى نحو من المسامحة في ارجاع القضية المشكوكة إلى
القضية المتيقنة، لان الارجاع الحقيقي يستلزم تعلق الشك بما تعلق به اليقين،
وهو مفاد قاعدة اليقين لا الاستصحاب. ثم إن استفادة البقاء والاتحاد تارة:
يكون من جهة انتزاعهما عن اعتبار وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة، وكون
متعلق الشك هو اليقين بالشئ، فإنه يقتضي نحوا من الاتحاد بين القضيتين كي
ينتزع عنوان البقاء عنه. وأخرى: يكون من جهة اطلاق النقض في المقام
المقابل للبقاء الصادق حقيقة على مجرد اتحادهما بأحد الانظار.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الأفكار 3 / 124 - الطبعة الأولى.
371

فعلى الأول: يكون الخلاف في أن المسامحة المحتاج ليه هل هي بمقدار
إلغاء خصوصية الزمان مع التحفظ على باقي الخصوصيات بالدقة. أو انها
ملحوظة من سائر الجهات.
فعلى الوجه الأول: لا بد من جعل مركز البحث في اختلاف الانظار هو
موضوع الحكم الذي به قوام البقاء والاتحاد، لان الكبرى المذكورة - أعني:
كبرى: " لا تنقض اليقين " المستفاد منها اعتبار الاتحاد والبقاء - من المفاهيم
المحرزة ولا خلاف فيها، ولا بد من تطبيق عنوانهما على المورد بالدقة العقلية لا
بالمسامحة العرفية، والتطبيق الحقيقي يختلف باختلاف الانظار في الموضوع
للحكم. فلا بد من تعيين النظر المحكم لاحراز تحقق الاتحاد والبقاء.
وعلى الوجه الثاني - أعني: ما لوحظت المسامحة من سائر الجهات -:
يكون محل الخلاف ومركزه هو نفس البقاء والابقاء التعبدي لا في كبرى
المستصحب.
وقد اختار الثاني، وان المسامحة ملحوظة في الجهات الأخرى غير
خصوصية الزمان.
وعلى الثاني - أعني: إذا كانت استفادة البقاء من حرمة النقض -: فان
قيل: بان النقض حقيقة يصدق بمجرد وحدة القضيتين بأحد الانظار، فلا شبهة
في شموله لجميع الانظار. واما ان قيل: بان النقض الحقيقي لا يصدق الا مع
وحدة القضيتين دقة، فلا يشمل النقض الادعائي المسامحي، بل شموله يحتاج
إلى دليل خاص، لعدم الجامع بين النقض الحقيقي والادعائي. إلا أن يتمسك
بالاطلاق المقامي الذي مقتضاه شمول النقض لما كان نقضا بنظر العرف، لان
القضية مسوقة على طبق الانظار العرفية، ويكون مقدما على الاطلاق اللفظي
الدال على اعتبار النقض الحقيقي. هذا محصل ما ذكره المحقق العراقي - مع
372

تصرف منا (1) -.
ولسنا بصدد تحقيق ما أفاده (قدس سره)، فإنه لا أثر له مهم بعد ما
عرفت من تحقيق الحال، الا إنا نود ان ننبهه على ما يظهر لنا بالنظر البدوي
من التهافت في كلامه. فإنه بعد أن فرض في صدر كلامه لزوم المسامحة في ارجاع
القضية المشكوكة إلى القضية المتيقنة، وبنى على المسامحة في إلغاء خصوصية
الزمان، كيف يذهب بناء على اختصاص المسامحة بإلغاء خصوصية الزمان إلى
لزوم تطبيق عنوان البقاء والاتحاد بالدقة العقلية لا بالمسامحة!. فإنه لا يخلو من
منافاة لصدر كلامه. هذا ما بدا لنا عاجلا ولعل التأمل في كلامه يرفع ذلك
فلا حظ.
والذي ينبغي ان يقال في المقام: انه بعد ما عرفت سابقا من تعذر حمل
النقض على معناه الحقيقي لاستلزامه كون الشك متعلقا بما تعلق به اليقين
بجميع خصوصياته، وهو غير ممكن للاختلاف بين الشك واليقين، لان أحدهما
متعلق بالحدوث والاخر بالبقاء، فلا بد من أن يحمل على المعنى المسامحي للنقض،
ولا بد حينئذ من حمله مطلقا على المعنى المسامحي لعدم امكان حمله على المعنى
الحقيقي، فيتمسك بدليل الاستصحاب في كل مورد يصدق فيه النقض ولو
مسامحة، بل النقض الحقيقي متعذر كما لا يخفى.
وتوهم: ان المسامحة في بعض الخصوصيات لا تقتضي المسامحة بالنسبة إلى
جميع الخصوصيات، والحمل على المعنى المسامحي فيما نحن فيه انما كان بالإضافة
إلى خصوصية الزمان، فلا يقتضي ذلك المسامحة في غيرها من الخصوصيات
المعتبرة في صدق النقض الحقيقي.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 11 - القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
373

مندفع: بان هذا انما يتم لو كان اعتبار بقاء الخصوصيات وعدم الغائها
مستفادا من اطلاق في المقام، فإنه إذا تعذر الالتزام ببعضها يتسامح بمقدارها
ويبقى الاطلاق محكما في الأخرى.
اما إذا استفيد ذلك من ظهور الكلام في المعنى الحقيقي، وتوقف تحققه
على الالتزام والمحافظة على جميع الخصوصيات، فإذا تعذر الحمل عليه انتفت
إرادة المعنى الحقيقي بتاتا لعدم تعدد المراتب في الحقيقة، فيتعذر تحققه وحينئذ،
فيحمل اللفظ على معناه المسامحي مطلقا.
ومن هنا يظهر انه لا حاجة لما تكلفه المحقق العراقي من الالتزام
بالاطلاق المقامي.
كما أنه يعلم حينئذ بأنه لا فائدة في الكلام عن أن الميزان في تعين
الموضوع أي الانظار، لأنه انما يبحث عنه بعد التسليم بان المراد من النقض
معناه الحقيقي. اما مع الالتزام بإرادة المسامحي منه، فلا تصل النوبة إلى ذلك.
وبذلك يتبين عدم الوجه فيما ذكره المحقق الأصفهاني في تعين محل
النزاع من: انه لا وجه للكلام عن أن المراد بالنقض معناه الحقيقي والمسامحي.
لأنه لا اشكال في تقديم المعنى الحقيقي لأصالة الحقيقة. إذ قد عرفت امكان
تحقق الكلام فيه، فتدبر جيدا.
واما ما ذكره السيد الخوئي - كما عرفت في بعض تقريراته - ناهجا به
على ما ذكره شيخه النائيني - كما في أجود التقريرات (1) - في دفع الاشكال
المذكور على المقابلة بين الانظار الذي قرره بما محصله: ان المراد من نظر العرف
ان كان ما يفهمه من الدليل الشرعي بمعونة القرائن، فهو المراد من لسان
الدليل. وان كان المراد ما يتسامح به في تطبيق الكلي على مطابقة الخارجي، فلا
ريب في عدم الاعتماد عليه من...

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 449 - الطبعة الأولى.
374

ان هذا الاشكال في نفسه صحيح، ولكنه خارج عن محل الكلام، إذ ليس
الكلام في تعيين موضوع الحكم الشرعي، بل الكلام في بقاء الحكم في ظرف
الشك المستفاد من أدلة الاستصحاب التي مفادها حرمة النقض من حيث توقف
جريان الاستصحاب على صدق نقض اليقين بالشك برفع اليد عن الحالة
السابقة، وصدقه متوقف على بقاء الموضوع ووحدته في القضية المتيقنة
والمشكوكة. فيقع الكلام في أن المرجع في البقاء هل هو الدليل الأول الدال على
ثبوت الحكم للموضوع، فبقاء الموضوع المأخوذ في لسان الدليل هو الشرط في
جريان الاستصحاب. أو يكون المرجع هو الدليل الثاني الدال على البقاء عند
الشك، فيتبع جريان الاستصحاب صدق موضوعه في نظر العرف - وهو النقض
والمضي - بلا لحاظ الموضوع المأخوذ في لسان الدليل الأول؟. فالمراد من اخذ
الموضوع من العرف كون جريان الاستصحاب تابعا لصدق النقض عرفا
باعتبار ما يفهمه من النقض. والمراد من اخذه من الدليل هو الرجوع إلى
الدليل الأول في جريان الاستصحاب.
ثم بعد توضيح ذلك وبيان امكان الاختلاف بين النظر العرفي والدليلي
بالمعنى الذي ذكره، اختار كون الموضوع مأخوذا من العرف، بمعنى ان جريانه
تابع لصدق النقض عرفا، أخذا بالدليل الثاني المتكفل للحكم في مرحلة البقاء،
لان الكلام فيها دون الدليل الأول المتكفل لمرحلة الحدوث (1). ففيه (2):

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 238 - الطبعة الأولى.
(2) والعمدة في الاشكال هو: أنه لا اشكال في كون البقاء والاتحاد والنقض من المفاهيم المعلومة
المحدودة التي لا نزاع فيها ولا يشك في المراد بها. كما لا نزاع في لزوم اتحاد القضيتين، وان الاتحاد يتقوم
بوحدة الموضوع، وانه يلزم أن يكون الموضوع بقاء عين الموضوع حدوثا، فإنه مفروغ عنه في كلماتهم.
فينحصر الكلام في تشخيص الموضوع حدوثا، كي يعتبر بقاءه في مرحلة الشك، فلا بد من البحث عن
الموضوع وتحديده، فالدوران بين الانظار انما هو في مقام تشخيص الموضوع، ولا محصل للدوران بين
الدليل الأول والدليل الدال على الاستصحاب. ومن الغريب انه بعد هذا البيان، وفي مقام بيان صدق
البقاء عرفا يمثل لما تكون الخصوصية غير مقومة عرفا بما يرجع إلى تشخيص الموضوع للحكم حدوثا
ويرتبط بالدليل الأول، فلا حظ كلامه وتدبر. وقد عرفت تحقيق الحال في أصل المسالة.
375

أولا: ان التسليم بصحة الاشكال في نفسه في غير محله، بعد ما عرفت
من وجود نظر للعرف في الموضوع بحسب مرتكزاته في مقابل نظره بحسب كونه
من أهل المحاورة، وقد التزم به السيد الخوئي في غير المقام.
وثانيا: ان دليل حرمة النقض دليل آخر غير الدليل المتكفل لثبوت
الحكم حدوثا، ويتبع فيه نظر العرف في مقام تشخيص موضوعه كالدليل الأول،
وحينئذ فترجع المقابلة إلى أنه هل المرجع هو لسان الدليل أو لسان الدليل؟. ولا
تخفى ركاكة هذا التعبير واستهجانه، كما أنه يرجع إلى المقابلة بين الدليلين لا بين
الدليل والعرف.
وثالثا: ان الدليل الأول متكفل لبيان حكم مرحلة الحدوث، والدليل
الثاني متكفل لحكم مرحلة البقاء. فلا دوران بينهما لعدم المنافاة بينهما بنفسهما،
فيمكن الاخذ بكليهما. نعم التنافي بينهما باعتبار كون صدق النقض يبتني على
فهم العرف كون الخصوصية ليست مقومة للموضوع، وان كانت بحسب ظاهر
الدليل الأول مقومة ودخيلة فيه، فالدوران بينهما انما يكون بهذا الاعتبار.
وعليه، يقال: ما هو السر في اعتبار الفهم العرفي المذكور في قبال لسان
الدليل الظاهر في خلافه؟. فالكلام يرجع بالآخرة إلى بيان الوجه في جعل الفهم
العرفي مقابلا لظاهر الدليل، والاخذ به وطرح ظاهر الدليل.
وقد عرفت اشكال ذلك، كما أنه لم يلتزم به. فما ذكره من تقديم الدليل
الثاني في غير محله بعد تصريحه في كون صدق النقض عرفا يبتني على كون
الخصوصية غير مقومة. نعم لو كان صدق النقض عرفا يستلزم ذلك لا انه يبتني
عليه، لكان لما ذكره وجه ولكنه خلاف ما صرح به.
يبقى في المقام شئ: وهو ما نقله الشيخ عن بعض المتأخرين من
التفريق بين استحالة نجس العين والمتنجس، بالحكم بطهارة الأول، لان
376

الموضوع للنجاسة فيه متقوم بالصورة النوعية والحكم محمول على النوع،
وبالاستحالة يزول الموضوع، فمع الشك في طهارة المستحال إليه ونجاسته تحكم
قاعدة الطهارة فيه. دون الثاني، لان موضوع النجاسة فيه ليس متقوما بالصورة
النوعية، كالخشبية أو الثوبية - مثلا -، وانما الموضوع هو الجسم، وهو لم يزل
بالاستحالة، فمع الشك في بقاء النجاسة في المستحال إليه تستصحب.
وقد خالفه الشيخ (رحمه الله)، وحكم: بان دقيق النظر يقتضي خلافه،
وأفاده في تحقيق ذلك: انه لم يعلم بان النجاسة في المتنجسات محمولة على الصورة
الجنسية وهي الجسم.
واما ما اشتهر في الفتاوى ومعاقد الاجماعات من أن كل جسم لاقى
نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس. فهو لا يدل على ما ذكره المفصل، لان
التعبير بالجسم ليس من جهة تقوم الحكم بالجسمية واناطته بها، بل من جهة أداء
عموم الحكم لجميع افراده وشموله لمصاديقه كلها، لكونه مشيرا إليها وكاشفا
عنها، فلا ينافي أن يكون ثبوت الحكم لكل فرد من حيث خصوصيته المتقوم بها.
واستشهد لذلك بما إذا قال القائل: " كل جسم له خاصية وتأثير "، فان
التأثير والخاصية من عوارض الأنواع لا الأجسام. فما نحن فيه نظير هذا القول
في كون التعبير بالجسم من جهة تعميم الحكم لجميع الافراد من دون كون الحكم
منوطا بالجسمية.
ثم ذكر (قدس سره): انه لو أبيت إلا عن ظهور معقد الاجماع في تقوم
النجاسة بالجسم، فالاجماع لا اعتبار به، لان مستنده الأدلة الخاصة الواردة في
الأنواع الخاصة، كالثوب والبدن والماء وغير ذلك، فاما ان نقول إن استنباط
القضية الكلية المذكورة من هذا الأدلة انما كان للإشارة إلى ما تحدث فيه
النجاسة وبيان ظرفها لا إلى ما تتقوم به النجاسة وتناط به وإلا فلا بد من طرح
الاجماع والعمل بمقتضى الأدلة الواردة في مواردها من إناطة النجاسة بالعنوان
377

المذكور في الدليل (1).
ولكن ما ذكره لا يمكن ان يلتزم به (قدس سره) لوجوه (2):
الأول: ان ظاهر معقد الاجماع كون الحكم - وهو النجاسة - منوطا
بالجسم من دون وجود ما يصرف هذا الظهور عن ظاهره وحجيته، فلا مسوغ
لترك العمل به.
وما ذكر من التنظير بقولهم: " كل جسم له خاصية وتأثير " يفترق عما
نحن فيه، لوجود الدليل القطعي على كون الخواص والتأثيرات من عوارض
الأنواع، وهو استحالة تأثير الواحد في المتعدد، فإنه يدل على أن مصدر التأثير
هو كل جسم بنفسه ونوعه، لا الجهة الجامعة بين الأنواع - وهي الجسمية -، والا
لزم تأثير الواحد في المتعدد، فالدليل القطعي المذكور يوجب التصرف في
الظهور، لأنه يكون بمنزلة القرينة الحالية.
الوجه الثاني: انه يلتزم كغيره من الفقهاء بان الحكم إذا رتب على أمور
متخالفة في موارد متعددة، تلغى حينئذ الخصوصيات، وان الحكم ثابت للجهة
الجامعة بين هذه الأمور.
وعليه، فإذا ورد في النصوص ترتب النجاسة على الثوب والبدن والماء
وغيرها، يستكشف من ذلك إلغاء الخصوصيات المفرقة وكون الحكم منوطا بالجهة
الجامعة بين هذه الأمور وهو الجسم، فلا وجه لما ذكره أخيرا من الالتزام بمقتضى
الأدلة الواردة في الموارد الخاصة.
الوجه الثالث: انه قد بنى على استفاده الموضوع من فهم العرف ونظره
المقابل لظاهر الدليل، والعرف يرى ان موضوع النجاسة هو الجسم لا الصورة

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 403 - الطبعة الأولى.
(2) يضاف إلى هذه الوجوه انه قد ورد الحكم في بعض النصوص على العنوان الجامع بين الأنواع كقوله
(ع) في رواية عمار الساباطي: " واغسل كل ما أصابه به ذلك الماء "، فإنه ظاهر في كون موضوع النجاسة
هو الجسم بلا دخل لخصوصيته وقد اقتصر السيد الأستاذ في الاشكال على الشيخ في هذه الدورة على هذا
الوجه والوجه الثاني...
378

النوعية، لأنه يرى ان النجاسة من العوارض الخارجية التي يكون معروضها
الجسم لا الصورة النوعية له.
ومن هنا تعرف ان ما ذكره المفصل من قيام الحكم بالجسم في المتنجس
دون النجس ثابت لا مجال للمناقشة فيه. ولكنه مع هذا لا يمكن إجراء
الاستصحاب في المستحال إليه - وان كان الظاهر من الشيخ تسليم جريانه لو
ثبت بان المعروض الجسم -، لان عروض النجاسة ليس على كلي الجسم، بل
انما هو على الافراد وعلى الموجود الخارجي بما هي جسم - فلا ينافي أن يكون
معروض النجاسة هو الجسم -، وحيث إن الافراد متباينة ومتغايرة عرفا، فالعرف
بعد استحالة الفرد وتبدله إلى فرد آخر للجسم لا يرى عدم ترتب الحكم - هو
النجاسة - عليه نقضا للحالة السابقة، لمغايرة هذا الفرد للفرد الذي كانت
النجاسة ثابتة له، فلا يستطيع الحكم بان هذا الفرد كان نجسا، فلا يصدق
النقض بما له من المفهوم العرفي كي يشمله النهي.
وبالجملة: كما يعتبر بقاء العنوان المأخوذ في موضوع الحكم حدوثا، كذلك
يعتبر بقاء وجود الموضوع، ولذا لا يسري الحكم من جسم إلى آخر، لان الحكم
انحلالي متعدد الافراد، فكل فرد بما هو فرد له حكم مستقل، لكنه لم يثبت له
بخصوصيته، بل بما هو جسم. ومن الواضح انه مع تبدل الفرد لا يتحد الموضوع
في القضيتين وان اتحدا عنوانا، فلا يصدق النقض والابقاء.
فمنع الاستصحاب يرتكز على أمرين:
الأول: كون النجاسة عارضة على افراد الجسم لا كلية.
الثاني: ان صدق النقض بلحاظ ما هو المفهوم منه عرفا ونظر العرف فيه
ولو مسامحة.
وهذا الوجه في منع جريان الاستصحاب أفاده الفقيه الهمداني (رحمه الله)
379

في حاشيته على الرسائل (1).
الثاني من شروط الاستصحاب: كون الشك متعلقا بالبقاء وبقاء
اليقين بالحدوث. لان تعلق الشك بالحدوث انما هو ملاك قاعدة اليقين. ولا
اشكال في اخذ هذا الشرط ولا خلاف فيه. وانما تعرض لذكره الاعلام لبيان انه
هل يمكن استفادة القاعدة من اخبار الاستصحاب مضافا إلى الاستصحاب أو
لا؟. وقد (2)، أفيد في منع استفادة - كلتا القاعدتين من اخبار الباب وجوه:

(1) الفقيه الهمداني. هامش فرائد الأصول / 403 - الطبعة الأولى.
(2) مما أفيد في منع شمول الاخبار لكلتا القاعدتين ما ذكره الشيخ (ره): من أن المناط في القاعدتين مختلف
بحيث لا يجمعها مناط واحد، فان مناط الاستصحاب اتحاد متعلق الشك واليقين مع قطع النظر عن
الزمان لتعلق الشك في بقاء ما تيقنه سابقا، ولازم ذلك كون القضية المتيقنة - كعدالة زيد يوم الجمعة -
متيقنة حال الشك أيضا من غير جهة الزمان. ومناط قاعدة اليقين اتحاد المتعلقين من جهة الزمان، ومعناه
أنه شاك في نفس ما تيقنه سابقا بوصف وجوده السابق.
وعلى هذا فالقاء الشك في الاستصحاب يرجع إلى التعبد ببقاء المتيقن في السابق من غير تعرض لحال
حدوثه. وإلغاؤه في القاعدة يرجع إلى التعبد بحدوث ما تيقنه سابقا من غير تعرض لبقائه واختلاف
مؤدي القاعدتين وإن لم يمنع من إرادتهما من كلام واحد بان يقول: " وإذا حصل شك بعد يقين فلا عبرة
به سواء تعلق بحدوثه أم ببقائه والحكم بالبقاء في الثاني وبالحدوث في الأول " لكنه مانع من أرادتها من
مثل قوله: " فليمض على يقينه " فان المضي على اليقين في الاستصحاب يغاير المضي عليه في القاعدة
فإنه فيه يرجع إلى الحكم بعدالته بقاءا، وفيها يرجع إلى الحكم بعدالته حدوثا من دون تعرض لما بعده،
وإرادة كلا المعنيين من اللفظ الواحد ممتنع.
ثم إنه (ره) أورد على نفسه بان المضي على اليقين معناه عدم التوقف لاجل الشك وفرض الشك
كعدمه، وهذا يختلف تطبيقا باختلاف متعلق الشك، فان تعلق الشك بالحدوث، فالغاؤه يرجع إلى الحكم
بالحدوث، وإن تعلق بالبقاء فالغاؤه يرجع إلى الحكم بالبقاء، فلا تعدد في معنى المضي وإنما التعدد في
المصداق.
وأجاب عنه بجواب لا تخلو عبارته من إجمال والذي نستظهره منها هو: إن ظاهر النصوص اتحاد
متعلق اليقين والشك، وإن الشك لا بد وأن يكون متعلقا بما تعلق به اليقين.
وعليه ففي مقام الحكم إما أن يلاحظ الحاكم الشك المتعلق بما تعلق به اليقين مجردا عن الزمان
فالمضي عليه عبارة عن الحكم باستمراره المتيقن، وأما أن يلاحظه مقيدا بزمان اليقين فالمضي عليه عبارة
عن الحكم بحدوث المتيقن، ولا يمكنه أن يلحظه مقيدا ومجردا، فليس مرداه من عدم تعدد فرد اليقين
والشك عدم تعدده في الخارج، فإنه مما يكذبه الوجدان خصوصا إن لو حظ ذلك بالنسبة إلى شخصين
فكان الشك في الحدوث حاصلا عند غير من حصل عنده الشك في البقاء، بل مراده عدم التعدد في
مقام الحكم والتعبد وإن الحاكم إما أن يلحظ الشك مجردا أو مقيدا، فقوله (قده): و " الشك له له هنا
فردان " يقصد به ليس له في مقام الحكم، لا في الواقع كما حملت عليه عبارته ووجهت ببعض التوجيهات
المردودة، فراجع تقريرات الكاظمي.
وما أفاده الشيخ (ره) بهذا التقريب قابل للمناقشة، وذلك لما تقدم من أن وحدة متعلق اليقين والشك
تتحقق بتقيد متعلق الشك بكل ما هو مقوم لمتعلق اليقين وهو ما كان له إضافة إليه وارتباط به فيصدق
عند ذلك حقيقة الشك في نفس ما تعلق به اليقين.
ومن الواضح أن الزمان ليس من مقومات متعلق اليقين إذ لا إضافة له بالنسبة إليه بل هو ظرف
لتحققه، فاليقين يتعلق بذات العدالة، فوحدة متعلق الشك مع متعلق اليقين لا. تقتضي أكثر من تعلق
الشك بذات العدالة مع قطع النظر عن الزمان السابق أو اللاحق، فلا مقتضى للحاظه مجردا أو مقيدا
بالزمان حتى يتأتى المحذور السابق، فإذا تعلق الشك بالعدالة حدوثا أو بقاءا، يصدق حقيقة قول
القائل: " إذا تيقنت بشئ وشككت فيه ".
وعليه فاطلاق الدليل يمكن أن يكون شاملا لكلا الموردين.
وتحقيق الحال في أصل المسالة أن يقال: إن الملحوظ في قاعدة اليقين - بحسب اصطلاح الاعلام -
وإن كان هو الحدوث لكن من المعلوم أن ذلك بلحاظ ترتيب الأثر بقاء وفي حال الشك ولذا لو لم يكن
للامر المتيقن الحدوث أثر شرعي بقاء فلا جدوى في التعبد بالحدوث بل يكون لغوا.
وإذا فرض أن محل البحث هو مورد ترتب الأثر بقاء، كما لو تحقق الطلاق في حضور من يقطع بعدالته
ثم بعد مدة شك في عدالته حال الطلاق، فان ثبوت العدالة في حال الطلاق له أثر بقاء وفي حال الشك
وهو زوال الزوجية فعلا بخلاف ما لو لم يكن عادلا فان أثره بقاء الزوجية بالفعل، وهكذا لو تيقن بأداء
الصلاة الصحيحة وترتب عليه جواز الاكتفاء بها، ثم شك بعد ذلك في صحة صلاته، فان لصحة الصلاة
في ظرفها أثرا بالفعل وهو جواز الاكتفاء بها في مقام الامتثال - أمكن أن يقال: بان الأثر الشرعي يشك
في بقائه فعلا بعد اليقين بحدوثه وشكه في البقاء وإن كان مصحوبا بالشك في الحدوث لكون المفروض
سراية الشك إلى الحدوث - إلا أن ذلك لا يمنع من صدق الشك في البقاء.
نعم موضوع الأثر قد لا يكون له بقاء كمثال الصلاة أو يكون له ولكن أثره الشرعي بالمشكوك
أثر الحدوث لا أثر البقاء كمثال الطلاق.
إلا أن هذا ليس بمهم بعد أن كان الأثر مشكوك البقاء في جميع الفروض.
وإذا كان الامر بالنسبة إلى الأثر كذلك أمكن أن يقال بتطبيق الاخبار المتضمنة للتعبد بالبقاء على
الأثر نفسه، فهو متيقن الحدوث سابقا، ويشك في بقائه فعلا، فيكون مشمولا للتعبد بالبقاء مع غض
النظر عن حدوثه.
وبعبارة أخرى: إن الاخبار تتضمن التعبد بالمشكوك في ظرف الشك إذا كان مسبوقا باليقين، وهي
بذلك كما تنطبق على موارد الاستصحاب تنطبق على موارد قاعدة اليقين بالبيان الذي عرفته فان الأثر
متعلق للشك بالفعل بعد أن كان متعلقا لليقين فتتكفل الاخبار التعبد به.
نعم لا تشمل الموارد التي لا يكون الأثر مقارنا لحدوث الموضوع بل يكون متأخرا عنه وجودا كما
لو فرض أن عدالة زيد يوم الجمعة موضوع لوجوب التصدق يوم الأربعاء، فإنه إذا شك يوم الأربعاء
في عدالة زيد يوم الجمعة بعد أن كان متيقنا بها، فليس لديه شك في بقاء وجوب التصدق بل في حدوثه
ولا يكون التعبد به تعبدا بالبقاء.
ولكن مثل هذا المورد نادر الوقوع فلا يضر الالتزام بخروجه.
هذا مع أنه بناء على جريان الاستصحاب في الحكم التطبيقي، يمكن أن يلتزم بنظيره هنا فإنه باليقين
سابقا بالعدالة يوم الجمعة حصل لديه يقين بالوجوب التعليقي للتصدق، فيشك يوم الأربعاء في العدالة،
يحصل لديه الشك في بقاء الوجوب التعليقي فيصح التعبد به، كما به في موارد الاستصحاب، ويصل
إلى مرحلة الفعلية عند حصول المعلق عليه.
وجملة القول: إنه لا إشكال في شمول الاخبار لموارد قاعدة اليقين مع الاستصحاب لا من ناحية
الموضوع وهو الشك ولا من ناحية الحكم وهو التعبد بالبقاء، إذ عرفت تعلق الشك في موارد القاعدة
بالبقاء، كموارد الاستصحاب، كما أن التعبد فيها يمكن أن يكون بالبقاء من دون تعرض لحال الحدوث
فلا يلزم اجتماع لحاظين ونحو ذلك.
هذا، ولا يخفى عليك أن المعتبر في موارد قاعدة اليقين هو اليقين السابق والشك اللاحق بحيث لا
يجتمع الوصفان في زمان واحد.
وعلى هذا فقد يشكل شمول الاخبار لتلك الموارد بان ظاهر الاخبار ثبوت اليقين الفعلي كسائر
الموضوعات المأخوذة في الاحكام فان دليلها ظاهر في موضوعية الوجود الفعلي للحكم، فقوله (ع): " لا
ينقض اليقين بالشك " ظاهر في أخذ فعلية اليقين كالشك في حرمة النقض وهذا يختص بموارد
الاستصحاب لوجود اليقين الفعلي بالحدوث والشك الفعلي في البقاء.
والجواب عن هذا الاشكال: إن ظاهر الاخبار أن المعتبر هو اليقين السابق بالشئ والشك اللاحق به
سواء كان الشك متعلقا بالبقاء خاصة أو ساريا إلى الحدوث، فيعتبر أن يسبق اليقين الشك زمانا فلا
عبرة باليقين المتأخر عن الشك أو المقارن له حتى في موارد الاستصحاب، ومقتضى ذلك اختصاص
الاستصحاب بموارد يكون اليقين بالحدوث فيها سابقا على الشك في البقاء، فتكون الاخبار دالة على
قاعدة عامة وهي إلغاء الشك المتأخر عن اليقين وهذه القاعدة ليست بقاعدة اليقين بالمعنى المصطلح
380



عليه الراجع إلى التعبد بالحدوث لما عرفت من كون التعبد بالبقاء. وليست بالاستصحاب بالمعنى
المتداول لدى الأصحاب، بل هي شاملة لبعض موارد قاعدة اليقين والاستصحاب بمعناهما
الاصطلاحي وموارد الاخبار لا تأبى من الحمل على هذا المعنى لتحقق اليقين السابق والشك اللاحق
فيها. والقرينة على ما ادعيناه من الظهور أمران:
أحدهما: التعبير في بعض نصوص الباب بقوله: " لأنك كنت على يقين " أو: " من كان على يقين
فشك " فان هذا التعبير صريح في كون الموضوع هو اليقين السابق لا اليقين الفعلي.
والاخر: إسناد النقض إلى الشك، فإنه ظاهر في فرض كون الشك مما يحتمل فيه أن يكون ناقضا
لليقين حتى يصح النهي عنه. ومن الواضح أن هذا إنما يتأتى في الشك اللاحق لليقين لأنه رافع
لاستمرار اليقين وقاصم لوحدته الاستمرارية. وأما الشك المقارن لليقين فلا موهم. لكونه ناقضا كيف؟
والمفروض اجتماعهما في آن واحد، وبعبارة أخرى: إن اجتماع اليقين والشك لا يمكن تعقله إلا بتقيد
متعلق اليقين بالزمان السابق فيتيقن بالعدالة السابقة بما هي كذلك ويشك في العدالة الفعلية، ولا يخفى
أن الشك المزبور لا يتوهم كونه ناقضا لليقين المزبور لاختلاف المتعلقين، وبواسطة ذلك ترفع اليد عن
ظهور لفظ " اليقين " أو قوله: " فإنه على يقين من وضوئه " في كون المدار على اليقين الفعلي قياسا على
سائر الموضوعات.
والخلاصة: إن الاخبار ظاهرة في تقوم التعبد بسبق اليقين ولحوق الشك ولا صارف لظهورها في ذلك.
ونتخلص بذلك عن اللجوء إلى دعوى إرادة المتيقن من لفظ اليقين التي يشكل تصويرها وإثباتها لأنها
متفرعة على اعتبار اليقين الفعلي الذي لا يصح إسناد النقض عليه - فراجع ما تقدم في صحيحة زرارة
الأولى تعرف -.
ومن هنا يظهر اندفاع إشكال المعارضة بين القاعدة والاستصحاب الذي بنى عليه الشيخ، فإنه
متفرع عن اعتبار اليقين الفعلي في باب الاستصحاب فيتحقق موضوعه بالفعل لليقين بالفعل بعدم
عدالته في الزمان السابق على اليقين به مع تحقق موضوع القاعدة كما هو المفروض فيتعارضان.
أما على ما اخترناه من اعتبار اليقين السابق في الاستصحاب والشك الذي يتوهم نقضه به فلا
موضوع له لان انتقاض اليقين السابق بالشك يتقوم باتصال زمان اليقين بزمان الشك، والمفروض عدمه
لتخلل اليقين بالعدالة بينهما، فيكون ناقضا لليقين السابق بعدم العدالة، فلا يكون الشك الفعلي ناقضا
لليقين الأسبق بعدم العدالة بل يكون ناقضا لليقين بالعدالة فيكون المورد من موارد قاعدة اليقين فقط.
نعم الشك الفعلي مجتمع مع اليقين الفعلي بعدم عدالة زيد سابقا، ولكن عرفت أنه ليس موضوع
الاستصحاب.
ويتضح من مجموع ما ذكرناه: أنه لا اشكال على ما قررناه من دلالة الاخبار على القاعدتين بالشكل
الذي عرفته لا من ناحية الثبوت ولا من ناحية الاثبات.
وهذا الوجه لم يعهد من أحد الالتزام به بل التنبه إليه، فتدبره فإنه بالتدبر حقيق.
ثم إنه قد يشكل ما قررناه بأنه يقتضي سد باب الاستصحاب في كثير من موارد الشبهات الحكمية
بالنسبة إلى المجتهد، بيان ذلك: إن سيرة المجتهدين قائمة على إجراء الاستصحاب عند الشك في سعة
الحكم الكلي الإلهي وضيقه سواء تعلق الحكم به أم بمقلديه كما لو شك في بقاء نجاسة الماء المتعين إذا
زال تغيره من قبل نفسه، أو شك في استمرار خيار الغبن أو فوريته، ونحو ذلك، من غير فرق بين أن
يكون موضوع الحكم فعليا كما لو كان لديه ماء متغير أو لم يكن فعليا بل فرضيا، فإنه يجري
الاستصحاب ويفتي على طبقه بالفعل، ويعمل به مقلدوه، ولو لم يحصل لديهم يقين وشك في ظرفه.
وقد وجه ذلك بان يقينه وشكه بمنزلة يقينهم شكهم وهذا التنزيل تقتضيه أدلة الافتاء.
وقد تعرضنا لبيان الاشكال وحله - بصورة مفصلة - في أول مبحث القطع.
ولا يخفى أن هذا يبتني على فرض موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعلي فان المجتهد يحصل لديه
يقين بالفعل بنجاسة الماء عند تغيره وشك في بقائها على تقدير زوال التغير، فهو يجري الاستصحاب
بلحاظ حالة التغير وزوالها.
وأما بناء على اعتبار اليقين السابق والشك اللاحق، فيشكل الامر في مثل هذه الاستصحابات،
لعدم الترتب الزماني بين اليقين والشك بالنسبة إلى المجتهد، بل اليقين والشك يحصلان دفعة بل قد
يتقدم الشك على اليقين، وأما المقلد فالمفروض أنه غافل عن هذه الخصوصيات. فكيف يفتي المجتهد
له بل لنفسه بنجاسة الماء المتغير إذا زال عنه التغير استنادا إلى الاستصحاب؟ مع عدم تحقق موضوعه
لا عنده ولا عند مقلده.
وهذا الاشكال لا محيص عنه ولكنه لا يختص بالمبنى الذي قربناه بل يعم المبنى الاخر، فلا يصح
إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى الحكم الكلي إذا لم يتحقق موضوعه بالفعل حتى على الالتزام بان
موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالحدوث والشك في البقاء لوجوه:
الأول: إن اليقين بالحكم على تقدير حصول موضوعه كاليقين بالخيار على تقدير تحقق البيع الغبني،
مرجعه في الحقيقة إلى اليقين الفعلي بالملازمة بين الموضوع والحكم، وأما الحكم فليس بمتيقن بالفعل لا
بوجوده المطلق ولا بوجوده الخاص المقيد بالموضوع، إذ قد لا يحصل الموضوع بل قد يكون ممتنعا -
كما في مثل: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا - فكيف يكون الحكم متيقنا؟ والملازمة ليست مجرى
الاستصحاب لأنها غير مشكوكة البقاء وإنما الشك في سعة اللازم - وهو الحكم - وضيقه، مع أنها ليست
بامر شرعي.
الثاني: إن الحكم الاستصحابي كسائر الاحكام له مقام جعل ومقام فعلية. والأول: متحقق بانشائه،
والثاني: يتحقق بفعلية موضوعه وهو اليقين والشك، ومقتضى ذلك أنه لو حصل اليقين والشك لزم أن
يكون الحكم الاستصحابي فعليا، وبعبارة أخرى: إن الاستصحاب في مقام تطبيقه يلزم أن يكون فعليا.
وعليه نقول: إن مؤدى الاستصحاب هو استمرار الحكم الثابت، ومن الواضح أن فعلية الاستمرار
فرع فعلية الحدوث، ففي ظرف تطبيق المجتهد الاستصحاب لتحقق موضوعه لديه لا يكون الحكم
فعليا إذ لا معنى للحكم الفعلي بالاستمرار فلا معنى لفعلية الاستصحاب، وفي الظرف القابل
للاستمرار قد يكون المجتهد غافلا بل قد يكون ميتا فلا يقين ولا شك حينئذ. فلا يصح جريان
الاستصحاب.
الثالث: إن الاستصحاب يعتبر في تطبيقه الاستمراري استمرار موضوعه أعني: اليقين والشك - فلا
يكفي حدوثهما في إجراء الاستصحاب إلى الأبد، وعليه يقال: إن اليقين والشك الحاصلين للمجتهد عند
تصديه للاستنباط إما أن لا يستمر إلى ظرف فعلية الحكم أو يكونا مستمرين. وعلى كلا التقديرين لا
جدوى في الاستصحاب الفعلي.
أما على الأول: فواضح لان انتقاض اليقين والشك في ظرف العمل يستلزم انتفاء الحكم الاستصحابي
حينئذ ويكون الحكم الاستصحابي السابق لغوا محضا سواء كان دليل الاستصحاب يتصدى لجعل
المنجزية والمعذرية أو يتصدى لجعل الحكم المماثل، إذ لا معنى للتنجيز السابق للحكم الذي يرتفع في
ظرف العمل ومثله الحكم المماثل السابق لأنه بلحاظ الطريقية إلى الواقع. فيكون المورد من قبيل جعل
الحكم الفعلي قبل ظرف العمل ثم رفعه في ظرف العمل. فان ذلك لغو محض.
وأما على الثاني: فلا مقتضي لاجراء الاستصحاب من حين حدوث اليقين والشك بل يجري في ظرف
العمل، لعدم الفائدة في أجراءه السابق. وبعبارة مختصرة: إنه لا أثر عملي للتنجيز السابق على ظرف
العمل، بل المدار على ظرفه فاما أن يكون موضوع الحكم الظاهري متحققا فهو أو غير متحقق فيتعبد
به على الأول دون الثاني.
وبهذا الوجوه: تعرف أن إشكال امتناع المجتهد عن إجراء الاستصحاب في موارد عدم فعلية
الموضوع لا يختص بالمبنى الذي قربناه بل يعم المبنى المشهور المعروف، فالتفت.
وعلى هذا فلا نرى وجها صالحا لرفع اليد عن ظهور النصوص فيما عرفت وهو سبحانه ولي التسديد
في القول والعمل.
380

الوجه الأول: ما أفاده المحقق النائيني - كما في تقريرات الكاظمي - من:
ان في الاستصحاب والقاعدة جهات أربعة: جهة اليقين. وجهة المتيقن. وجهة
النقض. وجهة الحكم. ولا يمكن الجمع بين القاعدتين في اللحاظ من جميع
385

الجهات.
اما من جهة اليقين، فلان اليقين في باب الاستصحاب ملحوظ بما هو
طريق وكاشف عن المتيقن، وفي القاعدة ملحوظ من حيث نفسه لبطلان
كاشفيته بعد تبدله بالشك.
واما من جهة المتيقن، فلان المتيقن في الاستصحاب لا بد وأن يكون
معرى عن الزمان غير مقيد به، وفي القاعدة لا بد وأن يكون مقيدا به.
واما من جهة النقض، فلان نقض اليقين في الاستصحاب باعتبار ما
يقتضيه اليقين من الجري العملي على طبق المتيقن، وفي القاعدة باعتبار نفس
اليقين.
واما من جهة الحكم، فلان الحكم المجعول في القاعدة انما هو البناء
العملي على ثبوت المتيقن في زمان اليقين، وفي الاستصحاب هو البناء العملي على
ثبوت المتيقن في زمان الشك.
فالقاعدة تباين الاستصحاب من كل جهة من الجهات الأربعة، فلا
يمكن ان تعمهما أخبار الباب (1).
ولكن ما ذكره (قدس سره) غير تام بشقوقه الأربعة:
اما الشق الأول: فلان لحاظ اليقين في القاعدة بما هو صفة لا بما هو
طريق بخلافه في الاستصحاب، إذا كان لاجل عدم اليقين الفعلي في القاعدة
حال التعبد، فلا كاشفية له ووجود اليقين الفعلي في الاستصحاب فيرد عليه:
أولا: ان الملحوظ في القاعدة هو اليقين الذي كان سابقا، وهو كما كان
يشتمل على جهة الصفتية كذلك كان مشتملا على جهة الطريقية والكاشفية،
فيمكن حينئذ لحاظه بهذه الجهة - أعني: جهة الطريقية -، كما ادعى لحاظه بجهة

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 589 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
386

الصفتية.
وثانيا: ان مقام الجعل والانشاء لا يرتبط بمقام فعلية المجعول، فالجاعل
في مقام الجعل انما يلاحظ مفهوم اليقين لا واقعه ووجوده - إذ قد لا يكون هناك
يقين أصلا حال الجعل -، وهو - أعني: مفهوم اليقين - يشتمل على الخصوصيتين
خصوصية الصفتية وخصوصية الطريقية، فيمكن لحاظه حينئذ بخصوصية
الطريقية.
وفي مقام الخارج والمجعول، وان كانت الطريقة غير ثابتة لعدم اليقين
الفعلي، الا انه أجنبي عن مقام الجعل ولحاظ الجاعل، وإلا فلا يمكن اخذه بما
هو صفة أيضا لعدم ثبوت الصفتية لاجل عدم اليقين. فما ذكره (قدس سره)
خلط بين مقام الجعل ومقام المجعول.
واما الشق الثاني: فلان أخذ الزمان في المتيقن في القاعدة وعدم أخذه
والغائه في الاستصحاب.
ان كان لاجل تقوم الشك في البقاء الذي هو ملاك الاستصحاب بإلغاء
الزمان، والشك في الحدوث الذي هو ملاك القاعدة بملاحظته. فذلك يمكن
استفادته من اطلاق الشك، فيراد الأعم من الشك في البقاء والشك في الحدوث،
بلا احتياج للحاظ الزمان وعدمه، فلا حاجة إلى أخذ هذا القيد.
وان كان لاجل توقف صدق النقص في الاستصحاب على إلغاء
خصوصية الزمان، لأنه مع لحاظها يكون المشكوك مباينا للمتيقن، فلا يصدق
النقض، لأنه مبني على تحقق الاتحاد بينهما. فهو ممنوع كما ستعرفه قريبا - عند
بيان ما أفاده المحقق الخراساني -، من عدم تأثير اعتبار الزمان في صدق النقض،
وانه لا يحتاج فيه إلى إلغاء الزمان. فانتظر.
واما الشق الثالث، فلانه.
ان كان المراد من كون النقض في باب الاستصحاب مستندا إلى اليقين
387

بلحاظ الجري العملي على طبق المتيقن، ان النقض حقيقة مستند إلى المتيقن،
واليقين قد لو حظ مرآة له.
فهذا خلاف ما التزم به (قدس سره) من كون النقض في هذا الباب
مسندا إلى نفس اليقين دون المتيقن.
وان كان المراد من اسناد النقض إلى اليقين في باب الاستصحاب لا
محصل له ولا معنى الا بلحاظ الأثر العملي والجري العملي على طبقه، من جهة
انه لا معنى لجعل الشارع لليقين تكوينيا، وانما هو جعل تعبدي، والجعل التعبدي
انما يكون بلحاظ الجري العملي على طبق المجعول، كما هو شان جميع
المجعولات والاعتبارات الشرعية، فلو لم يكن للجعل أثر عملي فلا معنى له ولا
محصل.
فهذا الامر مما تشترك فيه القاعدة والاستصحاب، لان الملاك في اعتبار
الجري العملي في جعل اليقين في باب الاستصحاب، متحقق بالنسبة إلى جعل
اليقين في القاعدة، وهو ما تسلم عليه الكل من أن كال جعل واعتبار شرعي لا بد
وأن يكون بلحاظ ما يترتب عليه من الآثار العملية، وإلا فلا معنى له، فلا معنى
لجعل الشارع ملكية زيد للقمر أو النجوم - مثلا -.
وان كان المراد من اعتبار الجري العملي في الاستصحاب هو كون السر
في توقف صدق النقض على ذلك، باعتبار انه مع لحاظ كل من الشك واليقين
مستقلا لا يكون لأحدهما ارتباط مع الاخر، لان الشك متعلق بالبقاء واليقين
بالحدوث، فيتوقف صدق النقض على ملاحظة ما يقتضيه السابق من الجري
العملي في الآن اللاحق، فمع الشك وعدم العمل على طبق الحالة السابقة في
حاله يكون ذلك نقضا لليقين السابق، لاقتضائه الجري العملي لا حقا، فعدم
النقض حينئذ يكون بلحاظ الجري العملي. وهذا بخلاف القاعدة، لان الشك
تعلق بما تعلق به اليقين حدوثا، فلا يحتاج في صدق النقض إلى اعتبار الجري
388

العملي الذي هو مقتضى اليقين السابق.
فيرد عليه: انه قد حققنا في محله ان صدق النقض لا يحتاج إلى أكثر من
نحو ارتباط بين متعلق الشك واليقين، والا فاليقين السابق لا يقتضي الجري
العملي الا في حال تحققه وهو حال الحدوث. اما في حال الشك، فهو لا يقتضي
الجري العملي على طبق المتيقن السابق كما لا يخفى.
واما الشق الرابع: فلانه من الممكن استفادة الحكم بالبقاء والحكم
بالحدوث من اطلاق النهي عن النقض والغاء الشك، فإنه يشمل الشك في
الحدوث والشك في البقاء، ويختلف بحسب الشك، فإن كان الشك في الحدوث
فالالغاء عبارة عن الحكم بالحدوث. وان كان في البقاء فهو عبارة عن الحكم به.
الوجه الثاني: ما أفاده المحقق الخراساني في حاشيته على الرسائل
ومحصله: انه بعد لحاظ اتحاد متعلقي الشك واليقين - لتوقف صدق النقض
والابقاء على ذلك - لا بد من إلغاء خصوصية الزمان في الاستصحاب، وحينئذ
ففي الاستصحاب يلحظ المتيقن بدون الزمان، وفي القاعدة يلحظ المتيقن مع
الزمان فاللحاظان في القاعدتين مختلفتان، وبذلك يختلف المؤدى في إحداهما عن
المؤدى في الأخرى. وحينئذ.
فان أفيد هذان المؤديان بمفهوم اسمي يعمهما، بحيث يكشف عن
اللحاظين المذكورين - كما إذا قيل: " لا تنقض اليقين بالشك الذي له تعلق بما
تعلق به اليقين " -. فهو. وإلا فلا يمكن أداء هذين المؤدين بمعنى حرفي لا يكاد
يراد منه إلا أحدهما، لعدم امكان اجتماع اللحاظين المتنافيين في انشاء واحد.
ولا يخفى ان أخبار الباب كذلك، إذ ليس فيها مفهوم اسمي يعم المؤديين
بلحاظهما المتنافيين، فلا يستفاد منها إلا الاستصحاب (1).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد. الأصول / 233 - الطبعة الأولى.
389

ويرد عليه:
أولا: انه لا وجه للحاظ المتيقن بدون الزمان في الاستصحاب، بل لا
يعتبر سوى تعلق الشك بفعلية الشئ على تعلق اليقين به الملازم لصدق
الشك في البقاء - كما ستعرفه - لا ان يؤخذ الزمان في متعلق أحدهما لا أنه يلحظ
عدم الزمان.
وثانيا: انه على تقدير اعتبار هذين اللحاظين في القاعدتين، فالحاكم حين
انشائه الحكم وجعله إياه اما ان يجتمع في نفسه هذان اللحاظان أو لا يجتمعا
وبعبارة أخرى: اما ان يلحظ المتيقن باللحاظين أو لا والثاني خلف، لان
المفروض اعتبارهما والأول لا يحتاج في الدلالة عليه في مقام الاثبات إلى وجود
مفهوم اسمي، بل يكتفي فيه بالقرينة الحالية أو بعض خصوصيات الكلام،
كاسناد النقض وشبهه.
وبعد كل هذا نقول: الحق هو امتناع استفادة كلتا القاعدتين من الاخبار
لوجوه:
الأول: ان القطع واليقين حين يتعلق حين يتعلق بشئ فهل يتعلق به بذاته الملازم
للزمان، أو انه يتعلق به بما هو مقيد بالزمان، بمعنى انه يتعلق بالحصة الخاصة
منه، وهي المقيدة بالزمان الخاص؟. لا ينبغي الاشكال في أنه يتعلق بذات الشئ
مع عدم ملاحظة الزمان - وان لازم الزمان -، بل كثيرا ما يكون الزمان مغفولا
عنه. وهذا أمر عرفي وجداني لا يحتاج في اثباته إلى إقامة برهان.
ثم إذا تعلق اليقين في زمان ما كيوم الجمعة بفعلية شئ كعدالة زيد..
فقد يحصل الشك في يوم السبت في فعلية ذلك الشئ - أعني: العدالة -
من دون لحاظ الزمان، بل كان تعلقه به على حد تعلق اليقين - أعني: بذات
العدالة بلا تقيد بالزمان -، فيلزمه كونه شكا في البقاء.
وقد يتعلق الشك بذلك الشئ حدوثا، بمعنى انه يتعلق بالعدالة التي
390

تعلق بها اليقين، فلا بد حينئذ من لحاظ الزمان في متعلقة، لان المفروض اخذ
الزمان السابق - وهو زمان اليقين - في متعلق الشك، فإنه متعلق بفعلية العدالة
في يوم الجمعة. وبهذا الاعتبار يكون الشك شكا في الحدوث.
فالشك تارة يتعلق بما تعلق به اليقين سابقا بلا لحاظ الزمان فيه، بل انما
يتعلق بفعلية الشئ كما تعلق بها اليقين. وأخرى يتعلق به بلحاظه.
والأول: مورد للاستصحاب. والثاني مورد القاعدة.
ولا يخفى ان سنخ ارتباط الأول مع اليقين يختلف عن سنخ ارتباط الثاني،
نظير ارتباط الأوصاف بالذوات - مثلا - الصادر من زيد يختلف
ارتباطه بزيد سنخا عن ارتباط الضرب الواقع عليه به، فان الأول يرتبط به
بنحو الصدور، والثاني بنحو الوقوع عليه.
فارتباط الشك مع اليقين السابق المتعلق بذات الشئ إذا كان متعلقا
بفعلية، الشئ بلا لحاظ الزمان، يختلف سنخا عن ارتباط الشك معه إذا كان
متعلقا بفعليته بلحاظ الزمان السابق فيه. وهذا مما لا اشكال فيه أيضا.
وعليه، فإذا كان في الدليل المتكفل لالغاء الشك مفهوم اسمي يعبر به
عن ارتباط الشك باليقين - كما إذا قيل: لا تنقض اليقين بالشك المرتبط به -،
كان ذلك الدليل متكفلا لأداء القاعدتين بلا اشكال، لان المفهوم الاسمي
باطلاقه يعم نحوي الارتباط وسنخيه.
واما إذا لم يكن فيه مفهوم اسمي، بلا دلل على ارتباط الشك باليقين
بواقع الارتباط الذي هو معنى حرفي، وهو النسبة - مثلا -، كان الدليل متكفلا
لاحدى القاعدتين، لأنه لا يمكن لحاظ الشك حينئذ بكلا الارتباطين حينئذ، بل
لا بد من لحاظه بأحدهما اما بالأول أو بالثاني، فيكون متكفلا لا حد القاعدتين
بحسب الارتباط الملحوظ في الشك، لان واقع الارتباط سنخ وجود فلا يصلح
للانطباق على أنحائه، بل يختص بنحو واحد يوجد به - كما قرر ذلك في بيان
391

المعنى الحرفي -، فالتعبير عن الضرب المرتبط بزيد ارتباط الصدور والضرب
المرتبط به ارتباط الوقوع عليه انما يصح معا إذا عبر عن الارتباط بمفهومه
الاسمي، كما إذا قيل: " الضرب المرتبط بزيد ". اما إذا دلل عليه بواقعه، وهو
النسبة، كما إذا قيل: " ضرب زيد "، فلا يشمل كلا الضربين، بل يشمل أحدهما
بحسب ما هو الملحوظ من الارتباط الصدوري أو الوقوعي.
والذي ينبغي ان يعلم: ان الامر الذي يرتكز عليه ما ذكر هو عدم لحاظ
الزمان في متعلق اليقين في قاعدة اليقين، وانه متعلق بذات الشئ بلا لحاظ
الزمان أصلا، والا فمع لحاظ الزمان كان ارتباط الشكين به بسنخ واحد، لان كلا
منهما تعلق بما تعلق به اليقين، فارتباطهما باليقين بسنخ واحد كارتباط الشك
باليقين بعدالة زيد واليقين بعدالة عمرو، فيمكن أداء هذا الارتباط بواقعه.
ولكنك عرفت أن متعلق اليقين هو الذات بلا لحاظ الزمان، فاليقين في كلتا
القاعدتين سنخ واحد لا سنخان.
وبالجملة: فوحدة سنخية اليقين تستلزم تعدد سنخية الارتباط، وتعدد
سنخيته تستلزم وحدة سنخية الارتباط. وقد عرفت أن التحقيق وحدة سنخية
اليقين.
وإذا تقرر انه لا بد من لحاظ الدليل المتكفل للحكم. فإن كان التعبير فيه
عن الارتباط بمفهوم اسمي، كان متكفلا لأداء القاعدتين. وان كان بواقعه الذي
هو معنى حرفي تكفل أداء إحداهما، فلا بد من ملاحظة اخبار الباب، وان التعبير
فيها عن ارتباط الشك باليقين هل هو بمفهومه الاسمي أو بمعناه الحرفي؟،
فنقول: ان اخبار الباب من قبيل الثاني، فان ارتباط الشك باليقين فيها انما هو
بواقعه، إذ ليس فيها مفهوم اسمي يكشف عنه، فتمتنع استفادة كلتا القاعدتين
منها، بل المستفاد هو خصوص الاستصحاب، لأنها واردة في موارده - أعني:
الشك في البقاء -.
392

ودعوى: انه ليس في اخبار الباب في مقام الاثبات ما يدل على لحاظ
ارتباط الشك باليقين بمفهومه الاسمي أو الحرفي، لأنه مطلق، واستفادة اشتراط
الارتباط انما كانت من اسناد النقض وتعلقه به، فيمكن ان يريد مطلق الارتباط،
فيتمسك باطلاق الشك في اثبات ذلك.
مندفعة: بان ما ذكر من عدم الدلالة في مقام الاثبات على اخذ الارتباط
بأحد النحوين، وان كان تاما في نفسه، الا انه لا يجدي في التمسك باطلاق
الشك، لان التقييد دائر بين المتباينين. توضيح ذلك: انه إذا لو حظ عند الجعل
مطلق الارتباط بين الشك واليقين، فلا بد من لحاظه بمفهومه الاسمي، فحينئذ
يحتاج إلى وجود رابط يربطه مع اليقين والشك، كما هو شان المفاهيم بعضها مع
بعض، فإنه لا ارتباط بينها الا بواقع الربط المعبر عنه بالوجود الرابط، وهو
لحاظ هذا المفهوم مرتبطا بذلك الذي ليس له ما بإزاء في الخارج، وهو المعبر عنه
بالمعنى الحرفي. أما إذا لو حظ سنخ واحد من الارتباط، فلا يحتاج إلى لحاظ
مفهوم الارتباط الاسمي، بل يقيد اليقين والشك بواقع الارتباط.
فعل الأول: يكون واقع الربط ملحوظا بين اليقين والشك والارتباط.
وعلى الثاني: يكون واقع الربط ملحوظا بين اليقين والشك فقط فيكون
الربط جزئيا واقعا اما على نحو الربط في الاستصحاب أو في القاعدة.
فيدور الامر حينئذ بين المتباينين، فيكون الكلام مجملا بالنسبة إلى مورد
الشك، وهو غير الارتباط المعتبر في الاستصحاب، فالتفت وتدبر جيدا.
الثاني: وهو الذي أشار إليه الشيخ في آخر كلامه -: قصور المقتضي
للشمول، فإنه بعد تسليم امكان إرادة كلتا القاعدتين من الاخبار ثبوتا، يقال:
بان الاخبار ظاهرة في الاستصحاب دون القاعدة ومنصرفة إليه دون الأعم،
وذلك لان ظاهر القضايا في الاحكام إرادة الموضوع الفعلي منه، فإذا قيل - مثلا
-: " أكرم العالم " فظاهره وجوب اكرام العالم الفعلي لا من كان عالما أو يكون.
393

وعليه، فظاهر اليقين في الاخبار هو اليقين الفعلي كظهور الشك فيه،
وذلك انما ينطبق على مورد الاستصحاب، لان اليقين بالعدالة سابقا موجود حال
الشك. بخلاف مورد القاعدة، فان اليقين ارتفع، وليس بموجود فعلا، لسراية
الشك إلى متعلقه بخصوصية الزمان، فتخصص الاخبار ظهورا بالاستصحاب.
ومحصل الوجه: دعوى ظهور وانصراف الاخبار إلى خصوص
الاستصحاب.
الثالث - وهو الذي افاده الشيخ -: لزوم التعارض في مدلول الرواية،
لأنه كما يكون لدينا يقين بوجود الحادث - كالعدالة -، كذلك يكون لدينا يقين
بعدمه لأنه حادث والحادث مسبوق بالعدم، فالشك فيما تيقن به من وجود
الحادث ينتسب إلى فردين من اليقين ويعارضهما اليقين السابق بالعدالة واليقين
الأسبق بعدم العدالة، ومقتضى الاستصحاب عدم نقض اليقين بعدمها بهذا
الشك والحكم بعدمها في زمان اليقين بها. ومقتضى القاعدة عدم نقض اليقين
بالعدالة به والحكم بها في زمان اليقين بها. فيحصل التعارض بين القاعدتين، ولا
يمكن ان يتكفل دليل واحد لأداء قاعدتين متعارضتين، لان جعل الحجية
للمتعارضين بجعل واحد ممتنع.
هذا تمام الكلام في بيان امكان أداة القاعدتين بدليل واحد ثبوتا واثباتا -
الذي سبق تحت عنوان الشرط الثاني -، وقد عرفت الامتناع اثباتا والتفصيل
ثبوتا بين الدليل المتكفل للمفهوم الاسمي الدال على مطلق الارتباط والمتكفل
للمعنى الحرفي الذي هو واقع الارتباط.
الثالث من شروط الاستصحاب أن يكون البقاء مشكوكا.
اما مع العلم به أو بعدمه، فلا اشكال في عدم جريان الاستصحاب، سواء
كان احراز البقاء أو الارتفاع وجدانيا أو تعبديا، كما إذا قام الدليل الاجتهادي
على وفق الحالة السابقة أو خلافها، وان كان قيامه غير رافع للشك الوجداني،
394

ولكنه لا كلام في تقديمه على الاستصحاب.
وانما الكلام في أنه - أعني: التقدم - بأي نحو من الانحاء، هل هو من
باب التخصيص. أو التخصص. أو الحكومة. أو الورود؟. ولا بد في بيان ذلك من
بيان المراد بكل من هذه الأمور، وبيان الوجه في تقدم الدليل المتضمن لأحدها
على الدليل المقابل له، كتقدم الحاكم على المحكوم ونحوه.
فالكلام يقع في جهات ثلاث:
الجهة الأولى في بيان المراد من هذه الأمور:
فاما التخصص، فهو خروج الفرد عن الموضوع العام حقيقة تكوينا
وذاتا، كخروج الجاهل عن دليل: " أكرم العالم ".
واما التخصيص، فهو كون الدليل متضمنا لعدم ترتب الحكم على
بعض افراد العام الذي ثبت له الحكم بدليل آخر، كنسبة " لا تكرم زيدا العالم "
إلى: " أكرم العلماء ".
واما الورود، فهو كون الدليل متضمنا لخروج هذا الفرد عن الموضوع
العام حقيقة، ولكن لا تكوينيا بل بواسطة التعبد الشرعي، فهو يشترك مع
التخصص في الجهة الأولى - أعني: الخروج الحقيقي -، ولكنه يختلف عنه في
الجهة الثانية - أعني: كونه ببركة التعبد لا ذاتيا -، وذلك كنسبة الدليل
الاجتهادي إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان العقلية، فإنه بقيام الدليل في المورد
يرتفع موضوع القاعدة وهو " لا بيان " فيه حقيقة لأنه بيان جزما، ولكن كونه
بيانا كان بجعل الشارع، إذ لولا اعتباره له لما كان بيانا حقيقة.
وكون هذه الأمور بالمعنى الذي ذكرناه مما لا اشكال فيه ولا خلاف، وان
كان قد يظهر من المحقق الخراساني في الكفاية إرادة معنى آخر من الورود (1).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 329 - 330 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
395

كما سيتضح في بيان ما ذكره من الوجه في تقديم الدليل الوارد على المورود.
واما الحكومة، فقد وقع الكلام في بيان ضابطها وتعريفها.
والذي ذكره الشيخ في هذا المقام: ان معنى الحكومة - على ما سيجئ في
باب التعادل والترجيح -. ان يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عما
يقتضيه الدليل الاخر لولا هذا الدليل الحاكم. أو بوجوب العمل في مورد بحكم
لا يتقضيه دليله لولا الدليل الحاكم. وحاصله: تنزيل شئ خارج عن موضوع
دليل منزلة الموضوع في ترتيب احكامه عليه، أو داخل في موضوع منزلة الخارج
منه في عدم ترتيب احكامه عليه (1).
واما ما ذكره في مبحث التعادل والترجيح فهو: ان ضابط الحكومة أن يكون
أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الاخر ورافعا للحكم
الثابت بالدليل الاخر عن بعض افراد موضوعه فيكون مبينا لمقدار مدلوله،
مسوقا لبيان حاله مفرعا عليه - يعني: إنه لولا الدليل المحكوم لكان الدليل
الحاكم لغوا (2) -.
ولا بد في بيان المراد من هذه العبارة من بيان ما تحتمله العبارة، وهو وجهان:
الأول: ان يراد ان الدليل الحاكم ما كان ناظرا إلى الدليل الاخر في مقام
دلالته على المراد، فيكون تارة مضيقا لدائرة دلالته. وأخرى موسعا لها. كما إذا
قال: " أكرم العلماء " ثم قال: " أعني: بالعلماء الفقهاء ". فان الدليل الثاني ناظر
إلى مقام دلالة الدليل الأول ومضيق لها.
الثاني: ان يراد ان الدليل الحاكم ما كان ناظرا إلى نفس الحكم مع قطع
النظر عن دلالة الدليل عليه ومقدارها، فيكون النظر إلى المدلول بذاته لا بما أنه
مدلول للدليل.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 400 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 432 - الطبعة الأولى.
396

فهل يراد من العبارة الوجه الأول - أعني كون الدليل ناظرا إلى الدليل
في مقام دلالته بتعبير، أو المدلول بما هو مدلول بتعبير آخر - أو الوجه الثاني،
وهو كونه ناظرا إلى المدلول بذاته من دون نظر إلى دلالة الدليل عليه؟.
الظاهر من صدر العبارة - وهو ما ذكرناه - هو الأول. فان التعبير بالنظر
إلى الدليل وبيان حاله ورفع الحكم الثابت بالدليل ظاهر في كون النظر إلى مقام
الدلالة والاثبات والمدلول بما هو مدلول لا نفس المدلول وذاته، وان المنظور إليه
هو الدليل، كما لا يخفى.
ولكن هناك امرين قد يدعى صلاحيتهما للقرينة على كون المراد بالعبارة
المذكورة هو الوجه الثاني:
الامر الأول: ما ذكره بعد هذا مثالا للحكومة من حكومة الدليل الدال
على أنه لا شك لكثير الشك على الأدلة المتكفلة لبيان احكام الشك، بتعليل
ذلك - أعني: الحكومة - بأنه لو فرض انه لم يرد من الشارع حكم المشكوك لم
يكن مورد للدليل النافي لحكم الشك. فان التعليل بورود حكم المشكوك يظهر
منه ان الدليل النافي ناظر إلى نفس الأحكام الثابتة للشك ونفيها لا إلى الدليل
الدال عليها وتعيين مقدار دلالته، وإلا لكان الأولى التعليل بورود الأدلة على
حكم الشك وكون النظر إليها.
الامر الثاني: جعله الدليل على التنزيل الموجب لتوسعة الموضوع
من موارد الحكومة - كما هو صريح عبارته الأولى -، مع أنه ناظر إلى ثبوت الحكم
للمنزل لا إلى دلالة الدليل الاخر - كما سيتضح -.
إلا أن الامر الأول لا يصلح للقرينة لعدم تماميته، وذلك لان التنزيلات
المتكفلة لتضييق دائرة الموضوع، سواء في الموضوعات التكوينية أو الموضوعات
الشرعية انما تصح فيما إذا كان للموضوع التكويني أو الشرعي اثر ما. فتنزيل:
" زيد " منزلة الانسان انما يصح لو كان هناك اثر يترتب على الانسان وإلا لكان
397

لغوا. ومثله في الموضوعات الشرعية، فحين يقول - مثلا -: " الفقاع ليس بخمر "
انما يصح لو كان للخمر اثر شرعي يترتب عليه، ومع عدمه يمتنع التنزيل
للغويته.
وترتب الأثر الذي يكون التنزيل بلحاظه ليس هو ترتبه الواقعي -
أعني: وجود الأثر وتحققه -، فان نفيه بالتنزيل ممتنع. وبعبارة أخرى: ان التنزيل
لا يكون بلحاظ الأثر الثابت الموجود حقيقة، وانما هو الترتب الاعتقادي
باعتبار شمول الأثر لهذا الفرد لأنه من الموضوع، فيكون دليل التنزيل مانعا
من تأثير المقتضي ومحددا لشموله ومضيقا لدائرته، ومفيدا لكون هذا المقتضي
الذي يتخيل انه مقتض لشمول الحكم لهذا الفرد قاصرا عن ذلك، وان الشمول
غير مراد جدا.
وهذا المقتضي في التكوينات عبارة عن العوارض الخارجية والصفات
العارضة على الكائن الموجبة لترتب الحكم عليه.
واما في الشرعيات، فهو عبارة عن العمومات والمطلقات، فإنها هي التي
تقتضي الشمول والاستغراق، فإذا كان دليل التنزيل ناظرا إلى الأثر الاعتقادي
الناشئ من اقتضاء الدليل العام أو المطلق لشمول الفرد، فمفاده عرفا هو النظر
إلى نفس دلالة العام أو المطلق بتضيق دائرة دلالته.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فان الدليل النافي للشك انما يتكفل تنزيل
شك كثير الشك بمنزلة عدمه، فهو ينظر لدلالة العام الموضوع للحكم على
شمول هذا الفرد، لأنه هو المقتضي للشمول، فيضيق مدلوله والمراد الجدي منه.
فاثبات نظر الدليل المتكفل لالغاء الشك عرفا إلى أدلة احكام الشك،
وبيان الجهة التي بها يرى العرف نظر هذا الدليل بمدلوله اللفظي إلى تلك
الأدلة في مقام دلالتها، يبتني على شيئين:
398

أحدهما: كون التنزيل بلحاظ ترتب الأثر.
والاخر: كون الملحوظ في الأثر هو الأثر الاعتقادي التصوري الناشئ
من وجود المقتضيات.
وهذا انما يتم في الدليل المتكفل للتضييق. اما المتكفل للتوسعة فلا يتم،
لأنه يمكن أن يكون بلحاظ ترتيب الأثر الواقعي عليه، بان يكون بلحاظ ثبوت
الحكم لهذا الفرد واقعا، بلا لحاظ التنزيل فلا يكون ناظرا إلى دلالة الدليل
المنزل عليه، بل إلى ثبوت الحكم لهذا الفرد.
وعلى كل فالامر الأول لا يصلح للقرينة التي قد تدعى.
واما الامر الثاني: فقد تقرب تماميته في نفسه: بان الدليل الثابت به توسعة
موضوع الحكم لا يخلو في مقام اللب والواقع من أحد أحوال أربعة:
الحال الأول: أن يكون متكفلا لبيان فردية أمر حقيقة لعنوان ما مأخوذ
في موضوع الحكم الشرعي، كما لو كانت فرديته لذلك العنوان أمرا مجهولا لدى
العرف، فيتكفل هذا الدليل كشفها.
ولعل قوله (ع): " الفقاع خمر استصغره الناس " (1). من هذا النحو، فإنه
بلسان بيان ان الفقاع فرد حقيقي للخمر وإن لم يعده الناس من افراده
لاستصغاره.
الحال الثاني (2): أن يكون بلسان فردية شئ ادعاء لا حقيقة، بان يدعى
دخول هذا الشئ في جنس العنوان المأخوذ في موضوع الحكم مع دخوله فيه
حقيقة، ثم يستعمل اللفظ الموضوع لذلك المعنون فيه ويكون الاستعمال حقيقيا،
لان التصرف في أمر عقلي وهو التطبيق لا في أمر لغوي وهو الاستعمال.
الحال الثالث: أن يكون متكفلا لبيان اعتبار شئ بأنه ذلك العنوان التي

(1) وسائل الشيعة 17 / 292 باب 28 من أبواب الأشربة المحرمة حديث 1.
(2) استشكل السيد الأستاذ - دام ظله - في الدورة الثانية في مجرد الفرد الادعائي ولم يبين وجهه (منه عفي عنه).
399

ترتب عليه الحكم أو منه، وصحة الاعتبار متوقفة على أن يكون الأثر مترتبا على
الفرد الاعتباري اما بخصوصه أو مع الفرد الحقيقي، ومع عدم العلم بذلك
يستكشف ترتب الأثر على الفرد الاعتباري بدلالة الاقتضاء بعد ورود دليل
الاعتبار.
الحال الرابع: أن يكون متكفلا لتنزيل شئ منزلة آخر في ثبوت الحكم
الثابت لذاك بلا بيان انه فرد حقيقي أو ادعائي أو اعتباري.
وليعلم ان هذه الأحوال تتأتى في دليل التضييق أيضا.
ولا يخفى ان الدليل على كل حال من الأحوال الثلاثة الأول ناظر إلى
الدليل المحكوم في مرحلة دلالته واثباته وللمدلول بما هو مدلول، لأنه يتكفل
التوسعة في مدلوله، فإنه بعدان يكشف عن أن هذا الشئ فرد حقيقي
للموضوع، أو انه قد ادعى فرديته أو اعتبره منه، يكون العنوان المأخوذ موضوعا
في الدليل المحكوم أوسع دلالة، لأنه حينئذ يعم الفرد الحقيقي المغفول عنه أو
الادعائي أو الاعتباري، فلا محالة يكون الدليل الوارد على أحد هذه الانحاء
الثلاثة ناظرا إلى دلالة الدليل الاخر موسعا لها، لان مفاده ان المراد من العنوان
العام الأعم.
اما دليل التنزيل، فليس هو ناظرا إلى الدليل المحكوم في مرحلة دلالته،
بلى إلى المدلول بذاته، لأنه لا يتكفل سوى تنزيل هذا منزلة ذاك. والتنزيل انما
يكون في ثبوت الحكم له وبلحاظه، وهذا لا يوجب التوسعة في مدلول ذلك
العنوان، فلا نظر إلى مدلوله بما هو مدلول، فلا يكون مفاد دليله تعميم دلالة
ذلك العنوان لهذا الفرد.
وبهذا تعرف خروج دليل التنزيل المتكفل لتوسعة موضوع الحكم عن
مورد الحكومة بتفسير الشيخ، بناء على حمله على ما ذكر، مع أن صريح كلامه
(قدس سره) عده من مواردها.
ولكنه لا يخفى ان دليل التنزيل ناظرا عرفا بمدلوله اللفظي إلى الدليل
400

الاخر في مقام دلالته، وذلك وإن لم يكن ظاهرا في بعض الموارد ظهورا تاما، كما
في: " الطواف في البيت صلاة " (1) - بناء على أنه يتكفل التنزيل لا الاعتبار -،
فإنه ناظر بدوا إلى ثبوت الحكم، وهو شرطية الطهارة للطواف مع قطع النظر عن
دلالة دليل عليه، وهو لا يوجب التوسعة في مدلول: " لا صلاة الا بطهور " (2) لأنه
لا يتكفل ثبوت نفس ذلك الحكم المنشأ بالدليل المحكوم للطواف بل اثبات
حكم آخر مماثل له، فهو غير ناظر إلى دلالة الدليل المذكور على الحكم.
الا انه يظهر تماما في موارد اخر كموارد قاعدة الفراغ - على ما سيجئ -،
فان القاعدة تتكفل تنزيل هذا الفرد المشكوك منزلة المأمور به، ويترتب عليه
نفس الحكم المنشأ والمترتب على الأمور به لا حكم مماثل. لما ستعرفه في محله،
فيكون ناظرا إلى المدلول بما هو مدلول للدليل.
فنكتة الفرق بين المقامين: ان أحدهما يكون التنزيل فيه بلحاظ ثبوت
نفس الأثر المنشأ الثابت للعنوان الموضوع للحكم وذلك بجعل موضوع الحكم
أعم من الفرد الحقيقي والفرد المنزل عليه، فيكون ناظرا إلى الدليل، مثل
المتكفل للتضييق بلحاظ نفي الأثر الذي يتخيل ثبوته بالدليل. وان الاخر
يكون التنزيل بلحاظ ثبوت أثر مماثل لذاك، فيكون ناظرا إلى المدلول بذاته
بدوا.
وبالجملة: لا فرق بين دليل التنزيل المتكفل للتضييق والمتكفل للتوسعة
في كون كل منهما ناظرا إلى الدليل والمدلول بما هو مدلول.
ولكن تعليل هذا الظهور العرفي في الدليل المتكفل للتضييق واضح كما
عرفت. وقد لا يتضح تعليله فيما تكفل التوسعة من الأدلة.
وعلى تقدير انه لم يكن ناظرا إلى الدليل، فهو غير مهم في المقام ومحط

(1) عوالي اللئالي 2 / 163 حديث 3.
(2) وسائل الشيعة 1 / 256 باب 1 من أبواب الوضوء حديث 1.
401

الكلام من بيان ضابط الحكومة وتحديد معناها، لأنه لا اشكال في الاخذ به مع
الدليل الاخر لعدم التنافي ظاهرا بينهما، فسواء كان من موارد الحكومة أو لم يكن
فهو مأخوذ به. وانما المهم هو الدليل المتكفل للتضييق، لمنافاته ظاهرا مع الدليل
الاخر، ولأجل ذلك كان ضبط الحكومة وخصوصياتها بلحاظه والنظر إليه.
فيتحصل لدينا: انه لا مانع من استظهار كون الحكومة على رأي الشيخ
هي النظر إلى الدليل الاخر ببيان حاله ومقدار دلالته، لا إلى ذات المدلول، ولا
قرينة تصرف هذا الظاهر عن ظهوره.
ثم المراد بالنظر بالمدلول اللفظي - في تعبير الشيخ -، هو كون اللفظ
بدلالته ناظرا إلى ذاك الدليل اما بالدلالة المطابقية، كما في الدليل المتضمن
لكلمة التفسير وأداة الشرع مثل: " أعني، وأي " وغيرهما. أو بالدلالة الالتزامية
العرفية، كما في مورد تكفل الدليل الاعتبار، فإنه ناظر إلى الدليل الاخر التزاما
بحسب فهم العرف - كما عرفت -.
والسر في اخذ هذا القيد - أعني: كون النظر بالمدلول اللفظي - في ضابط
الحكومة هو اخراج التخصيص عن تعريفها، لان الحكومة والتخصيص وان كانا
يشتركان في كونهما دالين لبا على تضييق المراد الجدي من العام، لكن التخصيص
انما يدل عليه بالعقل لا بالدلالة اللفظية كما في الحكومة، فإنه لفظا لا يتكفل
سوى نفي الحكم عن بعض افراد العام، ولكن العقل - بواسطة بعض المقدمات
العقلية البرهانية - يحكم بعدم إرادة الكل من العام جدا. بخلاف الحكومة، فان
الدليل الحاكم ناظر إلى هذه الجهة من الدليل الاخر بمدلوله اللفظي.
واما المراد بالتفرع في قوله: " متفرعا عليه "، فهو ان الدليل الحاكم يكون
لغوا لولا الدليل المحكوم، لأنه بعد أن كان ناظرا إليه ومبنيا لحاله كانت نسبته
إليه نسبة القرينة إلى ذي القرينة والشارح إلى المشروح، فيتفرع عليه تفرع
القرينة على ذيها والشارع على المشروح.
402

ولكن المحقق الخراساني لم يرتض اعتبار هذا القيد، وأفاد: بأنه لا يعتبر
تفرع الدليل الحاكم على الدليل المحكوم. والمهم في اثبات ما ذكره هو ما ذهب
إليه من انتقاض اعتبار هذا القيد بحكومة الامارات على الأصول - الثابتة عند
الشيخ -، لان الامارة لا تتفرع على وجود الأصول، بل لو لم يكن في البين أصل
ما، لكانت الامارة ثابتة الاعتبار ومستقلة الثبوت.
وأوعز ذلك إلى أن الامارة تتكفل جهتين:
الأولى: جهة تضمنها حكما مستقلا - كالمنجزية والمعذرية -، وهي جهة
تامة في نفسها.
الثانية: صلاحية النظر إلى دليل آخر. فلو لم يكن هناك دليل تصلح هي
للنظر إليه، فلا تكون لغوا، بل تثبت بلحاظ الجهة الأولى.
ولأجل ذلك التزم بتفسير الحكومة: بأنها كون الدليل بحيث يصلح للنظر
إلى دليل آخر، فالمأخوذ فيه صلاحية النظر لا النظر الفعلي، بمعنى انه ان كان
هناك دليل يصلح لان ينظر إليه هذا الدليل فهو ناظر إليه فعلا، وإلا فلا يحتاج
في حكومته كونه ناظرا فعلا، وبذلك عمم ورود الدليل الحاكم لما إذا كان قبل
دليل المحكوم وبعده (1).
وكأنه استفاد من كلام الشيخ في اشتراط النظر الفعلي لزوم كون الدليل
الحاكم واردا بعد ورود المحكوم.
الا ان هذه الاستفادة ممنوعة إذ ليس في كلام الشيخ ما يشير إليها.
والتفرع لا يقتضي التأخر في الورود كما لا يخفى.
ولكن ما ذكره (قدس سره) محل نظر، فان من يدعي حكومة الامارة على
الأصول التعبدية انما يدعيها بملاك ان دليل اعتبارها متكفل لتنزيل الامارة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم، حاشية الفرائد الأصول / 256 - الطبعة الأولى.
403

منزلة العلم، وان من قامت عنده الامارة يكون عالما، أو متكفل لالغاء الشك مع
قيامها، وان من قامت عنده الامارة ليس بجاهل وغير عالم.
وصلاحية النظر التي تتضمنها الامارة إنما هي بهذا الاعتبار واللحاظ.
وعليه، فنقول: انه في مقام جعل الامارة وجعل هذه الجهة فيها - أعني:
جهة الصلاحية -، أما أن يكون الجاعل ناظرا إلى الأدلة المتكفلة لاحكام الشك
وعدم العلم من الأصول التعبدية - يعني انه في مقام جعل الامارة لا حظ تلك
الأدلة -، أو لا يكون ناظرا. فإن كان ناظرا فلا ريب في تفرعها عليها. وإن لم
يكن ناظرا فلا صلاحية لدليل اعتبار الامارة للنظر أصلا. فاعتبار صلاحية
النظر في الدليل الحاكم يستلزم التفرع أيضا.
وبهذا كله يتبين ان ما ذكره الشيخ من تفسير الحكومة لا يعرف فيه
اشكال، فيتعين الالتزام به.
واما ما ذكره المحقق النائيني في تفسير الحكومة من: انها عبارة عن
تصرف الدليل في عقد وضع الدليل الاخر أو عقد حمله (1).
فهو لا يصلح للضابطية، لأنه ليس تفسيرا لها، بل بيانا لموردها ومحققها
وواقعها، فإنها كون الدليل ناظرا إلى الدليل الاخر بمدلوله اللفظي، والتصرف
من موجباته، كما سيتضح عند بيان الوجه في تقديم الدليل الحاكم على المحكوم.
ومما ينبغي التنبيه عليه: ان الثمرة من تفسير الحكومة بهذا التفسير وجعل
الفارق بينها وبين التخصيص مع اشتراكهما لبا في الدلالة، هو عدم ملاحظة
النسبة بين الدليل الحاكم والمحكوم من أنها العموم والخصوص المطلق أو العموم
والخصوص من وجه، لان الدليل الحاكم يقدم على الدليل المحكوم مطلقا.
بخلاف التخصيص كما لا يخفى. واما السر فيه فسيتضح في بيان الوجه في تقديم

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 710 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
404

الدليل الحاكم. فانتظر.
الجهة الثانية: في وجه تقديم الدليل الحاكم والوارد والمخصص على
الدليل المحكوم والمورد والعام.
اما الوجه في تقديم الحاكم على المحكوم. فقد قربه المحقق الأصفهاني
(قدس سره) وتبعه السيد الخوئي - كما في بعض تقريراته (1) - بأنه لا منافاة بين
الدليلين الحاكم والمحكوم، لان أدلة الاحكام إذا كانت بنحو القضية الحقيقية
متكفلة لاثبات الحكم على تقدير وجود الموضوع، بمعنى انه على تقدير تحقق
الموضوع خارجا يثبت له الحكم، ولا تعرض لها أصلا لبيان وجود الموضوع نفيا
واثباتا.
وبما (2) ان الدليل الحاكم شانه التصرف في الموضوع. ببيان: ان هذا منه

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 349 - الطبعة الأولى.
(2) قد عرفت الحكومة بكون أحد الدليلين متصرفا في موضوع الدليل الاخر، اما بتضييقه أو بتوسعته.
هو لا بأس يتحقق هذه الجهة مع غض النظر عما ذكر في المتن من اشكال، فنقول:
أما دليل التوسعة: فما يتكفل منه بيان فرد بيان فرد حقيقي كقوله (عليه السلام): " الفقاع خمر استصغره
الناس " - على احتمال قريب - فهو لا يستلزم توسعة في المدلول ودلالة الدليل، إذا الحكم وارد على الموضوع
المقدر الوجود. والدليل المزبور يكشف عن انطباقه في المورد الخاص، وهذا لا يقتضي التوسعة في موضوع
الحكم.
وما يتكفل منه اعتبار فرد للموضوع، كما يقال في مثل: " الطواف في البيت صلاة "، فإن كان ظاهر
الدليل الأولي كون موضوعه أعم من الفرد الحقيقي والاعتباري، فلا يكون دليل الاعتبار موجبا لتوسعة
الدلالة، بل هو يتكفل ايجاد فرد للموضوع وتحقيقه نظير اشتغال الشخص بالتحصيل وصيرورته عالما.
ويكون دليل الاعتبار واردا على الدليل الأولي لا حاكما. وإن يكن ظاهر الدليل ذلك، فنفس دليل
الاعتبار يدل على التوسعة في الموضوع وانه الأعم من الفرد الحقيقي أو الاعتباري بواسطة دلالة الاقتضاء
- كما أوضحناه في المتن -.
ويكون المورد برزخا بين الحكومة والورود، لدخول الفرد حقيقة في الموضوع، ولكون دليل الاعتبار
ناظرا إلى الدليل الأولي.
وأما ما يتكفل منه التنزيل: فلا يخفى ان مفاد التنزيل ليس إلا ترتيب مثل أثر المنزل عليه على
المنزل، وان شؤون المنزل عليه ثابتة للمنزل لا ترتيب نفس اثر المنزل عليه على المنزل.
فمرجع التنزيل على هذا إلى انشاء الأثر - بدليل التنزيل - للمنزل، ومثله لا يتكفل التوسعة في
موضوع الدليل الاخر، كما هو واضح.
وأما دليل التضييق: فما يتكفل البيان الحقيقي.
تارة: يرجع إلى بيان عدم مصداقية، فرد متوهم المصداقية فهو لا يستلزم تضييق الموضوع واقعا
لأنه ضيق الصدق في نفسه، غاية الامر انه مجهول.
وأخرى يرجع إلى التصرف في المفهوم، فهو مما لا معنى له، إذ بعد فرض ان المفهوم العرفي معلوم
فلا معنى لنفيه حقيقة، لأنه يصادم القطع به. فلو ورد ما ظاهره ذلك فلا بد ان يرجع إلى الاعتبار وهو
خارج عن الفرض.
واما ما يتكفل النفي اعتبارا، فالكلام فيه هو الكلام في دليل التوسعة.
وأما ما يتكفل النفي تنزيلا، فمرجعه إلى نفي الأثر الثابت لهذا الفرد بالدليل الاخر فيستلزم
التضييق في الدليل الاخر.
وبهذا البيان يظهر اختصاص الدليل الحاكم المتصرف في الموضوع بما يتكفل النفي التنزيلي ويمكن
الحاق دليل الاعتبار الدال على التوسعة والتضييق بدلالة الاقتضاء.
وبما أن الملحوظ هو نفي الأثر بلحاظ قيام الدليل على ثبوته، كان الدليل الحاكم موجبا
للتصرف في مرحلة الدلالة لا ذات المدلول.
وقد أوضح هذا المعنى في المتن فراجع -.
ثم إن ههنا تحقيقا في الدليل الحاكم ثبوتا واثباتا يأتي فيما بعد.
405

أو ليس منه فلا ينافي الدليل المحكوم الدال على ثبوت الحكم على تقدير ثبوت
الموضوع، فلا منافاة بين الدليل الدال على حرمة الخمر والدليل الدال على عدم
خمرية هذا المائع (1).
وهذا الوجه مع عدم تماميته في نفسه غير شامل لجميع موارد الحكومة، لان
الدليل الحاكم.
تارة: يكون متكفلا لتفسير وشرح الدليل الاخر، وهو المشتمل على
كلمة: " أعني. وأي " وغيرهما.
وأخرى: يكون متصرفا في عقد وضع الدليل الاخر.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 144 - الطبعة الأولى.
406

وثالثة: يكون متصرفا في عقد حمله، كما يمثل له بدليل نفي الضرر بناء
على تكفله نفي الحكم الضرري. وما ذكره من عدم التنافي لا يتأتى في ما تكفل
التصرف في عقد الحمل، إذ التنافي بين أدلة نفي الضرر وأدلة الاحكام مما لا
يخفى، لتكفل أحدهما نفي الحكم والاخر اثباته، لان المفروض أن التصرف في
نفس الحكم برفعه في بعض الموارد.
فما ذكر من الوجه لا يصلح لان يكون وجها لتقديم الدليل الحاكم على
المحكوم لعدم اطراده في جميع موارد الحكومة.
مع أنه غير تام في نفسه وفي مورده - أعني: التصرف في عقد الوضع -.
وتحقيق ذلك: انك قد عرفت أن الدليل المتصرف في الموضوع - تضييقا - قد
يقال: بأنه متكفل لاعتبار هذا الفرد خارجا عن الموضوع. وقد يقال: بأنه متكفل
لبيان عدم الفردية بنحو الادعاء. وقد يقال: بأنه مسوق لبيان عدم الفردية
حقيقة. وقد يقال: بأنه مسوق لتنزيل هذا الفرد منزلة الخارج. وعلى جميع هذه
التقادير الأربعة لا يتم الوجه المذكور، لان التقادير الثلاثة الأول غير معترف
بها لعدم تماميتها فلا يصح القول بها.
اما التقدير الأول - وهو القول بان الدليل الحاكم متكفل الاعتبار -،
فلما يقرر في محله من عدم كون الأحكام الوضعية كالملكية وغيرها من المجعولات
الشرعية الاعتبارية، بل هي منتزعة عن الأحكام التكليفية، لعدم ترتب اي
فائدة على اعتبارها فتكون لغوا، لان الغرض من اعتبارها ليس إلا ثبوت الآثار
الشرعية عند تحقق منشأ اعتبارها، وهذا يمكن تحقيقه بلا اعتبار للملكية مثلا،
بان يترتب الحكم على تحقق منشأ اعتبارها بلا توسط اعتبارها، فيكون اعتبارها
مستقلا لغوا، فلا وجود للأمور الاعتبارية الوضعية.
ولو سلم وجودها وان لها جعلا مستقلا، فلا يسلم بامكان الاعتبار
الشخصي الفردي، ومنه الاعتبار الشرعي، بل يمنع ذلك ويختص الاعتبار
407

بالاعتبارات العقلائية العرفية، إذ لا يترتب عليه اي أثر فيكون لغوا.
ومع تسليم امكان الاعتبار الشرعي والفردي، فهو انما يسلم في صورة ما
إذا كان للعقلاء اعتبار لسنخ هذا المعتبر، بان اعتبر الشارع فردا لما اعتبره
العقلاء، كما لو اعتبر ملكية الشئ الكذائي، وإلا فلا يصح الاعتبار. وأدلة
التصرف ليست بهذا النحو.
ولو أغمضنا النظر عن جميع ذلك، أو قلنا بوجود الدليل حاكم بالنحو
الأخير، فنقول: ان الدليل المتكفل لثبوت الحكم للموضوع اما ان يلاحظ فيه
الموضوع ما لم يقم اعتبار على عدم كونه من الموضوع الحقيقي، بحيث يكون
مختص الشمول بما لم يعتبر خروجه أو يلاحظ ذلك فيعم باطلاقه ما اعتبر
خروجه.
فعلى الأول: فالدليل الحاكم المتكفل لعدم فرديته اعتبارا وان قدم على
الدليل المحكوم، لكن تقديمه عليه لا بنحو الحكومة، بل بنحو الورود لخروجه
- أعني الفرد - عن موضوع الحكم حقيقة، الا انه ببركة الاعتبار الشرعي.
وعلى الثاني: فالتنافي بين الدليلين حاصل، لان الدليل الحاكم باعتباره
عدم فردية هذا الفرد وخروجه عن الموضوع يتكفل نفي الحكم عنه التزاما،
والمفروض ان الحكم يتكفل ثبوت الحكم له بالاطلاق، فيحصل التنافي.
واما التقدير الثاني - وهو كون الدليل الحاكم متكفلا لعدم الفردية بنحو
الادعاء -، فلان استعمال اللفظ في الموضوع للطبيعة على نحوين:
الأول: ان يستعمل في الطبيعة بما هي بلا لحاظ افرادها الخاصة منه.
النحو الثاني: ان يستعمل في الطبيعة، ولكن يراد منه فردها بنحو
الاطلاق، بمعنى ان المستعمل فيه هو الطبيعة ولكن يراد منه افرادها بنحو
اطلاق الطبيعة على فردها، نظير: " أكلت الرغيف، وادخل السوق "، فالمراد فرد
من طبيعة الرغيف والسوق، لامتناع تعلق الأكل والدخول بطبيعة المأكول
408

والمدخول، بل هما يتعلقان بالفرد.
والادعاء انما يتصور تحققه في ما إذا كان الاستعمال بنحو الثاني، لان
المراد الفرد، فيمكن ادعاء فردية شئ وعدم فرديته ليكون مشمولا للاطلاق أو
لا يكون.
اما إذا كان بالنحو الأول، فلا يتصور فيه الادعاء، لان المستعمل فيه هو
الطبيعة بلا لحاظ انطباقها على فرد منها أصلا.
ولا يخفى ان ترتب الاحكام في الأدلة انما هو على الطبيعة بما هي بلا
لحاظ فرد بخصوصه منها. فلا وجه لدعوى التصرف في الموضوع بنحو الادعاء.
وتوهم: ان الحكم في جميع القضايا الشرعية ليس مرتبا على الطبيعة بما
هي بلا لحاظ افرادها الخارجية، كي يمتنع كون الدليل الحاكم متصرفا في
الموضوع بنحو الادعاء، بل منها ما رتب الحكم فيه على الافراد دون الطبيعة، -
كما في العمومات الاستغراقية -، وحينئذ فيمكن كون الدليل الحاكم متكفلا لنفي
الفردية ادعاء، لامكان ذلك في مثل هذه القضايا، لان الملحوظ في الحكم هو
الافراد دون الطبيعة.
فاسد: لان المقصود بالحكم في جميع القضايا الشرعية، سواء كان الحكم
مرتبا في لسان الدليل على الطبيعة كالعمومات البديلة أو على الافراد
كالعمومات الاستغراقية، انما هو الفرد غاية الامر انه تارة يقصد الفرد على
البدل كما في العمومات البدلية، لان المطلوب فيها صرف الوجود. وأخرى جميع
الافراد كما في العمومات الاستغراقية، لان المطلوب فيها مطلق الوجود. ولكنه
في كلا الحالتين لا يرتبط بالحقيقة الادعائية أصلا، لان الحقيقة الادعائية - كما
عرفت - هي استعمال اللفظ في الطبيعة وإرادة فرد منها أو افراد بنحو الاطلاق
409

مع ادعاء فردية أحدها أو جميعها للطبيعة، مع أنها لم تكن من افراد الطبيعة حقيقة
فاطلاق الطبيعة على فردها أو افرادها بالاستعمال، فلا بد من لحاظ هذه الافراد
حين الاستعمال، ويكن الفرد أو أحد هذه الافراد فردا ادعائيا، ويكون الادعاء
بعد هذا اخبارا لا انشاء، نظير ما لو قيل: " رأيت اسودا عشرة " وكان أحد
العشرة رجلا شجاعا. اما استعمال اللفظ في الطبيعة أو في مفهوم عام لجميع
الافراد يكون عنوانها اجمالا بلا لحاظ اي فرد بخصوصه - كما فيما نحن فيه من
قضايا الاحكام فان الافراد ملحوظة بعنوانها الاجمالي وهو العام، فالاستعمال في
المفهوم العام بلا لحاظ تطبيقه على فرد خاص حال الاستعمال -، فلا يرتبط
بالادعاء أصلا. فان التطبيق فيه بعد الاستعمال والانشاء وهو لا يرتبط بالادعاء،
لان الادعاء يكون بالتطبيق حال الاستعمال، فيلحظ الفرد بخصوصه ويستعمل
اللفظ في طبيعته ويطبق عليه حين الاستعمال.
ودعوى: امكان أن يكون الحاكم قد لا حظ اجمالا بالمفهوم العام جميع
الافراد أعم من الحقيقة والادعائية ورتب الحكم عليه، فعند ادعاء فردية شئ
يكون مشمولا للعام ومرتبا عليه الحكم.
مندفعة: بان هذا من الادعاء في شئ، بل هو راجع إلى الاعتبار
وترتب الحكم على الأعم من الفرد الواقعي والاعتباري، لان الادعاء انما يرتبط
بمقام الاستعمال لا غير.
فتحصل: ان دعوى كون الدليل الحاكم مطلقا أو في الجملة متكفلا لنفي
الحقيقة ادعاء واضحة البطلان.
واما التقدير الثالث - وهو كون الدليل الحاكم متكفلا لنفي الفردية
حقيقة وواقعا -، فلان هناك موارد يعلم فيها بان هذا فرد حقيقي وواقعي للطبيعة،
410

فيمتنع ان ينزل الدليل الوارد فيها الدال على نفي فردية هذا الفرد للطبيعة على
نفي الفردية حقيقة. فان نفي الفردية حقيقة انما يكون باعتبار المسامحة العرفية
في تطبيق العنوان الكلي على افراده، فيطلق اللفظ على بعض الافراد والتي يعلم
خروجها عن الطبيعة حقيقة بالمسامحة. اما مع العلم بفرديته للطبيعة بلا مسامحة
في تطبيق الكلي عليه، فلا يمكن حمل الدليل على نفي الفردية حقيقة.
فنفي الحقيقة انما يجدي مع المسامحة العرفية في التطبيق، كما لعله يستفاد
من قوله (عليه السلام): " الفقاع خمر استصغره الناس ".
ولو سلم امكان تكفل الدليل لنفي الفردية حقيقة، فهو خارج عن
الحكومة وليس منها في شئ، لأنه لا يوجب تضييقا في مدلول الدليل والمراد
الجدي منه، لان الحكم رتب على افراد الموضوع الواقعية التي يكون الشارع
والعرف طريقا إليها، فمع كشف الشارع عن عدم فردية شئ لا يوجب ذلك
تضييقا في المراد الجدي وموضوع الحكم، بل هو بيان للافراد التي لم يرتب عليها
الحكم في القضية الانشائية، ولا يرى العرف ان الشارع قد ضيق موضوع الحكم
ومدلول الدليل، لأنك عرفت أن نفي الفردية، انما هو باعتبار المسامحة العرفية في
تطبيق الكلي على افراده، لا باعتبار سعة المفهوم كي يكون نفي الفردية موجبا
للتضييق.
ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الدليل المتكفل لنفي الفردية موجبا للعلم
أولا لان النظر في غير العلمي انما يكون لنفس مدلول الدليل، وهو خارج عن
الحكومة لو كان في الواقع ثابتا.
نعم، لو كان النظر إلى دليل اعتباره، فحيث إنه غير موجب للعلم بعدم
الفردية، ويؤخذ به تعبدا لاعتباره شرعا كان من باب الحكومة. الا ان ذلك خارج
عن محل الكلام، لأنه يكون من الحكومة الظاهرية، وهي غير مورد الكلام، وانما
الكلام في الحكومة الواقعية التي تكون بلحاظ نفس الدليل مع غض النظر عن
411

دليل اعتباره، كما في التقادير الأخرى - وسيجئ في مبحث التعادل والترجيح
بيان الحكومة الظاهرية انشاء الله تعالى -.
وإذا تبين انه لا يمكن الالتزام بكون الدليل الحاكم متكفلا لنفي الفردية
اعتبارا ولا ادعاء ولا حقيقة، فيتعين الالتزام بأنه يتكفل تنزيل شئ منزلة الاخر
في ترتيب الحكم عليه أو عدمه لعدم ترتيب الحكم عليه.
ولا يخفى ان المنافاة الظاهرية بين الدليل المتكفل للتنزيل والدليل
الاخر موجودة، لان الملحوظ في دليل التنزيل ليس المراد الجدي المدلول عليه
بالمطابقة بل خصوص ما يدل عليه التزاما من نفي الحكم عن هذا الفرد الدال
على ثبوته له الدليل الاخر، لأنه يتكفل اثبات الحكم له بالدلالة المطابقية،
فيحصل التنافي ظاهرا وبدوا بينهما فالملحوظ في دليل التنزيل ما يدل عليه
بالدلالة الالتزامية - نظير الاستعمالات الكنائية مع عدم لحاظ المدلول المطابقي
فيه أصلا، لذا يكون الدليل النافي موجبا للتضييق، فإنه يكشف عن التنافي.
وبذلك يظهر ثبوت التنافي بين الحاكم والمحكوم، فلا وجه لجعل الوجه في
تقدير الحاكم على المحكوم هو عدم التنافي بين الدليلين.
الوجه المختار في التقديم
والتحقيق: ان الوجه في التقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم هو
الوجه في تقديم القرينة على ذي القرينة والشارح على المشروح، لأنك عرفت أن
الدليل الحاكم بالنسبة إلى الدليل المحكوم بمنزلة القرينة ولذلك كان متفرعا
عليه. وان كان الدليل الحاكم من قبيل القرينة المنفصلة، إذ لا فرق بين المتصلة
والمنفصلة في تقديمها على ذيها عرفا.
وتوضيح ذلك: ان القرينة على المراد الجدي من الكلام تارة تكون متصلة
وأخرى تكون منفصلة. وتشتركان في أنهما تبينان ما هو مراد المتكلم الجدي، وان
412

كانت القرينة المتصلة تختلف عن المنفصلة في أنها قد توجب تصرفا في الظهور
الاستعمالي - كما توجب تصرفا في المراد الجدي بحسب الظاهر - فيما لم يكن
الجمع بين الظهور الأولى البدوي للكلام وظهور القرينة في مؤادها، فتقلب ظهور
الكلام حينئذ إلى الظهور الثانوي له، كما في المجاز على المشهور، نحو: " رأيت
أسدا يرمي "، فان: " يرمي " أوجبت التصرف في ظهور: " أسد " في معناه الحقيقي
وظهوره الأولى الذي هو السبع المخصوص، وقلب ظهوره إلى الظهور الثانوية
وهو الظهور في الرجل الشجاع، لمكان المنافاة بين الرمي والسبع المخصوص.
اما مع امكان الجمع، فلا تتكفل الا بيان المراد الجدي، كما في المثال
المذكور على رأي السكاكي (1). فإنه ذكر ان: " أسدا " مستعمل في معناه الحقيقي.
واما الجمع فهو يجعل التصرف في أمر عقلي وهو تطبيق السبع المخصوص على
الرجل الشجاع وجعل الشجاع من افراده. فالقرينة - أعني يرمي - على
قرينتها. والظهور الاستعمالي للكلام على ظهوره.
فالقرينة المتصلة والمنفصلة تشتركان في كونهما يتكفلان بيان مراد المتكلم
الجدي من كلامه، فإذا كان إفادة المراد الجدي وبيانه بالمدلول اللفظي - سواء
كان المطابقي أو الالتزامي العرفي - كانت القرينة مقدمة على ذي القرينة عرفا،
بحيث لا يلاحظ العرف بينهما مرجحات التقديم من أقوائية الظهور والنسبة من
العموم والخصوص وغير ذلك، بل لا يتوقف أصلا في تقديم الدليل والمتكفل
بمدلوله اللفظي لبيان المراد الجدي من دليل اخر عليه، بل بملاحظة هذه الجهة
لا يرى ان هناك منافاة بين الدليلين كي يتحير في طريقة الجمع بينهما، ويكون
ملاك تقديمه عليه كما لو صرح الجاعل بان مرادي الجدي من هذا الكلام يعرف
بدليل اخر، فبملاك القرينية يتقدم الدليل الحاكم على المحكوم - لأنه متعرض

(1) على ما نقل من مفتاح العلوم / 156، الفصل الثالث في الاستعارة.
413

لحال الدليل الاخر بمدلوله اللفظي فيكون قرينة عليه -، وان كان منفصلا عنه،
لعدم الفرق بين كلتا القرينتين في ملاك التقديم، وهو التعرض لبيان المراد الجدي
بالمدلول اللفظي.
وبذلك يفترق المقام عن التخصيص، لان تعرض الدليل المخصص إلى
البيان المراد الجدي من العام ليس بمدلوله اللفظي، بل بمقتضى حكم العقل،
لأنه بعد أن يرى التنافي بين شمول الحكم لهذا الفرد وشمول اخر له للتضاد بين
الاحكام -، يرى ان أحد الدليلين مناف للاخر. فلا بد من العمل بأحدهما لا
كليهما، فلا بد من تقديم أحدهما على الاخر. فيلاحظ حينئذ مرجحات التقديم
من أقوائية الظهور والنسبة وغيرهما، إذ لا وجه لتقديم المخصص مطلقا على
العام، فإذا قدم المخصص وخصص العام حكم العقل حينئذ بان المراد الجدي
من العام هو الباقي لا الجميع، فقرينية التخصيص ليست لفظية بل عقلية،
ولذلك لا يكون ملاك تقديم أحد الدليلين على الاخر تخصيصا هو القرينية بل
مرجحات التقديم.
وقد ذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى: أن تقديم الخاص على العام
بملاك القرينية (1).
ولكنه غير مسلم وستعرف ما فيه في بيان الوجه في تقديم الخاص على
العام في باب التعادل والترجيح ان شاء الله تعالى فانتظر.
واما الوجه في تقديم الوارد على المورود، فهو واضح جدا، لان أحد
الدليلين ناظر إلى مقام يختلف عن المقام الذي ينظر إليه الاخر، وبعد ورود
الدليل الوارد والاخذ به يرتفع موضوع الدليل المورود حقيقة، فلا يبقى لوروده
حينئذ مجال لارتفاع موضوعه.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 720 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
414

وعليه، فلا منافاة بينهما عرفا كي يقع الكلام في تقديم أيهما، فمع ورود
الامارة يتحقق البيان حقيقة، فينتفي: " لا بيان " الذي هو موضوع القاعدة
العقلية التي تبتني عليها البراءة فلا تبقى القاعدة حينئذ لارتفاع موضوعها.
وبتقريب صناعي: ان الاخذ بالدليل الوارد لوجود المقتضي وعدم المانع.
اما وجود المقتضي، فهو دليل اعتباره وتحقق موضوعه. واما عدم المانع، فلان
المانع المتخيل هو الدليل المورود، وهو غير ناظر إلى ما يتكفله الدليل الوارد
أصلا، وموضوعه غير موضوعه. فكل منها في مقام غير مقام الاخر، بل لا يصلح
أن يكون مانعا إلا على وجه محال، كما يأتي من صاحب الكفاية، وان كنا لسنا
بحاجة إليه كما يأتي.
واما الدليل المورود، فلا مقتضى فيه كي يؤخذ به، لان ثبوته متوقف على
عدم ورود الدليل الوارد، لأنه رافع لموضوعه.
فالأساس الذي يرتكز عليه ما ذكرناه هو عدم وجود أي منافاة بين
الدليلين، لان كلا منهما ناظر إلى مقام يختلف عن المقام الذي ينظر إليه الاخر.
وبعد هذا، لا مجال للاشكال: بان الورود انما يكون مع الاخذ بالدليل
الوارد، والا فمع الاخذ بالدليل المورود لا يتحقق الورود، فلم يؤخذ بالدليل
الوارد ولا يؤخذ بالدليل المورود؟ - كما تعرض إليه المحقق الخراساني في
الكفاية (1) -.
لأنه لا تنافي ولا تصادم بين الدليلين، كي يقال بأنه لم يؤخذ بهذا الدليل
دون ذاك؟.
وهل يفيد التعرض إلى هذا الاشكال بأنه فسر الورود بتفسير آخر غير
ما فسره القوم، أو يمكن حمله على ما لا يخالف ما ذكرناه؟.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 429 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
415

والظاهر أنه يمكن توجيهه بما لا يتنافى مع ما عرفته، بان يقال: ان غرضه
هو السؤال عن الوجه في الاخذ بالدليل الوارد، لان الاخذ به ليس من
الضروريات التي لا تحتاج إلى السؤال فيمكن التساؤل عنه. وليس الغرض هو
الاشكال على الاخذ به، والجواب عنه ما عرفت من وجود المقتضي للاخذ به
وعدم المانع.
واما ما ذكره (قدس سره) في الجواب من: انه مع الاخذ بالدليل المورود
يلزم تخصيص الدليل الوارد بلا وجه أو على وجه دائر، لان الدليل لما كان رافعا
لموضوع المورود، فالأخذ بالمورد يتوقف على عدم شمول الدليل الوارد لهذا
المورد، وتخصيصه بما عداه. فاما أن يكون تخصيصه بلا وجه، أو يكون بالدليل
المورود. إذ ما يتحمل أن يكون مخصصا هو الدليل المورد، وتخصيصه بالدليل
المورود يتوقف على اعتبار المورود في الورود، واعتباره في المورد يتوقف على
تخصيص الدليل الوارد به فيلزم الدور.
فغير وجيه، لان التخصيص يقتضي التوارد على مورد واحد والمنافاة
بينهما، أما مع عدم المنافاة بينهما أصلا لاختلاف مورديهما - كما عرفت في الدليل
الوارد والمورود -، فلا وجه لدعوى التخصيص، فإنه لا منافاة بين ما يستلزم
انتفاء عالمية زيد وبين ما يثبت وجوب اكرام العالم.
فإذا كان مفاد دليل الاستصحاب - بناء على الورود كما عليه (قدس
سره) -: " (استصحب مع عدم الحجة "، وكان مفاد دليل الامارة اعتبار الامارة في
هذا المورد المستلزم لقيام الحجة، فلا منافاة بينهما أصلا، ولا نظر لأحدهما إلى
مفاد الاخر بتاتا، فلا وجه لدعوى التخصيص واحتماله كي تقرر وتدفع بلزوم
الدور، بل الدور لو لم يكن بمحذور لما كان دليل الاستصحاب مخصصا، مع أن
مقتضى ما ذكره ذلك فالتفت.
واما الوجه في تقديم الخاص على العام، فبيانه في باب التعادل والترجيح
416

فانتظر.
الجهة الثالثة: في أن تقديم الامارة على الاستصحاب هل هو للورود أو
للحكومة أو للتخصيص؟. فقد اختلف الاعلام المحققون في ذلك.
فمنهم من ذهب ان نسبة الامارة إلى الاستصحاب نسبة الوارد على
المورود.
ومنهم من ذهب إلى أن نسبتها إليها نسبة الحاكم إلى المحكوم.
ومنه من ذهب إلى كون نسبتها إليه نسبة المخصص.
أما (1) دعوى الورود - وهي دعوى المحقق الخراساني -، فهي تبتني على

(1) المذكور في كلمات المحقق الخراساني لتوجيه دعوى الورود وجهان:
الأول: ما أشير إليه في الكفاية من أن رفع اليد عن اليقين السابق بواسطة الامارة ليس نقضا لليقين
بالشك بل باليقين باعتبار الامارة وحجيتها.
وقد يورد عليه: ان النهي عنه في نصوص الاستصحاب ليس استناد نقض اليقين إلى الشك، وإلا
لجاز نقضه بمثل إجابة التماس مؤمن ونحوه، بل المراد نقضه في مورد الشك بضميمة ان المراد من الشك
مطلق عدم العلم والاحتمال غير الجازم، وقيام الامارة لا ينفي الجهل وعدم العلم.
ويمكن الجواب عنه: بأنه يتم لو فرض كون نظر صاحب الكفاية ما هو ظاهر العبارة بدوا من
تعليل الورود بعدم صدق نقض اليقين بالشك. ولكن من الممكن أن يكون نظره إلى دعوى انصراف دليل
حرمة النقض بالشك عما إذا كان هناك مستند ودليل علمي النقض نضير دعوى انصراف دليل النهي عن
العمل بغير العلم عن الامارة المعتبرة، فلا يشملها الدليل للانصراف لا لدعوى انتهاء العمل بها إلى العمل
بالعلم.
وعليه، فيكون مدار صحة ما ذكره (قدس سره) على التسليم بدعوى الانصراف. فتدبر.
الثاني: ما ذكره في حاشيته على الرسائل - كما حكي عنه - من أن مقتضى قوله: " ولكن تنقضه بيقين
آخر " صحة النقض باليقين بحكم مخالف للمتيقن السابق ولو بعنوان آخر ولذا يصح النقض لو علم بحيلة
ما كان حراما سابقا لاجل عنوان طارئ غير العنوان الموضوع للحرمة.
وعليه، فعند قيام الامارة على خلاف الحالة السابقة فيتحقق العلم بالحكم بالظاهري المخالف للحالة
السابقة فيكون النقض باليقين لا بالشك.
وقد يورد عليه: بان اليقين بالحكم الظاهري لا ينافي الشك في الواقع بل يجتمع معه كيف؟ وهو
مفروض في موضوعه أو مورده. فيكون رفع اليد عن المتيقن السابق بالشك.
وفيه: ان مرجع ما ذكره في الحاشية إلى كون المراد بالشك هو الشك بالمتيقن السابق من جميع
الجهات بحيث لو تعلق به اليقين من بعض الجهات لكفى في صحة النقض، لان هذا هو مقتضى أخذ
اليقين الناقض لليقين ولو بعنوان آخر. وما نحن فيه كذلك. وهذا مما بينه المستشكل بعد ذلك في توجيه كلام
الكفاية في تقدم الاستصحاب على البراءة.
فالمتجه ان يورد على ما يورد على ما ذكره صاحب الكفاية بان ما أفاده خلاف ظاهر الدليل، فان الظاهر منه
تعلق اليقين اللاحق بعين ما تعلق به اليقين السابق، وما ذكر شاهدا لا يخلو من مغالطة، فان اليقين وان
تعلق بعنوان آخر كالاضطرار، إلا أنه ملازم لانتفاء الحكم السابق قطعا لان الرفع واقعي.
مع أن لازم ما ذكره فرض موضوع الاستصحاب كموضوع القرعة هو التخير المطلق بحيث يرد
عليه كل ما يزيل التحير من جميع الأدلة والأصول وهو مما لا يلتزم به.
فالعمدة في اثبات ورود الامارة على الاستصحاب ما ذكرناه في المتن من الوجوه الثلاثة. فراجع.
ثم إن صاحب الكفاية ذهب في مبحث التعادل والترجيح إلى أن تقدم الامارة على الاستصحاب بالجمع
العرفي بالتصرف بالدليلين الذي جعله قسما للورود وهو بظاهر لا يخلو عن منافاة لما ذكر ههنا. فلا حظ.
417

عدم إرادة الصفة الوجدانية من الشك واليقين المغيى به الاستصحاب بل إرادة
الحجة وعدم الحجة أو ما شابه ذلك (1).
ولما كان هذا مستلزما للتصرف في ظهور الشك واليقين، فلا بد من إقامة
الدليل عليه ليصبح حقيقة ثابتة لا مجرد دعوى ليس لها أي علاقة بمقام
الاثبات - كما أورد على المحقق الخراساني بذلك - (2).
فنقول: ما يمكن به توجيه هذه الدعوى وجوه أربعة.
الأول: انه قد ذكر ان التعليل المذكور لاجراء الاستصحاب تعليل
ارتكازي عقلائي، لا تعليل تعبدي مفاده تشريع كبرى كلية، كتعليل حرمة
الخمر بأنه مسكر، فان العرف بحسب ارتكازياته لا يرى ان هناك مناسبة بين
الحرمة والاسكار بحيث يكون الاسكار علة لتحريم، فيرجع العليل المذكور إلى
جعل كبرى كلية وهي حرمة المسكر وتطبيقها على المورد. اما التعليل

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 429 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 248 - الطبعة الأولى.
418

الارتكازي، فهو ما كان واردا على حسب مرتكزات العرف بحيث يرى مناسبة
بين التعليل والمعلل. وقد عرفت أن من موارده التعليل المذكور في بعض اخبار
الاستصحاب من: " ان اليقين لا ينقض بالشك "، فان العرف بحسب ارتكازاته
يرى مناسبة بين التعليل والحكم المعلل به، بلحاظ ان اليقين امر مبرم محكم فلا
ينقض بما ليس كذلك كالشك.
وبعد ان كان التعليل ارتكازيا عرفيا فالعرف انما يرى عدم جواز نقض
اليقين بالشك لا لاجل خصوصية الشك وصفتيته. بل لأنه ليس بحجة معتبرة
وطريق مبنى عليه. وذكره بالخصوص لاجل انه أظهر مصاديق عدم الحجة،
فاليقين لا ينقض عرفا مع عدم الحجة وهو ما ليس بمستحكم لا مع خصوص
الشك.
الوجه الثاني: ان في قضية: " لا تنقض اليقين بالشك " ظهورين: أحدهما:
ظهور الباء في السببية، يعني: استناد النقض إلى الشك. والاخر: ظهور الشك
في الصفة الوجدانية.
ولا يمكن الالتزام بكلام الظهورين، لعدم الاطراد في بعض الموارد، كما
لو استند النقض في مورد الشك إلى غير الشك مما لا يكون صالحا للاستناد إليه
شرعا كالتماس مؤمن مثلا، فإنه مع الالتزام بكلا الظهورين يلزم أن لا يكون
هذا المورد من موارد النهي ولا يكون العمل على خلاف الحالة السابقة استنادا
إلى غير الشك محرما، ولا يلتزم به أحد أصلا، فلا بد من التصرف في أحد
الظهورين...
اما في ظهور الباء يحملها لا على السببية، بل على أن المراد عدم جواز
نقض اليقين في مورد الشك وإن لم يكن مستندا إليه.
واما في ظهور الشك بحمله على مطلق غير الحجة والطريق المعتبر،
فالمنهي عنه هو النقض المستند إلى غير الحجة.
419

إذ على كلا التقديرين يكون المورد المذكور وما شابهه مشمولا للنهي.
وبملاحظة ما تقدم من كون المراد بالشك ليس خصوص تساوي
الطرفين احتمالا، بل الأعم منه ومن الظن والوهم. يتعين التصرف في الظهور
الثاني دون الأول، لان ذكر الشك بالخصوص مع إرادة الأعم منه ومن عدم العلم
لا وجه له. إلا أن يراد به كونه أظهر مصاديق عدم الحجة، لأنه الجهة المميزة له.
وإلا فلا وجه لتخصصه بالذكر فان الحكم إذا كان موضوعه العام لا معنى لبيانه
بالحكم على فرد خاص منه الا إذا كانت لذلك الفرد خصوصية تدعو لتخصيصه
بالذكر، ولا خصوصية للشك من بين سائر الافراد الا كونه أظهر افراد التردد
وعدم الحجة. فلا وجه للتصرف في الظهور الأول، بل يكتفي في التصرف في
الظهور الثاني. مضافا إلى أن حمل الباء على الظرفية وكونها بمعنى: " في " في المقام
يستلزم تقدير محذوف تتعلق به الباء، إذ لا معنى لتعلق الظرفية بالشك، فلا بد
من تقدير مضاف كما لا يخفى.
الوجه الثالث: ان السائل كزرارة (رحمه الله) لو فهم من الإمام (عليه السلام)
إرادة الصفة الوجدانية من اليقين في قوله: " ولكن تنقضه بيقين آخر "،
وان الناقض خصوص اليقين الوجداني، لفهم بدوا منافاة هذا الحكم لجعل
الامارة والطريق واعتبارها في الموضوعات - الذي هو مما لا اشكال فيه -، لان
جميعها متيقنة العدم، لأنها حادثة والحادث مسبوق بالعدم، ولا يقين لنا بارتفاعه،
وانه ناسخ لدليل اعتبارها، مع انا نجزم بعدم فهمه ذلك أصلا - وإلا لسال الإمام (عليه السلام)
عنه حينئذ - مما يكشف عن انه فهم كون النقض انما يكون
بالحجة المعتبرة والطريق المجعول لا بخصوص اليقين. وان المراد من اليقين
مطلق الحجة لا اليقين الوجداني.
الوجه الرابع: ان حجية اليقين مما لا شبهة فيها ولا اشكال، كيف؟ وهي
من المستقلات العقلية التي لا تنالها يد الجعل نفيا واثباتا.
420

فلو كان المراد من اليقين في قوله: " ولكن تنقضه بيقين آخر " اليقين
الوجداني، لكان الكلام لعوا، إذ النقض باليقين لا يحتاج إلى بيان وتنبيه، لأنه
مسلم لا ارتياب فيه.
ودعوى: ان قوله المذكور ليس مفاده الاستدراك وبيان ناقضية اليقين
كي يشكل بلزوم اللغوية، بل المراد منه حصر الناقض في اليقين (1).
مندفعة: بان: " لكن " ظاهرة في الاستدراك، و " اليقين " ظاهر في اليقين
الوجداني، والجمع بين الظهورين ممتنع للزوم اللغوية - كما عرفت -، فلا بد من
التصرف في أحد الظهورين..
إما في ظهور: " لكن "، فيحمل الكلام على الحصر، حيث إن المنفي هو
خصوص النقض بالشك دون غيره من الأمور غير اليقينية، فالمراد بيان
انحصار الناقض باليقين، ولذلك استفيد منه ان الشك أعم من تساوي الطرفين
والظن والوهم.
وإما في ظهور: " اليقين " بحمله على مطلق الحجة، فيصح الاستدراك
حينئذ كما لا يخفى.
وبمقتضى الوجوه المذكورة يتعين التصرف في ظهور اليقين، ويبقى
ظهور: " لكن " على حاله.
ولو أبيت إلا عن الالتزام بتصادم الظهورين، فالكلام يكون مجملا في
مورد قيام حجة غير القطع على خلاف اليقين السابق، إذ لا يعلم إرادة الصفة
الوجدانية من اليقين، فلا يجري الاستصحاب في ذلك المورد، لعدم العلم بتحقق
موضوعه، فتبقى الامارة بلا معارض.
وهذا وإن لم يكن من المورد إلا أنه نتيجة الورود.

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 248 - الطبعة الأولى.
421

اللهم الا ان يقال: ان " لكن " ظاهرة في الحصر، لأنها عاطفة، وهي من
موجبات الحصر لا من أدوات الاستدراك. فدعوى إرادة الحصر لا توجب تصرفا
في الظهور كي يقع الكلام في المرجح لاحد التصرفين على الاخر، بل هي على
وفق الظهور ومقتضاه.
وبذلك يخرج الكلام عن اللغوية.
هذا، مضافا إلى إمكان دعوى استفادة الحصر من سياق الكلام لا من
التصرف في " لكن "، ويشهد له انه قد ذكر من جملة الوجوه على كون المراد من
الشك في الاخبار هو مطلق عدم اليقين لا خصوص تساوي الطرفين: حصر
الناقض في اليقين. وحينئذ يبقى اليقين على ظهوره ولا وجه للتصرف فيه. وعلى
هذا لا يتم الوجه المذكور، فلا يصلح لا ثبات الورود.
ولكن في الوجوه الثلاثة الاخر كفاية، فإنها توجب الاطمئنان، بل القطع
في كون موضوع الاستصحاب عدم الحجة على الخلاف.
وبذلك يتعين القول: بان تقدم الامارة على الاستصحاب من باب
الورود.
وعليه فلا مجال لدعوى الحكومة أو التخصيص. مع أنه لو أغمضنا النظر
عن تمامية دعوى الورود فدعوى الحكومة غير تامة، إذ غاية ما ترتكز عليه هو
كون دليل اعتبار الامارة يتكفل إلغاء احتمال خلاف الامارة تنزيلا، فمع قيام
الامارة على خلاف الحالة السابقة يتكفل دليل الامارة إلغاء احتمال خلافها
تنزيلا. ومقتضاه إلغاء احتمال بقاء الحالة السابقة الذي هو موضوع
الاستصحاب، فيرتفع موضوع الاستصحاب تنزيلا، لان موضوعه الاحتمال
والشك، ومفاد دليل الامارة رفع هذا الاحتمال والغائه. فيكون دليل الامارة حاكما
على دليل الاستصحاب لأنه يكون ناظرا بمدلوله اللفظي إلى دليل الأصل
وموجبا لتضييق دائرته.
422

وقد بنى عليه المحقق العراقي (1) أيضا الا ان تعبيره اختلف عن تعبير
المحقق النائيني فقد التزم (قده) ان قيام الامارة - بمقتضى دليل الاعتبار - يحقق
غاية الاستصحاب وهو اليقين ولم ير بأنه يرفع موضوعه وهو الشك. ولعله لاجل
ان موضوع الاستصحاب ليس عبارة من عدم العلم كي يكون اعتبار العلم
رافعا لموضوعه بل عبارة عن امر وجودي وهو الاحتمال الذي يصل إلى حد
العلم. ومن الواضح ان اعتبار أحد الضدين لا يلازم اعتبار عدم الضد الاخر
فالتلازم بين الواقعين لا يستلزم التلازم بين الاعتبارين. وعليه فاعتبار العلم
لا يلازم اعتبار عدم الاحتمال الخاص فلا يكون اعتباره رافعا لموضوع
الاستصحاب.
ولكن لا يخفى عليك قوله (ع): " ولكن تنقضه... " ليس انشاء لحكم
جديد أو تحديدا للاستصحاب وانما هو عبارة أخرى عن ارتفاع موضوعه فهو
بصدد بيان ارتفاع الاستصحاب عند ارتفاع موضوعه بلحاظ ملازمة اليقين لعدم
موضوع الاستصحاب فليس له عنوانان أحدهما اخذ في الموضوع واخر اخذ في
الغاية. بل ليس إلا فرد واحد وهو المأخوذ في الموضوع فإذا فرض انه وجودي
أشكل القول بالحكومة على هذا الرأي من هذه الجهة. فانتبه.
وأما ما أفاده المحقق النائيني في الاستدلال على كون التقدم من باب
الحكومة من: أن التحقيق كون المجعول في الامارة هو الطريقية وتتميم الكشف
والغاء احتمال الخلاف وما أشبه ذلك - لا المنجزية، لاستلزامه تخصيص الحكم
العقلي بقبح العقاب بلا بيان وهو غير قابل للتخصيص ولا جعل المؤدى، لمحذور
اجتماع الحكم الواقعي والظاهري - وحينئذ يرتفع موضوع الاستصحاب تعبدا
عند قيام الامارة، وهو معنى الحكومة، لأنه أوجب التصرف في عقد الوضع (2).

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 18 - 19 - القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول 4 / 595 - 596 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
423

فلا يستلزم الحكومة، لأنك عرفت أن الدليل المتكفل للاعتبار - نفيا -..
تارة: يكون واردا على الدليل الاخر، وذلك فيما إذا لو حظ الموضوع فيه
ما لم يقم اعتبار على عدم كونه من افراد الموضوع المرتب عليه الحكم انشاء،
لان الدليل المتكفل لنفي الفردية اعتبارا يكون حينئذ رافعا لموضوع الحكم في
الدليل الاخر حقيقة فيكون واردا عليه.
وأخرى: يكون حاكما على الدليل الاخر، وذلك فيما إذا لم يكن قد لو حظ
في الموضوع ما لم تنف فرديته اعتبارا، بل أخذ مطلقا، فحينئذ يحصل التنافي بين
الدليلين بمدلولها اللفظي، فيكون أحدهما المعين ناظرا إلى الاخر وحاكما عليه.
وتقريب حصول النظر الموجب للحكومة: بان الاعتبار إنما يكون بلحاظ
ترتب اثر عليه أو نفي أثر عنه وإلا لكان لغوا، فعند وجود دليل يتكفل ثبوت
حكم لموضوع ما، إذا ورد دليل يتكفل اعتبار أمر ليس بفرد من افراد ذلك
الموضوع، فإذا لم يكن لهذا الاعتبار أي اثر ظاهر يحكم بدلالة الاقتضاء - التي
هي بملاك صون كلام الحكيم عن اللغوية - بأنه ناظر إلى نفي ترتب الأثر عليه،
فيحصل التنافي حينئذ، لان دليل الاعتبار ينفي ترتب الأثر على هذا الفرد
بدلالته الالتزامية، والدليل الاخر يتكفل بدلالته المطابقية ترتب الأثر عليه.
ويقدم حينئذ دليل الاعتبار لكونه ناظرا إلى الدليل الاخر بمدلوله اللفظي،
فيكون بمنزلة القرينة عليه. ويحكم حينئذ بان موضوع الحكم في ذلك الدليل
انما هو خصوص ما لم يقم على عدم فرديته اعتبار.
وبالجملة: فالدليل المتكفل لنفي الفردية اعتبارا إنما يكون حاكما على
الدليل الاخر فيما إذا انحصر الأثر عليه في نفي الحكم الثابت للفرد بمقتضى
الدليل الاخر، لتتم دلالة الاقتضاء حينئذ فيحصل النظر وإلا فمع وجود أثر
424

آخر في نفي الفردية، فلا يكون متكفلا لنفي الأثر الثابت بمقتضى الدليل
الاخر، لأنه انما يكون متكفلا لذلك بدلالة الاقتضاء، وهي غير تامة مع وجود
أثر للاعتبار.
وعلى هذا، فدليل الامارة وإن كان يتكفل اعتبار الطريقية وما ليس بعلم
علما - باعتبار انحصار المجعول بذلك فتكون أمرا اعتباريا -، إلا أن ذلك لا
يوجب حكومته على دليل الاستصحاب، لان آثار اعتبار العلم لا تنحصر في نفي
الأثر المترتب على عدم العلم - أعني: الاستصحاب - بل له آثار أخر كالمنجزية
والمعذرية، ومع وجود آثار له فلا تتم الحكومة لعدم تمامية دلالة الاقتضاء الموجبة
للنظر والحكومة.
ودعوى: التمسك باطلاق دليل الاعتبار في ترتيب جميع آثار العلم على
الامارة باعتبارها علما.
مدفوعة: بان التمسك بالاطلاق ههنا يقتضي التصرف بجميع الأدلة
الظاهرة في ترتيب الاحكام على الموضوعات الحقيقية الواقعية، بحملها على ترتب
الحكم على الموضوع الأعم من الواقعي والاعتباري، لما عرفت من أن دلالة
الاقتضاء تقتضي التصرف بدلالة الدليل الاخر، فإنه يستكشف بها كون
الموضوع للأثر أعم من الفرد الواقعي والاعتباري، وهو خلاف ظاهر الدليل.
فالاطلاق يحتاج إلى مؤونة فلا يصح التمسك به.
نعم، لو كانت المنجزية من الآثار المختصة بالعلم الوجداني، بحيث
يكون ثبوتها للامارة بدلالة الاقتضاء الموجبة للتصرف بدليلها، كان التمسك
بالاطلاق بالنسبة إلى جميع الآثار في محله، لان نسبة دلالة الاقتضاء إلى جميع الآثار
متساوية، ولا يكون في الاطلاق زيادة مؤونة لتجشمها على كل حال. ولكنه ليس
425

كذلك، بل المنجزية من آثار الأعم من العلم الواقعي والاعتباري، وهو البيان،
فثبوتها للامارة بعد اعتبارها لم يكن بدلالة الاقتضاء، فلا يوجب ثبوتها التصرف
في اي دليل، وثبوتها كان في رفع اللغوية. بل لو كانت من الآثار المختصة بالعلم
الواقعي لما كان لترتبها على الامارة - باعتبار الشارع علميتها - وجه، لأنها من
الاحكام العقلية لا الشرعية فلا تثبت باعتبار الشارع للمعتبر.
فما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) لا يخلو عن منع. ولا تتوجه به
دعوى الحكومة، بل ما ذكرناه هو الوجه الوجيه للدعوى. وبه تمسك الشيخ
(رحمه الله) في اثبات الحكومة في باب الاستصحاب وباب التعادل والترجيح (1).
وقد نفى المحقق الخراساني الحكومة. ولم يبين في باب الاستصحاب نفي
الوجه الذي تبتني عليه الحكومة، وانما بين ان دليل الامارة لا نظر له بمدلوله
اللفظي إلى دليل الاستصحاب أصلا. وبدون ذلك لا تتحقق الحكومة. (2).
واما التنافي الحاصل بينهما في مقام العمل، حيث إن كلا منهما وارد في مورد
الاخر، فهذا لا يوجب الحكومة، لأنه لو كان يحقق النظر لكان كلا منهما حاكما
ومحكوما، لأنه جهة مشتركة بينهما ولا تختص به الامارة. مضافا إلى أن ملاك
النظر الموجب للحكومة لو كان هو التنافي بين المدلولين، لما كانت الامارة حاكمة
على الاستصحاب في صورة الموافقة، لانتفاء الملاك - أعني: التنافي -. وما بينه
ههنا أجنبي عن المهم في دعوى الحكومة أعني كون مفاد دليل الاعتبار نفي
احتمال الخلاف.
نعم أشار إلى ذلك في مبحث التعادل والترجيح بقوله: " وكيف كان ليس

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 407 و 432 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 429 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
426

مفاد دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبدا " (1).
وعلى كل حال فيتلخص الخلاف بين الشيخ وصاحب الكفاية في أن
الشيخ يذهب إلى كون دليل اعتبار الامارة مفاده نفي احتمال الخلاف. وصاحب
الكفاية يدعي عدم كونه كذلك. بل هو متكفل لجعل المنجزية والمعذرية أو جعل
المؤدى. فالخلاف بينهما صغروي.
والذي (2) يستفاد من كلام المحقق الأصفهاني (قدس سره) في المقام انه
على القول بان دليل اعتبار الامارة يتكفل تنزيل الامارة منزلة العلم وعلى القول
بأنه يتكفل تنزيل مؤداها منزلة الواقع. يكون دليل الامارة حاكما على دليل
الاستصحاب.
وبيان ذلك: ان الامارة والأصل يشتركان في كون مفادهما معا حكما
ظاهريا، ولكن الامارة تفترق عن الأصل انها تتكفل أداء الحكم الظاهري
بعنوان انه الواقع، ولذا تترتب عليه آثار الواقع. بخلاف الأصل، فان ما يتكفل
بيانه ليس بعنوانه انه الواقع، بل هو في مرحلة متأخرة عن الجهل بالواقع. وعلى
هذا، فتتضح حكومة دليل الامارة على دليل الاستصحاب لو كان متكفلا
لتنزيلها منزلة العلم، لأنه يتكفل رفع موضوع الاستصحاب - وهو الجهل بالواقع
- تعبدا، ويوجب التصرف في موضوع دليله فيكون ناظرا إليه وحاكما عليه.
أما إذا كان دليلها متكفلا لتنزيل المؤدي منزلة الواقع، فقد لا تتضح
الحكومة حينئذ، لأنه لم يؤخذ في موضوع دليل الاستصحاب عدم الواقع، بل
اخذ الشك وعدم العلم لا غير. فلا يوجب دليل الامارة التصرف في موضوعه،
بل مفاده أجنبي عنه. (3)

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 338 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) لم يتعرض السيد الأستاذ - دام ظله - له في هذه الدورة. (منه عفي عنه).
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 129 - الطبعة الأولى.
427

ولذلك ذهب المحقق العراقي إلى عدم الحكومة على هذا القول.
(1)
ولكنه مع هذا يمكن تقريب الحكومة على هذا القول ببيان: ان الموضوع
إذا كان مركبا أو مقيدا، فتنزيل أحد الجزئين أو تنزيل القيد مع احراز الجزء
الاخر أو ذات المقيد يوجب التئام الموضوع ويترتب عليه الحكم، فتنزيل القيد
على هذا تنزيل للمقيد بما هو مقيد لأنه يوجب تحققه تنزيلا، فيكون التنزيل
حينئذ موجبا للحكومة، لأنه ناظر إلى موضوع الحكم فيضيقه أو يوسعه.
وموضوع الاستصحاب هو العلم المتعلق بالواقع، فالواقع قيد للعلم. ولا
اشكال في أنه عند قيام الامارة يعلم وجدانا بمؤداها ومفادها، فإذا كان المؤدى
بمنزلة الواقع، خرج المورد حينئذ عن موضوع دليل الاستصحاب للعم بالواقع
حينئذ.
فبهذا التقريب تمكن دعوى حكومة دليل الامارة على دليل
الاستصحاب بناء على القول بان مفاد دليل الاعتبار تنزيل المؤدى منزلة الواقع،
لأنه أيضا يوجب خروج المورد عن موضوع دليل الاستصحاب.
ولكنه وان أمكن تحققه ثبوتا، غير أنه ليس بثابت في مقام الاثبات، فلا
يتحقق ما هو أساس الحكومة من نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم.
وبين ذلك: ان دليل التنزيل ظاهر عرفا في كون التنزيل بلحاظ ترتيب
آثار نفس آثار المنزل عليه على المنزل، لا الآثار الأخرى المرتبطة به بنحو
ارتباط، فتنزيل زيد منزلة عمرو انما يكون بلحاظ ترتيب نفس آثار عمرو على
زيد، لا آثار أبي عمرو أو أخيه على أبي زيد أو أخيه. ولما كانت الغاية في باب
الاستصحاب وغيره من الأصول الشرعية هي العلم بالواقع، فدليل الامارة إذا
كان يتكفل تنزيل المؤدى منزلة الواقع فهو انما يتكفل التنزيل المذكور بلحاظ

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 19 - القسم الثاني - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
428

ترتيب آثار نفس الواقع على المؤدى. أما ترتيب آثار ما يضاف إليه ويتعلق به،
فلا يتكفله دليل التنزيل.
وعليه، فلا يتكفل ترتيب آثار العلم بالواقع على العلم بالمؤدى.
نعم، فيما إذا لم يكن للقيد أثر مستقل أصلا، الا بلحاظ إضافة ذات المقيد
إليه، كان تنزيل شئ منزلته بلحاظ ترتيب آثار المقيد بما هو مقيد، ويكون تنزيل
القيد تنزيلا للمقيد بما هو كذلك التزاما.
وبما ذكرنا، يندفع ما قد يستشكل به من انه: كما أنه إذا كان دليل الامارة
متكفلا لتنزيل الامارة منزلة العلم يتمسك باطلاق دليل التنزيل، فيترتب عليها
جميع آثار العلم، ولذلك يقال بحكومتها على أصالة البراءة وغيرها دون خصوص
الاستصحاب. فكذلك إذا كان دليلها متكفلا لتنزيل مؤداها منزلة الواقع،
فليتمسك باطلاق دليل التنزيل ويرتب على المؤدى جميع آثار الواقع ولو كانت
مرتبطة به بنحو ارتباط.
فان ما ذكرناه لا ينافي التمسك بالاطلاق، لان ظاهر دليل التنزيل ترتيب
آثار نفس المنزل عليه على المنزل، فإذا كان له اطلاق يتمسك به في ترتيب جميع
هذه الآثار عليه. فههنا يتمسك باطلاقه في ترتيب جميع آثار نفس الواقع على
المؤدى، كما يتمسك باطلاق في ترتيب جميع آثار نفس العلم فيما إذا كان دليل
التنزيل متكفلا لتنزيلها منزلة العلم.
وبالجملة: فما ذكر في تقريب الحكومة على هذا القول وان كان معقولا
وممكنا ثبوتا، إلا أنه غير تام اثباتا، لعدم وفاء دليل التنزيل فيما نحن فيه بذلك.
وعليه، فينحصر الوجه الصالح لتقريب الحكومة فيما ذكره الشيخ
وتصدى لنفيه صاحب الكفاية من: ان دليل الاعتبار يتكفل إلغاء احتمال الخلاف
429

بتعبير، وتنزيل الامارة منزلة العلم بتعبير آخر. وهذا الوجه هو أساس الحكومة،
وهو كبرويا مسلم، لان الامارة بورودها تحقق الغاية للاستصحاب ولكل أصل
أو ترفع موضوعه، فان الأصول الشرعية مغياة بالعلم أو مقيدة بعدم العلم،
والمفروض ان الامارة علم تنزيلا، فتتحقق الغاية بها أو يرتفع الموضوع. وبذلك
تكون أدلتها حاكمة على أدلة الأصول لنفيها لموضوعها.
لكنه صغرويا محل اشكال بل منع، فإنه ثبوتا ممكن لكنه اثباتا صعب
الاثبات، فلا يمكن استفادة ذلك من أدلة الاعتبار.
وبيان ذلك: ان التنزيل عبارة عن أمر واقعي حقيقته ترتيب أثر شئ
على شئ آخر، وقد يكشف عنه اللفظ، كما إذا صرح به وقيل: " أنزلت هذا منزلة
ذاك ". وقد ينتزع عن اثبات الحكم المختص بشئ إلى شئ آخر ولو لم يكن
تصريح في البين، فإنه ينتزع من هذا الاثبات تنزيل الشئ الاخر منزلة ذاك
الشئ في أثره، ونظير ذلك في التكوينيات انه لو كان هناك أثر مختص عرفا
بشئ ثم ترتب ذلك الأثر على شئ آخر، فإنه ينتزع عن ذلك كون هذا الشئ
بمنزلة ذلك الشئ - لكن الفرق ان التنزيل لا يتصور في التكوينيات، لان
ترتب الأثر التكويني واقعي لا جعلي وانما يتصور في المجعولات -.
وبهذا تعرف انه لا يلزم أن يكون دليل التنزيل لفظيا، بل يمكن أن يكون
لبيا.
ثم لا يخفى ان تنزيل شئ منزلة آخر لا يجدي في ترتيب جميع آثار المنزل
عليه على المنزل، إلا إذا كان الملحوظ في دليل التنزيل جميع الآثار. فالمترتب من
الآثار هو الملحوظ في مقام التنزيل، فقد يلحظ جميع الآثار وقد يلحظ بعضها،
فلا بد من ملاحظة دليل التنزيل وما هو ظاهر فيه. فحكومة الامارة على
الاستصحاب من جهة تنزيلها منزلة العلم تتوقف أولا على ثبوت التنزيل، وثانيا
على كونه بلحاظ الاستصحاب المترتب على الشك. ولا يخفى عدم وفاء دليل
430

الامارة بكلتا الناحيتين، إذ غاية ما يستدل به على التنزيل المذكور أمور:
الأول: قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون) (1)، فان
الظاهر منها ان السؤال في مقام يجب تحصيل العلم بالحكم، وظاهره الاكتفاء
بسؤال الواحد وإجابته في حصول العلم، فكأنه قال: " اسألوهم ان كنتم لا
تعلمون لكي تعلموا ". ولا يخفى ان إجابة الواحد لا توجب العلم الوجداني،
فلا بد أن يكون ذلك تنزيلا لخبر الواحد منزلة العلم.
الامر الثاني: تعبير الإمام (عليه السلام) ب‍: " عرف أحكامنا " في الرواية
المقبولة: " انظروا... " (2)، فان المشار إليه هو المجتهد. ولا يخفى ان معرفة
الاحكام للمجتهد انما تكون بالطرق الظنية غير الموجبة للعلم، فالتعبير عنه
ب‍: " عرف أحكامنا " لا بد أن يكون من باب تنزيل الطرق المؤدية إليها منزلة
العلم.
الامر الثالث: العقل، فإنه يحكم بامتناع اجتماع حكمين فعليين في مورد
واحد، فإذا قامت الامارة على حكم كان فعليا بمقتضى دليل اعتبارها. وحينئذ
يمتنع أن يكون هناك حكم فعلي آخر بمقتضى حكم العقل المذكور. فاحتمال
الخلاف لما قامت عليه الامارة منفي بدليل اعتبارها بمقتضى حكم العقل.
الامر الرابع: بناء العقلاء على العمل بالامارة وترتيب آثار العلم عليها
من المنجزية والمعذرية، فإنه ينتزع عن ذلك تنزيلهم للامارة منزلة العلم. وقد
عرفت امكان ذلك لعدم اشتراط كون دليل التنزيل لفظيا.
وهذا الأمور لا تفي باثبات المدعى..
أما الامر الأول: فالخدشة في استدلال به من وجوه:

(1) سورة النمل، الآية: 42
(2) وسائل الشيعة 18 / 98 باب 11 من أبواب صفات القاضي حديث 1.
431

الوجه الأول: ان موردها - كما بين في محله - ليس الأحكام الفرعية، بل
انما هو الأمور الاعتقادية التي لا يكتفى فها بغير العلم قطعا.
الوجه الثاني: ان المراد من: " اهل الذكر " ليس الرواة أو المجتهدين، بل
المراد إما الأئمة الأطهار (عليهم السلام) - كما هو مقتضى بعض الروايات
الواردة في تفسير الآية الكريمة (1) - وإما علماء اليهود، لكون المسؤول عنه ما
يتعلق بنبوة نبينا (صل الله عليه وآله وسلم) عندهم.
ولا يخفى ان ما يقوله كل منهما موجب للعلم. اما الأئمة المعصومون
(عليهم السلام) فواضح. واما علماء اليهود اليهود فلان ما يقولون في شان النبوة الحقة
مما يؤكد معتقداتنا - كما هو مقتضى الارجاع إليهم بايجاب السؤال منهم -، لا
يحتمل فيه الكذب عادة، لأنهم أعداء النبوة ومنكروها، فبقولهم يحصل العلم
العادي - المعبر عنه بالاطمئنان -، إن لم نقل بحصول العلم القطعي الوجداني.
الوجه الثالث: ان ظهور الآية في المدعى أساسه كون المطلوب في مقام
السؤال هو العلم. لظهورها - على هذا - في كون السؤال لتحصيل العلم، فيكون
من باب تنزيل ما يقوله اهل الذكر منزلة العلم. وهو غير ثابت، إذ يمكن أن يكون
المطلوب هو كون العمل مستندا إلى مستند شرعي أو عقلي، فإذا كان
هناك علم فهو المتعين، وإلا فالمرجع هو قول أهل الذكر، فتكون الآية بصدد
جعل الحجية لقول أهل الذكر. فيكون مستندا شرعيا يصح الاستناد إليه في
مقام العمل مع عدم العلم.
هذا، مع أنه لو سلم ظهور الآية الكريمة في أصل تنزيل الخبر منزلة
العلم، وأغمضنا النظر عن هذه المناقشات وأمثالها مما تقدم في مبحث حجية
الخبر، فذلك وحده لا ينفع في الحكومة، إذ من الواضح ان تنزيل الخبر منزلة العلم

(1) الكافي 1 / 210 باب ان اهل الذكر هم الأئمة (ع).
432

في الآية انما هو بلحاظ مقام العمل والامتثال والتنجيز والتعذير، دون مطلق آثار
العلم العقلية والشرعية، فلا نظر لها إلى التعبد الاستصحابي الثابت في مورد عدم
العلم.
وبالجملة: لا اطلاق في الآية بلحاظ جميع آثار العلم فلا حظ.
واما الامر الثاني: فالخدشة في الاستدلال به من جهتين:
الأولى: ان حصول العلم الحقيقي والمعرفة الحقيقية بواسطة الطرق
العلمية للمجتهد في الصدر الأول غير بعيد، لقرب العهد بزمان الأئمة المعصومين
(عليهم السلام) - فان شانهم شان المقلدين في زماننا في معرفة فتاوى مقلديهم
بالمعرفة الحقيقة أو العادية لتوفر الطرق العلمية لذلك -، فيكون اطلاق المعرفة
من باب الفرد الغالب في زمان الحكم. وإن لم تتحقق فيما بعد زمانه بمدة، كما في
زماننا هذا.
مع، انه يمكن تحقق ذلك في زماننا بالنسبة إلى المجتهد، لأنه يعرف كثيرا
من الأحكام الواقعية كالضروريات، وما استفيد من السنة المستفيضة والمتواترة.
وهذا المقدار كاف في صحة اطلاق " عرف أحكامنا " عليه.
الجهة الثانية: ان الاحكام أعم من الأحكام الواقعية والظاهرية. ولا
يخفى ان المجتهد عارف بالاحكام الظاهرية حقيقة، لان الأدلة الظنية علمية
بالنسبة إلى الحكم الظاهري، وان كانت ظنية بالنسبة إلى الحكم الواقعي.
ولو أبيت إلا عن ظهور الاحكام في الأحكام الواقعية وانصرافها إليها،
فالامر حينئذ يدور بين ابقاء لفظ المعرفة على معناه الحقيقي وظاهره الاستعمالي،
والتصرف في لفظ الاحكام بحملها على الأعم من الواقعية والظاهرية. وابقاء
لفظ الاحكام على معناه الاستعمالي الظاهر، والتصرف في لفظ المعرفة بحملها
على الأعم من المعرفة الحقيقية والمعرفة التنزيلية. ولا مرجح لاحد الظهورين
على الاخر، فلا يتم الاستدلال بالرواية.
433

هذا، مع مناقشته بما مر في مناقشة الاستدلال بالآية الكريمة من عدم
الاطلاق بلحاظ جمع الآثار، إذ الرواية ليست بصدد بيان التنزيل، كي يتمسك
باطلاقها، بل بصدد بيان حكم آخر مرتب على المجتهد الذي أطلق عليه العارف
بالاحكام فإنه يكشف عن ثبوت التنزيل في الجملة من دون كشف عن سعته
وضيقه، والمتيقن منه تنزيله بلحاظ الحجية والمنجزية والمعذرية. فتدبر.
وأما الامر الثالث: فالاستدلال به فاسد لوجوه:
الأول: انه على تقدير تماميته، فنتيجته الورود لا الحكومة، لأنه - أي دليل
الامارة - ينفي احتمال الخلاف حقيقة لا تعبدا، لامتناع تحقق الخلاف عقلا.
الوجه الثاني: انه جهة مشتركة بين دليل الامارة ودليل الاستصحاب،
فان مقتضى اعتبار الاستصحاب ثبوت الحكم المستصحب في المورد، وبمقتضى
حكم العقل بامتناع اجتماع حكمين ينتفي احتمال خلاف المستصحب، فدليل
اعتبار الاستصحاب يتكفل أيضا نفي احتمال الخلاف بالتقريب المذكور.
الوجه الثالث: ان الحكم المأخوذ في موضوع الأصل لا يمتنع اجتماعه
عقلا مع الحكم الفعلي المتحقق بالامارة، لان موضوعه هو احتمال الواقع، والحكم
المتحقق بها حكم ظاهري. وإلا للزم ارتفاع احتمال هذا الحكم بنفس اجراء
الأصل، لأنه يحقق حكما ظاهريا، فيلزم من اجرائه انتفاء موضوعه، وهو
الاحتمال، وينتفي هو بانتفائه، فيمتنع اجراؤه حينئذ، لان ما يلزم من وجوده
عدمه محال. وإذا ثبت عدم المنافاة بين الحكمين، فلا يكون نفي احتمال الخلاف
في الامارة موجبا لارتفاع موضوع الأصل، لأنه ينفي احتمال خلاف هذا الحكم
من الأحكام الظاهرية، وهو لا تنافى مع احتمال الحكم الواقعي المخالف لمؤدى
الامارة، فلا تتحقق الحكومة.
وأما الامر الرابع: فتمامية الاستدلال به تبتني على أن تكون المنجزية
والمعذرية وغيرهما من آثار العلم المختصة به عرفا، بحيث يكون ثبوتها لغيره
434

محمولا على التنزيل، وهو مما لا دليل عليه، إذ يمكن ان تكون في نظر العقلاء اثرا
أعم للعلم لا مساو. وقد عرفت أن انتزاع التنزيل انما يكون من ترتيب الآثار
المختصة بشئ على آخر، فترتيب وجوب الاكرام على زيد مع ترتيبه أولا على
بكر لا يعد تنزيلا لزيد منزلة بكر كما لا يخفى.
الا ان يقرب هذا الوجه: بان العقلاء في مقام عملهم لا يعتنون باحتمال
الخلاف الموجود عند قيام الامارة وينزلونه منزلة العدم، والمفروض ان الشارع
أمضى السيرة العقلائية.
وفيه: انه لو تم، فهو لا يتكفل الا تنزيل الامارة منزلة العلم في مقام
المنجزية والمعذرية، إذ المنظور في عمل العقلاء ذلك دون التعبد الاستصحابي
ونحوه..
وإذا لم يصلح أي دليل على اثبات تكفل دليل الامارة نفي احتمال
الخلاف، فلا سند حينئذ لدعوى الحكومة.
ثم إنه لو لم تثبت دعوى الورود والحكومة فلا مناص عن القول
بتخصيص دليلها لدليله، لان أغلب مواردها لو لم تكن كلها من موارد
الاستصحاب، فيلزم من العمل بدليل استصحاب وطرح دليل الامارة عدم
العمل بها أصلا أو إلا نادرا، وهو لا يصحح الاعتبار بل يستلزم لغويته.
تذييل (1): لا يخفى أنه مع الالتزام بالورود بالتقريب الذي ذكرناه، فإنما
يلتزم به في صورة قيام الامارة على الخلاف، اما مع قيامها على طبق الحالة
السابقة فلا يتحقق الورود، لأنا قد قربنا الورود بان المراد بالشك المأخوذ في
موضوع الاستصحاب هو عدم الحجة، وقيدناه بان يكون على الخلاف - بقرينة
النهي عن النقض به الظاهر في كونه على خلاف الحالة السابقة بحيث يصدق

(1) لم يتعرض له السيد الأستاذ - دام ظله - في الدورة الثانية. (منه عفي عنه).
435

معه النقض -، فاليقين لا ينقض بغير الحجة على الخلاف.
والورود على هذا انما يتحقق فيما إذا كانت الامارة قائمة على خلاف
اليقين السابق، لتحقق الحجة والطريق على الخلاف، فينتفي موضوع
الاستصحاب حقيقة. أما إذا كانت الامارة قائمة على وفق اليقين السابق،
فالمتحقق انما هو الطريق والحجة على الوفاق، فلا يرتفع حينئذ موضوع
الاستصحاب لعدم منافاته لتحقق عدم الطريق على الخلاف وهو الشك، وإذا
تحقق موضوع الاستصحاب وهو عدم الطريق والحجة على الخلاف، كان المورد
مشمولا لعموم أدلة الاستصحاب والنهي عن النقض، فيجري الاستصحاب في
عرض الامارة.
نعم، لو أخذ في موضوع الاستصحاب عدم الحجة مطلقا ولو لم يكن على
الخلاف، كانت الامارة الموافقة واردة، لأنها تنفي موضوعه، وهو عدم الحجة، لأنها
تحقق الحجة. ولكنه ليس كذلك، بل المأخوذ في موضوعه هو عدم الحجة على
الخلاف - كما حققناه -.
وقد أشار إلى الاشكال صاحب الكفاية بقوله: " وعدم رفع اليد عنه... ".
فإنه قد يرد أيضا بناء على تقريبه للورود. فإنه قربه: بان النقض بالامارة ليس
نقضا بالشك كي يكون منهيا عنه، بل هو نقض باليقين أو بالدليل. وفي صورة
قيام الامارة الموافقة لا يتصور النقض بالامارة، كي يقال إنه ليس نقضا بالشك
بل بالدليل، ولا اشكال في وجود الشك في المورد، فيكون المورد مشمولا لدليل
الاستصحاب، لان رفع اليد عن اليقين السابق نقض لليقين بالشك (1).
والظاهر من عبارة الكفاية في مقام الجواب عن الاشكال: ان البقاء على
اليقين السابق ليس من جهة ملازمة الرفع لنقض اليقين بالشك، كي يكون منهيا

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 429 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
436

عنه، بل من جهة لزوم العمل بالحجة ووجوب السير على طبق الطريق المعتبر.
وهذا بظاهره لا يرفع الاشكال ولا يحقق الورود، لان شمول دليل
الاستصحاب للمورد قهري لتحقق موضوعه - وهو كون النقض بالشك -، فما
المانع من التمسك به في عرض الامارة؟!.
ولكن يمكن توجيه ما ذكره بما يحقق الورود ويرفع الاشكال. وبيانه: ان
موضوع النهي في الاستصحاب هو: " النقض بالشك "، فالموضوع هو المقيد،
والمقيد بما هو مقيد الذي هو الموضوع كما يرتفع بارتفاع القيد كذلك يرتفع
بارتفاع ذات المقيد. ففي المقام حيث إن رفع اليد عن الحالة السابقة ينطبق عليه
عنوان مخالفة الحجة، فرفع اليد عنه إذا كان بهذا العنوان - أعني: بعنوان مخالفة
الحجة - لا يشمله النهي الاستصحابي، لأنه ليس بعنوان نقض اليقين بالشك،
فلا ينطبق عليه موضوع النهي الاستصحابي وهو النقض. وان كان يشمله نهي
آخر، وهو النهي عن مخالفة الحجة، فالنهي عن رفع اليد موجود ولكن بعنوان انه
مخالفة الحجة لا بعنوان انه نقض لليقين بالشك كي يكون من باب
الاستصحاب. فموضوع النهي الاستصحابي مرتفع، وهو النقض بالشك بارتفاع
النقض - وهو ذات المقيد -. كما أنه في صورة قيام الامارة على الخلاف يرتفع
الموضوع بارتفاع قيده، لصدق النقض بالدليل لا بالشك.
وبالجملة: فتقريب الورود - على ما ذهب إليه صاحب الكفاية - في صورة
الموافقة ممكن بنحو تقريبه في سورة المخالفة.
ثمرة التذييل
ثم إن ثمرة ذلك تظهر في صورة العلم الاجمالي وقيام الامارة على أحد
الطرفين وقيام أخرى على الطرف الاخر، وكان أحدهما موردا للاستصحاب،
فإنه مع تمامية الورود في صورة الموافقة وان الاستصحاب يكون في طول الامارة
437

الموافقة، يكون التعارض بين الامارتين فقط فيتساقطان، فيجري الاستصحاب
حينئذ في طرفه، لعدم المعارض، وعدم الوارد لعدم العمل بالأمارتين. وأما مع عدم
تمامية الورود - كما قربناه - وكون الاستصحاب في عرض الامارة الموافقة، كان
التعارض بين كل من الامارة والاستصحاب في هذا الطرف والامارة في الطرف
الاخر، فيسقط الجميع عن العمل للتعارض.
ومما ينبغي أن يعلم: أن هذه الثمرة انما تتم لو بني - في صورة كون أحد
الطرفين في العلم الاجمالي مجرى لأصل، والطرف الاخر مجرى لأصول طولية
بعضها في طول بعض - على كون المعارضة في الأصول المذكورة بين الأصل في
أحد الطرفين والأصل الأول الا سبق رتبة في الطرف الاخر. أما لو بني على كون
المعارضة بين هذا الأصل وجميع الأصول الطولية - كما عليه المحقق النائيني
(قدس سره) (1) -، فلا تتم الثمرة ولو قيل بالورود، لان المعارضة على القول به
بين الامارة في أحد الطرفين والامارة والاستصحاب في الطرف الاخر أيضا.
وكلام المحقق النائيني وان كان ناظرا إلى التعارض الحاصل بين الأصول،
ولكن ما ذكره من الدليل على مدعاه يشمل الامارات أيضا لا خصوص
الأصول، فالتفت.
والذي تبين من جميع ما ذكرناه في المقام: أن الوجه في تقديم الامارة على
الأصل الاستصحابي هو ورودها عليه، وانه لو تنزلنا عن دعوى الورود، فلا بد
من الالتزام بالتخصيص ولو كان بين دليليهما عموم من وجه، لعدم تمامية دعوى
الحكومة. (2)

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 48 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) قد يشكل الالتزام بحكومة الامارة على الاستصحاب - باعتبار ان دليلها يتكفل جعلها علما
تنزيليا والمأخوذ في موضوع الأصل الجهل بالواقع فيكون ورود الامارة رافعا لموضوع الأصل تعبدا -
بان الامارة قد أخذ في موضوعها الشك أيضا وذلك لان لا اشكال في عدم اعتبارها مع اليقين بالواقع بأي نحو من انحاء الاعتبار. فيدور الامر ثبوتا بين ان يؤخذ في موضوعها الجهل بالواقع أو يكون مطلقا
بالنسبة إلى مجال العلم والجهل أو يكن مهملا. لا مجال للثالث لامتناع الاهمال في مقام الثبوت. وكذا
الثاني لما عرفت من عدم اعتبارهما في صورة اليقين والعلم. فيتعين الثالث. وإذا كان موضوعها مقيدا
بالجهل فالاستصحاب يتكفل تنزيل الشك منزلة اليقين، فهو يثبت اليقين تنزيلا، فيكون رافعا لموضوع
الامارة وحصول اليقين بالواقع تعبدا، فلا حكومة للامارة على الاستصحاب بل بينهما تحاكم بالتقريب
المذكور.
وقد أجيب عن هذا الاشكال بجوابين:
الأول: أن الشك المأخوذ في موضوع الأصل مفهوم عام يصلح للانطباق على الفرد الحقيقي
للشك والاعتباري.
بخلاف المأخوذ في موضوع الامارة، فإنه حيث كان بحكم العقل كان ظاهرا في الصفة الوجدانية.
وعليه، فحيث إن دليل الامارة يتكفل اعتبارها علما، كان ورودها رافعا لموضوع الأصل، بخلاف
الأصل فإنه لا يتكفل رفع الشك حقيقة بل تنزيلا وهو لا يجدي لان الشك المأخوذ في موضوع الامارة
واقع الشك الظاهر في الصفة الوجدانية. وبعبارة أخرى: ان حيث اخذ الشك في موضوع الأصل اثباتا
ولفظا كان ظاهرا في أن الموضوع كل ما يصدق عليه الشك ولو بواسطة الاعتبار. وهذا بخلاف الشك
المأخوذ في موضوع الامارة، فإنه مأخوذ ثبوتا والمراد به واقع الشك لا عنوانه إذ لا ربط بالصدق ونحوه
في مرحلة الثبوت.
وبهذا تكون الامارة حاكمة على الأصل دون العكس، مع الالتزام بأخذ الشك في موضوع الامارة.
وفي هذا الجواب ما لا يخفى.
أما أولا: فلما عرفت من أن دليل الامارة لا يتكفل الاعتبار، إذ مشروعية الاعتبار تختص بموارد
خاصة.
وأما ثانيا: فلانه مع التسليم بكونه متكفلة للاعتبار، انما تكون واردة لا حاكمة لنفيها الموضوع
تكوينا - كما عرفت -، مضافا لاختصاص ورودها بما إذا لم يكن للامارة من أثر غير نفي الحكم الثابت
بالدليل الاخر. وليس الامر كذلك إذ للامارة آثار خاصة ولو لم يكن هناك استصحاب ونحوه.
وأما ثالثا: فلان مبنى الاشكال على تكفل الامارة التنزيل لا الاعتبار وبه يحصل التحاكم، لان
مفاد الاستصحاب هو تنزيل الشك منزلة اليقين. والتفريق انما يكون بلحاظ نفي الأثر المترتب على
الموضوع، وهو يتحقق ولو كان الموضوع هو واقع الشك إذ لا نظر له جدا إلى الموضوع، بل نظره إلى
الحكم بلسان نفي الموضوع. فلا حظ.
الجواب الثاني: ما هو المشهور من أن الشك أخذ في الامارة موردا وفي الأصل موضوعا، فلا
حكومة للأصل على الامارة لعدم نظره إليها.
وتوضيح هذا الجواب بنحو يندفع به الاشكال والبرهان على أخذ الشك في الموضوع نقول: أن
ما يوجب تحديد الحكم بحمد خاص بحيث لا يتعداه إلى غيره. تارة يكون مأخوذا في مرحلة سابقة على
الحكم سواء كان قيدا للحكم كالأمور غير الاختيارية أو لا موضوع كالأمور الاختيارية - وان كان
التحقيق رجوع قيود الحكم إلى الموضوع -.
وأخرى: يكون ملحوظا ومأخوذا مساوقا للحكم ومقارنا له في المرتبة، بمعنى ان فعلية الحكم تكون
في ظرف تحقق القيد، فتكون فعلية الحكم وثبوت القيد متنازلين. نظير ثبوت الضد، فإنه مقيد بعدم الضد
الاخر، كثبوت الوجوب فإنه لا اشكال مقيد بعدم الحرمة إذ لا يثبت الوجب في ظرف الحرية. ففعلية
الوجوب انما تكون مع عدم الحرمة، ولكن تقيد الوجوب بعدم الحرمة ليس بمعنى أخذ عدم الحرمة في
مرحلة سابقة عليه وفي مرحلة أصل ثبوته، بحيث يكون التصرف فيه تصرفا في الحكم ومحققا للحكومة.
بل بمعنى ان ثبوت الوجوب انما يكون في هذا الظرف دون غيره فهو ملحوظ في رتبة الحكم وإلا لكان
الدليل الموجب لا ثبات الحل مثبتا للوجوب، لأنه حقق موضوع الوجوب ولا اشكال في أنه لا يلتزم به
أحد. نعم قد يكون ذلك بنحو الملازمة والأصل المثبت وهو غير ما نحن فيه.
وعليه، فالدليل المثبت لعدم الضد أو النافي له لا يتعرض لثبوت الضد الاخر أو نفيه بحال.
والامر في الامارات كذلك، فان تقيدها بعدم العلم كتقيد الضد بعدم الضد الاخر. بل هي من انه
بعينه، وذلك لان الدليل على عدم ثبوت الامارة مع العلم بالخلاف انما هو ثبوت التضاد العلمي أو
الواقعي. وذلك فان التضاد فيها بملاك التضاد بين الاحكام لا في ذاتها، فان الاحكام غير متضادة بنفسها
بل متضادة في مرحلة داعويتها ومقام الامتثال، لان المكلف لا يمكنه امتثال الحكمين معا. فكذلك التضاد
بين جعل الامارة علما تنزيليا والعلم بالواقع، لان جعل العلم التنزيلي مرجعه إلى جعل وجوب العمل
على طبقه وبلحاظ الجري العملي. وجعل الواقع الذي تعلق به العلم يرجع إلى ذلك أيضا فجعل الواقع
وجعل العلم على خلافه متضاد ان في مرحلة الامتثال. فاخذ عدم العلم في مورد الامارة من باب أخذ عدم
الضد واقعا أو علما. وقد عرفت أنه لم يؤخذ قيدا للحكم بالمعنى الذي كون التصرف فيه موجبا للتصرف
في نفس الحكم، بل بالمعنى الاخر، وهو معنى الموردية، فاتضح بذلك الفرق بين المورد والموضوع المذكور
في جواب الاعلام.
ومن هنا يتضح كون الجواب عن البرهان المزبور، بالالتزام بالاهمال في الموضوع في مرحلة
الثبوت ولا محذور فيه، لان امتناع الاهمال في مقام الثبوت باعتبار ايجابه للتردد في الحكم وانه يشمل
المقيد وغيره أو لا؟ إذا لا مجال لتردد الحاكم في حكمه نفسه وعدم علمه بمقدار شموله. وأما إذا كان
الاهمال غير مركب للتردد في الحكم بل كان مقدار الحكم معلوما فلا مانع فيه لان المجعول الذي لا
يمكن التردد فيه لا تردد فيه واقعا والتردد في غيره لا مانع منه. والمقام من هذا القبيل لان الحكم معلوم
المقدار والحد ولو مع إهمال الموضوع.
ولو أبيت إلا عن امتناع الاهمال في الموضوع أيضا باعتبار أن الحاكم مع التفاته إلى ضيق دائرة
حكمه يلحظ الموضوع ضيقا قهرا عليه، فيكون الموضوع ضيقا أيضا كالحكم.
فلا مانع من الالتزام به بالنحو الذي التزمنا به في ظرف الحكم بان يلحظ عدم العلم ظرفا
للموضوع لا قيدا وموردا لا جزاء. فلا يكون التصرف فيه تصرفا في الموضوع أضلا. فالتفت.
استدراك: أن الوجه في تقديم الامارة على الأصل بالحكومة إن كان لاجل تعرض نفس
الامارة لمفاد الأصل باعتبار انها تثبت ما نفاه الأصل أو العكس، فذلك غير موجب للحكومة وإلا يحصل
التحاكم، فان الأصل أيضا متعرض، لمفاد الامارة لأنه ينفي ما تثبته الامارة أو العكس، فملاك حكومة
نفي الامارة، موجود. وإن كان بلحاظ دليل اعتبار الامارة لا نفس الامارة، فهو ليس ناظرا إلى دليل
الأصل بمفاده فإنما مفاده على المشهور ثبوت حكم ظاهري على طبق مؤدي الامارة وعلى المختار ثبوت
المنجزية والمعذرية بقيام الامارة، وعلى كلا الوجهين لا تعرض له بوجه لدليل الأصل كي يكون حاكما
عليه.
ثم إنه قد يقرر وجه حكومة الامارة على الأصل: بان كلا من دليل إعتبار الامارة والأصل وان
كان يتكفل إلغاء احتمال الخلاف، فدليل اعتبار الامارة يتكفل إلغاء احتمال خلافها. ودليل اعتبار
الأصل يتكفل إلغاء احتمال خلافه، إلا أنه لما لم يكن دليل اعتبار الأصل ناظرا إلى إلغاء حكم الامارة،
لان حكم الأصل مترتب على الشك في الواقع الذي هو مؤدي الامارة، فلا يمكن أن يكون الواقع
مأخوذا فيه عدم حكم الأصل لان حكم الأصل في طول الواقع، وكان دليل اعتبار الامارة متكفلا
لنفي احتمال خلافه، ومنه حكم الأصل. كانت الامارة رافعة لموضوع الأصل وهو احتمال الخلاف ونافية
لحكمه، بخلاف خلافه، ومنه حكم الأصل. كانت الامارة رافعة لموضوع الأصل وهو احتمال الخلاف ونافية
لحكمه، بخلاف الأصل فإنه غير رافع لموضوع الامارة، إذ لا تعرض له لحكمها، فإنه يتكفل إلغاء احتمال
438



خلاف حكمه مما هو في مرتبته ولا يتعدى إلى الواقع كي يكون ناظرا إلى الامارة أيضا. ونفي هذا الوجه
صاحب الكفاية بان لم يثبت بان دليل الاعتبار في الامارة والأصل يتكفل إلغاء احتمال الخلاف كي يقرر
ما ذكر. هذا محصل توضيح عبارة الكفاية. ولا بد من التعرض لشئ استطرادي أيضا وهو انه قد يشكل
على القول بحكومة الامارة على الاستصحاب.
بتقريب: ان دليل الامارة بتكفل جعلها علما تنزيليا والمأخوذ في موضوع الأصل الجهل بالواقع،
فيكون ورود الامارة رافعا لموضوع الأصل تعبدا بان الامارة أيضا قد اخذ في موضوعها الشك وذلك
لأنه لا اشكال في عدم اعتبارها مع اليقين بالواقع بأي نحو من انحاء الاعتبار، فيدور الامر ثبوتا بين
ان يؤخذ في موضوعها الجهل بالواقع أو يكون مطلقا بالنسبة إلى حكم العلم والجهل أو يكون مهملا لا
مجال للثالث لامتناع الاهمال في مرحلة الثبوت. وكذا الثاني لما عرفت من عدم اعتبارها في صورة اليقين
والعلم، فيتعين الثالث، وإذا كان موضوعها مقيدا بالجهل فالاستصحاب يتكفل تنزيل الشك منزلة اليقين،
فهو يثبت اليقين تنزيلا فيكون رافعا لموضوع الامارة لحصول اليقين بالواقع تعبدا، وبالجملة: يلزم من
تقريب حكومة الامارة على الاستصحاب ذكر التحاكم من الطرفين.
ولا وجه للتقصي عن هذا الاشكال بعدم أخذ الجهل في الامارة موضوعا بل موردا لما عرفت من
إقامة الرهان على اخذه في موضوعها.
وبالجملة: لا يتضح الفرق بين الموضوع والمورد الا لفظا.
ويمكن الإجابة عنه: ان الفرق بين الموضوع والمورد هو: ان القيود التي تحدد الحكم بنحو خاص
بحيث لا يتعداه إلى غيره ولا يتحقق في ظرف آخر على نحوين:
الأول: مما يرجع إلى المرتبة السابقة على الحكم، وهي التي يعبر عنها بقيود الموضوع، كأخذ العادل
في موضوع وجوب الاكرام في قول الامر: " أكرم العالم العادل ".
الثاني: ما يكون متحدا في المرتبة مع الحكم، بان يؤخذ في نفس الحكم دون الموضوع، وهو المعبر
عنه بقيود الحكم. وذلك نظير التعبد بأحد جزئي الموضوع، فإنه مقيد بالتعبد بالجزء الاخر - في صورة
عدم احرازه بالوجدان - بحيث يكون التعبد بالجزء الاخر في عرضه التعبد به، فهو مأخوذ في نفس الحكم
وهو التعبد، بحيث لو لاء لما صح التعبد به، وليس مأخوذا في مرحلة سابقة عليه للزوم المدعى - كما لا
يخفى -. فالقسمان يشتركان في كونهما محددان للحكم بحد خاص، بحيث لا يثبت مع عدم ثبوتهما، إلا
انهما يختلفان في أن أحدهما يؤخذ في المرحلة السابقة على الحكم، والثاني: يؤخذ في مرحلة الحكم نفسه،
ويكون قيد النفس الحكم. فيمكن أن يكون المراد بقيد الموضوع هو القيد المأخوذ في مرحلة سابقة عن
الحكم، وبقيد المورد هو المأخوذ في نفس الحكم. وحيث إن الشك أخذ في الاستصحاب في المرحلة السابقة
مع التعبد وفي الامارات ليس كذلك، بل الحكم مقيد بهذا القيد يعني بصورة الجهل دون العلم بالدليل
العقلي، كان الشك مأخوذا في موضوع الاستصحاب دون الامارة، بل فيها اخذ في نفس الحكم، وهو
المراد من كونه مأخوذا في موردها. وعلى هذا فلا يكون الاستصحاب حاكما على الامارة لأنه لا يتصرف
في موضوعها.
وتوهم: ان الدليل الحاكم أعم مما كان متصرفا في قيود الموضوع أو قيود الحكم، فإنه لو قال أكرم
زيدا وقيد الوجوب ليوم الجمعة، ثم قام دليل على هذا اليوم المتوهم كونه يوم جمعة، ليس بيوم الجمعة
كان هذا حاكما على الدليل الاخر ورافعا لحكمه، فإذا كان الشك في الامارة مأخوذا قيدا للحكم كان
الاستصحاب رافعا له وهو واضح.
مندفع: بان الشك لم يؤخذ شرطا وقيدا للحكم كي يلزم ما ذكر، بل أخذه في الحكم بنحو يكون
الحكم هو الحصة الملازمة للشك، والتي تكون مع الشك بحيث لا يثبت الحكم في غير هذا الظرف، فلا
يكون الدليل الرافع للشك متعرضا للحكم بحال، إذ لا علاقة للشك بالحكم لا قيدا ولا موضوعا، بل
بنحو الملازمة. فغاية ما يكون ان الدليل الرافع للشك يكون معارضا ومنافيا للامارة بمدلولاها - وهو
العلم التنزيلي - وهو لا يرفع حكومتها على الاستصحاب لما عرفت أن أحد الدليلين إذا كان رافعا
لموضوع الاخر كان حاكما عليه ولو كان الاخر منافيا له في الدلالة.
ومن هنا تتضح الإجابة عما أقيم من البرهان على اخذ الشك في موضوع الامارة وذلك بالالتزام
بالاهمال في جانب الموضوع، وأما المحذور المذكور على الاهمال في مقام الثبوت وهو لزوم تردد نفس
الحاكم في حكمه لعدم علمه بشموله للمورد المشكوك وعدمه، فهو لا يتأتى، لان هذا انما يتم لو كان
الاهمال في الموضوع موجبا للاهمال في نفس الحكم، أما العلم بالحكم وحده وانه مقيد بغير المورد - كما
عرفت - فالاهمال في الموضوع غير ضائر أصلا، لان المجعول الذي لا معنى للتردد فيه لا تردد فيه،
وغيره التردد فيه غير ضائر. فالتفت.
استدراك: يتبع مبحث اخذ الجهل في موضوع الأصول والامارة
والجواب عن هذا الاشكال: ان الاهمال في الموضوع في مرحلة الثبوت إنما يمتنع إذا كان موجبا
للتردد في نفس الحكم وانه يشمل المقيد وغيره أولا، إذ لا مجال لتردد الحاكم في نفس حكمه وعدم علمه
بمقدار شموله وانه في هذا المورد ثابت أولا. إما إذا كان الاهمال ليس موجبا للتردد في الحكم بل كان
مقدار الحكم معلوما فلا مانع من ذلك، لان المجعول الذي لا يمكن التردد فيه لا تردد فيه والتردد في
غيره لا دليل على امتناعه. وما نحن فيه كذلك. وتوضيح ذلك: أن ما يوجب تحديد الحكم بحد خاص
بحيث لا يتعداه إلى غيره.
تارة: يكون مأخوذا في مرحلة سابقة على الحكم سواء كان قيدا للحكم كالأمور غير الاختيارية
أو الموضوع كالأمور الاختيارية وان كان التحقيق رجوع قيد الحكم إلى الموضوع.
وأخرى: يكون ملحوظا ومأخوذا مساوقا للحكم في المرتبة بمعنى ان فعلية الحكم تكون في ظرفه
تحقق القيد، فتلحظ فعلية الحكم المقيد بنحو الملازمة، نظير ثبوت الصد، فإنه مقيد بعدم الضد الاخر
كثبوت الوجوب، فإنه لا اشكال انه مقيد بثبوت عدم الحرمة، إذا لا يثبت الوجوب في ظرف الحرمة.
ففعلية الوجوب انما تكون مع عدم الحرمة. فيكون تقيد الوجوب بعدم الحرمة ليس بمعنى أخذ عدم
الحرمة في مرحلة سابقة عليه بحيث يكون التصرف فيه تصرفا في الحكم ومحققا للحكومة. بل هو بمعنى
ان ثبوت الوجوب انما يكون في هذا المورد دون غيره فهو ملحوظ في رتبة الحكم. وإلا لكان الدليل
الموجب لاثبات الحل مثبتا للوجوب لأنه حقق موضوع الوجوب ولا اشكال في أنه لا يلتزم به أحد نعم
قد يكون ذلك بنحو الملازمة والأصل المثبت وهو غير ما قرره.
وعليه، فالدليل المثبت لعدم الضد وما هو كرافع أو النافي له لا يتعرض لثبوت الضد الاخر أو
نفيه بحال.
والامر في الامارات كذلك فان تقيدها بعدم العلم كتقيد الضد بعدم الضد الاخر، بل من بابه
بعينه، وذلك لان الدليل على عدم ثبوت الامارة مع العلم بالخلاف انما هو ثبوت التضاد العلمي أو
الواقعي. فاعتبار عدم العام في التعبد بالامارة من باب اعتبار عدم الضد في ثبوت الضد الاخر. وقد
عرفت أنه لم يؤخذ قيدا للحكم بالمعنى الذي يكون التصرف فيه موجبا للتصرف في نفس الحكم، بل
بالمعنى الاخر، وهو معنى الموردية في كلام. فاتضح بذلك والفرق بين المورد والموضوع المذكور في جواب
الاعلام. وان ما ذكر عن الترديد العقلي غير ناهض على اخذ الشك في موضوع الامارات.
تقريب التضاد: أن التضاد فيها بملاك التضاد بين الاحكام لا في ذاتها، وذلك لان الاحكام غير
متضادة بنفسها، بل متضادة في مرحلة داعويتها ومقام الامتثال. فان المكلف لا يمكن امتثال الحكمين
معا. فكذلك التضاد بين جعل الامارة علما تنزيليا والعلم بالواقع. لان جعل العلم التنزيلي مرجعه إلى
جعل وجوب العمل على طبقه بلحاظ الجري العملي. وجعل الواقع الذي تعلق به العلم يرجع إلى ذلك
أيضا فجعل الواقع وجعل العلم على خلافه متضادان في مرحلة الامتثال، فاخذ عدم العلم في مورد الامارة
من باب أخذ عدم الضد، لان الضد واقعا هو نفس العلم بهذا اللحاظ بلحاظ ايجابه للمحركية بكشفه
عن الواقع. فالتفت.
438

ثم إن هناك قواعد ثلاث تردد أمرها بين الا مارية والأصلية، ووقع الخلاف
في ذلك بين الاعلام. وهي: قاعدة اليد. وقاعدة الفراغ والتجاوز. وأصالة الصحة
في عمل الغير.
ولا بأس في تنقيح الكلام فيها مفصلا لما يترتب عليها من آثار فقهية جمة
جليلة.
439