الكتاب: منتقى الأصول
المؤلف: تقرير بحث الروحاني ، للحكيم
الجزء: ٤
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٦
المطبعة: الهادي
الناشر:
ردمك:
ملاحظات: تقريراً لأبحاث السيد محمد الحسيني الروحاني

منتقى الأصول
تقريرا لأبحاث آية الله العظمى
السيد محمد الحسيني الروحاني
الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم
الجزء الرابع
1

اسم الكتاب منتقى الأصول ج 4
المؤلف: الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم
المطبعة: الهادي
الطبعة: الثانية 1416 ه‍
الكمية: 2000 نسخة
السعر: 7000 ريال
حقوق الطبعة محفوظة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

تمهيد
جرت عادة المتأخرين على ذكر تقسيم يشير إلى موضوعات الأبحاث
الآتية، وأصول الأبواب التي سيقع الكلام فيها. واختلفوا في كيفية التقسيم إلى
وجوه:
التقسيم الأول: ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في الرسائل من تقسيم
حالات المكلف إلى القطع والظن والشك (1).
وقد أورد عليه بوجوه:
أولها: ان المراد بالظن ما يعم الظن النوعي والشخصي لا خصوص الظن
الشخصي، إذ التعبد بالامارات كما سيأتي من باب الظن النوعي. وعليه فلا
مقابلة بين الظن والشك لاجتماع الظن النوعي مع الشك كما لا يخفى.
ثانيها: ان الشك ليس موضوعا للاحكام بعنوانه، بل الموضوع هو مطلق
عدم العلم بالحكم والجهل به ولو كان ظنا - إذا لم يقم على اعتباره دليل - أو وهما.
ثالثها: ما ذكره في الكفاية من لزوم تداخل الأقسام (2). ويمكن أن يكون
نظره إلى تداخلها بحسب المورد، فقد يكون المكلف شاكا بالحكم ولكن قام لديه

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 2 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 258 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
5

دليل معتبر فلا يجري في حقه الأصل. كما أنه لو كان ظانا بالحكم بظن غير
معتبر كان موضوعا للأصل، فيلزم أن يكون بعض موارد الظن محكوما بحكم
الشك وبعض موارد الشك محكوما بحكم الظن. وإذا كان نظره إلى لزوم
التداخل في المصداق - كما أشار إليه المحقق العراقي (1) - لم يرد عليه اشكال
المحقق الأصفهاني بان هذا المعنى ليس من التداخل في شئ باعتبار ان
الحجية - في بعض موارد الشك - لا تثبت للشك بعنوانه، كما أن الأصل - في بعض
موارد الظن - لا يثبت للظن بعنوانه (2). فالتفت.
وقد حاول المحقق العراقي تصحيح تقسيم الشيخ (رحمه الله) إلى هذه
الأقسام الثلاثة، بدعوى: ان تثليث الأقسام انما هو بلحاظ ما للأقسام المذكورة
من الخصوصيات الموجبة للحجية من حيث الوجوب والامكان والامتناع، إذ
القطع بلحاظ كاشفيته التامة مما تجب حجيته عقلا، والظن بلحاظ كاشفيته
الناقصة مما يمكن حجيته،، والشك بلحاظ تردده بين محتملين يمتنع جعل
الطريقية والحجية له، لأنه مستلزم لجعل الطريق إلى المتناقضين وهو محال.
فالتثليث انما هو للإشارة إلى الاختلاف من هذه الجهة ووقوع البحث فيها.
واستشهد على ذلك بما ذكره الشيخ في أول البراءة (3).
ولكن هذه المحاولة فاشلة، وذلك لان البحث في امكان جعل الحجية
للظن، تارة: يكون من جهة قابليته في نفسه وبلحاظ ذاته في قبال قسيميه، وهو
ما يشار إليه اجمالا ولا يوقع البحث فيه مفصلا، بل يكتفى في بيانه بقليل
الألفاظ كما بينه الشيخ (رحمه الله) في أول مباحث البراءة (4). وأخرى: يكون
(1) البروجردي محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 5 - من القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 3 - الطبعة الأولى.
(3) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 4 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(4) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 190 - الطبعة الأولى.
6

من جهة اشكال ابن قبة التي وقع البحث فيها مفصلا أخيرا، ويصطلح عليها
ب‍ " بحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري "، وهي غير مختصة بالظن وان وقع
البحث فيها في أول مباحثه.
فإن كان نظر المحقق العراقي إلى أن نظر الشيخ في التثليث إلى البحث
عن امكان حجية الظن من الجهة الأولى، فقد عرفت أنه بحث جزئي جدا، فلا
يناسب تقسيم الحالات في صدر الكتاب للإشارة إليه وهو واضح جدا. وان كان
نظره إلى البحث من الجهة الثانية، فهو وان كان بحثا مهما مفصلا لكنه ليس إلا
بحثا واحدا من مباحث الكتاب، كما أنه ليس بحثا أصوليا، بل هو بحث عن
مبادئ المسألة الأصولية كما لا يخفى. فتقسيم الحالات في صدر الكتاب للإشارة
إليه ليس كما ينبغي. هذا مع عدم اختصاص البحث في الظن، بل يعم الشك
الذي يكون موضوعا لحكم ظاهري، فالمقابلة في غير محلها.
والذي يظهر من أجود التقريرات توجيه تقسيم الشيخ بعين ما وجهه
المحقق العراقي (1).
كما يحتمل أن يكون نظره إلى بيان ان التقسيم الثلاثي باعتبار اختلاف
الأقسام في الآثار.
والاشكال عليه واضح جدا إذ اختلاف الأقسام بعناوينها في الآثار هو
محل الكلام، وعدمه أساس الاشكال على الشيخ، فكيف يدفع الايراد على
الشيخ بذلك؟ فالتفت.
التقسيم الثاني: ما ذكره المحقق صاحب الكفاية أولا من: ان المكلف
إذا التفت إلى حكم فعلي ظاهري أو واقعي فاما ان يحصل له القطع أولا يحصل
والثاني موضوع لحكم العقل من اتباع الظن - لو تم دليل الانسداد على الحكومة -

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 3 - الطبعة الأولى.
7

أو الرجوع إلى الأصول العملية.
وقد ذكر (قدس سره) في وجه العدول عن تثليث الأقسام كما ذكره
الشيخ، والالتزام بالتقسيم الثنائي، ان اثر القطع يترتب عليه سواء تعلق بحكم
واقعي أو ظاهري، ولا تختص آثاره بما إذا تعلق بحكم واقعي (1).
وإذا فرض تعميم
متعلق القطع - لعدم اختصاص اثاره - دخلت موارد الامارات والأصول الشرعية
في عنوان القطع بالحكم، فلا يتجه التثليث حينئذ.
ولا يخفى انه بهذا التقسيم يشير اجمالا إلى مباحث الكتاب، فلا يرد عليه
بأنه يمكن جعل القسم واحدا، فيقال: المكلف إذا التفت إلى الحكم فلا بد من
حصول الحجة على عمله، إذ ليس في هذا العنوان إشارة ولو اجمالية إلى مباحث
الكتاب، والمفروض ان المقصود بالتقسيم ذلك.
ولكن يرد عليه - ما أشار إليه المحققان العراقي والأصفهاني - من انه
ليس تقسيما للمباحث الأصولية الواردة في الكتاب، إذ البحث يكون عن حجية
الخبر مثلا أو ثبوت الاستصحاب ونحو ذلك، وهذا مما يودي في صورة اعمال
الاستنباط لليقين بالحكم الشرعي، فاليقين بالحكم مما يترتب أحيانا على
المباحث الأصولية.
وعليه، فليس التقسيم تقسيما للمباحث المحررة، بل تقسيما بلحاظ ما
يترتب عليها أحيانا، وهو خروج عن المفروض من كون الملحوظ في التقسيم
ان تكون الأقسام عناوين اجمالية لأبحاث الكتاب (2).
التقسيم الثالث: ما ذكره (قدس سره) أيضا أخيرا وهو تقسيم المكلف
إلى القاطع بالحكم ومن قام لديه الطريق المعتبر ومن لم يقم لديه الطريق المعتبر،

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 257 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 5 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 3 - الطبعة الأولى.
8

والأخير موضوع الأصول الشرعية والعقلية. وقد ذكر هذا التقسيم تنزلا عن
تقسيمه الأول وتمشيا مع دعوى ضرورة الإشارة التفصيلية إلى كل موضوع من
الموضوعات الثلاثة، كما يشير إليه قوله " وان أبيت إلا... " (1).
وانما نهج هذا النهج في التقسيم، فرارا عن محذور التداخل الثابت في
تقسيم الشيخ الثلاثي.
كما أنه لا يرد عليه غيره مما تقدم وروده على الشيخ كما
هو واضح جدا.
ولكن يرد عليه: ان هذا التقسيم يتناسب مع فهرست الكتاب الذي
يذكر في ذيله للإشارة إلى مطالب الكتاب، ولا يتناسب مع كونه تقسيما مذكورا
للإشارة إلى ما سيقع فيه البحث، وذلك لان المبحوث عنه فيما يأتي هو اعتبار
الامارة وحجيتها، فموضوع البحث ذات الامارة لا الامارة المعتبرة، فقد اخذ
الحكم في الموضوع في تقسيمه (قدس سره) وهو غير سديد. وقد ذكر المحقق
الأصفهاني هذا الاشكال (2).
التقسيم الرابع: ما ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية، وهو
تقسيم المكلف إلى من قام لديه طريق تام، ومن قام لديه طريق ناقص لوحظ لا
بشرط من حيث الاعتبار وعدمه، ومن لم يقم لديه طريق ناقص كذلك أعم من
عدم قيام طريق لديه أصلا ومن قيام طريق بشرط عدم الاعتبار. فالأول
موضوع مباحث القطع، والثاني إشارة إلى مباحث الامارات. والثالث إشارة إلى
مباحث الأصول لان موضوعها من لم يقم لديه طريق ناقص لا بشرط (3).
وهذا التقسيم يسلم عما يرد على تقسيم الكفاية الثلاثي، لعدم اخذه
الحكم في الموضوع، كما أنه يسلم عما يرد عليه الشيخ أولا وثانيا، إذ لم يجعل
.

الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 257 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2 و 3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 3 - الطبعة الأولى
9

المقابلة بين الشك والظن، كما لم يأخذ الشك موضوع الحكم، ولكن لا يسلم عما
يرد عليه من استلزامه التداخل، ولكنه من إحدى الناحيتين فإنه وإن لم يرد عليه
لزوم دخول ما اخذ موردا للأصل في موضوع الحجية، لان ما أخذه موردا للأصل
من لم يقم لديه طريق لا بشرط، وهو لا يكون بوجه موضوعا للحجية والطريقية،
ولكن ما اخذه موضوعا للبحث في الامارة يكون موضوعا للأصل في بعض
افراده، فان الطريق إذا لم يقم دليل على اعتباره كان مورده من موارد الأصول،
مع أنه يصدق قيام الطريق لا بشرط من حيث الاعتبار وعدمه. فتدبر.
فيتحصل: انه لا تمامية لما ذكر من التقسيمات بل هي مخدوشة بأجمعها،
وان كان ما ذكره الأصفهاني أخف محذورا.
والأمر سهل، إذ لا يترتب على صحة تقسيم منها أو غيره أي أثر عملي
في مقام الاستنباط وهذا هو الذي يهون الخطب.
ثم إنه قد أورد على تقسيم الشيخ: بان المراد من الحكم اما أن يكون هو
الحكم الفعلي أو الانشائي.
فإن كان هو الحكم الفعلي لم يكن وجه لأخذ الظن أو الشك به موضوعا
للبحث، إذ البحث في موارد الظن والشك في جعل حكم شرعي فعلي ظاهري،
ويمتنع أن يكون الظن أو الشك بالحكم الفعلي موضوعا لحكم فعلي آخر،
لاستلزامه الظن باجتماع الحكمين الفعليين أو الشك به، وهو محال لمحالية
اجتماعهما فيستحيل الظن به.
وان أريد من الحكم هو الحكم الانشائي، فيتوجه عليه بان آثار القطع
انما تترتب عليه إذا تعلق بحكم فعلي دون غيره.
والتفكيك بين متعلق القطع و متعلق الظن والشك لا معنى له بعد أن كان
الترديد بلحاظ الالتفات إلى حكم واحد.
10

وقد ذكر ان هذا سبب أيضا لعدول صاحب الكفاية إلى تثنية الأقسام (1).
ولكن يندفع هذا الايراد بما سيأتي ان شاء الله تعالى من بيان عدم امتناع
ثبوت الحكم الفعلي الظاهري في مورد الظن بالحكم الفعلي الواقعي أو الشك به
في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري (2).
ثم إن هذا الايراد لا يصلح سببا للعدول إلى تثنية الأقسام، إذ بعد تعميم
متعلق القطع إلى الحكم الواقعي والظاهري لا بد وان تكون الأقسام ثنائية حتى
إذا لم يؤخذ الحكم بالمرتبة الفعلية، ولو كان سببا للعدول للزم من عدمه تثليث
الأقسام، فالسبب للعدول إلى التثنية هو ما ذكره أولا من تعميم متعلق القطع
للحكم الواقعي والظاهري.
هذا كله في ما يرتبط بعدد الأقسام وكيفية التقسيم.
وقد وقع البحث في أمر آخر في التقسيم، وهو ان المراد من المكلف الذي اخذ
في موضوعه، هل هو خصوص المجتهد أو ما يعم المجتهد والعامي.
وقد ذكر لتخصيصه بالمجتهد وجوه ثلاثة:
الأول: ان غير المجتهد لا يحصل لديه القطع والظن والشك لغفلته،
وحصولها يتفرع على الالتفات إلى الحكم بالبداهة.
الثاني: ان حجية الامارات والأصول متوقفة على عدم المعارض
والفحص عنه، وهذا من شأن المجتهد لا المقلد، إذ لا قدرة له على الفحص عن
معارض الخبر - مثلا - والجزم بعدمه.
الثالث: ان موضوع حجية الامارة أو الأصل لا يعم المقلد ابتداء، لان
من جاءه النبأ أو الخبران المتعارضان أو من كان على يقين فشك هو المجتهد

(1) حاشية المشكيني في ذيل قول الماتن: " ولذلك عدلنا... ". كفاية الأصول 1 / 6 - الطبعة المحشاة
بحاشية المشكيني.
(2) راجع 4 / 178 - 179 من هذا الجزء.
11

لا المقلد.
والوجهان الأولان ذكرهما المحقق العراقي (1)، والأخير ذكره المحقق
الأصفهاني (2).
وجميع هذه الوجوه مردودة.
اما الأول: فلوضوح تحقق القطع بالواقع لغير المجتهد بالمقدار الذي
يتحقق للمجتهد - لو لم يكن بأكثر - كالضروريات الدينية من وجوب الصلاة
وعدد ركعاتها وبعض خصوصياتها الأخرى، وجوب الصوم والحج وغير ذلك.
كما أنه عند التفاته إلى الحكم يحصل له الشك غالبا والتردد في أحد
طرفيه، ومنع حصول الالتفات لديه ممنوع بالبداهة.
وهكذا يحصل له الظن، شخصيا كان أو نوعيا، إذ قد يعلم بورود خبر في
حكم خاص، كما قد يترجح لديه أحد احتمالي الحكم ثبوتا أو عدما.
وبالجملة: فمنع حصول الصفات الثلاث بالنسبة إليه مجازفة في الدعوى.
واما الثاني: فلامكان اعتماده في مقام الفحص على المجتهد، ولا يبتني
الاخذ بقوله على حجيته في الموارد التي لا تحتاج معرفة المعارض وعدمه على
اعمال النظر والاستنباط، بل يكفي حصول الاطمئنان بكلامه أو حجية قوله من
باب حجية الخبر، فهو نظير من يترجم لغيره كلاما بالفارسية موجها إليه فيخبره
بأنه قال كذا ولم يذكر معارضا له في الكلام، فإنه لا يرتبط بحجية الفتوى أصلا.
ومعه لا حاجة إلى الالتزام في مقام رد الوجه الثاني، بان المجتهد يقوم
مقامه في الفحص - بمقتضى أدلة الافتاء والاستفتاء -، إذ عرفت أن من الموارد
ما لا يحتاج الفحص فيها إلى إعمال النظر.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 2 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 2 - الطبعة الأولى.
12

واما الثالث: فلعموم آية النبأ، ولا اختصاص لها بالمجتهد، ودعوى: ان
من جاءه النبأ هو المجتهد، لا شاهد لها، مع أن أدلة الخبر لا تختص بآية النبأ،
كيف؟ ودلالتها غير مسلمة، بل العمدة هي سيرة العقلاء على حجية الخبر، وعدم
اختصاصها بالمجتهد واضح. بل ظاهر الخبر الذي يحكي السؤال عن وثاقة
يونس بن عبد الرحمن لاجل أخذ معالم الدين منه هو تعميم الحجية لغير
المجتهد، لظهور السؤال في كون السائل عاميا، ولذا استدل به على حجية
الفتوى. وهكذا الحال فيمن جاءه الخبران المتعارضان، فإنه لا وجه لتخصيصه
بالمجتهد. كما لا وجه لتخصيص موضوع الاستصحاب به، لامكان حصول
اليقين السابق والشك اللاحق لغيره بالنسبة إلى الحكم الكلي.
وبالجملة: لا وجه لدعوى اختصاص دليل الخبر ونحوه بالمجتهد، سواء
كان بلحاظ الحكم الأصولي وهو الحكم بحجية الخبر أو الحكم الفرعي وهو
الحكم الذي يتكفله الخبر، بل الحكم الأصولي والفرعي يعم المجتهد والمقلد.
ويتحصل: انه لا وجه لتخصيص المكلف في موضوع التقسيم بالمجتهد،
بل هو أعم منه ومن غيره.
ثم إنه لا ظهور لقول صاحب الكفاية: " ان البالغ الذي وضع عليه القلم
إذا التفت إلى حكم فعل واقعي أو ظاهري متعلق به أو بمقلديه " (1) في أخذه
خصوص المجتهد في موضوع التقسيم، بل يمكن أن يكون نظره إلى تعميم
الآثار - في حالات المجتهد - بالنسبة إلى نفسه والى مقلديه لا ان الموضوع هو
خصوص المجتهد. إذ قد يشكل في ثبوت الآثار لقطع المجتهد من جهتين:
إحداهما: ان بعض الاحكام التي يلتفت إليها المجتهد موضوعها غير
المجتهد، فلا علم له بالحكم الفعلي بالنسبة إليه كاحكام الحيض بالنسبة إلى

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 257 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
13

المجتهد الرجل.
ثانيتهما: ان بعض الاحكام وان كانت شاملة للمجتهد بحسب موضوعها،
لكن ليست محل ابتلائه فعلا، فلا يتصور في حقه العمل كي يصح التعبد في حقه،
إذ التعبد بلحاظ الجري العملي.
ويجمع هاتين الجهتين عدم كون الحكم الملتفت إليه فعليا بالنسبة إليه.
فنظر صاحب الكفاية إلى أن الحكم الذي يلتفت إليه المجتهد، لا يلزم
أن يكون متعلقا به، بل أعم مما يكون متعلقا به أو بمقلديه. فهو ناظر إلى تعميم
الأثر في حالة المجتهد، ولا دليل عليه كون نظره إلى تخصيص الموضوع
بالمجتهد.
وتحقيق الحال في ذلك: ان ما ذكر من الاشكال يرجع إلى دعوى
اختصاص آثار القطع بما إذا كان الحكم متعلقا بنفس القاطع - مجتهدا كان أو
مقلدا -، إذ الحكم المتعلق بغيره ليس فعليا بالنسبة إليه، فلا يتصور فيه التعبد،
فمن لم تقم عنده الامارة لا معنى لا لزامه بمضمونها وتعبده به.
وعليه، فلا معنى لتعميم الحكم إلى حكم المجتهد والمقلد لتخلفه في بعض
الحالات، وهي ما إذا كان الحكم مختصا بالمقلد فلا ينفع قيام الامارة أو الأصل
لدى المجتهد.
وعليه، ان من قامت عنده الامارة هو المجتهد دون المقلد. والمفروض ان
المجتهد لا علاقة له بالحكم الذي أدت إليه الامارة، فلا يتصور في حقه التعبد،
لعدم الأثر العملي بالنسبة إليه. كما أن من يتصور في حقه التعبد وهو المقلد
لعلاقته بالحكم لم تقم لديه الامارة.
وهكذا الحال في الاستصحاب، فنقول: ان من كان على يقين فشك هو
المجتهد ولكن لا أثر للتعبد في حقه، لعدم علاقة الحكم به، ومن يتصور في حقه
التعبد وهو المقلد لم يكن على يقين فشك.
14

وعليه، فجعل موضوع البحث مطلق من كان قاطعا بالحكم ولو لم يكن
له اثر عملي بالنسبة إليه ليس كما ينبغي، بل لا بد من أن يقيد متعلق القطع
وغيره بما إذا كان ذا أثر عملي بالنسبة إلى المكلف نفسه.
وقد أجيب عن هذا الاشكال: بان مقتضى أدلة الافتاء والاستفتاء تنزيل
المجتهد منزلة المقلد، فقيام الامارة عند المجتهد قيام لها عند المقلد، ويقين
المجتهد وشكه بمنزلة يقين المقلد وشكه، وإلا لكان الحكم بجواز الافتاء
والاستفتاء لغوا (1).
والانصاف: ان الاشكال المزبور أجنبي عما نحن فيه، بل هو يرتبط
بمقام آخر، فان ما نحن فيه هو تقسيم حالات المكلف بلحاظ الأبحاث
الأصولية الآتية، ومن الواضح ان ما يبحث فيه في باب الخبر هو أصل حجيته
واعتباره بنحو القضية الحقيقية، وهكذا البحث في الاستصحاب، فإنه يقع عن
حجية الاستصحاب للموضوع الخاص. اما تعيين موارد صحة التعبد وتحقق
الموضوع، فليس يرتبط بأبحاث الأصول بل هو مرتبط بالبحث الفقهي.
اذن فما ذكر من الاشكال لا ينفي البحث عن حجية الخبر
والاستصحاب وغيرهما بنحو مطلق، لأنه يرتبط بمقام البحث عن أن الخبر أو
الاستصحاب في حق هذا الشخص هل هو حجة أولا، باعتبار انه ليس بذي
أثر عملي، وهذا أجنبي عن البحث الأصولي، إذ البحث الأصولي كما عرفت في
حجية الاستصحاب، يشترط فيه بنحو كلي ثبوت الأثر العملي، اما ان هذا
المورد من موارده أولا فليس من شأن الأصول.
فما ذكر من الاشكال يرتبط بمقام آخر وهو مقام بيان ان المجتهد،
موضوع للامارة أو الأصل المتكفلين لحكم غيره أولا؟ وهذا ليس محلا للبحث

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 2 الطبعة الأولى.
15

ههنا.
والتحقيق في دفع هذا الاشكال عن ذلك المقام أيضا ان يقال: ان المجعول
في باب الامارات تارة: يكون هو الحكم الظاهري المماثل للواقع. وأخرى: يكون
هو الحجية على اختلاف في المراد منها. فقيل: انه الطريقية. قيل: انه المنجزية
والمعذرية. وقيل: انه مفهوم الحجية نفسه.
فإذا قلنا بان المجعول هو الحكم الظاهري في حق من لا يعلم بالحكم
الواقعي، فقيام الخبر عند المجتهد على حكم الحائض غير العالمة بحكمها،
بضميمة دليل اعتباره الراجع إلى بيانه جعل مؤداه حكما ظاهرا، يوجب حصول
اليقين الوجداني للمجتهد بالحكم الظاهري الثابت في حق الحائض، وليس في
هذا اي محذور، إذ لا محذور في حصول اليقين لشخص بحكم شخص آخر، إذ
ليس من التعبد في شئ كي يدعى استحالته لمن لم يكن له علاقة بالحكم عملا.
وإذا فرض ان يقين المجتهد المزبور حجة على الحائض بدليل التقليد،
جاز متابعته في يقينه.
واما إذا قلنا بان المجعول هو الحجية بأي معنى أريد منها، فقد يشكل
بان الحجية تتقوم بالوصول، ولذا قيل: إن الشك فيها ملازم للقطع بعد مها. وعليه
فهي غير مجعولة فعلا في حق الحائض، لعدم وصول الخبر وحجيته إليها، فلا
يتحقق اليقين للمجتهد بحكمها. كما أن الحجية غير مجعولة في حقه لعدم ارتباط
العمل به.
ولكن يندفع: بأنه وان سلم ما ادعي من أن الحجية متقومة بالوصول -
إذ هو في نفسه محل اشكال كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى -. لكن الكل
يلتزم بان هناك أمرا مجعولا في حد نفسه له ثبوت واقعي ووصوله يستلزم فعليته،
إذ يستحيل تعليق جعل الحجية على وصولها للزوم الخلف أو الدور، كأخذ العلم
بالحكم في موضوع نفس الحكم. وعليه يكون حال الحجية حال الحكم الظاهري،
16

فيتعلق بها اليقين وإن لم تصر فعلية في حق المتيقن والمقلد، لعدم وصوله للمقلد، وعدم
الآثر للفعلية بالنسبة إلى المجتهد فيجري الكلام السابق الجاري على القول بجعل
الحكم الظاهري، بالنسبة إلى هذا الاحتمال أيضا، فقيام الخبر لدى المجتهد،
بضميمة دليل اعتباره، يوجب له العلم بحكم مقلده المجعول في حقه وإن لم يكن
فعليا في حق المقلد لعدم وصوله، لكنه يصير فعليا بعد اخبار المجتهد به لحجية
يقينه في حق مقلده فيكون قوله وصولا للحجية الانشائية.
وقد عرفت أن تحقق العلم بحكم الغير لا محذور فيه.
والمتحصل: انه لا مورد للاشكال المزبور في موارد الامارات، لان ما
يحصل لدى المجتهد أمر واقعي وهو اليقين بحكم مقلده الثابت له في ظرف عدم
العلم بالواقع، لا اثر تعبدي كي يدعى أنه ليس موضوع التعبد لعدم الأثر
العملي بالنسبة إليه.
ومنه ظهر انه لا حاجة في مقام دفع الاشكال إلى دعوى أن المجتهد -
بمقتضى أدلة الفتوى - بمنزلة المقلد، فقيام الخبر لديه قيام لدى المقلد، لعدم
وصول النوبة إليه لاندفاع الاشكال ولو لم يكن المجتهد منزلا منزلة المقلد.
هذا مع أن التنزيل المدعى لا يتلاءم مع دعوى حصر دليل التقليد بدليل
الانسداد، لانكار جميع أدلته المذكورة له غيره. إذ لا اقتضاء لدليل الانسداد
للتنزيل المزبور المستفاد من دلالة الاقتضاء، وهي أجنبية عن مثل دليل
الانسداد العقلي.
وعلى أي حال فقد عرفت خروج موارد الامارات عن الاشكال المزبور
وعدم تأتيه فيها.
وأما موارد الاستصحاب، فقد يتخيل عدم تأتي هذا الحل فيها، بدعوى أن
موضوع الحكم الاستصحابي هو اليقين السابق والشك اللاحق لا مطلق عدم
العلم. وهو غير متحقق بالنسبة إلى المقلد، لعدم يقينه السابق بالحكم فلا يتحقق
17

للمجتهد العلم بحكمه بمقتضى الاستصحاب. لان يقين المجتهد وشكه لا
ينفعان، ولا يقين ولا شك للمقلد كي يثبت في حقه الحكم الظاهري. وبعبارة أخرى:
الحكم الثابت للمقلد الذي يحاول المجتهد الوصول إليه مقيد موضوعه بما لا
يتحقق له في المقلد، فلا يكون حكما للمقلد لعدم موضوعه. فلا يتحقق للمجتهد
علم بحكم المقلد الظاهري الفعلي ولذا لا يكون الاستصحاب الجاري في حق
شحص إذا حصل له اليقين والشك، جاريا في حق غيره إذا لم يحصل له اليقين
والشك، ولا تترتب عليه آثاره.
وليس كذلك الحال في الحكم الثابت في باب الامارة، إذ لم يؤخذ في
موضوعه اليقين السابق كي يدعى انتفاؤه لدى المقلد، بل لم يؤخذ في موضوعه
إلا عدم العلم بالواقع، وهو متحقق لديه - عليه الفرض والا لم يكن مقلدا - فيثبت
الحكم الظاهري في حقه، فيمكن للمجتهد العلم به.
ولكن نقول: انه تارة نلتزم في باب الاستصحاب بما هو صريح صاحب
الكفاية وظاهر الشيخ في بعض المواطن - كما سيأتي ان شاء الله تعالى - من أن
اليقين والشك مستعملان في أدلة الاستصحاب بنحو الاستعمال الكنائي من دون
مدخلية لهما أصلا، فيراد بهما المتيقن والمشكوك، ويكون مفاد أدلة الاستصحاب
هو اعتبار بقاء الحادث. وبعبارة أخرى: مفادها اعتبار الملازمة بين الحدوث
والبقاء وبذلك دفع صاحب الكفاية الاشكال في جريان الاستصحاب في
الأحكام الثابتة حدوثا بدليل تعبدي، من جهة عدم اليقين بالحدوث، إذ لا يحتاج
مع هذا إلى وجود اليقين بالحدوث، بل ثبوت الحدوث بأي دليل يكفي لاثبات
البقاء، بعد كون مفاد دليل الاستصحاب هو الملازمة بين الحدوث والبقاء، فما يدل
على الحدوث يدل على البقاء بالملازمة بعد ضميمة الحكم بالملازمة بمقتضى
الاستصحاب.
وبالجملة: تارة نقول بإلغاء صفة اليقين والشك عن الموضوعية بالمرة
18

بتاتا. وأخرى نلتزم بان لليقين والشك دخالة في ثبوت الحكم الاستصحابي، أي
شئ كان مفاد الاستصحاب - كما سيأتي التنبيه على اختلاف المسالك فيه أن
شاء الله تعالى -.
فعلى الأول لا اشكال أيضا، بل حال الحكم المستصحب حال مؤدى
الامارة. وذلك لان أدلة الاستصحاب تفيد الملازمة بين الحدوث والبقاء، من دون
دخل لليقين بالحدوث. فإذا ثبت الحدوث لدى المجتهد ثبت لديه البقاء بمقتضى
أدلة الاستصحاب، فيحصل له اليقين بحكم المقلد الظاهري، وهو لا محذور فيه
كما عرفت، فلا فرق بين الاستصحاب والامارة على هذا المبنى.
وعلى الثاني: يكون للاشكال وجه، لقوام الحكم الاستصحابي باليقين وهو
غير حاصل للمقلد فلا يحصل للمجتهد اليقين بحكم المقلد.
ولكن يندفع: بان المجتهد ذو يقين وشك فموضوع الاستصحاب متوفر
فيه، لأنه كان على يقين بان حكم المقلد كان كذا وهو الآن يشك في بقاء حكم
المقلد، غاية الامر دعوى أن الاستصحاب بالنسبة إليه ليس بذي أثر عملي فلا
يصح، إذ الحكم لا يرتبط به.
وتنحل هذه الدعوى بتصور أثر عملي لاجزاء الاستصحاب بالنسبة إلى
المجتهد، وهو موجود، إذ يترتب على إجراء الاستصحاب وثبوت الحكم ظاهرا به
جواز الافتاء به واسناده إلى المولى، إذ بدونه يكون إسناده محرما لأنه تشريع.
وهذا أثر عملي يصحح إجراء الاستصحاب من قبل المجتهد نظير إجراء
الاستصحاب في الأمور الموضوعية لترتب آثارها الشرعية، وإجراء الحاكم
الاستصحاب في بقاء ملكية زيد - مثلا - أو غيرها من الاحكام التي تكون
موضوع الدعوى مع عدم ارتباطها به عملا أصلا، لاجل ترتيب جواز الحكم بها
لزيد.
وجملة القول: يجوز إجراء المجتهد الاستصحاب لترتيب أثره العملي
19

الثابت في حق نفسه وهو جواز الافتاء به لا في حق مقلده، كي يقال: إنه لا يقين
له ولا شك فلا حكم استصحابي في حقه، فيستصحب المجتهد حكم المقلد الذي
كان على يقين منه ويبني على بقائه ليترتب عليه جواز الافتاء به. وإذا افتى به
المجتهد، جاز للمقلد بأدلة التقليد الاخذ به.
وخلاصة ما ذكرناه: ان عمدة الاشكال في باب الاستصحاب على المبنى
الثاني فيه، وقد عرفت عدم وصول النوبة في جميع الموارد إلى دعوى كون
المجتهد بمنزلة المقلد مقتضى أدلة التقليد، كي يشكل الامر فيما لم نقل
بجواز التقليد من طريق الأدلة اللفظية، بل من طريق دليل الانسداد الذي هو
ظاهر الشيخ (قدس سره)، إذ لا مجال لحديث دلالة الاقتضاء في دليل الانسداد،
فتدبر جيدا.
هذا تمام الكلام فيما يرتبط بالتقسيم، ويقع الكلام فعلا في كل قسم من
الأقسام الثلاثة:
20

القطع
21

القطع
ويقع الكلام فيه من جهات:
الجهة الأولى: في وجوب اتباع القطع ومنجزيته.
وقد ذكر صاحب الكفاية انه لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع
عقلا، ولزوم الحركة على طبقه جزما، وكونه موجبا لتنجز التكليف الفعلي فيما
أصاب باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته وعذرا فيما أخطأ قصورا (1).
وكلامه ظاهر في أن للقطع أثرين عقليين. أحدهما: وجوب متابعة القطع،
والاخر: منجزيته بمعنى استحقاق العقاب على مخالفته.
أما الأثر الأول: وهو وجوب متابعة القطع، فالذي تصدى إلى إطالة
الكلام في البحث هذا وتحقيقه بتفصيل وتشريح هو المحقق الأصفهاني (رحمه
الله)، والذي أفاده (قدس سره) مما هو مورد الحاجة: هو ان المقصود من وجوب
العمل عقلا هو اذعان العقل باستحقاق العقاب على مخالفة المقطوع، لا أن
هناك بعثا وتحريكا من العقل أو العقلاء نحو المقطوع، إذ ليس شأن القوة
العاقلة الا ادراك الأشياء لا البعث والتحريك.

(1) الخرساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 258 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
23

ثم إن تأثير القطع في تنجز التكليف واستحقاق العقاب ليس أمرا ذاتيا
قهريا، بل هو امر جعلي عقلائي وذلك لان استحقاق العقاب على المخالفة الواصلة،
من باب أنها خروج عن زي الرقية والعبودية، فتكون هتكا للمولى وظلما له،
وليس حسن العدل وقبح الظلم - بمعنى استحقاق المدح والذم عليه - من
الاحكام العقلية الواقعية، بل من الأحكام العقلائية، وهي ما تطابقت عليه آراء
العقلاء لعموم مصالحها وحفظا للنظام.
ويعبر عن ذلك بالقضايا المشهورة في قبال المدركات العقلية الداخلة في
القضايا البرهانية. وقد علل عدم دخول هذا الحكم العقلي في القضايا البرهانية،
بان مواد القضايا البرهانية منحصرة في الضرويات الست، وهي الأوليات
والحسيات والفطريات والتجربيات والمتواترات والحدسيات، وليس حسن العدل
وقبح الظلم من أحدها فيتعين أن يكون داخلا في القضايا المشهورة (1).
وبالجملة: يختار (قدس سره) ان استحقاق العقاب امر جعلي من قبل
العقلاء، ورتب على ذلك قابلية هذا الحكم للمنع شرعا كسائر مجعولات العقلاء
وبناءاتهم.
ولا يخفى ان هذا له أثر كبير في منجزية العلم الاجمالي وامكان جعل
الأصول في أطرافه، ولأجل ذلك لا بد من تحقيقه فنقول:
ان ما ذكره من أن الحكم بحسن العدل بمعنى استحقاق المدح عليه
والحكم بقبح الظلم بمعنى استحقاق الذم عليه ليس من الاحكام العقلية
الداخلة في القضايا البرهانية، بل من الداخلة في القضايا المشهورة التي تطابقت
عليها آراء العقلاء وأنظارهم، فيكون حكما مجعولا لا أمرا واقعيا. - ما ذكره بهذا
الصدد - غير صحيح، وذلك لان المراد من نظر العقلاء ليس ادراكهم وإلا كان

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 5 الطبعة الأولى.
24

قبح الظلم امرا واقعيا، بل المراد من النظر ما يساوق بناء العقلاء في مقام العمل.
وعليه فنقول: ان بناء العقلاء العملي يمتنع أن يكون عن ارتجال، فان ذلك ينافي
مع فرض كونهم عقلاء، بل لا بد ان ينشأ بناءهم عن امر راجح، بحيث يكون
ما بنوا عليه من مصاديقه أو أسبابه.
وعليه، فإذا فرض ان بناءهم على قبح الظلم ناشئ عن امر راجح
كحفظ النظام مثلا فننقل الكلام في ذلك الامر الراجح، فهل يكون رجحانه
وحسنه أمرا عقليا أو عقلائيا فعلى الثاني، ننقل الكلام فيما دعى إليه ويتساءل
عن أنه امر عقلي واقعي أو عقلائي جعلي وهكذا. وعلى الأول، يلزم أن لا يكون
حسن العدل وقبح الظلم أمرا عقلائيا مجعولا، بل أمرا عقليا واقعيا، لأنه من
مصاديق العنوان الراجح، فالعدل حفظ النظام وهو حسن والظلم اخلال به وهو
قبيح.
ثم انا نرى أن حسن العدل وقبح الظلم ثابت ولو لم يكن مستلزما
لاخلال النظام، فكيف يقال: ان حسن العدل وقبح الظلم من الأحكام العقلائية
ومما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظا للنظام وابقاء للنوع؟.
والتحقيق ان يقال: ان النفس تشتمل على قوى متعددة كالقوة الغضبية
والقوة الشهوية، ولكل من هذه القوى ملائمات ومنافرات بالإضافة إليها
وبلحاظها، فالانتقام مما يلائم القوة الغضبية وينافرها عدم الانتقام. ومن قوى
النفس القوة العقلية ولها ملائمات ومنافرات أيضا. فالنفس تدرك ان هذا الامر
مما يلائم القوة العقلية وذلك ينافرها.
ولا يخفى ان شأن القوة العاقلة تعديل جميع القوى وتنظيمها بحساب
العقل، وعليه فنقول: ان العدل يلائم القوة العقلائية والظلم ينافرها، فمعنى
كون حسن العدل وقبح الظلم امرا عقليا، ان العدل يلائم القوة العقلية والظلم
ينافرها، فالتحسين والتقبيح يرجعان إلى ملائمة القوة العاقلة ومنافرتها. فكما أن
25

الانتقام يلائم القوة الغضبية فالعدل يلائم القوة العقلية.
ومما يشهد لذلك: ان نفرة العقل من الظلم ثابتة ولو لم يرتبط بالإنسان
أو بالنظام بأي ارتباط، فمثلا لو سمعنا بان أحدا مثل بغيره ولم يمت لنا ذلك
الغير بصلة، وكان تمثيله به في مكان بعيد عن الانظار بحيث لا يوجب الجرأة من
الغير، فلا إشكال في حصول التنفر من هذا العمل بحساب العقل لو كان من
دون حق وعدم التنفر منه لو كان بحق.
وبالجملة: الذي نلتزم به حكم العقل بحسن العدل وقبح الظلم بمعنى
ملائمة الأول ومنافرة الثاني للقوة العاقلة.
والتعبير بحكم العقل، تعبير عرفي على حد التعبير بحكم القوة الغضبية
على الانسان بلحاظ ما للقوة من اقتضاء العمل الملائم. وليس المراد ما قد يظهر
من بعض العبارات من أن له بعثا وتحريكا وزجرا كاحكام الشارع. فإنه ليس
شأن العقل هو البعث والزجر، بل شأنه إدراك الأشياء.
وإذا ثبت حكم العقل بهذا المعنى بحسن العدل وقبح الظلم، فهو يحكم
بحسن الإطاعة وقبح المعصية من باب ان المعصية ظلم للمولى والإطاعة عدل،
ولكن هذا يثبت مترتبا على ثبوت المولوية والعبودية والاذعان بها ليثبت حق
الإطاعة على العبد، فتكون معصيته ظلما، ففي أي مورد ثبت ذلك ترتب عليه
الحكم العقلي.
ونتيجة ما ذكرناه: يثبت الأثر الأول الذي ذكره صاحب الكفاية للقطع
وهو وجوب متابعة القطع. إذ عدم متابعة القطع معصية للتكليف وقد عرفت أن
المعصية ظلم للمولى وهو مما ينافر القوة العقلانية.
واما الأثر الثاني: وهو المنجزية، بمعنى استحقاق العقاب على المخالفة،
فهل هو مما يحكم به العقل أو لا دخل للعقل به؟
والتحقيق: انك عرفت حكم العقل - بمعنى ادراكه - بملائمة الإطاعة
26

للقوة العقلائية ومنافرة المعصية لها. ولا يخفى ان هذا التقبيح والتحسين يتعلقان
بالأفعال الاختيارية، اما الفعل غير الاختياري فلا يلائم ولا ينافر القوة
العقلية، بل هو بلحاظ هذه القوة على حد سواء، وان كان قد يختلف بلحاظ
غيرها من قوى النفس.
ثم إن هذا التقبيح انما يستتبع الحكم باستحقاق العقاب في المورد الذي
يترتب على العقاب فائدة لازمة بنظر العقل، كالتأديب لاجل عدم تكرر العمل
من نفس الشخص أو من غيره.
اما مع عدم ترتب أي اثر راجح على العقاب، فلا يحكم العقل باستحقاق
العقاب لأنه لغو محض، وهو لا يصدر من العقل.
والتشفي وان كان منشئا لتحقق العقاب، لكنه ليس منشئا عقلائيا، بل
هو يلائم القوة الغضبية للنفس.
وعليه: فيشكل القول باستحقاق العبد العقاب على مخالفة التكليف
المولوي، إذ المراد بالعقاب هو العقاب الأخروي، وهو مما لا يترتب عليه اثر
عملي من كف الشخص نفسه أو كف غيره عن العمل، لانتهاء دور التكليف في
الآخرة، والتشفي مستحيل في حقه تعالى، بل في حق كل عاقل كما عرفت،
فالالتزام باستحقاق العبد العقاب من الله تعالى، التزام بصدور اللغو منه جل
اسمه وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وبالجملة: لا يحكم العقل باستحقاق العقاب بمعنى المجازاة على العمل
للتأديب.
وبما أن النقل دل على ثبوت العقاب فهو ينحصر بأحد طرق ثلاثة.
الأول: الالتزام بتجسم الاعمال وانه من لوازمها الذاتية، بمعنى ان نفس
المعصية يتجسم بالعقاب، بلحاظ اقتضاء ذاتها لذلك، نظير تكون الشجرة من
الحبة. وقد التزم بذلك بعض.
27

الثاني: انه طريق لتكميل النفس وايصالها إلى المرتبة الكاملة، كما يقال
في المرض في دار الدنيا.
الثالث: كونه على طبق المصلحة النوعية للعالم الأخروي، كاختلاف
الاشخاص في دار الدنيا في الأحوال، لكونه على طبق المصلحة النوعية للعالم
الدنيوي.
ومن الواضح ان العقاب بأحد هذه الوجوه الثلاثة لا دخل لحكم العقل
فيه، بل هو يدور سعة وضيقا وتحديدا لموضوعه مدار الدليل النقلي، إذا لا طريق
للعقل إلى ادراك ما يكون من الاعمال سببا ذاتيا للعقاب، أو ادراك ما هو من
طريق كمال النفس، وما هو على طبق المصلحة النوعية، فقد يعاقب المطيع لإكمال
نفسه - كما يبتلي المؤمن في دار الدنيا - أو لاجل المصلحة النوعية وكيف يحكم
العقل في عالم يجهل شؤونه وخصوصياته.
وجملة القول: ان العقاب الثابت بعنوان التأديب - كالعقاب الدنيوي -
لا يحكم العقل بثبوته في الآخرة لأنه لغو محض، والثابت بعنوان آخر من
العناوين الثلاثة لا طريق للعقل إليه ولا يكون من موارد حكم العقل.
ومن هنا يظهر: بطلان الالتزام بحكم العقل باستحقاق العقاب ومنجزية
القطع، خصوصا ممن يلتزم بان استحقاق العقاب من باب تطابق آراء العقلاء
حفظا للنظام، إذ لا معنى لبناء العقلاء عملا على استحقاق العقاب في الآخرة
كما هو واضح جدا. ويقوي الاشكال على من يلتزم بذلك مع تقريبه لكون
العقاب من لوازم الاعمال. إذ تجسم الاعمال لا يرتبط بحال ببناء العقلاء عملا
ونظرهم، كما هو أوضح من أن يبين.
كما أن القول بان مرجع الحكم باستحقاق العقاب ان العقاب لو وقع
لكان في محله، غير صحيح، إذ بعد أن كان العقاب بأحد الطرق الثلاثة التي لا
دخل للعقل في ادراك مواردها، فكيف يحكم ان العقاب في هذا المورد في محله؟ إذ
28

كيف يدرك تجسم العمل في هذا الموضوع أو احتياج هذا الشخص للكمال
النفسي أو ان عقابه يلائم المصلحة الوعية للنظام الأخروي؟!.. فتدبر.
كما أنه ظهر مما ذكرناه انه لا وجه حينئذ لدعوى حكم العقل بقبح
العقاب بلا بيان - في باب البراءة -، إذ العقاب ليس بحكم العقل كي يكون
هو المحكم في تحديد مورده، بل المدار على الدليل النقلي، فإذا دل على ترتب
العقاب على المعصية كان مورده المخالفة العمدية مع العلم، لظهور المعصية في
ذلك، واما إذا دل على ترتبه على مطلق المخالفة كما قد يستظهر من قوله تعالى:
(فليحذر الذين يخالفون عن امره) (1)، كان العقاب محتملا في مورد الجهل
البسيط بالحكم، وقد تحمل المخالفة على المعصية. وتمام الكلام موكول إلى محله.
وينتج مما ذكرنا: ان الأثر العقلي الثاني للقطع وهو المنجزية لا أساس له،
وان كان أمرا مفروغا عنه في الكلمات والأذهان. فالتفت ولا تغفل.
ثم إن الشيخ (قدس سره) استدل على وجوب متابعة القطع والعمل على
وفقه: بأنه بنفسه طريق إلى الواقع (2).
وقد يورد عليه: بان المراد من كونه طريقا، انه واجب الاتباع، فهو نفس
المدعى فلا معنى لجعله تعليلا.
ويدفع هذا الايراد: بان لدينا كبرى مسلمة، وهي وجوب إطاعة حكم
المولى وحرمة معصيته، وغرض الشيخ (رحمه الله) تطبيق هذه الكبرى على مورد
القطع.. من الواضح تعارف تعليل ثبوت الحكم في مورد باندراجه تحت كبرى
معلومة. فمثلا لو ثبت وجوب اكرام الفاضل، صح ان يقال: أكرم زيدا لأنه
مشتغل ذكي بلحاظ ملازمة ذلك لكونه فاضلا.
وبالجملة: القطع وان كانت حقيقته الانكشاف والطريقية، ولكن لا يمتنع

(1) سورة النور الآية: 63.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 2 - الطبعة الأولى.
29

ان يعلل وجوب اتباعه ببيان حقيقته وايضاحها لغرض درجه في الكبرى العقلية.
وقد أشار إلى هذا الدفع المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية (1).
ثم إنه لا اشكال في أن طريقية القطع غير قابلة للجعل أو الرفع، لأنها
من ذاتيات القطع أو عين ذاته، ومن الواضح امتناع جعل الذاتي لما هو ذاتي له
كما يمتنع رفعه عنه.
وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان كما ارتكبه البعض.
واما وجوب الإطاعة ومنجزية القطع، فهي على مسلك المحقق الأصفهاني
قابلة للجعل لأنها من الأمور الجعلية كما عرفت (2).
واما إذا كانت من الاحكام العقلية الواقعية، فلا تقبل الجعل لأنها من
لوازم القطع ويمتنع الجعل التأليفي بين الشئ ولوازمه - كما ذكر في الكفاية (3) -،
كما أنه يمتنع رفع ذلك بعد أن كان من لوازم القطع، لامتناع التفكيك بين الشئ
ولوازمه. فاشكال المحقق الأصفهاني انما يرد على صاحب الكفاية لتعرضه
للمنجزية وعدم قابليتها للجعل. ولا يرد على الشيخ، لأنه لم يتعرض لمنجزية
القطع وإنما ذكر طريقيته وعدم قابليتها للجعل والرفع أمر لا يقبل الانكار.
ثم إن المنع المبحوث عنه، تارة هو التكويني، وأخرى التشريعي، وهو
يرجع إلى رفع الحكم الذي تعلق به القطع. والمحذور الذي فيه هو استلزامه
اجتماع الضدين. وسيأتي تعرض صاحب الكفاية إليه في الامر الثالث والرابع -
ونتعرض له فيما بعد أن شاء الله تعالى تبعا للكفاية -.
اما هنا فقد تعرض للمنع التكويني وقد عرفت عدم صحته، ولا يخفى ان
اجتماع الضدين لا يرتبط بالمنع التكويني.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 4 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 5. الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول 258 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
30

وعليه، فذكره (قدس سره) ههنا وجها لعدم صحة المنع خلط بين المنع
التكويني والمنع التشريعي.
ومما يشهد إلى أن نظر الكفاية إلى إرادة المنع التكويني، انه لم يتعرض
لمحذور استلزام الجعل لاجتماع المثلين، مع أنه سيأتي ذكره محذورا للجعل
التشريعي، كذكر اجتماع الضدين محذورا للمنع التشريعي. والأمر سهل.
الجهة الثانية: في كون المسألة أصولية أولا.
وقد أشار الشيخ (رحمه الله) إلى عدم كونها أصولية، بما ذكره من عدم
صحة اطلاق الحجة عليه بمعنى الوسط في القياس، فليس ما ذكره مجرد بحث
لفظي، بل يشير فيه إلى هذه الجهة، وسيتضح ذلك في طي البحث.
ومن هنا يظهر أن صاحب الكفاية لم يغفل هذه الجهة في كلام الشيخ،
ولكنه اكتفى بالإشارة إليها بما ذكره من عدم كون المسألة أصولية (1).
وعلى كل فتحقيق الكلام: ان الحجة لها مصطلحات ثلاثة:
الأول: ما يحتج به المولى على العبد وبالعكس، وبتعبير آخر: ما يكون
قاطعا للعذر وهو المعنى اللغوي لها.
الثاني: ما يكون وسطا في القياس وهو المعنى المنطقي لها.
الثالث: ما يقع في قياس الاستنباط، أو كبرى القياس، وهو الاصطلاح
الأصولي.
ولا يخفى ان القطع الطريقي بالمعنى الأول يكون حجة، كيف؟ واليه
تنتهي سائر الحجج.
واما بالمعنى الثاني فليس حجة لان الوسط اما أن يكون علة للأكبر أو
معلولا له أو معلولين لعلة ثالثة والجامع وجود التلازم بين الوسط والأكبر. ومن

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 257 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
31

الواضح ان القطع لا ملازمة بينه وبين الحكم واقعا، فليس هو علة له وليس
معلولا، كما أنهما ليسا معلولين لعلة ثالثة، بل قد يوجد القطع ولا حكم وقد يوجد
الحكم ولا قطع.
واما بالمعنى الثالث فكذلك ليس القطع حجة، إذ ليس القطع طريقا
للاستنباط بحيث تترتب عليه معرفة الحكم، بل هو عين انكشاف الحكم. هذا
بلحاظ اطلاق الحجة عليه.
واما عدم كون المسألة أصولية، فواضح ان قلنا بان المسألة الأصولية ما
تقع نتيجتها في طريق الاستنباط، لما عرفت من أن القطع لا يقع في قياس
الاستنباط، لعدم كونه طريقا لاثبات الحكم بل هو عين معرفة الحكم. وان قلنا
بأنها ما تكون نتيجتها رافعة للتحير في مقام الوظيفة العملية فالامر كذلك أيضا،
إذ بالقطع يرتفع التحير موضوعا وحقيقة، فليس نتيجة مسائله رفع التحير
الموجود، بل لا تحير مع القطع.
وبالجملة: نفي الحجية للقطع بالمعنى المنطقي يلازم نفي أصولية المسألة،
ومنه يظهر نظر الشيخ في تعرضه النفي اطلاق الحجة عليه، وانه ليس مجرد بحث
لفظي وبيان لحكم من احكام القطع وإن لم يكن مرتبطا بالأصول. وهذا المعنى
مغفول عنه في الكلمات ممن علق على الرسائل أو تعرض للبحث مستقلا.
هذا بالنسبة إلى القطع الطريقي، واما الموضوعي فعدم كونه من مسائل
الأصول واضح جدا، إذ هو كغيره من الموضوعات، فكما لا يتوهم فيها انها من
مسائل الأصول كذلك الحال فيه. فلاحظ والتفت.
الجهة الثالثة: في الاطمئنان وان حجيته من باب حجية العلم أو من
باب حجية الامارات.
اما أصل حجيته فهو ليس محل تشكيك وبحث، وذلك لان السيرة من
البشر جميعا في اعمالهم، سواء ما يرتبط بتشخيص الاحكام أو الموضوعات جارية
32

على الاخذ بالاطمئنان، إذ قل وندر مورد يحصل لهم العلم الجزمي، الذي لا يقبل
التشكيك، بل كل مورد يرتبون آثار الواقع فيه عملا، ناشئ عن حصول
الاطمئنان دون القطع، لامكان إثارة التشكيك فيه، فلولا الاطمئنان لتوقف
العقلاء، بل غيرهم في أغلب أمورهم العملية، إذ لا طريق لديهم إلى حصول
القطع.
وإذا ثبت هذا المعنى لدى أهل السيرة، ثبتت حجيته بنظر الشارع أيضا
إذ لو كان له طريق آخر غير الاطمئنان، جعله لتشخيص احكامه التكليفية
والوضعية وموضوعات احكامه. في جميع موارد العمل والحكم والقضاء وغير ذلك
لكان عليه نصبه وبيانه، وهو امر مقطوع العدم، وبدونه يختل نظام الشرع
الشريف ويقف العمل.
ومنه يظهر ان حجية الاطمئنان لو كانت جعلية بان كانت ببناء العقلاء
وأمضاها الشارع لم تصلح الآيات الناهية عن العمل بغير العلم للردع عنه، كما
يدعى ذلك في خبر الواحد، إذ لم يسن الشارع طريقا غير الاطمئنان، ولا معنى
للنهي عنه وعدم جعل غيره، بخلاف مثل خبر الواحد لوجود غير من الطرق
وعدم الاختلال وتوقف الاعمال بدون حجيته، فحجية الاطمئنان كحجية
الظهور لا تصلح الآيات الناهية للردع عنه، لعدم نصب غيره من الطرق
لتشخيص مراد المتكلم، فيلزم من الردع التوقف عن جميع الخطابات الشرعية
وهو مما لا يمكن الالتزام به، بل ما ندعيه من العمل بالاطمئنان لا اشكال ولا
ريب انه كان في زمان الشارع بعد ورود الآيات الناهية ولم يظهر النهي عنه.
وإذا ثبتت حجية الاطمئنان بلا كلام، فيقع الكلام في أن حجيته بحكم
العقل كالقطع، فلا يمكن الردع عنه، أو ببناء العقلاء كالامارات فيمكن الردع
عنه. وإن لم يثبت كما عرفت، فالبحث علمي صرف. نعم لا مانع من الردع عن
بعض افراده.
33

ولا يخفى ان هذا الترديد والبحث لا يتأتى على مسلك المحقق الأصفهاني
القائل بان حجية القطع ببناء العقلاء (1).
وانما يتأتى على المسلك الآخر القائل بان حجيته عقلية.
وقد عرفت أنه ذكر للقطع حكمان: أحدهما: وجوب الاتباع، والآخر:
المنجزية بمعنى استحقاق العقاب على المخالفة.
والكلام يقع بلحاظهما معا بناء على ثبوتهما - والا فقد عرفت انكار
المنجزية فلا موضوع لالحاق الاطمئنان بالقطع فيها - فنقول:
اما وجوب الاتباع: فهو في الحقيقة حكم منتزع عن حكمين أحدهما
حسن الموافقة والاخر قبح المخالفة. اما حسن الموافقة: فموضوعه ذات الموافقة
من دون دخل للعلم فيه، ولذا يحسن الاحتياط مع الجهل بالواقع بلا كلام. وعليه
فلا موضوع للبحث في الحاق الاطمئنان بالعلم بلحاظ هذا الأثر، لأنه ليس من
آثار العلم.
واما قبح المخالفة: فلا يمكننا ان نقول بان موضوعه ذات المخالفة،
لضرورة وجود الأحكام الظاهرية ونصب الطرق الظاهرية حتى عند العرف،
وهو لا يتلائم مع قبح ذات المخالفة لامكان خطأ الطريق والامارة، مع أنها معذرة
بلا اشكال، بل موضوعه اما المخالفة المعلومة (2) أو ذات المخالفة مع عدم
الترخيص من المولى.
ولا يخفى انه انما يحسن البحث في أن الاطمئنان كالقطع أو كالامارة بناء
على الأول دون الثاني، إذ الحكم بالقبح على الثاني ليس من آثار العلم، بل من

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 5 - الطبعة الأولى.
(2) المقصود المخالفة التي قامت عليه الحجة، فيقع الكلام ان القبح الثابت في مورد الاطمئنان هل هو
بحكم العقل، بحيث يترتب عليه هذا الأثر بنفسه، كالعلم، أو بتوسط جعل الشارع كالامارة؟ (منه
عفي عنه).
34

آثار الواقع وهو المخالفة وعدم الترخيص بها من المولى.
واما المنجزية واستحقاق العقاب على المخالفة: فهي أيضا غير مترتبة
على ذات المخالفة الواقعية، بل اما هي مترتبة على المخالفة المعلومة أو المخالفة
في فرض عدم ثبوت الترخيص، فيكون حكم العقل حكما تعليقيا، يعني معلق
على عدم ثبوت الترخيص.
والبحث المزبور في الاطمئنان يتأتى على المبنى الأول دون الثاني، كما
عرفت.
فيقع البحث في أن المنجزية الثابتة للاطمئنان هل هي بحكم العقل
كمنجزية العلم أو بتوسط جعل الشارع كالامارات؟.
ثم إن لازم المبنى الأول عدم الحاجة إلى إجراء قاعدة قبح العقاب بلا
بيان في نفي العقاب في صورة الجهل، للعلم بعدم العقاب، لعدم موضوعه وهو
العلم.
كما أن لازم الثاني عدم ثبوت هذه القاعدة، لعدم ترتب العقاب على
البيان ولا يدور مداره، بل يدور مدار الترخيص وعدمه.
وعليه، فما لم يثبت الترخيص شرعا لا تجري البراءة العقلية، ومع ثبوته
لا حاجة إلى القاعدة لانتفاء موضوع العقاب جزما، ومنه يعلم التسامح فيما
صرح به ههنا من أن استحقاق العقاب مترتب على العلم والالتزام باجراء
البراءة العقلية في محله. فليكن هذا المطلب على ذكر منك حتى يأتي وقت بيانه
مفصلا إن شاء الله تعالى.
ثم إنه لو كان موضوع قبح المخالفة والمنجزية هو المخالفة مع عدم
الترخيص، يقع الكلام في امكان الترخيص شرعا فالمخالفة مع العلم، وعلى
تقدير عدم امكانه فهل الاطمئنان كالعلم أولا، فيصح الترخيص مع وجوده أو
لا يصح؟. وسيأتي الكلام في ذلك، وانما أخرناه تبعا لصاحب الكفاية. لأنه أخر
35

البحث عن امكان الردع الجعلي التشريعي عن القطع كما أشرنا ذلك فانتظر.
الجهة الرابعة: في التجري.
والبحث عن أن المخالفة الاعتقادية هل يترتب عليها ما يترتب على
المعصية والمخالفة الواقعية أو لا؟
وهذه المسألة يمكن ان تحرر بأنحاء ثلاثة، وتكون بإحداها أصولية
وبالأخرى كلامية وبالثالثة فقهية.
اما تحريرها بنحو تكون أصولية فبوجهين - ذكرهما المحقق النائيني -:
الوجه الأول: أن يكون الكلام في أن مقتضى الاطلاقات المتكفلة لثبوت
الاحكام للعناوين الواقعية هل هو شمول الحكم لمقطوع العنوان ولو لم يكن
مصادفا للواقع كمقطوع الخمرية في مثل لا تشرب الخمر أو لا؟.
ولا يخفى ان المقصود تأسيس قاعدة كلية، والبحث عن أمر عام يستنبط
بضميمة الصغرى لها حكم كلي. لا البحث عن شمول اطلاق دليل معين خاص،
كي يقال: ان البحث يكون حينئذ فقهيا، إذ أغلب المسائل الفقهية يقع البحث
فيها عن شمول الدليل لحالة معينة. وعدم شمولها. فالبحث ههنا نظير البحث في
ظهور صيغة افعل في الوجوب، لا نظير البحث عن ظهور صيغة معينة فيه
بلحاظ قرائن المقام، ونظير البحث في أن مقتضى اطلاق الجملة الشرطية ثبوت
المفهوم وعدمه.
وعلى كل فقد يتوهم شمول الاطلاقات الأولية لعنوان المقطوع، فيشمل
اطلاق لا تشرب الخمر مقطوع الخمرية.
وقد قرب المحقق النائيني - كما في أجود التقريرات (1) - منشأ التوهم ودليله
بمقدمات ثلاث:

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 23 - الطبعة الأولى.
36

الأولى: ان القيود المأخوذة في الدليل إذا لم تكن اختيارية فلا بد من
أخذها مفروضة الوجود وبنحو القضية الحقيقية، وما يؤخذ في متعلق التكليف هو
القطعة الاختيارية، فمثل الخمر في " لا تشرب الخمر " يؤخذ مفروض الوجود فلا
يثبت الحكم الا على تقدير ثبوته، لعدم قابلية الامر الخارج عن الاختيار لتعلق
التكليف به.
الثانية: ان تمام المؤثر والعلة في حصول الإرادة التكوينية هو العلم
والصورة النفسية، لاستحالة تحقق الانبعاث أو الانزجار عن الوجود الخارجي
بدون العلم، فالعطشان يستحيل ان يتحرك نحو الماء إذا لم يعلم بوجوده لديه،
وقد يموت عطشا والماء عنده لجهله به، وبالعكس يتحرك نحو الماء إذا علم
بوجوده ولو لم يكن له في الخارج عين ولا أثر، اذن فما يوجب الحركة هو العلم
وحضور الصورة في النفس من دون مدخلية للخارج فيها.
الثالثة: إن شأن التكليف هو تحريك الإرادة التكوينية من قبل العبد
وايجادها، فهو بالنسبة إلى إرادة العبد نظير مفتاح الساعة بالنسبة إلى حركتها.
ويترتب على ذلك: ان التكليف بحسب لسان الدليل وان كان يتعلق بنفس
الموضوع الخارجي وهو الخمر مثلا، إلا أنه حيث إنه انما يحرك إرادة العبد
واختياره، وقد عرفت أن الإرادة لا تكون الا في صورة العلم. فما يتمكن منه العبد
هو ترك ما قطع بخمريته - مثلا -، فيكون هو متعلق التكليف، وإصابة الواقع
وعدمها أجنبيتان عن الاختيار والإرادة.
وبالجملة: يشترك العاصي والمتجري في الجهة الاختيارية فيشتركان في
التكليف.
هذا تقريب الاستدلال على المدعى، وقد ناقشه المحقق النائيني (قدس
سره) بان المقدمة الأولى وان كانت صحيحة لا مناص عن التزام بها كما حقق
في الواجب المشروط، لكن اما المقدمتين الأخريين ممنوعتان:
37

اما الثانية: فلان الإرادة وان كانت تنشأ عن العلم والصورة النفسية الا
انه انما تنشأ عنه بما أنه طريق إلى الواقع لا بما أن له موضوعية، فان القاطع
بوجود الماء انما يتحرك باعتبار انكشاف الواقع لديه لا باعتبار وجود صفة
نفسانية بما هي صفة، فالتحرك عن الموجود الخارجي بعد الانكشاف.
واما الثالثة: فلان الإرادة التشريعية والتكليف وان كانت محركة للإرادة
التكوينية كحركة المفتاح بحركة اليد، إلا أن حركة الإرادة التكوينية غير مرادة
استقلالا وبنحو المعنى الاسمي، بل مرادة تبعا وبنحو المعنى الحرفي، فالمراد هو
الفعل الصادر بالإرادة، لأنه هو الذي تترتب عليه المصلحة والمفسدة اللتان هما
مناط التكليف.
وبمنع إحدى هاتين المقدمتين يبطل الاستدلال كما لا يخفى.
وببعض اختلاف في بيان أصل الاستدلال ومناقشته جاء هذا المطلب في
تقريرات المرحوم الكاظمي (1).
والذي يبدو للنظر عدم خلو ما جاء في كلا التقريرين من مناقشة،
ولوضوح بعض ذلك نتعرض أولا إلى ما يمكن به تقريب المدعى ومناقشته،
فنقول: الذي يمكن به تقريب دعوى شمول الاطلاقات لعنوان المقطوع هو
ان يقال: ان الإرادة لا تتحقق الا بتحقق العلم وهو تمام المؤثر فيها والموضوع
لها، وبدونه لا تتحقق الإرادة، وبما أن شأن التكليف تحريك الإرادة التكوينية
للعبد وايجادها، كان التكليف ثابتا في فرض العلم، إذ الإصابة وعدمها خارجان
عن متعلق التكليف ولا يرتبطان به بأي ارتباط، وانما المرتبط به هو العلم بالواقع
سواء أصاب أم لم يصب فحقيقة التكليف حيث إنها طلب الإرادة والاختيار، وهي
لا تتحقق الا في فرض العلم، كان العلم مأخوذا في موضوع التكليف ولم يتحقق

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 39 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
38

التكليف إلا في فرض العلم، فقول المولى لا تشرب الخمر، يرجع في الحقيقة إلى
طلب اختيار ترك شرب معلوم الخمرية.
هذا ما يصلح لتقريب الدعوى ويناقش:
أولا: بان ما ذكر من أن التحرك والانبعاث والإرادة مما يتوقف على العلم،
وان العلم تمام الموضوع بالنسبة إليها، غير صحيح، إذ الإرادة تتحقق في صورة
الاحتمال فالعطشان لو احتمل وجود الماء لديه تحرك نحوه باحثا عنه في مظان
وجوده، ومن اقدم على فعل مع الاحتمال وتبين مصادفته للواقع، يرتب عليه آثار
الفعل الاختياري، فلو رمى شخص شبحا بالرصاص محتملا انه انسان كما أنه
يحتمل أن يكون شجرة، فتبين أنه انسان وقتل بالرصاص، رتب على قتله آثار
القتل الاختياري.
نعم الإرادة تتفرع عن الالتفات ولو لم يكن جزم، فمع الغفلة عن شئ
يستحيل التحرك نحوه، ومن هنا لا يتحرك العطشان مع غفلته عن وجود الماء في
الغرفة وقد يموت عطشا والماء لديه لغفلته عن وجوده.
وبالجملة: دعوى عدم تأثير الخارج في الإرادة والحركة وان كانت
صحيحة، بل قام عليها البرهان، لان الإرادة من صفات النفس ويستحيل تأثير
ما هو خارج عن أفق النفس فيما هو من صفاتها، والا لانقلب الخارج نفسا
والنفس خارجا. الا ان دعوى عدم تحققها الا في صورة الاحراز غير صحيحة
لتحققها مع الاحتمال كما عرفت، ويترتب على الفعل آثار الفعل الاختياري،
ولذا يترتب على الانقياد المصادف للواقع أثر الإطاعة.
وثانيا: ان ارتباط الإرادة بالعلم وعدم ارتباطها بالخارج، لا يعني عدم
صحة اخذ الخارج في موضوع التكليف، بل هو مأخوذ فيه، وذلك لان المطلوب
ليس مطلق الإرادة وانما إرادة الفعل الخاص، فالفعل الخاص مرتبط بمتعلق
التكليف، فإذا فرض عدم اخذه في المتعلق لعدم اختياريته فيكون مأخوذا في
39

الموضوع وبنحو فرض الوجود. فالاصابة بمعنى الخمرية الواقعية - مثلا - دخيلة
في موضوع التكليف لارتباط متعلق التكليف بها، إذ المطلوب إرادة الخمر لا
مطلق الإرادة فتدبر.
وما ذكرناه في مقام بيان الدليل ومناقشته يظهر بعض موارد الاشكال
والمؤاخذة في كلام المحقق النائيني (قدس سره) وهي موارد كثيرة نذكر بعضها
لعدم استحقاق المطلب أكثر من ذلك:
الأول: ذكره المقدمة الأولى في تقريب الاستدلال، مع أنها غير دخيلة في
اثبات الدليل، إذ عرفت تقريبه بالمقدمتين الأخريين، بل يمكننا ان نقول إن
المقدمة الأولى مضرة بالدليل، إذ مفادها ان كل قيد مأخوذ في لسان الدليل ولم
يكن اختياريا يكون مأخوذا في الموضوع مفروض الوجود، ومن الواضح ان
متعلق العلم كالخمرية مأخوذ في لسان الدليل فلا بد أن يكون مأخوذا في
الموضوع، فان الخطاب ورد مترتبا على الواقع، بل الواقع حتى بلحاظ ان
المطلوب ترك معلوم الخمرية يكون مأخوذا لأنه قيد القيد.
الثاني: ظهور تسليمه المقدمة الثانية القائلة بدوران الإرادة مدار العلم،
بل تصريحه بذلك، وانما ناقشها بان العلم مأخوذ بنحو الطريقية مع انك عرفت
الاشكال فيها وعدم صحتها.
الثالث: مناقشته للمقدمة الثانية بان العلم مأخوذ طريقا إلى الواقع ولم
يكن بنحو الموضوعية، وهذه المناقشة غير تامة، إذ أي منافاة بين كون مدار العلم
ومدار الإرادة وكون ذلك بلحاظ طريقيته للواقع؟ الا ان يريد ما سيأتي منه من
منافاة أخذ العلم طريقا لكونه تمام الموضوع كما أشار إليه المقرر الكاظمي، فإنه
عبر بالصفتية والطريقية. ولكن هذا تبعيد للمسافة وايراد مبنائي لا يحل
الاشكال ولا يدفع الدعوى.
الرابع: مناقشته للمقدمة الثالثة بان المطلوب هو الفعل الاختياري لا
40

اختيار الفعل، فان هذه المناقشة لا تتلائم مع منبئ المقدمة من أن شأن التكليف
تحريك الإرادة فالمطلوب هو الإرادة بنحو المعنى الاسمي.
الخامس: ما ذكره بعد ذلك في مقام توضيح منع المقدمة الثانية من انه
بانكشاف الخلاف ينكشف عدم المحرك وانما كان تخيل الحركة. فإنه غريب، إذ
المفروض تحقق الحركة. ولكن لم تصادف الواقع، كيف يحكم على شرب المائع انه
حركة خيالية؟!.
هذا تمام الكلام في الوجه الأول لتحرير المسألة بنحو تكون أصولية.
اما الوجه الثاني: فبأن يكون الكلام في أن عنوان المقطوعية وتعلق صفة
القطع بشئ هل يمكن ان تكون من العناوين التي يتأكد بها الحكم أو يتبدل أو
لا؟.
وتحقيق الكلام في ذلك - على غرار ما حرره النائيني، ثم التعرض بعد ذلك
لما أفاده غيره، لان ما ذكره النائيني أكثر ترتيبا وجمعا مما ذكره غيره - ان لدينا
أمرين لا اشكال فيهما ولا ريب:
أحدهما: ان عنوان المقطوعية ليس من العناوين الموجبة للقبح والحسن
بحيث يتبدل الواقع عما هو عليه بواسطته، فان هذا المعنى مما لا يرتاب فيه أحد،
فلا يرتاب أحد في عدم تغير شرب الماء عما هو عليه بواسطة القطع بكونه
مبغوضا شرعا أو محبوبا، بل يبقى على ما هو عليه من الوصف لولا القطع.
والآخر: ان الاقدام على ما يراه المكلف ويعتقده مخالفة للمولى يكشف
عن سوء السريرة وخبث الفاعل ويعبر عنه بالقبح الفاعلي، ولو لم يكن في
الواقع مخالفة، فلا اشكال في اتصاف المتجري بالقبح الفاعلي، فان ذلك مما لا
يشكك فيه اثنان.
وانما الاشكال والبحث في أن هذا القبح الفاعلي في موارد التجري هل
يستتبع حكما شرعيا بتحريم الفعل المتجري به أولا؟ والبحث تارة عن استتباع
41

القبح الفاعلي لحرمة الفعل المتجري به بنفس الحرمة الثابتة للعنوان الواقعي.
وأخرى عن استتباعه لحرمته بملاك آخر، يختلف عن ملاك حرمة العنوان
الواقعي.
اما البحث عن استتباع القبح الفاعلي لحرمة الفعل بنفس حرمة العنوان
الواقعي، فلا يقصد به اثبات شخص الحكم الثابت للعنوان الواقعي، اثباته
للعنوان المقطوع والفعل المتجرى به، فان هذا مما لا يتفوه به أحد لوضوح
استحالته، إذ بعد فرض كونه ثابتا للعنوان الواقعي ومتقوما به يمتنع ان يثبت
لغيره، فإنه من انتقال العرض من معروضه إلى غيره وهو محال.
وبالجملة: ثبوت الحكم الثابت للواقع بالنسبة إلى العنوان المقطوع خلف
محال. وانما المقصود به اثبات سنخ الحكم الثابت للعنوان الواقعي بالنسبة إلى
العنوان المقطوع، بمعنى ان الحكم الاستغراقي الثابت للخمر - مثلا - هل يشمل
مقطوع الخمرية أو لا؟ فيكون البحث في عموم الحكم الثابت للعناوين الواقعية
بالنسبة إلى مقطوع العنوان.
ومن الواضح ان مرجع هذا البحث في الحقيقة إلى الوجه الأول إذ مرجعه إلى
البحث عن أن مقتضى الدليل ما هو، إذ لا وجه لتعدي ذلك؟ فلا معنى لتشكيل
بحث جديد، بل يحال تحقيقه على ما تقدم من الكلام في الوجه الأول.
هذا تحقيق الكلام عن هذه الجهة من البحث.
والذي ذكره المحقق النائيني في مقام تحقيقها: هو انه يستحيل استتباع
القبح الفاعلي لحرمة العنوان المقطوع بالحرمة الأولية الثابتة للعنوان الواقعي،
لان القبح الفاعلي متأخر رتبة عن الحرمة الواقعية، إذ هو ثابت بلحاظ ثبوت
الحرمة للعنوان الواقعي الثابتة بالقطع، ويستحيل استتباع ما هو متأخر عن
الحكم الواقعي له وهو واضح، ونظيره ما يقال: من امتناع اخذ العلم بالحكم في
موضوع ذلك الحكم لتأخر العلم بالحكم عنه، فكيف يكون موضوعا له ومستتبعا
42

لثبوته؟.
ثم أورد توهما حاصله: انه يمكن أن يكون مستتبعا للحكم الواقعي
بنتيجة الاطلاق لا بالاطلاق اللحاظي لامتناعه، فكما يستتبع القبح الفاعلي
تضييق الحكم الواقعي بنتيجة التقييد لا بنحو التقييد في مورد اجتماع الأمر والنهي
بناء على الجواز والتركيب الانضمامي، حيث التزم بعدم شمول الامر
للحصة المقارنة لمورد النهي، لمانعية القبح الفاعلي الناشئ من جهة الحرمة
للتقرب بالعمل - كما مر بيانه مفصلا في محله -، كذلك يستتبع ههنا توسيع الحكم
الواقعي بنتيجة الاطلاق، فيكون كالالتزام بشمول الحكم لصورتي العلم والجهل
بنتيجة الاطلاق، إذ يمتنع الاطلاق اللحاظي بعد امتناع التقييد.
وأجاب عنه: بالفرق بين المقامين، وان اطلاق الخطاب بالنسبة إلى القبح
الفاعلي فيما نحن فيه بلا موجب ولا مقتضى، فتكون دعوى اطلاق الخطابات
ولو بنتيجة الاطلاق للفعل الصادر من الفاعل بنحو قبيح - أعني: القبح الفاعلي -
بلا برهان ولا دليل. وهو مما لا يمكن الالتزام به (1).
أقول: قد عرفت في تحقيق الحال انه لا مجال لتوهم ثبوت شخص الحكم
الثابت للواقع ثبوته لعنوان المقطوع، لأنه خلف. فتعرضه (قدس سره) إلى نفي
هذه الدعوى وكأنها هي الدعوى المبحوث عنها ليس كما ينبغي. والأمر سهل
من هذه الجهة.
انما الكلام معه فيما ذكره من توهم ثبوت الحكم لعنوان المقطوع بطريق
نتيجة الاطلاق، وجوابه بأنه مما لا دليل عليه. والكلام في نقطتين:
الأولى: في فرضه المورد من موارد نتيجة الاطلاق، نظير ثبوت الحكم في

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 26 الطبعة الأولى.
43

صورة العلم به والجهل بنتيجة الاطلاق، غاية الامر انه أورد عليه بأنه مما لا دليل
عليه.
الثانية: فيما ساقه مثالا ونظيرا لمورد وهو مورد اجتماع الأمر والنهي.
اما النقطة الأولى، فتحقيق الحال فيها: ان الموارد التي يبحث فيها في
صحة ثبوت الحكم مقيدا أو مطلقا، ثم يدعى ثبوت الحكم بنتيجة التقييد أو
الاطلاق، هي الموارد التي يقع البحث فيها في تقييد الموضوع أو المتعلق بقيد
خاص، بحيث يحوم الاطلاق والتقييد على موضوع واحد، فيكون ثبوت الحكم
بدون القيد اطلاقا وعدم ثبوته تقييدا في موضوع الحكم ومتعلقه، وبتعبير آخر
أوضح: موضوع البحث المزبور هو الامر الواحد بلحاظ حالة من حالاته كي
يكون ثبوت الحكم له بدون تلك الحالة اطلاقا له من جهتها، وعدم ثبوته له
بدونها تقييدا له بها، فيبحث حينئذ عن صحة الاطلاق والتقييد فيه بلحاظ تلك
الحالة، وذلك نظير البحث في صحة تقييد متعلق الامر بقصد القربة وعدمه، فان
ثبوت الحكم للصلاة بدون قصد القربة اطلاق لمتعلق الامر وعدم ثبوته بدونه
تقييد له بقصد القربة، ونظير البحث في صحة تقييد موضوع الحكم بالعلم
بالحكم.
اما إذا فرض العلم بثبوت الحكم لمورد وكان الشك في ثبوته لمورد آخر
بنفس دليل الحكم الأول، فثبوته للمورد الآخر وعدم ثبوته أجنبيان عن
الاطلاق والتقييد في الحكم، إذ ثبوت الحكم لمورد آخر لا يعد اطلاقا للحكم
الثابت في المورد الأول، كما أن عدم ثبوته لا يعد تقييدا فيه. ومن هذا الباب
البحث عن تكفل الدليل الدال على ثبوت الحكم لبيان استمراره وبقائه، فقد
قيل: انه محال لان استمرار الحكم فرع أصل ثبوته، فلا يمكن ان يتكفل الدليل
على أصل الثبوت بيان الاستمرار، بل الاستمرار يستفاد من دليل خارجي وهو
قوله (صلى الله عليه وآله): " حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى
44

يوم القيامة (1). كما أن منه البحث عن تكفل الدليل الدال على ثبوت حجية الخبر
لاثبات حجية خبر الواسطة، للاشكال المذكور في محله، من أن دليل الحجية
بمعنى وجوب الاتباع والتصديق انما تكون بلحاظ الأثر العملي، والأثر العملي
في حجية الخبر المخبر عن خبر شخص آخر ليس إلا نفس وجوب الاتباع فيلزم
اتحاد الحكم والموضوع، لان الأثر بمنزلة الموضوع من الحجية. فإذا كان هو
نفس الحجية كان الحكم عين الموضوع.
ولا يخفى ان هذه الموارد بقسميها - بناء على ثبوت الاشكال فيها -
تشترك في شئ، وهو عدم امكان ثبوت الحكم في المورد المشكوك بالدليل الأول
لتأخر الوصف عن ثبوت الحكم، فلا يمكن ثبوت الحكم مترتبا عليه، فقصد
القربة متأخر عن الامر، وهكذا العلم بالحكم، ومثلهما استمرار الحكم، ونظيرها
خبر الواسطة الثابت بواسطة نفس الحكم بالحجية.
لكن يختلف القسم الأول عن الثاني في شئ، وهو تصور نتيجة الاطلاق
والتقييد في الأول، إذ يلتزم مثلا بتقيد المتعلق بقصد القربة بنحو نتيجة التقييد
لامتناع التقييد، أو عدم تقيده به بنحو نتيجة الاطلاق بناء على امتناع الاطلاق
عند امتناع التقييد، لما عرفت من أن ثبوت الحكم في مورد الشك في هذا القسم
يرجع إلى السعة في متعلق الحكم أو التضييق، لان مورد الشك من الحالات التي
تعرض نفس المتعلق أو الموضوع.
وعدم تصور الاطلاق والتقييد في الثاني، لما عرفت من أن ثبوت الحكم في
مورد الشك لا يرجع إلى التوسعة أو التضييق في موضوع أو متعلق الحكم،
فاستمرار الحكم عبارة عن ثبوت الحكم في الأزمنة اللاحقة وهو لا يوجب سعة
في أصل حدوث الحكم، كما أن ثبوت الحكم لخبر الواسطة لا يوجب توسعة ثبوت

(1) وسائل الشيعة ج 18 / 124 باب 12 من أبواب صفات القاضي ج 47.
45

الحكم الثابت لخبر من أخبر عنه، لاختلاف الموضوعين وعدم كون خبر الواسطة
من حالات خبر من أخبر عنه.
إذا اتضح ما عرفت، فالمورد الذي نحن فيه من القسم الثاني، وذلك لان
معلوم الخمرية - مثلا - مع أصل الخمر الواقعي موضوعان وليس الأول من
حالات الثاني، فثبوت الحكم لمعلوم الخمرية لا يوجب توسعة للحكم الثابت
للخمر، وهل يتخيل أحد أن ما نقصده من تسرية سنخ الحكم الثابت للخمر إلى
معلوم الخمرية يرجع إلى التوسعة في حكم الخمر نفسه؟، بحيث إذا دل الدليل
عليه يكون من باب نتيجة الاطلاق؟ فجعل المورد من هذه الموارد ناشئ عن
الخلط بين القسمين، وتخيل ان اشتراكهما في استحالة ثبوت الحكم لمورد الشك
بالدليل الأول يوجب اشتراكهما في جريان نتيجة الاطلاق والتقييد. مع انك
عرفت وجود الفرق بينهما من هذه الجهة. فتدبر ولا تغفل.
واما النقطة الثانية، فتوضيح الكلام فيها: ان المثال الذي ذكره ليس من
موارد امتناع التقييد، إذ القبح الفاعلي فيه في عرض الحكم بالوجوب لا في
طوله، لان القبح الفاعلي ناشئ من مخالفة الحرمة، ولا امتناع في تقييد المتعلق
بعدم القبح الفاعلي إذا كان في عرضه وناشئا من مخالفة حكم آخر لا من مخالفة
نفس الحكم، فلا اشتراك بين موردنا والمثال الا في اشتمالهما على القبح الفاعلي،
فالتمثيل في غير محله. هذا إذا كان الملحوظ في التمثيل جهة التقييد بعدم القبح
الفاعلي الناشئ من مخالفة لحرمة. اما إذا كان الملحوظ فيه جهة عدم حصول
قصد القربة من جهة القبح الفاعلي، فالتقييد به غير ممكن لتأخره عن الامر،
فيتجه المثال، ولكن نقول: ان المثال لا يكون مثالا لمورد خاص من موارد عدم
قصد القربة وبيانا لمصداق من مصاديقه، فلا يرتبط بباب نتيجة التقييد الا
بواسطة انه مصداق من مصاديق موضوعها وهو التقييد بقصد القربة وعدمه
بنحو كلي، فإذا كان الملحوظ ذلك، كان الأولى جعل المثال التقييد بقصد القربة
46

أو بعدمه بشكلها لا التقييد بعدم قصد القربة في خصوص هذا المورد. فالتفت.
هذا كله في استتباع التجري حرمة الفعل المتجرى به بنفس حرمة
العنوان الواقعي.
واما استتباعه حرمته بملاك آخر غير ملاك حرمة العنوان الواقعي، فقد
ذهب المحقق النائيني أيضا إلى استحالته وامتناعه بتقريب: ان عنوان المقطوع
ليس شيئا زائدا على الواقع بنظر القاطع، بل الانكشاف - بنظر القاطع - عين
الواقع.
وعليه، فيستحيل أن يكون العنوان مستتبعا لحكم آخر لاستلزامه اجتماع
المثلين بنظر القاطع في شئ واحد، فيكون البعث الثاني لغوا بعد أن كان المكلف
يعتقد محاليته، ومع كونه لغوا يكون ممتنعا واقعا (1).
أقول: هذا انما يتم في باب المحرمات لا الواجبات، إذ مع اعتقاد وجوب
شئ لا تكون الحرمة الناشئة من التجري واردة على نفس متعلق الوجوب، بل
الحرمة تتعلق بالترك لأنه عنوان المخالفة والعصيان، ومن الواضح انه لا تماثل
بين وجوب الفعل وحرمة الترك لاختلاف الموضوع، ولذلك لم يستشكل أحد
من هذه الجهة في استتباع وجوب الشئ لحرمة ضده العام المعبر عنه بالترك.
ثم إنه لا بد من ايقاع البحث في أن المورد الواحد إذا ورد فيه حكمان متماثلان
لجهة واحدة هل يكون من موارد اجتماع المثلين كي يستحيل كما قرره (قدس
سره)، أو من موارد التأكد فلا يستحيل حينئذ ثبوت الحكم الاخر في مورد
التجري، بل يكون مؤكدا للحكم المقطوع، وهذا سيأتي تحقيقه بعد حين إن شاء
الله تعالى.
نعم يستحيل ثبوت الحرمة في الفعل المتجرى به بملاك استحالة تعلق

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 26 الطبعة الأولى.
47

الوجوب الشرعي بالإطاعة، وهو ان الحكم الشرعي السابق في المرتبة ان كان
فيه قابلية الدعوة والتحريك كان الحكم بلزوم اتباعه شرعا لغوا. وإن لم يكن فيه
القابلية كان جعله لغوا، فليس استحالة تعلق البعث الشرعي من جهة لزوم
التسلسل، بل من هذه الجهة التي سنوضحها بعد حين ان شاء الله تعالى. ولأجل
نفس هذا الملاك يستحيل تعلق الحرمة بالفعل المعنون بعنوان مقطوع الحرمة،
فيستحيل ثبوت حكم آخر في طول الحكم الواقعي المقطوع، وهذا الوجه مختص
بالمحرمات كما سيأتي توضيحه ان شاء الله تعالى. وقد أشار إلى هذا الوجه في
تقريرات الكاظمي بعنوان انه عبارة أخرى عن الوجه السابق، أعني دعوة
استلزام ثبوت الحرمة لاجتماع المثلين. فلاحظ (1).
وينبغي ان يعلم ان موضوع البحث الذي نحن فيه - أعني البحث في
استتباع التجري حرمة الفعل - لا يختص بالمتجري ومن خالف قطعه الواقع،
وإلا لكان عدم استتباعه للحرمة واضحا، إذ المتجري بعنوانه يستحيل أن يكون
موضوعا للحكم، إذ الحكم لا يصير فعليا ومحركا الا بفعلية موضوعه، وهي تتحقق
بالالتفات إليه، ومن الواضح ان المتجري في حال تجريه لا يلتفت إلى كونه
متجريا، إذ التفاته إلى تجريه يساوق زوال علمه واعتقاده الملازم لعدم تجريه،
فالتجري من الموضوعات التي يكون الالتفات إليها مساوقا لزوالها نظير
النسيان، فكما لا يجوز أخذ النسيان في موضوع الحكم كذلك يمتنع أخذه بعنوانه
في موضوع الحكم. نعم ذكر صاحب الكفاية امكان أخذ الناسي في موضوع
الحكم بعنوان آخر ملازم له (2) وتحقيقه ليس ههنا.
وبالجملة: البحث فيما نحن فيه موضوعه مطلق القاطع بالحكم من دون

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 45 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الخراساني الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 368 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
48

تقييد بعدم المصادفة إلى الواقع فتدبر.
هذا كله فيما يتعلق بالمطلب الذي ذكره المحقق النائيني، وقد أشرنا إلى
سبب اختيار ذكره أولا مع أنه على خلاف البناء على انتهاج نهج الكفاية في
تحرير المبحث، هو كونه جامعا مستوعبا.
اما صاحب الكفاية، فقد ذهب إلى بقاء الفعل المتجرى به على ما هو
عليه من الحسن أو القبح والمبغوضية أو المحبوبية بلا تغير فيه بواسطة القطع،
لوضوح ان القطع بالعنوان المحرم ليس من العناوين الموجبة للحسن والقبح أو
المبغوضية والمحبوبية، مضافا إلى أن القطع - في مقام العمل - يلحظ طريقا
للواقع لا مستقلا، فالإرادة والقصد انما يتعلقان بشرب الخمر لا بشرب معلوم
الخمرية، بل المعلومية مما لا يلتفت إليها غالبا، ومعه لا يمكن تعلق الإرادة فيها،
إذ الإرادة فرع الالتفات، ومع عدم كونه بالاختيار يتضح عدم كونه من موجبات
الحسن والقبح لأنهما من صفات الأفعال الاختيارية.
فما ذكره صاحب الكفاية وجوه ثلاثة:
الأول: ان عنوان المقطوعية ليس من العناوين الموجبة للحسن والقبح
بالبداهة، وهذا مما وافقناه عليه كما تقدم، ومنه يعلم جهة ارتباط ما تقدم بما ذكره
صاحب الكفاية.
الثاني: ان هذا العنوان مما لا يقع اختياريا لعدم تعلق القصد به، بل هو
ملحوظ آلة وطريقا.
الثالث: انه مما لا يمكن وقوعه اختياريا للغفلة عنه، ويمتنع تعلق الإرادة
بشئ مع الغفلة عنه والفرق بين الوجهين الأخيرين واضح.
ثم إن صاحب الكفاية يذهب إلى امر فرضه مفروغا عنه، وهو ان عنوان
التجري وعنوان الهتك والخروج عن زي الرقية وغير ذلك من العناوين القبيحة
مما لا تنطبق على الفعل الخارجي، بل تنطبق على امر نفسي عبر عنه بالعزم على
49

العمل (1)، ويكشف ذلك التزامه بقبح التجري واستلزامه لاستحقاق العقاب مع
التزامه بعدم قبح الفعل، فإنه لا يتلائم الا مع التزامه بان التجري عنوان لفعل
النفس، فهذا الامر مقدمة مطوية في كلامه. وقد خالفه في ذلك بعض من تأخر
عنه، فذهب إلى انطباق هذه العناوين على الفعل فيكون الفعل قبيحا.
وعليه، فلا بد من البحث في ذلك، ثم التعرض بعده إلى البحث في
الوجهين الأخيرين اللذين ذكرهما في وجوه عدم كون عنوان القطع من
العناوين المحسنة أو المقبحة.
فيقع البحث في أن التجري وما شاكله من العناوين هل عنوان لنفس
الفعل الخارجي المتجرى به أولا؟ والحق مع صاحب الكفاية.
وقبل بيان الدليل ينبغي بيان شئ وهو انه لا اشكال في عدم صحة الذم
بعنوان الجزاء والعقوبة على مجرد وجود صفة كامنة في النفس ترجع إلى سوء
السريرة مع المولى وخبث النفس مع كون العبد في مقام العمل جاريا على طبق
الموازين من دون ان يحدث نفسه بالخروج عن طاعة المولى.
نعم قد يذم على هذه الصفة من قبيل الذم على الصفات غير الاختيارية،
ومرجعه إلى عدم ميل النفس إليها كعدم ميل النفس لقبح الصورة. كما أنه لا
اشكال في صحة الذم بعنوان الجزاء على صيرورة العبد في مقام المخالفة، فللمولى
ان يستنكر على عبده عملا قام به معنونا بالطغيان عليه ومخالفته.
انما الاشكال فيما عرفت من أن عنوان التجري هل هو عنوان للخارج
أو لا؟، وقد عرفت اختيارنا لرأي صاحب الكفاية الراجع إلى اختيار ان التجري
من عناوين فعل النفس لا الخارج.
والوجه فيه: ان العبد إذا صار بصدد الجري الخارجي فيما يخالف رضا

(1) الخرساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 259 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
50

المولى ويبغضه. ولكن لم يتحقق منه أي عمل خارجي أصلا لمانع أقوى منه، كما
لو أراد أن يسب المولى فأغلق شخص فمه ومنعه عن التفوه بأي كلمة، فإنه لا
اشكال في صدق التجري والهتك وغيرهما من العناوين المتقدمة على مجرد كون
العبد في مقام الخروج عن العبودية وبصدد مخالفة المولى، ومجرد الجري النفسي
على طبق الصفة الكامنة في النفس الذي عبر عنه صاحب الكفاية بالعزم على
الفعل، وإذا فرض صدق هذه العناوين على العمل النفسي في مورد لا يكون
هناك عمل في الخارج، كشف ذلك عن أن هذه العناوين ليست من عناوين
الخارج، بل من عناوين النفس.
وعليه، ففي المورد الذي يصدر منه عمل خارجي لا يصدق التجري على
العمل الخارجي، إذ الجري النفسي وكونه في مقام العصيان امر سابق عليه، وقد
عرفت أن التجري. يصدق عليه.
نعم العمل الخارجي يكون كاشفا عن عمل النفس وما يتعنون بعنوان
التجري. اذن فالفعل في الخارج لا ينطبق عليه العنوان القبيح، وانما ينطبق على
فعل النفس.
هذا بالنسبة إلى تحقيق ما ينطبق عليه عنوان التجري.
واما ما ذكره من وجهي الاستدلال على عدم صحة كون القطع بشئ
من العناوين الموجبة للحسن والقبح، فكلاهما محل منع.
اما كون القطع مما لا يلتفت إليه غالبا، فيمتنع أن يكون اختياريا لان
الإرادة فرع الالتفات، فان المراد بالالتفات، فلان المراد بالالتفات هو حضور الشئ في النفس،
والعلم بالشئ صفة حاضرة بنفسها في النفس، فكيف ينفي الالتفات إليها بعد أن
كان الالتفات أمرا لازما للعلم؟.
نعم قد يكون ارتكازيا كامنا في النفس. ولكنه لا يمنع من كونه إراديا
كسائر موارد القصد الارتكازي.
51

وهذا ما ذكره المحقق النائيني في مقام الرد عليه (1).
واما عدم كون عنوان المقطوعية اختياريا لأنه ملحوظ طريقا لا
استقلالا، فتوضيح منعه: ان الفعل تارة: يرتبط بوصف الموضوع بنحو ارتباط
نظير اعطاء الفقير، فان الاعطاء يرتبط بجهة الفقر ويكون رافعا للاحتياج.
وأخرى: لا يرتبط بوصف الموضوع بأي ارتباط كاعطاء العالم أو اطعامه، فان
الاطعام لا يرتبط بجهة العلم وانما يرتبط بنفس الجسم، إذ لا دخل للعلم في
الأكل أصلا، نعم أخذ الرأي من العالم يرتبط بجهة العلم كما لا يخفى.
فالقسم الأول: لا اشكال في تعلق الإرادة بالفعل المضاف إلى الوصف
الخاص وهو لا يرتبط بما نحن فيه.
واما القسم الثاني: فتارة يكون الوصف غاية للعمل وداعيا لتحقق
الفعل. وأخرى لا يكون كذلك، بل ينشأ الفعل عن داع آخر. ففي الصورة
الأولى لا اشكال في ترتب آثار الفعل الاختياري المضاف إلى الموصوف الخاص،
فإذا أكرم العالم تقديرا لعلمه ترتب على فعله آثار اكرام العالم بهذا الوصف وفي
الصورة الثانية يشكل الامر ويقع الكلام في أن الالتفات إلى وجود الوصف مع
عدم كونه داعيا للعمل هل يكفي في اختيارية العمل مضافا إلى الموصوف
الخاص أولا يكفي مجرد الالتفات؟.
وهذه الصورة الأخيرة هي التي ترتبط بما نحن فيه، وهي الاتيان بمعلوم
العنوان كمعلوم الخمرية، مع الالتفات إلى العلم من دون أن يكون اتيانه بداعي
العلم ولأنه معلوم الخمرية، بل لوحظ العلم طريقا كما هو المفروض. فإنه إذا
فرض ان حصول الالتفات إلى الوصف يكفي في اختيارية العنوان لم ينفع ما
ذكره (قدس سره) من أن عنوان المقطوعية ليس اختياريا لعدم لحاظه

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 27 الطبعة الأولى.
52

بالاستقلال، إذ المفروض تحقق الالتفات إليه وهو يكفي في كونه اختياريا.
وإذا دارت معرفة الحقيقة على معرفة ان مجرد الالتفات إلى الوصف يكفي
في الاختيار أو لا، فنقول:
ان المرجع في مثل هذه الأمور هو بناء العقلاء والعرف، وهو قائم على
ترتيب آثار الفعل الاختياري المضاف إلى الوصف الخاص بمجرد الالتفات إلى
الوصف ولو لم يصدر الفعل بداعية، فإذا فرض ان إهانة العالم كانت مورد الذم،
فأهان شخص عالما مع علمه بعالميته ولكن لم تكن اهانته باعتبار انه عالم بل
بلحاظ امر آخر، يترتب الذم الثابت لإهانة العالم على إهانة الشخص المزبور.
وهذا المعنى ظاهر لكل من لاحظ الأمثلة والشواهد العرفية العقلائية.
ويتحصل ان كلا وجهي الكفاية ممنوعان. فالصحيح في اثبات المدعى
الرجوع إلى الوجدان الشاهد بعدم كون عنوان القطع من العناوين المستوجبة
للقبح والحسن كما تقدم منه ومنا.
بقي شئ: وهو ان صاحب الكفاية إذا كان يلتزم بقبح التجري وكونه
عنوانا لفعل النفس لا للخارج، فيقع الكلام في حرمة ذلك الفعل النفسي
القبيح، كما وقع في حرمة الفعل الخارجي بناء على كونه معنون بعنوان التجري.
كما أنه يسائل صاحب الكفاية عن وجه اغفاله هذه الجهة من البحث، فكما أوقع
البحث عن حرمة الفعل الخارجي المتجرى به كان عليه ان يوقع البحث في
حرمة الفعل النفسي خصوصا بعد أن كان معنونا بعنوان قبيح.
وهذا الاعتراض متوجه على صاحب الكفاية.
واما حقيقة المطلب: فهي انه يستحيل تعلق الحرمة بفعل النفس، والوجه
في الاستحالة هو الوجه الذي أشرنا إليه سابقا في بيان حرمة الفعل الخارجي
المقطوع به، والذي سنتعرض إليه مفصلا عن قريب ان شاء الله تعالى. فالوجه
في استحالة حرمة فعل النفس والفعل الخارجي فيما نحن فيه هو الوجه في
53

استحالة البعث نحو الإطاعة شرعا الذي سنوضحه ان شاء الله تعالى.
ويتحصل من مجموع ما ذكرناه: انه لا يمكن جعل الحرمة في مقام
الثبوت كما أنه لا دليل اثباتا عليها في بعض الصور.
هذا تمام الكلام في تحرير المسألة بنحو تكون أصولية.
واما تحريرها بالنحو الفقهي: فيرجع إلى البحث في قيام الدليل الخاص
على حرمة التجري بعنوانه أو حرمة الفعل المتجرى به كسائر موارد البحث عن
حرمة الأفعال.
وتحقيق البحث: ان الذي يمكن ان يتوهم كونه دليلا على حرمة التجري
أمران: الأول: ما ورد من الاخبار الدالة على ثبوت العقاب في مورد التجري
على نية السوء وإرادة العمل التي ذكرها الشيخ (1) وادعى انها بحد التواتر،
بضميمة دلالة الوعيد بالعقاب بالدلالة الالتزامية العرفية على حرمة العمل، ولذا
تبين حرمة بعض المحرمات بطريق الوعيد بالعقاب عليها، فإنه ظاهر عرفا في
الحرمة، كما يدعى ان الوعد بالثواب دال عرفا على رجحان العمل، ولأجله
استظهر استحباب العمل الذي وردت فيه رواية ضعيفة بواسطة اخبار: " من
بلغه ثواب... " - على ما سيأتي بيانه - وادعى وجوب الاحتياط في الشبهات
بواسطة الوعيد بالوقوع في المهلكة على تركه الوارد في اخبار الاحتياط.
أقول: مع الغض عن المناقشة في كلية هذه الدعوى فان لها مجالا اخر،
ليس لنا الاخذ بنتيجتها، لقيام البرهان على استحالة تعلق الحرمة في مورد
التجري، سواء بنية السوء أم بالجري النفسي أم الخارجي، لا بملاك اجتماع
المثلين ولا التسلسل وانما هو بملاك استحالة تعلق الوجوب الشرعي بالإطاعة

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 5 - الطبعة الأولى.
54

الذي سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى، إذ الظهور العرفي لا يقاوم البرهان العقلي
فلا نستطيع استكشاف التحريم من الروايات ولا من غيرها.
ومن هنا ظهر انه لا وجه لايقاع البحث الفقهي المزبور بعد أن ثبت
استحالة تعلق التحريم فيما تقدم.
وبذلك يظهر ان تعرض المحقق النائيني - إلى ما ورد من النصوص
الدالة على حرمة نية السوء ودعوى معارضتها بما دل على العفو عن نية السوء
وتعرضه إلى ما قيل في وجه الجمع من حمل ما دل على التحريم على إرادة نية
السوء المنضمة إلى ما يظهرها خارجا وما دل على العفو على إرادة النية
المجردة، أو حمل ما دل على التحريم على إرادة النية مع عدم الارتداع، وما دل
على العفو على إرادة النية أولا ثم الارتداع بعد ذلك وانه جمع تبرعي لا شاهد
له، والنتيجة هي التساقط والرجوع إلى الأصول - (1). يظهر لنا ان
تعرضه (قدس سره) إلى ذلك بالنحو الذي عرفته ليس كما ينبغي، لان ظاهر
كلامه ان عدم الالتزام بالحرمة لاجل المعارضة مع. انه ذهب إلى استحالة ثبوت
الحرمة في مورد التجري كما بينا ذلك بملاك استحالة تعلق البعث الشرعي
بالإطاعة. إلا أن يكون بحثه ههنا بحثا تنزليا فلا بأس به.
الثاني: فهو دعوى الاجماع على حرمة التجري المستكشفة من قيام
الاجماع على ثبوت الحرمة في بعض موارد التجري. وقد نوقش في الاجماع
كبرويا وصغرويا.
اما النقاش الكبروي: فهو ما ذكره الشيخ في الرسائل من أن المسألة
عقلية لا يكون الاجماع فيها حجة (2).

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 31 الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 5 - الطبعة الأولى.
55

والمراد من كلامه يحتمل وجهين:
الأول: ان المرجع في هذه المسألة هو العقل لا الشرع، لأنها ترتبط بحكم
العقل باستحقاق العقاب وعدمه، فلا يكون الاجماع فيها حجة بلحاظ كشفه
عن قول المعصوم (عليه السلام)، إذ البحث عن امر عقلي لا حكم شرعي.
وبهذا التفسير يكون كلام الشيخ أجنبيا عما نحن فيه بل يرتبط بالمسألة
الكلامية.
الثاني: انه يحتمل استناد بعض المجمعين في فتواهم بالحرمة إلى حكم
العقل بقبح التجري، ومع هذا الاحتمال لا يكون الاجماع تعبديا فلا ينفع في
اثبات المدعى. وبهذا الوجه يرتبط كلام الشيخ بما نحن فيه.
وبالجملة: لا نرى وجها لإطالة البحث أكثر من ذلك بعد أن عرفت
استحالة ثبوت الحرمة وتعلقها بما هو في طول الحرمة الواقعية من نية السوء أو
الجري النفسي أو الخارجي فتدبر.
يبقى الكلام في تحرير المسألة بالنحو الكلامي: وهو الذي كان محط كلام
الشيخ من دون ان يتعرض إلى تعلق الحكم الشرعي في مورد التجري، بل
مصب كلامه (قدس سره) هو الجهة الكلامية في المسألة، وهي جهة استحقاق
العقاب على التجري وعدمه، ولا يخفى ان محل البحث تنزلي، والا فقد عرفت (1)
انه لا حكم للعقل باستحقاق العقاب في صورة المصادفة للواقع فضلا عن صورة
عدم المصادفة، والذي ذهب إليه الشيخ (رحمه الله) عدم استلزام التجري
لاستحقاق العقاب. بل غاية ما يترتب على التجري هو ذم المتجري باعتبار ما
ينطوي عليه من سوء سريرة وشقاوة نفس، وذلك وحده لا يكفي في ترتب
العقاب وانما يترتب العقاب على الفعل القبيح، وهو مفقود في صورة التجري.

(1) لاحظ ما تقدم في تحقيق اثر المنجزية للقطع من هذا الجزء 4 / 26.
56

إذ الفعل المتجرى به لا يكون قبيحا.
وبالجملة: الذي يذهب إليه الشيخ هو انه ليس في مورد التجري سوى
سوء السريرة وهو غير ملازم للعقاب، لان العقاب يترتب على القبح الفعلي لا
الفاعلي (1).
وفي قباله ذهب صاحب الكفاية إلى ثبوت العقاب في مورد التجري على
الجري النفسي على طبق الصفة الكامنة في النفس الذي عبر عنه بالقصد إلى
العصيان - كما تقدمت الإشارة إليه (2) -. فمحط الخلاف بين الشيخ وصاحب
الكفاية هو ان صاحب الكفاية يرى ان هناك فعلا اختياريا من أفعال النفس
يتعنون بعنوان قبيح فيترتب عليه العقاب كسائر الأفعال القبيحة النفسية
والخارجية. والشيخ لا يرى سوى صفة نفسية غير اختيارية والتجري من
عناوين الفعل الخارجي والفعل غير قبيح لعدم كونه معصية، ولا معنى للعقاب
على الصفة النفسية، بل يترتب عليها الذم، والذم الصادر في مورد التجري من
باب انه كاشف عن الصفة النفسانية القبيحة لا من جهة نفس الفعل المتجرى
به كي يلازم العقاب.
والذي نراه ان الحق مع الشيخ، وان القبح الفاعلي الموجود
في صورة التجري لا يلازم العقاب وانما الذي يلازمه هو القبح الفعلي، فلا وجه لما
ذكره صاحب الكفاية من ثبوت العقاب على فعل النفس، ويدل على ما ندعيه
وجهان:
الأول: انه لا اشكال في ثبوت العقاب على المعصية الحقيقية بحكم
العقلاء فلو كان القصد إلى المعصية مستلزما للعقاب للزم ان يحكم العقل في مورد
المعصية الحقيقية باستحقاق عقابين لحصول سببين له وهما - القصد إلى المعصية

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 5 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 260 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
57

ونفس المعصية - وهذا مما لا يقول به أحد.
الثاني: ما ورد في الآيات والروايات من اثبات العقاب على المعصية
الحقيقة ومخالفة المولى، فيلزم ثبوت عقابين في موردها بناء على أن التجري
موضوع العقاب، لتعدد سببه.
وبالجملة: ما ذهب إليه صاحب الكفاية مستلزم لدعوى تعدد العقاب في
مورد المعصية الحقيقية وهو مما لا يلتزم به هو ولا غيره، فيكشف عن عدم كون
القصد إلى فعل الحرام موردا للعقاب، إذ ثبوت العقاب على نفس المخالفة مما لا
اشكال فيه شرعا وعقلا كما عرفت فالحق مع الشيخ في عدم استحقاق المتجري
للعقاب.
ثم إن المحقق النائيني تعرض إلى بيان تقريب استحقاق المتجري
للعقاب بمقدمات أربع:
أوليها: ان الحكم بوجوب الإطاعة عقلي لا شرعي.
ثانيتها: ان الحكم العقلي بوجوب الإطاعة معلول للحكم الشرعي، فهو
يختلف عن مثل حكم العقل بقبح الظلم، فإنه علة للحكم الشرعي.
ثالثتها: ان تمام موضوع الحكم بوجوب الطاعة واستحقاق العقاب هو
العلم سواء صادف الواقع أو لم يصادف.
رابعتها: ان القبح الفاعلي هو ملاك استحقاق العقاب لا القبح الفعلي،
وهو موجود في صورة التجري، فيثبت العقاب في مورده (1).
ولا يخفى ان المقدمتين الأولتين لا دخل لهما في اثبات المطلب وهما من
الواضحات، ولعله لاجل ذلك أغفلهما المقرر الكاظمي في تقريراته واكتفى بذكر
المقدمتين الأخيرتين (2).

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 28 - 29 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 39 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي
58

ثم إنه يكفي في اثبات المطلوب ثبوت المقدمة الثالثة، فإنه إذا ثبت ان
موضوع استحقاق العقاب هو العلم صادف أم لم يصادف ثبت العقاب في مورد
التجري. بلا احتياج إلى المقدمة الرابعة، بل في الحقيقة ان المقدمة الرابعة من
فروع ونتائج المقدمة الثالثة، أو انها تعبير آخر عنها، وقد جعلها المقرر الكاظمي
تعبيرا آخر عن المقدمة الثالثة، ولكنه بعد ذلك ذكر ان المطلب يبتني على مقدمتين
ثم ذكرهما بالنحو المتقدم، كما حكم بالتلازم بينهما.
وعليه، فلم يكن وجه لتعداد المقدمات وتطويل الكلام.
كما أنه يرد على هذا النحو من البيان انه أخص من المدعى، إذ التجري
المبحوث عنه أعم من مورد العلم وغيره، فالاستدلال على ثبوت العقاب بان
موضوعه العلم لا يفي باثباته في مطلق موارد التجري.
ثم إنه اختلف التقريران في الاستدلال على هذه المقدمة - أعني الثالثة -
فقد جاء في تقرير الكاظمي الاستدلال عليها بان المصادفة وعدمها خارجة
عن الاختيار فيمتنع ان يعلق ثبوت العقاب على المصادفة وجاء في تقريرات
السيد الخوئي الاستدلال عليها بان دخالة مصادفة الواقع يسلتزم عدم فعلية
الحكم لعدم احراز مصادفة القطع للواقع لاحتمال أن يكون قطعه غير مصادف.
ولا يخفى عليك ما في كلا الدليلين من الفساد.
اما الأول: فلان هذا الوجه ذكره الشيخ في الرسائل ودفعه بان المصادفة
اختيارية، راجع تعرف (1). واما الثاني: فلان القاطع لا يحتمل الخلاف، بل هو يرى مصادفة قطعه
للواقع والا كان خلف فرض كونه قاطعا، ومن الغريب انه لم يتعرض في مقام
الرد إلى ذلك أصلا.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 5 - الطبعة الأولى.
59

ثم إنه (قدس سره) ناقش كلتا المقدمتين:
فناقش الثالثة: بان العلم وان كان تمام الموضوع لكن في صورة انكشاف
الخلاف لا علم، بل لم يكن سوى الجهل المركب ولا معنى لترتيب آثار العلم
عليه.
وناقش الرابعة: بان القبح الفاعلي المستلزم للعقاب هو الناشئ عن
القبح الفعلي كما في موارد المعصية اما الناشئ من حيث الباطن وسوء السريرة
فلا دليل على استلزامه للعقاب.
ولا يخفى ان مناقشة المقدمة الثالثة ليست على ما ينبغي، فإنه كان المتجه
التعرض لدليل الخصم على عدم دخل المصادفة في ثبوت العقاب وانكاره، لا
انكار أصل الدعوى رأسا.
ولا بأس بالتنبيه على شئ وهو: ان الشيخ والمحقق النائيني عبر كل منهما
بالقبح الفاعلي، لكن اختلفا في المقصود منه، فأراد المحقق النائيني به جهة
صدور الفعل وهي تختلف بالمنشأ، فتارة تنشأ عن القبح الفعلي وأخرى تنشأ عن
خبث الباطن، ولكن الشيخ أراد به نفس سوء السريرة وخبث الباطن، ولذا نفى
العقاب عليه لأنه وصف غير اختياري، ولم يستطع المحقق النائيني نفي استحقاق
العقاب عن القبح الفاعلي، بل غاية ما استطاع هو التشكيك لأنه أراد به امرا
اختياريا قابلا لاستحقاق العقاب عليه. فالتفت ولا تغفل.
ويتحصل: ان ما ورد في تقريرات المحقق النائيني من تقريب الاستدلال
على ثبوت العقاب في مورد التجري ورده مما لا محصل له، فليته لم يتعرض إليه
بهذا التفصيل.
يبقى الكلام فيما ذكره الشيخ (قدس سره) من وجود ما يدل من الكتاب
والسنة على ثبوت العقاب على قصد المعصية، كقوله (صلى الله عليه وآله): " نية
60

الكافر شر من عمله " (1)، وما ورد من " انه إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل
والمقتول في النار. قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: لأنه أراد
قتل صاحبه " (2)، وما ورد في ثبوت العقاب على بعض المقدمات بقصد الحرام
كغرس العنب لاجل الخمر (3)، ومثل ما ورد من: " ان الراضي بفعل قوم كالداخل
فيه معهم وان على الداخل إثم الرضا وإثم الدخول " (4)، وقوله تعالى: (وان تبدوا
ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) (5)، وغير ذلك، ما يصل إلى حد التواتر.
وفي قبال هذه الأدلة روايات كثيرة دالة على العفو عن القصد وعدم
ترتب العقاب.
ولأجل ذلك تصدى الشيخ للجمع بين الطائفتين دفعا للتعارض. فذكر
للجمع وجهين:
الأول: ان يراد بما دل على العفو مجرد القصد من دون الاشتغال بأي
مقدمة ويراد بما دل على العقاب القصد المستتبع للحركة.
الثاني: ان يراد بما دل على العفو القصد مع الارتداع بعده ويراد بما دل
على العقاب القصد المستمر.
وقد مر ايراد المحقق النائيني (قدس سره) عليه بأنه جمع تبرعي لا شاهد
عليه.
وعليه فتصل النوبة إلى التعارض والتساقط.
ولكن لا مجال لدعوى التساقط بعد أن كانت اخبار العقاب تصل إلى

(1) الكافي ج 2 / 84 ح 2.
(2) تهذيب الأحكام: 6 / 174 - باب 79 في النوادر - حديث 25.
(3) وسائل الشيعة 11 / 411 و 12 و 12 / 165 - باب 55 من أبواب ما يكتسب به - حديث 4 و 5.
(4) نهج البلاغة - شرح محمد عبده - 4 / 696 - قصار الحكم - الحكمة: 154.
(5) سورة البقرة، الآية: 284.
61

حد التواتر وكان بعض أدلته من الكتاب للقطع بالصدور، فلا بد من طرح
معارضه لأنه يباين الكتاب والسنة الواقعية.
هذا ولكن الانصاف ان كثيرا مما سيق شاهدا على ثبوت استحقاق
العقاب غير صالح للشهادة. وتوضيح ذلك:
اما ما ورد من أن الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، فهو وارد في
الرضا واقرار ما جاء به الغير من المعصية وليس مورده قصد إتيان المعصية، الذي
هو محل الكلام، فهو يرتبط بباب وجوب انكار المنكر بالقلب إذا لم يتمكن من
انكاره باليد أو اللسان، فلا يرتبط بما نحن فيه.
واما قوله تعالى: (ان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله)
فليس المراد ثبوت العقاب على نية السوء، بل المراد الظاهر منها هو ان ما فرض
كونه محرما من الأمور القلبية الحال فيه سواء بين الابداء والاخفاء لاطلاع الله
تعالى عليه، فموضوعه ما فرض كونه محرما من أفعال النفس كالشرك والنفاق،
وان الحال فيه إذا اختلف على الناس بين الابداء و الاخفاء فهو لا يختلف على
الله سبحانه. فلا تكون الآية مرتبطة بتحريم مطلق نية السوء. والشاهد على ما
ذكرنا هو عدم إرادة العموم منها جزما لو أريد منها المعنى الأول لعدم العقاب
على ما في النفس من الأمور غير الاختيارية كما لا عقاب على نية المباح
والواجب والمكروه والمستحب والآية تأبى عن التخصيص مع أنه تخصيص
مستهجن لأنه بالأكثر.
واما ما ورد من العقاب على إرادة القتل، فهو لا يدل على العقاب على
مطلق قصد المعصية، إذ من المحرمات ما يحرم جميع مقدماته شرعا أو بعضها نظير
حرمة غرس العنب لاجل التخمير، وحرمة مقدمات الربا، والرواية تدل على أن
إرادة القتل كذلك، فهذه تكون محرمات نفسية كالفعل، وليس العقاب عليها من
باب انه تجر وقصد للحرام.
62

ومن الغريب ان الشيخ (قدس سره) ساق ما دل على ثبوت العقاب على
غرس العنب للخمر من أدلة ثبوت العقاب على قصد المعصية مع أنه يلتزم بان
غرس العنب محرم شرعا نفسيا.
وبالتأمل فيما ذكرناه في هذه الموارد يظهر الاشكال في دلالة غيرها فلا
حاجة إلى الإطالة.
وجملة القول: ان ما دل على ثبوت العقاب على القصد لو وجد فهو ليس
بمقطوع الصدور فلا يعدو كونه خبرا واحدا، فتقع المعارضة بينه وبين ما دل على
العفو، والنتيجة هي التساقط فتدبر.
وبالنتيجة: انه لا دليل من العقل ولا من الشرع على استحقاق المتجري
للعقاب.
يبقى الكلام في جهات:
الأولى: ان موضوع البحث في التجري لا يختص بصورة العلم - كما
أشرنا إليه سابقا -، وانما يعم صورة قيام الامارة على التكليف، بل بعض صور
احتمال التكليف كأحد الطرفين في العلم الاجمالي - إن لم نلحق المورد بالعلم -،
و كالشبهة البدوية قبل الفحص والجامع هو عدم المؤمن من الواقع، بحيث لو
صادف الواقع كان للمولى عقابه.
واما وجود الفرق بين القول بجعل الامارة من باب السببية والقول
بجعلها من باب الطريقية فلا نوقع البحث فيه لعدم الأثر المترتب عليه.
الثانية: انه بناء على ثبوت العقاب على التجري ففي مورد المعصية
ومصادفة الواقع هل يتعدد العقاب أو يتحد؟، والمنسوب إلى صاحب الفصول هو
القول بالتداخل (1).

(1) الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية / 87 - الطبعة الأولى.
63

والاحتمالات أربعة:
الأول: ما ذهب إليه صاحب الكفاية من وحدة العقاب لوحدة سببه وهو
كون العبد في مقام الطغيان (1).
الثاني: ما يظهر من المحقق الأصفهاني من وحدة العقاب لوحدة سببه،
وهو الهتك المعنون به الفعل، سواء في التجري أو المعصية الحقيقة (2).
فالفرق بين القولين: ان منشأ العقاب على الأول وهو الهتك عنوان للفعل
النفسي وهو واحد في كلا المقامين - أعني التجري والمعصية الحقيقية - وعلى
الثاني عنوان للفعل الخارجي وهو أيضا واحد، فمنشأ العقاب واحد.
الثالث: وحدة العقاب مع تعدد السبب من باب التداخل وهو المنسوب
إلى صاحب الفصول.
الرابع: تعدد العقاب لتعدد سببه.
ثم إن ايقاعنا البحث في هذه الجهة تنزلي لما تقدم منا من انكار استحقاق
المتجري للعقاب، وقد تقدم تقريبه.
ولا بأس بتوضيح الحال فيه فنقول: الذي يمكن ان يتمسك به القائل
باستحقاق العقاب - وهو الجامع تقريبا بين من أعطى المطلب صورة علمية ومن
أعطاه صورة وجدانية - هو انه لا اشكال ولا ريب في أن العقلاء يرون صحة
مؤاخذة المولى لعبده إذا صار في مقام الجريان على خلاف مقتضى العبودية ولو
لم تصدر منه المخالفة الحقيقية، فإذا رفع العبد يده لضرب المولى ولم يتمكن من
ضربه كان للمولى عقابه وذمه، لأنهم يرون ذلك هتكا وظلما للمولى وطغيانا عليه.
وهذا الوجه لا يخلو عن مغالطة، بيان ذلك: ان الظلم انما يتحقق بالخروج
عن الحقوق المفروضة لشخص على غيره، وفي قباله العدل فإنه الاستقامة في

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 262 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 14 - الطبعة الأولى.
64

هذا المقام وعدم الانحراف عن أداء الحق المفروض عليه.
وعليه، فتصدي العبد للمعصية مع عدم الوقوع فيها.
تارة: ينشأ عن استخفافه بالمولى وأمره وبقصد توهينه والاستهزاء به
وعدم المبالاة بما يترتب عليه المعصية من عقاب.
وأخرى: لا ينشأ من ذلك، بل مقام المولى محفوظ في نفسه وخوفه من
عقابه موجود ولكنه يرجو مغفرة المولى لعلمه بأنه رحيم أو يرجو شفاعة من هو
مقرب عند المولى في حقه.
ففي الأول: يصدق الظلم والهتك، ولكنه لا من باب التجري، بل من
باب ان الاستخفاف والاستهزاء ونحو ذلك مبغوض للمولى، فالاتيان به يكون
معصية حقيقية فيكون ظلما لأنه خروج عن زي العبودية ومقتضى الرقية، إذ
مقتضاها إطاعة المولى في أوامره ونواهيه. فهذا النحو خارج عن محل الكلام.
واما في الثاني: فلا تصدق العناوين المتقدمة إذ تصديه لا يعد ظلما لأنه لم
يثبت تحريمه ومطالبة المولى بعدمه كي يكون خروجا عن مقتضى العبودية كما أنه
لا يعد هتكا بعد أن كان تصديه برجاء المغفرة أو الشفاعة، مع أن الهتك يتقوم
بالاعلان بالعمل، والمبحوث عنه أعم من صورتي الاعلان والاسرار. نعم لو
صادف المعصية استحق العقاب لأنه خالف مولاه فيكون ظلما له.
وبالجملة: الرقية والعبودية انما تقتضي إطاعة المولى فيما يريده وعدم
الخروج عن مرادات المولى، والتصدي إلى الخروج مع عدم الخروج لا يعد
خروجا فلا يكون ظلما.
ولو سلمنا ذلك، يقع الكلام في تعدد العقاب لو صادف المتجري المعصية
الحقيقية.
والذي نراه قريبا: هو التداخل في موضوع العقاب وسببه - لا في المسبب
كي يشكل بان التداخل في المسببات انما يثبت في المورد غير القابل للتعدد
65

كالقتل لا في المورد القابل للتعدد نظير العقاب - بيان ذلك: انه لا اشكال في
كون التجري من أوصاف وعناوين التصدي والعزم كما يراه صاحب الكفاية
وتقدم تقريبه. كما أنه لا اشكال في كون العقاب والثواب في مورد المعصية
والطاعة على نفس ما به المخالفة ومما به الموافقة، فيعاقبه ويؤنبه على عدم سفره لو
أمره بالسفر ولم يسافر، كما يشكره على سفره لو سافر كما أنه لا اشكال في عدم
تعدد العقاب والثواب في مورد المعصية والإطاعة، إذ المرجع هو الارتكاز العقلائي
في هذا الباب وهو قاض بما ذكرناه، إذ لا نرى ان السيد يعاقب العبد عقابين
إذا خالف أمره أو نهيه، ويثيبه ثوابين إذا وافق أحدهما، ثواب على قصد الطاعة
وثواب على نفس الطاعة، فنستكشف من مجموع ذلك أن التجري انما يكون
سببا وموضوعا للعقاب على تقدير عدم المصادفة والا فهو يندك في المعصية
الحقيقية ويكون التأثير لها لا له.
ولعل هذا هو مراد الفصول. ومنه ظهر ما في الاحتمالين الأولين من النظر
كما لا يخفى. فتدبر.
الثالثة: في الثمرة العملية لهذا البحث، وهي ما ذكره المحقق
العراقي (1) (رحمه الله) بتوضيح منا: من انه بناء على قبح التجري ومبعديته وانطباقه
على نفس العمل المتجرى به، لو قامت امارة على حرمة شئ ذاتا كما لو قامت
على حرمة صوم هذا اليوم كيوم العيد، فلا يمكن الاتيان بهذا العمل برجاء
المطلوبية واقعا، لأنه قبيح ومبعد، إذ الاتيان به تجر فلا يصلح للمقربية ولا يقع
عبادة.
واما بناء على ما ذهب إليه الشيخ من انه لا قبح في العمل المتجرى به
وانما الذم على الصفة الكامنة في النفس التي يكشف عنها التجري، وهي خبث

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 42 (القسم الأول) - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
66

السريرة وسوء الباطن، فلا مانع من الاتيان بالصوم برجاء المطلوبية، لصلاحيته
للمقربية في نفسه لعدم كونه قبيحا على تقدير عدم المصادفة، وليس في البين الا
خبث السريرة وهو لا ينافي التقرب بالعمل.
واما بناء على ما ذهب إليه صاحب الكفاية من أن التجري من عناوين
فعل النفس والذم والعقاب عليه، لا على الصفة الكامنة في النفس ولا على الفعل
الخارجي، فنفس الفعل الخارجي يصلح للمقربية في نفسه لعدم انطباق العنوان
القبيح عليه.
ولكن بناء على ما تقدم من انه يعتبر في المقربية أمران: أحدهما: صلاحية
الفعل للمقربية في نفسه. والاخر: أن لا يشتمل على القبح الفاعلي بمعنى قبح جهة
الصدور. بناء على هذا لا يصح العمل لقبح جهة صدوره، إذ المفروض ان قصد
العمل قبيح لأنه معنون التجري.
فالنتيجة: ان العمل لا يصح الا بناء على رأي الشيخ (رحمه الله). فتدبر.
ثم إن الشيخ تعرض إلى بيان صور التجري، ولا حاجة إلى التعرض
إليها، إذ ليس بذي أثر مهم.
الجهة الخامسة: في القطع الموضوعي.
وهو ما يؤخذ في موضوع الحكم الشرعي بحيث يترتب الحكم على
وجوده، في قبال القطع الطريقي وهو ما يكون طريقا وكاشفا عن الواقع لا غير.
ومحل البحث في السابق هو القطع الطريقي.
اما الموضوعي فتحقيق الكلام فيه في هذه الجهة.
وقد تعرض إليه الشيخ في كلامه، وعقد له صاحب الكفاية أمرا
مستقلا (1)، وذكر ان القطع بالحكم لا يمكن ان يؤخذ في موضوع حكم مماثل

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 266 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
67

لحكم متعلقه أو مضاد له وانما يؤخذ في موضوع حكم يخالف الحكم الذي تعلق
به، كما إذا قال المولى: " إذا قطعت بوجوب الصلاة يجب عليك التصدق "، وقد
أشار إلى الوجه في ذلك في الامر الرابع ونوكله إلى محله، ونتكلم الآن فيما أفاده
ونفرضه مسلما. والكلام في القطع الموضوعي يقع من جهتين:
الجهة الأولى: في أقسامه. والذي ذكره الشيخ وتبعه عليه صاحب الكفاية
ان أقسامه أربعة: لأنه اما أن يكون جزء الموضوع أو تمامه، وعلى كلا التقديرين
اما ان يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه أو يؤخذ بما هو صفة خاصة، وذكر صاحب
الكفاية في مقام ايضاح القسمين الأخيرين، ان العلم من الصفات الحقيقية ذات
الإضافة، ومنه قيل: إن العلم نور لنفسه ونور لغيره، فلذا صح ان يؤخذ بما هو
صفة خاصة بإلغاء جهة كشفه أو اعتبار خصوصية أخرى فيه مع جهة كاشفيته.
وان يؤخذ بما هو طريق ومرآة لمتعلقه وحاك عنه.
فالذي يظهر من كلامه ان اخذ القطع بما هو صفة يكون بطورين:
أحدهما: يرجع إلى إلغاء جهة كشفه.
والاخر: يرجع إلى أخذ خصوصية أخرى فيه مضافا إلى جهة كشفه.
ولكن المحقق الأصفهاني ناقش في امكان اخذ القطع بما هو صفة.
وأطال في نقاشه، وخلاصة مناقشته: ان قوام القطع وذاته التي بها يتميز
عن غيره من الصفات ويكون بها قطعا هو كاشفيته التامة، فاخذه في الموضوع
مع إلغاء جهة كشفه غير معقول، فإنه نظير أخذ الانسان في موضوع الحكم مع
إلغاء انسانيته.
وتعرض إلى ما ذكره صاحب الكفاية من أن العلم نور لنفسه ونور لغيره
وبين انه لا ينفع في الدعوى (1).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 14 - الطبعة الأولى.
68

والذي نقوله في المقام بنحو الاختصار النافع: ان اخذ القطع موضوعا
بإلغاء جهة كشفه غير سديد، لأنه ان أريد من إلغاء جهة كشفه ما هو الظاهر
من عدم ملاحظة كاشفيته بالمرة، فيرد عليه ما ذكره المحقق الأصفهاني، من أنه
يتنافى مع اخذ القطع موضوعا. وان أريد منه عدم ملاحظة ارتباطه بمتعلقه
واضافته إليه، فهو يلازم ثبوت الحكم عند ثبوت القطع بأي شئ كان، إذ
المفروض ان المأخوذ في الموضوع هو الكاشف التام بلا ملاحظة اضافته إلى
متعلقه الخاص، فلا خصوصية لتعلقه بهذا الامر دون ذاك وهذا محذور كبير.
اذن، فاخذ القطع موضوعا بنحو الصفتية بالطور الأول لا يمكننا
الالتزام بصحته نعم أخذه بالطور الثاني لا مانع منه، بان تلحظ في القطع مع
جهة حكايته وكاشفيته عن المتعلق الخاص خصوصية أخرى فيه، كخصوصية
ركون النفس واستقرارها بالنحو الخاص الملازمة للقطع، إذ هي من آثار القطع
بشئ، ولا تترتب على غيره.
ومنه ظهر: ان توجيه اخذ القطع بنحو الصفتية بملاحظة هذه الجهة فيه،
أعني جهة ركون النفس وثباتها - كما ورد في تقريرات بحث السيد الخوئي -،
لا يجدي في دفع الاشكال السابق، لما عرفت أن اخذ القطع بلا ملاحظة جهة
كشفه امر لا يمكن القول به. فما ذكر خلط بن الطورين، فالتفت.
وكما أنكر المحقق الأصفهاني اخذ القطع موضوعا بنحو الصفتية، أنكر
المحقق النائيني اخذ القطع تمام الموضوع بنحو الطريقية، فذهب إلى أنه لا بد أن يكون
مأخوذا جزء الموضوع، فالأقسام لديه ثلاثة، وعلل ذلك بان النظر
الاستقلالي في القطع الطريقي يتعلق بمتعلقه وبالواقع المنكشف به وبذي
الطريق، اما القطع فهو مغفول عنه وملحوظ مرآة للغير شأن كل كاشف
وطريق، واخذه في تمام الموضوع يلازم غض النظر عن الواقع وملاحظته القطع
69

مستقلا، وهذا خلف (1).
ولكن هذا التعليل عليل، وهو ناش من الخلط بين مقام الجعل، ومقام
تعلق القطع بشئ، بيان ذلك: ان من ينظر إلى الكتاب بواسطة نظارته يغفل
عن نظارته وانما نظره المستقل متعلق بالكتاب الذي جعل النظارة طريقا إليه،
ولكن الشخص الذي ينظر إلى هذا الناظر ويرى كاشفية وآلية النظارة، يستطيع
ان يتعلق نظره مستقلا وغرضه بالنظارة ذاتها من دون أن يكون للكتاب أي
دخل فيه.
وفي ما نحن فيه من هذا القبيل، فان من يتعلق نظره الاستقلالي
بالمقطوع ويغفل عن القطع هو القاطع نفسه، إذ كون القطع طريقا لديه يلازم
لحاظه آلة وبنحو المرآتية (2)، اما الجاعل الذي يريد أن يجعل حكما على هذا
القطع له ان يقصر نظره على القطع، بمعنى انه يرتب الحكم على القطع بلحاظ
كشفه لكن من دون أن يكون لوجود المتعلق في الخارج أي أثر، لتمكنه من لحاظ
القطع بنحو الاستقلال لا الآلية والمرآتية، نظير من ينظر إلى المرآة لا ليرى
صورته بها، بل ليرى جودتها وجنسها. فظهر لك الخلط بين المقامين.
وعلى هذا فلا مانع من اخذ القطع بنحو الطريقية تمام الموضوع بان لا
يكون للمصادفة أي دخل في ثبوت الحكم.
الجهة الثانية: في قيام الامارات والأصول مقام القطع الطريقي
والموضوعي بأقسامه.
لا اشكال بين الاعلام في قيام الامارة بدليل اعتبارها مقام القطع
الطريقي، بمعنى ان نفس ما يترتب على القطع من المنجزية والمعذرية يترتب

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 5 - الطبعة الأولى.
(2) أنكر المحقق الأصفهاني صحة التعبير باللحاظ الآلي والاستقلالي بالنسبة إلى القطع، وليس محل
البحث فيه ههنا، ونحن انما عبرنا بذلك تمشيا لا التزاما بصحته، لعدم تنقيح أحد الطرفين.
70

على الإمارة.
انما الاشكال والكلام في قيامها بدليل اعتبارها مقام القطع الموضوعي
بأقسامه.
وقد ذهب الشيخ إلى قيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي دون
الصفتي (1) وتبعه على ذلك المحقق النائيني (2).
وأنكر صاحب الكفاية قيامها مقام القطع الموضوعي بأقسامه، وابتدأ
بنفي قيام الامارة مقام القطع الصفتي، ثم عطف عليه قيام الامارة مقام
الموضوعي الطريقي ونفاه بعين ما نفى به قيامها مقام الصفتي (3)، ولأجل ذلك قد
يتساءل عن وجه التفكيك بين القسمين في البيان مع اشتراكهما في الحكم
والدليل.
ولوضوح الجواب عن هذا التساؤل نقول: علل صاحب الكفاية عدم
قيام الامارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الصفتية، بان قضية حجية
الامارة ترتيب ما للقطع من الآثار بما هو حجة لا بما هو موضوع، لأنه يكون
كسائر الموضوعات.
وتوضيح ذلك: ان ما يحتمل في مفاد دليل الاعتبار وجوه، مثل جعل
المؤدى أو جعل الوسطية في الاثبات والطريقية وجعل المنجزية والمعذورية وجعل
الحجية - كما يأتي تفصيل ذلك في محله -، ومن الواضح ان مفاد دليل الاعتبار
بأي نحو من هذه الانحاء كان لا يرتبط بالقطع الملحوظ بما أنه صفة خاصة اما
بإلغاء جهة كشفه أو بأخذ خصوصية أخرى فيه معه، فجعل المؤدى أجنبي بالمرة
عن تنزيل الامارة منزلة القطع، وجعل الطريقية والكاشفية لا ينفع بعد أن فرض

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 4 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول 3 / 21 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) الخراساني المحقق الشيخ كاظم. كفاية الأصول / 263 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
71

ان جهة الكشف ملغاة في القطع الصفتي، أو انها معتبرة بضميمة خصوصية
أخرى، وهكذا الحال في جعل المنجزية أو الحجية.
وبالجملة: القطع المأخوذ موضوعا بنحو الصفتية كغيرة من موضوعات
الاحكام لا ينظر إليه دليل اعتبار الامارة بأي نحو كان مفاده.
ولكن الامر ليس بهذه المثابة من الوضوح بالنسبة إلى القطع الموضوعي
الطريقي، فقد يتخيل ارتباط دليل اعتبار الامارة به.
ولكنه نفاه أيضا بأنه ذو جهتين وأثرين: أحدهما: أثره المتأخر عنه، وهو
ما يترتب عليه وبه يكون موضوعا للحكم. والاخر: الأثر السابق عليه وهو ما
تعلق به وبه يكون طريقا للحكم وكاشفا. ودليل الاعتبار بأي نحو كان مفاده
انما يتكفل جعل الامارة بلحاظ الواقع السابق على القطع لا اللاحق، بل القطع
بلحاظ اثره اللاحق كسائر موضوعات الاحكام لا ينظر إليه دليل اعتبار
الامارة.
ثم تعرض إلى ما قد يقال في تقريب قيام الامارة مقام القطع الطريقي
والموضوعي بنحو الطريقية: من أن دليل الاعتبار يتكفل نفي احتمال الخلاف،
فهو ينزل الامارة منزلة العلم، ومقتضى اطلاقه تنزيل الامارة منزلة العلم من جهة
كونه طريقا ومن جهة كونه موضوعا، فتقوم الامارة مقام القطع الطريقي
والموضوعي (1).
وحكم بفساده، والوجه فيه: ما ذكره من انه لا بد في التنزيل من لحاظ
المنزل والمنزل عليه، ولحاظ القطع والامارة في تنزلهما منزلة القطع الطريقي لحاظ
آلي، لان النظر في الحقيقة إلى الواقع والمؤدى، ولحاظهما في تنزيلها منزلة القطع
الموضوعي استقلالي، لان النظر إلى أنفسهما، فيلزم من تكفل الدليل الواحد

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 4 - الطبعة الأولى.
72

لكلا التنزيلين اجتماع لحاظين الآلي والاستقلالي في شئ واحد وهو محال، فلا بد
أن يكون الدليل متكفلا لأحدهما، وهو تنزيلها منزلة القطع الطريقي لأنه هو
الظاهر من دليل الاعتبار.
وأضاف إلى ذلك: انه لولا المحذور الذي ذكرناه لأمكن ان يلتزم بان
مقتضى اطلاق دليل اعتبار الامارة المتكفل لالغاء احتمال الخلاف قيام الامارة
مقام القطع الموضوعي بجميع أقسامه حتى المأخوذ بنحو الصفتية هذا ما افاده
في الكفاية (1).
وخالفه المحقق النائيني - كما أشرنا إليه - فذهب إلى قيام الامارة بدليل
اعتبارها مقام القطع الموضوعي الطريقي دون الصفتي، وقدم لايضاح ذلك
مقدمات أطال في الكلام فيها، فإنه بعد ما ذكر ان المجعول في باب الامارات هو
الكاشفية التامة والمحرزية، وان الدليل الدال على اعتبارها يتكفل تنزيلها منزلة
القطع من جهة كاشفيته عن الواقع ومحرزيته له، وذكر ان حكومة الامارة على
أدلة الأحكام الواقعية حكومة ظاهرية، وعبر عنها تارة: بالحكومة في مقام
الاثبات في قبال الحكومة الواقعية، وهي الحكومة في مقام الثبوت، باعتبار ان
دليل الامارة لا يتكفل التوسعة أو التضييق في الواقع، بل في طريق احرازه.
وأخرى: بأنها ما كانت في طول الواقع، باعتبار ان حكومة دليل الامارة بلحاظ
وقوعها في طريق احراز الواقع في رتبة الجهل به، لا بلحاظ التوسعة في رتبة
الواقع نفسه.
بعد أن ذكر ذلك بتفصيل، ذكر ان كلام الكفاية واشكالها يتأتى بناء على
جعلي المؤدى في باب الامارة. اما بناء على ما اختاره من جعل المحرزية
والكاشفية والوسطية في الاثبات، فلا يتم ما ذكره صاحب الكفاية، إذ لم يلحظ

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 264 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
73

الواقع والمؤدى في مقام النزيل كي يرد عليه انه مستلزم لاجتماع اللحاظين، بل
لم يلحظ سوى الامارة والقطع، ودليل الاعتبار يتكفل جعلها بمنزلة القطع في
المحرزية فتقوم بمقتضى هذا المقام مقام القطع الطريقي المحض والموضوعي إذا
كان بنحو الطريقية، كما هو واضح جدا (1).
وأنت خبير بان ما ذكره ليس دفعا للاشكال حقيقة، بل التزام به على
المبنى الذي بنى عليه من جعل المؤدى الذي يظهر من كلمات الشيخ (2) وبعض
كلمات صاحب الكفاية (3)، وانما هو حل للمشكلة بالتزامه في باب الامارة بان
المجعول هو المحرزية، وهذا لا يجدي في رفع الاشكال عن الشيخ ومن يلتزم
بمبناه.
ثم ما ذكره من الحكومة الظاهرية واختلاف التعبير عنها، للبحث عن
صحته وسقمه مجال آخر ليس محله ههنا، إذ لا يرتبط بما نحن فيه قيد شعره،
وسيأتي الكلام فيه أن شاء الله تعالى مفصلا وستعرف انه مجرد اصطلاح لا واقع
له. فانتظر.
وانما الذي نورده عليه ههنا باختصار: هو ان الحكومة كما فسرها هو
وغيره تتقوم بنظر أحد الدليلين إلى الاخر بتضييق في مدلوله أو توسعة، فإذا كان
دليل اعتبار الإمارة يتكفل جعل الكاشفية وتنزيل الامارة منزلة العلم في
الوسطية في الاثبات - كما التزم به مع الغض عن مناقشته - كان ناظرا إلى
الدليل الواقعي المتكفل لترتيب الاحكام على القطع، وعليه تكون حكومته عليه
حكومة واقعية ليس فيها كشف خلاف، بل يكون انكشاف خلاف الامارة من
باب تبدل الموضوع ولا نظر له إلى الواقع بحال كي يدعى ان حكومته عليه

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 21 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 25 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول 277 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
74

بالحكومة الظاهرية.
وبالجملة: لو كان دليل الاعتبار ناظرا إلى ترتيب آثار الواقع كان لما ذكره
من دعوى الحكومة الظاهرية صورة - وان كان في نفسه محل اشكال -، ولكنه
ليس كذلك، بل هو ناظر إلى ترتيب آثار القطع، فالحكومة على هذا واقعية.
فتدبر.
ثم إن المحقق الأصفهاني (قدس سره) بعد أن استشكل في صحة دعوى
تعلق اللحاظ آليا كان أو استقلاليا بالقطع، لأنه هو عين الحضور واللحاظ فلا
يقبل تعلق اللحاظ، وليس هو واسطة في اللحاظ كالمرآة، تعرض إلى ما ذكره
صاحب الكفاية، ومحصل ما ذكره: هو ان تكفل الدليل الواحد تنزيل الامارة
منزلة القطع الطريقي والموضوعي غير ممكن لكنه لا من جهة استلزام اجتماع
اللحاظين في شئ واحد، بل من جهة أخرى، فهو يشترك مع صاحب الكفاية
في النتيجة ويختلف معه في طريق الوصول إليها.
اما ما افاده بتوضيح منا وتصرف، فهو: ان الدليل المبحوث عنه تارة:
يكون لسانه تنزيل الظن منزلة القطع. وأخرى: يكون لسانه تنزيل المظنون
منزلة المقطوع.
فإن كان بالنحو الأول: فالقطع ليس من وجوه متعلقه حتى يدعى أنه
يمكن الحكم على متعلقه بواسطته، فيلزم من الحكم عليه وعلى متعلقه اجتماع
اللحاظ الاستقلالي والآلي، إذ ليست نسبته إلى متعلقه نسبة الكلي إلى فرده ولا
نسبة العنوان إلى معنونه، لكنه حيث كان من الصفات التعلقية التي تتقوم في
وجودها بمتعلقها، كان تصور مفهوم القطع ملازما لحضور صورة المقطوع في
الذهن.
وعليه، فإذا أريد الحكم على المضنون بواسطة الكناية عنه بالظن لزم اخذ
الظن قنطرة للانتقال إلى لازمه، وإذا أريد الحكم عليه لزم أخذه على وجه
75

الأصالة والحقيقة، فيلزم من تعدد التنزيل اخذ الظن قنطرة وعدم اخذه كذلك،
وهو ممتنع لأنه من باب اجتماع النقيضين، فالقضية الواحدة لا تعقل ان تكون
كنائية وحقيقية، إذ المحذور فيه نظير محذور اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي.
ودعوى: انه بعد فرض التلازم بين الظن والمظنون والقطع والمقطوع، لا
يحتاج إلى الكناية بل يمكن تأدي كلا التنزيلين بلا أي محذور، بل يكون أحدهما
مؤدى المدلول المطابقي والاخر مؤدى المدلول الالتزامي، فهناك مفهومان
مستقلان متلازمان كل منهما يفيد شيئا غير ما يفيده الاخر، نظير ان تقول " زيد
كثير الرماد " وتقصد الاخبار عن كثرة رماده بالمطابقة وكرمه بالالتزام.
تندفع: بان هذا انما يصح لو كان التلازم بين الحكمين نظير: " زيد كثير
الرماد "، فان اثبات أحد الحكمين يلازم ثبوت الاخر، فيمكن ان تقصد تأديته
بالمدلول الالتزامي، وما نحن فيه ليس كذلك، إذ التلازم بين الموضوعين، إذ لا
ملازمة بين تنزيل الظن منزلة القطع وتنزيل المظنون منزلة المقطوع، وانما التلازم
بين الظن والمظنون لا أكثر، فليس الحكم الاخر مدلول التزامي للقضية كي
يمكن قصد تأديته بنحو الالتزام، فلا يكون الدليل على أحدهما دليلا على الحكم
الاخر بالالتزام، فتتوقف إفادة الحكم الآخر على الكناية.
وان كان بالنحو الثاني: فالمظنون والمقطوع وان كانا وجهين لمتعلق الظن
و القطع، فيمكن لحاظهما طريقا لذات المظنون والمقطوع كما يمكن لحاظهما
بأنفسهما، وحينئذ يمكن دعوى استلزام جعل كلا التنزيلين لاجتماع اللحاظين
الآلي والاستقلالي في أمر واحد.
ولكن الاشكال ليس من هذه الجهة لاندفاعها بان الحكم على كلا
التقديرين ليس على عنوان المقطوع والمظنون بالحمل الأولي، وانما هو على ما
هو مقطوع ومظنون بالحمل الشائع، غاية الامر ان الحكم على ذات المظنون على
تقدير وعلى الذات بما هو مظنون على تقدير آخر، فاذن العنوان على كلا
76

التقدير ملحوظ آلة والمعنون على كلا التقديرين ملحوظ استقلالا.
وانما الاشكال من جهة أخرى وهي: ان الحكم على ذات المظنون يرجع
إلى إلغاء دخالة تعلق الظن بها باعتبار ان الاطلاق عبارة عن رفض القيود لا
الجمع بين القيود، والحكم على الظنون بما هو مظنون يرجع إلى اعتبار تعلق
الظن، ولا يمكن ان يتكفل الدليل الواحد بيان كلتا الجهتين، أعني عدم دخالة
تعلق الظن ودخالته، لأنه بيان للمتناقضين. فتدبر.
ثم إنه نبه في ضمن كلامه إلى أن موضوع الأدلة هو الظن والقطع لا
المظنون والمقطوع. فانتبه (1).
أقول: قد أشرنا إلى أن المحقق الأصفهاني يتفق بالنتيجة مع صاحب
الكفاية، ولكنه يختلف معه في الطريق، فكلامه ههنا أشبه بما تقدم منه من ايراده
على صاحب الكفاية في منعه لاخذ قصد الامر في متعلق الامر لأنه دور، - ايراده
عليه - بأنه ليس بدور ولكنه خلف، فليس بذي ثمرة عملية، وانما هو ذو ثمرة
علمية اصطلاحية، فكان علينا عدم التعرض إليه،.
ولكن المحقق الأصفهاني وان انتهى بكلامه إلى موافقة صاحب الكفاية
في الاختيار، لكننا بكلامه ننتهي إلى مخالفتهما معا - وبذلك تظهر لك ثمرة
التعرض لكلامه -.
وذلك: لان ما ينتهي إليه كلام المحقق الأصفهاني في النحو الأول هو
كون المحذور في عدم تكفل الدليل لكلا التنزيلين محذورا ثباتيا لا ثبوتيا.
وذلك: لان كلا من مفهومي القطع والمقطوع والظن والمظنون حاضر في
الذهن مستقلا بنفسه لغرض الملازمة بين القطع والظن وبين المقطوع والمظنون
فإذا جاء اللفظ الدال على القطع انتقل الذهن إليه كما انتقل إلى لازمه وهو

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 16 الطبعة الأولى.
77

المقطوع ومثله الظن.
وعليه، فلا مانع من أن يتكفل الدليل الواحد لكلا التنزيلين، إذ ليس
فيه أي محذور بعد أن كان المفهومان حاضرين بأنفسهما في الذهن.
وانما الكلام في دلالة الدليل على كلا التنزيلين. وهو بحث اثباتي.
وبهذا البيان يظهر لك الفرق بين كلام الكفاية وكلام الأصفهاني، فان
كلام الكفاية يرجع إلى كون المحذور ثبوتيا لا يرتبط بالدليل أصلا، بل يرتبط
بمقام الجعل، إذ هو يرى أنه لا يحضر في الذهن الا مفهوم واحد وهو مفهوم
القطع، فإذا أريد جعل كلا الامرين لزم لحاظه استقلاليا وآليا وهو ممتنع. واما ما
ذكره المحقق الأصفهاني فهو ينتهي إلى أن الحاضر في الذهن كلا المفهومين فلا
يلزم من اعتبار الامرين أي مانع.
وبما أن كلام الأصفهاني متين لا شائبة فيه، فلا بد من ايقاع البحث في
مقام الاثبات. وعليه فان قامت قرينة على تكفل الدليل لكلا التنزيلين فلا مانع
من الاخذ به.
ولا يخفى ان الذي يحتاج إلى القرينة هو تنزيل المؤدى منزلة المقطوع، إذ
تنزيل الامارة منزلة القطع هو ظاهر الكلام الأولى وغيره يحتاج إلى قرينة،
والانتهاء إلى هذا الوجه وان تفردنا به لكن منشأه ما أفاده المحقق الأصفهاني
(قدس سره).
وبما ذكرناه تنحل لدينا مشكلة كبيرة، إذ تنزيل الامارة منزلة القطع
الموضوعي له أثر عملي كبير يظهر ذلك في موارد متعددة في الفقه والأصول. فمن
الموارد: مورد استصحاب الحكم السابق الثابت بالامارة، إذ وقع الكلام فيه
باعتبار انه يعتبر في موضوع الاستصحاب اليقين السابق ولا يقين في المورد
المزبور لان الحكم ثابت بواسطة الامارة.
وقد تفصى عنه صاحب الكفاية: بان دليل الاستصحاب يتكفل جعل
78

الملازمة بين الحدوث والبقاء، فالدليل الدال على الحدوث يدل على البقاء بضميمة
دلالة الاستصحاب على الملازمة (1).
وهذا المعنى قابل للمناقشة والرد كما سيجئ ان شاء الله تعالى في محله.
ولا يخفى انه إذا قلنا بان الامارة تقوم مقام القطع الموضوعي تنحل
المشكلة، إذ الاستصحاب كما يترتب على اليقين بالحدوث يترتب على قيام الامارة
عليه. فلاحظ والتفت.
ثم إن اشكال صاحب الكفاية (رحمه الله) انما يجري بناء على أن المجعول
في باب الامارات هو المؤدى، بمعنى تنزيل الامارة منزلة القطع الطريقي يرجع
إلى جعل المؤدى بمنزلة الواقع.
واما بناء على كون المجعول هو المحرزية والكاشفية أو الحجية
أو المنجزية، بمعنى انه يتكفل تنزيلها منزلة العلم في إحدى هذه الجهات - على
اختلاف الآراء - وهي تقوم مقام القطع الطريقي بهذا اللحاظ، بناء على ذلك لا
مانع من تكفل دليل الاعتبار لكلا التنزيلين، إذ لم يلحظ سوى العلم والامارة،
فيمكن ان يقصد تنزيل الامارة منزلة العلم في مطلق آثاره الشرعية والعقلية،
فالتفت ولا تغفل.
هذا كله في قيام الامارات مقام القطع.
واما الأصول: فقد أوقع صاحب الكفاية الكلام أولا في غير الاستصحاب
فذكر انها لا تقوم مقام القطع أصلا حتى الطريقي المحض ببيان: ان المراد من
قيامها مقام القطع ترتيب آثاره واحكامه من التنجيز وغيره في موارد جريانها، ولا
يخفى ان الأصول العملية عبارة عن وظائف عملية مقررة للجاهل شرعا أو
عقلا، فهي في طول فقد المنجز والحجة على الواقع.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 405 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
79

ثم أورد على نفسه: بان الاحتياط منجز للواقع فلا مانع من الالتزام
بقيامه مقام القطع الطريقي. وأجاب عنه بان: الاحتياط قسمين: عقلي وشرعي.
اما العقلي: فليس هو الا حكم العقل بالتنجز وليس شيئا يترتب عليه
التنجز.
واما النقلي: فالزام الشارع به وان كان يترتب عليه التنجيز لكنا لا نقول
به في الشبهة البدوية وليس شرعيا في المقرونة بالعلم الاجمالي (1).
أقول: البحث في الأصول من هذه الجهة بحث لفظي صرف، إذ انه
لا موهم لقيامها مقام القطع الموضوعي، فينحصر البحث في قيامها مقام القطع
الطريقي.
ومن الواضح: ان مرجع البحث في هذه الجهة إلى أن الأصل المعلوم مفاده
واثره والمعلوم جريانه في موارده المقررة بلا شبهة ولا اشكال، هل مقتضى اثره
الثابت كونه قائما مقام القطع الطريقي أو لا؟.
ولا يخفى ان ذلك بحث لفظي، إذ لا يترتب على اثبات ذلك أو نفيه أي
أثر وأي تغيير في مقام جريان الأصل وترتب آثاره.
ولأجل ذلك لا يحسن بنا إطالة الكلام مع صاحب الكفاية والتعرض إلى
نقاط الاشكال في كلامه.
واما الاستصحاب: فقد ذكر صاحب الكفاية ان دليل اعتباره لا يفي
بقيامه مقام القطع الموضوعي، إذ دليله لا بد أن يكون مسوقا اما بلحاظ اليقين
أو بلحاظ المتيقن لما تقدم في الامارة (2).
أقول: عرفت الحال هناك فلا نعيد.
ثم إنه يبتني على الالتزام بجعل المستصحب في باب الاستصحاب.

(1) و (2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 265 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
80

واما بناء على أن دليل الاعتبار يتكفل جعل اليقين فمن الممكن ان
يتكفل باطلاقه تنزيله بلحاظ الموضوع والطريق.
واما بناء على أن المجعول في باب الاستصحاب هو اليقين ولكن بلحاظ
الجري العملي - كما عليه المحقق النائيني وناقشناه في محله - لا بلحاظ الكشف
والوسطية في الاثبات، فلا يقوم الاستصحاب مقام القطع الموضوعي أصلا حتى
الطريقي منه إذ لم تلحظ فيه جهة الكاشفية، وانما يقوم مقام القطع الطريقي
الصرف، فالتفت. هذا تمام الكلام في أصل المطلب.
يبقى الكلام فيما ذكره صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل في
تصحيح قيام الامارة أو الاستصحاب مقام القطع الموضوعي إذا كان جزء
الموضوع.
وبيان ما أفاده: ان دليل الامارة والاستصحاب وان تكفلا جعل المؤدى
والمستصحب وتنزيلها منزلة الواقع، لكن يثبت بطريق الملازمة ان القطع بهما -
بما هما منزلان منزلة الواقع - بمنزلة القطع بالواقع، فيثبت أحد جزئي الموضوع
بنفس مفاد دليل الاعتبار ويثبت الجزء الاخر بالملازمة، وبه يتم المطلب (1).
وقد حكم في الكفاية بان هذا الوجه لا يخلو من تكلف بل تعسف، وعلل
ذلك: بان الموضوع إذا كان مركبا من جزئين فلا يصح التعبد بأحد الجزئين ما لم
يكن الجزء الاخر محرزا بالوجدان أو بالتعبد في عرضه، إذ لا يعني للتعبد
بالموضوع الا ترتيب الأثر الشرعي عليه، والأثر لا يترتب إلا على كلا الجزئين
لا على أحدهما.
والتعبد بأحد جزئي الموضوع فيما نحن فيه وهو القطع بالواقع في طول
التعبد بالجزء الاخر وهو الواقع.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول / 8 - 9 الطبعة الأولى.
81

وذلك: لان الملازمة المدعاة هي الملازمة بين تنزيل القطع بالواقع التنزيلي
الحقيقي وبين تنزيل المؤدى منزلة الواقع.
ومن الواضح ان القطع بالواقع التنزيلي في طول تنزيل المؤدى فما لم
يتحقق تنزيل المؤدى لا يحصل القطع بالواقع التنزيلي، كي يتحقق تنزيله منزلة
القطع بالواقع الحقيقي.
وعليه، فالتعبد بأحد الجزئين في طول التعبد بالجزء الآخر، وهو لا ينفع،
ففي ظرف التعبد بالواقع وتنزيل المؤدى منزلته لا اثر شرعيا يترتب عليه فلا
يصح التعبد به، هذا خلاصة ما ذكره صاحب الكفاية ببعض توضيح منا (1).
والكلام في مقامين:
الأول: في أصل الوجه.
الثاني: في ما ذكره من منعه.
اما أصل الوجه الذي في الحاشية: فالكلام فيه من جهتين:
إحديهما: في بيان المراد من الملازمة المدعاة.
وقد قيل في بيانه وجوه ثلاث:
الأول: ان المراد بها الملازمة العقلية وبنحو دلالة الاقتضاء، إذ التعبد
بأحد الجزئين لا يصح من دون التعبد بالجزء الاخر، فإذا دل الدليل على التعبد
بأحدهما يدل بدلالة الاقتضاء وصونا لكلام الحكيم عن اللغوية على التعبد
بالجزء الآخر (2).
الثاني: ان المراد بها الملازمة العرفية، بمعنى ان الدليل الدال على التعبد
بالواقع وتنزيل المؤدى منزلته يدل عرفا بالالتزام على تنزيل القطع بالواقع الجعلي
* (هامش) (1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 266 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الرشتي الشيخ عبد الحسين. في حاشيته على الكفاية 2 / 20 - الطبعة الأولى. (*)
82

منزلة القطع بالواقع الحقيقي (1).
الثالث: - وهو ما ذكره المحقق الأصفهاني - ان يراد بها مجموع الدلالتين،
فان الدليل إذا دل على التعبد بأحد الجزئين يدل اقتضاء على التعبد بالجزء
الاخر. اما ان أي شئ نزل منزلة الجزء الاخر فهذا لا يرتبط بالعقل، بل العرف
يحكم به بحسب ما يراه مناسبا. ففيما نحن فيه إذا دل الدليل على التعبد بالواقع
فهو يدل اقتضاء على التعبد بالقطع، والعرف هو الذي يحكم بان ما نزل منزلة
القطع هو القطع بالواقع الجعلي (2).
ولا يخفى: ان الوجه على جميع احتمالاته غير تام - مع قطع النظر عن
اشكال صاحب الكفاية عليه - لأنه..
ان أريد به استلزام التعبد بالواقع للتعبد بالقطع بدلالة الاقتضاء، ففيه:
ان هذا لو تم في نفسه فإنما يتم لو كان دليل التعبد بالواقع دليلا خاصا، بحيث
إذا لم نلتزم بالتعبد بالجزء الآخر كان لغوا، لا ما إذا كان مطلقا لا يلزم من عدم
الالتزام بالتعبد بالجزء الاخر سوى عدم شموله للمورد مع شموله لموارد أخرى،
وما نحن فيه كذلك، إذ دليل اعتبار الاستصحاب والامارة مطلق يشمل هذا
المورد وغيره في نفسه لكنه لا يشمله فعلا لتوقفه على مؤونة زائدة لا تثبت
بالاطلاق.
ولعل هذا الوجه هو الذي دعا إلى تفسير الملازمة في كلام الكفاية
بالملازمة العرفية. ومنه ظهر الاشكال في الوجه الثالث.
وان أريد بالملازمة الاستلزام العرفي، ففيه: انها مجرد دعوى بلا شاهد
عليها من الوجدان، إذ لا يرى العرف والوجدان هذه الملازمة. فتدبر.
* (هامش) (1) الواعظ محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 41 - الطبعة الأولى.
الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 28 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 21 - الطبعة الأولى. (*)
83

واما ما ذكره في وجه المنع، فقد تطابق الاعلام الثلاثة " النائيني
والأصفهاني والعراقي " على تفسيره بالدور (1)، ببيان: ان تنزيل القطع بالواقع
التنزيلي يتوقف على القطع بالواقع التنزيلي، وهو يتوقف على الواقع التنزيلي،
وهو يتوقف على تنزيل القطع به منزلة الواقع، من باب توقف التعبد بأحد جزئي
الموضوع على التعبد بالجزء الاخر.
ولكن لا صراحة، بل لا ظهور في كلام صاحب الكفاية فيما حمل عليه.
نعم في تعبيره بالتوقف مجرد إشعار، ولكنه كما يمكن ان يريد به ذلك
يمكن ان يريد به التوقف بمعنى التلازم، كما يقال: أحد الضدين يتوقف على
عدم الاخر، مع أنه لا علية ولا معلولية بينهما.
وعليه، فمن الممكن ان يقال ان مراد صاحب الكفاية ليس هو محذور
الدور، بل ما ذكرناه سابقا في مقام بيان مراده، من أن التعبد بأحد الجزئين - فيما
نحن فيه - لما كان في طول الاخر، كان التعبد بالاخر في ظرفه ممتنعا لعدم ترتب
الأثر عليه وحده، والغرض ان الجزء الاخر لا يتحقق الا بعد التعبد به. فملخص
الاشكال، ان التعبد بالمؤدى لا أثر له شرعا وهو يمنع من صحة التعبد، إذ التعبد
بالموضوع لا معنى له الا التعبد بالحكم.
فمرجع كلام الكفاية: إلى أنه لا بد أن يكون التعبد بأحد الجزئين في حين
التعبد بالجزء الاخر، لا ان التعب بأحدهما يتوقف على التعبد بالاخر. والا لزم
الدور حتى في مورد التعبد بالجزئين في عرض واحد كما لا يخفى. وقد أورد عليه
المحقق الأصفهاني: بان الحكم الثابت للموضوع المركب ان كان قابلا للتحليل
أمكن التعبد بكل جزء على حده لترتب الأثر عليه نفسه، وإن لم يكن قابلا

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 22 - الطبعة الأولى.
الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 28 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 26 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
84

للتحليل - كما هو الحال فيما نحن فيه، إذ التركيب في الموضوع لا المتعلق - لا
معنى للتعبد بأحد الجزئين، إذ لا يترتب الأثر عليه، فالمحذور من هذه الجهة لا
من جهة الدور. انتهى ملخصا.
وأنت خبير بان هذا الايراد يبتني على تفسير كلام الكفاية بإرادة الدور،
ولكن عرفت أنه يمكن حمل كلامه على غير الدور، وهو ما ذكرناه الذي يتفق
مع ايراد الأصفهاني، فاذن لا وقع لكلام الأصفهاني.
وقد تفصى المحقق العراقي عن محذور الدور السابق، بان ما يترتب على
التعبد بالواقع وتنزيل المؤدى هو الحكم التعليقي وهو الذي يتوقف عليه التعبد.
اما ما يترتب على مجموع الجزئين فهو الأثر الفعلي فيتغاير الموقوف عليه
مع الموقوف عليه.
ولم يرتض المحقق الأصفهاني هذا التفصي، واستشكل فيه بما لا يخلو عن
غموض واجمال.
وتوضيح الايراد عليه: انه يقع الكلام في مبحث استصحاب الحكم
التعليقي في واقع الحكم التعليقي، والاحتمالات فيه ثلاثة:
أحدها: انه عبارة عن حكم وضعي ينتزع عن حكم تكليفي، كسائر
الأحكام الوضعية على رأي الشيخ الأنصاري (رحمه الله).
ثانيها: انه عبارة عن مرتبة من مراتب الحكم نظير اختلاف الحكم في
الانشاء والفعلية.
ثالثها: انه عين الحكم الفعلي ولكنه بإضافته إلى مجموع الجزئين حكم
فعلي وبإضافته إلى أحد جزئي الموضوع حكم تعليقي، فالفعلية والتعليقية وصفان
لحكم واحد يتحققان باختلاف الإضافة.
وقد أورد على الأول: بأنه لا يصح جريان الاستصحاب في الحكم
التعليقي، لأنه وان كان امرا بيد الشارع بلحاظ منشأ انتزاعه لكن استصحاب
85

الامر الانتزاعي لا ينفع في اثبات الحكم الفعلي في الخارج الا بنحو الأصل
المثبت.
واما الثاني: فلم يتوهمه أحد كي يرتفع به محذور الدور.
فيتعين الاحتمال الثالث، ومعه لا يرتفع محذور الدور إذ الحكم واحد لا
تعدد فيه، وثبوته يتوقف على التعبد بكلا الجزئين. فالتفت.
والمتحصل: ان ما ذكره صاحب الكفاية في الحاشية، مضافا إلى عدم
الدليل عليه يستلزم المحذور المتقدم. فتدبر جيدا.
الجهة السادسة: في القطع بالحكم المأخوذ موضوعا للحكم وصوره
أربعة:
الأولى: أن يكون مأخوذا في موضوع نفس الحكم الذي تعلق به.
الثانية: أن يكون مأخوذا في موضوع حكم مماثل لما تعلق به.
الثالثة: أن يكون مأخوذا في موضوع مضادا لما تعلق به.
الرابعة: أن يكون مأخوذا في موضوع حكم مخالف لما تعلق به، كما إذا
قال المولى: إذا قطعت بوجوب الصلاة يجب عليك التصدق أو يستحب أو نحو
ذلك.
ولا اشكال في صحة القسم الأخير، إذ لا وجه لتوهم عدم صحته أصلا.
وانما الاشكال في الأقسام الأخرى.
اما القسم الأول: وهو ما أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس الحكم
الذي تعلق به القطع، فلا اشكال في امتناعه وعدم امكانه.
الا انه وقع الكلام في بيان سر الامتناع وجهته وقد ذكرت في هذا المقام
وجوه:
الأول: ما أشار إليه صاحب الكفاية من استلزامه الدور.
وقد قرب استلزامه الدور: بان القطع بالحكم مما يتوقف على الحكم بداهة
86

توقف العارض على معروضه، فإذا أخذ القطع به موضوعا له كان متوقفا عليه
توقف الحكم على موضوعه. ونتيجة ذلك توقف الحكم على نفسه (1).
وأورد عليه المحقق الأصفهاني بما حاصله: ان ما يتوقف على القطع غير
ما يتوقف عليه القطع، فان ما يتوقف عليه القطع هو الصورة الذهنية للحكم،
لان القطع لا يتعلق بالموجودات الخارجية، لأنه من الأمور النفسية الذهنية، وهي
انما تتعلق بالصور الذهنية دون الخارجية، والا لزم انقلاب الذهن خارجا أو
الخارج ذهنا، فالقطع عارض على الوجود الذهني للحكم، وما يتوقف على القطع
هو الوجود الخارجي للحكم، وعليه فيتغاير الموقوف عليه والموقوف عليه (2).
وبنظير هذا البيان يدفع محذور الدور الذي ذكره في الكفاية في اخذ قصد
الامر في متعلق الامر، وقد ذكره صاحب الكفاية هناك وقرره ولم يدفعه (3).
ولأجل ذلك لا يمكننا اسناد هذا البيان للدور إلى صاحب الكفاية بعد
وضوح اشكاله وتقرير صاحب الكفاية نفسه للاشكال.
الثاني: ما ذكره المحقق النائيني ونقله عنه المحقق الأصفهاني باختصار:
من استلزام اخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه للدور أيضا، ولكن بتقريب آخر
غير السابق، وهو: ان موضوع الحكم يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود بمعنى
ان الحكم يثبت عند فرض وجود الموضوع، وكما يؤخذ نفس الموضوع مفروض
الوجود كذلك يؤخذ متعلق الموضوع وقيده، فإذا فرض كون القطع بالحكم
موضوعا يلزم أن يكون القطع مأخوذا بنحو فرض الوجود، فكذلك متعلقه وهو
الحكم يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود، فيلزم فرض ثبوت الحكم عند فرض
وجوده وثبوته، وهذا يستلزم فرض ثبوت الحكم قبل ثبوته أو تعليق الحكم على

(1) و (2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 22 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 73 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
87

نفسه، وفرض ثبوت الشئ قبل ثبوته أو تعليق الشئ على نفسه محال واضح (1).
وهذا البيان للدور ذكره في مورد أخذ قصد الامر في متعلق الامر، وذكر أنه
سار لاخذ كل قيد يكون لاحقا عن الحكم، كالعلم بالحكم ونحوه.
ورده المحقق الأصفهاني (رحمه الله) بوجهين:
أحدهما: ان متعلق العلم لما كان هو الوجود الذهني للحكم، سواء كان
هناك خارج أم لا، كان مفروض الوجود هو الوجود الذهني له، والثابت على
تقديره ومعلقا عليه هو الوجود الخارجي له، فلا يلزم تعليق الشئ على نفسه أو
فرض ثبوت الشئ قبل ثبوته، للتغاير بين الوجود الخارجي للحكم والذهني.
وثانيهما: ان الوجود الفرضي للشئ غير الوجود التحقيقي له، ولا مانع
من تعليق الوجود التحقيقي للحكم على الوجود الفرضي له، والمأخوذ في
الموضوع هو الوجود التقديري الفرضي للحكم وهو غير وجوده التحقيقي،
فتدبر (2).
ويمكن الخدشة في كلا الوجهين:
اما الأول: فلانه انما يتم لو كان المأخوذ في موضوع الحكم مجرد العلم به
بلا قيد مصادفته للواقع - بان لم يتعلق الغرض بالواقع بالمرة -، فإنه يقال حينئذ:
بان فرض العلم بالحكم لا يلازم فرض الوجود الواقعي للحكم، بل غاية ما يلازم
فرض الوجود الذهني له، لأنه هو متعلق العلم، ولا ملازمة بين العلم والواقع
بحال.
واما إذا فرض ان المأخوذ هو العلم المصادف للواقع، فلا يتم ما ذكره لان
متعلق العلم وإن لم يكن هو الواقع، بل كان الوجود الذهني للحكم، لكن فرض

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 148 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأصفهاني المحقق محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 23 - الطبعة الأولى.
88

العلم بهذا القيد ملازم لفرض الوجود الواقعي للحكم، وعليه فيستلزم فرض
ثبوت الحكم قبل ثبوته، وهو محذور الدور.
نعم، التقريب المذكور وان تم على ما ذكرناه، لكنه يكون أخص من
المدعى، إذ المدعى امتناع اخذ العلم بالحكم في موضوع نفس الحكم مطلقا، أخذ
بلا قيد المصادفة أم معه.
ثم إن التقريب المزبور انما يفرض في مورد فرض اخذ القطع بالحكم
الفعلي المتحقق - بنحو يساوق الماضوية وخصوصية الفعل الماضي المدعاة فيه
بعد انكار دلالته على الزمان الماضي وهي خصوصية التحقق -.
وعليه، فلا يتوجه عليه ما أشير إليه أيضا في كلام المحقق الأصفهاني،
بان العلم لا يلازم وجود متعلقه فعلا، بل يمكن ان يود في المستقبل، فيوجد
العلم فعلا ويوجد متعلقه استقبالا، وذلك لأنه انما يتم لو كان متعلق العلم امرا
استقباليا لا امرا فعليا متحققا كما هو المفروض. فلاحظ.
واما الثاني: فهو غريب الصدور من مثل المحقق الأصفهاني، إذ المحقق
النائيني وان عبر بفرض الوجود، لكنه لا يقصد كون موضوع الحكم هو الوجود
الفرضي للشئ المأخوذ في لسان الدليل، بل يقصد ان مفاد القضية الشرعية
المتكفلة للحكم الشرعي مفاد الفرض والتقدير، فهي تفيد فرض الحكم عند
فرض وجود الموضوع، ومرجع ذلك إلى تعليق نفس وجود الحكم على وجود
الموضوع حقيقة، ولذا لا يلتزم بترتب الحكم فعلا الا عند وجود الموضوع حقيقة
. وخارجا. اذن فالمعلق عليه في الفرض هو الوجود التحقيقي للحكم لا الفرضي،
فيلزم المحذور المزبور.
الثالث: ما ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية تحت عنوان
" والتحقيق... "، وتوضيحه بتلخيص: ان الحكم معلقا على القطع بالحكم تارة
يكون بنحو القضية الخارجية. وأخرى بنحو القضية الحقيقية.
89

فعلى الأول: بان يحكم المولى على من حصل لديه العلم بالحكم، لا خلف
ولكن لازمه اللغوية، إذ الحكم انما هو لجعل الداعي، ومع علم المكلف بالحكم لا
يكون جعل الحكم في حقه ذا أثر من هذه الجهة.
وعلى الثاني: يلزم الخلف، إذ مع جعل المولى هذه القضية، أعني ثبوت
الحكم عند تحقق العلم به ووصولها إلى المكلف، يستحيل ان يتحقق العلم بالحكم،
وما يبتني على امر محال محال (1).
الرابع: وهو ان تعليق الحكم في الذهن على العلم به يستلزم عدم محركيته
وداعويته، وذلك لان المكلف إذا فرض انه جزم بثبوت الحكم خارجا واعتقد
بتحققه فهو يرى ان الحكم موجود في الخارج، والموجود لا يقبل الوجود والتحقق
ثانيا.
وعليه، فهو يرى ان ثبوت الحكم عند علمه به محال، ومعه لا يكون الحكم
محركا وداعيا، إذ الداعوية تتقوم بالوصول، والمفروض ان المكلف يرى محالية
ثبوته، فيستحيل جعله حينئذ. وهذا وجه بسيط لا إلتواء فيه.
ونتيجة ذلك: ان تعليق الحكم على العلم به أمر ممتنع عقلا ولا يمكن
الالتزام به.
واما القسم الثاني والثالث: أعني كون القطع بالحكم مأخوذا موضوعا
لحكم مماثل لمتعلقه أو مضاد له. فقد ذهب صاحب الكفاية إلى محاليتهما استلزام
الأول اجتماع المثلين والثاني اجتماع الضدين (2).
والتحقيق: انه قد تقدم الكلام في تضاد الاحكام وتماثلها - في مبحث
اجتماع الأمر والنهي - وقد عرفت التزام المحقق الأصفهاني بعدم تضادها الا من

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 23 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 267 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
90

ناحية المنتهى، أعني مقام الامتثال، إذ يمتنع امتثال الحكم الزاجر والحكم
الباعث في عرض واحد، لامتناع تحقق الانزجار والانبعاث في آن واحد، وهكذا
يمتنع تحقق داعيين مستقلين نحو فعل واحد في آن واحد، ونتيجة ما ذكره: انه لا
يتحقق التعارض فيما لو كان أحد الحكمين مجهولا لعدم محركية نحو متعلقه، فلا
يتحقق التكاذب بين دليليهما، على خلاف الحال فيما لو قيل بتحقق التضاد في
المبدأ، إذ لا يرتبط ذلك بالعلم والجهل، بل وجود المصلحة والمفسدة والإرادة
والكراهة واقعي (1).
كما عرفت - هناك - مخالفتنا مع المحقق الأصفهاني والتزامنا بالتضاد في
المبدأ أيضا، إذ لا يمكن اجتماع مصلحة ومفسدة ملزمتين، ونتيجته عدم اجتماع
الكراهة والإرادة لأنهما ينشئان بلحاظ وجود المفسدة الراجحة والمصلحة
الراجحة، بل اما ان تتساوى المصلحة والمفسدة فلا إرادة ولا كراهة، واما ان
ترجح المصلحة فتتحقق الإرادة أو المفسدة فتتحقق الكراهة. وهكذا يلتزم بعدم
امكان تحقق إرادتين مستقلتين بفعل واحد، لا من جهة عدم امكان تحقق
مصلحتين ملزمتين، فإنه ممكن لا محذور فيه، وانما هو جهة ان تعدد المصلحة
لا يصير منشئا لتعدد الإرادة، بل يصير منشئا لحصول إرادة واحدة أكيدة.
فعدم اجتماع المثلين يختلف عن عدم اجتماع الضدين من الحكمين،
فالمقصود من عدم اجتماع المثلين عدم اجتماعهما بحدهما مع وجودهما بواقعهما،
بخلاف المقصود من عدم اجتماع الضدين فان المراد به عدم اجتماعهما بواقعهما
- نعم لا تضاد ولا تماثل بين الانشائين، فان الانشاء خفيف المؤونة -.
وعلى ما ذكرناه واخترناه نقول: انه لا يمكن اجتماع حكمين متماثلين -
كوجوبين - مستقلين في الداعوية والحد، بل يمكن اجتماع حكمين بنحو التأكد.

(1) راجع 3 / 81 - 82 من هذا الكتاب.
91

بمعنى أن يكون هناك حكم واحد مؤكد لامكان اجتماع مصلحتين توجبان تأكد
الإرادة وهي توجب تأكد البعث، بمعنى أنها توجب انشاء البعث المؤكد، فان
الحكم هو التسبيب للبعث الاعتباري العقلائي، وبما أن البعث يتصف خارجا
بالشدة والضعف أمكن اعتبار البعث الأكيد كما أمكن اعتبار البعث الضعيف.
ومما يشهد لصحة ما ذكرناه صحة تعلق النذر بواجب وانعقاده، ولازمه
تأكد الحكم، ولم يتوهم أحد ان وجوب الوفاء بالنذر في المقام يستلزم اجتماع
المثلين المحال، كما يشهد له شمول الحكمين الاستغراقيين لما ينطبق عليه
موضوعا هما نظير العالم الهاشمي الذي ينطبق عليه: " أكرم العالم " و " أكرم
الهاشمي "، ولم يتوهم خروج المورد عن كلا الحكمين لاستلزامه اجتماع المثلين.
ومما يقرب ما نقوله أيضا في اجتماع المثلين، انه لم يرد في العبارات بيان امتناع
وجوب الإطاعة شرعا من باب انه يستلزم اجتماع المثلين، مع أن البعض يرى
ان الإطاعة عبارة عن نفس العمل، أو انها وان كانت من العناوين الانتزاعية،
لكن الامر بالأمر الانتزاعي يرجع إلى الامر بمنشأ انتزاعه - كما عليه المحقق
النائيني -، بل ادعى كون محذوره التسلسل ونحوه مما يظهر منه ان اجتماع
المثلين بالنحو الذي ذكرناه أمر صحيح ارتكازا.
وبالجملة: التماثل بمعنى التأكد ووجود واقع الحكمين لا مانع منه. واما
اجتماع حكمين مستقلين متماثلين، فلا نقول به لامتناعه مبدأ ومنتهى.
وعليه، فلا مانع من تعليق حكم مماثل على القطع بالحكم إذا كان بنحو
التأكد.
واما ثبوت حكمين متضادين فهو غير معقول - كما عرفت -، إذ مع
اجتماع المصلحة والمفسدة الملزمتين اما لا إلزام إذا تساويتا أو تترجح إحداهما
فيكون الحكم على طبقها.
وعليه، فاخذ القطع بالحكم موضوعا لحكم مضاد لمتعلقه ممتنع.
92

واما ما ذكره المحقق الأصفهاني تابعا للمحقق الطهراني في أن البعث امر
انتزاعي ينتزع عن الانشاء (1)، فهذا مما لا أساس له، وسيأتي التعرض لتحقيق
ذلك في غير مجال ان شاء الله تعالى.
ثم إنه ذكر صاحب الكفاية وانه لا مانع من اخذ القطع بمرتبة من مراتب
الحكم موضوعا لنفس الحكم في مرتبة أخرى أو لمثله أو ضده. وقبل تحقيق هذه
الجهة لا بأس بالتعرض إلى بيان مراتب الحكم وما قيل حول كلام الكفاية، إذ
قد تكرر التعرض لها في الكفاية تصريحا وإشارة ولم يسبق منا تحقيق الكلام فيها،
فنقول ومن الله نستمد العصمة والتوفيق: ذكر صاحب الكفاية ان للحكم مراتب
أربعة:
أولها، أولها مرتبة الاقتضاء وهي أن يكون له شأنية الثبوت بلحاظ وجود
المصلحة المقتضية له.
ثانيها: مرتبة الانشاء، وهي ان ينشأ الحكم ويوجد بوجود انشائي بلا ان
يصل إلى مرحلة البعث أو الزجر.
ثالثها: مرتبة الفعلية، وهي ان يصل الحكم إلى مرحلة البعث أو
الزجر أو الترخيص الفعلي.
رابعها: مرتبة التنجز، وهي أن يكون الحكم مما يعاقب العبد على
مخالفته (2).
وقد استشكل المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية في عد مرحلة
الاقتضاء ومرحلة التنجز من مراحل الحكم، ومنع صحة صدق الحكم الاقتضائي،

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 270 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول / 36 - الطبعة الأولى.
الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 258 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
93

وأطال في بيان ذلك (1).
والواقع: ان المناقشة لفظية اصطلاحية، إذ الواقع الذي يقول به صاحب
الكفاية ويعرف به كلتا المرتبتين لا ينكره أحد، فلا ينكر أحد انه قد يوجد ملاك
الحكم ومصلحته الباعثة لجعله ولكن يكون مانع يمنع عن انشائه كغفلة المولى
أو نحو ذلك، كما لا ينكر أحد ان الحكم قد يصل إلى حد يحكم العقل بقبح
مخالفته واستحقاق العقاب عليها.
وانما الاشكال في صحة اطلاق الحكم الاقتضائي على الحكم بلحاظ
المرحلة الأولى، وان الأولى اطلاق الحكم الشأني عليه ونحو ذلك.
واما مرتبتا الانشاء والفعلية، فهما ليستا من مختصات صاحب الكفاية،
بل ذهب إليهما المحقق النائيني بفصله مرتبة الجعل عن مرتبة المجعول، وان مرتبة
الجعل هي انشاء الحكم فقط واما المجعول فهو الحكم الفعلي (2).
لكن المحقق الأصفهاني استشكل في وجود مرتبة الفعلية غير مرتبة
الانشاء والتنجز، فذكر ان المقصود بالفعلي ان كان هو الفعلي من قبل المولى،
فهو ليس إلا الانشاء. وان كان هو الفعلي بقول مطلق ومن جميع الجهات فهو
يساوق الوصول، فيكون هو الحكم المنجز.
وأوضح كون الفعلي من قبل المولى عين الانشاء، ببيان: إن الانشاء ان
كان بلا داع فهو محال عقلا على الحكيم لكونه لغوا. وان كان بداعي غير جعل
الداعي كالتهديد أو التمني أو غيرهما فلا يكون مصداقا للحكم بحال من
الأحوال، ولا يكون من مراحل الحكم، بل يكون مصداقا للتهديد أو غيره. وان
كان بداعي جعل الداعي فهو الفعلي من قبل المولى (3).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 6 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 127 - الطبعة الأولى.
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 24 - 25 - الطبعة الأولى.
94

أقول: من الواضح الذي لا يقبل الانكار ان للحكم وجودا بعد الانشاء،
فيقال: بان وجوب الصلاة ثابت وحرمة شرب الخمر ثابتة، ولا يمكن ان يقصد
من الحكم المتصف بالثبوت الفعلي هو الانشاء، إذ الانشاء ليس إلا استعمال
اللفظ في المعنى بقصد خاص، وهو امر متصرم الوجود لا بقاء له، ولا يمكن أن يكون
الحكم الثابت امرا انتزاعيا انتزع عن نفس الانشاء، لان الامر الانتزاعي
يدور مدار منشأ انتزاعه، وقد عرفت أن الانشاء متصرم الوجود، فلا بد أن يكون
امرا اعتباريا عقلائيا - لا شخصيا لعدم التزامه به - مسببا عن الانشاء، وإذا
فرض ان الحكم امر اعتباري مسبب عن الانشاء فقد ينشأ الحكم ويقصد تحقق
اعتباره فعلا فلا ينفك عن الانشاء، كما يمكن ان يقصد تحققه بالانشاء على
تقدير وجود أمر غير حاصل، فينفك الحكم الفعلي عن الانشاء. إذن فالحكم
الفعلي غير الانشاء ويمكن انفكاكه عنه.
ونظيره تشريع القوانين في المجالس النيابية، ولكن لا تنفذ وتكون فعلية
المجرى إلا بعد مدة طويلة حتى مع علم الناس بتشريعها.
وبالجملة: انفكاك الانشاء عن فعلية الحكم امر واضح في العرفيات
والشرعيات.
واما ما ذكره من البيان لتقريب ان الانشاء عين الفعلية.
فيمكن دفعه: بأنه يمكن أن يكون الانشاء بداعي جعل الداعي لكن لا فعلا،
بل على تقدير حصول شرط خاص، وهذا يكفي في رفع اللغوية، كما يصحح وقوع
الانشاء في مراحل الحكم وصيرورته مصداقا للحكم، بل قد يحتاج إليه المولى
كما لو علم أنه يكون نائما عند حصول الشرط.
وملخص الجواب: ان الانشاء بهذا الداعي قابل التحقق، وهو لا يساوق
فعلية الحكم وثبوته في مقام الاعتبار، كما يكون مصداقا للحكم عند حصول
شرطه، وليس نظير الانشاء بداعي التهديد، فإذا تحقق الشرط تحققت الإرادة
95

الجدية وتحقق البعث الاعتباري الفعلي، وانما يتنجز بالوصول. اذن فالمراتب
ثلاثة.
ونتيجة الكلام: هو ان الانشاء غير الفعلية.
لكن يبقى شئ وهو: دعوى أن الحكم الانشائي خارجا لا ينفك عن
الحكم الفعلي.
وذلك: لان المنشأ ان كان هو الحكم بلا تقدير شئ ثبت الحكم الفعلي
بمجرد الانشاء، وان كان هو الحكم على تقدير شئ لم يحصل بعد، فكما لا يثبت
الحكم الفعلي لعدم حصول شرطه كذلك لا يثبت الحكم الانشائي للمكلف
الفاقد للشرط، إذ المنشأ كان هو الحكم على تقدير فلا معنى لان يقال لفاقد
الشرط انه قد أنشئ الحكم في حقه.
فملخص الدعوى: هو منع انفكاك الحكم الانشائي عن الفعلي في مقام
الارتباط بالموضوع الخارجي، وان صحت دعوى انفكاك الحكم الانشائي عن الفعلي في مقام
الارتباط بالموضوع الخارجي، وان صحت دعوى انفكاك الانشاء عن الفعلية في
أنفسها.
ولا يخفى: ان تحقيق هذه الجهة ينفعنا في مقامات كثيرة.
منها: مسألة الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي حيث التزم البعض (1)
بان الحكم الواقعي بالنسبة إلى الجاهل هو انشائي لا فعلي.
وهذا يبتنى على امكان التفكيك بين المرحلتين خارجا، وبالإضافة إلى
الموضوع الخارجي كما لا يخفى.
وعليه نقول: ان هذا الاشكال انما يرد، وهذه الدعوى انما تتوجه، بناء
على الالتزام في معنى الانشاء بما هو المشهور من انه استعمال اللفظ بقصد ايجاد
المعنى في وعائه الاعتباري المناسب له، فإنه إذا التزم بذلك يتوجه عليه:

(1) الخراساني المحقق محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول / 37 - الطبعة الأولى.
96

أولا: بأنه ليس لدينا ما نعبر عنه بالحكم الانشائي، إذ ليس لدينا الانشاء الا
الانشاء و الاعتبار العقلائي، وكل منهما ليس هو الحكم الانشائي، إذ الانشاء
متصرم الوجود كما عرفت والاعتبار العقلائي هو الحكم الفعلي، فأين هو الحكم
الانشائي الذي يدعى ثبوته للمكلفين مع عدم الفعلي.
ثانيا: لو أغمضنا النظر عن هذا الايراد - بان الحكم الانشائي
المفروض ثبوته لا يمكن انفكاكه خارجا عن الحكم الفعلي، لما تقدم من انه اما
ان ينشأ الحكم بلا تقدير أو مع تقدير، فعلى الأول: يتحقق الحكم الفعلي كما
يتحقق الانشائي بمجرد الانشاء. وعلى الثاني: كما لا يتحقق الفعلي عند الانشاء
كذلك لا يتحقق الانشائي، وانما يتحققان معا عند تحقق التقدير.
واما بناء على ما ذهب إليه صاحب الكفاية في معنى الانشاء من انه ايجاد
المعنى بوجود انشائي يكون موضوعا للاعتبار العقلائي وللآثار (1)، فلا تتوجه
عليه الدعوى المتقدمة.
وذلك: لان انشاء الحكم عبارة عن ايجاده بنحو وجود انشائي ويترتب
عليه الاعتبار العقلائي.
وعليه، فلا يرد الوجه الأول، إذ لدينا ما نعبر عنه بالحكم الانشائي غير
الانشاء والاعتبار العقلائي وهو الوجود الانشائي للحكم، ولا يرد الوجه الثاني،
إذ التفكيك بين الوجود الانشائي للحكم والوجود الفعلي الحقيقي ممكن، إذ
يمكن أن يكون القيد المأخوذ قيدا للاعتبار والحكم الفعلي دون الوجود
الانشائي، فيتحقق الوجود الانشائي قبل القيد ولا يتحقق الفعلي.
نعم، يبقى سؤال وهو: انه ما الأثر في الوجود الانشائي مع عدم الفعلية؟.
وجوابه: ما تقدم من انه يكفي اثرا له، أنه يكون موضوعا للاعتبار
* (هامش) (1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 66 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع). (*)
97

العقلائي عند تحقق شرطه بلا احتياج إلى انشاء جديد، بل يثبت ولو كان الامر
غافلا بالمرة، فيكون المقصود بايجاد الحكم انشاء هو جعل الداعي على تقدير
حصول الشرط، وهذا أثر مصحح للعمل، وموجب لان يكون الوجود الانشائي
من مراحل الحكم، لا كما إذا كان المقصود منه التهديد ونحوه.
وبما أنه ابتنى الاشكال اثباتا ونفيا على مذهب المشهور ومذهب صاحب
الكفاية في معنى الانشاء، فلا بد من نقل الكلام إلى ترجيح أحد المذهبين.
والذي نراه ان مذهب صاحب الكفاية هو المتجه، فإنه وان ذكره صاحب
الكفاية بنحو الدعوى بلا ان يقيم الدليل عليه، لكنه لا يحتاج إلى كثير
استدلال، فإنه امر وجداني، ولذا نرى من ينكر على صاحب الكفاية مذهبه،
يلتزم به ارتكازا كالمحقق النائيني (1) الذي التزم - في مقام تصحيح عقد الفضولي
بالرضا المالكي المتأخر - بان الامضاء والرضا يتعلق بوجود مستمر للمعاملة لا
بنفس الانشاء لعدم صحة تعلق الرضا بالانشاء، وبذلك يربط المعاملة بالمالك
فيشملها دليل: (أحل الله البيع) - مثلا -، وان قامت القرينة القطعية على إرادة
البيع الصادر من المالك.
والتزم أيضا بان الفسخ يتعلق بالوجود الانشائي للحكم لا بالمجعول مع أنه
يقول ليس لدينا الا جعل ومجعول، وقد تصرم الجعل لأنه الانشاء.
كما أن بالالتزام بمذهب صاحب الكفاية ينحل الاشكال في مثل معاملة
الغاصب والفضولي، فان الانشاء إذا كان بقصد تحقق المعنى في عالم الاعتبار
العقلائي - كما عليه المشهور - لم يتأت القصد من الغاصب والفضولي لعلمهما
بعدم ترتب الاعتبار على مجرد انشائهما.
وعليه فلا يتأتى الانشاء من الغاصب، مع أن تحقق البيع منه ونسبته إليه

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 88 - الطبعة الأولى.
98

امر لا يقبل الانكار.
وهو يتجه على مذهب صاحب الكفاية، إذ ايجاد البيع انشاء يتأتى منهما
فيصح ان يقصدا بالانشاء وجوده انشاء، وإن لم يترتب الاعتبار عليه ما لم ينضم
إليه رضا المالك.
وبالجملة: ان الاعلام وإن لم يصرحوا بالتزامهم بمذهب صاحب الكفاية
لكنهم صرحوا في بعض الموارد بما يستلزمه والتزموا بآثاره. فتدبر.
يبقى الكلام: فيما ذهب إليه المحقق النائيني من وجود مقامين للحكم:
أحدهما: مقام الجعل. والاخر: مقام المجعول. وان مقام الجعل قد ينفك عن
المجعول، فيتحقق انشاء الحكم، ولكن لا يكون فعليا الا بعد حصول شرطه -
لو كان له شرط -. فإنه قد تكرر منه التصريح بهذا المطلب (1).
وأورد عليه المحقق الأصفهاني: بان الجعل والمجعول كالايجاد والوجود
متحدان واقعا وحقيقة ومختلفان اعتبارا، فكيف يمكن تصور انفكاك أحدهما عن
الاخر (2)؟.
وتفصى المحقق العراقي عن ذلك: بان المجعول لا ينفك عن الجعل، بل
يكون فعليا بالجعل، لكن لا يلزم ان تترتب عليه الآثار العقلائي بمجرد الجعل،
بل يمكن أن يكون ترتبها معلقا على شئ، فالتعليق والتقدير لا يرجع إلى فعلية
المجعول وانما يرجع إلى فاعليته، بمعنى ترتب الآثار عليه، ولا مانع من التفكيك
بين فعلية شئ وفاعليته.
أقول: لا بد من ايقاع البحث من جهتين:

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 141 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 297 هامش رقم (1) طبعة مطبعة
الطباطبائي.
99

الأولى: ما تقدم من الاشكال على المذهب المشهور في الانشاء القائل
بان الانشاء عبارة عن الاستعمال بقصد تحقق معناه في الوعاء المناسب له، من
انه يلزم أن لا يكون لدينا حكم انشائي إذ الانشاء متصرم الوجود، كما لا يمكن
تحقق الحكم الانشائي خارجا قبل الحكم الفعلي، فإنه بعينه يرد على مذهب
المحقق النائيني، إذ لا يرى وجودا سوى الجعل وهو الانشاء والمجعول وهو
الحكم الفعلي، فأين هو الحكم الانشائي؟ وكيف ينفك خارجا عن الحكم الفعلي؟.
وقد عرفت انحصار التخلص عن هذا الاشكال بالالتزام بمذهب
صاحب الكفاية في الانشاء. فراجع.
الثانية: في أصل مطلبه من انفكاك الجعل عن المجعول وانه صحيح أولا.
والحق: ان ايراد المحقق الأصفهاني غير وارد، وذلك لان الجعل في نظر
المحقق النائيني هو انشاء الحكم والمجعول هو نفس الحكم الذي حقيقته حقيقة
اعتبارية تدور مدار اعتبار المعتبر وجوادا وعدما.
وإذا فرض ان الحكم امر اعتباري - إذ لو كان عبارة عن الإرادة
والكراهة لم يكن لدينا جعل ومجعول -، فليست نسبة الانشاء إليه نسبة الايجاد
والوجود والتصور والمتصور، إذ تحقق الحكم بالاعتبار وهو فعل العقلاء أنفسهم،
وهل يتوهم انه متحد مع انشاء المولى؟، وقد نظره بالرمي الذي يكون سببا
لإصابة الهدف فان إصابة الهدف تنفك عن الرمي، وبالوصية التمليكية فان
الملكية بعد الموت والوصية قبله.
نعم، الاعتبار والمعتبر كالتصور والمتصور والايجاد والوجود لا ينفكان،
ولكنه (قدس سره) لم يرد من الجعل الاعتبار، بل أراد به الانشاء
وبالجملة: لا وجه للايراد عليه بان الجعل والمجعول متحدان حقيقة بعد أن
كان المراد من الجعل هو الانشاء ومن المجعول هو الحكم الاعتباري، وقد
عرفت فيما مر بيان امكان انفكاك الانشاء عن الحكم الاعتباري.
100

نعم، يبقى سؤال: وهو انه ما الوجه في اطلاق الجعل على الانشاء؟.،
وجوابه: ان الاعتبار العقلائي لا يتحقق بدون الانشاء، فالبناء النفسي على
تمليك زيد داره لعمرو وانها ملك له بمائة دينار لا يوجب اعتبار البيع عند العقلاء
ما لم ينشأ البيع، وعليه فالانشاء بمنزلة الموضوع والسبب للاعتبار العقلائي
نظير الملاقاة للنجس في كونها سببا لحكم الشارع بالنجاسة، وايجاد الموضوع
للحكم يصحح عرفا اطلاق ايجاد الحكم ونسبته لموجد الموضوع، ولذلك يقال:
" ان زيدا نجس يده "، كما يقال إنه: " ملك عمرا داره "، مع أن الحكم بالنجاسة
شرعي وبالملكية عقلائي، فإطلاق الجعل على الانشاء اطلاق مسامحي يصححه
كون الانشاء سببا للاعتبار، فالتفت وتدبر.
وهذا امر واضح. وانما الامر الذي لا بد من ايقاع البحث فيه: هو ان
الاعتبار الذي لا ينفك عن المعتبر في موارد كون المنشأ هو الحكم على تقدير،
هل هو فعلي بمعنى انه يتحقق حال الانشاء وان كان لا يترتب عليه الأثر الا
عند حصول التقدير، بان يعتبر العقلاء الوجوب عند الزوال من الآن؟، أو انه
استقبالي بمعنى ان الاعتبار لا يتحقق الا عند تحقق التقدير فقبل تحققه لا
وجود الا للانشاء؟، ولا يخفى ان هذا أجنبي عن امكان انفكاك الحكم عن
انشائه الذي عرفت تعين الالتزام به، إذ هو بحث عن تحقق الانفكاك وعدمه.
والظاهر الذي يجده الانسان من نفسه الذي به يميز ويدرك حكم العقلاء
وعملهم، هو ان اعتبار الحكم لا يكون الا عند تحقق التقدير، فقبله لا حكم ولا
اعتبار، فمن ملك زيدا داره على تقدير سفره، لا يعتبر العقلاء ملكية زيد للدار
الا في حال سفر الملك. ولكن هذا المعنى تام بناء على الالتزام في باب
الاعتباريات بالاعتبار العقلائي ليس إلا، اما بناء على الالتزام بوجود اعتبار
شخصي للمنشئ يكون موضوعا للاعتبار العقلائي، فلا يتم الكلام المزبور،
إذ الاعتبار الشخصي لا يكون الا في حال الانشاء، إذ قد لا تكون للمنشئ
101

أهلية الاعتبار عند حصول التقدير كما إذا كان نائما أو غافلا أو ميتا - كما في
الوصية التمليكية -.
هذا، ولكن الالتزام بثبوت الاعتبار الشخصي قد عرفت نقضه في مبحث
الخبر والانشاء في أوائل الكتاب، مع أن الاعتبار الشخصي موضوع للاعتبار
العقلائي الذي يكون محط الآثار العملية. وقد عرفت أن الاعتبار العقلائي
منفك خارجا عن الانشاء.
والمتحصل: ان الحكم المجعول ينفك عن الانشاء امكانا ووقوعا.
ونتيجة ما حققناه: هو تصور وجود حكم انشائي غير الحكم الفعلي
وامكان انفكاك الانشائي عن الفعلي خارجا.
وعليه: فما ذكره صاحب الكفاية من امكان اخذ العلم بالحكم الانشائي
في موضوع الحكم الفعلي لا اشكال فيه، لعدم تأتي أي محذور فيه من المحاذير
المتقدمة.
نعم، يبقى بحث مع المحقق النائيني في امكان اخذ العلم بالجعل في
موضوع المجعول، وسيأتي التعرض إليه إن شاء الله تعالى في أوائل مباحث
الامارات. فانتظر.
ثم إن صاحب الكفاية (رحمه الله) تعرض للظن كما تعرض للعلم، فذكر أنه
لا يمكن أخذ الظن بالحكم في موضوع نفس الحكم، وهو صحيح لعين ما مر
في أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه.
واما اخذ الظن بالحكم في موضوع مثله أو ضده فلا مانع منه بالنحو
الذي يلتزم به في مقام الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري على ما سيأتي الكلام
فيه أن شاء الله تعالى. ويأتي هناك ان شاء الله تعالى بيان المقصود من عبارة
الكفاية من أن الحكم الواقعي يكون فعليا، بمعنى انه لو قطع به من باب
الاتفاق لتنجز. وبيان النكتة في قيد " الاتفاق " الذي اخذه فانتظر والله سبحانه
102

الموفق للصواب.
الجهة السابعة: في الموافقة الالتزامية.
وربطها بالأصول باعتبار ان البحث فيها انما يكون لمعرفة وجود المانع
من جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي بالتكليف الدائر بين الوجوب
والحرمة، المصطلح عليه بدوران الامر بين محذورين، بيان ذلك: ان جريان
الأصل في أطراف العلم الاجمالي مطلقا..
تارة: ينفى بلحاظ عدم المقتضى له اثباتا، كما ذهب إليه الشيخ في
الاستصحاب باعتبار ان شمول دليله لموارد العلم الاجمالي يستلزم حصول
التناقض بين الصدر والذيل، ببيان يأتي في محله ان شاء الله تعالى (1).
وأخرى: ينفى - بعد تسليم وجود المقتضي له اثباتا في نفسه بمنع ما ذكره
الشيخ (رحمه الله) - بأنه يستلزم المخالفة القطعية العلمية للتكليف المنجز بالعلم
الاجمالي (2).
وثالثة: ينفى في مورد عدم توفر هذا المانع كما في دوران الامر بين
محذورين، إذ لا تمكن المخالفة القطعية ولا الموافقة القطعية، بان الأصل لا اثر
له عملا بعد عدم خروج المكلف عن الفعل والترك، والأصل انما يجري بلحاظ
الأثر العملي وبدونه لا يجري.
وفي هذا الفرض إذا التزم بجريان الأصل بإنكار ضرورة وجود الأثر
العملي لجريان الأصل يقع البحث عن وجود مانع من جريانه، وهو استلزامه
لعدم الموافقة الالتزامية الواجبة، ولأجل ذلك يبحث في وجوب الالتزام بالاحكام
مضافا إلى وجوب الامتثال العملي، بمعنى انه هل هناك وجهان أحدهما العمل

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 429 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 693 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
103

والآخر الالتزام بوجوبه، أو ليس في البين الا وجوب العمل فقط؟.
ذهب صاحب الكفاية إلى عدم وجوبه، واستدل بالوجدان الحاكم في باب
الإطاعة، وانه لا يرى استحقاق العبد للعقاب إذا جاء بمتعلق التكليف بدون
التزامه به وانقياده له.
وانتهى بذلك إلى عدم المانع من جريان الأصل في مورد دوران الامر بين
محذورين.
ثم ذكر أنه على تقدير البناء على وجوب الالتزام فليس يمنع عن جريان
الأصل، لان الواجب - على تقدير وجوبه - فهو الالتزام بحكم الله الواقعي على
واقعة، وهذا ممكن في مورد دوران الامر بين محذورين، ولا يتنافى مع جريان أصالة
الإباحة في كلا الطرفين، إذ يمكن ان يلتزم العبد بحكم الله الواقعي من وجوب
أو حرمة على واقعه، ويبنى على إباحة كل من الطرفين ظاهرا، وليس الواجب
هو الالتزام بحكم الله بعنوان الخاص من وجوب أو حرمة، إذ لا دليل لو سلم الا
على النحو الأول لان الدليل المفروض هو وجوب التصديق بما جاء به النبي
(صلى الله عليه وآله) وهو لا يقتضي أكثر مما ذكرناه.
ولو تنزلنا وقلنا: بان الالتزام الواجب هو الالتزام بحكم الله الواقعي
بعنوانه الخاص، فهو غير ممكن في الفرض، فيسقط لعدم العلم به بعنوانه، وهو
مما يتوقف عليه الالتزام.
ودعوى: ان مقتضى العلم الاجمالي بالوجوب أو الحرمة هو العلم اجمالا
بلزوم الالتزام بأحدهما، وحيث إنه لا يمكن الموافقة القطعية بالالتزام بهما معا
يتنزل إلى الموافقة الاحتمالية من باب التوسط في التنجيز، فيلتزم بأحدهما تخييرا
كما في صورة الاضطرار إلى أحد المشتبهين.
تندفع: بان الموافقة الاحتمالية ههنا غير مقدورة الا بنحو محرم، وذلك لان
الالتزام بكل واحد من الحكمين غير ممكن مع الشك به وانما يمكن مع البناء
104

النفسي عليه وتشريعه وهو محرم. وهذا الجواب هو ظاهر الكفاية (1).
وهو أفضل من الجواب المذكور في حاشيته على الرسائل من نفي منجزية
العلم الاجمالي مع عدم التمكن من أحد الطرفين والاضطرار إلى أحدهما وعدم
الالتزام بالتوسط في التنجيز (2). لأنه جواب مبنائي لا يتناسب مع البحث العلمي
التحقيقي، بخلاف جواب الكفاية هذا توضيح بعض ما جاء في الكفاية في
المقام.
وللمحقق الإصفهاني في حاشيته على الكفاية كلام مرجعه إلى الاعتراض
على صاحب الكفاية. وبيانه: ان البحث في وجوب الالتزام..
تارة: يكون بلحاظ اقتضاء نفس التكليف ذلك كما يقتضي العمل.
وأخرى: يكون بلحاظ اقتضاء دليل من الخارج له.
والبحث من الجهة الأولى يناسب مباحث القطع، لأنه بحث عن شؤون
التكليف المعلوم من حيث الإطاعة والمعصية عقلا. الا ان البحث في لزوم الموافقة
الالتزامية انما هو لاجل معرفة وجود المانع عن اجراء الأصول العملية مع تمامية
المقتضي لها، فان ارتباطها بالأصول من هذه الجهة، ومن الواضح ان ذلك يقضي
بلزوم ايقاع البحث فيها من كلتا الجهتين، ولا يصح ان يبحث فيها من جهة
دون جهة، إذ لا اختصاص للمانعية وعدمها في ثبوتها من احدى الجهتين.
وعليه، فايقاع البحث فيها من خصوص الجهة الأولى في المقام كما جاء
في الكفاية ليس كما ينبغي، إذ لا يتناسب مع أصولية المسألة.
ثم ذهب (قدس سره) إلى أن ما دل على لزوم تصديق النبي (صلى الله
عيه وآله) فيما جاء به لا يقتضي وجوب الموافقة الالتزامية، إذ غاية ما يقتضيه

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 268 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول / 27 - الطبعة الأولى.
105

هو ان ما أوجبه النبي (صلى الله عليه وآله) و أخبر به هو واجب من قبله تعالى،
وهو يجتمع مع عدم الالتزام بحكمه تعالى كما لو علم به مباشرة من دون توسط
اخبار النبي (صلى الله عليه وآله).
ثم ذكر (قدس سره): " غاية الامر أن المخالفة الالتزامية فيها -
التعبديات - لا ينفك عن المخالفة العملية وتنفك المخالفة العملية عن المخالفة
الالتزامية، لان الالتزام بالحكم لا يلازم العمل، والعمل العبادي يلازم الالتزام
بالحكم " (1).
أقول: ما ذكره أولا لا بأس به ولا كلام لنا معه.
واما ما ذكره أخيرا من أن عدم الالتزام في التعبديات ينافي التقرب المعتبر
في العبادة فيكون مستلزما للمخالفة العملية.
ففيه: ان الحكمين التعبديين أو التعبدي والتوصلي المعلوم اجمالا ثبوت
أحدهما، اما ان نلتزم بامكان المخالفة العملية القطعية في الفرض، أو نلتزم بعدم
امكانه كالتوصليين، فان التزامنا بالأول كما هو الحق على ما بين في محله، فلا
تجري الأصول لاجل استلزامها المخالفة العملية، فيكون الأصل محفوفا بالمانع
مع قطع النظر عن وجوب الالتزام، فلا تصل النوبة إلى البحث فيه من هذه
الجهة، نعني جهة مانعيته عن جريان الأصل. وان التزمنا بالثاني - ولو فرضا -
فدعوى أن عدم الالتزام يلازم المخالفة العملية القطعية خلف كما لا يخفى، فتدبر
جيدا.
ثم إن صاحب الكفاية (رحمه الله) ذكر أنه لا يمكن أن يكون إجراء
الأصل نافيا لوجوب الالتزام لو فرض وجوبه في نفسه ومنافاة مفاد الأصل له، وقد
أشار بذلك إلى ما ذكره الشيخ في رسائله من أن إجراء الأصل في الشبهة
* (هامش) (1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 26 الطبعة الأولى. (*)
106

الموضوعية يخرج مورده عن موضوع وجوب الالتزام، فان أصالة عدم الحلف
على ترك الوطئ وعدم الحلف على الوطئ - في مورد دوران الامر بينهما -
تخرج كلا من الطرفين عن موضوع الوجوب والحرمة، فلا يجب الالتزام بهما لعدم
ثبوتهما.
ولكنه (قدس سره) بعد أن ذكر ذلك ذكر ان التحقيق خلافه و نفى
صحته (1).
ومن الغريب جدا ما يظهر من حاشية المحقق الأصفهاني (قدس سره)
من نسبة الوجه المذكور إلى الشيخ مع ما عرفت من نفيه صحته في نفس
المطلب (2).
وعلى كل حال، فقد ذهب صاحب الكفاية إلى بطلان هذا الوجه، لأنه
يستلزم الدور، وذلك لان إجراء الأصل في كل من الطرفين المدعى انه يرفع
وجوب الالتزام المنافي له انما يكون مع عدم المانع وعدم المانع ههنا وهو وجوب
الالتزام يتوقف على إجراء الأصل.
وبالجملة: جريان الأصل يتوقف على عدم ثبوت وجوب الالتزام لأنه
مناف له، وعدم ثبوته يتوقف على جريان الأصل كما هو مقتضى الوجه، فيلزم
الدور.
أقول: بنظير هذا البيان يقرب التحاكم أو التوارد بين الأصل السببي
والمسببي.
ولكنه يدفع: بان الأصل السببي حيث يكون رافعا لموضوع الأصل
المسببي، فالأخذ به لا يستلزم رفعا لليد عن دليل المسببي لعدم موضوعه، اما

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 268 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول 19 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 28 - الطبعة الأولى.
107

الاخذ بالأصل المسببي فهو يستلزم رفع اليد عن دليل السببي اما بلا وجه أو
بوجه دوري، وهو بان يستند في رفع اليد عن دليل السببي إلى الأخذ بالأصل
المسببي المتوقف على عدم الاخذ بالأصل السببي - إذ لو اخذ به رفع موضوعه
كما هو الفرض - المفروض توقفه على الاخذ بالأصل المسببي.
والذي نراه ان تقريب المذكور في كلام الشيخ بما دل ان يجعل نسبة
جريان الأصل إلى وجوب الالتزام نسبة الأصل السببي إلى الأصل المسببي
فيتأتى فيه هذا البيان ولا دور.
بيان ذلك: ان وجوب الالتزام موضوعه هو الحكم الثابت، فالأصل النافي
للحكم يرفع موضوع وجوب الالتزام، فلا يكون اجراؤه موجبا للتصرف في دليل
وجوب الالتزام، وهذا بخلاف جريان الأصل، فان موضوعه الشك، فلم يؤخذ في
موضوعه عدم وجود حكم ينافيه، وانما لا يجري من جهة حكم العقل بحصول
المنافاة، نظير عدم اجتماع حكم الأصل السببي مع المسببي بحيث لو قام دليل
بالخصوص على ثبوت الحكم المسببي لم يجر الأصل السببي مع أنه لم يرتفع
موضوعه.
وعليه، فيكون الاخذ بوجوب الالتزام مستلزما لرفع اليد عن دليل
الأصل اما بلا وجه أو على وجه دائر.
اذن فما جاء في الكفاية في مناقشة هذا الوجه غير وجيه (1)، وانما الصحيح
ما أشار إليه الشيخ في رسائله من أن عدم جريان الأصل على تقدير ثبوت
وجوب الالتزام من جهة منافاته للتكليف المعلوم بالاجمال، ولا يتكفل الأصل
رفع موضوع وجوب الالتزام، لان الأصل انما يجري في كل من الطرفين بلحاظ
(1) من المحتمل قويا أن يكون منظور الكفاية إلى هذا البيان وملاحظته ملاكا لايراده بالدور. فتأمل.
(منه عفى عنه).
108

الشك، ولكنه لا ينفي الحكم الواقعي المعلوم، لأنه معلوم اجمالا فلا موضوع
للأصل بلحاظ الواقع.
وعليه، فلا ينفع في نفي وجوب الالتزام لعدم رفعه لموضوعه.
وهذا نظير عدم جريان الأصل في الطرفين إذا استلزم المخالفة العملية
القطعية، لاجل منافاته للتكليف المعلوم اجمالا وعدم تكفله لنفيه كيف؟ وموضوعه
الشك والفرض هو العلم بالواقع، وانما يجري في الطرفين. فالتفت وتأمل.
الجهة الثامنة: في ما ذهب إليه الأخباريون من عدم حجية القطع
الحاصل من غير الكتاب والسنة كما نسب إليهم.
وقد ذهب صاحب الكفاية تبعا للشيخ كما تابعه غيره إلى أن حجية القطع
لازمة له مطلقا من غير فرق بين أسبابه وموارده ومن يتحقق عنده.
ثم شكك في صحة نسبة عدم حجية القطع غير الحاصل من الكتاب
والسنة إلى الأخباريين، وذكر بعض الكلمات لبعض اعلامهم تأييدا لتشكيكه،
بل تكذيبه للنسبة المزبورة، حيث إنها ظاهرة في منع الملازمة بين حكم العقل
لوجوب شئ وحكم الشرع بوجوبه أو ظاهرة في منع الاعتماد على المقدمات العقلية
لأنها لا تنتهي الا إلى الظن واكتفى (قدس سره) بهذا المقدار من التحقيق (1).
وتابعه على إهمال ذلك بعض الاعلام المتأخرين عنه.
ولكن الذي يظهر من مراجعة رسائل الشيخ وما جاء فيها من كلمات
الأخباريين هو صحة النسبة المذكورة.
وعلى كل فقد أطال الشيخ الكلام في نقل كلماتهم وتفنيدها. وانما المهم من
كلامهم ما ذكره بعد ذلك تحت عنوان: " فان قلت: " واهم منه ما ذكره في آخر
كلامه بعد الجواب عن الشبهة الأولى تحت عنوان " الا ان يدعى ان الاخبار "

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 270 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
109

وهو العمدة في دعوى الأخباريين.
اما الشبهة الأولى: الذي ذكرها تحت عنوان: " فان قلت " فمحصلها: هو
ان مقتضى كثير من النصوص كرواية زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام):
".. ولو أن رجلا قام ليله وصام نهاره وحج دهره وتصدق بجميع ماله ولم يعرف ولاية
ولي الله فتكون اعماله بدلالته فيواليه ما كان له على الله ثواب " (1) وغيرها، هو
عدم وجوب إطاعة الحكم وامتثاله الا إذا وصل من طريق النقل وما لم يصل
من طريق النقل ملغى بنظر الشارع وان كان ثابتا في الواقع.
وأجاب الشيخ (رحمه الله) عن هذه الشبهة بوجهين:
الأول: انه إذا أدرك العقل قطعا وجوب شئ فعلا وان الله لا يرضى
بتركه يمتنع ان يقال إنه لا تجب إطاعة هذا الحكم، والأخبار لا تدل على هذا
المطلب، بل هي في مقام النهي عن العمل بالمقدمات العقلية المنتهية إلى الظن
كالقياس والاستحسان، والقرينة على ذلك هو اهتمام المعصومين (عليهم السلام)
في بيان هذا الامر الذي يظهر منه كونه امرا متعارفا ومباينا للواقع كي يستدعي
الاهتمام، ومن الواضح ان ما كان متعارفا هو الاستناد إلى المقدمات العقلية
الظنية.
اما الاستناد إلى العقل القطعي المخالف للكتاب والسنة، فهو نادر جدا
لا يستدعي مثل هذا الاهتمام.
واما نفي الثواب على التصدق بجميع المال مع عدم كونه بدلالة ولي الله،
فلا يمكن الاخذ بظاهره لان حسن التصدق بالمال مما يحكم به العقل الفطري
- وهو مما يعترف الاخباري بحجيته والركون إليه - فلا بد ان يراد به التصدق
على المخالفين لاجل مخالفتهم - فينتفى بهذا القيد حسنه - نظير تصدق الشيعة

(1) الوسائل: 1 / 91 - باب 29 من أبواب المقدمات - حديث 2 مع اختلاف في بعض العبارات.
110

على فقراء الشيعة لاجل تشيعهم أو بغضهم لأعدائه أو يراد به احباط ثواب
التصدق من جهة عدم معرفتهم لولي الله.
الثاني: انه لو تنزلنا وسلمنا مدخلية تبليغ الحجة في وجوب الإطاعة، فلا
ينفع في اثبات المدعى لأنه قد ورد ان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في خطبة
الوداع: " معاشر الناس ما من شئ يقربكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار الا
امرتكم به وما من شئ يقربكم إلى النار ويباعدكم عن الجنة الا وقد نهيتكم
عنه " (1)، فإذا قطع المكلف بحكم من طريق العقل يقطع بضميمة هذه الرواية ان
الحكم الذي قطع به بينه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدر عنه.
واما الشبهة الثانية: وهي التي ذكرها بعد ما تقدم تحت عنوان: " الا ان
يدعى ان الاخبار... " فمحصلها: هو ان الاخبار تدل على أن الحكم انما يصير
فعليا إذا بلغه الحجة ووصل الينا عن طريقه وبدون التبليغ ووصوله عن طريقه
(عليه السلام) لا يصل إلى مرحلة الفعلية. وعليه فالقطع بالحكم من طريق العقل
لا يكون قطعا بالحكم الفعلي كي يلازمه حكم العقل بوجوب الإطاعة، ولا ينفع
العلم بالصدور الواقعي وانما اللازم هو العلم بطريقهم (عليهم السلام) وبواسطة
بيانهم اما مباشرة أو بالواسطة كالاخبار المعتبرة.
وقد ناقشها الشيخ (رحمه الله) بقوله: " لكن قد عرفت عدم دلالة
الاخبار، ومع تسليم ظهورها، فهو أيضا من باب التعارض بين النقلي الظني
والعقلي القطعي ولذلك لا فائدة مهمة في هذه المسألة، إذ بعد ما قطع العقل بحكم
وقطع بعدم رضاء الله جل ذكره بمخالفته فلا يعقل ترك العمل لذلك ما دام هذا
القطع باقيا، فكلما دل على خلاف ذلك فمؤول أو مطروح ".

(1) المحاسن كتاب مصابيح الظلم باب البيان والتعريف ولزوم الحجة 39 حديث 399.
111

إنتهى ما أفاده الشيخ في هذا المقام (1).
ولكن الانصاف ان هذه الشبهة أعني الأخيرة شبهة قوية متينة لا تتنافى
مع العقل أصلا، وانما المهم استفادتها من الاخبار المزبورة.
وتقريب ذلك: ان بيان الحكم قد يكون بانشائه بما يدل عليه من الصيغ
وقد يكون ببيان ترتب الثواب أو العقاب على متعلقه، فيستفاد تحريم القتل من
قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم...) (2) كما يستفاد
استحباب الصبر من قوله تعالى: (وبشر الصابرين...) (3).
ومن هنا ادعي دلالة اخبار " من بلغ " على استحباب العمل الذي ورد في
استحبابه خبر ضعيف. وان نوقشت دلالتها من جهة أخرى تذكر في محلها.
وكما ان اثبات الثواب على عمل ظاهر عرفا في تعلق الامر به كذلك نفي
الثواب عليه ظاهر عرفا في عدم مطلوبيته وعدم تعلق الامر به الا إذا قامت
قرينة على ثبوت الامر به كالالتزام بتوجه الامر إلى المخالفين مع عدم ترتب
الثواب على اعمالهم لفقدان الولاية - ما حققناه في الفقه -، ولا مانع من نفي
الثواب مع وجود الامر بلحاظ صدور امر مكروه من العبد بكراهة شديدة تنفي
استحقاقه العقاب لبعده عن المولى، وترك الولاية من قبيل ذلك.
وعليه: فرواية زرارة المتقدمة ظاهرة في نفي الثواب عن كل عمل لم يكن
بدلالة ولي الله تعالى، ومقتضى ذلك عدم الامر به مع عدم دلالة ولي الله تعالى،
فتكون ظاهرة في اخذ دلالة ولي الله في موضوع الاحكام، ولا محذور فيه عقلا لما
عرفت من صحة اخذ العلم بمرتبة الانشاء في موضوع الفعلية.
يبقى سؤال: وهو ان التصدق بجميع المال من أظهر مصاديق الاحسان

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول 11 - 12 - الطبعة الأولى.
(2) سورة النساء، الآية: 93.
(3) سورة البقرة، الآية: 155.
112

وهو حسن بحكم العقل الفطري فكيف ينفى الثواب عنه؟ مع عدم دخالة دلالة
الحجة في حسنة، بل هو حسن بذاته.
والجواب: ان حكم العقل بحسن الشئ لا يلازم حكمه باستحقاق
الثواب على المولى، إذ الثواب هو الجزاء على العمل الذي جاء به العبد مرتبطا
بمولاه. فمن أحسن إلى فقير لا يستحق على زيد ثوابا بحيث له ان يطالبه به،
وانما يستحق الثواب من زيد إذا كان زيد يرغب في الاحسان إلى الفقير وجاء
به عمرو من هذه الجهة.
وعليه: فليس مجرد الاتيان بالحسن موجبا لاستحقاق الثواب، بل يتوقف
على أن يكون ذلك العمل مرادا ومحبوبا لله تعالى، وجاء به العبد من تلك الجهة،
فإذا فرض ان الله لا يريد هذا الحسن الا في ظرف مخصوص لم يكن فعله في غير
ذلك الظرف موجبا للثواب وان كان حسنا.
ومن هذا القبيل التصدق، فان الرواية ظاهرة في أن الله تعالى لا يريده
الا إذا كان بدلالة الحجة، فبدونها لا يستحق الثواب وان جاء بالحسن.
ونتيجة ما ذكرناه: ان دعوى الأخباريين ترجع إلى أن العلم من طريق
خاص، وهو طريق النقل مأخوذ في موضوع الحكم الفعلي، وقد تقدم ان تقييد
العلم الموضوعي بصنف خاص لا مانع منه. ومن هنا يظهر ما في جواب الشيخ
الأخير الذي نقلناه بنصه من المسامحة. إذ لم يتقدم منه نفي دلالة الخبر على هذه
الدعوى، وانما تقدم منه نفي دلالتها على نفي المنجزية واثبات دلالتها على نفي
الطرق العقلية الظنية.
وقد عرفت أنه انما التزم بذلك - مع أنه خلاف ظاهر الاخبار - باعتبار
الاهتمام الظاهر من الاخبار، وهو لا يتناسب مع نفي المنجزية لندرة مخالفة القطع
مع الطريق السمعي.
ومن الواضح ان الدعوى الأخيرة الراجعة إلى تقييد موضوع الحكم
113

بالعلم به بطريق النقل، امر يحتاج بيانه إلى الاهتمام والتأكيد.
كما أن ما ذكره من انه مع تسليم الدلالة فتكون من موارد معارضة النقلي
الظني مع الدليل العقلي القطعي غير واضح المراد، إذ بعد تسليم ظهور هذه
الرواية والاطلاع عليها لا يحصل القطع بالحكم الفعلي من غير طريق النقل
أصلا، ومعه لا حكم بالمنجزية فأين هو الدليل العقلي القطعي الحاكم بوجوب
الإطاعة في غير مورد النقل كي يدعى معارضته مع هذه الرواية.
ومن هنا صار هذا الكلام من الشيخ موردا للاعتراض عليه من قبل بعض
الأخباريين ونسبته إلى ما لا يتناسب مع ما عرفت من الشيخ من مقام ديني
وعلمي.
وقد جاء في أجود التقريرات بعد بيان هذه الدعوى من قبل الأخباريين
وعدم المحذور العقلي فيها، انه لا يساعدها مقام الاثبات لان الاخبار على
طائفتين: إحداهما: ما كان في مقام اعتبار الولاية في صحة العمل أو قبوله. و
الأخرى: ما كان في نفي الاعتماد على الظن الحاصل من المقدمات العقلية من
قياس واستحسان وغيرهما. وكلا الطائفتين أجنبيتان عن دعوى الأخباريين (1).
ولكنك عرفت تقريب دلالة رواية زرارة على الدعوى فلا ينفع ما ذكره
في أجود التقريرات.
ثم إن المحقق العراقي تعرض إلى هذه الدعوى ثم استبعد ان تكون
هي دعوى الأخباريين باعتبار ان هذه الدعوى تستدعي عدم حصول العلم
من غير طريق الكتاب والسنة، مع أن ظاهر الأخباريين نفي حجية العلم ولزوم
اتباعه لا انكار حصوله. ولو كان مرادهم هذه الدعوى لم يكن وجه لانكار
الشيخ عليهم الانكار الشديد واستيحاشه من مقالتهم. نعم ذكر الشيخ في أول

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 40 - الطبعة الأولى.
114

الكتاب من أمثلة القطع المأخوذ في الموضوع ما ذهب إليه بعض الأخباريين من
تقييد الحكم بالعلم به من طريق خاص، ولكنه ذكر ان تعرض الشيخ له من
باب التمثيل لا لاجل تصحيح كلام الأخباريين. هذا ما إفادة العراقي (رحمه
الله) (1).
ونحن لا نريد ان نطيل البحث في الجهة، وان هذه الدعوى هل هي
مقالة الأخباريين أولا؟، فليس هذا مهما، إذ هي شبهة متينة في نفسها ذهب إليها
الأخباريون أو لم يذهبوا إليها، فان اللازم التعرض لدفعها ونقضها.
والتحقيق في دفع هذه الشبهة: ان الرواية ظاهرة في لزوم متابعة الأئمة
(عليهم السلام) والانقياد لتعليماتهم والمنع عن تشكيل مقام ديني يناقض مقامهم
وفي قبالهم (عليهم السلام)، وهي تنفي الثواب عند حصول هذا المعنى نظير
نفيها الثواب عند عدم الولاية نفسها، لاجل ان هذا المعنى معصية شديدة
المبغوضية فتستلزم عدم الثواب.
واما القرينة على هذا الظهور، فمن الرواية نفسها، وذلك لقوله (عليه
السلام) " فيواليه " - الذي يظهر انه هو القيد لظهور تفرعه على ما تقدم في ذلك
- بعد قوله: " ولم يعرف ولاية ولي الله فتكون اعماله بدلالته "، ومن الواضح انه
ليس المراد منه الولاية بمعنى الاعتقاد بالإمامة، إذ هي سابقة على كون الاعمال
بدلالة الولي لا متأخرة، فالمراد بها المتابعة والانقياد.
وواضح انه مع أخذ أكثر الاحكام منهم وعدم القيام بما يظهر منه
الاستقلال عنهم، يحقق المتابعة والانقياد بحيث لا يكون القطع بحكم من طريق
العقل منافيا لهذا الانقياد.
وعليه، فلا تنفي الرواية فعلية الحكم الا إذا تعلق به القطع من طريق
* (هامش) (1) البروجردي الشيخ محمد تفي. نهاية الأفكار 3 / 44 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي. (*)
115

النقل، بل تنفي الفعلية فيما إذا كان المكلف في مقام الاستقلال عن الأئمة
(عليهم السلام) والسير في غير طريقهم.
ومثل هذا لا ينطبق على المؤمن التابع لهم الذي يحصل له القطع بالحكم
في غير طريقهم في بعض الأحيان.
ولولا هذه القرينة لما كان محيص عن الالتزام بدلالة الرواية على
الدعوى ولتعين الالتزام بالدعوى عملا بالرواية وعدم اي مانع عقلي منها.
فالتفت.
الجهة التاسعة: في قطع القطاع.
وقد نسب إلى كاشف الغطاء القول بعدم حجيته وعدم الاعتناء به (1).
والمراد بقطع القطاع: هو القطع الحاصل من أسباب وطرق لا تستلزم
القطع عند متعارف الناس وبحسب العادة. فلا يشمل القطع الحاصل للشخص
دون سائر الناس من جهة ذكائه وسعة اطلاعه والتفاته إلى بعض اللوازم
والخصوصيات التي تكتنف بها الواقعة المستلزمة للقطع مما لا يتوفر لسائر الناس،
وان كانت بحيث لو توفرت لكل أحد يحصل منها القطع.
وقد تعرض الشيخ (رحمه الله) إلى مناقشة هذا القول ببيان ملخصه:
انه ان أريد بعدم اعتباره عدم اعتباره في مورد يكون القطع موضوعا
للحكم، فلا بأس به لانصراف القطع المأخوذ في الموضوع إلى الحاصل من
الأسباب التي يتعارف حصول القطع منها، نظير انصراف الظن والشك في موارد
أخذهما في الموضوع إلى المتعارف منهما.
وان أريد نفي اعتباره في مقام يكون القطع طريقيا، فان أريد نفي إجزاء
ما قطع به عن الواقع لو انكشف الخلاف فهو حق أيضا، لكنه لا يختص بقطع

(1) كاشف الغطاء المحقق الفقيه الشيخ جعفر كشف الغطاء / 64 - المقصد العاشر -. الطبعة الأولى.
116

القطاع، بل يعم غيره لعدم إجزاء الامر التخيلي - كما حقق في مبحث الاجزاء -.
وان أريد وجوب ردعه عن قطعه ورفعه عنه وتنبيهه على مرضه أو يقال له: ان
الله لا يريد منك الواقع إذا كان غافلا عن القطع بحيث تلتبس عليه المغالطة،
فهو حق أيضا في موارد القطع بخلاف الواقع مما يرتبط بالنفوس والاعراض
والأموال التي تجب المحافظة عليها، لكنه لا يختص بقطع القطاع بل يعم مطلق
القطع المخالف للواقع ولو كان متعارفا.
وان أريد انه حال العلم بحكم الشاك فهو ممنوع، إذ القاطع بالحكم لا
يمكن ارجاعه إلى احكام الشك من الأصول العملية لعدم شمولها له، فنفي
حجية قطعه يعني تركه متحيرا متخبطا لا يعرف ما يقوم به. هذا ملخص ما أفاده
الشيخ (1).
والعمدة في وجه المناقشة التي ترتبط بما نحن فيه هو الشق الأخير من
الترديد. وهو عدم امكان فرض العالم بحكم غير العالم وارجاعه إلى حكم
الشاك. وهو الذي يرتبط بمنع عدم حجية القطع.
وكلامه لأول وهلة يظهر منه انه (قدس سره) أغفل المناقشة من هذه
الجهة ونقل المناقشة إلى موضوع آخر لا يمت لدعوى عدم حجية القطع بصلة.
وعلى كل فمناقشة الشيخ المزبورة متينة وجيهة.
واما ما جاء في أجود التقريرات من مناقشة الدعوى المزبورة بان حجية
القطع ذاتيه فلا يمكن تخلفها عنه في مورد من الموارد.
ففيه: انه لم يتقدم ان حجية القطع من ذاتياته، وانما تقدم انها بحكم العقل
وادراكه، فلا بد من ايقاع البحث في أن العقل هل يدرك حجية القطع مطلقا أو في
بعض صوره.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 13 - الطبعة الأولى.
117

نعم، تقدم ان طريقية القطع ذاتية لكنها غير حجيته.
واما مناقشة الشيخ، فيمكن ان يقال في دفعها:
أولا: بالنقض بمورد الجاهل المركب المقصر، فإنه في حال علمه لا يمكن
ثبوت احكام الشك له، ولكنه لا يكون معذورا في مخالفته للواقع مع أنه قاطع.
وثانيا: بأنه وان سلم ان القاطع في حال قطعه لا يمكن ارجاعه إلى احكام
غير القاطع بما هي احكام لغير القاطع، لكننا يمكننا ان ندعي هذا القاطع لا
يكون معذورا لو خالف قطعه الواقع، وهذا هو المراد من نفي حجية قطعه.
بيان ذلك: ان حجية القطع ترجع إلى وجوب متابعته ومنجزيته للواقع لو
صادفه ومعذريته لو خالف قطعه الواقع.
فالذي ندعيه: ان العقل لا يحكم بمعذرية قطع القطاع لو خالف الواقع.
وهذا لا محذور فيه أصلا ولا يتنافى مع لزوم متابعة القطع الحاصل بنظر القاطع.
وعليه، فيكون الكلام في أن الحكم العقلي بمعذرية القطع وعدم استحقاق
العقاب على مخالفة الواقع الذي تعلق القطع بخلافه، هل هو ثابت لجميع افراد
القطع أم انه ثابت لبعض الافراد دون بعض؟.
ولا يخفى ان التشكيك في ذلك يكفي في عدم ثبوت المعذرية ولا نحتاج
إلى اثبات العدم، وانما الذي يحتاج إلى الاثبات هو القول بالحجية.
ولكن الانصاف عند ملاحظة حال العقلاء ومعاملاتهم فيما بينهم ومع
عبيدهم - التي هي الطريق لتشخيص أصل حجية القطع في الجملة - هو عدم
معذورية القاطع إذا كان قطعه من غير طريق متعارف، فمن امر وكيله بشراء
خاصة له بالقيمة السوقية فاشتراها الوكيل بأزيد منها استنادا إلى قطعه بان
الثمن يساوي القيمة السوقية، لكنه ملتفت إلى أن قطعه غير ناش عن سبب
متعارف فللموكل أن لا يعذر وكيله ويعاتبه كما لا يخفى.
وليس هذا امرا بعيدا بعد التزام الفقهاء بمعاقبة الجاهل المركب المقصر.
118

في أصوله وفروعه، وليس ذلك الا لعدم كون قطعه معذرا بعد تقصيره في المقدمات
التي تسبب القطع.
وبعد التزام الشيخ بان التقصير المسبب للنسيان يمكن ان يستلزم
العقاب على المنسي لولا حديث الرفع الراجع إلى نفي وجوب التحفظ، مع أنه
لا حكم للناسي في حال نسيانه، ولا يمكن مخاطبته باحكام الملتفت.
وبالجملة: عدم امكان اثبات حكم للقاطع ينافي ما قطع به في حال قطعه،
لا يتنافى مع عدم حجية القطع بمعنى عدم كونه معذورا لو انكشف ان قطعه
مخالف للواقع، إذ عدم المعذورية انما يحكم به بعد زوال القطع فلا محذور فيه.
ومن هنا يظهر: انه يمكن تصحيح دعوى الأخباريين الراجعة إلى نفي
حجية القطع - هذا مما احتمله الشيخ في مراد الأخباريين فراجع صدر كلامه -
بارجاعها إلى نفي معذورية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة، وهي دعوى
لا بأس بها، إذ بعد ورود الروايات الكثيرة الدالة على أن الدين لا يصاب
بالعقول، وكثرة وقوع الخطأ في الاحكام إذا كانت مدركة من طريق العقل، لا
يحكم العقل والعقلاء بمعذورية القاطع من غير طريق الكتاب والسنة، بل
يعدونه مقصرا في المقدمات فيصح عقابه. وإن لم يمكن نفي وجوب الإطاعة في
حال قطعه. فالتفت وتدبر.
والى ما ذكرناه من نفي معذورية القطع أشار المحقق العراقي كما في نهاية
الأفكار (1) فلاحظ.
الجهة العاشرة: في العلم الاجمالي.
والكلام فيه في مقامين: المقام الأول: في اثبات التكليف به، وقد وقع الكلام بين الاعلام (قدس
* (هامش) (1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 44 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي. (*)
119

سرهم) في أن العلم الاجمالي بالتكليف هل يوجب تنجزه أولا؟.
والأقوال متعددة:
منها: انه علة تامة لتنجيز التكليف كالعلم التفصيلي.
ومنها: انه مقتض للتنجيز بحيث يؤثر فيه لو لم يمنع مانع من تأثيره. وهو
رأي صاحب الكفاية في هذا المقام (1) اما في مبحث الاشتغال، فقد توهم عبارته
خلاف ذلك وسيأتي دفع التوهم ان شاء الله تعالى.
والذي ذهب إليه صاحب الكفاية يبتني على مقدمات ثلاث:
الأولى: ان العلم لا يكون منجزا الا إذا تعلق بحكم فعلي تام الفعلية من
جميع الجهات - كما مرت الإشارة إلى ذلك فيما تقدم -.
الثانية: ان الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية انما هو بالالتزام بان
الحكم الواقعي فعلي لكن لا من جميع الجهات الذي عبر عنه بأنه لو علم به لصار
فعليا وتنجز (2)، وهو راجع إلى اخذ العلم في موضوع الفعلية، وقد نبه على عدم
ورود الاشكال عليه بان العلم إذا اخذ موضوعا لم ينفع قيام الامارة في صيرورة
الحكم الواقعي فعليا لعدم قيام الامارة مقام القطع الموضوعي بنظره - نبه على
عدم ورود هذا الاشكال - بان قيد الموضوع ليس هو العلم وانما المانع من الفعلية
هو الامارة أو الأصل على الخلاف، فإذا لم تقم الامارة فقد ارتفع المانع فتحقق
الفعلية، وسيأتي ان شاء الله تعالى توضيح مرام الكفاية والنظر فيه نفيا واثباتا.
وعلى كل، فالمقصود من هذه المقدمة هو بيان: انه مع وجود الأصل أو
الامارة على خلاف الواقع لا يكون الواقع فعليا من جميع الجهات وانما يكون
فعليا على تقدير - بتعبير - أو فعليا من جهة دون جهة - بتعبير آخر -.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 272 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 278 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
120

الثالثة: ان مرتبة الحكم الظاهري محفوظة في موارد العلم الاجمالي، إذ كل
من الطرفين مشكوك الحكم ومجهوله، فيكون موردا للامارة وموضوعا للأصل.
ومن هنا تظهر نكتة التعبير بالمرتبة لا الموضوع، إذ الجهل ليس موضوعا
للامارة - كما يقال -، وانما هو مورد لها ولوحظ فيها بنحو الموردية لا
الموضوعية، فمقصوده بانحفاظ المرتبة ثبوت محله ومقامه أعم من الموضوع والمورد.
وبهذه المقدمات عرف ما ذهب إليه صاحب الكفاية من عدم كون العلم
الاجمالي علة تامة للتنجيز، إذ مع شمول دليل الأصل للطرفين وثبوت حكم
الأصل الظاهري - كما هو مقتضى المقدمة الثالثة - لا يكون الحكم الواقعي
المعلوم تام الفعلية - كما هو مقتضى المقدمة الثانية - وعليه فلا يكون العلم به
منجزا - كما هو مقتضى المقدمة الأولى -.
نعم، لو لم يثبت حكم الأصل يرتفع المانع عن فعلية التكليف، فيكون
العلم به منجزا. وهذا هو معنى اقتضائه للتنجز، فالمراد به أنه يكون منجزا لو لم
يمنع مانع.
فليس العلم الاجمالي كالشك لا يؤثر في التنجيز أصلا، إذ يكون مؤثرا
فيه بالوجدان مع عدم المانع بحيث تصح مؤاخذة العبد على مخالفة التكليف
المعلوم بالاجمال، وليس هو كالعلم التفصيلي في كونه علة تامة للتنجيز، لعدم
انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في مورد العلم التفصيلي فلا مانع من فعلية
التكليف وانحفاظها في مورد العلم الاجمالي فيأتي فيه الكلام السابق.
ولا يخفى عليك ان المقدمة الأولى والمقدمة الثالثة - بالمعنى الذي عرفته -
لا تقبلان المناقشة، إذ لا مجال للمناقشة في أن العلم لا يكون منجزا الا إذا
تعلق بحكم فعلي واصل إلى مرحلة البعث والزجر فعلا. ولا للمناقشة في أن كلا
من الطرفين مجهول، وهو مقام الحكم الظاهري.
فإذا كانت هناك مناقشة فلا بد ان تتركز على المقدمة الثانية. ومع تماميتها
121

لا يكون مجال للاشكال فيه، بل يكون ما افاده (قدس سره) متينا يتعين الالتزام
به.
وغريب من المحقق النائيني ان يكتفي في مقام مناقشة صاحب الكفاية
في التعرض إلى ما ذكره من انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري بعد تقريبه: بان
العلم في موارد العلم الاجمالي تعلق بالجامع، وبهذا المقدار لا يمكن جعل الحكم
الظاهري على خلافه، واما كل واحد من الأطراف فهو مجهول الحكم، والجهل
موضوع الحكم الظاهري فيجري الأصل في كل واحد من الأطراف.
فذكر في مناقشته ان البحث تارة في تقييد الأحكام الواقعية بالعلم
التفصيلي، وهو وان كان ممكنا على نحو نتيجة التقييد، لكنه على خلافه الاجماع
لأنه تصويب. وأخرى في جريان الأصول مع بقاء الواقع على واقعه من أن
جريان الأصل يستلزم المناقضة كما في الأصول التنزيلية، أو المخالفة العملية كما
في غير الأصول التنزيلية في موارد العلم بالتكليف وكلاهما ممتنع.
ووجه الغرابة: ان مقصود صاحب الكفاية من انحفاظ مرتبة الحكم
الظاهري ما يساوق ثبوت موضوعه، وهو امر لا اشكال فيه، انما الكلام في
منافاته للحكم الواقعي المعلوم، وقد عرفت تقريب عدم منافاته. فدعوى
مناقضته للأصول بدون نفي الجهة التي اعتمد عليها صاحب الكفاية في نفي
المناقضة ليست كما ينبغي.
وأيضا لا وجه لاحتمال ان يريد صاحب الكفاية تقييد الأحكام الواقعية
بالعلم التفصيلي كي يشكل عليه انه تصويب، بل هو يلتزم بوجود حكم انشائي
يشترك بين العالم والجاهل. نعم فعلية الواقع تتوقف على عدم الامارة أو الأصل
على الخلاف وهو لا ضير فيه، إذ القدر المتيقن من الاجماع هو الاشتراك في
الحكم الانشائي لا أكثر. وقد عرفت تصوير وجود الحكم الانشائي في قبال
الفعلي.
122

كما أن من الغريب جدا اغفال المحقق العراقي لمناقشة صاحب الكفاية،
واكتفائه في تقريب منجزية العلم الاجمالي بنحو العلية التامة، بان الوجدان
يقتضي بمناقضة العلم الاجمالي لجريان الأصول في أطرافه وقبح الترخيص في
مخالفته، وهو امر مرتكز يكشف عن العلية التامة للتنجيز بالنسبة إلى العلم
الاجمالي (1).
وأنت خبير بان هذا المقدار لا ينفي كلام الكفاية الذي يرجع إلى نفي
فعلية الحكم المعلوم بالاجمال، وبه ترتفع المناقضة وقبح المخالفة كما قربه في
مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.
كما يؤاخذ المحقق الأصفهاني على ترديده في مراد صاحب الكفاية من
انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري بين احتمالات أربعة:
أحدها: ان يراد ان حكم العقل تعليقي معلق على عدم المؤمن في
الأطراف، فمع ثبوته يرتفع موضوع حكم العقل.
ثانيها: ان يراد تقييد الحكم الواقعي بالعلم التفصيلي.
ثالثها: ان يراد ان غرض المولى من متعلق التكليف بنحو لو وصل من
باب الاتفاق كان منجزا على المكلف ولزم عليه تحصيله، فلا ينافيه جعل الحكم
الظاهري وفواته به.
وهذا ينشأ عن كون أحد الاشكالات في جعل الحكم الظاهري هو
منافاته لغرض المولى الملزم لتفويته به، فيلزم من جعله نقض الغرض. فيجاب:
انه انما يلزم نقض الغرض لو كان ملزما بحد يبعث المولى إلى ايصاله إلى المكلف
ولو بجعل الاحتياط. اما لو كان بحد لو وصل من باب الاتفاق لتنجز وكان على
المكلف تحصيله فلا يكون جعل الحكم الظاهري مع عدم وصوله اتفاقا نقضا

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 46 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
123

للغرض.
رابعها: ما ذكرناه من التوجيه من أن موضوع الحكم الظاهري يتحقق
والحكم الواقعي لا يكون فعليا من جميع الجهات بل من جهة دون أخرى (1).
وجه المؤاخذة: انه لا موهم في عبارة الكفاية في كون المراد من انحفاظ
مرتبة الحكم الظاهري هو تعليقة حكم العقل بالمنجزية، أو تقييد الاحكام بالعلم
التفصيلي، أو ان غرض المولى بنحو خاص لا ينافيه جعل الحكم الظاهري،
فليس نظره إلى امكان جعل الحكم الظاهري ثبوتا، بل نظره إلى ثبوت موضوعه
المأخوذ في لسان أدلته، وبثبوته لاطلاق دليله نستكشف عدم فعلية الواقع التامة
على ما بيناه.
وقد ناقشه المحقق الأصفهاني بما التزم به من أن الحكم الفعلي من قبل
المولى هو الانشاء بداعي جعل الداعي، وهو يتنجز بالوصول، وقد تحقق بالعلم
الاجمالي، والمفروض وجود الانشاء بداعي جعل الداعي فالحكم الواقعي فعلي
تام الفعلية. ولكن تقدم مناقشة هذا المبنى، وتصوير الحكم الفعلي غير ما ذكره.
وقد تعرض (قدس سره) إلى مناقشة الاحتمالات الأخرى، ولا يهمنا
ذلك بعد عدم ارتباطها بالبحث.
وعلى أي حال: فتمامية كلام صاحب الكفاية تدور مدار ما سيأتي تحقيقه
في مبحث الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية، فان انحصر طريق الجمع بما
التزم به صاحب الكفاية أو بما يشاركه في نفي فعلية الواقع كان ما ذكره هنا تاما
لا شبهة فيه لتمامية مقدماته كلها، وإن لم ينحصر طريق الجمع بذلك، بل أمكن
الالتزام بفعلية الواقع مع الحكم الظاهري لم يتم ما ذكره لحكم العقل بتنجز
المعلوم بالاجمال لكونه فعليا فلا يمكن جعل الأصول في أطرافه. فانتظر.
* (هامش) (1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 33 - الطبعة الأولى. (*)
124

ثم إن صاحب الكفاية تعرض لما التزم به الشيخ (قدس سره) من أن
العلم الاجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ومقتض بالنسبة إلى وجوب
الموافقة القطعية.
فذكر أنه ضعيف جدا، لان ملاك كون العلم الاجمالي علة تامة لحرمة
المخالفة القطعية، وعدم جريان الأصول في الأطراف، هو استلزام الاذن في
الأطراف القطع باجتماع الضدين وهو محال.
ولا يخفى ان الاذن في بعض الأطراف يستلزم احتمال اجتماع الضدين
لاحتمال تعلق الحكم المعلوم بالطرف المرخص فيه، واحتمال اجتماع الضدين
محال كالقطع به (1).
اذن فالالتزام بأنه علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ملازم للالتزام بأنه علة
تامة بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية.
نعم، مع الالتزام بأنه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى كليهما يمكن ان يلتزم
بثبوت المانع بالنسبة إلى تأثيره في وجوب الموافقة القطعية، وعدم ثبوته بالنسبة
إلى حرمة المخالفة القطعية، إذ لا تلازم في ثبوت المانع وعدمه بين الجهتين.
أقول: ان كان محذور المخالفة القطعية هو اجتماع الضدين كان ما ذكره
(قدس سره) من التلازم بين الجهتين في العلية التامة تاما، لاستلزام تجويز
المخالفة القطعية القطع باجتماع الضدين وتجويز المخالفة الاحتمالية احتمال
اجتماع الضدين.
واما إذا كان المحذور ليس ذلك، بل هو استلزام تجويز المخالفة القطعية
الترخيص في المعصية، بمعنى المخالفة المعلومة الذي هو قبيح عقلا فلا تلازم، إذ
ليس في جواز المخالفة الاحتمالية ترخيص في المخالفة المعلومة لعدم العلم

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 273 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
125

بالمخالفة.
ولم يثبت ان التزام الشيخ بحرمة المخالفة القطعية من جهة محذور تضاد
الاحكام، بل يظهر منه انه من جهة انه ترخيص في المعصية وهو قبيح عقلا،
وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك مفصلا.
ثم إنه (قدس سره) ذكر بعد ذلك: ان المناسب للمقام البحث عن تأثير
العلم الاجمالي في التنجيز ومقدار تأثيره، لان ذلك من شؤون العلم وآثاره،
والمناسب في باب البراءة و الاشتغال - بعد الفراغ عن أن تأثيره بنحو الاقتضاء -
هو البحث عن ثبوت المانع من التأثير شرعا أو عقلا، لان ذلك من شؤون
الجهل وآثاره. ولا مجال للبحث عن المانع هناك بعد الالتزام ان تأثيره بنحو العلية
التامة، إذ لا يتصور وجود المانع عنه. كما لا يخفى.
أقول: مقتضى ما ذكره ان البحث في مسألة الاشتغال بناء على الالتزام
بان تأثير العلم الاجمالي بنحو الاقتضاء ينحصر في أن دليل الأصول هل يشمل
مورد العلم الاجمالي أو لا؟. ويقع البحث في ذلك بلحاظ دعوى أن شموله
لأطرافه يستلزم المناقضة بين الصدر والذيل - كما ذكره الشيخ (رحمه الله) -.
ومع الالتزام بشمولها - كما ذهب إليه صاحب الكفاية - يتعين الالتزام
بالأصل في مورد العلم الاجمالي لاطلاق دليله.
ولا يخفى ان ذلك يوجب تقليل أهمية مبحث الاشتغال إلى حد كبير، لان
هذه الجهة مختصرة، ويبحث عنها استطرادا.
وعلى كل حال فما ذكره بالنسبة إلى مبناه لا محيص عنه.
واما بناء على الالتزام بأنه علة تامة، فحيث عرفت أنه يمكن التفكيك
في ذلك بين الموافقة القطعية والمخالفة القطعية، فنقول: انه إذا التزم بأنه علة تامة
للمخالفة القطعية، يمكن ان يقع البحث في أن مقتضى ذلك عدم امكان جريان
الأصل في كلا الطرفين وان العلم الاجمالي ينافي الأصل في كليهما - فتكون
126

نتيجته وجوب الموافقة القطعية -، أو انه ينافي الأصل في أحدهما. وبتعبير آخر ينافي
مجموع الأصلين لا كلا منهما، فلا يمتنع جريان أحدهما، ونتيجته عدم وجوب
الموافقة القطعية.
وهذا البحث يوكل إلى مبحث الشك لأنه يرتبط به، وبما هو مفاد دليل
الأصل ومقدار منافاته.
فما فرعه (قدس سره) على هذا المبنى ممنوع على اطلاقه.
وللمحقق الأصفهاني كلام طويل يدور حول صحة اطلاق المقتضي على
العلم الاجمالي، ويمكننا ان نقول إن على طوله يدور حول مناقشة اصطلاحية
لا واقعية فطالعه تعرف الله سبحانه هو المسدد للصواب (1).
هذا تمام الكلام في المقام الأول.
واما المقام الثاني: فهو في البحث عن كفاية الامتثال الاجمالي. والكلام
تارة في التوصليات. وأخرى في العبادات.
اما التوصليات: فلا اشكال في كفاية الامتثال الاجمالي فيها: لعدم تصور
محذور فيه مما يتأتى في العبادات كما سيجئ، فان الغرض من التوصلي يحصل
بالاتيان بمتعلقه بأي كيفية وبأي نحو.
واما العبادات: فالكلام فيها في مقامين:
الأول: فيما يستلزم التكرار كتردد امر الصلاة الواجبة بين القصر والتمام.
ويقع الكلام فيه: تارة فيما يتمكن من العلم التفصيلي بالواجب.
وأخرى: فيما يتمكن من الظن التفصيلي المعتبر. وثالثة: فيما لا يتمكن من
أحدهما.
اما مع التمكن من العلم التفصيلي: فقد ذهب الأكثر إلى عدم جواز

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 35 - الطبعة الأولى.
127

الاحتياط المستلزم للتكرار. وتابعهم على ذلك الشيخ والمحقق النائيني (1).
وقد استدل لعدم اجزائه بفقدانه لقصد الوجه وقصد التمييز المعتبرين في
العبادة. وهما وجهان غير صحيحين لما تقرر في محله من عدم اعتبارهما تمسكا
بأصالة البراءة أو بالاطلاق المقامي.
وهناك وجهان آخران استدل بهما على عدم الاجزاء.
أحدهما: ما ذكره الشيخ - في مبحث شرائط الأصول - من أن التكرار
عبث بامر المولى فينافي العبادية (2). ورده صاحب الكفاية: بأنه يمكن أن يكون
التكرار لداع عقلائي كما إذا كان أسهل من الفحص وتحصيل العلم. مع أنه
ليس لعبا بامر المولى، بل في كيفية اطاعته ولا ضرر فيه (3).
ثانيهما: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره): من أن مرتبة الامتثال
التفصيلي مقدمة بحكم العقل على مرتبة الامتثال الاجمالي، فالاندفاع والانبعاث
إذا أمكن أن يكون عن نفس الامر فهو مقدم على الانبعاث عن احتمال الامر -
كما هو الحال في مورد الامتثال الاجمالي -، وقد استدل على ذلك بان مرتبة العين
أسبق من مرتبة الأثر.
وقد أطال (قدس سره) الكلام في تعداد مراتب الامتثال وتقديم أحدها
على الاخر، وليس ذكره ضروريا فيما نحن فيه (4).
والتحقيق: ان ما ذهب إليه القوم من عدم كفاية الامتثال الاجمالي
المستلزم للتكرار حق لا محيص عنه. لكن نختلف في تقريبه مع ما ذكر له من
التقريبات.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 15 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 299 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 374 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(4) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 44 - الطبعة الأولى.
128

وبيانه: ان التقرب يحصل باتيان العمل بداع مقرب.
ومن الواضح ان الداعي يكون متأخرا بوجوده الخارجي عن العمل
ومترتبا عليه، ولكنه بوجود التصوري العلمي سابق على العمل.
ولأجل ذلك يمتنع ان يؤتى بالعمل بداعي الامر، لان نفس الامر مما لا
يترتب بوجوده الخارجي على العمل، بل هو سابق عليه.
وانما الصحيح الاتيان بالعمل بداعي امتثال الامر وتحقق موافقته
خارجا، فإنه مما يترتب على العمل ومن الأمور المقربة.
ولا يخفى انه في مورد دوران الواجب بين عملين يحتمل في كل منهما أن يكون
هو الواجب يمتنع ان يؤتى بكل منهما بداعي احتمال الامر، إذ احتمال
الامر كالعلم به سابق على العمل غير مترتب عليه خارجا فلا يصلح للداعوية،
ولا يمكن الاتيان بكل منهما بداعي تحقق الموافقة، إذ لا علم بتعلق الامر به
فيستلزم ذلك التشريع المحرم.
نعم أحد الفعلين موافق للامر قطعا ولكنه لا يعلمه بعينه، فهو حين يأتي
بالفعلين يدعوه داعيان، أحدهما تحصيل الموافقة والاخر التخلص من تعب
تحصيل العلم - مثلا -.
والأول داع إلهي قربي والاخر غير قربي - وان كان عقلائيا -.
ومن الواضح ان الداعي الإلهي لا يتعين واقعا لموافق الامر وغيره
لمخالفه، كي يصدر العمل الواجب عن داع قربي خالص، بل نسبة الداعيين
إلى كل من الفعليين على حد سواء، بمعنى انه لا تمييز لأحدهما على الاخر في
مقام الداعوية، وعليه فيصدر كل من الفعلين عن داعيين، أحدهما إلهي، والاخر
دنيوي وهو ينافي المقربية.
ولعل هذا هو مراد الشيخ من أن التكرار عبث ولعب بامر المولى، فلا
يتجه الايراد عليه بأنه يمكن أن يكون التكرار لداع عقلائي، إذ عرفت أن جهة
129

الاشكال ليس صدور الفعل عن داع لغوي، بل صدوره عن غير داع إلهي يخل
بالمقربية المعتبرة في العبادة.
وههنا توهمات لا بد من ذكرها وتفنيدها ليتضح المطلب كاملا:
الأول: دعوى امكان الإتيان بالعمل بداعي الموافقة الاحتمالية، فإنها
تترتب بالوجدان على العمل وليست سابقة عليه، إذ قبل الاتيان بكل من
الفعلين يعلم بعدم تحقق الموافقة، ومع اتيان أحدهما تتحقق الموافقة احتمالا
ويزول العلم بالعدم.
وبالجملة: ترتب الاتيان بالموافق احتمالا على اتيان كل من العملين مما
لا ينكر، فيمكن الاتيان بكل منهما بهذا الداعي ويتحقق التقرب لأنه من
مصاديق الانقياد.
ويندفع هذا التوهم: بان الداعي على ما عرفت ما تكون نسبته إلى الفعل
نسبة المسبب إلى السبب، لأنه ما يترتب على الفعل ويتحقق به، وعليه فما يكون
نسبته إلى الفعل نسبة العنوان إلى المعنون أو الطبيعي إلى فرده لا يصلح أن يكون
داعيا للفعل، إذ لا يترتب على الفعل، بل وجوده بنفس وجوده بنفس وجود الفعل.
نعم قد يطلق عليه الداعي مسامحة بلحاظ انه معرف للداعي الحقيقي
الذي يكون مسببا عن العمل، فاكرام زيد الذي يكون جارا له لا يصلح أن يكون
بداعي اكرام جاره لاتحاد وجود اكرام الجار مع وجود اكرام زيد، ولكنه
يعتبر بأنه أكرم زيدا بداعي اكرام جاره، وهو تعبير مسامحي يلحظ فيه ما يترتب
على اكرام الجار من فوائد.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فان اتيان الموافق احتمالا متحد مع المأتي به اتحاد
الطبيعي وفرده، فلا يصلح أن يكون داعيا، إذ ليس هو مما يترتب عليه وتكون
نسبته إليه نسبة المسبب إلى السبب.
فان قلت: إن التعظيم من عناوين الفعل، ولذا يقال للقيام مثلا انه
130

تعظيم، ومن الواضح ان الفعل يؤتي به بداعي التعظيم، فليس كل ما يكون
عنوانا للفعل لا يصلح أن يكون داعيا إليه.
قلت: التعظيم امر اعتباري يتحقق بالفعل الذي يقصد به تحققه نظير
سائر الأمور الاعتبارية.
وعليه، فهو مسبب عن العمل ومترتب عليه، ولولا الاعتبار لم يتحقق
التعظيم، ولذا يختلف ما به التعظيم باختلاف الانظار.
فان قلت: إن الاندفاع عن الاحتمال عليه سيرة العقلاء في أمور معاشهم
وتصرفاتهم، كما هو ظاهر حال الكاسب الذي يذهب صباحا إلى دكانه لاجل
الربح وبداعي المنفعة المحتملة.
قلت: اندفاع العقلاء في أمورهم لا ينشأ عن داعي المصلحة المعلومة
فضلا عن المحتملة، إذ تحقق الربح والمنفعة وترتبها على الفعل يتوقف على
مقدمات غير إرادية للمكلف، كمجئ المشتري - مثلا - واعجابه بالسلعة وغير
ذلك، وانما ينشأ عما هو يترتب على تصرفاتهم، وهو التهيؤ لتحقق الربح
والاستعداد لذلك. فتدبر.
فان قلت: كما أنه في مورد العلم بالأمر يؤتى بالعمل بداعي الموافقة
القطعية كذلك في موارد الاحتمال يؤتى به بداعي الموافقة الاحتمالية، ولا يؤتى
بداعي اتيان الموافق احتمالا كي يقال إنه عنوان للعمل لا مسبب عنه.
قلت: فرق بين الموافقة القطعية والاحتمالية فان الأولى تنتزع عن اتيان
ما يوافق المأمور به، فتكون مسببة عن العمل فتصلح لان تكون داعيا مقربا.
واما الموافقة الاحتمالية فهي ليست مسببة عن اتيان الموافق احتمالا.
الثاني: ان انضمام داع مباح غير قربي إلى الداعي القربى لا يضر في
مقربية العمل وصحته عبادة كما هو محرر في الفقه: فلو جاء بالصلاة في مكان
معين بداعي انه كثر برودة من غيره لم يضر بعبادية الصلاة، فليكن الحال فيما
131

نحن فيه كذلك.
ويندفع هذا التوهم: بان الموارد التي يلتزم فيها بعدم قدح الضميمة
المباحة تختلف عما نحن فيه، إذ في تلك الموارد توجد جهتان نفس العمل بذاته
وتطبيقه على فرد خاص اخذت الطبيعة بالإضافة إليه لا بشرط، والمكلف يأتي
بالعمل بداع قربي لكنه يأتي بالخصوصية بداع غير قربي وهو لا يضر لتباين
الخصوصية عن ذات العمل، بل لا يمكن الاتيان بالخصوصية بداع قربي بعد
اخذ الطبيعة بالنسبة إليها لا بشرط، الا ان يقوم دليل على استحبابها في نفسها
كالصلاة في المسجد فالضميمة المباحة في هذه الموارد لا تدعو إلى نفس العمل،
بل إلى خصوصيته. وليس الحال فيما نحن فيه كذلك، بل العمل نفسه يؤتى به عن
داعيين كما تقدم.
الثالث: دعوى امكان الاتيان بالمأثور به الواقعي بداعي الموافقة
والإطاعة. ببيان: ان كلا من الفعلين يؤتى به بداعي موافقة الامر على تقدير
الامر به، فعلى تقدير تعلق الامر به واقعا يكون قد أتى به بداعي الموافقة، لان
حصول المقدر عليه يقتضي حصول المقدر. فالواجب الواقعي من بين العملين
قد اتي به بقصد الموافقة وهو قصد مقرب كما عرفت.
ويندفع هذا التوهم: بان الإرادة المنجزة المتعلقة بالفعل يمتنع ان تصدر
عن مجرد الموافقة على تقدير، إذ من المحتمل أن لا يتحقق التقدير والحال ان
الإرادة حاصلة، فلا بد ان تتحقق بلحاظ كلا تقديري الفعل، والداعي يختلف
باختلاف التقديرين، فتكون صادرة عن داعيين على تقديرين، يعني: انه يدعو
إلى الفعل الموافقة على تقدير تعلق الامر به والتخلص عن التعب في تحصيل
العلم على تقدير عدم تعلق الامر به، فيحصل التشريك في مقام الداعوية
المستلزم لاختلال العبادية والتقرب.
وخلاصة المحذور الذي يستلزمه التكرار هو عدم صدور الفعل عن داع
132

قربي خالص، بل هو صادر عن داعيين أحدهما قربي والاخر دنيوي. فتدبر.
واما استدلال المحقق النائيني على ما ذهب إليه من أن مرتبة العين
متقدمة على مرتبة الأثر - الذي جاء في أجود التقريرات (1) - فهو عجيب، إذ أي
ربط للتأخر الرتبي والتقدم الرتبي في العارض والمعروض، بالنسبة إلى الاكتفاء
في مقام الامتثال، الذي ملاكه حصول المقربية والعبادية؟، وهل يمتنع ان يترتب
اثر واحد على كل من العارض والمعروض، بل العلة والمعلول؟، بل هل يمتنع ان
يترتب الأثر على المعلول دون العلة؟، فتأخر الاحتمال عن نفس الامر رتبة -
تأخر العارض عن المعروض - لا يلازم - بتاتا - تأخر الانبعاث عن احتمال
الامر عن الانبعاث عن نفس الامر رتبة وفي مقام الامتثال. ولو اكتفى (قدس
سره) بمجرد الدعوى والإحالة على الوجدان كما انتهج في تقريرات الكاظمي
كان أفضل وأولى.
ثم إن المحقق الأصفهاني ناقش المحقق النائيني (قدس سره) بوجوه:
منها: ان الاتيان بالعمل بداعي الموافقة الاحتمالية انقياد، وهو من
العناوين المقتضية للحسن، بحيث لو خليت وطبعها لازمت الحسن، وواضح ان
التمكن من العلم التفصيلي والموافقة التفصيلية ليس من موانع اقتضاء الانقياد
للحسن نظير الضرر المترتب على الصدق (2).
والانصاف: ان ما أفاده غير وارد، وذلك لان الاتيان بمحتمل الموافقة مع
التمكن من الموافقة التفصيلية لا يكون مقربا وانقيادا بنظر المحقق النائيني، فلا
معنى لاخذه مفروغا عنه، بل هو محل البحث والاشكال، فالاشكال في صغرى
المطلب. فتدبر جيدا والتفت.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 44 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 40 - الطبعة الأولى.
133

ثم إن المحقق النائيني ذكر: في أن مقتضى الأصل مع الشك في اعتبار
الامتثال التفصيلي مع التمكن منه في تحقق الامتثال هو الاحتياط وعدم الاكتفاء
بالامتثال الاجمالي (1).
وأورد عليه: بان كان الامتثال التفصيلي دخيلا في الغرض كان على المولى
بيانه لأنه مما يغفل عنه غالبا، فعدم بيانه دليل على عدم دخالته في الغرض فلا
يجب، وإن لم يحتمل دخله في الغرض فلا وجه للاحتياط، إذ لا يضر عدمه في
صحة العمل (2).
أقول: هذا الايراد غير متجه، لان الشك ليس في اعتباره دخيلا في المأمور
به أو الغرض زائدا على سائر الشروط كي ينفى بأصل البراءة أو الاطلاق، بل
الشك في دخالته في حصول التقرب المعتبر، فان المحقق النائيني حين ذهب إلى
اعتباره ذهب إليه من باب انه مع التمكن عنه لا يتحقق الإطاعة المعتبرة في
العبادة بدونه، فالشك في اعتباره يرجع إلى الشك في تحقق الإطاعة المعتبرة بدونه
وعدمه، فالشبهة موضوعية لا حكمية، ومقتضاها الاحتياط لقاعدة الاشتغال.
هذا مع التمكن من العلم التفصيلي.
فاما مع عدم التمكن منه والتمكن من الظن التفصيلي، فالحال فيه كذلك
أيضا، إذ مرجع حجية الظن إلى ترتيب آثار العلم وصحة إسناد المؤدى إلى الله
سبحانه وتحقق الامتثال به جزما، فالعدول عنه إلى الموافقة الاجمالية يلازم
التشريك في الداعي في كل من العملين بالبيان المتقدم، فتختل المقربية المعتبرة
في العبادة.
واما مع عدم التمكن من العلم التفصيلي والظن التفصيلي، جاز التكرار،

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 45 - الطبعة الأولى.
(2) الواعظ محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 82 - الطبعة الأولى.
134

وذلك لان الداعي الاخر الذي يكون داعيا للعمل على التقدير الاخر، أعني
غير الموافقة لا يكون هو التخلص من التعب، وانما ينحصر في كونه التخلص
من تبعة التكليف المعلوم والفرار من العقاب وهذا لا يضر بعبادية العمل كما لا
يخفى.
هذا مع أنه لو تنزلنا والتزمنا بمنافاة مثل هذا الداعي للعبادية، فلا بد من
الالتزام بالاكتفاء بهذا المقدار من العبادية، إذ أكثر منه غير مقدور، فلو اعتبر
الخلوص لزم سقوط التكليف لعدم القدرة على امتثاله، وهو خلف فرض تعلق
العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي، فنفس العلم بالتكليف يلازم القطع بالاكتفاء
بهذا المقدار في مقام الامتثال والا لسقط التكليف فالتفت.
هذا كله في المقام الأول وهو ما استلزم الاحتياط التكرار.
واما المقام الثاني: وهو مما لا يستلزم الاحتياط فيه التكرار فله صور
ثلاث:
الأولى: الشبهة البدوية واحتمال تعلق التكليف بعمل معين عبادي.
الثانية: دوران الامر بين الأقل والأكثر.
الثالثة: دوران الجزء بين نحوين، بحيث يستلزم الاحتياط فيه تكرار الجزء
كدوران امر القراءة بين الجهر والاخفات - على ما قيل (1) -.
اما الصورة الأولى، فهي كما لو احتمل لزوم الدعاء عند رؤية الهلال
بنحو عبادي أو صلاة ركعتين عندها، و تمكن من تحصيل العلم أو الظن الخاص،
ولا يخفى انه بناء على نفي جواز الاحتياط فيه يترتب بطلان عبادة تارك طريقي
الاجتهاد والتقليد الذي ذهب إليه البعض.

(1) إشارة إلى احتمال انه من موارد تكرار نفس العمل، لاحتمال مانعية تكرار السورة والفاتحة في العمل
الواحد لاستلزامه القرآن (منه عفى عنه).
135

وعلى كل قد ذهب المحقق النائيني إلى عدم جوازه بانيا له على ما أسسه
من عدم كفاية الانبعاث عن احتمال الامر في الإطاعة مع التمكن من الانبعاث
عن نفس الامر - كما تقدم (1) -.
ولكن عرفت ما فيه وانه قول لا يسنده برهان ولا وجدان.
واما على ما اخترناه من وجه بطلان الاحتياط المستلزم للتكرار، فلا يتأتى
ههنا.
* * *

الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 2 / 27 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 44 - الطبعة الأولى.
136

الامارات
137

" الكلام في الامارات المعتبرة شرعا أو عقلا "
وقبل ايقاع الكلام في ذلك لا بد من البحث في جهات عديدة:
الجهة الأولى: من جهات مباحث الامارات. ذكر صاحب
الكفاية ان الامارة غير العلمية ليست كالقطع في استلزامها الحجية عقلا، بل
ثبوت الحجية لها يحتاج إلى جعل شرعي، أو طرؤ بعض الحالات المستلزمة
لحجيتها عقلا بناء على الحكومة في نتيجة دليل الانسداد، فان غير العلم بنظر
العقل لا يقتضي الحجية، وليست الحجية من لوازمه العقلية. وذلك في مقام ثبوت
الحكم بالظن مما لا خلاف فيه. واما في مقام الامتثال وسقوط الحكم فقد يظهر
من بعض المحققين - ويقال: انه المحقق الخوانساري - الاكتفاء بالظن بالفراغ.
وقد احتمل صاحب الكفاية أن يكون منشؤه عدم لزوم دفع الضرر
المحتمل (1).
وفيه: انه يرد عليه - مع غض النظر عما ورد في الحواشي من الإشكالات -

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 275 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
139

ان لزوم القطع بالامتثال وتنجز الاحتمال الموهم ليس من باب لزوم دفع
الضرر المحتمل كي ينفى بعدم لزوم ذلك، وانما هو من جهة تحقق العلم بالتكليف
الذي يستلزم تنجزه، فلزوم القطع بالامتثال لاجل لزوم العلم بالفراغ من
التكليف المعلوم المنجز، ولزوم رفع احتمال الشغل ليس من جهة تنجزه بنفسه،
بل من جهة تنجز التكليف المعلوم. فلاحظ.
الجهة الثانية: من جهات مباحث الامارات. في امكان التعبد
بغير العلم، ويقصد من الامكان المبحوث عنه هو الامكان الوقوعي الذي يرجع
إلى نفي استلزام التعبد بالظن المحال في قبال دعوى الامتناع الراجعة إلى
دعوى استلزامه المحال - كما ستعرف -. لا الامكان الذاتي وهو كون الشئ
بحسب ذاته ممكن الوقوع، في قبال الامتناع الذاتي وهو كون الشئ بحسب
ذاته ممتنع التحقق ذاتا وبالنظر إلى نفسه بلا لحاظ مستلزماته.
والبحث في هذه الجهة من ناحيتين:
الناحية الأولى: فيما هو مقتضى الشك في الامكان، بمعنى انه إذا لم يقم
دليل على الامكان ولا على الاستحالة وكان كل منهما محتملا فما هو المتبع؟. ذكر
الشيخ ان الامكان أصل لدى العقلاء مع احتمال الامتناع وعدم قيام الدليل
عليه، فإنهم يرتبون آثار الممكن على مشكوك الامتناع (1).
وناقشه صاحب
الكفاية بوجهين:
أحدهما: انه لم يثبت بناء العقلاء على ذلك، ولو سلم فلا دليل قطعيا يدل
على حجية هذا البناء، والظني لا ينتفع به إذ الكلام في امكان حجيته وامتناعها.
ثانيهما: انه إذا دل دليل على وقوع التعبد بالظن فهو دليل على امكانه
* (هامش) (1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 24 - الطبعة الأولى.
140

وعدم استلزامه لاي محذور، إذ لو كان ممتنعا لما وقع. وإذا لم يكن هناك دليل على
وقوع التعبد به فلا فائدة في البحث عن امكانه وعدمه، لذا الأثر العملي لوقوع
التعبد به لا لامكانه مع عدم وقوعه (1).
وتوضيح هذا الوجه: انه (قدس سره) استظهر من كلام الشيخ (رحمه
الله) ان للعقلاء في مورد التعبد بالظن بنائين. أحدهما: بناؤهم على امكان التعبد
به. والاخر: بناؤهم على التعبد به وحجيته (2).
فناقشه: (قدس سره) بأنه إذا ثبت البناء على التعبد فلا حاجة لبنائهم
على امكانه، وإذا لم يثبت بناؤهم على الحجية فلا اثر لبنائهم على امكانه، فالمهم
هو اثبات بنائهم على تحقق التعبد وعدمه.
وهذا نظير ما يورد على الالتزام بجعل السببية في باب المعاملات
والمسببات الاعتبارية كسببية البيع للملكية، من انه ان اعتبر الشارع أو العقلاء
الملكية عند تحقق البيع - مثلا - لم يكن احتياج لاعتبارهم سببية البيع للملكية
وإن لم تعتبر الملكية عند البيع فاعتبار السببية وحدها عديم الأثر.
هذا ومن الممكن أن لا يكون كلام الشيخ (رحمه الله) ناظرا إلى تعدد
الاعتبار والجعل فيما نحن فيه، بل إلى أنه مع قيام الدليل القطعي على التعبد
بالظن كحجية الظواهر لا يعتني العقلاء في مقام عملهم باحتمال الاستحالة
والشك فيها، بل يرتبون آثار الاعتبار والحجية بلا التفات إلى احتمال الاستحالة.
وبذلك لا يرد عليه اشكال صاحب الكفاية بوجهيه كما لا يخفى.
وقد تعرض صاحب الكفاية إلى ما يحكى عن الشيخ الرئيس من قوله:

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 276 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) حمل سيدنا الأستاذ (دام ظله) عبارة الكفاية أولا على أن قيام الدليل على الوقوع قيام له بالملازمة
على الامكان، ومعه لا حاجة إلى الأصل، إذ الدليل حاكم عليه، وبدون الدليل لا ينفعنا الأصل بشئ
ثم فسرها بما يأتي (منه عفي عنه).
141

" كلما قرع سمعك فذره في بقعة الامكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان "، وذكر
ان المراد منه ليس بيان ان الامكان أصل مع الشك فيه، بل مراده من الامكان
هو الاحتمال، وهذا امر وجداني لا يمكن انكاره إذ كل شئ محتمل الوقوع قبل
قيام البرهان على استحالته أو وجوبه (1).
واما ما ذكره المحقق النائيني في مناقشة أصالة الامكان، من أن البحث
عن الامكان في عالم التشريع بمعنى عدم لزوم المحذور في التشريع لا الامكان
التكويني المختص بالأمور الخارجية حتى يبحث عن أن الأصل العقلائي هل
هو الحكم بالامكان حتى يثبت الامتناع أولا (2)؟.
فهو مما لا نكاد نفهمه بأكثر من صورته اللفظية، وذلك فان التشريع
وجعل الحكم فعل تكويني للمولى كسائر الأفعال التكوينية له وان اختص باسم
التشريع، فيقع البحث في أنه يستلزم المحال أو لا؟ ومع الشك ما هو الأصل
والقاعدة؟.
وبالجملة: التعبير بالامكان التشريعي والتكويني لا يرجع إلى اختلاف
واقع الامكان، بل هو تقسيم بلحاظ متعلقه.
ولنكتف في البحث في هذه الناحية بهذا المقدار، إذ ليس ذلك بذي
جدوى. وانما المهم هو البحث في...
الناحية الثانية: وهي في بيان ما ذكره من وجوه استحالة التعبد بالظن
والنظر فيها.
وقد ذكرها صاحب الكفاية ثلاثة، وجمعها تحت دعوى استلزام التعبد
بالامارة غير العلمية اما المحال أو الباطل.
الأول: استلزام التعبد بغير العلم اما التصويب الباطل لو التزم بعدم بقاء

(1) الخراساني المحقق الشيح محمد كاظم. كفاية الأصول / 276 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 3 / 88 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
142

الواقع على واقعه. واما اجتماع المثلين فيما إذا وافق الحكم الذي قامت عليه
الامارة الواقع من وجوبين أو تحريمين أو غيرهما، أو اجتماع الضدين فيها إذا
تخالف الواقع مع مؤدى الامارة من وجوب وحرمة - مثلا - وإرادة وكراهة، ومصلحة
ملزمة ومفسدة كذلك. وهذا فيما إذا التزم ببقاء الواقع على واقعه.
الثاني: استلزامه طلب الضدين فيما إذا أدت الامارة إلى طلب ضده
الواجب، وهو محال من الحكيم تعالى.
الثالث: استلزامه تفويت المصحلة فيما لو أدت إلى عدم وجوب الواجب
أو الالقاء في المفسدة فيما لو أدت إلى عدم حرمة الحرام، وهو قبيح عليه تعالى.
وقد تصدى الاعلام لحل هذه الاشكالات وأطلق على البحث في هذه الجهة
ب‍: " مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ".
وقد ذكر صاحب الكفاية وجوها ثلاثة للتخلص من هذه المحاذير جمعها
بقوله: " ان ما ادعى لزومه اما غير لازم أو غير باطل " (1).
الوجه الأول: ان المجعول في مورد التعبد بالامارة ليس حكما شرعيا
تكليفيا، بل المجعول هو الحجية من دون أن يكون هناك اي حكم ظاهري
مجعول في موردها، واثر ذلك هو التنجيز والتعذير.
وعليه، فليس لدينا وجوبان - مثلا - أو وجوب وحرمة ولا مصلحة ومفسدة
ولا إرادة وكراهة. كما أنه ليس لدينا طلب الضدين.
واما محذور تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة فيرتفع بوجود مصلحة
في التعبد بالظن غالبة على مفسدة التفويت أو الالقاء.
وقد اكتفى (قدس سره) في دفع محذور التفويت بهذا المقدار من البيان
مع أنه يستدعي إطالة البحث وسنتكلم فيه أن شاء الله على حده - بعد التعرض

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 277 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
143

لوجوه الجمع المتكفلة لدفع محذور اجتماع الضدين أو المثلين - ونتكلم فيما افاده
الشيخ (قدس سره) من الالتزام بالمصلحة السلوكية. فانتظر.
الوجه الثاني: انه لو التزم بوجود حكم ظاهري تكليفي في موارد
الامارات اما بدعوى استتباع جعل الحجية لذلك أو بدعوى أنه لا معنى لجعل
الحجية الا جعل الحكم التكليفي، بمعنى انها منتزعة عن الحكم التكليفي
الظاهري، فلا محذور أيضا وان اجتمع الحكمان، وذلك لان الحكم الظاهري حكم
طريقي، بمعنى انه ناشئ عن مصلحة في نفسه أوجبت انشاءه المستلزم للتنجيز
والتعذير. والحكم الواقعي حكم فعلي ناشئ عن مصلحة في متعلقه.
وعليه فلا يلزم اجتماع الضدين، لان تضاد الحكمين من جهة تضاد
مبدئهما وهو الإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة، والمفروض ان ما فيه المصلحة
في الحكم الظاهري نفس الحكم لا المتعلق الذي فيه المفسدة الموجبة للحكم
الواقعي، فمركز المصلحة والمفسدة مختلف وباختلافه يختلف متعلق الإرادة
والكراهة، إذ هما يتبعان المصلحة والمفسدة، فلا تتعلق الإرادة بمتعلق الحكم
الظاهري، بل بنفس الحكم لأنه مركز المصلحة.
واما نفس الحكمين بما هما انشاءان مع قطع النظر عن مبدئهما فلا تضاد
ولا تماثل بينهما، فالانشاء خفيف المؤنة كما قيل. وقد أشار (قدس سره) إلى
حديث تحقق الإرادة من المبدأ الأعلى ونفي تحققها، وان الموجود في نفس المبدأ
الأعلى ليس إلا العلم بالمصلحة والمفسدة، وان الإرادة انما تتحقق في النفس
النبوية أو الولوية حين يوحى الحكم الشأني إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أو
يلهم به الولي، وهو حديث خارج عما نحن بصدده نوكله إلى اهله في محله.
الوجه الثالث: الالتزام بعدم كون الواقع فعليا تام الفعلية ومن جميع
الجهات.
ببيان: ان الحكم الفعلي هو الحكم الواصل إلى مرحلة البعث والزجر،
144

وذلك انما يكون إذا كانت على طبقه الإرادة والكراهة فعلا، فيلتزم بان إرادة
الواقع معلقة على صورة عدم ثبوت الاذن على خلافه، فإذا كان هناك اذن فعلي
كما في موارد أصالة الإباحة لم يكن الحكم الواقعي فعليا من جميع الجهات، إذ هو
فعلي على تقدير ولم يتحقق التقدير لفرض ثبوت الاذن.
وقد أشرنا سابقا إلى أن عبارته بدوا توهم تعليق فعلية الحكم على العلم
به، فيشكل عليه بعدم كون قيام الامارة المصادفة للواقع موجبا للفعلية لعدم
قيامها مقام القطع الموضوعي، وبينا انه التفت إلى هذا الاشكال، فذهب إلى أن
فعلية الواقع معلقة على عدم الاذن على خلافه لا على العلم به كما هو صريح
ذيل عبارته فلاحظها (1).
كما أن ظاهر عبارته أولا ان الحكم الواقعي فعلي بنحو لو علم به لتنجز.
وهذا ليس طريقا لحل الاشكال الا إذا قلنا بان مراده كما هو ظاهر كلامه
انه لو علم به لصار فعليا وتنجز، فيكون العلم موجبا للفعلية والتنجز في آن واحد
وهو واضح.
وعلى كل فالالتزام بعدم فعلية الواقع التامة لتعليقها على عدم الاذن
يوجب عدم اجتماع الضدين أيضا، لعدم الإرادة والكراهة في شئ واحد، إذ
الواقع ليس مرادا كما أنه ليس بذي مصلحة ملزمة فعلا، فلا تنافي بين الحكمين
حينئذ، وقد أشار إلى هذا الوجه مكررا مع اختلاف في التعبير، وقد عبر في بعض
الأحيان عن الواقع بأنه لو علم به من باب الاتفاق، فلا بد من الحديث عن هذا
القيد وما هو المقصود به كما وعدناك سابقا وسيجئ إن شاء الله تعالى.
وهذا الوجه ذكره عدولا عن الوجه الثاني لعدم تأتيه - كما ذكر - في موارد
بعض الأصول العملية كأصالة الإباحة الشرعية، وعلله بان الاذن في الاقدام

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 278 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
145

والاقتحام ينافي المنع فعلا كما فيما صادف الحرام، وان كان الاذن لاجل مصلحة
فيه لا لاجل عدم مصلحة أو مفسدة ملزمة في المأذون فيه.
وقد وقع الكلام في بيان جهة الاشكال في مورد أصالة الإباحة وما هو
المنظور في كلام الكفاية؟.
فذهب البعض إلى أنه استدراك من الوجه الأول، حيث إنه لا معنى
لجعل الحجية في أصالة الإباحة شرعا، بل المجعول رأسا هو الترخيص والاذن.
ولا يخفى ما في هذا التوجيه، فإنه خلاف صريح العبارة كقوله: " وان كان
الاذن فيه لاجل مصلحة فيه... "، فإنه صريح في أنه استدراك عن الوجه الثاني
الذي يرجع إلى الالتزام بكون الحكم الظاهري طريقيا ناش عن مصلحة في
نفسه.
ثم إنه لو انحلت المشكلة بالالتزام بالوجه الثاني في موارد بعض الأصول
- كما يراه الموجه - فأي معنى لقوله: " فلا محيص إلا عن الالتزام... ".
وعليه، فما يوجه به كلامه (قدس سره) بعد البناء على أنه استدراك من
الوجه الثاني هو ان يقال: ان التضاد بين الاحكام من ناحية المبادئ، فالتضاد
بين الوجوب والحرمة من جهة اجتماع الكراهة والإرادة في شئ واحد لا من
جهة أنفسهما، ولكن إذا فرض وجود مصلحة في الفعل تدعو إلى ارادته واقعا
ومصلحة في نفس الاذن في تركه ظاهرا كان وجود المصلحة في نفس الاذن موجبا
لكون المولى لا اقتضاء نفسيا بالنسبة إلى الفعل، وهو يتنافى مع ارادته الفعل.
ولكن هذا التوجيه صوري لا أكثر، إذ يرد عليه:
أولا: ان مقتضاه سراية الاشكال إلى موارد قيام الامارة على الإباحة ولا
اختصاص له بمورد الأصل العملي.
وثانيا: انه ما الفرق بين الاذن وسائر الاحكام؟ فكما أن مصلحة الاذن
تلازم كون المولى لا اقتضاء نفسيا بالنسبة إلى الفعل والترك المنافي لإرادة الفعل
146

واقعا، كذلك مصلحة الحرمة ظاهرا تلازم كون تعلق كراهة المولى بالفعل المنافية
لإرادته الواقعية.
وعليه، فهذا الاستدراك لا نعرف له وجها صحيحا. فالتفت.
وعلى اي حال، فلا يهم في المطلب صحة الاستدراك المزبور وعدمه، انما
المهم هو بيان وجوه الجمع المذكورة في الكفاية وغيرها والنظر في ما يمكن
الالتزام به منها.
فلنتعرض أولا إلى وجوه الكفاية الثلاثة، فنقول:
اما الوجه الأول: فقد نسب إلى صاحب الكفاية انه يريد به كون
المجعول هو نفس المنجزية والمعذرية، كما قد يظهر من التزام المحقق الأصفهاني
بان المجعول مفهوم الحجية على أنه رأي شخصي له (1).
وذلك وان كان قد يظهر من بعض عباراته في غير المقام، لكن عبارته في
المقام ظاهرة في أن المجعول هو الحجية ويترتب عليه المنجزية والمعذرية (2).
وعلى كل، فقد أورد عليه المحقق النائيني: بان المجعول ان كان هو
المنجزية فهو محال، إذ مع فرض الجهل بالواقع وعدم وجود ما يوجب التنجز
يحكم العقل بقبح العقاب عليه، فجعل العقاب على مثل ذلك يكون جعلا له بلا
سبب وبلا وجه، ويكون مستلزما لتخصيص الحكم العقلي بقبح العقاب بلا بيان
وهو ممتنع. وان كان المجعول امرا يترتب عليه التنجيز رجع إلى ما ذكرناه من
كون المجعول هو الوسطية في الاثبات بتعبير، أو الطريقية بتعبير اخر، أو
الوصول بتعبير ثالث (3).
وأرود عليه أيضا المحقق الأصفهاني: بان المنجزية واستحقاق العقاب
* (هامش) (1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 44 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 277 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 76 - الطبعة الأولى. (*)
147

فرع قيام الحجة على التكليف، والا فالتكليف مع عدم الحجة عليه لا يستحق
العقاب على مخالفته.
وعليه، فترتب الحجية على جعل المنجزية يستلزم الدور، هذا إذا كان
المجعول نفس المنجزية، وان كان المجعول خصوصية يترتب عليها التنجز فلا بد
من البحث عن تلك الخصوصية المجعولة وما هي (1).
فخلاصة الايرادين: ان جعل المنجزية يستلزم تخصيص حكم العقل،
ويستلزم الدور وكلاهما محال.
والذي نراه عدم صحة الايرادين كليهما:
اما بناء على ما قربناه سابقا من أن الحكم باستحقاق العقاب لا يد
للعقل والعقلاء فيه ولا دخل، وانما هو يدور مدار ما يدل عليه الدليل الشرعي،
نظير عقاب السارق بالحد في الدنيا فإنه لا يحكم به العقل ولا العقلاء، فلو دل
على العقاب على الواقع بواقعه علم به أو جهل قامت الحجة علية أو لا لم
يكن لدينا كلام ولما كان منافيا لحكم عقلي، فواضح جدا إذ لا حكم للعقل بقبح
العقاب بلا بيان، ولا تفرع للعقاب على قيام الحجة، فقيام الدليل على ثبوت
العقاب عند قيام الامارة لا يستلزم تخصيص الحكم العقلي ولا الدور.
واما بناء على المذهب المشهور من أن الحكم باستحقاق العقاب عقلي
وللشارع تحديد مقداره لا أكثر، فلان جعل العقاب من قبل الشارع على الواقع
عند قيام الامارة يكون بنفسه بيانا رافعا لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان
لا مخصصا له، إذ الحكم بقبح العقاب بلا بيان يكون حكما عقليا تابعا للملاكات
الواقعية وليس حكما جعليا كي يكون تابعا للبناء والجعل.
وإذا فرض ان اعتبار الطريقية - كما عليه المحقق النائيني - أو مفهوم

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 2 / 44 - الطبعة الأولى.
148

الحجية - كما عليه المحقق الأصفهاني - يستلزم ارتفاع موضوعه وتصحيح العقاب
على الواقع المجعول من دون ان يتغير الواقع بالاعتبار، فليكن الامر كذلك في
اعتبار نفس المنجزية رأسا، إذ دعوى الفرق بين الاعتبارين في تغيير الحكم
العقلي التابع للملاك الواقعي - دعوى - لا تستحق الالتفات والسماع.
وبالجملة: نفس جعل المنجزية بيان للواقع المجهول يصحح العقاب
ويرفع موضوع القاعدة لا انه يوجب تخصيصها، كما أنه لا يتوقف على جعل
الحجية قبل ذلك فالتفت.
واما ما ذكره المحقق النائيني من انه لو أريد من المجعول امرا يترتب
عليه التنجيز فهو يرجع إلى جعل الطريقية الذي اختاره (قس سره)، فصحته
تتوقف على امتناع فرض مجعول اخر غير الطريقية.
وهذا ما ستعرفه بعد حين.
والمتحصل: ان ما افاده العلمان في مقام الايراد على الوجه الأول غير تام.
والذي ينبغي ان يقال: هو ان مقصود صاحب الكفاية ان كان هو جعل
المنجزية - والمراد بها الوعيد بالعقاب لا جعل الاستحقاق كما لا يخفى - عند
قيام الامارة مطلقا صادفت الامارة الواقع أم لم تصادف فلازمه ترتب العقاب على
التجري وهو لا يلتزم به. وان كان جعل المنجزية بالنسبة إلى الامارة على تقدير
مصادفتها للواقع، فحيث لا يعلم المصادفة لم يترتب على قيام الامارة استحقاق
العقاب، لعدم صلاحية المشكوك المصادفة للبيانية. هذا مع أن جعل المنجزية
مطلقا ينافي جواز اسناد مؤداها إلى الله سبحانه الذي هو اثر حجية الامارة
الظاهر، كما لا يخفى، وعليه ينسد باب الافتاء بمؤدى الامارة.
واما الوجه الثاني: فقد أورد عليه المحقق الأصفهاني من ناحيتين:
إحداهما: فيما ذكره من استتباع الحجية للحكم التكليفي، فقد استشكل
فيه بان استتباع الحجية للحكم التكليفي اما بنحو استتباع الموضوع لحكمه أو
149

بنحو استتباع منشأ الانتزاع، وكل منهما محل نظر.
اما الاستتباع بالنحو الأول: فلان الحجية ليست نظير الملكية ذات اثر
شرعي، بل لم يرتب عليها اي حكم شرعي ولا يعقل ذلك، إذ جعل الحجية
يكفي في انبعاث المكلف نحو العمل ويكفي في تنجز الحكم، ومعه يكون جعل
وجوب العمل حقيقيا بداعي البعث أو طريقيا بداعي التنجيز لغوا.
واما الاستتباع بالنحو الثاني: فلان الحكم الوضعي هو الذي يصح
انتزاعه عن الحكم التكليفي، كالجزئية المنتزعة عن التكليف بالمركب، دون
العكس، لان تحقق الحكم التكليفي انما هو بالانشاء بداعي جعل الداعي وهو
مما لا يقبل الانتزاع عن حكم وضعي.
الثانية: فيما ذكره من أن الحكم المجعول طريقي، الذي حمله المحقق
الأصفهاني على الحكم المنشأ بداعي التنجيز فلا يتنافى مع الحكم المنشأ بداعي
البعث.
وأورد عليه: بان جعل الحكم بداعي التنجيز غير معقول، وذلك لان ما
يتنجز بالانشاء هو المادة التي يقع عليها الانشاء، ومن الواضح ان ما يقبل
التنجز هو الحكم لا متعلقه، وما عليه الانشاء وما هو مدلول المادة نفس المتعلق
كالصلاة لا حكمها ولا معنى لتنجزه.
ونظير ذلك الانشاء بداعي البعث، فان المبعوث نحوه هو المادة التي يقع
عليها الانشاء.
وقد أطال (قدس سره) في بيان ذلك وانما نقلناه ملخصا للاكتفاء بمجرد
ذلك فيما هو المهم.
ثم ذكر (قدس سره) ان الحكم الطريقي بمعنى آخر معقول، وهو الحكم
المنشأ بداعي البعث إلى الواقع لكن لا بعنوان، بل بعنوان آخر وهو عنوان ما
قامت عليه الامارة. ولكنه خلاف ظاهر العبارة، لان ظاهرها ان الحكم الطريقي
150

حيث إنه ليس جعلا للداعي فلا تماثل ولا تضاد بينه وبين الحكم الواقعي، فلا بد
ان يريد به المعنى الأول (1).
والتحقيق: ان اشكاله (قدس سره) من الناحية الأولى انما يتم لو كان
المراد بالاستتباع الاستتباع في مقام الثبوت، اما لو أريد بالاستتباع الاستتباع
في مقام الاثبات، بمعنى ان الدليل وان دل على جعل الحجية لكنه يراد به الدلالة
على جعل الحكم الظاهري رأسا، فلا اشكال إذ لا تعدد للمجعول، وحينئذ
فالاختلاف بين الترديدين المذكورين في هذا الوجه يرجع إلى أن المقصود بالأول
هو ان واقع جعل الحجية اثباتا جعل الحكم، وبالثاني هو ان واقع جعل الحجية
ثبوتا هو جعل الحكم. فالتفت.
واما اشكاله من الناحية الثانية فمردود بأنه: لا ظهور لكلام صاحب
الكفاية في إرادة الطريقية بالمعنى الأول، بل لم يتبادر إلى الذهن الا الثاني منهما.
ولو سلم ذلك فكلامه لا يأبى الحمل على المعنى الثاني للطريقية تخلصا عن ايراد
عدم معقولية المعنى الأول، واما استشهاده بما عرفت فمنشؤه قول الكفاية: " وانما
لزم انشاء حكم واقعي حقيقي بعثا أو زجرا وانشاء حكم آخر طريقي، ولا مضادة
بين الانشائين فيما إذا اختلفا... " (2) ولكنه غير صريح في المطلوب، فمن الممكن
ان يراد به المعنى الثاني ويكون نظره في نفي التضاد إلى بيان اختلاف متعلق
الإرادة والكراهة كما عرفت فتدبر.
ثم إن المحقق النائيني (رحمه الله) نسب إلى صاحب الكفاية - استنادا إلى
تعليقته على الرسائل - التزامه في مقام الجمع، بان الأحكام الواقعية انشائية وانه
عبر عنها في بعض عباراته بأنها شأنية.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 49 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 278 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
151

وأطال (قدس سره) في مناقشته بان مراده من الحكم الشأني..
ان كان ثبوت الحكم في مرتبة ثبوت ملاكه. ومقتضيه. وبعبارة أخرى: ليس
الموجود سوى ملاك الحكم، فهو التزام بالتصويب وعدم وجود حكم يشترك فيه
العالم والجاهل.
وان كان ثبوت حكم حقيقي في الواقع، ولكنه حكم أولي لا يتنافى مع
عروض عنوان ثانوي يغيره كموارد الضرر والحرج، فهو يستلزم أن يكون قيام
الامارة على الخلاف موجبا لانقلاب الواقع كانقلابه بعروض الضرر، وهو التزام
بالتصويب أيضا.
وان كان ثبوت حكم مهمل من حيث ما يطرء عليه من العناوين فهو
غير معقول، لان الاهمال في مقام الثبوت محال، وانما الاهمال المعقول هو الاهمال
في مقام الاثبات.
هذا إذا كان مراده من الشأني غير الانشائي. واما إذا أريد به الانشائي
كما هو ليس ببعيد، فيرده ما ثبت من أن الأحكام الشرعية ليست الا احكاما
فعلية حقيقية ثابتة لموضوعاتها المقدرة الوجود، وانه ليس لدينا الا مقام الجعل
وهو الانشاء ومقام المجعول وهو الحكم، وهو لا يخلو اما أن يكون مقيدا بغير من
قامت عنده الامارة أو مطلقا، فعلى الأول يستلزم التصويب وعلى الثاني يكون
فعليا لحصول موضوعه ويستحيل تخلفه عن موضوعه.
هذا ملخص ما افاده (قدس سره) (1) والذي يؤاخذ به:
أولا: نسبة هذا الوجه إلى صاحب الكفاية وعدم تعرضه إلى الوجه الثالث
الذي ذكره في الكفاية بقليل ولا كثير، مع تبني صاحب الكفاية له والتزامه به كما
أشرنا إليه، وعدوله عن الالتزام بكون الحكم الواقعي انشائيا.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 101 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
152

وثانيا: التزامه بعدم وجود حكم انشائي، وهذا مما عرفت الاشكال فيه
سابقا، وقد أشبعنا الكلام في اثبات حكم انشائي غير الانشاء والفعلية فراجع (1).
واما الوجه الثالث من وجوه الجمع في الكفاية: فقد استشكل فيه المحقق
الأصفهاني (قدس سره) بأنه...
ان أريد من كون الحكم الواقعي فعليا من جهة وليس تام الفعلية انه
فاقد لبعض شرائط الفعلية، فهو على هذا حكم انشائي لا فعلي.
وان أريد انه واجد لمرتبة من الفعلية دون أخرى - بالبناء على أن الفعلية
ذات مراتب -، فشدة المرتبة وضعفها لا يوجب رفع التضاد أو التماثل، فالبياض
بمرتبته الضعيفة لا يجتمع مع السواد بأي مرتبة منه.
وان أريد انه حكم بداعي إظهار الشوق لا بداعي البعث والتحريك،
فهو فعلي من قبل هذه المقدمة.
ففيه: ان الشوق إذا بلغ حدا تتحقق به الإرادة التشريعية كان منافيا
لإرادة أخرى على خلافها، وإن لم يبلغ هذا الحد لم يكن العلم به موجبا للامتثال
لعدم تعلق الإرادة بالعمل.
ثم ذكر (قدس سره) انه ان أراد ما ذكرناه من كون الحكم فعليا، بمعنى
انه فعلي من قبل المولى، وهو الانشاء بداعي جعل الداعي، حيث إن هذا هو
تمام ما بيد المولى تم ما ذكره، ومثل هذا الحكم لا يكون قابلا للداعوية الا بعد
الوصول، وعليه فلا منافاة بينه وبين الحكم الظاهري الفعلي الواصل، إذ لا
دعوة للحكم الواقعي مع الجهل به (2).
ومن كلام صاحب الكفاية الراجع إلى انكار التضاد من حيث المبادئ،

(1) في مسألة انفكاك الحكم الانشائي عن الفعلي خارجا في مبحث القطع الحكم المأخوذ موضوعا للحكم.
(2) الأصفهاني المحقق الشيح محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 54 - الطبعة الأولى.
153

وهذا الكلام الراجع إلى انكار التضاد من حيث المقتضى، يمكن تشكيل وجه
مستقل للجمع بين الحكم الظاهري والواقعي كما ذهب إليه بعض، وسيأتي
الكلام فيه أن شاء الله تعالى.
أقول: المهم في جهة الاشكال هو ما ذكره أولا من أن فقدان بعض شرائط
الفعلية يوجب كون الحكم انشائيا، ولا يكون فعليا.
ويندفع هذا الاشكال: انه ليس المهم بنظر الكفاية هو تسمية الحكم
الواقعي فعليا وعدم تسميته انشائيا، إذ لا اثر للتسمية في واقع المطلب، وانما المهم
هو التزامه بان الحكم الواقعي بنحو يكون العلم به أو قيام الامارة عليه منجزا
له، سواء سمي الحكم الواقعي انشائيا أم فعليا، في قبال الالتزام بأنه انشائي
صرف بحيث لا يكون العلم به منجزا - كما ينسب إلى الشيخ -.
ولا يخفى ان ما ذكره المحقق الأصفهاني لا ينفي واقع هذا الامر، وانما
ينفي صحة تسمية الحكم الواقعي بالفعلي، فلو وافقناه في أنه حكم انشائي لم
يختل الجمع بهذا الوجه ولم ينتف ما رتبه صاحب الكفاية عليه من أن عدم الاذن
على الخلاف يحقق فعليته المستلزمة للبعث والزجر، إذ لا مانع أن يكون الحكم
الواقعي انشائيا ولكنه بهذه الصفة.
وبعبارة أخرى: ان تسمية ما سماه صاحب الكفاية بالفعلي من جهة
بالانشائي لا يوجب وقوع صاحب الكفاية فيما فر منه من الالتزام بان الواقع
انشائي صرف لا يتنجز بالعلم، وهذه الدعوى هي مهمة صاحب الكفاية فان
مهمته واقعية لا لفظية.
ولم يتعرض المحقق العراقي لهذا الوجه أصلا، وانما تعرض للوجهين
الأولين وناقشهما بما هو خارج عن محل الكلام، من اشكال التضاد، وهو لزوم
نقض الغرض وتفويت المصلحة الذي سيأتي الكلام فيه على حده ان شاء الله
154

تعالى (1).
ونتيجة ما ذكرناه: ان وجوه الجمع الثلاثة المذكورة في الكفاية معقولة كلها
وليس فيها اشكال ثبوتي يوجب رفع اليد عنها.
واما الوجوه الأخرى المذكورة في مقام الجمع بين الأحكام الواقعية
والظاهرية غير ما افاده صاحب الكفاية فهي متعددة.
منها: ما أشار إليه في الكفاية من أن الحكم الواقعي انشائي والحكم
الظاهري فعلي، ولا تضاد بينهما كذلك، إذ التضاد انما هو بين الحكمين الفعليين (2)
وينسب هذا الوجه إلى الشيخ الأنصاري (قدس سره). واستشكل فيه في
الكفاية بوجهين.
الأول: ان لازمه عدم لزوم امتثال ما قامت عليه الامارة من الاحكام، إذ
الحكم الانشائي لا يلزم امتثاله كما تقدم في أوائل مباحث القطع، من أن القطع
انما يكون منجزا إذا تعلق بحكم فعلي دون ما إذا تعلق بحكم انشائي، مع أن
لزوم امتثال ما قامت عليه الامارة من الواضحات التي لا تحتاج إلى بيان.
والتفصي عن هذا الاشكال: بان قيام الامارة يوجب فعلية الحكم
الواقعي الانشائي فيلزم امتثاله لصيرورته فعليا بقيام الامارة.
مندفع: بان لازم ذلك بان موضوع الفعلية هو الحكم الواقعي الانشائي
الذي قامت عليه الامارة، ولا يخفى انه لا بد من احراز ذلك اما تعبدا أو حقيقة
في الحكم بالفعلية (3).
وعليه فنقول: ان أريد دليل حجية الامارة بنفسه يتكفل التعبد بهذا
الموضوع. ففيه: ان دليل الحجية انما يتعبد بما هو مؤدى الامارة وهو نفس الواقع

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 69 - 70 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 279 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 278 - 279 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
155

الانشائي لا أكثر.
وان أريد ان الموضوع مركب من جزئين: أحدهما: الحكم الانشائي، وهو
محرز بالتعبد، والاخر: قيام الامارة وهو محرز بالوجدان فتترتب الفعلية كسائر
الموضوعات المركبة التي يحرز بعض اجزائها بالتعبد وبعضها الاخر بالوجدان.
ففيه: ان الجزء الاخر ليس هو مجرد قيام الامارة بل هو قيام الامارة على الواقع
الذي هو عبارة أخرى عن مصادفة الامارة للواقع. وهذا غير ثابت لا وجدانا
ولا تعبدا إذ لا نظر لدليل الحجية إلى اثبات المصادفة والتعبد بها.
وبعبارة أخرى: ان قيام الامارة لوحظ بنحو التقييد لا التركيب، ومن
الواضح ان لازم دليل الحجية ليس إلا احراز قيام الامارة على الواقع التنزيلي
لا الواقع الحقيقي، فلا يثبت الموضوع المقيد لا وجدانا ولا تعبدا.
الثاني: ان الالتزام بكون الحكم الواقعي انشائيا لا ينفي احتمال فعلية
الواقع، ولازمه تحقق احتمال اجتماع الحكمين الفعليين وهو محال لان احتمال
اجتماع الضدين محال كنفس اجتماعهما (1).
وهذا الاشكال غير واضح المرمى، وهو بظاهره مندفع، إذ نظير هذا.
الاحتمال يتأتى على ما اختاره (قدس سره) من وجه الجمع، إذ يقال له: ان
الالتزام بكون الحكم الواقعي فعليا من جهة دون أخرى لا ينفي احتمال فعلية
الواقع التامة، فيلزم محذور احتمال اجتماع الحكمين الفعليين، فإن أجاب عن
نفسه بانحصار الحل فيما ذكره فلا احتمال. فلاحظ.
ومنها: ما أشار إليه في الكفاية أيضا: من تعدد مرتبة الحكمين الظاهري
والواقعي واختلافهما، فان الحكم الظاهري بما أن موضوعه الجهل بالواقع يكون

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 279 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
156

متأخرا عن الحكم الواقعي بمرتبتين.
ورده في الكفاية: بان الحكم الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الحكم
الواقعي الا ان الحكم الواقعي ثابت في مرتبة الحكم الظاهري لشموله لحال
الجهل، فيجتمع الحكمان المتنافيان (1).
أقول: اكتفى صاحب الكفاية في نقل هذا الوجه والاشكال عليه بهذا
المقدار.
وتحقيق الحال فيه يستدعى التعرض إلى بيان ما يصلح تقريبا له والنظر
فيه، وهو وجوه متعددة:
الوجه الأول: ما يمكن ان يستفاد من كلام المحقق الأصفهاني (قدس
سره) وتوضيحه: ان الاحكام لا تنافي بينهما من حيث أنفسهما وانما التنافي من
حيث المبدأ وهو الكراهة والإرادة والمنتهى وهو مقام الامتثال، وقد التزم (قدس
سره) بعدم انقداح الإرادة في الأحكام الشرعية، بلحاظ ان الشوق نحو الفعل
انما ينقدح فيما إذا كان في الفعل مصلحة تعود على المشتاق نفسه، والامر ليس
كذلك في موارد الاحكام، إذ المصلحة في الفعل تعود على المكلف - بالفتح - لا
المكلف - بالكسر - وعليه، فينحصر محذور تضاد الحكمين من جهة المنتهى، فان
الحرمة والوجوب يتضادان في مقام التحريك، إذ أحدهما يدعو إلى الفعل والاخر
يزجر عنه أو يدعو إلى الترك.
وهذا المحذور مفقود فيما نحن فيه. لان الحكم الظاهري لما كان ثابتا في
مورد الجهل بالحكم الواقعي لم يكن منافيا له في مقام الامتثال، لان الحكم انما
هو انشاء ما يمكن أن يكون داعيا، وامكان الداعوية لا يثبت الا بالوصول،
والا فالانشاء بنفسه بدون الوصول لا يترتب عليه امكان الداعوية.
* (هامش) (1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 279 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع). (*)
157

وعليه، فالحكم الواقعي في موارد ثبوت الحكم الظاهري لا داعوية له لا
فعلا ولا امكانا، فبتعدد مرتبة الحكمين ارتفع محذور التنافي بينهما في مقام الامتثال
فلا مانع من اجتماعهما (1).
ويؤاخذ هذا الوجه بشؤونه من جهات ثلاث:
الأولى: ان ما ذكره من عدم عود مصلحة إلى المكلف - بالكسر - في موارد
الاحكام غير تام على اطلاقه، إذ هو مسلم بالنسبة إلى المبدأ العلى جل اسمه.
واما بالنسبة إلى النبي (صلى الله عيه وآله) أو الولي (عليه السلام) فغير مسلم
لتصور مصلحة عائدة إليهما من الأفعال، ولو بلحاظ كمال الأمة المنسوبة إليهم
فإنه مما يوجب تحقق الشوق إلى ما يوجب كمالها، نظير الشوق لما فيه مصلحة
الابن خاصة باعتبار انتسابه إلى أبيه.
و عليه، فتحقق الإرادة والكراهة في نفس النبي (صلى الله عليه وآله) أو
الولي (عليه السلام) ممكن.
الثانية: فيما ذكره من أن حقيقة الحكم جعل ما يمكن أن يكون داعيا،
وان امكان الداعوية لا ثبوت له الا في حال الوصول، فان لازمه كون الاحكام
الفعلية مقيدة بالوصول بنحو الوجوب المشروط، إذ لا معنى للجعل في حال عدم
الوصول بعد عدم امكان الداعوية، والمفروض ان الحكم حقيقته جعل ما يمكن
أن يكون داعيا. وعليه فلا يكون فعليا قبل الوصول نظير الواجب المشروط بغير
الوصول. وهذا خلاف ما التزم به من أن الفعلية من قبل المولى تتحقق قبل
الوصول.
الثالثة: فيما ذكره من أن امكان الداعوية لا يثبت الا في حال الوصول
فإنه ممنوع وذلك: لان داعوية الامر نحو متعلقه في صورة العلم ليست تكوينية
* (هامش) (1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 42 - 43 - الطبعة الأولى. (*)
158

قهرية نظير تأثير الأسباب التوليدية في مسبباتها كالنار في الاحراق. وانما هي
بلحاظ ما يترتب على الموافقة والمخالفة من ثواب وعقاب، وهذا الملاك بعينه
ثابت في صورة الجهل البسيط واحتمال الامر، إذ يقطع بترتب الثواب عند
الاتيان بالعمل ويحتمل العقاب - مع غض النظر عن المعذر -، وهذا يكفي في
الداعوية نحو الفعل، وعليه فلا يتوقف امكان الداعوية على الوصول.
والنتيجة: ان ما ذكره الأصفهاني (قدس سره) غير مسلم.
وقد حاول بعض الاعلام الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بوجه
مؤلف مما افاده صاحب الكفاية والمحقق الأصفهاني ببيان: ان التنافي بين
الحكمين ان كان بلحاظ المبدأ وهو الإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة، فلا تنافي
بين الحكم الواقعي والظاهري لان الحكم الظاهري ناشئ عن مصلحة في نفسه
لا في متعلقه. وان كان بلحاظ المنتهى وهو مقام الامتثال فلا تنافي أيضا لان الحكم
الظاهري ثابت في صورة الجهل والحكم الواقعي لا داعوية له في هذا الفرض.
وانتهى ملخصا (1).
أقول الحكم التكليفي بجميع مباني حقيقته من كونه الانشاء بداعي
جعل الداعي أو جعل الفعل في العهدة أو غيرهما يتقوم بامكان داعويته اما من
جهة انه مقوم لحقيقته أو لازم لها ولا يتخلف عنها، ففي المورد الذي لا يمكن
الانبعاث يلغو جعل الحكم. ولأجل ذلك اعترف القائل بامتناع جعل التكليف
في صورة الجهل المركب على خلافه وصورة الغفلة لعدم تصور الداعوية فيه.
وقد صححه في صورة الجهل البسيط والتردد بامكان الانبعاث احتياطا.
لكن يشكل: بأنه مع قيام الامارة على خلاف الواقع وكان مفادها حكما إلزاميا
- كما لو قامت الامارة على الحرمة وكان الواقع الوجوب - يمتنع بقاء الواقع لعدم

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 109 - الطبعة الأولى.
159

قابليته الدعوة مع تنجز الحرمة في حق المكلف. فتدبر.
الوجه الثاني: ما نقله المحقق الأصفهاني عن بعض الاجلة، وهو يرجع
إلى دعوى عدم اجتماع الحكمين في موضوع واحد ببيان: ان الحكم لا تعلق له
بالموجود الخارجي، بل انما يتعلق بالموجود الذهني بما هو حاك عن الخارج، وليس
لدينا مجمع في الذهن للعنوان المتعلق للحكم الواقعي والعنوان المتعلق للحكم
الظاهري، لان موضوع الحكم الواقعي هو الفعل المجرد عن لحاظ العلم بحكمه
والشك فيه، وموضوع الحكم الظاهري هو الفعل بوصف كونه مشكوكا حكمه،
ومن الواضح انه لا مجمع للفعل بما هو مجرد والفعل بما هو متصف بالشك.
ولا يخفى ان هذا الوجه يبتني على امرين: أحدهما: امتناع تقييد الحكم
بصورة العلم به. والاخر: انه إذا امتنع التقييد امتنع اخذه مطلقا بحيث يشمل
صورة العلم والجهل، لكون التقابل بين التقييد والاطلاق تقابل العدم والملكة.
ونتيجة هذين الامرين: كون الحكم الواقعي مهملا من هذه الجهة. وهو
غير خال عن الاشكال لامتناع الاهمال في مقام الثبوت كما بيناه مكررا، إذ
الحاكم يمتنع ان يتردد في حكمه وموضوعه.
وليس امتناع التقييد مستلزما لامتناع الاطلاق مطلقا، بل هو يستلزم
ضرورة الاطلاق في بعض الأحيان، وهو كما في صورة امتناع تقييد الحكم لا في
صورة امتناع قصر الحكم على المقيد فقط - وقد أوضحناه في مبحث التعبدي
والتوصلي -.
وبالجملة: فالحكم الواقعي لابد أن يكون مطلقا شاملا لكلا الحالين حال
العلم وحال الجهل.
ومعه يكون لموضوعه وموضوع الحكم الظاهري مجمع ذهني نظير الصلاة
في الدار المغصوبة.
وقد أطال المحقق الأصفهاني (قدس سره) في مقام الرد على هذا الوجه،
160

ببيان مقدمة ابان فيها اعتبارات الماهية، ثم تعرض إلى بيان امتناع التقييد
لا يستلزم دائما امتناع الاطلاق، بل قد يستلزم ضرورة الاطلاق كما فيما نحن
فيه.
ولا نرى حاجة ملحة إلى سرد كلامه فمن أراد الاطلاق عليه فليراجعه
في حاشيته على الكفاية (1).
الوجه الثالث: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره)، وقد اختلف تقريرا
بحثه في بيان هذا المطلب.
فقد جاء في أجود التقريرات ايضاح هذا المطلب - بعد دعوى أن المراد
به الترتب الرافع للتنافي بين الحكمين - بمقدمات ثلاث نذكر منها اثنين إذ الثالثة
أجنبية عما نحن فيه.
الأولى: ان للشك جهتين: إحداهما: انه حالة من حالات المكلف.
والأخرى: انه مستلزم للحيرة والتردد وهو بلحاظ الجهة الأولى مشمول للحكم
بنتيجة الاطلاق ومتمم الجعل. وبلحاظ الجهة الثانية موضوع الحكم الظاهري.
الثانية: ان التكليف الذي لا يفي بالملاك المقتضي لجعله يحتاج إلى متمم
الجعل، بان يثبت تكليف اخر بضميمته إلى التكليف الأول يصل المكلف إلى تمام
الملاك. وموارد متمم الجعل متعددة كمورد اخذ قصد القربة، ومورد عموم الحكم
لصورتي العلم والجهل به، ومورد المقدمات المفوتة، ومورد وجوب الاحتياط،
والجامع بين هذه الموارد هو كون التكليف الأولي بمتعلقه غير واف بالملاك وانما
يحتاج إلى المتمم في ثبوت المطلوب. نعم تختلف هذه الموارد من جهة أخرى لا
يهم بيانها.
وبعد ذلك ذكر ان الحكم الواقعي في مورد الجهل به والشك لا داعوية

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 57 - الطبعة الأولى.
161

له، لان قوام الداعوية بالوصول ومع الشك ليس إلا الحيرة والتردد. فيحتاج في
شموله لهذه الحال متمم الجعل.
وعليه: فلا بد من ملاحظة ملاك الحكم الواقعي فهل هو مهم بحيث يلزم
استيفائه في ظرف الجهل كموارد الاعراض في الجملة أو لا؟.
ففي المورد: لا بد من متمم الجعل لاستيفاء الغرض وهو ايجاب
الاحتياط. ولا يخفى انه لا ينافي الحكم الواقعي لأنه متفرع عليه وقد اخذ في
موضوعه الحكم الواقعي فكيف ينافيه.
واما في الثاني: فللمولى ان يوكل المكلف إلى ما يحكم به عقله من براءة
كما في الشبهة البدوية أو اشتغال كما في الأقل والأكثر عند بعض. ولو أن يجعل
البراءة المؤمنة عن الواقع وهي لا تنافي الواقع لأنها في طوله ومتفرعة عليه.
ثم إنه بعد فصل طويل يتعرض إلى بيان حقيقة وجوب الاحتياط والبحث في أن
المؤاخذة على وجوب الاحتياط أو عند خصوص مصادفة الواقع.
فيبين ان وجوب الاحتياط حيث إنه ناشئ عن المحافظة على ملاك
الواقع ففي مورد المصادفة يكون عين الواقع وليس غيره. وفي مورد المخالفة لا
يكون الا حكما صوريا لا وجود له حقيقة.
ومن هنا ذهب إلى أن العقاب يختص بصورة المصادفة الا ان يقال بثبوت
العقاب في مورد التجري.
هذا خلاصة ما ورد في أجود التقريرات (1).
وهو لا يخلو عن اشكال من جهات عديدة:
الأولى: ما ذكره من تعدد جهتي الشك، وان ثبوت الحكم الواقعي بنتيجة
الاطلاق بلحاظ الجهة الأولى دون الثانية، ولثبوت الحكم الظاهري بلحاظ

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 78 - 85 الطبعة الأولى.
162

الثانية دون الأولى.
إذ المقصود من هذا المطلب ان كان بيان ان في الشك جهتين واقعيتين
منفصلتين، ونتيجته انه إذا ثبت حكم بلحاظ إحداهما واخر بلحاظ الأخرى لا
يكو من اجتماع الضدين، بل من اختلاف المتلازمين في الحكم، فالمحذور لو
كان فهو محذور التزاحم لا التضاد. ففيه:
أولا: انه ينافي ما تقدم منه في مبحث اجتماع الأمر والنهي من أن الجهات
المتعددة انما تكون تقييدية إذا كانت في متعلق التكليف فان التركيب بينها
انضمامي لا ما إذا كانت في الموضوع، فان تعدد العناوين الاشتقاقية المأخوذة في
الموضوع لا يوجب تعدد المعنون لان التركيب بينها اتحادي وهي جهات تعليلية
لا تقييدية.
وذلك لان المأخوذ في الموضوع هو الشاك لا الشك انه مبدأ الاشتقاق،
فموضوع الحلية مثلا هو الشاك لا الشك، وعليه فتعدد الجهة فيه لا يوجب تعدده
واقعا بل المجمع واحد ينطبق عليه عنوانان اشتقاقيان.
وثانيا: ان كون الشك حالة من حالات المكلف ليست جهة واقعية تغاير
الجهة الأخرى، بل هو نظير كونه عرضا للمكلف وكونه صفة له، فذلك من قبيل
تعدد العناوين الانتزاعية في البياض وليست هي جهة في قبال كونه كيفا.
فلاحظ.
وان كان المقصود من كون الحكم الواقعي يثبت للشك بلحاظ الجهة
الأولى دون الثانية انه مهمل بلحاظ الجهة الثانية، بمعنى انه يمكن ان يثبت له
الحكم بلحاظ جهة الحيرة لكن لا يمكننا الالتزام به اثباتا لقصور الدليل ونتيجة
انكار الواقع كما هو الظاهر من الكلام.
ففيه: انه خلف فرض وجود الواقع وعدم الالتزام بالتصويب.
وان كان المقصود ان الحكم الواقعي ثابت بلحاظ الجهة الثانية لكنه لا
163

يترتب عليه اثره بلحاظها.
ففيه: انه لا معنى لبيان هذا الامر بان اطلاق الحكم ثابت من جهة دون
أخرى، لان الحكم ثابت بلحاظ الجهة الثانية لكن لا داعوية له، فيكتفي في
ذلك بما بينه من عدم داعوية الحكم الواقعي في صورة الجهل، ولا نحتاج إلى
المقدمة الأولى، بل يتمحض البحث في أن الحكم الواقعي له داعوية في حال
الجهل أو لا.
واما المقدمة الثانية: فلا بأس بها، ولكن لا بد من ايقاع البحث فيه في
مورد تعميم الحكم لصورتي العلم والجهل وله مجال اخر ليس ههنا.
الثانية: ما ذكره من أن الحكم الواقعي لا داعوية له قبل الوصول، إذ
فيه ما عرفت من امكان الداعوية مع فرض الجهل، فراجع.
الثالثة: ما ذكره في تقريب عدم المنافاة بين وجوب الاحتياط والحكم
الواقعي من تفرع الاحتياط على الواقع وكونه في طوله. إذ فيه:
أولا: ان تفرع وجوب الاحتياط عن الواقع انما يتم لو كان الواقع هو
الوجوب أيضا.
اما إذا كان الحكم الواقعي إباحة فلا معنى لتفرع وجوب الاحتياط عليه
وكونه بملاك المحافظة عليه على ملاكة، فان وجوب الاحتياط انما يتفرع عن
الوجوب الواقعي لا الإباحة الواقعية.
وثانيا: ان التفرع والطولية لا تنفي التضاد أو التماثل، فهل ترتفع منافاة
البياض للسواد بفرض السواد على تقدير البياض؟ فان الفرض لا يرفع
التضاد أو التماثل الموجود بين الحكمين.
الرابعة: ما ذكره أخيرا من أن وجوب الاحتياط عند المصادفة حكم
حقيقي وعند المخالفة حكم صوري تخيلي. إذ فيه: ان الالتزام بهذا المعنى يستلزم
انكار متجزية وجوب الاحتياط، إذ المكلف يشك في مصادفة وجوب الاحتياط
164

للواقع وعدمه، ومعه يشك في أن الحكم حقيقي فيستلزم التنجز أو صوري فلا
يستلزمه، ومع هذا الشك لا يصلح الوجوب للتنجيز والبيانية فيكون المورد من
مصاديق قاعدة قبح العقاب بلا بيان. فالتفت.
والاشكال من هذه الجهة مشترك الورود على أجود التقريرات وتقريرات
الكاظمي لان هذه الجهة ذكرها الكاظمي أيضا في تقريراته (1).
ولكن لا يرد على الكاظمي الاشكال من الجهة الثالثة، لأنه لم يقرب عدم
المنافاة بين الحكم الواقعي ووجوب الاحتياط، بتفرع ايجاب الاحتياط عن
الواقع بل قربه بان وجوب الاحتياط عين الواقع على تقدير المصادفة وحكم
صوري وهمي على تقدير المخالفة فلا منافاة. وعلى هذا لا يرد أحد الوجهين
المتقدمين. فلاحظ.
كما أنه يرد عليه الاشكال من الجهة الثانية لأنه ذكرها أيضا.
واما الجهة الأولى: فقد تعرض لذكرها الكاظمي لكن لا بنحو انها
أساس المطلب، كما ذكرها بهذا النحو في أجود التقريرات.
ثم إنه ورد في بعض عباراته ان الحكم لا يكون مبينا لوجوده وان كان
ثابتا. وهذا التعبير مجمل المراد، فان نفس الشئ يستحيل أن يكون مبينا لوجود
نفسه لكن دليله لا مانع من تكفله بيان وجوده في صورة الشك. ولعل المراد منه
ما سيجئ هنا في تحقيق المراد من تعدد الرتبة.
الوجه الرابع: ما يجئ في الذهن، وهو أن يكون المراد من اختلاف الرتبة
وتعدده، هو انه ليس ان الحكم الواقعي لا اطلاق له يشمل صورة الجهل، وان
الحكم الظاهري ثابت في تلك الصورة، كي يرد عليه تارة بان الاهمال ممتنع ثبوتا

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 3 / 117 - 118 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
165

ان أريد كونه مهملا بالنسبة إليه، وأخرى: بان تخصيص الحكم بالعالم يستلزم
التصويب ان أريد عدم ثبوت الحكم للشاك. بل المراد ان الحكم الواقعي لا نظر
له ولا اقتضاء بالنسبة إلى الوظيفة العملية في حال الشك فيه.
بيان ذلك: ان المكلف عند الشك في الحكم الواقعي يتحير بالنسبة إلى
وظيفته على تقدير وجود الحكم واقعا.
ومن الواضح ان الحكم الواقعي بالنسبة إلى هذه الجهة لا معنى لان
يكون له اطلاق أو تقييد، ولا يمكن أن يكون له نظر إلى وظيفة المكلف عند
الشك فيه. فإذا فرض ان العقل حكم بالبراءة أو الاحتياط لم يكن منافيا لوجود
الواقع كيف؟ وقد فرض الواقع ثابتا، إذ التحير في الوظيفة على تقدير وجود
الواقع.
وعليه فنقول: ان الحكم الظاهري ثابت في هذه المرحلة التي لا نظر
للحكم الواقعي إليها، وقد يتصرف في موضوع الحكم العقلي كما لو كان العقل
يحكم بالبراءة، فحكم الشارع بالاحتياط أو العكس. فلا تنافي بين الحكم
الظاهري والواقعي لاجل ثبوت الحكم الظاهري في مرحلة لا نظر للواقع إليها،
كما أنه لم يلزم انكار الواقع، إذ عرفت أنه مفروض الوجود في جعل الحكم
الظاهري، بل ولا داعويته كي يرد عليه اشكال اللغوية السابق، بل الملتزم به
هو انكار نظر الواقع لتعيين وظيفة الجاهل به، وهو اثبات الحكم الظاهري في
هذه المرحلة، أعني مرحلة تعيين الوظيفة فلا منافاة. فتدبر.
وليكن هذا الوجه على ذكر منك لأنا سنتعرض إلى ايضاحه فيما بعد.
وتحقيق المقام في الأحكام الظاهرية والجمع بينها وبين الأحكام الواقعية،
ان يقال: ان عمدة الاشكالات في ثبوت الحكم الظاهري مع الواقعي امران:
تفويت المصلحة، ولزوم نقض الغرض.
اما الايراد الأول: وهو الايراد باستلزام الحكم الظاهري تفويت
166

المصلحة أو الالقاء في المفسدة، فقد اختلفت العبارات في تقريبه، واكتفى صاحب
الكفاية في تقريبه والإجابة عنه بالاجمال كما - تقدم (1) -. وتقريبه الدقيق
بتلخيص هو: ان الحكم الواقعي ثابت بلحاظ المصلحة في متعلقه، فالحكم
الظاهري ان ثبت بلا ملاك يقتضيه كان خلاف الحكمة. وان ثبت بواسطة ملاك
فاما أن يكون في متعلقه أو فيه نفسه، فإن كان الملاك في متعلقه لا بد من حصول
الكسر والانكسار بين ملاك الواقع وملاك الظاهر فاما ان يغلب ملاك الواقع فلا
حكم ظاهري أو يغلب ملاك الظاهر فلا حكم واقعي ويمتنع ثبوت كلا الحكمين.
وهكذا الحال فيما إذا كان الملاك في نفس الجعل، لأنه اما أن يكون أهم من ملاك
الواقع فيلزم انتفاء الواقع، واما أن يكون ملاك الواقع أهم منه فيلزم انتفاء
الظاهر.
وهذا الايراد يرجع إلى عدم امكان ثبوت الحكمين من باب التزاحم بين
المقتضيين والملاكين، لا من باب تفويت مصلحة الواقع أو الالقاء في مفسدته
الذي مر تقريبه في الكفاية.
وقد تصدى الشيخ (رحمه الله) إلى دفع محذور التفويت ببيان طويل
ملخصه: ان التعبد بالامارة اما أن يكون في فرض انسداد باب العلم بالاحكام.
واما أن يكون في فرض انفتاح باب العلم بها.
فعلى الأول: لا قبح في التعبد بها، إذ يدور الامر بين الاحتياط وهو
مقطوع العدم وبين إهمال امتثال الاحكام وهو ممنوع كالأول، فيتعين ايكال
المكلف إلى طريق ظني يوصله إلى الواقع.
وبالجملة: لا يلزم من التعبد بالظن تفويت المصلحة لغرض فواتها بدون
التعبد لعدم العلم بالاحكام

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 277 - طبعة مؤسسة أل البيت (ع).
167

وعلى الثاني: فاما أن يكون التعبد بالامارة بلحاظ مجرد
كاشفيتها وطريقيتها، أو يكون بلحاظ ثبوت مصلحة بسبب قيامها.
فعلى الأول: فتارة يعلم الشارع بدوام موافقة الامارة للواقع وإن لم يعلم
المكلف بها. وأخرى: يعلم الشارع بأنها غالبة المطابقة للواقع. وثالثة: يعلم بأنها
أغلب مطابقة من الطرق العلمية التي يسلكها المكلف. وقبح التعبد بالامارة انما
يتم في الفرض الثاني دون الأول والثالث، إذ لا يلزم على الأول أي تفويت، ولا
يلزم على الثالث تفويت من جهة الامارة بحيث لولاها لم يفته شئ.
وعلى الثاني: - أعني حدوث مصلحة بقيام الامارة - فلا قبح في التعبد إذا
كانت هذه المصلحة مما يتدارك بها مصلحة الواقع، إذ لا يلزم من التعبد تفويت
للمصلحة بعد التدارك، وتكون هذه المصلحة بمقدار ما يفوت من الواقع من
مصلحة.
يبقى اشكال استلزام ثبوت المصلحة على طبق الحكم الظاهري
للتصويب. وقد تخلص عنه بالالتزام بان المصلحة انما هي في نفس سلوك الامارة
لا في متعلق الحكم نفسه كي يحصل الكسر والانكسار.
هذا ملخص ما أفاده الشيخ (رحمه الله) مما يتعلق بالمقام ويهم ذكره (1).
وقد تابعه فيما ذكره المحقق النائيني (قدس سره)، الا انه اختلف عنه
بان النوبة لا تصل إلى الالتزام بالمصلحة السلوكية، لان المقصود من انفتاح باب
العلم ليس انفتاحه الفعلي، بل التمكن من تحصيل العلم بسؤال الإمام (ع) -
مثلا -، لكن المكلف لا يتصدى إلى ذلك عادة، بل يعتمد على الطرق العلمية
القابلة للخطأ، وبما أن الطرق العلمية ليست بأقل خطا من الطرق الظنية فلا
يلزم التفويت من التعبد بالامارة لأنها فائتة على كل حال. هذا أولا.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 25 - الطبعة الأولى.
168

وثانيا: ان الامارات المعتبرة ليست معتبرة ابتداء، بل اعتبرت امضاء
لسيرة العقلاء، فلا يلزم من الشارع تفويت بعد أن كانت السيرة العقلائية على
العمل بهذه الامارات كالظهور وخبر الواحد.
نعم لو تنزلنا عن ذلك كله فلا بأس بالالتزام بالمصلحة السلوكية التي
يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة (1).
ولا يخلو ما أفاده من اشكال، لحصره موضوع البحث في التعبد
بالامارات على الاحكام، مع أن البحث يعم مطلق موارد جعل الحكم الظاهري،
وبعضها لا يتأتى فيه ما ذكره من كونها أقرب من الطرق العلمية أو انها احكام
امضائية. وذلك كبعض الامارات القائمة على الموضوع - على الخلاف فيها من
كونها إمارة أو أصلا - كقاعدة التجاوز أو الفراغ، فإنه أي سيرة عقلائية عليها
وأي أقربية لها للواقع من طرق العلم؟، وكأصالة الصحة في عمل الغير و كموارد
الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية التي لا يشملها القول بالتصويب، لان
التصويب انما يلتزم به في الشبهات الحكمية لا الموضوعية، فيقع في اشكالها
القائل بالتصويب أيضا.
نعم الأصول الحكمية لا اشكال فيها، لأنها انما تجري بعد الفحص
واليأس عن الدليل فلا يتصور فيها انفتاح باب العلم، بخلاف الأصول
الموضوعية، إذ لا يجب في إجرائها الفحص، بل هي تجري حتى مع التمكن من
تحصيل العلم.
ولا معنى لان يقال: ان الأصل أقرب إلى الواقع من الطرق العلمية، أو
يقال إنه حكم امضائي.
وبالجملة: فما افاده (قدس سره) لا يحل الاشكال في مطلق الموارد. وعليه

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 90 - 94 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي
169

فتصل النوبة إلى الكلام في المصلحة السلوكية.
وقد عرفت التزام الشيخ بها وغايته هو الجمع بين تدارك مصلحة الواقع
مع الالتزام ببقائه على ما هو عليه، وعدم الانتهاء إلى التصويب المحال أو
الباطل - على الوجهين اللذين ذكرهما -.
وقد استشكل المحقق الأصفهاني فيما أفاده (قدس سره) - بعد ايضاح
مراد الشيخ (رحمه الله) بان المصلحة في سلوك الامارة الحاكية عن الحكم الواقعي
وفي تطبيق العمل عليها من حيث إن مدلولها حكم واقعي، فعنوانها مقتض
لثبوت الحكم الواقعي لا مناف له، ولذا قال إن هذا من وجوه الرد على المصوبة
لا أنه تصويب - بما حاصلة:
ان المراد ان كان مجرد ثبوت الحكم الواقعي عنوانا بلحاظ ان الامر
بتطبيق العمل على الامارة بملاحظة كون مدلولها حكم الله. ففيه، ان ثبوت
الحكم عنوانا لا ينفع في رد التصويب مع ثبوته واقعا، ولا ملازمة بين ثبوت الشئ
عنوانا وثبوته واقعا، بل قد يثبت عنوانا ولا وجود له واقعا.
وان كان المراد ان المصلحة قائمة بالفعل بعنوان آخر فلا تزاحم مصلحة
الواقع. ففيه: ان المصلحة..
ان كانت قائمة بعنوان منطبق على الفعل، فيتحقق التزاحم بين
المصلحتين، إذ لا فرق في تحقق التزاحم بين كون الملاكين قائمين بذات الفعل،
أو كان أحدهما قائما بذات الفعل والاخر بعنوانه المتحد في الوجود معه.
وان كانت قائمة بعنوان الاستناد، وهو ليس من عناوين الفعل. ففيه: ان
المصلحة ان كانت قائمة بالفعل المستند إلى الامارة فلا ينفع في رفع التزاحم،
لان تعدد الحيثية في تعدد الملاك لا يجدي في رفع التزاحم مع وحدة الوجود المجمع
للملاكين. وان كانت قائمة بنفس الاستناد الذي هو فعل قلبي. ففيه: ان
الاستناد لا يجب في غير التعبديات. هذا مع أن ثبوت المصلحة في شئ يستلزم
170

الامر به والدعوة إليه لا إلى غيره وان لازمه، فلا معنى للدعوة إلى الفعل مع
كون المصلحة في نفس الاستناد.
ثم تعرض إلى ما في بعض نسخ الرسائل من فرض المصلحة في الأمر،
وانه غير صحيح (1).
أقول: ما ذكره أولا من أن ثبوت الواقع عنوانا لا يلازم ثبوته واقعا الذي
يقصد به نفي ما ذهب إليه الشيخ من أن هذا الوجه من وجوه الرد على المصوبة
لأنه فرع ثبوت الواقع. لا يخلو عن اشكال.
وذلك لان مراد الشيخ لو كان مجرد ان التعبد بالامارة بعنوان مؤداها
الواقع، كان ما أفاده في مقام الاشكال عليه في محله، فان التعبد بشئ بعنوان
انه وجود زيد لا يستلزم وجوده واقعا، بل يجتمع حتى مع عدمه وفرض عدمه.
واما لو كان مراد الشيخ (قدس سره) ان التعبد بالامارة وقيام المصلحة
في فرض وجود الواقع - يعني على تقدير وجود الواقع -، ففي السلوك مصلحة
يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع، فالالتزام بالمصلحة السلوكية على تقدير
وجود الواقع. فلا يتم ما ذكره، بل يتم ما ذكره الشيخ من انه التزام بعدم
التصويب، إذ يمتنع ان تكون المصلحة الثابتة على تقدير وجود الواقع نافية
للواقع، والا لزم من وجودها عدمها - كما لا يخفى -.
وبالجملة: فهذا التزام ببقاء الواقع وثبوته.
ومجرد احتمال إرادة الشيخ لهذا المطلب يكفي في رد الاشكال عليه، بل
فسرت عبارته به أو بما يقاربه في بعض تعليقات (2) الرسائل على ما يخطر بالبال.
هذا ولكن يشكل ما أفاده الشيخ (رحمه الله) من أن قيام مصلحتين في

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 48 - 49 - الطبعة الأولى.
(2) الآشتياني الشيخ ميرزا محمد حسن. بحر الفوائد / 72 - الطبعة الأولى.
171

الفعل مستلزم لوقوع التزاحم بينهما في مقام اقتضاء الحكم وتحقق الكسر
والانكسار. فان كانت مصلحة الظاهر هي الغالبة - كما هو المفروض -، لزم انتفاء
الحكم الواقعي. وهذا امر وجداني في كل موارد تعلق الإرادة والكراهة ونحوهما.
واما ما ذكرناه من أن استلزام مصلحة الظاهر لنفي الحكم الواقعي
يستلزم محذور استلزام وجود الشئ لعدمه بعد أخذ مصلحة الظاهر على تقدير
وجود الواقع. فهو بنفسه دافع لكلام الشيخ لا شاهد.
وذلك لأنه بعد الفراغ عن امتناع اجتماع مصلحتين من دون كسر
وانكسار، يجري هذا البيان في وجود مصلحة الظاهر المعلقة على وجود الواقع،
فيقال: ان وجود مصلحة الظاهر يستلزم نفي الواقع، ونفي الواقع يستلزم انتفاء
مصلحة الظاهر، فيكون وجود المصلحة الظاهرية مستلزما لعدمها. ومنشأ المغالطة
السابقة هو إجراء هذا الحديث في مانعية مصلحة الظاهر وقصر النظر عليها
فقط.
وبالجملة: مانعية المصلحة الظاهرية وان استلزمت الخلف، لكن ذلك
ينتهي إلى انكار احدى المصلحتين للفراغ عن لزوم تحقق الكسر والانكسار
وامتناع وجود مصلحتين كذلك بدون كسر وانكسار، والكسر والانكسار مستلزم
للخلف فلا بد من انكار إحدى المصلحتين. فتدبر فإنه دقيق.
وعليه، فالالتزام بالمصلحة السلوكية على ما ذكره الشيخ ممتنع.
وقد تصدى المحقق الأصفهاني (قدس سره) إلى دفع اشكال تفويت
المصلحة وما يتفرع عليه بما حاصله: ان تفويت المصلحة والالقاء في المفسدة
ليس من العناوين القبيحة ذاتا وبنحو العلة التامة للقبح، بل هي بالنسبة إلى
القبح بنحو الاقتضاء فقد يطرأ عليها عنوان يوجب حسنها نظير الكذب النافع.
وعليه، فإذا فرض وجود جهة حسنة في التعبد بالامارة تغلب على مفسدة
تفويت الواقع، فلا مانع من التعبد بها، والامر في المقام كذلك، لان تحصيل العلم
172

بالاحكام يشتمل على مفسدة غالبة على ما يفوته من المصلحة أو يقع فيه من
المفسدة، فالتعبد بالامارة يوجب صرفه عن تحصيل العلم المستلزم لذلك، فتكون
جهة حسنة أقوى من مفسدة التفويت أو الالقاء.
هذا على الطريقية المحضة.
واما على الموضوعية والسببية، فلا تفوت المصلحة، لكن الشأن في الالتزام
بالمصلحة بنحو لا يستلزم التصويب. وتحقيقه: ان الواجب الواقعي لو كان هو
الظهر وقامت الامارة على وجوب الجمعة، فكل من الصلاتين مشتمل على
مصلحة، وهما اما متغايرتان أو متضادتان أو متسانختان. فان كانتا متغايرتين فقد
يتخيل وقوع التزاحم بينهما - بعد الفراغ عن كون الواجب أحدهما وامتناع
وجوب كلتا الصلاتين -. ودعوى أن الغالب هو وجوب الجمعة لقيام الدليل عليه
فيستلزم انتفاء الواقع وهو التصويب. لكن يندفع بان التزاحم بين المقتضيين انما
يكون إذا كان بين مقتضاهما تناف، ولا تنافي بينهما، إذ الوجوب الواقعي للظهر
لا ينافي الوجوب الظاهري للجمعة كما تقدم تقريبه (1).
وعليه، فكل من الحكمين ثابت. هذا ملخص ما أفاده (2)، وقد أطال
(قدس سره) في بيان ذلك وبيان الشقوق الأخرى ولا يهمنا التعرض لجميع
كلامه، لوضوح الحال بهذا المقدار.
وعلى كل فكلامه لا يخلو عن اشكال بكلا جهتيه:
اما ما ذكره بناء على السببية من عدم تزاحم المصلحتين لعدم تزاحم
مقتضاهما. ففيه:
أولا: انه يختص بما إذا تعدد متعلق الحكم الواقعي والظاهري. اما إذا

(1) راجع / 166 من هذا الكتاب.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 45 - 49 - الطبعة الأولى.
173

اتحد، كما إذا قامت الامارة على حرمة ما هو واجب واقعا فلا يتم ما ذكره، إذ
تحقق التزاحم بين المصلحة الواقعية والمفسدة الظاهرية وتحقق الكسر والانكسار
امر وجداني ولا يرتبط بتزاحم المقتضيين، لعدم صلاحية المصلحة المغلوبة أو
المفسدة المغلوبة للتأثير في الوجوب والحرمة.
وثانيا: انه غير تام في المثال الذي ساقه، إذ الامارة القائمة على وجوب
صلاة الجمعة تنفي بالملازمة وجوب الظهر، فهنا أمارتان إحداهما تقوم على
وجوب الجمعة، والأخرى تقوم على عدم وجوب الظهر، والامارة الثانية مقتضاها
حدوث مصلحة تقتضي نفي وجوب الظهر، فيتحقق التزاحم بين المصلحتين
ويتحقق الكسر والانكسار لوحدة المتعلق، فيكون المثال من موارد وحدة المتعلق
بلحاظ المدلول الالتزامي للامارة الذي هو مدلول امارة أخرى. فلاحظ.
واما ما ذكره بناء على الطريقية من وجود جهة محسنة في التعبد بالامارة
تتغلب على جهة قبح التفويت، وهي جهة الفرار عن مفسدة تحصيل العلم التي
هي أهم من مفسدة فوات مصلحة الواقع، ففيه: ان مراده..
ان كان وجود المصلحة في نفس الامر بالعمل بالامارة - كما قد يحتمله
كلامه -.
فيرده: انه يبنى على أن المصلحة في نفس الامر غير معقولة، كما ذكره في
ذيل مناقشته للشيخ في التزامه بالمصلحة السلوكية.
وان كان مراده ان في تحصيل العلم مفسدة غالبة على مصلحة الواقع.
فيرده: ان الحكم الواقعي إذا فرض ان امتثاله يستلزم مفسدة أهم من
مصلحة متعلقه كان ذلك سببا لاضمحلاله وعدم جعله، إذ يقبح جعل الحكم مع
استلزام امتثاله للمفسدة العظيمة المهمة.
والنتيجة: ان اشكال تفويت المصلحة بالنحو الذي قربناه لا طريق إلى
حله.
174

نعم. بالنحو الذي مر في الكفاية ينحل بالالتزام بوجود المصلحة في التعبد
بالامارة، لكن عرفت أنه يوقعنا في محذور التصويب.
وهذا الاشكال لا يختص بمبنى معين في المجعول في الامارات، بل يعم
جميع المباني، إذ جميعها يشترك في الالزام بالعمل بالامارة وهو يستلزم التفويت
مع عدم المصلحة والتصويب مع المصلحة. فلاحظ.
وقد تعرض المحقق العراقي إلى هذا الاشكال ودفعه بنحو مختصر
جدا (1).
ثم إنه قد مر من الشيخ والمحقق النائيني (رحمهما الله) ان هذا الاشكال
مندفع في صورة انسداد باب العلم بالاحكام، إذ ليس العمل بالامارة هو سبب
التفويت.
فقد يتخيل انحلال الاشكال والخلاص من المحذور في هذا الزمن
لانسداد باب العلم، فيكون الحديث السابق الطويل حديثا علميا لا عمليا.
ولكنه وهم محض. لما عرفت من عدم اختصاص الأحكام الظاهرية
بموارد الامارات القائمة على الاحكام بل يعم الأمارات والأصول الجارية في
الشبهات الموضوعية، أو الجارية في احراز الامتثال، كقاعدة الفراغ والتجاوز.
وليس طريق العلم بالواقع منسدا في كثير من تلك الموارد.
نعم، مثل اليد القائمة على الملكية قد يقال بانسداد باب العلم بالواقع
في مواردها، إذ العلم بالملكية الواقعية في أغلب الموارد - الا ما شذ - ممتنع.
اذن فالاشكال بالنسبة إلى أزماننا ثابت لا خلاص منه.
واما الايراد الثاني: فتقريبه: ان الداعي من جعل الحكم هو تحقق البعث
والزجر أو غيرهما، ومن الواضح ان جعل الحكم الآخر على خلافه المانع من

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 59 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
175

تحقق الانبعاث والانزجار نقض للغرض من الحكم الأول، ومثله لا يصدر من
الحكيم. فجعل الحكم الظاهري مستلزم النقض الغرض من الحكم الواقعي وهو
تحقق الداعي للمكلف أو الزاجر أو غيرهما.
وقد تفصى عنه المحقق الأصفهاني: بان الحكم الظاهري إذا كان يتكفل
تنجيز الواقع فهو مؤكد لداعوية الواقع وليس منافيا لها كي يستلزم نقض
الغرض. وإذا كان يتكفل التعذير والمؤمنية من الواقع فهو لا ينافي الغرض من
الواقع، إذ الغرض من الحكم الواقعي ان كان هو تحقق الداعي الفعلي للمكلف،
كان جعل الحكم على خلافه نقضا للغرض.
ولكن الغرض ليس ذلك بل الغرض هو جعل ما يمكن أن يكون داعيا،
وامكان الداعوية لا يتنافى مع جعل المؤمن عن الواقع على تقدير تحققه (1).
وهذا الوجه ممنوع - مع الغض عن منافاة ما تصوره فعلا من امكان
الداعوية في صورة الجهل وما مر منه من عدم امكان الداعوية قبل الوصول -،
فإنه قد يسلم عدم منافاة الحكم الظاهري لامكان داعوية الواقع في ما إذا كان
الحكم الظاهري ترخيصيا في صورة احتمال الالزام، إذ من الممكن الاحتياط
الذي يحكم العقل بحسنه.
اما فيما كان الحكم الظاهري إلزاميا على خلاف الحكم الواقعي
الالزامي، بان كان الحكم الظاهري الوجوب والواقعي الحرمة، فلا يتصور امكان
داعوية الحكم الواقعي في هذا الحال، وكيف يتصور في مثل هذا الحال أن يكون
الحكم الظاهري المستلزم لتنجيز مؤكدا لداعوية الواقع كما ذكر (قدس
سره)؟!. فلاحظ وتدبر.
اذن فاشكال نقض الغرض في مثل هذه الصورة غير مندفع.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 46 - الطبعة الأولى.
176

فيتحصل لدينا: ان كلا الايرادين لا دافع لهما.
وعليه، فلا طريق إلى التخلص منهما إلا الالتزام بان الحكم الواقعي
انشائي الذي تصورنا سابقا ثبوته وبينا امكانه خلافا لبعض الاعلام.
وبالالتزام بذلك لا يبقى مجال للايرادين، إذ الحكم الانشائي لا يلزم ان
ينشأ عن مصلحة في متعلقه كي يلزم الكسر والانكسار على ما تقدم، كما أن
الداعي فيه ليس هو جعل الداعي، فلا نقص للغرض لو جعل الحكم على
خلافه.
ولا محذور في الالتزام بذلك، إذ لم يقم دليل على اشتراك الجاهل والعالم
في الحكم الفعلي وان ادعاه المحقق النائيني (1).
ومع ذلك لا تصل النوبة إلى اشكال تضاد الحكمين، إذ التضاد بين
الاحكام لدى القائل به انما هو بين الاحكام الفعلية دون الانشائية، فان الانشاء
كما قيل خفيف المؤنة.
ولو أردنا ان نغض النظر عن الايرادين السابقين ونلتزم بفعلية الحكم
الواقعي، يرد اشكال اجتماع الضدين، فاشكال التضاد في طول الاشكالين
الآخرين.
والتحقيق في التخلص عنه ان يقال: ان التضاد بين الاحكام اما من
ناحية المبدأ، وهو المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة. واما من ناحية المنتهى،
وهو مقام الداعوية والامتثال.
اما التضاد من ناحية المبدأ، فيرتفع بما أفاده في الكفاية من كون الحكم
الظاهري حكما طريقيا ناشئا عن مصلحة في نفسه، فإنه يتعدد موضوع المصلحة
والمفسدة (2).

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 3 / 103 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 277 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
177

كما أنه مع فرض كون المصلحة في نفس الحكم لا تكون هناك إرادة
متعلقة بالفعل، فلم تجتمع المصلحة والمفسدة ولا الإرادة والكراهة في شئ واحد.
واما التضاد من ناحية المنتهى، فيرتفع بما قربنا به سابقا الالتزام بتعدد
الرتبة. وتوضيحه: ان الحكم الواقعي وان كان له ثبوت في حال الجهل، الا انه
لا نظر له إلى تعيين الوظيفة العملية بلحاظ تحير الجاهل المتردد، فان المتردد في
ثبوت الحكم الواقعي يتحير فيما هو وظيفته عملا في هذا الحال لعدم معرفته بما
يترتب على مخالفة الواقع لو كان ثابتا من العقاب وعدمه.
والحكم الواقعي لا نظر له إلى تعيين وظيفة المتحير ورفع تحيره، فإذا
جرت البراءة العقلية وحكم العقل بالأمان من العقاب على تقدير الواقع، فلا
يكون الحكم الواقعي في مثل الحال داعيا فعلا للمكلف، لان داعويته نوعا
بلحاظ ما يترتب على مخالفته، ومع حكم العقل بالأمان وعدم استحقاق العقاب
لا تتحقق دعوته الفعلية. ولا يخفى انه لا تنافي بين هذا الحكم العقلي أو الحكم
العقلي بالاحتياط وبين الوجود الواقعي للحكم، ولذا لم يتخيل أحد ذلك ولم
يدعه، أو يستشكل من جهته كي يصير في مقام دفعه.
وعليه، فنقول: ان الحكم الظاهري الشرعي في مرتبة حكم العقل
بالبراءة أو الاحتياط، فإذا حكم بالوجوب كان رافعا لأصل البراءة في مورده
لارتفاع موضوعها، وإذا حكم بالإباحة كان رافعا للاحتياط في مورده.
وكما ان حكم العقل لا يتنافى مع الحكم الشرعي الواقعي فكذلك الحكم
الشارع الظاهري.
وبالجملة: ان الحكم الظاهري يلحظ فيه تعيين الوظيفة العملية للمتحير،
والحكم الواقعي لا نظر له إلى هذه الجهة ولا داعوية فعلية له في حال جعل
المؤمن الشرعي، فلا يتحقق التنافي بينهما.
ولعل هذا هو المراد للقائل بتعدد الرتبة بان الحكم الواقعي لا اطلاق له
178

يشمل حال الجهل، لان انه لا ثبوت له حقيقة كي يشكل عليه بأنه التزام
بالتصويب.
ولقد أحسن المحقق النائيني حين ذكر: ان الشك بنفسه ليس موضوعا
للحكم الظاهري بل بما هو مستلزم للتحير والتردد (1)
وإذا اتضح عدم التنافي بين الحكمين في مقام الداعوية، فلا تضاد بينهما،
فيمكن القول بان الحكم الواقعي فعلي، بمعنى ان المجعول ما يمكن أن يكون
داعيا.
يبقى سؤال وهو: ان الحكم وان كان جعل ما يمكن أن يكون داعيا، وهذا
متصور فيما نحن فيه، الا انه إذا لم تترتب عليه الداعوية الفعلية كان لغوا.
والجواب: ان الحكم قابل لان يترتب عليه الانبعاث الفعلي بلحاظ ما
ثبت من حسن الاحتياط، فإنه يحقق الانبعاث نحو لعمل.
هذا ولكنه انما يختص بما إذا كان الحكم الظاهري لا اقتضائيا كالإباحة،
والحكم الواقعي المحتمل اقتضائيا كالوجوب. ولا يشمل ما إذا كان الحكم
الظاهري اقتضائيا على خلاف الحكم الواقعي الالزامي، كالوجوب والحرمة،
فإنه في مثل الحال لا يحسن الاحتياط بموافقة احتمال الحرمة مع قيام الامارة
على الوجوب. فلا يصل الحكم الواقعي إلى مرحلة الداعوية الفعلية فيكون
لغوا.
فلا محيص إلا عن الالتزام بان الحكم الواقعي في مثل هذه الصورة
انشائي.
وبضميمة عدم القول بالفصل بين هذا المورد وغيره يلتزم بان الحكم
الواقعي مطلقا انشائي.
* (هامش) (1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 115 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي. (*)
179

والنتيجة: انه ينحصر التخلص عن هذه المحاذير بالالتزام بكون الحكم
الواقعي إنشائيا.
واما الايراد على هذا الالتزام: بإن الحكم الانشائي لا يلزم امتثاله،
فيكون التعبد بالامارة القائمة عليه لغوا كما جاء في الكفاية (1).
ففيه: ان الحكم الانشائي بضميمة العلم به يصير فعليا.
والايراد على ذلك: بان اخذ العلم جزء لموضوع الفعلية لا ينفع في ثبوت
الأثر على قيام الامارة، لامتناع قيام الامارة بدليل اعتبارها مقام القطع
الموضوعي والطريقي، كما تقدم من صاحب الكفاية (2).
مندفع - بعد الالتزام بان الحكم الانشائي الذي يصير بالعلم فعليا مطلق
الحكم الانشائي أعم من الواقعي والظاهري -: بان الالتزام بامتناع قيام الامارة
مقام القطع الموضوعي والطريقي يبتني على الالتزام بان المجعول في باب
الامارات هو المؤدى - كما تقدم ايضاحه -.
وعليه، فإذا قامت الامارة على حكم انشائي واقعي كان قيامها مستلزما
لجعل حكم انشائي في مرحلة الظاهر، وهذا الحكم الانشائي الظاهري متعلق
للعلم وجدانا فيصير فعليا، فلا اشكال ولا يكون التعبد بالامارة لغوا.
ولعمري هذا واضح لا شبهة فيه، فكيف غفل عنه صاحب الكفاية وأورد
على الشيخ (رحمه الله) ما تقدم. فتدبر.
هذا تمام الكلام في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.
يبقى الكلام في جهتين:
إحداهما: بيان المجعول في باب الامارات والاستصحاب.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 278 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 263 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
180

الأخرى: في بيان ملازمة الاجزاء للتصويب وعدمها.
اما الكلام في الجهة الأولى، فهو في مقامين:
المقام الأول: في بيان المجعول في باب الامارات. والوجوه المعروفة فيه
أربعة:
الأول: ما ينسب إلى الشيخ (رحمه الله) من كون المجعول هو المؤدى (1).
الثاني: ما ينسب إلى صاحب الكفاية (رحمه الله) من كون المجعول هو
المنجزية والمعذرية (2).
الثالث: ما اختاره المحقق النائيني (رحمه الله) وهو كون المجعول هو
الطريقية (3).
الرابع: ما قر به المحقق الأصفهاني (رحمه الله) من كون المجعول هو نفس
الحجية (4).
ولا بد من ايقاع الكلام في كل واحد من هذه الوجوه ليتميز ما يمكن
اختياره منها.
ولا يخفى اختلاف هذه الوجوه بلحاظ الأثر العملي، ويظهر ذلك في قيام
الأمارة مقام القطع الطريقي والموضوعي بدليل واحد، فإنه غير ممكن بناء على
جعل المؤدى، وممكن بناء على غيره كما تقدم. كما يظهر في وجه تقدم الامارات
على الأصول وانه الحكومة أو الورود كما يأتي تحقيقه في محله ان شاء الله تعالى.
اما جعل المنجزية فقد تقدم ما أورده عليه المحققان النائيني والأصفهاني

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 27 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 277 و 405 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 108 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(4) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 44 - الطبعة الأولى.
181

وتقدم دفعه (1).
وتحقيق الكلام فيه: ان المراد من المنجزية..
ان كان استحقاق العقاب الذي هو من مدركات العقل لا الشارع بما
هو شارع، فهذا غير قابل للاثبات شرعا، إذ اثباته اما أن يكون بنحو الاخبار،
أو يكون بنحو الانشاء والاعتبار. والأول لا معنى له بعد حكم العقل بقبح
العقاب بلا بيان.
والثاني غير ممكن لان الاستحقاق امر عقلي لا جعلي فلا يصح جعله
شرعا.
وان كان المراد نفس العقاب الذي يرجع إلى جعل الوعد بالعقاب، وهو
امر انشائي يقبل الجعل شرعا. ففيه: ان جعل الوعد ان كان على مخالفة الامارة
فهو مما لا يلتزم به، وان كان على مخالفة الواقع فهو كسائر الأدلة الدالة على
ثبوت العقاب على فعل شئ أو تركه لا يصلح للبيانية، بل هو كسائر أدلة
الاحكام متكفلة لبيان الحكم بجعل العقاب، كقوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا
متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) (2)، فيكون دليل الامارة دليلا آخر على
ثبوت الحكم الواقعي، وذلك لا ينافي عدم تنجزه في صورة الجهل بالواقع كما لا
يتنافى عدم تنجزه مع أصل ثبوته بدليله.
ودعوى: ان المفروض ان مورد الامارة هو صورة الجهل بالواقع، فاثبات
العقاب في هذا الحال يصلح البيانية.
مندفعة: بان اختصاص الامارة بصورة الجهل انما يلتزم به فيما كان
مفاد دليلها التعبد بشئ، إذ يلغو التعبد مع العلم. وليس الامر على هذا التقدير

(1) راجع 4 / 148 من هذا الكتاب.
(2) سورة النساء: 93.
182

كذلك، إذ مفادها جعل العقاب وهو لا مانع منه في صورة العلم.
وعليه، فيكون الدليل مطلقا في حد نفسه، ويقيد في صورة الجهل بحكم
العقل بقبح العقاب بلا بيان، كما تقيد به آية: (ومن يقتل...) وغيرها مما كان
لها اطلاق في حد نفسها يشتمل صورة الجهل.
ونتيجة ما ذكرناه: ان جعل المنجزية مما لا محصل له.
واما جعل الطريقية، فقد يورد عليه: ان الطريقية من الأمور الواقعية لا
الجعلية التعبدية، وليست بذات اثر شرعي وانما يترتب عليها المنجزية وهي اثر
عقلي، فلا تقبل الجعل والاعتبار لا بلحاظ نفسها ولا بلحاظ اثرها.
ويندفع هذا الايراد: بالالتزام بان المنجزية تترتب على الطريقية أعم من
وجودها الواقعي والاعتباري، فللشارع ان يعتبر الطريقية والوصول ويترتب
عليها المنجزية عقلا.
وهذا الدفع يصطاد من كلمات المحقق النائيني (قدس سره) في موارد
مختلفة (1).
وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني (رحمه الله): بان مقتضاه أن يكون الأثر
العقلي مرتبا على الوصول الأعم من الوصول الحقيقي والاعتباري، ومن
الواضح ان ترتب الأثر على الوصول ليس بنحو ترتب الحكم الكلي على
الموضوع الكلي من باب القضية الحقيقية كي يكون تحقيق الموضوع ولو اعتبارا
موجبا لترتب الأثر عليه، إذ ليس للعقلاء بناء في المقام بنحو القضية الحقيقة
نظير الأحكام الشرعية، بل الأثر بنحو مستفاد من بنائهم العملي الخارجي على
المؤاخذة في مورد الوصول القطعي وخبر الثقة، فمع عدم بناء العقلاء في مورد لا
معنى لتحقيق الموضوع، ومع بنائهم العملي كخبر الثقة لا احتياج إلى اعتباره

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم - أجود التقريرات 2 / 76 - الطبعة الأولى.
183

في ترتيب الأثر الا بنحو الامضاء (1).
هذا ما افاده (قدس سره) و محصله: ان ترتيب الأثر ان كان بنحو القضية
الحقيقية، كان لاعتبار الوصول اثر، ولكن الامر ليس كذلك. وان كان بنحو
القضية الخارجية، لم ينفع جعل الوصول في مورد عدم ثبوت اعتبارهم، كما لا
حاجة إلى جعله في مورد ثبوت اعتبارهم.
ونجيب عن هذا الايراد: بالنقض بكثير من موارد الاعتبارات الشرعية
التي يقصد بها ترتيب الآثار العقلائية. كالامر، فان اعتباره لاجل ترتب الأثر
العقلائي عليه، وهو لزوم الإطاعة، مع أن الترديد المزبور يتأتى فيه حذو القذة
بالقذة، وكاعتبار الملكية من الشارع وبلحاظ ترتب الآثار العقلائية عليها.
وحل المشكلة في الجميع: هو تصور شق ثالث في بناء العقلاء، فليس هو
بنحو القضية الحقيقية، ولا بنحو القضية الخارجية التحقيقية، بل بنحو القضية
الخارجية التعليقية، بمعنى ان العقلاء يبنون على ترتيب الآثار عند تحقق
الاعتبار، فليس لديهم حكم كلي فعلا، بل يثبت حكمهم إذا تحقق أحد الافراد،
وهذا يصحح الاعتبار، فكما أن العقلاء يرتبون آثار الملكية عند اعتبارها ممن بيده
الاعتبار، ويرتبون آثار الامر عند اعتباره ممن بيده الاعتبار أيضا كالمولى، كذلك
يمكن ان يلتزم بأنهم يرتبون آثار الوصول عند اعتباره ممن بيده الاعتبار.
وبالجملة: لم يظهر لنا وجه الفرق بين ما نحن فيه وسائر موارد
الاعتبارات. نعم الذي ينبغي ان يوقع الكلام فيه هو نقطة واحدة، وهي ان الأثر
العقلائي هل يترتب على خصوص الوجود الحقيقي للوصول أو على الأعم منه
ومن الوصول الاعتباري؟ فعلى الأول لا ينفع اعتبار الوصول. وعلى الثاني
يجدي.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 44 - الطبعة الأولى.
184

ومن هنا يظهر أن جعل الطريقية - بناء على كون الأثر مترتبا على مطلق
الوصول الحقيقي والاعتباري - مما لا محذور فيه ثبوتا.
واما اثباتا. فان لم يتصور وجه معقول غيره تعين الالتزام به، والا فيحتاج
تعيينه إلى دليل، وسيجئ الكلام في ذلك انشاء الله تعالى.
واما جعل الحجية، فقد قربه المحقق الأصفهاني (رحمه الله)، ببيان إليك
نصه: " واما الثالث، وهو اعتبار نفس معنى الحجية. فتوضيح القول فيه: ان
الحجية مفهوما ليست الا كون الشئ بحيث يصح الاحتجاج به، وهذه الحيثية
تارة تكون ذاتية غير جعلية، كما في القطع، فإنه في نفسه بحيث يصح به
الاحتجاج للمولى على عبده. وأخرى تكون جعلية، اما انتزاعية كحجية الظاهر
عند العرف وحجية خبر الثقة عند العقلاء، فإنه بملاحظة بنائهم العملي على
اتباع الظاهر وخبر الثقة والاحتجاج بهما يصح انتزاع هذه الحيثية من الظاهر
والخبر. واما اعتبارية كقوله (عليه السلام): " حجتي عليكم وانا حجة الله "، فإنه
جعل الحجية بالاعتبار. والوجه في تقديم هذا الوجه على سائر الوجوه مع موافقته
لمفهوم الحجية، فلا داعي إلى اعتبار امر آخر غير هذا المفهوم هو: ان المولى إذا
كانت له أغراض واقعية وعلى طبقها احكام مولوية وكان ايكال الامر إلى علوم
العبيد موجبا لفوات أغراضه الواقعية اما لقلة علومهم أو لكثرة خطائهم، وكان
ايجاب الاحتياط تصعيبا للامر منافيا للحكمة، وكان خبر الثقة غالب المطابقة،
فلا محالة يعتبر الخبر بحيث يصح الاحتجاج به، وكل تكليف قام عليه ما يصح
الاحتجاج به اعتبارا من المولى كان مخالفته خروجا عن زي الرقية ورسم
العبودية، وهو ظلم على المولى والظلم مما يذم عليه فاعله. ولا حاجة بعد تلك
المقدمات إلى اعتبار الخبر وصولا واحرازا، إذ لو لم تكن تلك المقدمات لم يجد
اعتبار الوصول " (1).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 44 - الطبعة الأولى.
185

وكلامه هذا لا يخلو عن مناقشات من جهات.
الأولى: ما ذكره من أن حجية القطع ذاتية. فإنه ينافي ما تقدم منه من أنها
ببناء العقلاء واعتبارهم.
الثانية: ما ذكره من أن حجية الظاهر جعلية انتزاعية. فإنه انما يتم لو
كان بناؤهم رأسا على نفس الاحتجاج كي يقال إنه ينتزع منه كون الشئ بنحو
يصح الاحتجاج فيه الذي هو معنى الحجية، وليس الامر كذلك، بل ليس بناؤهم
الا على صحة الاحتجاج وانه للمولى الاحتجاج بالظاهر على العبد، فمفهوم
الحجية - وهو كون الشئ بنحو يصح الاحتجاج به - مجعول بنفسه في باب
الظواهر.
الثالثة: ان حجية الظاهر لدى العقلاء وهكذا خبر الثقة في قضاياهم
العقلائية - في الغالب - من باب الاطمئنان وحصول الجزم بالمراد بحيث لا يتأتى
في أذهانهم احتمال الخلاف أو لا يرونه عقلائيا. فإذا أخبرنا الثقة بمجئ زيد في
مقام يكون بيان مراد، فقال: " جاء زيد " لا نرى ان مقصوده من كلامه سوى
مجئ زيد ويحصل لنا الجزم بمراده من دون التفات إلى جعل حجية الظاهر ونحو
ذلك. كما اننا نجزم بمجئ زيد من طريق اخباره ويحصل لنا الاطمئنان بذلك.
والذي نراه في حجية الاطمئنان انها على حد حجية العلم القطعي،
بمعنى ان الملاك الذي يتبع به العقل أو العقلاء القطع بعينه هو الملاك الذي
يتبع به الاطمئنان.
نعم يختلف الاطمئنان عن القطع في جواز ردع الشارع عنه لانحفاظ
مرتبة الحكم الظاهري معه: فلا يلزم التناقض اللازم في ردعه عن العمل بالقطع.
وبالجملة: فلا نرى فرقا ظاهرا بين حجية الظاهر وحجية القطع في مقام
لزوم الاتباع والجري على طبقه.
الرابعة: ان مفهوم الحجية مساوق للمنجزية والمعذرية، إذ معنى الحجية
186

يرجع إلى استحقاق المؤاخذة وعدم استحقاقها فإنه ليس لدينا مقامان: مقام الرد
والبدل، ومقام اثبات استحقاق المؤاخذة، بل لدينا مقام واحد وهو مقام اثبات
استحقاق العقاب، ومعنى الحجية مساوق لذلك، فان معنى صحة الاحتجاج
يرجع إلى صحة المؤاخذة. وعليه فما يرد على جعل المنجزية يرد على جعل
الحجية.
الخامسة: ما ذكره من الدليل الاثباتي على كون المجعول هو الحجية. فإنه
غير واضح النتيجة، فإنه إذا فرضنا ان جعل الطريقية أو غيرها ممكن ثبوتا فلا
مرجح بعد طي المقدمات المذكورة في كلامه لكون المجعول هو الحجية، بل
يكون كل من هذه الاحتمالات ممكنا.
نعم لو فرض منع غير احتمال الحجية ثبوتا كان احتماله متعينا - لو فرض
امكانه -، ولكن ذلك يخرج عن طور الاستدلال وتقريب بعض الاحتمالات دون
بعض فالتفت.
واما جعل المؤدى، فلا محذور فيه الا ما تخيله المحقق النائيني من: ان
الأحكام الواقعية فعلية، فلا يمكن اجتماع الحكمين الواقعي والظاهري (1).
ولكن عرفت سابقا نفى ذلك وبيان ان الحكم الواقعي انشائي فلا يمتنع جعل
المؤدى.
هذا كله في مقام الثبوت.
اما مقام الاثبات، فالبحث فيه يقع لو فرض تعدد المحتملات الثبوتية.
واما لو فرض انحصارها في واحد فهو المتعين اثباتا.
وعلى كل، فتحن نوقع البحث مع التنزل عن الاشكالات الثبوتية في غير
احتمال جعل المؤدى من الاحتمالات.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 103 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
187

وقد يستدل على جعل الطريقية: بان الامارات الشرعية امضائية وليست
مجعولة بالاستقلال، والعقلاء يرون خبر الثقة - مثلا - طريقا، فلا بد أن يكون
المجعول الشرعي ذلك أيضا.
كما قد يستدل عليه بقوله (عليه السلام): " العمري وابنه ثقتان فما أديا
عني فعني يؤديان " (1). وبقوله (عليه السلام): " لا عذر لاحد من موالينا في
التشكيك فيما يرويه عنا ثقات شيعتنا " (2). فان نفي التشكيك يرجع إلى جعل
العلم والوصول.
وفي جميع ذلك نظر..
اما دعوى بناء العقلاء على الطريقية. فيدفعها: ان الرؤية لها معنيان:
أحدهم: الانكشاف والعلم. والاخر: البناء العملي والاعتبار.
والعقلاء يرون خبر الثقة طريقا بالمعنى الأول للرؤية، إذ يحصل لهم
الاطمئنان بخبر الثقة والظواهر غالبا على ما عرفت، لا بمعنى انهم يعتبرون
طريقيتهما ويبنون عليها مع عدم ثبوتها واقعا.
وعليه، فلا يقاس عليه ما لا طريقية له بنظر العقلاء ولا يحصل به
الاطمئنان كخبر الثقة في الاحكام بالنسبة الينا لتعدد الوسائط وبعد الزمن
وعدم الاطمئنان بتوثيق رجال السند، وانما يعمل به من باب قيام البينة على
الوثاقة.
وبالجملة: لم يثبت اعتبار الطريقية من العقلاء. وانما الثابت ثبوت
الطريقية الواقعية لبعض الامارات وهي غير متحققة لدينا فتدبر.
واما الرواية الأولى، فلا دلالة لها على جعل الطريقية، بل هي ظاهرة في

(1) وسائل الشيعة 18 / 100 باب: 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 4.
(2) وسائل الشيعة 18 / 108 باب: 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 40.
188

جعل المؤدى، وان ما يؤديه العمري وابنه الحكم الواقعي الذي قاله الإمام (عليه السلام).
واما الرواية الثانية، فهي ظاهرة في جعل المنجزية، إذ المراد من التشكيك
المنفي هو التشكيك العملي، يعني ان يصير عمله عمل الشاك، إذ الشك حاصل
قهرا وقطعا.
والذي يقرب في الذهن، هو كون المجعول هو المؤدى دون غيره من
المحتملات. وذلك لأنه من المسلمات القطعية بين العلماء جميعا هو ان قيام الامارة
يصحح نسبة مؤداها إلى الله سبحانه، كما يصحح الاتيان بمؤداها بداعي الامر
الإلهي، وهذا لا يتلاءم الا مع جعل المؤدى شرعا، إذ جعل المنجزية أو الحجية لا
يثبت الحكم الواقعي بنحو من الانحاء كي يصح نسبته إلى المولى أو الاتيان
بمؤداها بداع الامر. مع أن المجتهد يفتي بمضمون الامارة.
واما جعل الطريقية، فهو لا يجدي أيضا في صحة الاستناد والاسناد. وان
كان قد يتخيل ذلك بتوهم: ان الجاعل يعتبر وصول الحكم فيصح اسناده. لكن
الاستناد من الآثار العقلية الواقعية للوصول الواقعي للحكم، فلا ينفع اعتبار
الوصول في اخراجه عن التشريع.
ويشهد لذلك ان العقلاء إذا قامت لديهم امارة على امر من أمورهم، ولم
يكن اتباعها من باب الاطمئنان وانكشاف الواقع، بل كان من باب الاعتبار
والتعبد، لا يمكنهم اسناد مؤدى الامارة إلى المتكلم واقعا، إذ لا معنى لجعل المؤدى
لدى العقلاء، فالمجعول هو الطريقية أو غيرها، وهو لا يصحح نسبة المؤدى واقعا
إلى المتكلم، فليس للمخاطب أن يقول مراد المتكلم واقعا كذا.
وإذا ثبت ذلك يثبت ما ذكرناه من أن المجعول هو المؤدى دون غيره، فإنه
يصح اسناده إلى المولى في مقام الفتوى والعمل.
ولا يمكننا التنزل عن صحة الاسناد والاستناد، فإنه من المرتكزات
189

الشرعية والمسلمات الفقهية، ولو أراد أحد ان يوجه فتوى المجتهد بأنه يريد في
فتواه بيان الوظيفة الظاهرية أعم من الوجوب العقلي أو الشرعي - مثلا -، لا
بيان الحكم الشرعي الواقعي. فلا يستطيع توجيه صحة الاتيان بالعمل بداعي
الامر وتحقق العبادية به الا بفرض المجعول هو المؤدى. فتدبر والتفت.
المقام الثاني: في بيان المجعول في الاستصحاب. والاحتمالات فيه ثلاثة:
الأول: ما اختاره الشيخ والمحقق الخراساني، وهو كون المجعول فيه هو
المتيقن لا نفس اليقين (1).
الثاني: ان المجعول هو اليقين بلحاظ طريقيته وكاشفيته عن الواقع.
الثالث: ان المجعول اليقين، لكن لا من جهة الطريقية بل بلحاظ الجري
العملي. وهو اختيار المحقق النائيني ورتب عليه تقدم الامارات على
الاستصحاب، باعتبار ان المجعول فيها جهة الطريقية وهي متقدمة على
جهة
الجري العملي.
وقد أوضح ذلك ببيان ما في القطع من جهات فراجع كلامه (2).
وقد يورد على هذا الاختيار - أعني: الأخير - بأنه ممتنع ثبوتا، لان
المراد به ان المجعول نفي الجري العملي، يعني يقع التعبد بكون المكلف جرى
عملا على طبق التكليف، فهو لا يرتبط بمفاد الاستصحاب، إذ المقصود
بالاستصحاب اثبات التكليف أو نفيه كي يتحقق العمل أو لا يتحقق.
نعم مثل ذلك يتناسب مع قاعدة الفراغ مما فرض في موردها ثبوت
تكليف، وانما الشك في تحقق امتثال، فيقال انها تتكفل التعبد بالامتثال والجري

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 336 - الطبعة الأولى.
الخرساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 392 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 15 - 18 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
190

العملي على طبق التكليف المفروض. لا في مثل موارد الاستصحاب مما يشك في
أصل التكليف فلا معنى للتعبد بالجري العملي.
هذا مع أن لازمه عدم حركة المكلف نحو العمل، إذ مفاده تحقق العمل
منه. فلاحظ.
وان كان المراد ان المجعول اليقين ولكن بلحاظ الجري العملي - الذي
هو ظاهر الكلام -، فمن الواضح ان الجري العملي انما يتفرع عن انكشاف
الواقع بواسطة اليقين فيرجع الجعل إلى جعل الكاشفية والطريقية التي هي
منشأ الجري العملي.
ويمكن الجواب (1) عن هذا الايراد: بتصور شق ثالث، وهو كون
المجعول اليقين بلحاظ منشأيته للجري العملي.
وبيان ذلك: ان اليقين كما تكون فيه جهة الطريقية والانكشاف تكون
فيه جهة منشأية للعمل والجري نحو المتيقن، إذ ترتب العمل على اليقين أمر لا
اشكال فيه، كيف؟ وقد قيل إن ما يؤثر في الإرادة هو الوجود العلمي للشئ لا
الوجود الحقيقي. فهو كالنار بالنسبة إلى الاحراق، فإنها تشتمل على خصوصية
في ذاتها تكون بها منشأ لترتب الاحراق عليها، فتكون فيها جهتان.
وعليه، فيمكن ان يدعى ان المجعول هو منشأيته للجري العملي، وهي
خصوصية واقعية يكون اعتبارها موردا للآثار العقلائية ولا محذور فيه.
ولو دار الامر بين هذا الوجه وسابقه - أعني: جعل الطريقية -، فهذا هو
المتعين لما فيه من الجمع بين جعل اليقين وفرض المكلف شاكا المستفاد من أدلة
الاستصحاب، فان ظاهرا فرض المكلف شاكا وان الواقع مستور عنه، وهذا لا
يتناسب مع جعل الطريقية وانكشاف الواقع، إذ لا معنى للتعبد بان المكلف

(1) هذا من مختصات هذه الدورة (منه عفى عنه).
191

منكشف لدية الواقع وهو شاك متردد.
ولعل هذا البيان هو الذي دعا المحقق النائيني إلى اختياره.
ولكن التحقيق: ان النوبة لا تصل إلى دوران الامر بين هذين الوجهين،
بل الظاهر من الأدلة كون المجعول هو المتيقن ان كان المستصحب حكما،
وحكمه ان كان موضوعا كما عليه الشيخ وصاحب الكفاية (قدس الله سرهما) (1).
ويشهد لذلك..
مضافا إلى التردد في ترتب الأثر العقلائي على اليقين الاعتباري واحتمال
اختصاصه بالوصول الحقيقي.
والى ان جواز الاسناد والاستناد لا يترتب على جعل اليقين بكلا نحويه،
كما هو واضح خصوصا على النحو الثاني، مع فرض ان ترتبهما على الاستصحاب
من المسلمات الفقهية والمرتكزات عند المتشرعة كترتبهما على الامارات.
مضافا إلى هذين الامرين، مفاد دليل الاستصحاب نفسه، وبيان ذلك:
ان ما يتكفل عدم نقض اليقين بالشك من أدلة الاستصحاب بلسان الانشاء (2)
لا يمكن ان يراد به النهي عن النقض الحقيقي لليقين ولا المتيقن، إذ اليقين
المفروض هو اليقين بالحدوث وهو ثابت لا انتقاض له، وبلحاظ البقاء منتقض
حقيقة لفرض حصول الشك فلا معنى للنهي عن عدم نقضه.
واما المتيقن فإن كان حكما، فهو من أفعال المولى الاختيارية وليس هو

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 392 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 336 - الطبعة الأولى.
(2) تخصيص الكلام بما كان لسانه الانشاء من جهة ان ما يكون لسانه الاخبار لا يتردد بين احتمالين،
لتوجه النقض إلى نفس اليقين. بخلاف الانشاء، فإنه حيث يمتنع حمله على ظاهره، وانما يكون كفاية
عن الابقاء العملي، وهو أعم من ابقاء المتيقن أو نفس اليقين. كان للتردد بين الاحتمالين فيه مجال واسع.
هكذا أفاد سيدنا الأستاذ (دام ظله) في بيان ذلك فافهم. (منه عفي عنه)..
192

تحت اختيار المكلف، وهكذا إذا كان موضوعا في بعض صوره.
وعليه: فلا بد ان يراد من النهي عن النقض هو النهي عن النقض عملا،
بمعنى انه يجب عليه ان يبقى على عمله السابق (1) ولا يخفى ان الابقاء العملي
لازم لامرين: اليقين بالحكم ونفس الحكم.
وعليه، فيصلح الدليل للتعبد ببقاء اليقين وببقاء المتيقن بنحو الاستعمال
الكنائي، بان يستعمل في اللازم ويراد به الملزوم، فيستعمل في النهي عن النقض
العملي لليقين ويقصد به التعبد ببقاء اليقين أو المتيقن. وإذا ثبت صلاحية الدليل
لبيان كلا الاحتمالين فالمتعين ان يراد به التعبد ببقاء المتيقن لوجهين:
الأول: ان المسؤول عنه في صحيحة زرارة أولا هو وجوب الوضوء بالخفقة
والخفقتين، فنفاه الإمام (عليه السلام)، ثم سئل (عليه السلام) عن وجوبه في
مورد الشك في تحقق النوم، فنفاه أيضا وطبق فيه قاعدة الاستصحاب، فالمنفي في
كلام الإمام (عليه السلام) هو نفس الحكم المسؤول عنه وهو وجوب الوضوء أو
ارتفاع الطهارة، لوحدة المسؤول عنه في الشبهة الموضوعية مع المسؤول عنه في
الشبهة الحكمية، والسؤال في الشبهة الحكمية عن الحكم - كما عرفت -.
وعليه، فتطبيق الاستصحاب في مورد بيان عدم انتقاض الطهارة ووجوب
الوضوء يكشف عن أن المجعول نفس المتيقن السابق، فقوله (عليه السلام):
" لا " في جواب السائل في قوله: " فان حرك في جنبه... " يراد به عدم وجوب
الوضوء. وذلك لا يعني الا جعل المتيقن لا اليقين، إذ جعل اليقين لا يرجع إلى
نفي الوجوب شرعا.
الثاني: ان الطهارة الحدثية شرط للصلاة بوجودها الواقعي لا بوجودها
العلمي، فجعل اليقين بها لا ينفع في ترتب اثرها عليها من الدخول في الصلاة

(1)
سيأتي منه (دام ظله) مناقشة هذا البيان في باب الاستصحاب (منه عفي عنه).
193

وغيره، وانما المجدي هو التعبد ببقائها بنفسها فتطبيق الاستصحاب في مورد
اثبات الطهارة بقاء يرجع إلى كون المجعول فيه هو المتيقن لا اليقين، والا لم ينفع
في اثبات وجود الطهارة بعنوان الواقع فلا تترتب عليها آثارها مع كون المقصود
من الاستصحاب ترتيب الآثار على المستصحب.
هذا ما لدينا الآن في بيان المجعول في الاستصحاب، وسيجئ ان شاء الله
تعالى في مبحث الاستصحاب ما له نفع في المقام والله سبحانه ولي التوفيق.
واما المجعول في سائر موارد الأصول العملية، فليس فيه مزيد بحث
وسيأتي بيانه ان شاء الله تعالى في محله.
واما الكلام في الجهة الثانية، فهو في ناحيتين:
إحداهما: في بيان مراد الشيخ من قوله (قدس سره): " واما على القول
باقتضائه له - يعني: الاجزاء -، فقد يشكل الفرق بينه وبين القول بالتصويب.. " (1).
الأخرى: في بيان أصل المسألة وهي ان الاجزاء هل يلازم التصويب
أم لا؟.
اما مراد الشيخ (قدس سره)، فيتضح في أنه بعد أن اختار المصلحة
السلوكية وانها لا تكون الا بمقدار ما يفوت من الواقع، فلوا انكشف الخلاف في
أثناء الوقت فالمصلحة السلوكية بمقدار ما فات من مصلحة أول الوقت دون
أصل العمل للتمكن من تداركه، وهكذا. وبعد بيان ان غير ذلك مستلزم للقول
بالتصويب. ومن الواضح ان الالتزام بالمصلحة السلوكية بالنحو الذي بينه لا
يلازم الاجزاء، فلو قيل بالاجزاء أشكل الفرق بينه وبين التصويب، إذ القول
به يرجع إلى الالتزام بالمصلحة بنحو غير ما اختاره، وقد عرفت أن غير هذا

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فوائد الأصول / 29 - الطبعة الأولى.
194

النحو يرجع إلى الالتزام بالتصويب. فالتفت.
واما أصل المسألة. فتحقيق الكلام فيها:
انه ان التزم بما التزم به صاحب الكفاية من: ان الحكم الواقعي الذي
يشترك فيه العالم والجاهل هو الحكم الانشائي دون الحكم الفعلي، وان الحكم
الواقعي عند قيام الامارة على خلافه انشائي (1). فلا يلازم القول بالاجزاء
وسقوط الواقع بالاتيان بمؤدى الامارة الالتزام بالتصويب لعدم منافاة ذلك مع
القول بكون الحكم الواقعي انشائيا حين قيام الامارة، فلا تصويب.
وان التزم بما التزم به المحقق النائيني من: ان الحكم الواقعي المشترك بين
العالم والجاهل هو الحكم الفعلي (2)، كان القول بالاجزاء ملازما للقول
بالتصويب، لان القول بالاجزاء يلازم الالتزام بعدم فعلية الواقع في حق من قامت عنده
الامارة وهو عين التصويب، بيان ذلك: ان الحكم الفعلي انما يصح في مورد يكون
مؤثرا في الانبعاث أو يكون له قابلية الوصول إلى هذه المرحلة، اما مع عدم قابلية
الحكم للتأثير في حال من الأحوال فيمتنع أن يكون فعليا.
والامر بناء على الاجزاء كذلك، وذلك لأنه عند قيام الامارة على الخلاف
وقبل انكشاف الخلاف لا يصلح الحكم الواقعي للتأثير، وبعد انكشاف الخلاف
يلتزم بالاجزاء وسقوط الواقع لو كان، ففي أي حال يكون الحكم الواقعي قابلا
للتأثير كي يصح جعله.
وعليه، فلا يكون فعليا فيلزم التصويب.
هذا تمام الكلام في مبحث امكان التعبد بالظن وذيوله. والحمد لله أولا
وآخرا.

(1) الخراساني الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 278 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 3 / 103 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
195

الجهة الثالثة من جهات مباحث الامارات.
في تأسيس الأصل عند الشك في حجية ظن وأمارة.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى أن الأصل عدم الحجية. ببيان: ان آثار
الحجية انما تترتب على الاعتبار بوجوده العلمي، فمع الشك في الاعتبار يقطع
بعدم ترتب الآثار على المشكوك للقطع بعدم الموضوع.
اما انحصار ترتب آثار الحجة على الحجة المعلومة، فلانه بدون العلم
باعتبار الامارة لا يتنجز بها التكليف عقلا، فلا يصح للمولى العقاب استنادا
إليها كما لا تكون معذرة للعبد.
وبالجملة: الذي يراه صاحب الكفاية ان الشك في التعبد بالظن يلازم
القطع بعدم حجيته، بمعنى عدم ترتيب الآثار المرغوبة من الحجة عليه. هذا
خلاصة ما ذكره في الكفاية في هذا المقام (1).
وقد استدل الشيخ (رحمه الله) على نفي حجية المشكوك بما دل على عدم
جواز الاستناد والاسناد مع عدم العلم (2).
وناقشه صاحب الكفاية: بان جواز الاستناد والاسناد ليس من آثار
الحجية، بل بينهما عموم من وجه، فقد تثبت الحجية ولا يجوز الاستناد كموارد
الظن الانسدادي بناء على حجيته عقلا على تقرير الحكومة، كما أنه لو فرض
صحة الاستناد مع الشك شرعا لم يثبت به حجية الظن (3).
والذي يرتبط من كلام الكفاية بكلام الشيخ هو الشق الأول. اما الثاني
فهو توسع في الحديث والبحث، والا فهو لا ينفي كلام الشيخ، إذ عدم ثبوت

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 279 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 30 و 31 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 280 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
196

الحجية مع جواز الاستناد لا ينفي استفادة عدم الحجية من عدم جواز الاستناد،
إذ من الممكن أن يكون جواز الاستناد لازما أعم للحجية وغيرها، فاثباته لا
يثبت الحجية بخلاف نفيه فإنه ينفي الحجية.
وعليه، فنقطة مناقشة الكفاية مع الشيخ (رحمه الله) في الشق الأول، وهو
يتكفل بيان أمرين:
أحدهما: كلية ان عدم الاستناد لا يلازم عدم الحجية.
الاخر: تطبيق هذه الكلية على مورد الظن الانسدادي بناء على الحكومة.
وقد ناقشه المحقق النائيني في كلتا الجهتين:
اما الثانية: فببيان ان مرجع حجية الظن على الحكومة ليس جعل الظن
حجة من قبل العقل، بل حقيقة ذلك هي حكمه بجواز الاكتفاء في امتثال
التكاليف المعلومة بالظن، وهذا ليس من الحجية في شئ، فان الحجة تقع في
طريق اثبات التكليف والظن بناء على هذا الالتزام يقع في طريق اسقاطه.
واما الأولى: فببيان ان معنى حجية الامارة كونها وسطا في اثبات متعلقها،
فتكون كالعلم. وعليه فيترتب عليها جواز الاستناد كما يترتب على العلم، فجواز
الاستناد من لوازم الحجية، فانتفائه يكشف عن انتفاء الحجية (1).
أقول: إننا نسائل المحقق النائيني (رحمه الله) ونقول له: ان جواز
الاستناد الذي فرضه من آثار الحجية هل يترتب على الوجود الواقعي للحجية
- فإنه فرض للحجة ثبوتا واقعيا يتعلق بها العلم والجعل -. أم انه يترتب على
الوجود الواصل لها؟. لا يمكنه الالتزام بالأول فإنه خلاف الوجدان، فإنه لا
يصح اسناد الحكم إلى المولى مع عدم العلم بالوجود الواقعي للحجية، وخلاف
ما التزم به من أن التشريع حرام، وهو يحصل مع عدم العلم سواء كان الحكم

(1)
الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 122 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
197

ثابتا واقعا أم لا، فان حكم العقل بقبح التشريع موضوعي لا طريقي. والالتزام
بالثاني لا ينفعه، إذ الفرض عدم الوصول فيما نحن فيه، فيترتب عدم جواز
الاستناد والاسناد، لكن لا ينفع في نفي الحجية الواقعية الذي حاول الشيخ
وتابعه هو (قدس سره) لنفيها بنفي جواز الاستناد.
وعلى كل فيقع الكلام في جهات:
الجهة الأولى: في أن الشك في الحجية هل يلازم القطع بعدم حجيتها أو
لا؟.
وقد عرفت أن صاحب الكفاية ذهب إلى ذلك، فنفى الحجية جزما عند
الشك في ثبوتها، لان آثار الحجية لا تترتب الا على الحجة الواصلة، فمع الشك
لا وصول فلا اثر.
ووافقه المحقق النائيني في هذا المدعى لكنه ذكر أنه ليس المراد اخذ
العلم بالحجية في موضوعها بحيث لا تكون حجة واقعا مع عدم العلم بها، فإنه
واضح الفساد، إذ الحجية كغيرها من الأحكام الوضعية والتكليفية لا يدور
وجودها الواقعي مدار العلم بها، بل المراد بعدم ترتب آثار الحجية عليها من
المنجزية والمعذرية لكونهما منوطتين بالعلم أو ما يقوم مقامه (1).
أقول: إذا لم يكن للحجية اي اثر في حال الشك فيها، وكانت آثارها
منوطة بالعلم بها، فأي وجه يوجب جعل الحجية واقعا؟، مع أن الحكم الوضعي
انما يجعل بلحاظ ما يترتب عليه من الآثار.
وتحقيق الكلام: هو ان ما قيل من أن الشك في الحجية يلازم القطع بعدم
الحجية مسلم في الجملة لا مطلقا. بيان ذلك: ان الحجية المشكوكة قد تكون في
معرض الوصول إليها بالفحص أو بغيره، ففي مثل ذلك تكون منجزة بوجودها

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 123 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
198

الواقعي، بمعنى ان المكلف لو ترك العمل على طبقها ولم يفحص عنها ثم تبين
مطابقتها للواقع لم يكن معذورا وكان للمولى عقابه، وليس للمكلف ترك العمل
استنادا إلى أن الشك بها يلازم القطع بعدمها.
نعم، إذ لم تكن في معرض الوصول لم تترتب على وجودها الواقعي
المنجزية، إذ ليس للمولى المؤاخذة بلحاظ وجودها الواقعي. ففي مثل ذلك يكون
الشك فيها ملازما لعدم حجيتها.
فالنتيجة: ان الحق هو التفصيل بين ما إذا كانت الحجة المشكوكة في
معرض الوصل فلا يلازم الشك فيها القطع بعدم حجيتها، فلا بد من الفحص
عنها، وإن لم تكن في معرض الوصول فالشك فيها يلازم القطع بعدمها لما عرفت
من عدم ترتب آثارها عليها في حال الشك.
الجهة الثانية: في أنه هل يمكن اجراء استصحاب عدم حجية ما شك في
حجيته أو لا؟.
وقد استشكل فيه الشيخ (رحمه الله) (1)، وتابعه عليه المحقق النائيني
(قدس سره) (2). وخلاصة الوجه المستفاد من كلامهما: ان عدم المنجزية بما أنه
مترتب على مجرد الشك في الحجية، فاجراء الاستصحاب بلحاظه يكون من باب
تحصيل الحاصل، بل ذكر المحقق النائيني: انه أردأ من تحصيل الحاصل فان
تحصيل الحاصل انما هو فيما إذا كان المحصل والحاصل من سنخ واحد كلاهما
وجدانيان أو تعبديان، وفي المقام يلزم احراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد، إذ
عدم المنجزية وجداني فلا معنى لاحرازه بواسطة التعبد.
ثم إن هذا المطلب - أعني: عدم جريان الاستصحاب - يبحث فيه في

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 31 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 129 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
199

موردين آخرين: أحدهما: مورد قاعدة الاشتغال، فيبحث في جريان استصحاب
الاشتغال. والاخر: مورد أصالة البراءة، فيبحث في جريان استصحاب عدم
التكليف.
والجامع بين هذه الموارد هو كون الأثر الذي يحاول ترتيبه على
الاستصحاب مترتبا على مجرد الشك، فيقال ان اجراء الاستصحاب تحصيل
للحاصل.
والحق: صحة جريان استصحاب عدم الحجية وليس هو من تحصيل
الحاصل، وبيان ذلك: ان تحصيل الحاصل انما يلزم لو كان المترتب على
الاستصحاب نفس الأثر المترتب على الشك، اما إذا كان غيره وان كانا من
سنخ واحد فلا يلزم تحصيل الحاصل، وما نحن فيه كذلك، فان عدم المنجزية
المترتب على الشك في الحجية غير عدم المنجزية المترتب على عدم الحجة، فان
الأول بملاك الشك وعدم قابلية الموجود للمنجزية. والاخر بملاك عدم الموضوع
وعدم المنجز، ولذا يعبر بأنه من باب السالبة بانتفاء الموضوع. ونظيره في البراءة
الشرعية والبراءة العقلية، فان قبح العقاب المترتب على الشك في التكليف - في
مورد البراءة العقلية - غير قبح العقاب المترتب على عدم التكليف الثابت
بالبراءة الشرعية أو استصحاب عدم التكليف، فان الأول بملاك قبح العقاب
بلا بيان ولعدم ثبوت التكليف، والثاني بملاك عدم المخالفة لعدم التكليف.
وعليه فلا يكون اجراء الاستصحاب مستلزما لتحصيل الحاصل.
وقد يتخيل ان ما ذكرناه يتأتى بناء على كون الحكم الواقعي في ظرف
الجهل به انشائيا. اما بناء على المسلك القائل بان الحكم الواقعي فعلي في ظرف
الجهل به فلا يتم ما ذكر، إذ نفي التكليف أو الحجية بالاستصحاب لا ينفيها
فعلا فيبقى الشك على حاله ولا يكون الحكم العقلي بملاك ارتفاع الموضوع
حينئذ.
200

ولكنه تخيل فاسد، فإنه لو سلمنا قياس الحجية ونحوها من الأحكام الوضعية
على الحكم التكليفي في امكان كونها فعليه في ظرف الشك ولم نقل
بالتفكيك بينهما - لو سلمنا ذلك - فلا ينفع فيما ذكر، إذ نفي الحجية تعبدا ولو في
مرحلة الظاهر يلازم الوعد بعدم العقاب على المخالفة. فإنه إذا قال المولى:
" انني لا يصح لي الاحتجاج بهذا الامر " دل على الوعد أو ما يشبه الوعد بعدم
العقاب على المخالفة.
وعليه، فقبح العقاب ههنا يرجع إلى قبح خلف الوعد بالنسبة إلى
الشارع الأقدس ولو لم نقل بقبح العقاب بلا بيان من باب الظلم. ولا يخفى ان
هذا الحكم العقلي غير الحكم بقبح العقاب في مورد الشك، لان ذلك بملاك
قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنه ظلم من المولى.
وعليه، فالاستصحاب على جميع التقادير لا يستلزم تحصيل الحاصل.
نعم، يبقى سؤال وهو: انه إذا فرض ترتب عدم المنجزية أو قبح العقاب
على مجرد الشك، فأي داع عقلائي لاجراء الاستصحاب مع أنه انما يترتب عليه
نفس الحكم وان كان بملاك آخر يوجب التغاير، إذ اختلاف الملاك لا يرفع
اللغوية؟. ومحصل الاشكال: هو لغوية جريان الاستصحاب.
والجواب عنه: ان اجراء الاستصحاب موجب لارتفاع موضوع الأثر
الثابت للشك بما هو، فيكون الاستصحاب حاكما على الحكم العقلي الثابت في
فرض الشك لارتفاع موضوعه به، وحينئذ فيجري فيه الوجه الذي يوجه به
جريان الحاكم إذا كان متفقا مع الدليل المحكوم في الأثر. وهو امر يلتزم به في
كثير من الموارد وليس فيه محذور.
ثم إن ما ذكره المحقق النائيني (قده) من: انه أردأ من تحصيل الحاصل.
غير واضح الوجه، فان الأردأية انما تتم لو كان ثبوت الأثر بالاستصحاب ثبوتا
تعبديا، إذ مع ثبوته حقيقة بمجرد الشك لا معنى للتعبد به.
201

ولكن الامر ليس كذلك، إذ الأثر يترتب حقيقة وواقعا على التعبد
الاستصحابي فلا يلزم الا تحصيل الحاصل - لو كان - لا ما هو أردأ منه،
ولكن عرفت الاشكال في أصل المطلب. وان الحق صحة جريان
استصحاب عدم الحجية بلا محذور في البين من تحصيل الحاصل أو اللغوية.
الجهة الثالثة: في أنه لو التزم بعدم جريان استصحاب عدم الحجية، فهل
يصح جريان استصحاب بقائها لو تمت أركان الاستصحاب أو لا؟.
قد يتوهم: عدم صحة جريانه أيضا كاستصحاب العدم. ببيان: انه مع
عدم القدرة على أحد النقيضين لا يكون الاخر مقدورا، فمع عدم امكان التعبد
بعدم الحجية لا يمكن التعبد بالحجية أيضا.
وهذا الوهم غريب، فإنه واضح الفساد لوجهين:
الأول: ان الثابت هو ان عدم القدرة على أحد النقيضين يلازم عدم
القدرة على الاخر، ولازم ذلك أن عدم القدرة على عدم شئ يلازم عدم القدرة
على وجوده، إذ يكون وجوده ضروريا أو ممتنعا، لان نسبة القدرة إلى الوجود
والعدم على حد سواء. وهذا لا يرتبط بما نحن فيه، إذ الممتنع انما هو التعبد بالعدم
لا أصل نفي الحجية وعدمها واقعا، وهو - أعني التعبد - امر وجودي وليس نقيضا
للتعبد بالوجود كي يكون امتناعه مستلزما لعدم القدرة على الوجود، بل هما
امران وجوديان، فمع عدم القدرة على أحدهما لا يلزم أن لا يقدر على الاخر (1).
الثاني: لو تنزلنا وسلمنا ان امتناع التعبد بعدم الحجية يستلزم امتناع
التعبد بالحجية فلا يتم ما ذكر، إذ ذلك يتم فيما لو كان التعبد ممتنعا تكوينا،
بحيث لا يكون الجاعل مسلوب الاختيار بالنسبة إليه، وهو غير ما نحن فيه،

(1) بل لو فرض انهما ضدان، فهما من الضدين اللذين لهما ثالث، إذ يمكنه أن لا يتعبد لا بالوجود ولا
بالعدم. (منه عفي عنه).
202

إذ ليس المدعى ان التعبد بالعدم ممتنع لعدم القدرة عليه، بل لاجل انه لغو لا
يصدر من العاقل الحكيم بما هو عاقل حكيم وهذا لا ينفي الاختيار، فلا يمنع
من تحقق نقيضه في مورد لا يكون لغوا. فمثلا لو لم يقم شخص لعدم كون القيام
ذا أثر عملي، فهل يتوهم انه لا يستطيع الجلوس في بعض الموارد فيأتي به لو كان
ذا أثر عملي؟.
وبالجملة: هذا التوهم لا يستحق الذكر لما بيناه.
ثم إن المحقق العراقي (قدس سره) تصدى لبيان الاشكال في
استصحاب عدم الحجية، فقربه: بان الأثر لما كان مترتبا على الجامع بين عدم
العلم والعلم بالعدم، فبما ان الشك في مرحلة سابقة على الاستصحاب لأنه مأخوذ
في موضوعه، فعند حصول الشك يترتب الأثر ولا مجال للاستصحاب حينئذ لأنه
لا يتكفل رفع الشك، إذ هو يتكفل التعبد مع فرض المكلف شاكا. وبذلك يفترق
الاستصحاب عن الامارة على عدم الحجية، فإنها تتكفل رفع الشك بخلاف
الاستصحاب، وإذا ترتب الأثر في مرحلة سابقة على الاستصحاب لا معنى
لجريانه حينئذ، لأنه تحصيل الحاصل (1).
وهذا البيان لا يزيد عما تقدم منا في بيان الاشكال الا في تكفله لنفي
الحكومة المدعاة.
وقد أجاب (قدس سره) عن هذا الاشكال: بان الشك في الحجية كما
يكون موضوعا للقاعدة - يعني قاعدة قبح العقاب بلا بيان - يكون موضوعا
للاستصحاب، وعند الدوران بينهما لا بد من تقديم الاستصحاب، لأنه يرفع
موضوع القاعدة لرفعه الشك تعبدا، بخلاف القاعدة فإنها لا ترفع موضوع
الاستصحاب فيكون احزاؤها مستلزما لتخصيص دليل الاستصحاب (2).

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 81 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 82 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
203

ولا يخفى ان هذا الجواب لا يفي بالمطلوب، كيف؟ والمدعى ان التعبد
الاستصحابي لا يكون الا في فرض الشك، ورفعه تعبدا لا يجدي في الحكومة
على الحكم العقلي، لان مرجع الحكومة في اللب إلى التخصيص وهو ممتنع بالنسبة
إلى الاحكام العقلية. فالعمدة ان يقال: ان الاستصحاب كما عرفت يترتب عليه
حكم عقلي آخر غير حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، وهو رافع لموضوع حكم
العقل بقبح العقاب بلا بيان، لان موضوعه الشك في الحجية، والاستصحاب
ينفي الحجية، والحكم العقلي الثابت في مورد عدم الحجة غيره الثابت في مورد
الجهل بالحجة، والأول مقدم على الثاني، لان عدم الحجية وان انتفى ظاهرا،
لكنه يكفي في رفع حكم العقل الثاني، فان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان
انما يتأتى في مورد لا يقوم دليل على نفي الحجة من قبل المولى، فمجرد الشك
ليس موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بل الشك مع عدم نفي البيان. فما
يتكفل نفي البيان يكون رافعا لموضوع الحكم العقلي حقيقة. فتدبر ولاحظ.
هذا كله جريا على تحريرات الاعلام، والا..
فالحق عدم جريان الاستصحاب لما عرفت من أن الشك في الحجية يلازم
القطع بعدمها، واقعا ومع القطع بعدم الحجية لا مجال للاستصحاب، فإنه يجري
مع الشك لا مع اليقين بالعدم. فالتفت ولا تغفل والله سبحانه ولي التوفيق.
الجهة الرابعة: في بيان الموارد التي قيل أو يقال بوقوع التعبد فيها
بالظن وخروجها عن الأصل السابق.
وقد عبر صاحب الكفاية عن ذلك ب‍: " الخروج موضوعا " (1).
ويقصد بذلك التنبيه على أن الخروج عن الأصل السابق لابد وان يرجع
إلى الخروج الموضوعي، إذ الخروج حكما مع بقاء الموضوع يرجع إلى التخصيص

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 280 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
204

وهو ممتنع بالنسبة إلى الحكم العقلي، بخلاف رفع موضوع حكم العقل فإنه
لا ضير فيه. وعلى كل فيقع الكلام في ضمن فصول:
* * *
205

الفصل الأول
في الكلام عن حجية الظواهر
وقد ذكر صاحب الكفاية (رحمه الله): انه لا اشكال في لزوم اتباع ظاهر
كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة. والوجه في ذلك هو: ان بناء العقلاء قد
استقر على اتباع ظهور الكلام في تعيين مراد المتكلم، والحكم بان مراد المتكلم
كذا من طريق ظاهر كلامه. ومن الواضح ان الشارع جرى في كلامه على طبق
هذه الطريقة العقلائية ولم يخترع طريقة أخرى مخالفة لطريقة العقلاء،
والا لظهر وبان لتوفر الدواعي لظهور ذلك، إذ عليه أساس فهم التكاليف
وغيرها مما يروم الشارع بيانه، وحيث لم ينقل إلينا ذلك نقطع بعدم ردع الشارع
عن الطريقة العقلائية وامضائه لبنائهم وجريه على وفق مجراهم في تفهيم مرامه.
وهذا البناء العقلائي على اتباع الظاهر لا يختص بصورة حصول الظن
الشخصي بالوفاق، ولا بصورة عدم حصول الظن الشخصي بالخلاف، إذ لا يحق
للعبد الاعتذار عن مخالفة الامر الصادر من قبل المولى المبين بكلام ظاهر فيه -
الاعتذار - بأنه لم يكن ظانا بثبوته أو كان ظانا بعدم ثبوته.
ثم أشار إلى التفصيل بين من قصد افهامه ومن لم يقصد افهامه،
فالظاهر حجة بالنسبة إلى الأول دون الثاني. ورده بقيام السيرة العقلائية على
207

اتباع الظاهر مطلقا بالنسبة إلى من قصد افهامه ومن لم يقصد افهامه (1).
هذا توضيح ما ذكره في الكفاية وهو تلخيص بل أشبه بالفهرست لما
ذكره الشيخ (رحمه الله) في هذا المقام.
وقد شرع الشيخ (رحمه الله) في هذا الفصل ببيان: ان الأمارات المعمولة
في استنباط الحكم الشرعي من لفظ الكتاب والسنة على قسمين:
الأول: ما يعمل لتشخيص مراد المتكلم عند احتمال إرادة خلاف ذلك،
كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز، وأصالة العموم والاطلاق، ومرجع الكل
إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بإرادة المتكلم الحكيم له
لو حصل القطع بعدم القرينة... إلى آخر كلامه (2).
وقد تصدى صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل لمناقشة الشيخ في
ارجاعه هذه الأصول اللفظية إلى أصالة عدم القرينة، وذكر: انه ليس للعقلاء
الا بناء واحد، وهو اتباع الظهور، فليس لدينا الا أصالة الظهور، لا انهم يبنون
على عدم القرينة، بل يبنون رأسا على اتباع الظهور، فالأصل اللفظي في الحقيقة
أصل وجودي لا عدمي (3).
وهذه المناقشة مخدوشة وستعرف وجه الخدشة فيها عن قريب ان شاء الله
تعالى.
ثم إنه يستفاد من كلام الشيخ: ان دلالة الظاهر على المراد دلالة قطعية
مع العلم بعدم القرينة. ولعل الوجه فيه: ان المتكلم إذا كان في مقام بيان مراده
بالكلام وكان الكلام دالا على معنى من المعاني، فإرادة غيره بدون نصب قرينة
- كما هو الفرض - خلف، لعدم دلالة الكلام عليه، فيقطع بان مراده هو المعنى

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 281 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 34 الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول / 46 - الطبعة الأولى.
208

الظاهر من الكلام لو لم ينصب قرينة على خلافه.
وتحقيق الكلام في حجية الظواهر بنحو يتضح الحال فيها، ويتحدد
موضوع الكلام، ان يقال: ان الكلام الصادر من المتكلم له صور ثلاث:
الأولى: أن لا يقصد به الحكاية عن معنى ولا تفهيم معنى أصلا، بل يكون
مقصوده وغرضه متمحضا في نفس صدور الكلام بما هو كلام منه، كما لو أراد أن
يعرف كيفية صوته من الرقة والغلظة.
الثانية: ان يقصد به تفهيم معنى وايجاده في ذهن السامع ولكن لا تكون
على طبقه إرادة جدية، فهو ليس في مقام الاخبار أو الانشاء واقعا، بل لا يكون
له غرض الا في استعمال اللفظ في المعنى، كما في موارد الاستعمالات بداعي الهزل
والسخرية. ويعبر عن ذلك اصطلاحا بالإرادة التفهمية أو الاستعمالية.
الثالثة: أن يكون على طبقه إرادة جدية واقعية بان يقصد الحكاية واقعا
في الكلام الخبري والانشاء في الكلام الانشائي. ويعبر عنها بالإرادة الجدية
والواقعية.
اما الصورة الأولى، فهي خارجة عما نحن فيه بالمرة، ولا تكون للكلام
أي دلالة على المعنى الا الدلالة التصورية التي لا ترتبط بإرادة المتكلم.
واما الصورة الثانية، فالذي يبدو النظر أن دلالة الكلام على إرادة تفهيم
معناه وايجاده في ذهن السامع - وبعبارة أخرى: دلالة على استعماله في معناه -
دلالة قطعية لا ظنية ومن باب التعبد. وذلك لان المتكلم إذا فرض انه في مقام
تفهيم معنى واحضاره في ذهن السامع لاي داع كان، وأطلق اللفظ الظاهر في
معنى خاص ولا دلالة له على غيره في نفسه، فلا بد أن يكون مراده هو المعنى
الذي يظهر فيه اللفظ، إذ إرادة غيره مع عدم دلالة اللفظ عليه خلف كونه في
مقام التفهيم باللفظ. ونتيجة ذلك: هو القطع بان مراده من اللفظ هو معناه
الظاهر فيه.
209

واما الصورة الثالثة، فالحال فيها كالثانية، وذلك لان المتكلم إذا فرض
انه في مقام الحكاية عن الواقع - مثلا -، وانه يحاول ذلك بواسطة اللفظ بلحاظ
ما يدل عليه من المعنى وجريا على الطريقة العقلائية، فإذا أطلق اللفظ، فان أراد
الحكاية عن غير مدلوله كان ذلك خلف لعدم دلالة اللفظ عليه، فلا بد أن يكون
مراده الحكاية عن مدلول اللفظ، فيحصل القطع بان مراده الواقعي على طبق
المراد الاستعمالي.
والذي يتحصل: ان دلالة الكلام على المراد الاستعمالي والمراد الواقعي
دلالة قطعية لا ظنية.
وهذا خلاف فرض إصالة الظهور من الظنون النوعية المعتبرة شرعا.
وعلى هذا، فلا معنى لبعض التفصيلات من اعتبار الظن بالوفاق أو عدم
الظن بالخلاف، إذ المفروض حصول القطع من الظهور فلا يتصور حصول
التشكيك ونحوه.
هذا، ولكن لما كان الانتهاء إلى القطع بالمراد في كلتا الصورتين مبتنيا على
فرض كون المتكلم في مقام التفهيم والجد، ومبتنيا على عدم نصب قرينة على
خلاف ظاهر الكلام، فهذان الأمران قد لا يمكن احرازهما قطعا، كما لو شك في أن
المتكلم في مقام بيان المراد الواقعي أو كان في مقام التقية، أو شك في حصول
الغفلة للمتكلم فلم ينصب قرينة على تعيين مراده وصرفه عن الظاهر، فيرجع في
احرازهما إلى الأصول العقلائية المعتبرة، كأصالة عدم الغفلة أو أصالة كون
المتكلم في مقام بيان المراد الواقعي المعبر عنها بأصالة الجهة، وهذه الأصول
ليست قطعية بل ظنية.
وعليه، فتكون النتيجة ظنية لأنها تتبع أخس المقدمتين، فلا تكون دلالة
الظاهر على المراد الاستعمالي والواقعي دلالة قطعية بل ظنية.
وعليه يقال: ما المراد من أصالة الظهور وحجيته من باب الظن؟ ان كان
210

المراد من الظنون بلحاظ أصالة الجهة أو أصالة عدم الغفلة، فهو متجه، لكنه
خلاف ما يظهر من كلماتهم من عد أصالة الظهور أصلا برأسه في قبال تلك
الأصول، ولذا يقال: ان في الخبر جهات ثلاث جهة السند والجهة والظهور. وان
كان انه من الظنون الخاصة بلحاظ نفسه ومع قطع النظر عن أصالة عدم الغفلة
وأصالة الجهة، ففيه ما عرفت من تحقيق ان دلالة الكلام على المراد الاستعمالي
أو الواقعي مع فرض عدم القرينة وكون المتكلم في مقام بيان مراده الواقعي،
دلالة قطعية لا يشوبها شك ولا وهم فالتفت ولا تغفل.
ثم إنه قد عرفت أنه لدينا مرحلتان: مرحلة المراد الاستعمالي ومرحلة
المراد الواقعي. وعرفت ان تشخيص المراد الاستعمالي لا يلازم تشخيص المراد
الواقعي.
ومن ذلك يظهر الاشكال في ما ذكره الشيخ (رحمه الله) من بيان تعيين
مراد المتكلم بأصالة الحقيقة ونحوها التي ارجعها إلى أصالة عدم القرينة، إذ
الحقيقة والمجاز انما هما يرتبطان بالاستعمال، فأصالة الحقيقة تنفع في اثبات ان
المراد الاستعمالي هو المعنى الحقيقي، اما مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجدي
الواقعي فلا تجدي في اثباته أصالة الحقيقة.
كما يظهر الاشكال فيما أورده صاحب الكفاية على الشيخ والتزامه
بارجاع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الظهور، وانه ليس هناك الا أصل واحد
هو أصالة الظهور.
وذلك لان مجرى أصالة عدم القرينة وأصالة الظهور لو كان واحدا أمكن
ان يتكلم في أن الأصل الذي يبني عليه العقلاء هو اتباع الظهور فقط لا أصالة
عدم القرينة وأصالة الظهور، إذ مثل ذلك لغو محض.
ولكن الامر ليس كذلك، إذ مجرى أصالة عدم القرينة غير مجرى أصالة
الظهور، فان مجرى أصالة عدم القرينة هو تشخيص المراد الاستعمالي، ومجرى
211

أصالة الظهور - كما يظهر من كلماتهم - تشخيص مطابقة المراد الاستعمالي
للمراد الواقعي، فلا يغني أحد الأصلين عن الاخر كما لا معنى لارجاع أحدهما
إلى الاخر.
وبالجملة: فلدينا أصلان: أحدهما: يجري في تشخيص المراد الواقعي، وهو
أصالة الظهور. والاخر: يجري في تشخيص المراد الاستعمالي، وهو أصالة عدم
القرينة أو أصالة الحقيقة وتشخيص كونه أيهما - أعني الوجودي أو العدمي -. لا
يرجع إلى بحث علمي بل أمر ذوقي وجداني.
ثم إنه يرد على الشيخ مضافا إلى ما تقدم: انه لا يتصور الشك في القرينة
بنحو تجري فيه أصالة عدم القرينة، إذ مع فرض كون المتكلم في البيان فلا بد
ان ينصب القرينة لو أراد.
نعم قد يشك في غفلة المتكلم عن نصب القرينة فيرجع إلى أصالة عدم
الغفلة، وهو غير أصالة عدم القرينة للقطع بعدم نصبه القرينة، كما قد يشك في
سقوط بعض الكلمات من الكتاب - مثلا - بحيث يحتمل دخلها في تغيير المعنى،
وفي مثله لا تجري أصالة عدم القرينة، بل يتوقف العقلاء في مثل ذلك من العمل
بالكتاب. هذا بلحاظ القرينة المتصلة.
اما المنفصلة، فهي لا تستلزم التجوز، بل تصادم ظهور الكلام في دلالته
على المراد الواقعي. وعليه فلا معنى لارجاع أصالة الحقيقة إليها، إذ مع الجزم
بها لا يلزم أن يكون الاستعمال مجازيا.
وعلى أي حال، فظهور الكلام حجة على المراد قطعا سواء كان من باب
الظن كما عليه الأعلام أم من باب القطع كما حققناه.
وبعد هذا يقع الكلام في جهتين:
الأولى: فيما ذهب إليه المحقق القمي (رحمه الله) - صاحب القوانين - من
التفصيل في حجية الظواهر بين من قصد افهامه وبين من لم يقصد افهامه،
212

فالظاهر حجة بالنسبة إلى الأول دون الثاني (1).
الثانية: فيما ذهب إليه جمهور الأخباريين من التفصيل بين ظواهر
الكتاب المجيد وغيرها. فالأولى ليست بحجة وغيرها حجة.
اما ما ذهب إليه المحقق القمي (رحمه الله)، فقد وجهه الشيخ (رحمه الله)
أولا ثم رده. فوجهه بما يتلخص في: ان حجية الظاهر من باب افادته الظن
النوعي بالمراد بحيث لو خلي وطبعه كان مفيدا للظن، فإذا كان مقصود المتكلم
افهام مخاطب ما فلا بد ان يلقي إليه الكلام بنحو لا يوجب فهم المخاطب خلاف
مراده، فلو فرض انه فهم خلاف مراد المتكلم فمنشأه اما غفلته عن الالتفات
إلى القرائن المكتنفة بالكلام، أو غفلة المتكلم عن نصب قرينة تدل على تعيين
مراده، وعليه فاحتمال إرادة المتكلم خلاف الظاهر لا بد ان ينشأ عن احتمال
غفلته أو غفلة المخاطب لا غير، واحتمال الغفلة منفي بأصالة عدم الغفلة التي
جرت عليها طريقة العقلاء في محاوراتهم وسائر تصرفاتهم.
وهذا البيان الذي ينتهي إلى حجية الظاهر في كشفه عن مراد المتكلم
يختص بالمقصود بالافهام، اما غير المقصود بالافهام فلا يعمه هذا البيان، إذ لا
ينحصر منشأ احتمال إرادة المتكلم خلاف الظاهر عنده في احتمال غفلته أو غفلة
المتكلم، بل هناك سبب آخر وهو احتمال وجود قرائن كانت موجودة خفيت عليه
اختيارا لداع من دواعي الاخفاء، أو قهرا. وهذا الاحتمال لا دافع له عند العقلاء
فلا يكون الظاهر حجة حينئذ.
وعليه، فمثل الاخبار الصادرة عن أهل البيت (عليهم السلام) لا يكون
ظاهرها حجة بالنسبة الينا من باب الظن الخاص، إذ الخطابات المشتملة عليها
تختص بالمشافهين، وهي ليست كتصنيف المصنفين التي يقصد بها إفهام كل من

(1) القمي المحقق ميرزا أبو القاسم. قوانين الأصول 1 / 398 - الطبعة الأولى.
213

يطلع عليها لا خصوص المخاطبين بها، فالمقصود بالافهام بها خصوص
المخاطبين. اما نحن فلسنا مقصودين بالافهام، واحتمال وجود القرائن المختفية
علينا على مر الزمن لا رافع له، فلا يكون الظاهر حجة بالنسبة الينا، الا من
باب الظن المطلق الثابت بدليل الانسداد (1).
وهذا البيان لا يخلو عن نظر بكلا جهتيه وهما: أصل توجيه التفصيل
وبيان الفرق. وصحة كونه فارقا في مقام الحجية فيما نحن فيه.
اما بيان الفرق بين المقصود بالافهام وغيره بما تقدم، فهو غير تام، إذ
منشأ احتمال خلاف الظاهر لدى المقصود بالافهام لا ينحصر باحتمال الغفلة منه
أو من المتكلم، بل يشنأ أيضا عن احتمال خفاء قرينة متصلة، كما لو جاءه كتاب
من شخص يأمره بشراء حاجة واحتمل أن يكون قد قيد الحاجة بنحو خاص،
ولكن حذف القيد في طريق وصول الكتاب عن عمد أو غير عمد.
وعليه، فالتفصيل بين كون منشأ احتمال خلاف الظاهر هو احتمال الغفلة
أو احتمال خفاء القرينة التي نصبها المتكلم لا يصلح تفصيلا بين من قصد افهامه
وغيره، بل هو تفصيل آخر أجنبي عن ذلك التفصيل، فلو تم كان تفصيلا ثالثا
في مسألة حجية الظاهر.
واما كون الفرق المذكور فارقا فيما نحن فيه، بحيث تكون نتيجته عدم
حجية ظواهر الاخبار بالنسبة الينا، فهو غير تام أيضا. وذلك لأنا وإن لم نكن
مقصودين بالافهام بكلام الإمام (عليه السلام) الموجه إلى السائل ك‍: " زرارة "،
لاختصاص الخطاب بالمشافهين وعدم كونه من قبيل تصنيف المصنفين، الا انا
مقصودون بالافهام في إخبار زرارة عن الإمام (عليه السلام) ونقله الحكم
المخاطب به الينا، وهو حين ينقل كلام الإمام (عليه السلام) لنا لا يريد بذلك

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 40 - 41 - الطبعة الأولى.
214

نقل مجرد الألفاظ الصادرة عن الإمام (عليه السلام)، إذ لا يترتب على ذلك أي
أثر، وهو ينافي التأكيد والترغيب والحث على رواية الحديث ونقل الاحكام، وانما
يريد بذلك نقل مضمون ما صدر من الإمام (عليه السلام) وبيان المطلب الذي
أراد الإمام (عليه السلام) تفهيمه له، ليثبت في حقنا بقاعدة الاشتراك المسلمة
لدى الكل. فإذا بين ذلك باللفظ الذي تكلم به، فاحتمال أن يكون مطلب
الإمام (عليه السلام) غير مفاد الكلام، اما ان ينشأ من احتمال تعمد زرارة
لاخفاء بعض القرائن التي كانت بينه وبين الإمام (عليه السلام)، كما أنه خيانة منفية بفرض وثاقة
الراوي كزرارة. واما ان ينشأ من احتمال الغفلة منه أو من المنقول إليه، وهو منفي
بأصالة عدم الغفلة، اذن فخبر زرارة حجة بالنسبة الينا في اثبات مراد
الإمام (عليه السلام)، كحجية كلام الإمام (عليه السلام) في اثبات مراده بالنسبة
إلى زرارة.
وهذا البيان بنفسه يجري في إخبار من يخبر عن إخبار زرارة وهكذا.
هذا كله يبتني على فرض كون المقصود بالافهام خصوص المشافه، والا
فنحن مقصودون بالافهام بنفس قول الإمام (عليه السلام) وكلامه كزرارة،
فيكون حجة بالنسبة إلينا.
وجملة القول: ان نفي حجية ظواهر الاخبار بالنسبة الينا من جهة كون
المنشأ في احتمال إرادة خلافها احتمال خفاء بعض القرائن، غير تام. فالتفت.
هذا والحق هو: ان التفصيل في حجية الظواهر بين من قصد افهامه وبين
من لم يقصد، تفصيل متين لا بد من الالتزام به، فان الملاك الذي قربنا به حجية
الظواهر يختص بمن قصد افهامه.
وذلك: فانا بينا في مقام تقريب حجية الظواهر - سواء كانت النتيجة قطعية كما
نراه، أم ظنية كما يراه الآخرون ان المتكلم إذا كان في مقام بيان مراده الواقعي،
215

فإرادة خلاف ظاهر كلامه الذي يتعارف الحكاية به عن مدلوله من دون نصب
قرينة معلومة للمخاطب خلف فرض كونه في مقام التفهيم.
وهذا المحذور انما يتأتى بالنسبة إلى من قصد افهامه، اما من لم يقصد
افهامه فلا يتأتى المحذور بالنسبة إليه، إذ لا خلف في إرادة خلاف ظاهر كلامه
مع نصب قرينة لم يعلمها من لم يقصد افهامه وعلمها من قصد افهامه.
وعليه، فلا يمتنع ان ينصب المتكلم قرينة لا يعرفها سوى من قصد
افهامه كما لا يخفى، فلا يمكن لمن لم يقصد افهامه ان يحتج بكلام المتكلم على
تعيين مراده، إذ لعله نصب قرينة خفية عليه، علمها المخاطب فقط.
يبقى علينا الرد على ما أورد به على هذا التفصيل من: ان بناء العقلاء
على حجية الظاهر مطلقا حتى بالنسبة إلى من قصد عدم افهامه، فضلا عمن لم
يقصد إفهامه.
ويشهد لذلك صحة التمسك بظاهر الاعتراف والاقرار لمن قصد عدم
افهامه لو فرض انه علم به بطريق من الطرق وصحة ترتيب الآثار على ذلك (1).
ومحصل الرد: ان كون المتكلم في مقام التخفي في الحديث يكشف عن أن
مراده الواقعي هو ما يكشف عنه الظاهر، وانه لم يعتمد على القرائن الخفية بينه
وبين مخاطبه في الكشف عن مراده، والا لم يكن وجه للتخفي بعد فرض علم
غير المخاطب أو احتماله بوجود قرائن خفية بين المتكلم والمخاطب على خلاف
الظاهر. فإذا فرض كون التخفي ظاهرا في عدم اعتماد المتكلم على غير ظاهر
كلامه، كان حجة في حق كل من علم به ولو لم يكن مقصودا بالافهام، إذ احتمال
القرينة منفي على الفرض.
اذن، فعدم كون من الاقرار في حقه مقصودا بالافهام يختلف عن

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 281 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
216

سائر موارد عدم قصد التفهيم، فلا يكون التمسك بالظواهر في موارد الاقرارات
منافيا لعدم حجية الظاهر في سائر الموارد التي يتأتى فيها احتمال وجود القرينة
الخفية الذي لا يمكن دفعه كما عرفت بيانه.
وبعبارة أخرى: ان الملاك الذي أنكرنا به حجية الظاهر لغير المقصود
بالافهام لا يعم صورة الاقرار. وهذا لا يقتضي انكار التفصيل بالمرة.
وعليه، فالتفصيل متين كما عرفت. الا ان الغرض منه - وهو انكار حجية
ظواهر الاخبار بالنسبة الينا لعدم كوننا مقصودين بالافهام، بناء على اختصاص
الخطابات بالمشافهين - لا يترتب عليه، لما تقدم من تقريب حجية ظاهر خبر
الواسطة عند مناقشتنا للشيخ في توجيهه التفصيل المذكور. فلاحظ.
هذا كله فيما يرتبط بما ذهب إليه المحقق القمي (رحمه الله).
واما ما ذهب إليه جمهور الأخباريين من عدم حجية ظواهر الكتاب، فقد
ذكر له في الكفاية وجوها خمسة:
الأول: ما ورد من النصوص الدالة على أن القرآن لا يعرفه الا أهله ومن
خوطب به، وهم النبي والأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام) (1).
الثاني: ان القرآن يحتوي على مطالب عالية شامخة ومضامين غامضة، فلا
يستطيع ان يفهمه كل أحد، فان فيه علم كل شئ. ولا يستطيع كل أحد ان
يصل بفكره إلى ما اشتمل عليه القرآن.
الثالث: ان الظاهر من المتشابه الممنوع عن اتباعه، ولا أقل من احتمال
ذلك، فإنه يكفي في منع العمل بالظاهر.
الرابع: انه وإن لم يكن من المتشابه ذاتا، لكنه منه عرضا للعلم الاجمالي
بطرؤ التخصيص والتقييد والتجوز في غير واحد من ظواهره. وعليه فلا يمكن

(1) الروضة من الكافي / 311، الحديث: 485.
217

إجراء أصالة الظهور في كل واحد من ظواهره لحصول المعارضة.
الخامس: ان حمل الكلام على ظاهره تفسير للقرآن بالرأي، وهو منهي
عنه في النصوص الكثيرة.
وهذه الوجوه مردودة..
اما الأول: فلانه لم يعلم ان المراد من القرآن كل آية منه بنحو العموم
الاستغراقي، بل يمكن ان يراد منه مجموع آيات القرآن وتمامها، فلا دلالة له
على عدم حجية الظواهر منه وعدم معرفتها لغيرهم (عليهم السلام)، ولو سلم
انه ظاهر في نفسه في إرادة كل آية والجميع لا المجموع، فلا بد من حمله على
المجموع في هذه النصوص جمعا بينها وبين ما ورد من النصوص المتضمنة
للارجاع إلى كتاب الله تعالى والاستدلال ببعض آياته (1)، مما يكشف عن حجية
الظاهر منه لغيرهم (عليهم السلام)، وإلا فلا معنى للارجاع إليه ولا الاستدلال به.
واما الثاني: فلانه لا يحتوي على المضامين العالية بتمام آياته، بل في
بعضها، فلا ينافي غموضها حجية غيرها من الظواهر التي لا غموض فيها ولا
لبس في دلالتها.
واما الثالث: فلان الظاهر ليس من المتشابه، لان الظاهر هو ما يتضح
معناه، وهو خلاف المتشابه الخفي معناه.
واما الرابع: فلانه وان علم اجمالا بطرؤ ما يخالف الظاهر من مخصص
وغيره، لكنه يعلم انه لو تفحص عنه لعثر به وظفر، فمع الفحص عما يخالف
ظاهر ما وعدم وجدانه يعلم بان ذلك الظاهر خارج عن دائرة المعلوم بالاجمال،
فلا مانع من الاخذ به.
واما الخامس: فلان الممنوع عنه هو التفسير بالرأي، وحمل الكلام على

(1) وسائل الشيعة 1 / 290 باب: 23 من أبواب الوضوء، الحديث: 1.
218

ظاهره ليس تفسيرا، لان التفسير هو كشف القناع، والظاهر لا قناع له ولا
سترة، ولو سلم انه تفسير فليس هو تفسيرا بالرأي، إذ المراد بالرأي هو الاعتبار
الظني الذي لا اعتبار به، كحمل اللفظ على غير معناه لرجحانه بنظره، فلا
يكون حمل الكلام على ظاهره تفسيرا بالرأي، فلا يشمله المنع (1).
هذا تلخيص ما جاء في الكفاية من الرد على الوجوه المتقدمة مع بعض
توضيح وبذلك يظهر انه لا مجال لدعوى الأخباريين، بل ظواهر الكتاب حجة
كغيرها.
نعم، قد يتوقف من العمل بالظواهر الكتابية لشبهة أخرى غير ما ذكره
الأخباريون، وهي: دعوى العلم الاجمالي بوقوع التحريف في القرآن، وهو يمنع
من العمل بظواهر الكتاب للعلم بسقوط بعض ما له دخل في تغيير دلالة
الظاهر.
والجواب عنها - كما في الكفاية - بان دعوى التحريف وان كانت غير
بعيدة، لكنها لا تستلزم المنع عن حجية ظواهر الكتاب، لعدم العلم بكون
التحريف موجبا للخلل فيها، إذ التحريف أعم من أن يكون باسقاط جملة
مستقلة عن غيرها في المفاد. أو باسقاط ما يكون قرينة على إرادة خلاف الظاهر
من غيرها. ولو سلم انه موجب للاخلال بالظاهر، فلم يعلم انه واقع في آيات
الاحكام، وطرفيتها للعمل الاجمالي لا يجدي بعد أن لم تكن ظواهر غير آيات
الاحكام حجة، لخروجها عن محل الابتلاء والعمل، فلا معنى لحجيتها لان
الحجية بلحاظ العمل، فتكون أصالة الظهور في ظواهر الاحكام بلا معارض.
نعم، لو كان الخلل المحتمل من القرائن المتصلة كان مخلا بالحجية، لعدم
انعقاد الظهور مع احتمال القرينة المتصلة (2).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 284 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 284 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
219

هذا، مع ما ذكره غير صاحب الكفاية من: ان تقرير الأئمة (عليهم
السلام) للقرآن الذي بأيدينا بالارجاع إليه واستحباب القراءة فيه واحترامه
وغير ذلك من احكام القرآن الكثيرة يكفي في جواز العمل بظواهره، سواء التزم
بالتحريف أم لم يلتزم، فاحتمال التحريف أو العلم به لا ينفع في منع حجية ظواهر
القرآن بعد كل ما ذكر مما عرفت. فالتفت.
ثم إن الشيخ (رحمه الله) (1) - وتبعه صاحب الكفاية (2) - تعرض في ذيل
البحث عن حجية ظواهر الكتاب إلى تحقيق امر وهو: انه إذا اختلفت القراءة
في الكتاب على وجهين مختلفين في المؤدى، كالاختلاف في قراءة: (يطهرن) (3)
- من آية الحيض - في التشديد من التطهر والتخفيف من الطهر، فان الظاهر
على قراءة التشديد إرادة الاغتسال من حدث الحيض، وعلى قراءة التخفيف
إرادة النقاء من الدم وانقطاعه، فيختلف المعنى باختلاف القرائتين، فإذا قيل
بتواتر القراءات كلها - كما هو المشهور -، فهما بمنزلة آيتين تعارضتا، فاما ان
يمكن الجمع العرفي بينهما فهو، وإلا فلا بد من التوقف والرجوع إلى مقتضى
القواعد.
وإذا لم يلتزم بتواتر القراءات، فان ثبت جواز الاستدلال بكل قراءة -
كما ثبت بالاجماع جواز القراءة بكل قراءة - كان الحكم كما لو قيل بتواتر
القراءات. وإن لم يثبت جواز الاستدلال بكل قراءة كان الحكم هو التوقف
والرجوع إلى القواعد، لعدم ثبوت القرآن بإحداهما، فيكون المراد مجهولا. وعلى
تقدير جواز الاستدلال بكل قراءة بحيث تكون كل قراءة دليلا وحجة على
القرآنية، لا يلتزم باعمال قواعد الترجيح ههنا، لظهور دليلها في كون موضوعها

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 40 الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 285 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) سورة البقرة، الآية: 222.
220

الاخبار المتعارضة لا مطلق الدليلين المتعارضين، بل القاعدة تقتضي التساقط
والمرجع هو القواعد العامة في موضوع الآية. وفي مثل مورد الآية المزبورة يدور
الامر - في حكم المدة بين النقاء والغسل - بين التمسك باستصحاب الحرمة
الثابتة قبل النقاء، أو بعموم قوله تعالى: (فأتوا حرثكم أنى شئتم) (1) بناء على
عمومه الأزماني، إذ المتيقن خروج زمان الحيض عنه.
فهذا المورد من موارد مسألة دوران الامر بين استصحاب حكم
المخصص أو العمل بعموم العام الأزماني، وهي مسألة ذات بحث طويل يأتي في
محله من باب الاستصحاب ان شاء الله تعالى. وقد تعرض صاحب الكفاية إلى هذا الامر وبنحو ما افاده الشيخ. إلا أنه
ناقشه في نسبة القول بتواتر القراءات إلى المشهور، فذكر: انه لا أصل له،
وانما الثابت التزام المشهور بجواز القراءة بكل قراءة لا أكثر.
ولا يخفى ان هذا الامر لا يتحمل أكثر من البيان المزبور، إذ البحث في
تواتر القراءات وعدمه وغير ذلك ليس من شؤون مباحث الأصول. وانما له محل
آخر فلا بد من ايقاع البحث ههنا بنحو الترديد وعلى حسب اختلاف المباني في
تلك المسائل القرآنية. (*) * * *

(1) سورة البقرة، الآية: 223.
221

حجية قول اللغوي
وبعد كل هذا يقع الكلام في حجية قول اللغوي في تشخيص ظهور
اللفظ وتعيين ما وضع له.
وقد ذكر صاحب الكفاية تمهيدا للدخول في هذا المبحث - ذكر فيه -: انه
قد عرفت حجية ظهور الكلام في تعيين المرام، فان أحرز بالقطع وان المفهوم منه
جزما بحسب متفاهم أهل العرف هو هذا المعنى، فلا كلام. وإن لم يحرز المفهوم
العرفي للكلام.. فتارة: ينشأ عدم احرازه من احتمال وجود قرينة. وأخرى: من
احتمال قرينية الموجود. وثالثة: من عدم العلم بما هو الموضوع له لغة أو المفهوم
منه عرفا.
ففي الأول، لا خلاف في أن الأصل عدم القرينة، لكن البناء العقلائي
ابتداء على المعنى الذي لولاها كان اللفظ ظاهرا فيه، لا انه يبنى على عدم
القرينة أولا، ثم يبنى على المعنى الظاهر فيه لولا القرينة. فهو يلتزم بان احتمال
القرينة ينفي بأصالة الظهور رأسا لا بأصالة عدم القرينة.
وفي الثاني: فان بني على أصالة الحقيقة من باب الظهور كان الكلام
مجملا لعدم انعقاد ظهور له مع احتمال قرينية الموجود. وان بني عليها من باب
التعبد، كان ظهور الكلام الأولي متبعا، ولو لم يكن له ظهور فعلي.
223

وفي الثالث، لا يكون الظن حجة في تعيين الموضوع له لعدم الدليل على
اعتباره. نعم نسب إلى المشهور حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين
الأوضاع. هذا ما ذكره في الكفاية بتوضيح منا (1).
وهو لا يخلو عن مؤاخذات. وتوضيح ذلك: ان ظهور الكلام الفعلي في
أي معنى واستقرار ظهوره انما يكون بعد تمامية الكلام، وملاحظة كل لفظ مع
غيره.
وعليه، فنقول: ان ظهور الكلام في المعنى ودلالته عليه..
تارة يقال: إنها لا تتبع إرادة المتكلم تفهيم المعنى بالكلام، بل ينتقل
الذهن إلى المعنى بمجرد سماعه الكلام ولو لم يصدر عن التفات وشعور،
ويستشهد على ذلك بما لو وجد شخص مكتوبا على حائط: " رأيت أسدا يرمي "
فإنه ينتقل ذهنه إلى رؤية الرجل الشجاع ولو لم يعلم ان كاتب الكلام قصد
استعمال هذه الألفاظ في معانيها، بل احتمل انه كتبها لتجربة قلمه في الخط.
وأخرى يقال: إنها تتبع إرادة المتكلم تفهيم المعنى بالكلام. ببيان: انه لا
وجه لحمل أسد على غير معناه الأولي الا بلحاظ ان المتكلم نصب قوله: " يرمي "
قرينة على بيان مراده، وحيث إنه لا يتلاءم مع المعنى الأولي فلا بد من حمله على ما يتلاءم مع
الرمي وهو الرجل الشجاع. فالتصرف في معنى أسد واستظهار غير معناه لا يتم
الا في صورة إرادة المتكلم تفهيم معنى بكلامه، إذ لا يمكنه إرادة تفهيم معنيين
متنافيين لحصول التهافت.
اما مع عدم كونه مريدا للتفهيم، فابقاء أسد على ظاهره لا محذور فيه.
وبالجملة: فالظهور الثانوي للكلام لا يتم الا في صورة إرادة التفهيم.
واما تبادر المفهوم الثانوي من جملة: " رأيت أسدا يرمي " لو رؤيت

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 286 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
224

مكتوبة على جدار مع عدم احراز إرادة التفهيم ممن كتبها، فهو لا ينافي ذلك، إذ
لعل هذا الانتقال ناشئ من كثرة استعمال هذه الجملة وإرادة المعنى الثانوي،
فيحصل انس بين الألفاظ وبين المعنى الثانوي، وهذا لا يسري إلى مطلق
الموارد.
ولا يخفى ان تحقيق الصحيح من هذين القولين لا يهمنا فعلا لعدم توقف
البحث عليه.
وعلى أي حال، فنقول: ان كان صاحب الكفاية ممن يلتزم بالقول الأول.
فيورد عليه: ان هذا لا يتلاءم مع التمسك بأصالة الحقيقة والظهور في نفي احتمال
القرينة، إذ إصالة الحقيقة تجري لاحراز مراد المتكلم التفهيمي وبيان ان ما اراده
هو الظاهر الأولي، والمفروض ان ظهور الكلام لا يتوقف على الإرادة ولا يرتبط
بها.
وان كان ممن يلتزم بالقول الثاني. فلا يرد عليه ما تقدم، لكن يرد عليه: ان
فرض احتمال إرادة خلاف الظاهر لاحتمال القرينة غير ثابت، إذ المراد بالقرينة
ان كان هو القرينة المنفصلة، فهو ممن يذهب إلى أن القرينة المنفصلة لا تنافي
أصل الظهور، بل تنافي حجية الظهور، بل لعل هذا الامر من المسلمات حتى
ممن يرى ان المخصص المنفصل يستلزم المجازية. وان كان هو القرينة المتصلة،
فقد تقدم ان احتمالها مع المشافهة لا تصور له الا في صورة ما إذا تكلم المتكلم
فحصلت للسامع غفلة عن كلامه، فاحتمل انه نصب في حال الغفلة قرينة على
خلاف الظاهر، ولكنه في مثل ذلك لا يتمسك أحد بأصالة الظهور أو عدم
القرينة، بل يتوقف في اثبات موارد المتكلم، نظير صورة ما إذا ورد لشخص كتاب من
غيره وكان فيه فراغ يحتمل انه كان يشتمل على كلام صالح للقرينة فمحي،
فإنه لا يرجع إلى أصالة عدم القرينة بل يتوقف في مراد المتكلم.
وبالجملة: في الموارد التي يحتمل فيها وجود القرينة لا طريق إلى نفيها.
225

نعم قد يحتمل إرادة خلاف الظاهر من جهة احتمال الغفلة عن نصب قرينة أو
عن سماعها، فيدفع بأصالة عدم الغفلة لكنه غير أصالة الظهور. وقد مر ايضاح
الكلام في ذلك سابقا فراجع.
هذا فيما يرتبط بالفقرة الأولى من كلامه.
واما ما ذكره في صورة احتمال إرادة خلاف الظاهر لاحتمال قرينية
الموجود. فتوضيح الكلام فيه: ان رفع اليد عن ظهور الكلام الأولي لاجل ظاهر
آخر له صورتان.
إحداهما: أن يكون الظاهر الاخر قد سيق للقرينية ولبيان المراد من
غيره، كالوصف في مثل: " أكرم العالم العادل ".
والأخرى: أن يكون الظاهر الاخر قد سيق لبيان امر مستقل، لكنه كان
منافيا لغيره فيتصرف في غيره إذا كان أظهر من غيره، ويقال عنه انه قرينة على
المراد من الغير.
وبالجملة: فالقرينة على خلاف ظاهر الكلام تارة يؤخذ بها لاجل انها
سيقت للقرينية وأخرى لاجل انها أظهر من ذي القرينة.
وعليه، فنقول: ما يحتمل قرينيته - عبرنا باحتمال القرينية لأنه أولى من
التعبير بما يصلح القرينية -.
تارة: يكون من قبيل الأول، بان كان اللفظ قد سيق للقرينية لكنه كان
مجمل المراد، وان معناه هل المنافي للظهور الأولي لذي القرينة أو لا؟ كما لو شك
في أن المراد بالرمي في جملة: " رأيت أسدا يرمي " هل الرمي بالنبل أم الرمي
بالتراب؟.
وأخرى: يكون من قبيل الثاني، بان كان اللفظ المجمل المردد بين معنيين
المنافي أحدهما لظاهر الكلام لم يؤت به للقرينية.
ففي الأول، يكون الكلام مجملا لفرض ان ظهوره في معناه يتوقف على
226

معرفة المراد من القرينة، لان المتكلم نصبها لتعين مراده، فمع اجمال القرينة
يكون الكلام مجملا.
وفي الثاني، لا يكون الكلام مجملا، إذ رفع اليد عن ظهوره من باب
مزاحمته بما هو أظهر منه، ومع فرض الاجمال لا مزاحمة ولا تنافي، فيؤخذ بظاهر
الكلام، ولا يعتنى بالكلام المجمل.
وعليه، فاحتفاف الكلام بمحتمل القرينية لا يستلزم اجماله بقول مطلق،
بل في صورة دون أخرى فالتفت.
ثم إن للمحقق الأصفهاني تعليقة متينة مختصرة على قوله: " فان أحرز
بالقطع ". وبيانها: ان المراد بالظهور المبحوث عنه ان كان هو الظهور الذاتي
للفظ، وهو ظهور اللفظ في المعنى لو خلي ونفسه بلا ضم قرينة حالية أو مقالية،
لم تصح المقابلة بين صورة احرازه وصورة عدم احرازه بجميع أقسامها، بل
تختص المقابلة بين صورة احرازه والقسم الثالث من صورة عدم احرازه، إذ
الظهور الذاتي في مورد احتمال القرينة أو قرينية الموجود محرز لا تشكيك فيه.
وان كان هو الأعم من الظهور الفعلي والذاتي صحت المقابلة كما لا يخفى (1).
ولكن يرد عليه:
أولا: ان احتمال القرينة المنفصلة يلزم أن يكون خارجا عن محل البحث
لاحراز الظهور الفعلي في مورده، إذ القرينة المنفصلة لا تصادم أصل الظهور،
مع أنه يحتاج في نفيه إلى أصالة عدم القرينة أو أصالة الظهور، فهو من موارد
هذا الأصل، مع أنه لا يدخل في كلام الكفاية.
وثانيا: ان احتمال خلاف الظاهر قد ينشأ عن غير احتمال وجود القرنية،
كما لو قطع بعدم القرينة لكنه احتمل إرادة خلاف ظاهره، اما لحكمة في عدم

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 65 - الطبعة الأولى.
227

البيان أو لغفلة عنه.
ولا يذهب عليك ان اشكاله بعدم صحة المقابلة بناء على إرادة الظهور
الذاتي اشكال لفظي، فسواء صحت المقابلة أم لم تصح، فوجود هذه الأقسام
واقعا لا يعتريه شك وضرورة ايقاع البحث فيها لا اشكال فيه.
ثم يقع الكلام في حجية قول اللغوي في تشخيص وضع اللفظ وما يكون
اللفظ ظاهرا فيه من المعاني.
وقد يستدل على حجيته بوجوه:
الوجه الأول: اتفاق العلماء - بل العقلاء - على الرجوع إلى قول
اللغويين في تشخيص وضع اللفظ بحيث يكون قوله الفصل في مقام المحاجة
والمخاصمة.
الوجه الثاني: الاجماع على حجيته. وحكي عن السيد المرتضى (رحمه
الله) (1).
وقد استشكل في الكفاية (2) في الوجه الأول: بأنه لو سلم فغير مفيد، إذ
لم يعلم انهم يرجعون إلى قول اللغوي في تشخيص الوضع في مورد يترتب عليه
الاستنباط أو نحوه من الآثار العملية، بل المعهود منهم ليس أكثر من الرجوع
إليه في موارد لا يترتب عليها أثر عملي كالرجوع إليه في فهم الاشعار أو الخطب
أو نحوهما. كما انها سيرة محتملة المدرك، إذ لعل منشأها قيام السيرة العقلائية
على الرجوع إلى اهل الخبرة في كل فن التي سيأتي الحديث فيها وبيان الاشكال
في الاستدلال بها.
وبأن المتيقن من الاتفاق - لو سلم انه قائم في موارد العمل، وانه مستقل

(1) علم الهدى السيد مرتضى. الذريعة إلى أصول الشريعة 1 / 13 - الطبعة الحديثة.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 286 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
228

عن السيرة العامة على الرجوع إلى مطلق اهل الخبرة - هو الرجوع إلى قول
اللغوي فيما اجتمعت شرائط الشهادة من العدد والعدالة.
واستشكل في الوجه الثاني: بان الاجماع المحصل غير حاصل، إذ لم تذكر
المسألة في كتب الاعلام سابقا حتى نستطيع ان ننسب إليهم القول بالحجية.
والمنقول غير حجة في نفسه - كما سيأتي -.
وبالخصوص في مثل المسألة مما يحتمل قريبا أن يكون مستندهم هو
اعتقاد ان المورد من مصاديق ما اتفقت عليه السيرة العقلائية من الرجوع إلى
اهل الخبرة من كل صنعة وفن، فلا يكون مثل هذا الاجماع تعبديا كاشفا عن
رأي المعصوم (عليه السلام)، فلا يستقل الاجماع في الدليلية، بل لا بد من
ملاحظة هذا المستند (1).
وهو الوجه الثالث من وجوه الاستدلال على حجية قول اللغوي،
ومحصله: ان السيرة العقلائية في كل زمان الممتدة إلى زمان المعصوم (عليه
السلام) قائمة على الرجوع إلى اهل الخبرة في كل فن وصنعة فيما يرجع إلى
فنهم وصنعتهم، واللغوي من أهل الخبرة في تشخيص الأوضاع فيصح الرجوع
إليه للسيرة.
واستشكل فيه صاحب الكفاية.
أولا: بان المتيقن من السيرة هو الرجوع إلى اهل الخبرة فيما إذا أوجب
قولهم الوثوق والاطمئنان، وهو قد لا يتحقق بقول اللغوي.
* (هامش) (1) من تقريب الاستدلال والجواب بما عرفت، تعرف ان نظر صاحب الكفاية في اشكاله إلى الاشكال في
جهتين لتعدد الوجه. فان الأول يرجع إلى السيرة العملية. والثاني يرجع إلى الاتفاق القولي، وهو يقبل
الانكار بخلاف الاتفاق العملي. وعليه فلا وجه لما في بعض حواشي الكفاية من استظهار وحدة
الاستدلال والاشكال، وان تكرار المصنف الاشكال يرجع إلى الاجمال والتفصيل، إذ لا تكرار في كلام
المصنف بل كل قطعة تعود إلى وجه. فالتفت. (*)
229

وثانيا: بان اللغوي ليس من اهل الخبرة في تشخيص الأوضاع، بل هو
من اهل الخبرة في موارد الاستعمال، فان همه ضبط موارد الاستعمال بلا نظر إلى
تعيين ما هو الحقيقة منها وما هو المجاز، والا لوضعوا علامة على ذلك في كتبهم.
أقول: ما ذكره أولا مسلم لا نقاش لنا فيه.
واما ما ذكره ثانيا من أن اللغوي لا يهمه سوى نقل موارد الاستعمال،
فهو يحتمل وجهين:
الأول: ان اللغوي ينق موارد الاستعمال بنحو الموجبة الجزئية بلا نظر
إلى حصرها فيما يذكره منها ونفي استعمال اللفظ في غيرها.
الثاني: انه ينظر إلى حصر موارد الاستعمال في خصوص ما يذكر للفظ
من معنى أو معان.
فعلى الأول، لا ينفعنا قول اللغوي بشئ ولو أوجب لنا الوثوق، مع
احتمال أن يكون للفظ معنى آخر غير ما ذكره، فلا يستطيع معرفة ما هو ظاهر
اللفظ.
وعلى الثاني، فقد ينفعنا في بعض الأحيان، فإنه إذا حصل الوثوق، بقوله
وقد ذكر للفظ معان ثلاثة - مثلا -، كان اللفظ مرددا بينها لا غير - كاللفظ
المشترك المعلوم وضعه لمعان متعددة -، فقد تكون هناك قرينة في الكلام تعين أحد
هذه المعاني، فيعرف ظاهر اللفظ إن لم يعرف الموضوع له.
هذا مع أنه قد ينقل اللغوي استعماله في معنى واحد لا غيره، فيعرف انه
هو الموضوع له إذ لم يستعمل في غيره.
وقد استشكل المحقق النائيني (رحمه الله) (1) في صغرى كون اللغوي من
اهل الخبرة - بعد ما ذهب إلى اختصاص حجية قول اهل الخبرة بما إذا أوجب

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 143 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
230

الوثوق -: بان قول اهل الخبرة يتوقف على اعمال الحدس والنظر، فلا يشتمل
ما يبتني على الحس، وبما أن اللغوي شأنه ضبط موارد الاستعمال وهي غير
متوقفة على الحدس بل تتوقف على الحس لم يكن من اهل الخبرة. نعم تشخيص
الموضوع له يحتاج إلى اعمال نظر وحدس لكنه ليس شأن اللغوي.
ولا يخفى ان ما ذكره موافقا لصاحب الكفاية من اختصاص حجية قول
اهل الخبرة بمورد الوثوق يستلزم عدم فرض خصوصية لقول اللغوي، بل المدار
على الاطمئنان الذي عرفت أنه حجة بلا كلام، بل تقدم (1) ان حجيته بملاك
حجية القطع والجزم، كما أن الايراد الصغروي بالنحو الذي ذكره لا حاجة له
حينئذ، إذ لا اثر له بعد فرض اختصاص الحجية بمورد الاطمئنان والوثوق.
مع أنه يرد عليه ما عرفت من: انه قد يذكر اللغوي معنى واحدا فيثبت
الوضع له قهرا، وإن لم ينظر له اللغوي في كلامه إذا كان نظره حصر موارد
الاستعمال فيما يذكره.
ثم إنه (قدس سره) ذكر في ضمن جوابه عن الوجه المزبور: ان الرجوع
إلى قول اهل الخبرة لا يعتبر فيه شرائط الشهادة من العدد والعدالة الا في موارد
فصل الخصومات والدعاوي، لما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: "
انما أقضي بينكم بالايمان والبينات " (2).
وهذا انما لو فرض ان البينة في العرف واللغة بالمعنى الاصطلاحي
للفقهاء، وهو قابل للتشكيك، إذ من المحتمل ان يراد بالبينة في العرف واللغة
كل ما يتكفل البيان، واعتباره في القضاء في قبال الاعتماد على القناعة الشخصية
للقاضي الناشئة عن جهات حدسية خاصة به، فيصير المراد ان القضاء لا بد ان

(1) راجع 4 / 186 من هذا الكتاب.
(2) وسائل الشيعة 18 / 169 باب: 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث: 1.
231

يستند إلى اليمين أو إلى ما يستلزم ظهور الحق عند العقلاء، ولا يصح ان يستند
إلى العلم الشخصي، بل لعل سياق الحديث مساق نفي جواز الحكم اسنادا إلى
القناعة الشخصية للحاكم قرينة على عموم المراد بالبينة لا خصوص البينة
بالمعنى الاصطلاحي. هذا ولكن البناء الفقهي على اعتبار شرائط الشهادة من
العدد والعدالة في مقام فصل الخصومات. فلاحظ.
الوجه الرابع: انسداد باب العلم باللغات وخصوصياتها غالبا، فتتم
مقدمات الانسداد في خصوص معرفة الأوضاع، كما تمسك بهذا الدليل في موارد
خاصة أخرى كموارد الضرر والنسب.
وأجيب عنه في الكفاية: بأنه ان فرض انفتاح باب العلم في غالب
الاحكام لم تنته النوبة إلى العمل بالظن في موارد معرفة الأوضاع، إذ العمل
بالأصول النافية فيها لا يستلزم تعطيل الدين، كما أن العمل بالاحتياط لا
يستلزم العسر أو اختلال النظام، فلا تتم مقدمات الانسداد في خصوص المورد،
وان فرض انسداد باب العلم بالاحكام غالبا صح العمل بالظن الناشئ من
قول اللغوي، ولو فرض انفتاح باب العلم بغالب الأوضاع (1).
أقول: ان جواب الكفاية يتم لو كان المدعى يحاول إجراء مقدمات
الانسداد في خصوص مورد معرفه الأوضاع بتفاصيلها. ولكن يمكن ان يقرب
الاستدلال بالانسداد بوجهين لا يرتبط بهما جواب الكفاية:
أحدهما: فرض انسداد باب العلم بتفاصيل معاني الألفاظ المذكورة في
خطابات الشارع التي يعلم بثبوت احكام شرعية في ضمنها على طبق الاطلاق
ولو لم يعلم بإرادة الاطلاق واقعا في كل منها، فالرجوع إلى البراءة في كل مطلق
لا يعرف مقدار سعة مفهومه في غير المتيقن منه، يستلزم لغوية جعل تلك

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 287 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
232

الاحكام المطلقة التي لا طريق إلى العلم بها، فنفي الرجوع إلى البراءة ليس من
باب لزوم تعطيل الدين كي ينفى ذلك مع فرض انفتاح با العلم في غالب
الاحكام، بل من باب لزوم اللغوية في جعل الحكم المطلق وهو محذور ثابت ولو
فرض انفتاح باب العلم. ومن هنا تعرف عدم ارتباط جواب الكفاية بالوجه
الأول وهو المعبر عنه بالانسداد الصغير.
الاخر: ان انسداد باب العلم بتفاصيل الأوضاع يستلزم انسداد باب
العلم بغالب الاحكام لان غالب الاحكام مبين بطريق اللفظ.
وعليه، فتجري مقدمات الانسداد في الاحكام ويثبت حجية كل ظن
ومنها قول اللغوي. ومن هنا تعرف عدم ارتباط جواب الكفاية به، إذ لا معنى
لقوله بأنه مع فرض انسداد باب العلم في الاحكام كان الظن الحاصل من قول
اللغوي حجة ولو فرض انفتاح باب العلم باللغات. لان المفروض ان انسداد
باب العلم بالاحكام منشؤه انسداد باب العلم باللغات فلا معنى لفرض انفتاح
باب العلم بها.
والتحقيق في الاشكال عن كلا الوجهين هو: انهما لا ينتهيان إلى حجية
قول اللغوي، إذ ليس المتعارف بيان اللغوي مقدار مفهوم اللفظ سعة وضيقا
وبنحو الدقة حتى يحصل الظن من قوله بتفاصيل المعاني، فما ينسد فيه باب
العلم لا تعرض للغوي فيه، فلا يوقع الكلام في أن الصعيد - مثلا - على أي
شئ يصدق؟. فتدبر.
ونتيجة البحث: انه لا دليل لدينا على اعتبار قول اللغوي. ولكن هذا
الامر لا يوجب لغوية الرجوع إلى كتب اللغة، إذ قد يحصل القطع بالموضوع
له منها أحيانا، كما قد يحصل معرفة ظهور الكلام في معنى - وإن لم يعرف انه حقيقة
أو مجاز فيه - بملاحظة بعض القرائن والخصوصيات، ومثل ذلك يكفي فائدة
للرجوع إلى كتب اللغة. وهذا مما ذكره في الكفاية في آخر بحثه المزبور.
233

ثم إن هناك اشكالا في حجية قول اللغوي أشار إليه المقرر الكاظمي
(قدس سره) في تقريراته. وتوضيحه - بناء على عدم حجية الامارة في لوازم
مؤداها العقلية والعادية مطلقا، أو انها حجة في خصوص اللوازم التي يستلزم قيام
الامارة على المدلول المطابقي قيام أمارة من فصيلتها عليها، أعني على اللوازم،
بحيث تكون هناك أمارتان إحداهما على المدلول المطابقي والأخرى على
المدلول الالتزامي، كما في باب الخبر فان الخبر بشئ خبر بلوازمه، فحجية
الامارة في مثل ذلك بنفس العنوان التي تكون به حجة بالنسبة إلى المدلول
المطابقي لا من باب حجية الامارة في لوازمها -: ان موضوع الأثر الشرعي
العملي ليس هو تعيين الموضوع له، وانما هو إرادة المتكلم للمعنى من اللفظ، ومن
الواضح ان اللغوي يخبر عن الموضوع له، وإرادة المتكلم استعماله المعنى
الموضوع له ليس من اللوازم العرفية الواضحة، كي يكون الاخبار بالوضع
إخبارا بها أيضا. نعم هي لازم عقلي - على ما عرفت بيانه سابقا -، اذن فما يتكفله
قول اللغوي ليس موضوعا للأثر الشرعي العملي فلا معنى للتعبد بلحاظه، ولا
يمكن تصحيح التعبد بقوله بلحاظ لازمه، إذ المفروض ان الامارة ليست حجة
في مثل هذا اللازم. ولا يحصل العلم بإرادة المتكلم هذا المعنى بعد فرض ان قول
اللغوي لا يفيد أكثر من الظن، ولذا احتاج إلى التعبد، ولا يترتب على قول
اللغوي انعقاد ظهور للفظ في المعنى كي يكون اعتباره بلحاظ تنقيح أحد
مصاديق أصالة الظهور. بل لو فرضنا ان الوضع يلازم عرفا ظهور الكلام في
المعنى أو إرادة المتكلم للمعنى الموضوع له بحيث يكون اخباره عن الوضع
اخبارا عن ظهور اللفظ في المعنى أو عن إرادة المتكلم المعنى الموضوع له، فلا
ينفع في اثبات حجية قول اللغوي وان قامت امارة على اللازم من قبيل الامارة
على المدلول المطابقي. وذلك لأنه لا يعلم قيام السيرة على حجية قول اللغوي
في كل امر، بل المتيقن قيامها على حجيته في تعيين الموضوع له لا المطلق
234

إخباراته. اذن فلا دليل على حجية خبره عن اللازم. وهذه الجهة هي العمدة في
الاشكال.
وعليه، فيلغو التعبد بقول اللغوي وجعل حجيته لعدم ترتب أثر شرعي
عملي عليه.
ولا يخفى ان هذا الاشكال لا يتأتى لو فرض ان القول بحجية قول
اللغوي بدليل خاص، إذ مع قيام الدليل الخاص يحكم - بمقتضى دلالة
الاقتضاء - بحجيته في لوازمه. وانما يتأتى على تقدير الاستدلال عليه بدليل عام،
كقيام السيرة على الرجوع إلى أهل الخبرة، إذ لا محذور في دعوى عدم امضائها
بالنسبة إلى قول اللغوي لعدم ترتب أثر عملي عليه.
وقد أجاب المقرر الكاظمي (رحمه الله) عن هذا الاشكال: بأنه إذا حصل
الوثوق من قول اللغوي في المعنى الموضوع له ينعقد للكلام ظهور فيه، فيكون
الوثوق من أسباب الظهور وليس من الأمور الخارجية التي لا توجب أكثر من
الظن بالحكم (1).
ولا يخفى عليك: ان موضوع الاشكال أجنبي عن صورة تحقق الوثوق،
بل هو يرتبط بصورة الأخذ بقول اللغوي من باب التعبد ومن باب انه حجة
مجعولة. والا فلو وصلت المرحلة إلى حصول الوثوق فلا حاجة إلى اثبات الظهور
من طريق الوثوق، إذ الوثوق بالموضوع له بنفسه يوجب الوثوق بمراد المتكلم
وانه هو المعنى الموضوع كما عرفت سواء ثبت الظهور أم لم يثبت، فالتفت وتدبر
والله سبحانه ولي لتوفيق.
انتهى مبحث الظواهر وما يتعلق به في يوم الاثنين - 9 / ع 1 / 1389
ه‍. ويليه مبحث الاجماع المنقول.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 144 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
235

الفصل الثاني
في الكلام عن حجية الاجماع المنقول.
وقد التزم البعض بحجيته من باب انه من افراد خبر الواحد بلا أن يقوم
دليل على حجيته بالخصوص.
وقد أطال الشيخ (رحمه الله) الحديث فيه وفي شؤونه (1). وقد لخصه في
الكفاية (2) وغيرها.
ومحصل الكلام فيه بنحو يتضح فيه الحق، هو ان يقال: ان أدلة حجية
خبر الواحد انما تتكفل حجية الخبر إذا كان المخبر به أمرا محسوسا أو قريبا من
المحسوس.
فالأول، نظير الاخبار عن مجئ زيد ودخوله إلى الدار. والثاني، نظير
الاخبار عن العدالة والشجاعة. فإنهما وان كانتا لا تدركان بالحس لأنهما من
الصفات النفسية، لكنهما من الملزومات العادية الظاهرة لبعض الأمور
المحسوسة، فمعرفة العدالة والشجاعة بآثارهما الخارجية لا تتوقف على صرف
فكر ومزيد نظر، فهما بمنزلة المحسوس.
اما الخبر عن الامر غير المحسوس ولا القريب منه فلا تشمله أدلة

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 47 الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 288 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
237

حجية الخبر، ولذا لا يتوهم شمول أدلة الخبر لقول المجتهد مع أنه إخبار عن
قول المعصوم، لأنه إخبار عن حدس ونظر واجتهاد.
ثم إن حجية الاجماع المحصل من باب معرفة رأي الإمام (عليه السلام)
من طريقه ومنشأ ذلك أحد طرق:
الأول: ان يعلم بدخول الإمام (عليه السلام) بشخصه في المجمعين وإن لم
يعلمه تفصيلا وبشخصه بعينه.
الثاني: قاعدة اللطف، فان البناء عليها يستلزم عقلا الجزم برأي الإمام (عليه السلام)
عند تحقق الاجماع، إذ يكون على الإمام (عليه السلام) البيان
لو كان الحكم المجمع عليه على خلاف الواقع، إذ من شأنه ايصال المصالح إلى
المكلفين. وهذا الطريق ينسب إلى الشيخ الطوسي (قدس سره) في حجية
الاجماع (1).
الثالث: الملازمة العادية بين الاجماع وموافقة الإمام (عليه السلام)
للمجمعين، ببيان: ان العادة جارية على استكشاف رأي الرئيس من اتفاق
مرؤوسيه وعدم اختلافهم، إذ يمتنع عادة اتفاق المرؤوسين على امر مع مخالفة
الرئيس لهم.
الرابع: الملازمة الاتفاقية، وهي حصول العلم بقول الإمام (عليه السلام)
من الاجماع حدسا، واستلزام الاجماع لموافقة الإمام (عليه السلام) بنظر من
حصل الاجماع.
الخامس: التشرف بخدمة الإمام (عليه السلام) ومعرفة رأيه، فينقل
الحكم بعنوان الاجماع لبعض الأغراض.
إذا عرفت ذلك نقول: منشأ تخيل حجية الاجماع المنقول، ان من ينقل

(1) نسبه إلى الشيخ الطوسي في فرائد الأصول / 51.
238

الاجماع ينقل قول المعصوم (عليه السلام)، فيندرج تحت عموم أو اطلاق أدلة
حجية خبر الواحد.
وتحقيق ذلك: ان الاجماع المنقول ان كان من النحو الأول، فهو يرجع
إلى نقل قول المعصوم (عليه السلام) ضمنا عن حس، فتشمله أدلة خبر الواحد
بلا اشكال.
واما إذا كان من الانحاء الأخرى - غير الاجماع التشرفي -، فمقصود
الناقل تارة يكون نقل المسبب، أعني قول المعصوم (عليه السلام) لاستلزام
الاجماع الذي حصله لرأيه (عليه السلام)، وأخرى يكون نقل السبب لا غير،
يعني لا يحاول الا الاخبار عن ثبوت الفتاوى لا أكثر.
فإذا كان ناقلا لقول المعصوم (عليه السلام) من طريق الملازمة العقلية
أو العادية أو الاتفاقية، فلا تشمله أدلة حجية الخبر في اثبات رأي المعصوم (عليه
السلام)، إذ اخباره ههنا عن امر حدسي لا حسي ولا قريب منه، والا لما وقع
الخلاف الكبير في صحة الطرق ومنعها. قد عرفت أن أدلة الخبر لا تشمل الخبر
عن الامر الحدسي.
واما ذا كان ناقلا للسبب لا غير..
فقد يتخيل - كما في الكفاية وغيرها -: شمول أدلة حجية الخبر بالنسبة
إلى اثبات السبب لأنه خبر عن حس لا حدس، وخصص قبول ذلك في مورد
تكون هناك ملازمة لدى المنقول إليه بين نفس السبب المنقول ورأي الإمام (عليه السلام)
، أو تكون ملازمة بين السبب المنقول وما ينضم إليه من الأقوال
التي يحصلها المنقول إليه وسائر الامارات غير المعتبرة وبين رأي الإمام (عليه السلام) (1).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 290 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
239

وبعبارة أخرى: يكون نقل السبب حجة إذا كان تمام السبب في نظر
المنقول إليه أو جزءه، إذ بدون ذلك لا أثر عملي يترتب عليه كي يكون حجة.
ولكنه يشكل - بعد فرض العلم بان الناقل حصل أقوال العلماء بطريق
الحس لا الحدس، بان علم مبنى الفقيه واعتقد انطباقه في مورد خاص، فنسب
إليه الفتوى في المورد، فإنه نقل حدسي لا حسي فلا تشمله أدلة الخبر، وبعد
فرض ان ما يحصله المنقول إليه من أقوال العلماء يعلم انها غير ما نقلت إليه،
والا لم يحصل له العلم بقول الإمام (عليه السلام) بضم ما حصله إلى المنقول
لاحتماله وحدتهما -: ان ما يكون مشمولا لأدلة الخبر هو الاخبار عن الحكم أو
الموضوع ذي الحكم، اما الاخبار عما ليس بحكم وليس بموضوع ذي حكم فلا
تشمله أدلة الخبر لعدم الأثر العملي.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فان الاخبار عن اجماع العلماء ليس إخبارا
عن حكم - كما هو واضح - ولا إخبارا عن موضوع لحكم شرعي، إذ الحكم
الشرعي ورأي الإمام (عليه السلام) لا يترتب على الاجماع، وانما يتحقق العلم
به بطريق الملازمة العقلية أو غيرها عند العلم بالاجماع، فجعل الحجية لنقل
الاجماع لغو، لا يترتب الأثر على حجية النقل.
وقد أجاب في الكفاية عن هذا الاشكال: بان نقل الاجماع كنقل
خصوصيات السائل من مكانه وزمانه التي يوجب اختلافها اختلاف المستفاد
من الكلام، فحين يقال ان السائل عن مقدار الكر بالأرطال مدني يحمل الرطل
الوارد في النص على الرطل المدني في قبال الرطل العراقي، ونحو ذلك، فكما لا
يتوقف أحد في حجية مثل هذه الأخبار مع أنها ليست إخبارا عن حكم ولا
موضوع حكم وانما عن خصوصية تكون دخيلة في معرفة خصوصية الحكم (1).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 290 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
240

ولكن هذا الجواب مندفع بوجود الفرق بين المقامين، إذ خصوصية السؤال
أو السائل أو المسؤول عنه من زمان أو مكان أو غير ذلك تلازم عرفا معرفة
خصوصية الحكم، وعليه فمن يخبر بان السائل مدني - مثلا - يخبر بالملازمة عن أن
موضوع الحكم هو الرطل المدني للملازمة العرفية بينهما، فخبره في المدلول
الالتزامي هو الحجة لأنه إخبار عن موضوع الحكم الشرعي فيصح التعبد
بحجيته.
وهذا بخلاف ما نحن فيه، إذ الفرض عدم حجية الخبر عن الاجماع في
المدلول الالتزامي، لأنه خبر عن أمر حدسي لا تشمله أدلة حجية الخبر، والخبر
عن المدلول المطابقي وهو نفس الاجماع ليس خبرا عن حكم ولا موضوع حكم
فلا يصح التعبد بحجيته لعدم الأثر العملي المترتب عليه. فالتفت وتدبر. هذه
خلاصة البحث في الاجماع المنقول.
ويبقى الكلام في جهات:
الأولى: قد عرفت اختلاف طرق استكشاف قول الإمام (عليه السلام)
من الاجماع المحصل وهي مردودة بأجمعها كما يذكر في محله.
وعمدة الوجوه ما يقال من: ان اتفاق جمع غفير من العلماء في العصور
المتعاقبة مع العلم بأنهم لا يفتون من غير علم يكشف بالكشف القطعي عن
وجود دليل معتبر في الواقع وإن لم يصل إلينا.
وهذا الوجه مردود، لان اتفاق الجمع الغفير كمائة من العلماء لو كان في
عرض واحد لقربت هذه الدعوى، اما إذا كان بنحو التعاقب وفي الأزمنة
المتعددة فلا ينفع ما قيل، إذ لا يكشف الاتفاق المزبور عن وجود دليل معتبر
واقعا، لأنه من الممكن استناد القائلين في العصر المتأخر إلى اجماع العصر
السابق اما لقاعدة اللطف، بنظرهم أو للملازمة الاتفاقية أو نحوهما، وهكذا حتى
تصل النوبة إلى أسبق العصور، وهم لا يشكلون عددا كبيرا، واجماع مثلهم لا
241

يكشف عن دليل معتبر، إذ من الممكن استناد كل منهم إلى دليل لا يكون حجة
بنظرنا لو اطلعنا عليه، كرواية ضعيفة قطع بمضمونها لقرائن قطعية بنظره ونحو
ذلك، بل لو علم استنادهم إلى دليل واحد فلا نستطيع استكشاف حجيته، إذ
من الممكن انه رواية ظاهرة في معنى عندهم وهو ما أجمعوا عليه، ولكنها غير
ظاهرة عندنا فيما استظهروه لو اطلعنا عليها.
وبالجملة: فهذا الوجه مع أنه أمتن الوجوه المذكورة في حجية الاجماع،
غير ناهض لاثبات حجيته. إذن، فلا دليل على حجية الاجماع فتدبر.
الثانية: لو تعارض نقل الاجماع، فنقل ففيه الاجماع على حكم، ونقل
غيره الاجماع على خلافه، فالتعارض بينهما انما يكون بلحاظ المسبب وهو
الكشف عن قول الإمام) عليه السلام)، إذ يمتنع أن يكون كل منهما كاشفا
قطعيا لاختلاف مضمونهما.
واما بلحاظ السبب، فلا تعارض، إذ من الممكن ان يذهب طائفة إلى
حكم بمقدار يحقق الاجماع بنظر الناقل، ويذهب طائفة أخرى إلى خلافه
بمقدار يحقق الاجماع بنظر ناقل آخر.
ولكن كلا منهما لا يصلح لان يكون سببا للمنقول إليه بعد وجود نقل
الخلاف على غيره، بل ولا جزء سبب، لان أحدهما يبعد الحكم عن نظر المنقول
إليه بالمقدار الذي يقربه الاخر بنظره، الا ان يشتمل أحدهما على خصوصية
توجب الجزم برأي الإمام (عليه السلام) ولو مع اطلاعة على الخلاف، مثل كون
المجمعين من أهل الدقة والتدبر وكونهم من القدماء. ونحو ذلك.
هذا محصل ما ذكره في الكفاية بتوضيح منا (1)، والمطلب لا يتحمل أكثر
من ذلك وانما ذكرناه تبعا.

(1) الخرساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 291 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
242

الثالثة: لا يخفى ان الحديث في نقل تواتر الخبر كالحديث في نقل الاجماع
في عدم شموله لأدلة حجية خبر الواحد من حيث المسبب، لأنه نقل قول
المعصوم (عليه السلام) بالملازمة الحدسية غير القريبة للحس غالبا.
نعم لو علم أن مقصود الناقل نقل التواتر الذي يلازم الجزم بقول الإمام (عليه السلام)
عرفا لكل أحد بالملازمة الواضحة كان حجة من ذلك الباب لكنه
نادر.
وهكذا من حيث نفس السبب، فإنه ذكر في الكفاية: أنه يكون حجة
بالمقدار الدال عليه نقل التواتر، فقد يكون تمام السبب لدى المنقول إليه وقد
يكون جزءه كما تقدم في الاجماع المنقول.
ولكن تقدم منا الاستشكال في شمول أدلة حجية الخبر لنقل الاجماع من
جهة انه ليس بحكم ولا موضوع حكم. وهذا الاشكال بنفسه يجري في نقل
التواتر واثبات جزء السبب أو تمامه به تعبدا، فراجع وعليك التطبيق. والله ولي
التوفيق. (*) * * *
243

الفصل الثالث
في الكلام عن حجية الشهرة.
وقبل الخوض في المقصود نقدم أمورا ثلاثة:
الأول: ان المراد بالشهرة المبحوث عنها الشهرة الفتوائية أعني اشتهار
الفتوى بحكم بين الفقهاء، لا الشهرة الروائية التي هي اشتهار الرواية بين
الأصحاب المبحوث عنها في باب الترجيح.
الثاني: ان الحديث في حجية الشهرة انما هو في طول البناء على حجية
الاجماع، والا فمع نفي حجية الاجماع لا مجال للالتزام بحجية الشهرة كما هو
واضح جدا.
الثالث: ان البحث عن حجية الشهرة تعبدا، وذلك يختص بصورة عدم
حصول اليقين أو الوثوق الشخصي بالحكم من الشهرة، وإلا فلا اشكال في
حجية الوثوق واليقين.
إذا عرفت ذلك، فقد ادعي حجية الشهرة واستدل عليها بوجوه:
أحدها: دلالة أدلة حجية خبر الواحد على حجيتها بالفحوى، إذ ملاك
حجية الخبر - وهو الظن - موجود في الشهرة بنحو أقوى.
ثانيها: مرفوعة زرارة حيث قال: " قلت جعلت فداك يأتي منكم الخبران
245

والحديثان المتعارضان فبأيهما نعمل؟. قال (عليه السلام): خذ بما اشتهر بين
أصحابك.. " (1)، فان مقتضى عموم لزوم الاخذ بكل مشهور، والمورد
وان كان خصوص الخبرين لكنه لا يخصص الوارد.
وثالثها: مقبولة ابن حنظلة حيث جاء فيها: " ينظر إلى ما كان من روايتهم
عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به ويترك الشاذ
الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فان المجمع عليه لا ريب فيه.. " (2) تمسكا
بعموم التعليل بضميمة ان المراد بالمجمع عليه هو المشهور لاطلاق المشهور عليه
في قوله: " ويترك الشاذ.. ".
وقد استشكل صاحب الكفاية في هذه الوجوه، وانتهى من ذلك إلى عدم
حجية الشهرة لعدم الدليل.
اما الوجه الأول، فقد استشكل فيه:
أولا: انه لا دليل على كون ملاك التعبد بالخبر هو الظن. نعم ذلك
مظنون، ولا دليل على حجية مثل هذا الظن.
وثانيا: انه يمكن القطع بعدم كون الملاك هو الظن، ودعواه غير مجازفة
لوضوح ان كثيرا من الموارد التي يثبت بكون الخبر فيها حجة لا يفيد الظن.
واما الوجه الثاني، فاستشكل فيه: بان الظاهر كون المراد من الموصول
في قوله: " خذ بما اشتهر بين أصحابك " هو الرواية المشهورة لا مطلق المشهور،
ولو كان فتوى مجردة (3).
وقد ساق الشيخ لاثبات ذلك الأمثلة المتعددة الظاهرة في رجوع
الموصول إلى مورد السؤال، وهذا واضح عرفا بلا ريب. فإذا سألت شخصا عن

(1) عوالي اللئالي 4 / 133، الحديث: 229.
(2) تهذيب الأحكام 6 / 301، الحديث: 52.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 292 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
246

أكل أي الطعامين فقال كل أكثرهما دهنا، أو ما دهنه أكثر. فلا يتوهم أحد بأنه
امر بأكل كثير الدهن في مطلق الموارد من باب ان المورد لا يخصص الوارد.
وبعين هذا الاشكال أستشكل في الوجه الثالث، فذهب إلى أن المراد بالمجمع
عليه هو الرواية فقط.
واستشكل فيه الشيخ - مع غض النظر عن بعض المناقشات التي يأتي
التعرض إليها في مبحث التعادل والترجيح -: بان المراد بالمجمع عليه ما اتفق
عليه الكل فلا يشمل المشهور الاصطلاحي، واطلاق المشهور على المجمع عليه
لا يرجع إلى إرادة المشهور الاصطلاحي منه، بل هو بلحاظ اراده المفهوم العرفي
للشهرة وهو الظهور والوضوح، إذ الشهرة الاصطلاحية من المعاني المستحدثة
بين المتأخرين، فلا معنى ان تراد في رواية (1).
فاشكال الشيخ يرتكز على نفي مشمول لفظ المجمع عليه للمشهور
الاصطلاحي ولو كانت العلة عامة واشكال صاحب الكفاية يرتكز على نفي
عموم العلة ولو شمل المشهور اصطلاحا.
وبالجملة: الاشكال في دلالة الروايتين واضح فلا حاجة إلى إطالة الكلام
فيه فتدبر.
* * *

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 66 - الطبعة الأولى.
247

الفصل الرابع
في الكلام عن حجية خبر الواحد *.
وهذه المسألة من مهمات المسائل الأصولية، وهو مما لا اشكال فيه، انما
الذي وقع الكلام فيه هو كيفية ادراجها في علم الأصول مع أنه لا يتلاءم مع
تعريف موضوع علم الأصول بأنه الأدلة الأربعة، إذ خبر الواحد ليس منها،
فكيف يكون البحث عن حجيته بحثا عن عوارض موضوع الأصول الذي هو
شرط كون المسألة أصولية؟.
وقد تصدى الشيخ (رحمه الله) لحل هذه المشكلة بارجاع البحث فيه إلى
ثبوت السنة الواقعية، وهو قول الإمام المعصوم (عليه السلام) أو فعله أو تقريره
بخبر الواحد، وعدم ثبوته، فيكون البحث عن عوارض السنة (1).
واستشكل فيه في الكفاية في مبحث موضوع علم الأصول (2)، وفي هذا
المبحث (3) بما يرجع إلى أن الثبوت التعبدي المبحوث عنه ههنا - إذ لا يبحث
عن الثبوت الواقعي قطعا، وان جعله طرفا للترديد في الاشكال في ذلك المبحث

(1) ابتدأنا بهذا الفصل يوم الاثنين 16 ربيع الأول 1389 ه‍. ق.
(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 67 - الطبعة الأولى.
(2) و (3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 293 و 8 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
249

- ليس من عوارض السنة الواقعية، بل من عوارض الخبر، وما هو مشكوك
السنة، ولذا يدور مداره وجودا وعدما كما لا يخفى. هذا مضافا إلى أن الملاك في كون المسألة أصولية هو ملاحظة نفس
عنوانها المحرر لا ما هو لازم ذلك العنوان وما يرجع إليه في اللب، والمفروض ان
عنوان هذا المبحث ليس من مسائل الأصول.
وقد تخلص صاحب الكفاية عن هذه المشكلة بعدم التزامه بان موضوع
الأصول هو الأدلة الأربعة، بل التزم بأنه الكلي المنطبق على موضوعات مسائله،
وفي الوقت نفسه التزم بان المسألة الأصولية هي ما تقع نتيجتها في طريق
الاستنباط، فيندرج مبحث حجية خبر الواحد في مسائل الأصول على ما تقدم
بيانه في أول الأصول.
وقد تقدم منا بعض الاستشكال في تعريف صاحب الكفاية للمسألة
الأصولية، كما تقدم منا الاشكال في تعريفها بأنها ما تقع كبرى قياس الاستنباط
الذي ذكره بعض الأعاظم المحققين.
وقد اخترنا في ضابط المسألة الأصولية: انها المسألة النظرية التي يتوصل
بها إلى رفع التحير في مقام العمل بلا واسطة نظرية.
وهذا الضابط يشمل مسألة خبر الواحد بلا كلام.
ونعود فنقول: ان كون مسألة خبر الواحد من مسائل الأصول لا ريب
فيه، وانما يؤول الخلاف إلى تحديد ضابط المسألة الأصولية بنحو يشمل هذه
المسألة، بل من طرق معرفة صحة الضابط وسقمه ملاحظة شموله لهذه المسألة
وأمثالها. فتدبر.
وبعد هذا يقع البحث في أصل الموضوع.
وقد حدد الشيخ (رحمه الله) جهة البحث في حجية خبر الواحد ببيان:
ان حجية الخبر تتوقف على جهات ثلاث:
250

الأولى: احراز ظهوره وإرادته. الثانية: احراز كون الكلام صادرا لبيان
الحكم الواقعي. الثالثة: احراز صدوره من المعصوم (عليه السلام). فإذا اختلت
إحدى هذه الجهات لم يكن الخبر حجة.
والذي يتكفل الجهة الأولى من المباحث، هو مبحث الظهور الذي تقدم
ايقاع الكلام فيه.
واما الجهة الثانية، فيتكفلها الأصول العقلائية الجارية في تنقيح صدور
الكلام لبيان الواقع لا صدوره عن تقية ونحو ذلك، ويصطلح عليها بإصالة الجهة.
واما الجهة الثالثة، فهي التي يتكفلها هذا البحث. فالبحث في حجية خبر
الواحد بحث عن اثبات صدور المضمون عن المعصوم (عليه السلام) بخبر
الواحد.
وقد وقع الخلاف في ذلك، فذهب فريق إلى عدم حجيته. وذهب فريق
آخر إلى حجيته.
واستدل من ذهب إلى عدم حجيته بالأدلة الأربعة.
الأول: العقل، وهو ما ينسب إلى ابن قبة من استلزام التعبد به تحليل
الحرام وتحريم الحلال.
وهذا ما تقدم البحث فيه في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية
والظاهرية.
الثاني: الكتاب المجيد، ويدل على عدم حجيته ما ورد من الآيات
الكريمة المتكفلة للنهي عن اتباع الظن وغير العلم كقوله تعالى: (ولا تقف ما
ليس لك به علم) (1). وقوله: (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) (2).

(1) سورة الإسراء، الآية: 36.
(2) سورة يونس، الآية: 36.
251

الثالث: السنة الشريفة، فقد وردت الروايات الدالة على رد ما لا يعلم
انه قولهم (عليه السلام) (1)، ورد ما لم يكن عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله
تعالى (2)، ورد ما لم يكن موافقا للقرآن إليهم (2) وبطلان ما لا يصدقه كتاب الله
وان ما لا يوافق الكتاب زخرف باطل (4)، وغير ذلك.
الرابع: الاجماع، الذي حكاه السيد (رحمه الله) في مواضع من كلامه، بل
حكي عنه انه جعل عدم العمل بخبر الواحد معروفا لدى الشيعة كعدم العمل
بالقياس عندهم (5).
واستشكل في هذه الوجوه الثلاثة:
اما الآيات الكريمة، فناقش صاحب الكفاية دلالتها على المدعى
بوجوه: الأول: انها ظاهرة في النهي عن اتباع غير العلم في أصول الدين كما
يتضح ذلك بملاحظة سياقها.
الثاني: انها لو لم تكن ظاهرة في ذلك، فالقدر المتيقن منها ذلك، فإنها تكون
مجملة لا ظهور لها في العموم لفروع.
الثالث: انه لو سلم عمومها لفروع الدين، فما دل على حجية خبر
الواحد يكون مخصصا لعمومها كما لا يخفى (6).
ولكن المحقق النائيني (قدس سره) التزم بان دليل الحجية يكون حاكما
على هذه الآيات، لأنه يتكفل جعل الطريقية وتنزيل الخبر منزلة العلم، فيخرجه

(1) مستدرك وسائل الشيعة 17 / 306 باب: 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 10.
(2) وسائل الشيعة 18 / 80 باب: 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 18.
(3) مستدرك وسائل الشيعة 17 / 304 باب: 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 5.
(4) وسائل الشيعة 18 / 78 باب: 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 12.
(5) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 69 - الطبعة الأولى.
(6) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 295 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
252

عن موضوع هذه الآيات تنزيلا (1).
والذي يبدو للنظر دعوى الحكومة، وذلك النهي الوارد في الآيات
الكريمة ليس نهيا نفسيا ذاتيا عما موضوعه غير الحجة وغير العلم كي يرتفع
في المورد المنزل منزلة العلم. وانما هو نهي تشريعي يقصد به نفي الحجية عن غير
العلم، فما يثبت الحجية يكون مصادما لنفس الحكم مباشرة. وبعبارة أخرى: ان
مفاد الآيات ان غير العلم ليس بحجة فما يتكفل ان خبر الواحد حجة لا يكون
حاكما عليها، بل يكون مخصصا كما لا يخفى.
ثم إن الحكومة على تقدير تسليمها تبتني على فرض كون المجعول في
باب الامارات هو الطريقية - كما عليه المحقق النائيني -، اما بناء على كون
المجعول هو المؤدى كما قربناه، فتصوير الحكومة مشكل، وسيأتي ان شاء الله تعالى
لذلك مزيد توضيح فانتظر.
واما الروايات الشريفة، فقد ناقش صاحب الكفاية الاستدلال بها بما
حاصله: انه لا مجال للاستدلال بكل واحدة منها، لأنها أخبار آحاد فلا معنى
للاستدلال بها على عدم حجية خبر الواحد، وليست هي متواترة لفظا ولا معنى
نعم هي متواترة اجمالا للعلم الاجمالي بصدور إحداها، ولكن مقتضى ذلك هو
الالتزام بأخص هذه الروايات من حيث المضمون للقطع بصدوره من المعصوم
(عليه السلام)، ولازمه عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة لأنه مما توافقت
عليه الروايات. وهو لا ينفع في نفي حجية خبر الواحد بنحو السلب الكلي الذي
هو محط الكلام، والالتزام به غير ضائر بل لا محيص عنه في مقام المعارضة (2).
أقول: لا بد من التنبه لأمور:

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 161 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 295 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
253

الأول: ما ذكره صاحب الكفاية أخيرا، من انه لا محيص عن الالتزام
بعدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة في مقام المعارضة، أجنبي عما نحن فيه،
إذ يفرض حجية كل من المتعارضين في نفسه في مقام المعارضة، كما يوضح هناك،
ويقال هناك ان فرض التعارض يلازم فرض تمامية حجية كل من المتعارضين
في نفسه بحيث يجب العمل به لولا المعارضة. والبحث فيما نحن فيه عن أصل
الحجية، اذن فالالتزام بعدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة في مقام
التعارض لا يعني الالتزام بعدم حجيته في نفسه، ولا يقرب هذا المعنى، فتدبر.
الثاني: لا بد من التعرض للاخبار المشار إليها بنحو مفصل وسيأتي
ان شاء الله تعالى عند التعرض لما استدل به من الاخبار على الحجية.
الثالث: ذكر (رحمه الله) ان المراد بالمخالفة غير المخالفة بالعموم
والخصوص أو الاطلاق والتقييد، بل المراد بها المخالفة بنحو التباين أو بضميمة
المخالفة بنحو العموم من وجه.
واستند في ذلك إلى عدم صدق المخالفة عرفا على التخصيص أو التقييد.
والى القطع بصدور التخصيص والتقييد لعمومات الكتاب ومطلقاته، بضميمة إباء
عمومات النهي عن العمل بالمخالف للكتاب عن التخصيص (1).
وهذا المطلب وإن لم يذكره صاحب الكفاية ولكن من الممكن أن يكون
أشار إليه بقوله: " والالتزام به يعني عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة
غير ضائر " (2)، إذ يمكن أن يكون مراده غير ضائر لقلة الاخبار المخالفة للكتاب
والسنة، ولو كان يرى عموم المخالفة للتخصيص والتقييد لكان نفي حجيته
ضائرا لكثرة الاخبار المخالفة بنحو الخصوص.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 69 الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 295 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
254

وعلى كل حال، فالذي نريد ان ننبه عليه، الاشكال في الوجه الثاني
الذي استند إليه الشيخ (رحمه الله)، وذلك لاحتمال أن لا يكون العموم أو
الاطلاق في نفسه مرادا في المورد الذي يقطع فيه بورود الخاص أو المقيد، بحيث
يكون ورود الخاص أو المقيد كاشفا عن عدم العموم أو الاطلاق واقعا، وانما كنا
نتخيل ثبوت العموم أو الاطلاق.
وبعبارة أخرى: كما يمكن أن يكون مجئ الخاص القطعي كاشفا عن
عدم إرادة مخالفة التخصيص من الروايات المزبورة، كذلك يمكن أن يكون
كاشفا عن عدم انعقاد العموم أو الاطلاق من أول الامر لقرينة مقالية أو حالية
لا نلتفت إليها فيبقى ظهور المخالفة على حاله.
وبالجملة: فلا قطع بثبوت التخصيص، وقد عرفت أن القطع بورود
الخاص لا يلازم القطع بالتخصيص. فتدبر.
نعم، دعوى أن مخالفة التخصيص لا تعد مخالفة عرفا، شئ آخر.
فلاحظ.
وأما الاجماع، فقد نوقش في الاستدلال به: ان المحصل فيه غير حاصل.
والمنقول منه لا يصلح للاستدلال كما تقدم خصوصا في مثل هذه المسألة التي
يحتمل استناد المجمعين إلى بعض الوجوه القابلة للمناقشة. مع أن دليل حجية
الاجماع المنقول - لو سلم - هو دليل حجية خبر الواحد، فلا يصلح نقل
الاجماع لنفي الحجية لأنه خبر واحد.
هذا مع معارضته بمثله ووهنه بذهاب المشهور إلى خلافه.
هذا تمام البحث في أدلة النافين لحجية خبر الواحد.
* * *
255

" الاستدلال على حجية خبر الواحد "
وفي قبالهم استدل المثبتون بالأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والاجماع
والعقل.
اما الكتاب، فبآيات متعددة:
منها: آية النباء، وهي قوله عز وجل عز من قائل: (يا ايها الذين آمنوا إذا
جاءكم فاسق بناء فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم
نادمين) (1).
وقد ذكر في الرسائل للاستدلال بها على المدعى تقريبين:
أحدهما: الاستدلال بها بمفهوم الوصف، فان مقتضى تعليق الحكم على
وصف الفاسق انتفاؤه عند انتفائه، فيدور الامر في خبر العادل بين الرد مطلقا
أو القبول مطلقا، و الأول يستلزم كون العادل أسوء حالا من الفاسق فيتعين الثاني
وهو المطلوب (2).
وقد بين الشيخ (رحمه الله) هذا الوجه بصورة دقيقة علمية. وأوضحها
المحقق الشيخ الأصفهاني (قدس سره) بما لا يهم التعرض إليها. كما أنه (قدس سره)

(1) سورة الحجرات، الآية: 6.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 71 - الطبعة الأولى.
256

ناقش احتياج الاستدلالي إلى المقدمة الأخيرة، وذكر انها انما يحتاج إليها لو
فرض ان وجوب التبين نفسي، ولكنه ليس كذلك بل هو شرطي، بمعنى انه يجب
شرطا للعمل بخبر الفاسق.
وعليه، فمجرد انتفائه عند انتفاء الفسق يستلزم جواز العمل بخبر العادل
بلا تبين، بلا احتياج إلى المقدمة المزبورة والترديد المذكور (1).
وعلى أي حال فالجواب عن هذا الوجه لا يحتاج إلى مزيد بيان، فإنه
يتلخص بما تم تحقيقه من عدم ثبوت مفهوم الوصف، وان اثبات الحكم لوصف
ما لا يستلزم انتفاؤه عند انتفائه، إذ أساس المفهوم على فهم العلية المنحصرة من
التوصيف، وطريق ذلك ليس إلا لغوية ذكره لو لم يكن علة منحصرة، وهذا
مخدوش بامكان فرض ما يخرج ذكر الوصف عن اللغوية مع عدم الانحصار
كأهميته أو وقوعه مورد السؤال ونحو ذلك. ومن الممكن أن يكون الغرض من
ذكر الوصف في الآية الكريمة التنبيه على فسق الوليد (لعنه الله) وانه لا يتجنب
عن الكذب وان كان مسلما.
وانما المهم في البحث هو الكلام عن الوجه..
الآخر: وهو الاستدلال بالآية الكريمة بطريق مفهوم الشرط، فإنه علق
وجوب التبين عند العمل على مجئ خبر الفاسق، فينتفي إذا انتفى الشرط، فلا
يجب التبين عند العمل بخبر العادل (2).
وقد وقع الكلام بين الاعلام في ثبوت المفهوم للشرط في هذه الآية وعدمه،
مع فرض تسليم أصل مفهوم الشرط وثبوته في نفسه.
وقد ذهب الشيخ (رحمه الله) إلى أن المفهوم ههنا من باب السالبة بانتفاء

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 74 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 71 - الطبعة الأولى.
257

الموضوع إذ الشرط هو مجئ الفاسق بالنبأ، ومن الواضح ان عدم التبين عند
عدم مجيئه من باب عدم ما يتبين، إذ لا خبر حتى يتبين فيه، فالشرط ههنا من
الشرط المسوق لبيان تحقق الموضوع، ولأنه مما يتقوم الموضوع به عقلا بحيث
لا يتصور بقاء الموضوع بانتفائه نظير قوله: " ان رزقت ولدا فاختنه " و: " ان ركب
الأمير فخذ ركابه "، وقوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا) (1)
وغير ذلك من الأمثلة، وقد تقرر في محله ان مثل هذه الشروط لا يثبت لها مفهوم،
إذ المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم بانتفاء الشرط عن الموضوع الذي ثبت له
الحكم عند وجود الشرط. ومن الواضح ان هذا يستدعي أن يكون الموضوع
موجودا عند انتفاء الشرط كما كان موجودا في حال وجوده، فإذا فرض ان
الشرط كان مقوما للموضوع عقلا كان انتفاؤه ملازما لانتفاء الموضوع فلا
مفهوم (2).
ولكن صاحب الكفاية (رحمه الله) خالف الشيخ وذهب إلى ثبوت المفهوم
للآية في حد نفسه، وذلك باعتبار انه فرض موضوع الحكم هو النبأ وفرض
الشرط هو جهة اضافته للفاسق، ومن الواضح ان الشرط على هذا لا يكون
مقوما للموضوع، إذ النبأ كما يضاف إلى الفاسق يضاف إلى غيره، ثم ذكر (قدس
سره) انه لو كان الموضوع هو طبيعي النبأ وكان الشرط مجئ الفاسق بنحو
يكون المجئ دخيلا في الشرط لم يكن للقضية مفهوم، أو كان مفهوما بنحو
السالبة بانتفاء الموضوع (3).
وتحقيق الكلام ان يقال: ان المحتملات الثبوتية في الآية الكريمة ثلاثة:
الأول: أن يكون الموضوع هو خبر الفاسق.

(1) سورة الأعراف الآية: 204.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 72 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 296 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
258

الثاني: أن يكون الموضوع هو طبيعي الخبر والنبأ، والشرط مجئ الفاسق
به، بحيث يكون كل من المجئ به واضافته إلى الفاسق دخيلا في الشرط.
الثالث: أن يكون الموضوع طبيعي النبأ، والشرط جهة اضافته إلى
الفاسق.
فإن كان الموضوع نبأ الفاسق، فلا مفهوم للشرط أي شئ كان هو
الشرط، إذ كل شرط يفرض يكون مسوقا لبيان تحقق الموضوع، ومما يتقوم به
الموضوع عقلا. وهذا واضح لا غبار عليه.
وان كان الموضوع ذات النبأ والشرط جهة اضافته إلى الفاسق، فقد
عرفت أن القضية تكون ذات مفهوم لعدم كون الشرط من مقومات الموضوع.
وفي هذا كلام سيتضح بعد حين.
وان كان الموضوع ذات النبأ وكان الشرط مجئ الفاسق به، فهو محل
الكلام والنقض والابرام.
وقد عرفت أن صاحب الكفاية ذهب إلى انكار المفهوم على هذا التقدير
ولم يبين السر فيه.
ولعل الوجه في ذلك: هو ان النبأ والإنباء متحدان ولا فرق بينهما الا نظير
الفرق بين الايجاد والوجود
ومن الواضح ان المجئ بالنبأ عبارة أخرى عن الإنباء والاخبار.
وعليه، فالمجئ بالنبأ ليس شيئا مغايرا في الواقع للنبأ، فيكون الشرط من
مقومات الموضوع، وقد عرفت عدم المفهوم في مثل هذه الشروط.
وقد وافق المحقق الأصفهاني صاحب الكفاية وقرب عدم المفهوم: بان
مجئ الفاسق به من مقومات الموضوع، وذلك فإنه وان أمكن تحقق النبأ بمجئ
العادل به الا انه عند تحققه بأي منهما يكون مقوما للموضوع، وذلك لأنه لا يمكن
فرض وجود الموضوع مع انتفاء مجئ الفاسق وبديله، بخلاف مثل: " ان جاءك
259

زيد فأكرمه "، فان زيدا يمكن فرض وجوده مع انتفاء مجيئه وما يمكن أن يكون
بديلا له من درسه وسنه وغير ذلك، فان المجئ ونحوه ليس من مقومات
الموضوع، بل هو عوارضه الطارئة عليه، وليس كذلك مجئ الفاسق بالنبأ أو
مجئ العادل، فإنه من مقومات وجوده (1). أقول: هذان البيانان اللذان يرتكزان على فرض كون مجئ الفاسق
بالنبأ من مقومات الموضوع، لا ينفعان في نفي المفهوم، وذلك إذ لم يرد في آية أو
رواية ان الشرط المقوم للموضوع لا مفهوم له كي يتمسك باطلاقه، وانما عرفت
ملاكه وهو عدم بقاء الموضوع مع انتفاء الشرط، وإذا فرض ان ملاك عدم
المفهوم في موارد الشرط المقوم للموضوع هو هذه الجهة فهي غير متحققة فيما
نحن فيه، إذ انتفاء مجئ الفاسق لا يلازم انتفاء الموضوع وهو ذات النبأ
لتحققها في ضمن خبر العادل. فلاحظ.
ولكننا وإن لم نتفق مع المحققين المزبورين في هذا البيان، الا اننا نتفق
معهما في أصل المدعى وهو عدم المفهوم على هذا التقدير. وذلك لوجهين:
الوجه الأول: ان ما هو عمدة الملاك في ثبوت أصل المفهوم للشرط على
تقدير تسليمه لا يتأتى في المقام. بيان ذلك: ان عمدة الملاك هو التمسك باطلاق
الشرط بلحاظ تأثيره في الجزاء بقول مطلق سواء قارنه أو سبقه شئ آخر أو
لا. وهذا كما قيل يلازم العلية المنحصرة، إذ لو كان غيره شرطا كان التأثير له
لو سبقه ولهما أو للجامع بينهما لو قارنه. وهذا ما ينفيه الاطلاق.
ولا يخفى ان هذا المعنى انما يتم لو فرض ان تأثير غير الشرط المذكور
في الكلام في تحقق الجزاء ينافي تأثير الشرط المذكور فيه بقول مطلق، اما لو
فرض عدم منافاته لذلك، بل كان تأثير غيره في الجزاء لا ينافي تأثيره فيه ولو

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 76 - الطبعة الأولى.
260

وجد متأخرا عن غيره لم ينفع الاطلاق في اثبات العلية المنحصرة كما لا يخفى.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنه لو فرض انه يجب التبين عن خبر
العادل فهذا لا ينافي وجوب التبين عن خبر الفاسق ولو وجد بعد خبر العادل،
لان كلا منهما بموضوع مستقل.
وبعبارة أخرى: ان وجوب التبين في الآية الشريفة كناية عن عدم
الحجية، ومن الواضح ان نفي الحجية عن خبر العادل لا ينافي نفي الحجية عن
خبر الفاسق سواء كانا معا أو كان أحدهما متقدما والاخر متأخرا.
وعليه، فال ينفع التمسك باطلاق الآية الشريفة في اثبات انحصار
الشرط. فالتفت ولاحظ
الوجه الثاني: وقبل ذكره لا بد من التبيه على شئ وهو: ان أداة الشرط
لها استعمالان: أحدهما: فيما يساوق معنى الشرطية والترتب والتعليق.
والاخر: فيما يساوق الفرض والتقدير بحيث لا تفيد أكثر من وقوع
مدخولها موقع الفرض والتقدير.
ولا يخفى ان الالتزام بالمفهوم انما يكون في موارد النحو الأول للاستعمال.
اما لو استعملت في معنى الفرض والتقدير فلا تفيد المفهوم - كما تقدم في مبحث
المفهوم -، بل تكون القضية الشرطية نظير القضية الحملية المرتب فيها الحكم
على الموضوع المفروض الوجود، ومن هذه الموارد قوله (عليه السلام): " ان الله
إذا حرم شيئا حرم ثمنه " (1) فإنه لم يدع أحد في أن لهذه القضية مفهوما محصله:
" ان الله إذا لم يحرم شيئا لم يحرم ثمنه "، بل لم يستفد منها سوى بيان الموضوع
لتحريم الثمن، فهي نظير قوله: " ان الله حرم ثمن الحرام "، ويعبر عن: " إذا "

(1) العوالي اللئالي 2 / 328 الحديث 33.
261

هذه بالتوقيتية في قبال الشرطية منها. ومن ذلك أيضا الشروط المقومة للموضوع
المسوقة لبيان تحققه، نظير: " ان ركب الأمير فخذ ركابه "، فان الإرادة مستعملة
في معنى الفرض والتقدير لا معنى الشرطية والتعليق.
وإذا ظهر ذلك نقول: ان المفهوم انما يتحقق ويثبت في مورد يكون
الموضوع قابلا لطرو حالتي الشرط وعدمه عليه كي يكون اشتراط الحكم بشئ
ظاهرا في انتفائه عند انتفاء الشرط، وذلك نظير: " ان جاءك زيد فأكرمه "، فان
الموضوع وهو زيد محفوظ في كلتا حالتي الشرط وعدمه.
والسر في ذلك ما عرفت من: ان المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند
انتفاء شرطه.
والوجه فيه هو: ان الموضوع إذا كان قابلا لطرو الحالتين عليه مع
انحفاظه في كل منهما أمكنت دعوى استعمال الأداة في التعليق والشرطية التي
هي أساس المفهوم. اما إذا لم يكن الموضوع قابلا للانقسام لكلتا الحالتين، بل
كان لا يقبل الا إحداهما، فهو يقبل الترديد بينهما لا الانقسام إليهما معا، لم يصح
استعمال الأداة الداخلة على إحدى الحالتين في معنى التعليق، بل انما تستعمل
في معنى الفرض والتقدير، نظير ما لو رأى المولى شبحا فقال لعبده: " ان كان
هذا زيدا فأكرمه " فان الشبح لا يقبل عروض الزيدية عليه تارة والعمرية
أخرى، بل هو اما زيد أو عمرو، فالأداة تستعمل في معنى الفرض والتقدير لا
في معنى الشرطية، إذ ليس هناك جامع بين الحالتين يتوارد عليه النفي والاثبات،
كي يعلق الاثبات على شئ، بل الشبح يدور بين متباينين.
وما نحن فيه من هذا القبيل، وذلك لان الموضوع وان كان ذات النبأ
وطبيعته، الا ان الموضوع في الاحكام هو الطبيعي الموجود في الخارج، وتكون
الذات مأخوذة مفروضة الوجود، وليس الحال فيه كالمتعلق.
وعليه، فموضوع الحكم هو النبأ الموجود. ومن الواضح ان النبأ الموجود
262

لا يخلو الحال فيه اما أن يكون نبأ فاسق أو نبأ عادل، ولا يقبل الانقسام إلى
كلتا الحالتين، ولازم ذلك هو استعمال الأداة الداخلة على مجئ الفاسق في معنى
الفرض والتقدير، نظير مثال الشبح.
وقد عرفت أن استعمال الأداة في معنى الفرض والتقدير لا يمكن استفادة
المفهوم منه.
فنكتة الوجه هي: ان الأداة ههنا مستعملة في معنى الفرض والتقدير
فلا يمكن استفادة المفهوم منها، ونستطيع ان نبين هذا الوجه ببيان آخر، فنقول:
ان الموضوع اما ان يفرض طبيعي النبأ، أو يفرض شخص النبأ الموجود في
الخارج.
فإن كان المفروض طبيعي النبأ في أي فرد تحقق، كان اللازم وجوب التبين
عن خبر العادل إذا ورد خبر فاسق، إذ خبر العادل وجود لطبيعي النبأ وهو
موضوع وجوب التبين إذا تحقق الشرط وهو اخبار الفاسق كما هو الفرض.
وان كان المفروض النبأ الموجود خارجا، كان الشرط مستعملا في الفرض
والتقدير لا في معنى الشرطية والترتب، كما عرفت لعدم قابلية النبأ الموجود
للانقسام إلى كلتا الحالتين.
وقد أجاب المحقق الأصفهاني عن هذا الاشكال: بأنه يمكننا اختيار كلا
الشقين فنختار الشق الأول ونقول: ليس المراد من الطبيعة المطلقة بنحو الجمع
بين القيود حتى يكون المراد هو الطبيعة المتحققة في ضمن خبر العادل والفاسق،
فيلزم التبين عن خبر العادل وانما المراد هو اللا بشرط القسمي وبنحو رفض
القيود، بمعنى ان الموضوع هو الطبيعة بلا دخل لخصوصية نسبة العادل أو نسبة
الفاسق.
وعليه، فتعليق الحكم على الشرط يستلزم قصر الحكم على حصة خاصة
من الطبيعي، وهي الحصة المتحققة في ضمن خبر الفاسق. ونختار الشق الثاني
263

ونقول بان شأن الأداة جعل مدخولها واقعا موقع الفرض والتقدير، وهو كما يجتمع
مع كلية الموضوع كذلك يجتمع مع جزئيته، وان كان وجود بعض افراد الموضوع
الجزئي ملازما لاحد طرفي المعلق عليه كما فيما نحن فيه (1).
وهذا الجواب غير تام.
اما ما ذهب إليه من أن تعليق الحكم على الشرط يستلزم قصره على
الحصة الخاصة. فهو دعوى خالية عن البرهان وخلف فرض كون الموضوع هو
الطبيعي بما هو.
واما ما ذكره في جواب الشق الثاني. فهو نفس ما ادعيناه ونفس ما
انتهينا منه إلى انكار المفهوم.
والمتحصل: انه لا يمكننا الالتزام بالمفهوم على هذا التقدير للوجهين
المذكورين.
ثم إن المحقق العراقي ذهب إلى: ان الشرط إذا كان مركبا مما هو قوام
الموضوع وما هو ليس كذلك يكون الشرط ذا مفهوم بالإضافة إلى الجزء غير
المقوم للموضوع، فمثلا لو قيل: " ان ركب الأمير وكان اليوم الجمعة وكان لابسا
الأبيض فخذ ركابه "، فان ركوب الأمير وان كان محققا للموضوع، الا ان لبسه
البياض أو كون اليوم الجمعة ليس من مقومات الموضوع، فيثبت المفهوم بلحاظها
وان كان بالإضافة إلى نفس الركوب لا مفهوم له.
وبالجملة: مثل هذا الشرط ينحل إلى شروط متعددة. وما نحن فيه من
هذا القبيل، فان الشرط هو المجئ بالنبأ واضافته إلى الفاسق، والمجئ بالنبأ
وان كان من مقومات الموضوع، لكن اضافته إلى الفاسق ليست من مقوماته
فيثبت المفهوم بلحاظها (2).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 76 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 111 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
264

وقد تابعه في هذا البيان السيد الخوئي (حفظه الله) (1).
وهذا البيان مخدوش بما تقدم منا قبل قليل من: ان استعمال الأداة في مورد
المفهوم يختلف عن استعمالها في غير موارده، فهي تستعمل في ما يحقق الموضوع
في معنى الفرض والتقدير وفي موارد المفهوم في معنى الشرطية والتعليق.
وعليه، فلو أردنا ان نلتزم بثبوت المفهوم بالإضافة إلى الجزء غير المقوم
للموضوع دون المقوم له كان علينا ان نلتزم باستعمال الأداة في معنيين وهو محال
كما حقق في محله.
وعليه، فلا بد ان نلتزم بأنها مستعملة في الفرض والتقدير بالنسبة إلى
المجموع ومعه ينتفي المفهوم بالمرة.
ودعوى: ان الواو تفيد العطف وهو بمنزلة تكرار الأداة، فلا يكون
اختلاف المعنى مستلزما لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى.
مندفعة: بأنه على تقدير تسليم كون العطف في قوة التكرار لا ينفعنا فيما
نحن فيه، إذ لا عطف في الآية الكريمة وانما اخذ الشرط مقيدا، والتركب نشأ
من تحليله إلى جزئين عقلا فلاحظ.
وبعد ان عرفت عمدة الوجه في نفي المفهوم على هذا التقدير، تعرف انه
لا وجه للقول بالمفهوم على تقدير أخذ الموضوع هو الطبيعي والشرط اضافته
إلى الفاسق.
إذ الوجهان المتقدمان يتأتيان عليه أيضا.
فإنه لا ينفع التمسك باطلاق الشرط في اثبات الانحصار، إذ لا يضر
ترتب عدم الحجية على خبر العادل في ترتبه على خبر الفاسق بقول مطلق، كما أن
الموضوع الخارجي لا يقبل الانقسام إلى الحالتين، بل يقبل الترديد لا غير،

(1) الواعظ الحسني محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 157 - الطبعة الأولى.
265

فتكون الأداة مستعملة في معنى الفرض والتقدير، فلا يثبت المفهوم.
هذا مضافا إلى أنه مجرد احتمال ثبوتي لا يمكن الالتزام به اثباتا، إذ
صريح الآية الكريمة كون مدخول الأداة مجئ الفاسق، فالغاء المجئ عن
الشرطية وقصر الشرط على جهة الاسناد إلى الفاسق فقط لا شاهد له أصلا.
ثم إنه لو فرض ثبوت المفهوم للآية الكريمة في نفسه وبلحاظ الشرط،
فقد يدعى انكاره من طريق آخر وهو: العلة المذكورة فيها، أعني قوله: (ان
تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) وتوضيح ذلك: ان المقرر
هو ان العلة التي تذكر في الكلام للحكم توجب التصرف في موضوعه سعة
وضيقا، ففي مثل قول الطبيب للمريض: " لا تأكل الرمان لأنه حامض " يكون
موضوع الحكم هو الحامض مطلقا فيخرج الرمان الحلو ويدخل الحامض من
غيره، فموضوع الحكم يدور مدار العلة.
وهذا الظهور لا شك فيه عرفا، فكل واحد من افراد العرف يفهم من
المثال المتقدم ما ذكرناه.
وفي الآية الكريمة قد اخذ الشرط مجئ الفاسق الا انه علل ذلك
بإصابة القوم بجهالة، ومقتضاه كون الشرط يدور مدار العلة، فيكون الشرط
مطلق موارد عدم العلم لانطباق الجهل عليها. ولازم ذلك عدم حجية خبر العادل
إذا لم يفد العلم - كما هو المفروض فيما نحن فيه - لأنه مشمول للمنطوق.
وبالجملة: ظهور العلة في العموم يكون موجبا للتصرف في الشرط فلا
يثبت المفهوم المدعى.
وبهذا التقريب يندفع ما قد يتوهم من: ان مقتضى مفهوم الشرط عدم
حجية خبر العادل، وهو أخص من العلة فيخصصها كما هو المقرر من جواز
تخصيص العام بالمفهوم.
وجه الاندفاع: ما عرفت من أن عموم العلة يستلزم إلغاء المفهوم
266

بالتصرف في موضوعه وهو الشرط، فلا ثبوت للمفهوم بملاحظة العلة، فلا تصل
النوبة إلى التخصيص.
نعم لو كانت العلة في كلام منفصل أمكنت الدعوى المزبورة. ولكن
الامر ليس كذلك إذ العلة متصلة بالكلام.
وقد أجيب عن هذا الاشكال بوجوه نذكر وجهين منها لكونهما المهم منها:
الوجه الأول: ان المراد بالجهالة ليس الجهل وعدم العلم، بل السفاهة
وعدم كون العمل عقلائيا ومما يجري عليه العقلاء في أمورهم.
وعليه، فلا تعم العلة العمل بخبر العادل، إذ ليس العمل بخبر العادل
سفهيا وغير عقلائي، فلا يتغير الشرط عن كونه مجئ الفاسق بالنبأ، فيثبت
المفهوم المدعى.
أقول لم يرد في اللغة تفسير الجهالة بالسفاهة. نعم تستعمل عرفا في
العمل الصادر عن عدم رؤية وبصيرة والتثبت الذي هو من شوؤن الجهال
المتسرعين في أمورهم وغير الجارين فيها مجرى العقلاء من التبصر والتروي في
الأمور، فهي تستعمل بما يلازم السفاهة - ويعبر بالفارسية: " كار جاهلانه "
ويقابله: " كار عاقلانه " -.
ومما يشهد لإرادة هذا المعنى من الجهالة في الآية الكريمة دون مطلق عدم
العلم، هو: ان اقدام المسلمين على محاربة من أخبر الوليد (لعنه الله) بكفرهم لم
يكن مع التردد والتشكيك في ردتهم والا لتوقفوا في حربهم، بل كانوا واثقين من
ذلك بسبب اخبار الوليد (لعنه الله)، بسبب غفلتهم وبساطتهم بحيث كانوا
يصدقون كل أحد بمجرد كونه مسلما أو نحو ذلك، ففي الآية تنبيه على هذا
المعنى وانه ينبغي التروي والتبصر في الأمور وعدم الاقدام على ما لا ينبغي ان
يقدم عليه العقلاء في أمورهم، وهو الاعتماد على خبر الفاسق المتهم بالكذب في
اخباره.
267

ومن الواضح ان الاعتماد على خبر العادل غير المتهم بالكذب في الاقدام
على عمل لا يعد عملا بلا ترو وتبصر، بل عملا عقلائيا جاريا على موازين
العقلاء في أمورهم وشؤونهم، فلا يعمه عموم التعليل.
هذا، ولكن ينبغي لتتميم ذلك من احراز عمل العقلاء بما هم عقلاء بخبر
العادل وحجيته لديهم، فتكون الآية متكفلة لامضاء هذا الحكم، ولا تكون متكفلة
لبيان حجيته بالتأسيس في قبال ما يدل على حجيته من غيرها.
والا فلو لم يثبت عمل العقلاء بخبر العادل، فكيف نحرز ان العمل به
جاريا على طبق الموازين العقلائية كي لا يشمله عموم التعليل.
والوجه الاخر: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من حكومة المفهوم
على عموم العلة. ببيان: ان غاية ما يدل عليه التعليل هو لزوم التبين عن
غير العلم، ولا يتعرض إلى بيان ما هو علم وما هو غير علم، إذ الحكم لا يتعرض
إلى اثبات موضوعه بنحو من الانحاء، بل هو ثابت على تقدير موضوعه،
والمفهوم بما أنه يتكفل حجية خبر العادل وبما أن الحجية ترجع إلى جعل
الطريقية والوسطية في الاثبات فهو تكفل بيان ان خبر العادل علم فيخرجه
عن موضوع التعليل فيتقدم عليه لحكومته عليه لكونه متصرفا في موضوعه. ولا يمكن
ان يتقدم العموم على المفهوم الا بنحو دوري كما لا يخفى.
وبالجملة: لا تنافي بين مفاد المفهوم ومفاد التعليل، ويكون العمل على
المفهوم لكونه حاكما على التعليل (1).
وهذا الجواب مردود: لان لم يدع تقديم عموم العلة على المفهوم من جهة
تنافي الدليلين وأقوائية ظهور عموم العلة أو قرينيته - نظير قول القائل: " رأيت
أسدا يرمي "، فان ظهور أسد في الحيوان المفترس ينافي ظهور الرمي في رمي

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 172 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
268

النبل، ويقدم ظهور يرمي للقرينية -، حتى يقال إنه لا تنافي بين المفهوم والعموم،
لان المفهوم يرفع موضوع التعليل والتعليل لا يتعرض لاثبات موضوعه، فيكون
المفهوم حاكما على عموم التعليل. بل المدعى ان العلة تقتضي التصرف في المعلل
عموما وخصوصا بالظهور العرفي للكلام، فلا تنافي بين ثبوت الحكم لمطلق الرمان
ولمطلق الحامض في قول القائل: " لا تأكل الرمان لأنه حامض "، الا ان التعليل
يوجب قصر الحكم على الرمان الحامض، لاجل ان العرف يفهم ان الحكم يدور
مدار العلة، فالتصرف في ظهور " الرمان " ليس من جهة التنافي بين الظهورين،
بل من جهة فهم العرف ان موضوع الحكم هو العلة لا غير.
وعليه، فعموم التعليل يوجب التصرف في الشرط الذي هو موضوع
المفهوم، كما أن المفهوم في حد نفسه يوجب التصرف في عموم التعليل واخراج
خبر العادل عن موضوعه، فيكون كل من المفهوم والتعليل رافعا لموضوع الاخر
فيتحقق التحاكم بينهما. ومقتضى ذلك تحقق التساقط بينهما وعدم الاخذ بأيهما
والنتيجة تكون مع انكار المفهوم.
ونتيجة ما ذكرناه هو: عدم ثبوت المفهوم للآية الكريمة في نفسه ومن جهة
القرينة الخاصة على عدمه في المقام.
ثم إن صاحب الكفاية ذكر أنه لو التزم بان الشرط في الآية سيق لبيان
تحقق الموضوع أمكن ان يقال بالمفهوم ههنا وعدم وجوب التبين عن غير خبر
الفاسق (1).
ووجهه المحقق الأصفهاني بما ملخصه: ان أداة الشرط لما كانت تفيد
الحصر لم يختلف الحال بين أن يكون مدخولها شرطا أو موضوعا، فكما تفيد حصر
الشرط بمدخولها لو كان شرطا فكذلك تفيد حصر الموضوع به لو كان

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 296 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
269

موضوعا، ولازم ذلك عدم ثبوت الحكم لغير مدخولها ولو كان موضوعا (1).
ولكن لا يخفى ان أساس هذا الوجه، وهو دلالة الأداة على الحصر هو
محل اشكال، بل منع كما تقدم، ولعله لذلك لم يجزم به صاحب الكفاية وانما ذكره
بعنوان ما يمكن ان يقال. فلاحظ.
ثم إنه على تقدير دلالة الآية على حجية خبر العادل، قد يستشكل في
شمولها للخبر عن الإمام (عليه السلام) بواسطة أو وسائط كالاخبار المتداولة
بيننا، فإنها أخبار عن الحكم الصادر عن الإمام (عليه السلام) بوسائط عديدة.
والاشكال فيها من وجوه:
الاشكال الأول: ما ذكره الشيخ (رحمه الله) وغيره من: ان الخبر الأخير
المتصل بنا حين يخبر عن اخبار غيره المخبر عن اخبار غيره وهكذا حتى يصل
إلى الاخبار عن الحكم الشرعي الصادر من المعصوم (عليه السلام) انما يكون
حجة في مفاده، وهو خبر غيره بلحاظ الأثر الشرعي المترتب على المخبر به لان
المخبر به بنفسه ليس حكما مجعولا بل امرا خارجيا. فمرجع الامر تصديقه
وحجيته إلى وجوب ترتيب الأثر على المخبر به وهو خبر غيره. ومن الواضح انه
لا اثر للمخبر به غير نفس وجوب التصديق والحجية، فيلزم اتحاد الحكم
والموضوع بعبارة، واخذ الحكم في موضوعه بعبارة أخرى. فان الأثر المأخوذ
موضوعا لوجوب ترتيب الأثر هو نفس هذا الوجوب لا غيره. وذلك خلف
واضح (2).
وقد أجاب عنه صاحب الكفاية: بان الملحوظ في الموضوع طبيعي الأثر
بنحو القضية الطبيعية، وليس الملحوظ هو شخص هذا الأثر - أعني وجوب

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 77 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 75 - الطبعة الأولى.
270

تصديق العادل -.
وعليه، فيختلف الحكم عن الموضوع، إذ وجوب التصديق بلحاظ طبيعي
الأثر لا بلحاظ نفسه فلا اتحاد (1).
ولا يخفى ان هذا الكلام بظاهره واضح الاشكال، فان القضية الطبيعية
ما كان الحكم فيها واردا على نفس الطبيعة بما هي بملاحظة تجردها عن الوجود
الخارجي بحيث لا يسرى المحمول إلى الخارج، كالنوعية في مثل: " الانسان
نوع ". وقضايا الاحكام ليست كذلك، إذ هي ترتبط بالماهية بلحاظ وجودها
الخارجي، والحكم يعرض على الموضوع الموجود في الخارج.
وقد يوجه كلامه (قدس سره): بأنه ليس مراده ملاحظة الطبيعة بما هي
في قبال ملاحظة الطبيعة الموجودة في الخارج، بل مراده ملاحظة الطبيعة السارية
في الوجودات الخارجية المتفردة، ولكن بلا لحاظ خصوصيات الافراد في الموضوع،
إذ للطبيعة وجود في ضمن كل فرد هو الجامع بين الافراد. فالملحوظ هو ذات
الطبيعة وجود في ضمن كل فرد في قبال ملاحظة الخصوصيات المفردة.
وإذا اخذت الطبيعة بهذا النحو في موضوع الحكم بوجوب التصديق
ووجوب ترتيب الأثر تعدد الموضوع والحكم ولم يؤخذ الحكم في موضوع نفسه،
وترتيب نفس وجوب التصديق من باب انطباق طبيعي الأثر عليه، وهو بحكم
العقل، لا من باب اخذه بنفسه في موضوع الحكم.
هذا غاية ما يبين به كلام صاحب الكفاية ويستفاد بعضه من كلام المحقق
الأصفهاني (رحمه الله) (2).
وتحقيق الكلام في المقام بنحو يتضح به الحال في كلمات الاعلام (قدس

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 297 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 78 - الطبعة الأولى.
271

سرهم)، بان يقال: ان للحكم الثابت بنحو القضية الحقيقية مقامين: مقام
الجعل ومقام الفعلية.
اما مقام الجعل، فهو ليس إلا انشاء الحكم على تقدير وجود الموضوع،
فليس في ذلك المقام حكم حقيقي، بل مرجعه إلى بيان الملازمة بين ثبوت الحكم
حقيقة وثبوت الموضوع.
ولذا لا يعتبر وجود الموضوع في هذا المقام، فلا حكم ولا موضوع بلحاظ
هذا المقام، بل ليس هناك الا الملازمة بين الحكم والموضوع.
واما مقام الفعلية، وهو مقام ثبوت الحكم حقيقة، وذلك انما يكون عند
تحقق الموضوع خارجا، فيثبت له الحكم، فثبوت الحكم لموضوعه هو مقام فعليته.
وعليه فنقول: اشكال اتحاد الحكم والموضوع في خبر الواسطة، انما يتأتى
بلحاظ هذا المقام، لأنه مقام وجود الحكم والموضوع لا مقام الجعل، إذ لا وجود
للحكم فيه كما عرفت. فيقال ان حجية خبر الحر عن خبر الصدوق انما هي
بلحاظ ما يترتب على خبر الصدوق من اثر، ولا اثر له الا نفس الحجية، فيتحد
الحكم والموضوع على جميع المباني في معنى الحجية كما لا يخفى، فيكون المجعول
هو الطريقية إلى نفس هذه الطريقية أو المنجزية إلى نفس هذه المنجزية أو
الحجية على نفس هذه الحجية أو الحكم المماثل لنفسه. وكله محال بلا اشكال.
ولكن جواب هذا الاشكال واضح جدا، بحيث نستطيع ان نقول إنه لا
اشكال بملاحظة هذا المقام، وذلك الآن الحكم المجعول - وهو الحجية - وان كانت
بانشاء واحد، الا انها تنحل إلى احكام متعددة بتعدد الاخبار.
وعليه، فما يترتب على خبر الصدوق غير ما يترتب على خبر الحر، لأنه
فرد من الحجية غير الفرد المترتب على الخبر الاخر، فلا يتحد الموضوع والحكم،
بل فرد من المنجزية ينجز فرد آخر منها، وفرد من الطريقية يكون إلى فرد آخر
منها وهكذا.
272

ودعوى الانحلال بديهية لا تحتاج إلى بيان، إذ لا يتوهم أحد ان الحجية
المجعولة حكم واحد ثابت لجميع الاخبار العرضية والطولية، بل كل خبر له فرد
من الحجية غير ما للخبر الاخر.
وإذا كانت دعوى الانحلال بهذا الوضوح، واندفاع الاشكال بها كذلك
من الوضوح بمكان، أمكننا ان نقول: انه لا اشكال بملاحظة هذا المقام، وذكر
القوم له وتصديهم لدفعه بالوجوه المختلفة تطويل بلا طائل.
واما جواب صاحب الكفاية عن هذا الاشكال فهو لا يغني ولا يسمن
من جوع.
وذلك لما عرفت من أن الحكم الفعلي انما يترتب عند وجود موضوعه،
فالملحوظ في الحكم الفعلي هو وجود الموضوع وواقعه لا مفهومه.
وعليه، فنقول: اما ان يؤخذ طبيعي الأثر بنحو يشمل الحجية، أو بنحو
لا يشملها، أو مهملا.
اما الاهمال، فهو ممتنع ثبوتا كما تقرر مرارا.
واما اخذه بنحو لا يشمل الحجية، فلازمه عدم ثبوت الحكم إذا كان الأثر
هو الحجية إذ هو خارج عن دائرة الموضوع، فكيف ينطبق عليه الموضوع
عقلا؟.
واما اخذه بنحو يشملها، فيكون الحكم مترتبا عند ترتبها، كما هو الحال
في كل حكم وموضوعه، ولازم ذلك اتحاد الحكم والموضوع في مثل ما نحن فيه كما
عرفت.
وعلى كل حال فالذي يهون الخطب انه لا اشكال بحسب هذا المقام أعني -
مقام الفعلية - الا بحسب الصورة، وانما الاشكال في مقام الجعل بملاحظة مقام
الاثبات لا الثبوت.
بيان ذلك: ان الحجية وان كانت انحلالية لبا وثبوتا، لكنها تفاد في مقام
273

الاستعمال بمفهوم واحد جامع بين الافراد، فالملحوظ في مقام الاستعمال امر
واحد حاك عن جميع الافراد ومشير إليها بالإشارة الاجمالية، وبيان جميع افراد
الحجية المترتبة على افراد الخبر تكون بواسطة هذا المفهوم الجامع الملحوظ
بلحاظ واحد. فحجية خبر زرارة ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب وغيرهم كلها
بدليل واحد وبلحاظ واحد.
وعليه، فإذا فرض ان حجية خبر الحر عن خبر الصدوق تجعل بملاحظة
حجية خبر الصدوق، فلا بد من ملاحظة حجية خبر الصدوق في مرحلة سابقة
عن حجية خبر الحر لأنها بمنزلة الموضوع، وهو يلحظ في مرحلة سابقة على
الحكم في مرحلة الجعل.
وهما وان تعددا ثبوتا لكن دليلهما واحد، كما عرفت، فالحجية الثابتة لخبر
الحر عن الحجية الثابتة لخبر الصدوق في مقام الاستعمال واللحاظ.
وعليه، فيلزم ملاحظة الحجية في مقام الاستعمال في مرحلة سابقة على
نفسها، وهو خلف.
فواقع الاشكال: هو ان بيان كلتا الحجيتين بمفهوم واحد يستلزم ملاحظة
الحجية في مرحلة سابقة على نفسها وهو محال. نعم، لو أنشئتا بانشائين ارتفع
المحذور كما لا يخفى.
ولا يخفى ان العمدة في الاشكال هو ما ذكرناه، وهو لا يرتبط باتحاد
الحكم والموضوع، إذ لا حكم حقيقة ولا موضوع ههنا، وانما هو يرتبط بمقام
الاستعمال وهو مقام الاثبات لا الثبوت.
والتخلص عن هذا الاشكال يكون بالالتزام بان الموضوع الملحوظ في
مقام الاثبات ليس هو خصوص الحجية كي يلزم لحاظ الشئ في مرحلة سابقة
على نفسه، بل هو طبيعي الأثر بلا ملاحظة خصوصيات افراده، بل هو يشير إليها
اجمالا - كما صور ذلك في مثل الوضع العام والموضوع له الخاص. وهذا المقدار
274

من التغاير - أعني التغاير بين الطبيعي وفرده - يكفي في رفع المحذور الاثباتي،
إذ الطبيعي غير الفرد، فملاحظته في مرحلة سابقة على الفرد لا تستلزم ملاحظة
الشئ في مرحلة سابقة على نفسه كما يتحقق التخلص عنه بالالتزام بالتغاير بنحو
الاجمال، والتفصيل، نظير ملاحظة الجزء بنفسه وملاحظته في ضمن المركب
المشتمل عليه، فان ملاحظة الكل ملاحظة للجزء اجمالا. فيقال: ان الحجية
الملحوظة في طرف الموضوع ملحوظة بنحو الاجمال من طريق ملاحظة طبيعي
الأثر، وذلك بملاحظة ان نسبة الطبيعي لافراده نسبة الكل إلى اجزائه.
وبالجملة: بأحد هذين الطريقين يرتفع محذور ملاحظة الشئ في مرحلة
سابقة على نفسه للتغاير بين الموضوع والحكم اثباتا فلاحظ وتدبر.
الاشكال الثاني: هو ان موضوع الحجية هو الخبر، ومن الواضح ان ثبوت
خبرية خبر الصدوق الذي يخبر عنه الحر انما هو بنفس الحجية ووجوب
التصديق، فيمتنع ان يثبت له الحجية، إذ يلزم اثبات الحكم لموضوعه، وهو محال
لان الحكم يتفرع على موضوعه فيستحيل ان يتكفل اثباته.
وهذا الاشكال وسابقه يشتركان في جهة ويختلفان في جهة، فيشتركان في أنهما
يتأتيان معا بالنسبة إلى الاخبار المتوسطة بين الخبر الواصل الينا والخبر
المتصل بالامام (عليه السلام). ويختلفان في أن الأول يتأتى في الخبر الواصل الينا
كما عرفت، ولا يتأتى في الخبر المتصل بالمعصوم (عليه السلام)، لان المخبر به
فيه هو الحكم الشرعي غير الحجية فيصح التعبد به بلحاظه، وفي ان الثاني لا
يتأتى في الخبر الواصل الينا لأنه واصل الينا وجدانا لا بواسطة الحجية، ويتأتى
في الخبر الأخير المتصل بالمعصوم (عليه السلام) لان خبريته بنفس الحكم
بالحجية فلو كان حكمه هو الحجية لزم اثبات الحكم لموضوعه وهو محال.
والجواب عن هذا الوجه من الاشكال بأمرين:
أحدهما: ان كل خبر له فرد من الحكم غير ما لغيره، على ما عرفت
275

سابقا من انحلال الحكم بالحجية إلى افراد بعدد افراد الخبر.
وعليه، فلا يكون الحكم متكفلا لاثبات موضوعه، بل يكون فرد من
الحكم متكفلا لاثبات موضوع فرد آخر وهو ليس بمحال.
والاخر: ان الموضوع للحكم بالحجية هو الخبر بوجوده الواقعي كسائر
الموضوعات لا بوجوده التعبدي، فالحجية متفرعة عن الوجود الواقعي للخبر،
فلا مانع من أن تتكفل اثبات الوجود التعبدي له.
وقد يشكل: بأنه قد تقدم ان الحجية تتقوم بالوصول والاحراز، ولذا كان
الشك فيها مساوقا للقطع بعدمها.
وإذا كانت كذلك فليس موضوعها الخبر بوجوده الواقعي، بل بوجوده
الواصل، فيكون اثبات الحجية للخبر تعبدا من اثبات الحكم لموضوعه.
ولا يخفى انه على هذا لا ينفع الوجه الأول من الجواب، وهو المبتني على
دعوى الانحلال، وذلك لان الحكم وإن لم يثبت موضوعه بل موضوع غيره، الا
انه إذا كان الموضوع هو الخبر بقيد الوصول، ولم يكن ذات الخبر موضوعا، لحكم
لم يصح التعبد به بذاته لعدم ترتب الأثر عليه لأنه جزء الموضوع، فيتوقف التعبد
به على فرض اثر له بالاستقلال، ومع غض النظر عن التعبد كي يكون التعبد
به بلحاظه، ثم يترتب الحكم بالحجية على المجموع. والمفروض انه لا اثر يترتب
عليه سوى الحجية التي فرض ترتبها عليه بقيد الوصول.
والجواب عن هذا الاشكال: ما عرفته في مبحث تأسيس الأصل بالنسبة
إلى الحجية، من أن الحجية لا تتقوم بالوصول والاحراز ولو كان تعبديا، بل تتقوم
بكونها في معرض الوصول. فقد عرفت كفايته في ثبوت الحجية والمنجزية، ولا
يكون الشك والحال هذه مساوقا للجزم بعدمها. وإذا كان الامر كذلك، فموصوف
الحجية ههنا في معرض الوصول ولو تعبدا، فلا يكون التعبد بموضوعها قواما
لها. فلاحظ جيدا وتدبر.
276

الاشكال الثالث: هو ان التعبد لا بد وأن يكون بلحاظ الأثر العملي
للمتعبد به والا كان لغوا فلو فرض تصحيح التعبد بخبر الحر عن خبر الصدوق
بلحاظ ما يترتب على خبر الصدوق من اثر شرعي وهو الحجية، لم ينفع ذلك ما
لم يترتب على الحجية اثر عملي وهو غير موجود، إذ لا اثر عملي يترتب على
حجية خبر الصدوق.
نعم الأثر العملي يترتب على حجية الخبر المتصل بالامام (عليه السلام)
لتكفله حكما شرعيا عمليا.
والجواب عن هذا الاشكال: بان وجوب التصديق تارة يتعلق بالتصديق
الجناني، وأخرى بالعملي. في غير محله، إذ ليس في أدلة الحجية حكم بوجوب
التصديق وانما المجعول هو الحجية بمعانيها المختلفة.
نعم، يشار بهذا العنوان - أعني وجوب التصديق - إلى حجية خبر
الواحد، لأنه انه هو المجعول في هذا المقام.
فالصحيح ان يقال: ان الأثر العملي ليس مقوما للجعل بحيث لا يمكن
عقلا تحقق بدونه، بل هو معتبر من باب خروج التعبد عن اللغوية القبيح في
حق الحكيم.
وعليه، فيصح التعبد بمجرد فرض جهة تترتب عليه تخرجه عن كونه
لغوا.
وما نحن فيه كذلك، فإنه وإن لم يترتب على حجية كل خبر من اخبار
الوسائط اثر عملي له خاصة، الا ان جعل الحجية لهذه الاخبار يكون دخيلا في
ثبوتها للخبر المتصل بالامام (عليه السلام) الذي عرفت انها ذات اثر عملي، إذ
لولا حجية اخبار الوسائط لم تصل النوبة إلى الخبر المتصل بالامام (عليه
السلام) لعدم وصوله الينا وجدانا كي تترتب عليه الحجية مع غض النظر عن
الواسطة.
277

وهذا المقدار من التأثير يكفي في عدم كون جعل الحجية لكل خبر لغوا
فحجية الاخبار الوسائط تكون دخيلة في ثبوت قول الإمام (عليه السلام) الذي
يترتب عليه الأثر العملي. فلاحظ وتدبر.
ومنها آية النفر، وهي قوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم
إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (1).
وقد قربت دلالتها على حجية الخبر بوجوه عديدة:
الأول: ان كلمة: " لعل " لا يمكن ان يراد بها الترجي الحقيقي
لاستحالته على الله سبحانه، فيراد بها الدلالة على محبوبية العمل، وعليه فالآية
تدل على محبوبية الحذر، وهو ملازم لوجوبه شرعا لعدم الفصل، فان كل من
قال بمحبوبيته قال بوجوبه. وعقلا لأنه اما أن يكون هناك مقتض للعقاب أو
لا، فإن كان مقتضى للعقاب وجب الحذر والا لم يحسن أصلا.
وهذا التقريب مشترك بين من يذهب إلى أن: " لعل " موضوعة للترجي
الحقيقي، وقد أريد بها هنا المحبوبية مجازا كما هو ظاهر الشيخ (2). وبين من يذهب
إلى أنها موضوعة للترجي الايقاعي الانشائي، والاختلاف في مرحلة الداعي،
وهو ههنا ليس الترجي حقيقة وانما مجرد المحبوبية، فاستعمالها ههنا يكون حقيقيا
لعدم استحالة الترجي الايقاعي في حقه تعالى، كما هو ظاهر الكفاية (3).
الثاني: ان الانذار واجب بظاهر الآية الشريفة، لأنه غاية للنفر الواجب
بالآية بمقتضى أداة التخصيص، وإذا لم يجب التحذر عند الانذار كان وجوبه
لغوا.
* (هامش) (1) سورة التوبة: 122.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 78 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 298 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع). (*)
278

الثالث: ان التحذر قد جعل غاية للانذار في الآية الكريمة، وهو واجب،
وغاية الواجب واجبة، فيكون التحذر واجبا.
وهذه الوجوه الثلاثة ذكرها الشيخ وصاحب الكفاية. واستشكل فيها
صاحب الكفاية متفقا مع الشيخ في بعض مناقشاته:
اما الأول: فاستشكل فيه بما يحتمل وجهين:
أحدهما: ان التحذر عبارة عن الخوف النفساني، وهو لا ينحصر متعلقه
بالعقاب، بل يمكن أن يكون الخوف من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة،
ومحبوبية الثاني لا تستلزم وجوبه كما يشهد لذلك موارد حسن الاحتياط وعدم
وجوبه.
وبالجملة: لم يبين في الآية متعلق الحذر، واحتمال إرادة الثاني يكفي في
ابطال الدليل.
والاخر: ان المراد بالتحذر التحذر العملي الخارجي، بمعنى ان يعمل
عملا كعمل المتحذر عن العقاب، وهذا لا يلازم احتمال العقاب كي يدعى
وجوبه، ومن الواضح ان إرادة التحذر العملي بالمعنى الذي عرفته ومحبوبيته لا
تستلزم وجوبه كما في موارد حسن الاحتياط غير الواجب، فإنه عمل كعمل
المتحذر عن العقاب مع أنه غير واجب.
اذن فلا دليل على وجوب التحذر ههنا، إذ لا دليل على أن التحذر من
العقاب، أو لا دليل على أن المراد به الخوف النفساني وإذا لم يثبت وجوبه لم يكن
دليلا على حجية الانذار.
واما الثاني: فاستشكل فيه بأنه لا تنحصر فائدة الانذار.
بوجوب التحذر
تعبدا ولو لم يحصل العلم، بل يمكن ان تكون فائدته هو حصول التحذر عند
حصول العلم بالمنذر به.
واما الثالث: فاستشكل فيه بأنه لا اطلاق يقتضي وجوب التعذر مطلقا
279

سواء حصل العلم أو لا، إذ ليس المتكلم في مقام بيان غايتية الحذر كي يتمسك
باطلاق الكلام من هذه الجهة، بل في مقام بيان وجوب النفر، فلا ينفع في اثبات
الاطلاق في الغاية إذ انعقاد مقدمات الاطلاق من جهة لا ينفع في اثباته من
جهة أخرى، فمن المحتمل ان تكون الغاية هو الحذر عند حصول العلم. هذا
مع وجود القرينة على التقييد بحصول العلم، إذ الانذار المطلوب هو الانذار
بأمور الدين التي تفقه فيها وتعلمها بواسطة النفر، وهذا هو موضوع وجوب
التحذر، فإذا شك في أنه صادق في خبره أو لا، شك في كون اخباره عن أمور
الدين أو لا، ومعه يشك في ثبوت موضوع وجوب الحذر، فلا يمكن الحكم
بوجوبه، لأنه تمسك بالعموم في الشبهة المصداقية. فتدبر (1).
هذه هي مؤاخذات صاحب الكفاية لهذه الوجوه، وسنعود إلى تحقيق
الحال فيها بعد قليل فانتظر.
وقد ذكر المحقق الأصفهاني (قدس سره) وجوها ثلاثة أخرى لتقريب
دلالة الآية على حجية إنذار كل منذر.
وقبل ذكرها نشير إلى ما حققه (قدس سره) في معنى: " لعل "، فقد توقف
في كون معنى: " لعل "، هو الترجي أو كون مدخولها واقعا موقع الرجاء - بتعبير
أصح: لأنها أداة ليست موضوعة لمفهوم الترجي -، إذ هي تستعمل في موارد لا
تتناسب مع إرادة الرجاء الذي هو عبارة عن توقع المحبوب، بل تتناسب مع
إرادة الخوف من مكروه متوقع، كما في قول الإمام (عليه السلام) في دعائه: " لعلك
وجدتني في مقام الكاذبين "، وكقول القائل: " لعل زيدا يموت غدا " في مقام بيان
احتمال موته المكروه لا في مقام تمنيه. وغير ذلك.
ولأجل ذلك فالأنسب: ان يقال إنها موضوعة لإفادة وقوع مدخولها مع

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 299 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
280

احتمال أعم من صورتي الرجاء والخوف، وسواء كان مدخولها مكروها أو محبوبا
- ويكون مرادفها في الفارسية " شايد " -. وهذه الدعوى لا بأس بالالتزام بها (1).
وقد أشار إليها المحقق العراقي أيضا (2).
هذا ولكنه لا يوجب الاختلاف في تقريب دلالة الآية على المدعى بالوجه
الأول المتقدم.
وذلك، لأنه كما يمتنع الترجي من الله سبحانه لاستلزامه الجهل والعجز،
كذلك يمتنع منه تعالى الاحتمال لملازمته للجهل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا،
فلا بد من صرف: " لعل " عن هذا المعنى وحملها على إبداء المحبوبية أيضا،
لمناسبة ان وقوع المدخول موقع التوقع واحتمال الوقوع يتلاءم ههنا مع محبوبيته،
إذ ليس المورد من الموارد المكروهة قطعا، فحملها على إرادة بيان المحبوبية بنظير
ما يقال في تقريب دلالة الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب على الوجوب.
وإذا ثبت إرادة بيان المحبوبية عاد التقريب السابق. فتدبر.
ثم إنه قد أشرنا إلى أن المحقق الأصفهاني قرب دلالة الآية الشريفة،
بوجوه ثلاثة آخر وهي:
الأول: ان كلمة " لعل " تفيد ان مدخولها واقع موقع الاحتمال.
وعليه، فمفاد الآية يكون احتمال تحقق الحذر عند الانذار، ومن الواضح
ان هذا ملازم لحجية الانذار، إذ لو لم يكن الانذار حجة كان العقاب مقطوع العدم
بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلا معنى لاحتمال الحذر لأنه متفرع عن الخوف
من العقاب، ولا خوف من العقاب مع عدم كون الانذار حجة للبرائة العقلية.
الثاني، ان الانذار لا يتحقق الا مع التخويف ومن الواضح ان ابلاغ

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 85 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 126 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
281

المنذرين لو لم يكن حجة لم يصدق عليه الانذار لعدم تحقق التخويف به، إذ لا
يترتب الخوف عليه، فنفس ايجاب الانذار كاشف عن حجية ابلاغهم حتى
يصدق التخويف والانذار، والا لم يصدق الانذار أصلا.
الثالث: انه من الواضح ان الانذار واجب على كل فرد متفقه بنحو
العموم الاستغراقي والمفروض ان الانذار واجب مقدمي لتحقق الحذر الواجب.
ومقتضى اطلاقه انه يجب الانذار سواء أفاد العلم أم لم يفد.
وبضميمة ما تقرر في محله من تبعية الوجوب المقدمي لوجوب ذي المقدمة
في الاطلاق والاشتراط، يستكشف ان وجوب ذي المقدمة ههنا - وهو الحذر -
مطلق من جهة حصول العلم وعدمه، لاطلاق وجوب المقدمة غير المنفك عن
اطلاق وجوب ذيها بقاعدة التبعية.
ولم يرتض (قدس سره) الوجه الأخير إذ الاشكال فيه واضح كما
بينه (قدس سره)، فان ما ذكر من تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها الناشئ
عن ترشح وجوب المقدمة عن وجوب ذيها انما يتأتى فيما كان فاعل المقدمة
نفس فاعل ذي المقدمة، إذ الترشح يتصور في هذا النحو. اما مثل ما نحن فيه
من فرض كون المقدمة فعل غير فاعل ذي المقدمة، فان الانذار من شخص
والتحذر من شخص آخر، فلا معنى لان يكون وجوب أحد الفعلين مترشحا عن
وجوب الاخر، ولا يتأتى فيه حديث التبعية المزبور، فهذا الوجه واضح
البطلان (1).
والذي يظهر من كلامه بناؤه على الوجهين الأولين.
ولا يخفى انهما يبتنيان على فرض الحذر النفسي من العقاب لا من فوت
المصلحة أو الوقوع في المفسدة، كما احتمله صاحب الكفاية في الآية. والا لم يتم

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 88 - الطبعة الأولى.
282

الوجهان كما لا يخفى.
ولكن الظاهر كما ذكره (قدس سره) كون الآية في مقام التحذير من
العقاب لا من فوات المصلحة، إذ لم يكن يرد هذا المعنى في أذهان العامة في
الصدر الأول، إذ الالتفات إلى وجود المصالح كان متأخرا عن ذلك الزمان.
هذا ولكن الوجهين مخدوشان:
اما الثاني: فلان مقتضى التدقيق العقلي في معنى الانذار هو ما ذكره من
عدم صدقه في مورد لا يتحقق فيه الخوف، ولكن المعنى العرفي أو المفهوم
العرفي له ليس ذلك، بل يصدق الانذار ولو لم يتحقق الخوف،
بل ولو علم المنذر انه لا يتحقق الخوف لديهم كما يشهد بذلك موارد الاستعمالات
العرفية كما في موارد استعمال الانذار في إنذار الكفار الذين لم يكونوا يبالون
بكلام الرسل (عليهم الصلاة والسلام). وكما في قولك " أنذرته فلم ينفع " أو
" أنذرته وانا اعلم أنه لا ينفع فيه الانذار "، ولعل السر في ذلك هو كون الانذار
عبارة عن التنبيه وبيان تحقق ما هو مكروه على فعل المنذر، أو عبارة عن الكون
في مقام التخويف والتحديد لا عبارة عن التهديد والتخويف الفعلي.
واما الأول: فلان احتمال تحقق الحذر لا يلازم حجية الانذار، إذ لا مجال
لقاعدة قبح العقاب بلا بيان على تقدير عدم حجية الانذار، إذ يكون المورد من
موارد الشبهة الحكمية قبل الفحص والاحتياط فيها لازم بلا كلام، فيترتب الحذر
على الانذار لايجاده احتمال التكليف بالنسبة إليهم فيلزمهم الحذر لقاعدة دفع
الضرر المحتمل، ولا يلازم ذلك حجية انذارهم.
ومن هنا تعرف: انه يمكن ان يخدش في الوجه الثاني، ولو فرض ان
الانذار هو التخويف الفعلي، إذ يتحقق الخوف من العقاب فعلا عند تحقق
الانذار ولو لم يكن الانذار حجة، لاندراج المورد في موارد الشبهة الحكمية قبل
الفحص، فلا يتوقف صدر الانذار على حجية الابلاغ.
283

وجملة القول: ان ما افاده (قدس سره) في توجيه حجية الانذار لا يمكننا
الالتزام به.
فالعمدة في تقريب استفادة حجية الانذار من الآية الكريمة، هو ما قيل
من: المفروض كون التحذر غاية للانذار بضميمة مقدمتين أخريين:
إحداهما: كون وجوب الانذار ثابتا في حق كل متفقه بنحو العموم
الاستغراقي.
والثانية: ثبوته بالنسبة إلى كل فرد مطلقا سواء أفاد العلم أم لم يفده.
فإذا تمت هاتان المقدمتان، وضمت إليها المقدمة الأخيرة وهي انحصار
فائدة الانذار في التحذر، ثبت وجوب التحذر عند تحقق الانذار ولو لم يفد العلم،
وإلا لكان الانذار لغوا.
فالدليل مؤلف من مقدمات ثلاث، ونتيجته ثبوت وجوب التحذر بقول
مطلق ولو لم يفد الانذار العلم.
والمقدمة الأولى لا مناقشة لنا فيها. وان ادعى إرادة العموم المجموعي
من الآية الكريمة، لكنه خلاف ما حقق من أن ظاهر العموم الأولي هو العموم
الاستغراقي.
والمهم هو الكلام في المقدمة الثالثة، ومنه يظهر الحال في المقدمة الثانية.
وقد وقع الكلام في أن الفائدة والغاية من وجوب الانذار المطلق هل هو
التحذر نفسه كي يتم الدليل. أو هو ظهور الحق وايضاح الواقع والدين، ليترتب
عليه التحذر، وهو يتحقق بإنذار عدة بحيث يكون إنذار كل منهم جزء للمؤثر؟.
وقد أشار إلى هذا الاحتمال صاحب الكفاية، وبه يبطل الاستدلال، إذ يخرج
وجوب الانذار عن اللغوية ولو لم يكن حجة لترتب اثر تكويني مرغوب عليه (1).
* (هامش) (1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 299 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع). (*)
284

ولكن قد يناقش هذا الاحتمال: بأنه ليس له في الآية عين ولا اثر وانما
رتب التحذر على الانذار مباشرة.
وهنا احتمال ثالث وهو كون الغاية والفائدة من وجوب الانذار هو الاعداد للتحذر لا نفس التحذر الفعلي.
وهذا ظاهر في عدم حجية الانذار ولو لم يفد العلم، بل لا يجب التحذر
الا عند حصول العلم، وتكون فائدة إنذار كل منذر دخالته في حصول العلم.
وهذا الاحتمال نستطيع ان تجزم به من ظاهر الآية الكريمة. وذلك إذ لم
يرتب نفس الحذر على وجوب الانذار بل رتب احتمال الحذر، إذ لم يقل:
(ليحذروا) بل قيل: (لعلهم يحذرون) وقد عرفت أن ظاهر: " لعل " كون
مدخولها واقعا موقع الاحتمال. وهذا لا يتناسب الا مع فرض الاعداد للتحذر هو
الغاية والفائدة من إنذار كل منذر، ليتحقق الحذر الفعلي عند حصول العلم.
ومثل هذا الاستعمال شايع في الموارد التي يعلم عدم كون الغاية نفس
الفعل بل الاعداد له، كما يقال: " ليبذل كل فرد منكم من ماله شيئا لعلنا نبني
هذا المسجد ".
وإذا ظهر أن الغاية هو الاعداد للحذر لم تكن ملازمة لحجية الانذار، بل
يمكن أن يكون ذلك من باب دخالة كل إنذار في حصول العلم بالمنذر به.
ومن هنا يظهر ان ذلك لا ينافي وجوب الانذار مطلقا ولو لم يحصل به
العلم، لكونه جزء المؤثر في حصوله. نعم لو علم بعدم حصول العلم بالمنذر به أصلا
لعدم إنذار غيره، لم يجب عليه الانذار لكونه لغوا، كما لو علم الشخص ان غيره
لا يبذل المال أصلا لبناء المسجد، فلا يجب عليه بذل ما وجب عليه، إذ لا يؤثر
بذله شيئا.
وبهذا البيان ظهر حال المقدمة الثانية، وهي التمسك باطلاق وجوب
الانذار في اثباته ولو لم يحصل به العلم، إذ عرفت أنه تام لو علم أنه يحصل العلم
285

بواسطة انضمام إنذار غيره، والا لم يجب عليه لكونه لغوا.
وبالجملة: لا وجه لدلالة الآية الكريمة على حجية إنذار المنذر.
واما ما ذكره في الكفاية في مناقشة اطلاق وجوب التحذر، وبيان انه
مشروط بالعلم، من أن موضوعه هو الانذار بما تفقه به، فمع عدم العلم بكون
الانذار إنذار بما تفقه به لا يمكن التمسك باطلاق وجوب التحذر لكون الشك
في موضوع الحكم (1).
ففيه ما لا يخفى: فان ما ذكره لا يقتضي إلا أن يكون الموضوع الواقعي
هو الانذار بما تفقه به من أمور الدين، والعلم ليس شرطا للحكم، بل هو شرط
لتنجزه كسائر الاحكام المرتبة على الموضوعات الواقعية، فالتوقف عن التمسك
بالاطلاق ليس من جهة اشتراط الموضوع بالعلم، بل من جهة الشبهة
المصداقية، وذلك أجنبي عن الاشتراط.
وبالجملة: ما ذكر لا يصلح وجها لما ذكر من اشتراط الموضوع بالعلم.
فلاحظ.
ثم إنه أشكل على دلالة الآية على حجية الخبر بان: غاية مدلولها هو
حجية الانذار، وهو يختلف عن الاخبار، إذ الانذار هو الاخبار المشتمل على
التخويف المتوقف على فهم معنى للكلام كي يخوف به.
وهذا أجنبي عن حجية الخبر، إذ المراد به حجية نقل ما صدر عن
المعصوم (عليه السلام) ولو لم يكن المخبر ممن يفهم المراد من الألفاظ.
وأجاب عنه في الكفاية: بان الرواة في الصدر الأول كانوا ممن يفهمون
معاني الكلمات الصادرة، نظير نقلة الفتاوى في هذا العصر.
وعليه، فيتحقق التخويف والانذار باخبارهم، فيكون خبرهم حجة

الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 299 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
286

لصدق الانذار عليه، وإذا كان خبرهم حجة مع انضمامه إلى التخويف، كان حجة
أيضا مع عدم انضامه لعدم الفصل بينهما جزما (1).
أقول هذا الاشكال ذكره ذكره الشيخ (رحمه الله). وهو بالبيان الذي ذكرناه
يندفع بما ذكره صاحب الكفاية، لكن نظر الشيخ (قدس سره) إلى جهة أخرى
وهي: ان الانذار فيه جهتان:
إحداهما: جهة التخويف الحاصلة من فهم المعنى واستظهار شئ من
كلام المعصوم (عليه السلام).
والثانية: جهة نقل الألفاظ الصادرة عن المعصوم (عليه السلام) (2).
ودليل الحجية انما يتكفل حجية الخبر بلحاظ جهة التخويف المتوقفة على
الاستنباط، ولا يتكفل حجية الخبر من باب انه نقل لألفاظ المعصوم (عليه
السلام).
ومن الواضح ان دليل الحجية إذا لوحظت فيه جهة التخويف المتوقفة
على فهم معنى الكلام، لم يكن دليلا على حجية الخبر غير المشتمل على هذه
الجهة، بل كان مجرد نقل لما صدر عن الإمام (عليه السلام) - كما هو الحال في
نقلة العصور المتأخرة - لفقدان ملاك الحجية فيه، فليس الاشكال من باب ان
الخبر لا يصدق عليه الانذار، كي يقال إنه يصدق عليه في بعض الأحيان
وبضميمة عدم الفصل تثبت حجية غير المشتمل على التخويف. بل الاشكال
من جهة ان ظاهر الآية كون ملاك الحجية هو الاشتمال على جهة الانذار. فمع
فقدانها يفقد ملاك الحجية فكيف يدعى عدم الفصل جزما؟.
ونتيجة القول: ان الآية لا تدل بوجه من الوجوه على حجية خبر العادل.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 299 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 80 - الطبعة الأولى.
287

ومنها: آية الكتمان، وهي قوله تعالى: (ان الذين يكتمون ما أنزلنا من
البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله و يلعنهم
اللاعنون) (1)
وتقريب الاستدلال بها: ان حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عقلا
عند الاظهار للزوم لغوية الحرمة لو لم يثبت وجوب القبول.
وأورد عليه في الكفاية: بمنع الملازمة، إذ لا تنحصر فائدة حرمة الكتمان
بوجوب القبول تعبدا، بل يمكن ان تكون فائدة حرمة الكتمان وضوح الحق
بسبب كثرة من يبينه ويفشيه فيترتب وجوب القبول حيئنذ لحصول العلم
بالواقع (2).
وقد أورد عليه الشيخ بما أورده على الاستدلال باية النفر من الوجهين
الأولين وهما:
الأول: دعوى إهمال الآية وعدم تعرضها إلى وجوب القبول مطلقا ولو
لم يحصل العلم، فيمكن أن يكون المراد ما هو القدر المتيقن منها، وهو لزوم
القبول عند حصول العلم.
والثاني: دعوى اختصاص وجوب القبول في الامر الذي يجب إظهاره
ويحرم كتمانه، وهو الحق والواقع. بتقريب (3): ان ظاهر الامر ههنا وفي أمثاله كون
(1) سورة البقرة: 159.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 300 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) يختلف ظاهر كلام الكفاية الذي نقلنا عن كلام الشيخ، فان ظاهر الكفاية اشتراط الموضوع بالعلم
واقعا، الذي عرفت الاشكال فيه، وان العلم شرط التنجز، اما الشيخ فهو يقصد ان مدلول الآية
الكريمة أجنبي عن جعل الحجية، بل المنطوق فيها حيث كان عمل المكلفين بالواقعيات، إذ الظاهر
من مثل هذا التركيب ذلك، فإذا قال المولى لشخص: " أخبر فلانا بأوامري لعله يمتثلها " لا يفهم أحد
انه في مقام جعل الطريق إلى احكامه، بل في مقام إيصال احكامه بالوصول الواقعي ليعمل بها المكلف.
فمع الشك في أن هذا هو حكمه الواقعي لا يحرز موضوع الحكم، بالقبول، فلا يجب لعدم تنجزه عليه.
وبالجملة: الآية الشريفة كسائر ما ورد في مقام تبليغ الحقائق للناس لا يقصد به الا وصول الناس
للحقائق لا جعل الطريق إلى الحقيقة. (منه عفي عنه).
288

المقصود فيه عمل الناس بالحق، وليس المقصود به تأسيس حجية قول المظهر
تعبدا. وعليه فمع عدم احراز الواقع لا يحرز موضوع وجوب العمل فلا يثبت
وجوب القبول (1).
وقد استشكل فيه في الكفاية: بأنه بعد تسليم الملازمة لا مجال للايراد عليه
بهذين الايرادين، إذ دعوى الاهمال أو الاختصاص تنافي الملازمة، فالمتعين انكار
الملازمة في مقام الرد (2).
أقول: ذكر الشيخ (رحمه الله) هذين الايرادين في مقام الرد على
الاستدلال بآية النفر بالوجوه الثلاثة الأولى التي ذكرناها عن الكفاية.
ومن الواضح انهما يرتبطان بنفي الاطلاق المتخيل، فهما يرتبطان بالوجه
الأول والثالث.
اما الوجه الثاني الراجع إلى الاستدلال على وجوب الحذر بلزوم اللغوية
فلا يمتان له بصلة، إذ هذا الوجه لا يرجع إلى التمسك بالدلالة اللفظية
والاطلاق.
ولكن الحق انهما بعنوانهما وإن لم يرتبطا به، الا انه بملاحظة ملاكهما وما
ينتهيان إليه يمكن نفي الاستدلال باللغوية لأنهما ينتهيان إلى أن الغاية هي
ظهور الحق والعمل به فلا تنحصر الفائدة في وجوب القبول تعبدا.
وعليه، فلنا ان نقول إن الشيخ (رحمه الله) في مقام نفي الملازمة ههنا.
وتقريبه لنفيها بهذين الوجهين بملاحظة ملاكهما.
ويشهد لذلك ما ذكره بعد ذلك بقوله: " نعم، لو وجب الاظهار على من

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 81 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 300 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
289

لا يفيد قوله العلم غالبا أمكن جعل ذلك دليلا على أن المقصود العمل بقوله وإن لم
يفد العلم، لئلا يكون القاء هذا الكلام كاللغو " (1).
فإنه ظاهر جدا في كون
محط نظره إلى نفي الملازمة في الآية الكريمة، وبيان ان هذه الآية ليست كآية
تحريم كتمان النساء ما في أرحامهن، اللاتي لا يترتب العلم غالبا على اظهارهن
ما في الأرحام، فتدل بالملازمة العقلية على قبول قولهن في ذلك فلاحظ جيدا.
ثم إنه لا يحق لاحد ان يورد على صاحب الكفاية: بأنه (قدس سره)
ذكر هذين الايرادين على آية النفر، فكيف ينفي ورودهما ههنا؟.
وذلك لأنه انما ذكرهما ايرادا على دعوى اطلاق وجوب التحذر، لا على
دعوى وجوب القبول للزوم اللغوية، وقد عرفت تعدد وجوه الاستدلال بآية
النفر دون هذه الآية.
وقد استظهر المحقق الأصفهاني (رحمه الله) من هذه الآية معنى أجنبيا
عن حجية الخبر بالمرة، فذهب إلى أنها ظاهرة في حرمة كتمان وستر ما فيه مقتضى
للظهور لولا الستر، بقرينة قوله: (بعد ما بيناه...)، فلا نظر فيها إلى وجوب
الاعلام، بل غاية ما تدل على لزوم كشف الحجاب عما بينه الله تعالى وأظهره،
ولا تدل على لزوم اعلام ما هو مستور في نفسه لولا الاعلام، فتدبر (2).
وهذا الاستظهار لا بأس به قريب إلى الذهن والذوق.
ومنها: آية السؤال وهي قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم
لا تعلمون) (3).
وتقريب الاستدلال بها: ان وجوب السؤال يستلزم وجوب القبول عند
الجواب وإلا لكان لغوا، وبضميمة العلم بعدم دخالة خصوصية السؤال في وجوب

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 81 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 89 - الطبعة الأولى.
(3) سورة النحل الآية: 43 سورة الأنبياء، الآية: 7.
290

القبول، بل الموضوع هو نفس الجواب بذاته لا بما هو جواب، يثبت وجوب
قبول الخبر الابتدائي غير المسبوق بالسؤال.
وأورد على الاستدلال بها بوجوه:
الأول: ان ظاهرها في سورة النحل بحسب المورد والسياق هو كون المراد
من اهل الذكر علماء اليهود فهي أجنبية عن حجية الخبر.
الثاني: ان ظاهر بعض النصوص كون المراد من اهل الذكر أهل البيت
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
الثالث: ان ظاهر الآية لزوم السؤال لاجل تحصيل العلم لا للقبول تعبدا،
كما يقال عرفا: " سل ان كنت جاهلا "، فإنه ظاهر في كون السؤال طريقا لحصول
العلم المرغوب فيه. ويقوى ذلك بملاحظة ان مورد الآية معرفة النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) وعلاماته، فلا يعقل تكفلها جعل الحجية لقول المخبر، فإنه لغو
مع الشك في النبوة. هذا مع أنه لا يكتفى في مثل ذلك بغير العلم لأنه من أصول
الدين.
الرابع: ان موضوع السؤال هم أهل الذكر وهم أهل العلم، وبمناسبة الحكم
والموضوع يستكشف ان وجوب القبول من باب انهم اهل علم ولجهة علمهم
ومعرفتهم، فلا تدل على حجية خبر الراوي الذي لا يحاول سوى رواية ما صدر
عن المعصوم (عليه السلام) بلا أن يكون له معرفة بكلامه (عليه السلام).
وبهذا البيان يظهر ان ما ذكره صاحب الكفاية في مقام الجواب عن هذا
الايراد: بان كثيرا من رواة الصدر الأول يصدق عليهم انهم اهل العلم، كزرارة
ومحمد بن مسلم وغيرهما، فإذا وجب قبول روايتهم وجب قبول رواية غيرهم لعدم
الفصل جزما (1)

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 300 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
291

غير سديد، وذلك لان موضوع القبول ليس رواية العالم كي يقال بعدم
الفصل بين روايته وغيره، بل عرفت أن موضوع القبول هو جواب اهل العلم
بملاحظة جهة علمهم ومعرفتهم، بحيث يكون لذلك دخل في القبول، ومعه لا
قطع بعدم الفصل بينهم وبين ما لا يكون من اهل الذكر، لعدم ثبوت ملاك
القبول في خبره.
وقد حاول المحقق الأصفهاني (رحمه الله) رد هذا الوجه: بأنه من الواضح
ان العلم بالحكم لا يحتاج في بعض الأحيان إلى اعمال نظر ورؤية، فقبول قوله
في مثل ذلك يتمحض في جهة خبريته، وبضميمة عدم الفصل بينه وبين غيره
يثبت المطلوب (1).
وفيه: ان مرادنا بالعلم الذي يكون دخيلا في وجوب القبول ليس النظر
والرؤية والدقة، بل مطلق الرأي والاعتقاد، فقبول رأيه لو كان ناشئا عن حس
ظاهر بلا اي مقدمة حدسية لا يلازم قبول خبره بما هو خبر. وبعبارة أخرى:
الآية الكريمة بمنزلة ان يقال: الفتوى حجة، فهل يتصور دلالة هذا القول على
حجية الخبر بملاحظة ان الفتوى تنشأ أحيانا عن غير نظر واعمال حدس؟.
فلاحظ تعرف.
تنبيه: قد يستشكل فيما ورد من النصوص في تفسير اهل الذكر من أنهم
الأئمة (عليهم السلام)، فإنه ينافي مورد الآية الكريمة المطلوب فيها معرفة
معاجز النبي (صلى الله عليه وآله) ونبوته، إذ لا معنى للسؤال عن نبوته (صلى
الله عليه وآله) من الأئمة (عليهم السلام) الذين تتفرع إمامتهم عن النبوة (2).
والجواب: ان التفسير بمثل ذلك يرجع إلى بيان المصاديق لا بيان المعنى

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية: 2 / 90 - الطبعة الأولى.
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 189 - الطبعة الأولى.
292

المراد على سبيل الحصر، ففي زمانهم (عليه السلام) يكونون هم مصداق اهل
الذكر الذي ينبغي السؤال منهم. ومثل ذلك كثير في تفسير الآيات الوارد في
النصوص، فراجع، وهو امر متداول عرفا فقد سأل أحد آخر عن شئ فيجيبه
بالإشارة إلى أحد مصاديقه. فتدبر.
ومن آية الاذن وهي قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي
ويقولون هو اذن قل اذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) (1).
وتقريب الاستدلال بها: انه سبحانه مدح رسوله (صلى الله عليه وآله) في أنه
يصدق المؤمنين وقرنه بتصديقه.
وأورد عليه أولا: ان الاذن سريع القطع بحيث لا يكون لديه تأمل كي
يورثه التشكيك، ومدحه بأنه سريع القطع لا يرتبط بأخذ قول الغير تعبدا.
وثانيا: ان المراد بتصديقه المؤمنين، هو تصديقهم فيما ينفعهم ولا يضر
غيرهم كما يشعر به التعبير باللام الظاهرة في الغاية والنفع. لا المراد تصديقهم
في ترتيب جميع آثار الخبر كما هو المطلوب في باب حجية الخبر. ويشهد لذلك انه
صدق النمام بأنه لم ينم عليه في الوقت الذي أخبره الله تعالى بأنه نم عليه، فلا
معنى لتصديقه الا عدم ترتيب آثار النميمة الشخصية، فالتصديق ههنا بمعنى
التصديق الوارد في الخبر: " يا أبا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك، فان شهد
عندك خمسون قسامة أنه قال قولا وقال لم أقله فصدقه وكذبهم " (2) يراد به التأكيد
على جهة أخلاقية اجتماعية.
والامر أوضح من أن يحتاج إلى مزيد بيان، فلاحظ.
وخلاصة الكلام: انه لم يثبت لدينا من الآيات الكريمة حجية خبر

(1) سورة التوبة، الآية: 61.
(2) الكافي 8 / 147. الحديث: 125.
293

الواحد. فالتفت.
واما السنة الشريفة: فقد ادعي وجود الاخبار الدالة - على حجية
خبر الواحد -. ولا يخفى ان الاستدلال بكل واحد واحد لا محصل له، لأنه دوري
كما لا يخفى.
وانما الاستدلال بها بلحاظ تواترها، وليس المقصود من التواتر هو
اللفظي منه، لعدم اتفاقها على لفظ واحد، بل المراد منه التواتر المعنوي،
لاتفاقها على حجية خبر العادل أو الثقة، أو التواتر الاجمالي - كما ذكره صاحب
الكفاية - للقطع الاجمالي بصدور بعض هذه الأخبار، فيؤخذ بأخصها مضمونا
للعلم بثبوته.
ثم إذا تكفل أخصها حجية ما هو أعم منه اخذ به.
وبنظير هذا البيان ومقداره اكتفى صاحب الكفاية (1).
وأهمل المحقق الأصفهاني البحث في ذلك بالمرة.
وقد أطال الشيخ (رحمه الله) البحث فيها، فصنف الروايات إلى أصناف
متعددة.
فمنها: ما ورد في الخبرين المتعارضين من الاخذ بالأعدل والأصدق
والمشهور والتخيير عند التساوي (2). مما يظهر منه حجية الخبر غير المقطوع
صدوره.
ومنها: ما دل على ارجاع بعض الرواة إلى بعض أصحابهم (عليه السلام)
كارجاعه إلى زرارة ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب وزكريا بن آدم ويونس بن
عبد الرحمن والعمري وابنه (3).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 302 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) وسائل الشيعة 18 / 75 باب: 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 1.
(3) وسائل الشيعة: 18 / باب: 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 4 و 19 و 23 و 27 و 33.
294

ومنها: ما دل على وجوب الرجوع إلى الرواة والثقاة والعلماء، كرواية
الاحتجاج وغيرها (1).
ومنها: ما دل على الامر بحفظ الحديث وكتابته وتداوله (2) و (3).
أقول: بعد ملاحظة جميع هذه النصوص، لم نستطع ان نستفيد منها
حجية خبر الثقة أو غيره، كما ادعي.
فان العمدة التي يمكن ان يستفاد منها ذلك، هو طائفة الارجاع إلى
الثقات المعينين كزرارة وغيره، فإنه يكشف عن حجية خبر الثقة، وما ورد من
مثل: " لا عذر لا حد من موالينا في التشكيك فيما يرد به منا ثقات شيعتنا " (4) - اما
ما دل على حسن حفظ الحديث وكتابته، فلا دلالة له بوجه على الحجية -، إذ من
المحتمل قريبا أن يكون الامر بذلك لاجل ما في الحفظ والكتابة والتداول من
ابقاء الحق وحفظ الاحكام عن الزوال. واما ما دل على ترجيح أحد المتعارضين
فهو أجنبي عن إفادة الحجية، وانما هو متفرع عن كون كل من الخبرين حجة
في نفسه، ومع قطع النظر عن المعارضة. وهذه الطائفة - أعني ما دل على الارجاع
إلى بعض الثقات - لا تنفع في اثبات حجية خبر الثقة تعبدا.
بيان ذلك: ان وثاقة الشخص، بمعنى تحرزه من الكذب..
تارة: تحرز بالوجدان بواسطة المعاشرة، أو بواسطة شهادة من يطمئن
بشهادته واصابتها للواقع.
وأخرى: تثبت بواسطة حسن الظاهر الذي جعل طريقا للعدالة شرعا.
وثالثة: تثبت بشهادة البينة العادلة التي يجوز في حقها الاشتباه.

(1) وسائل الشيعة 18 / 101 باب: 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 9.
(2) وسائل الشيعة 18 / روايات باب: 8 من أبواب صفات القاضي.
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 84 - الطبعة الأولى.
(4) وسائل الشيعة 18 / 108 باب: 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 40.
295

ولا يخفى ان اخبار الصنف الأول يلازم الجزم بصدقه وتحقق المخبر به
لفرض انه ممن يقطع بعدم كذبه، نعم قد يحتمل في حقه الاشتباه المنفي بأصالة
عدم الغفلة.
واما الصنفان الاخران فهما ممن يجوز في حقهما الكذب، إذ حسن الظاهر
لا يلازم الوثاقة واقعا، وهكذا شهادة البينة بالنحو الذي عرفته.
وعليه، فالتعبد بالصدق وايجاد التصديق الذي هو واقع حجية الخبر
المبحوث عنها إنها يصح بالنسبة إلى الصنفين الآخرين لا بالنسبة إلى الصنف
الأول للاطمئنان بعدم كذبه كما هو الفرض.
وعليه، فلا معنى لحجية خبر الثقة بالمعنى الأول.
ومن الواضح ان موضوع الارجاع في رواياته من الصنف الأول، فان
شهادة الإمام (عليه السلام) بالوثاقة لمن يرجع إليه تلازم القطع بوثاقته لعدم
جواز الاشتباه في حقه (عليه السلام)، فيكون من قبيل تحصيل الجزم بالوثاقة
من المعاشرة.
وفي مثل ذلك لا يتوقف قبول قوله على التعبد، بل يجزم بصدقه بلا تردد،
فالنصوص المزبورة لا تتكفل التعبد بخبر زرارة أو غيره بل تتكفل الارشاد إلى
وثاقته، فيترتب عليها القبول عقلا للجزم بصدقه لا تعبدا، فما نحتاج فيه إلى
التعبد بخبره لا تتكفله النصوص المزبورة.
وهكذا الحال في مثل: " لا عذر لاحد.. "، لان رواية الثقة مستلزمة للجزم،
فلا يعذر تارك العمل بها عقلا، فهي لا تتكفل جعل الحجية لخبر الثقة إذ لا معنى
لذلك ولا محصل له. هذا أولا.
وثانيا: ان المشهور على أن خبر الواحد ليس حجة في الموضوعات، بل
لا بد فيها من قيام البينة ولعله لاستنادهم إلى خبر مسعدة بن صدقة الذي
296

فيه: " والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك أو تقوم به البينة " (1).
وعليه، فالاخبار عن الخبر لا يكون حجة، لأنه خبر عن الموضوع لا الحكم
الشرعي الكلي.
وليس في هذه النصوص ما يدل على حجية الخبر عن الواسطة، إذ كلها
ظاهرة في حجية الخبر عن الحكم رأسا - كما لا يخفى -.
وعليه، فالخبر الواحد عن الواسطة لا يكون حجة بمقتضى التزام
المشهور بعدم حجية خبر الواحد عن الموضوع.
والاخبار التي بأيدينا كلها من هذا القبيل، فلا تنفع هذه النصوص في
اثبات حجيتها - لو سلمت دلالتها على الحجية في حد نفسها -.
وثالثا: ان هذه النصوص معارضة لما تقدمت الإشارة إليه من الأخبار المتواترة
الدالة على عدم جواز العمل بالخبر غير العلمي، وانه لابد في العمل
بالخبر من وجود شاهد عليه من كتاب الله تعالى شأنه.
وجملة القول: انه لا نستطيع الجزم بحجية الخبر من هذه النصوص وما
شاكلها. ولعلنا نعود إلى تفصيل الحال إذا سمح لنا المجال ان شاء الله تعالى.
واما الاجماع، فيقرب بوجوه:
الوجه الأول: الاجماع القولي الحاصل من تتبع فتاوى العلماء بحجية
الخبر، أو من تتبع الاجماعات المنقولة على الحجية، فإنه يستكشف به به رضا
الإمام (عليه السلام) بذلك.
واستشكل فيه في الكفاية: بان فتاوى العلماء في حجية الخبر مختلفة من
حيث الخصوصيات التي يعتبرونها فيما هو حجة، ومعه لا يمكن استكشاف رضا
الإمام (عليه السلام) لعدم اتفاقهم على امر واحد.

(1) وسائل الشيعة 12 / 60، باب: 4، الحديث: 4.
297

نعم لو علم أنهم يقولون بأجمعهم بحجية خبر الواحد في الجملة، ثم
يختلفون في الخصوصيات المعتبرة فيه، بحيث يكون القول بحجية الخبر الخاص
بنحو تعدد المطلوب لا وحدته - لو علم ذلك -، تم ما ذكر ولكن دون اثباته
خرط القتاد (1).
الوجه الثاني: اجماع العلماء العملي، بل المسلمين كافة على العمل بخبر
الواحد في أمورهم الشرعية.
واستشكل فيه في الكفاية بما استشكل في الوجه الأول، وبأنه لم يعلم ان
اتفاقهم على ذلك بما انهم متدينون، بل يمكن أن يكون بما انهم عقلاء (2) فيرجع
إلى..
الوجه الثالث: وهو قيام سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم ممن لا
يلتزم بدين على العمل بخبر الثقة، واستمرت هذه السيرة إلى زمان المعصوم
(عليه السلام) ولم يردع عنه المعصوم، إذ لو كان لاشتهر وبان وعدم الردع
يكشف عن تقرير الشارع للسيرة وامضائه لها، فتثبت حجية الخبر في الشرعيات.
وقد يستشكل بأنه يكفي في ثبوت الردع وجود الآيات الكريمة الناهية
عن العمل بغير العلم واتباع الظن، كقوله تعالى - في سورة الإسراء (ولا تقف
ما ليس لك به علم) وقوله تعالى - في سورة يونس -: (وما يتبع أكثرهم
الا ظنا ان الظن لا يغني من الحق شيئا) فإنها بعمومها تشمل هذه السيرة.
ورده صاحب الكفاية بوجوه ثلاث:
الأول: انها واردة لبيان عدم كفاية الظن في أصول الدين.
الثاني: ان المنصرف من اطلاقها إرادة الظن الذي لم يقم دليل على
حجيته واعتباره.

(1) و (2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 302 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
298

الثالث: ان تكفلها للردع عن العمل بخبر الواحد دوري، لان الردع
عن السيرة بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها بالسيرة على اعتبار خبر
الثقة، وعدم التخصيص يتوقف على رادعية الآيات عنها والا لكانت مخصصة.
ثم أورد على نفسه: بأن السيرة لا تصلح للتخصيص الا على وجه دائر
أيضا، إذ تخصيص السيرة يتوفق على عدم الردع بها عنها، وعدم الردع يتوقف
على تخصيصها للآيات.
وأجاب: بأنه يكفي في اعتبار خبر الواحد بالسيرة عدم ثبوت الردع
عنها، لا عدم الردع واقعا عنها، وتخصيص السيرة وان كان دوريا كالردع
بالآيات، لكنه يكفي في عدم ثبوت الردع. فتدبر (1).
أقول: ما ذكره صاحب الكفاية بتمامه محل اشكال وتحقيق:
اما أصل قيام السيرة على حجية خبر الثقة ففيه: ان القدر الثابت من
بناء العقلاء وعملهم هو العمل بخبر الثقة الذي يعلم بتحرزه عن الكذب بحيث
يطمئن بخبره. وقد عرفت أن العمل بخبر مثل ذلك لا يحتاج إلى التعبد، ولم
يثبت في مورد من الموارد علم العقلاء بخبر الثقة إذا لم يحصل لهم الاطمئنان
بصدقه وكان احتمال الكذب في حقه موجودا.
اذن فلم تثبت السيرة على العمل بخبر الثقة تعبدا، بل على العمل به
إذا أوجب القطع أو الاطمئنان، وهو خارج عن محل الكلام.
واما دعوى أن الآيات الناهية عن العمل بالظن وغير العلم مختصة
بأصول الدين. فيدفعها: عدم الشاهد عليها أصلا بل يمكننا ان نقول بان القدر
المتيقن من الآية الأولى فروع الدين، لورودها في سياق الآيات المتكفلة لجعل
الاحكام. واما الآية الثانية، فصدرها وان كان ظاهرا في نفسه في أصول الدين،

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 303 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
299

الا ان قوله تعالى قبل ذلك: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي
إلا أن يهدى)، ظاهر في الفروع لظهور الاتباع في المتابعة في الاحكام والعمل،
فيكون قرينة على أن المراد من الصدر وهو قوله: (قل هل من شركائكم من
يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق..) (1)، هو الشريك في العبادة لا الخلق
فيكون ناظرة إلى العمل لا الاعتقاديات. ولو غضضنا النظر عن ذلك، فقوله
تعالى: (ان الظن لا يغني من الحق شيئا)، بمنزلة العلة للتوبيخ على اتباع الظن
فيتمسك بعمومه، والمورد لا يخصص الوارد.
وبالجملة: فدعوى اختصاص الآيات بأصول الدين بلا شاهد، بل
الشاهد على خلافها.
واما دعوى انصراف الآيات إلى الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل،
فلم يذكر لها شاهد مع أن المناسب لمقام الاستدلال ذلك.
وعلى كل فيمكن توجيهها بأحد وجهين:
الأول: ان بناء العقلاء على كون الخبر علما وطريقا إلى الواقع يستلزم
خروجه عن ما دل على النهي عن العمل بغير العلم، وان كان هو في الحقيقة من
افراد غير العلم.
الثاني: ان العمل بخبر الواحد استنادا إلى السيرة الارتكازية المعلومة
يكون عملا بالعلم بلحاظ السيرة، وان كان بلحاظ نفسه عملا بغير العلم، فلا
يكون العمل بالظن استنادا إلى ما دل على حجيته من الأمور القطعية عملا
بغير العلم عرفا، وينصرف العموم المذكور عنه.
وفي كلا الوجهين نظر:
اما الوجه الأول: فلان نظر العقلاء ورؤيتهم تارة تكون بمعنى بنائهم

(1) سورة يونس: الآية: 35.
300

واعتبارهم، وأخرى باعتبار انكشاف ذلك الشئ واقعا لديهم، فإذا كانت رؤية
العقلاء لكون الخبر طريقا من النحو الثاني صحت دعوى الانصراف، واما إذا
كانت من النحو الأول فلا تصح دعوى الانصراف، لان البناء على أن هذا علم
لا يجدي في عدم شمول المفهوم له عرفا، الا ترى أنه هل تصح دعوى
انصراف: " لا تكرم الفاسق " عمن اعتبره العقلاء غير فاسق وكان فاسقا في
الواقع؟ ولا يخفى ان بناءهم على كون الخبر علما من النحو الأول لا الثاني،
فإنهم يعتبرونه علما لا انهم يرونه علما، فتدبر.
واما الوجه الثاني: فلأن المراد:
ان كان هو الاستناد إلى سيرة العقلاء بنفسها ولو لم تقم حجة شرعية
على امضائها. ففيه: انه لا معنى لانصراف الآيات عن مثل ذلك بعد أن لم تكن
السيرة القطعية حجة شرعا إذ اي دخل لهذه السيرة في رفع ظهور الآيات في
النهي عن العمل بالظن، وهل هو الا نظير الاستناد إلى امر علمي أجنبي عن
حجية الظن وشؤونه؟.
وان أريد الاستناد إلى السيرة التي قام الدليل على امضائها - وفائدة
دعوى الانصراف حينئذ مع أنها تشترك مع الالتزام بالعموم والتخصيص في
الأثر، وهو رفع اليد عن عموم الآيات هو عدم ملاحظة النسبة بين الآيات
الكريمة ودليل حجية السيرة شرعا بناء على الانصراف وخروج المورد عن
موضوع الآيات الكريمة، بخلافه بناء على الالتزام بالعموم والتخصيص فتدبره
-. ففيه: انه قد عرفت أن الآيات الشريفة تتكفل حكما ارشاديا راجعا إلى نفي
حجية الظن رأسا، فلو اخذ في موضوع الآيات الظن الذي لم يقم على اعتباره
دليل كما يدعى كان من الضرورة بشرط محمول، إذ يكون مفاد الآيات: ان
الظن غير الحجة ليس بحجة، وهو مستهجن جدا ومما لا محصل له اذن
فالموضوع هو طبيعي الظن بجميع افراده. (*)
301

واما دعوى أن رادعية الآيات عن السيرة على حجية خبر الواحد لا
تثبت الا على وجه دائر. فيدفعها وجهان:
الأول: ان التخصيص لا يتحقق الا بقيام الدليل على الحكم الخاص،
فهو يتقوم بالوصول، فمع عدم ثبوت الحكم الخاص كان المرجح هو أصالة
العموم كما هو الحال في كل عام شك في خروج بعض افراده عن حكمه ولم يقم
دليل على الاخراج، فليس خروج الفرد عن الحكم العام في الواقع يكفي في رفع
اليد عن العمل بالعموم كي يكون الشك فيه ملازما للتوقف عن العمل بالعام،
بل لا بد في ذلك من قيام الدليل، فإذا لم يقم الدليل على الاخراج كما فيها نحن
فيه كان المتعين الرجوع إلى العام، إذ لا دليل على الامضاء كما هو الفرض.
الثاني: ان الدليل المفروض فيما نحن فيه على الامضاء هو القطع
بالتقرير وامضاء الشارع للسيرة العقلائية. ومن الواضح ان مجرد التشكيك في
رادعية الآيات واحتمال رادعيتها يلازم عدم تحقق القطع فلا دليل على التقدير،
ولا يمكن ان نقطع بعدم رادعية الآيات الكريمة الا بنحو دائر.
وتوضيح ذلك: ان حجية الخبر بالسيرة بوجهين:
الأول: بناء العقلاء على معذورية العامل بالخبر، كبنائهم على حجية
الظن الانسدادي ومعذريته فإنه يكفي في مقام الامتثال. وهذا لا يرجع إلى ثبوت
التقرير الشرعي.
الثاني: امضاء الشارع لبناء العقلاء، وهذا يستكشف بطرق متعددة.
أحدها: انه اما أن يكون الشارع قد أمضى بناء العقلاء أو لا، فالأول
هو المطلوب. والثاني محال بدون بيان الردع لأنه اغراء بالجهل.
ثانيها: ان نفس عدم الردع ظاهر في تقريره، نظيره استكشاف تقريره
من سكوته في سائر الموارد.
ثالثها: ما يظهر من المحقق الأصفهاني من أن الشارع رئيس العقلاء
302

وكبيرهم، فلا بد أن يكون ديدنه دينهم (1).
رابعها: ان الغرض من التكاليف ايصال المكلفين إلى المصالح وابعادهم
عن المفاسد، فإذا فرض ان العمل بخبر الواحد كان طبيعيا للعرف والعقلاء إذا
لم يردع عنه الشارع بحيث لا يتأتى في ذهنهم التوقف عنه، يعملون به بمقتضى
طبعهم، فلو لم يردع عنه الشارع فأما أن يكون مقررا لعمل العقلاء فهو
المطلوب. والا استلزم فوات المصالح عليهم ووقوعهم في المفاسد بلا بيان منه،
وهو خلف الغرض من جعل التكاليف. فنفس الغرض الذي يدعوه إلى بيان
التكاليف يدعوه إلى بيان عدم الحجية لو لم يكن حجة بنظره.
وهذا الوجه امتن الوجوه.
وهذه الوجوه وإن لم تكن خالية عن المناقشة..
لان الأول يندفع: بان الحكم بمعذرية الظن الانسدادي ومنجزيته لم يكن
جزافا، بل كان يبتنى على مقدمات متعددة تسمى بمقدمات الانسداد، فما هي
المقدمات الموجبة لحكم العقلاء بحجية الخبر في الأحكام الشرعية؟!.
واما الثاني فيندفع، بان الاغراء بالجهل انما يتم لو كان عدم الردع ملازما
للقبول في نظر العقلاء، وهو عين المدعى الذي يحاول الاستدلال عليه، فتحقق
الاغراء بعدم الردع في طول استكشاف الامضاء من عدم الردع، فلا معنى
لكونه من طرق استكشافه.
واما الثالث: فهو مجرد الدعوى إذ ما الوجه في استكشاف التقرير من
السكوت؟ ولا فرق بين هذا المورد وغيره.
واما الرابع: فهو في نفسه تام، لكن لا ينفع في اثبات المدعى إذ كون
الشارع رئيس العقلاء لا يستلزم أن لا يخالف العقلاء في كل امر ونظر، فلعله

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 91 - الطبعة الأولى.
303

يخالفهم في بنائهم على حجية الخبر، فما هو الدليل على أن ديدنه ديدنهم في حجية
الخبر؟.
الوجه الأخير، متين جدا.
الا اننا لسنا بصدد اثبات أحدها، وانما يهمنا الإشارة إليها لنعرف كيفية
حصول الدليل على التقرير أو على حجية الخبر.
وقد ظهر أن ثبوت الحكم العقلي بالحجية أو ثبوت الامضاء الشرعي
معلق على عدم ثبوت الردع من الشارع، وهو ينتهي إلى الجزم بالامضاء أو
بالحجية العقلائية.
وعليه، فيظهر ان الدليل على التقدير هو القطع به، وهو يتحقق عند عدم
ثبوت الردع، فالقطع بالامضاء معلق على عدم ثبوت الردع.
وإذا كان الامر كذلك استحال تأثيره في عدم ثبوت الرادع، وحينئذ لم
يكن ذلك دافعا لاحتمال ر أدعية الآيات، لان تحققه يتوقف على عدم ثبوت
رادعيتها فكيف يتوهم منعه عن رادعيتها؟ فإنه دور واضح.
يبقى شئ: وهو دعوى أن رادعية الآيات الكريمة تتوقف على عدم
ثبوت الامضاء فإذا كان عدم ثبوت الامضاء ناشئا من الردع بها لزم الدور.
وهذه الدعوى واهية الأساس. الا ترى أنه هل يتوهم نظير هذا التوهم
في قاعدة قبح العقاب بلا بيان. فيقال: ان البيان يتوقف على عدم ثبوت قبح
العقاب، فلا يصلح لرفع قبح العقاب؟. فان ما نحن فيه نظير قبح العقاب بلا
بيان تماما، لما عرفت من أن حكم العقل بثبوت الامضاء الشرعي معلق على عدم
البيان والردع. ثم إنه هل يتوقف أحد في عدم استكشاف رضا المالك ببيع داره
من سكوته حال البيع مع مقارنته لبيان عام يدل على عدم رضاه بالتصرف في
جميع ممتلكاته؟. فأي فرق بين الموردين وما نحن فيه.
وتحقيق الحال في دفع هذه الدعوى وحل مغالطتها: انك عرفت أن
304

التخصيص بمعنى رفع اليد عن العموم لا يتحقق بالامضاء بوجوده الواقعي،
لأنه من شان الدليل المصادم للعام - نعم، نفس الحكم العام يتضيق ثبوتا بخروج
بعض الافراد لكنه لا يرتبط بالتمسك بالدليل الدال على العموم -. اذن فما
يصلح للتخصيص وما يتوقف التمسك بالعام على عدمه هو الدليل الدال على
الحكم الخاص.
وقد عرفت أن الدليل على الامضاء الذي يمكن ان يفرض ههنا هو
القطع به، وعرفت انه معلق على عدم ثبوت الردع، فإذا ورد عام يصلح للرادعية
وتحقق احتمال الردع به لم يتحقق القطع بالامضاء قهرا، فلا دليل على
التخصيص الواقعي، فكانت أصالة العموم بلا مزاحم، فلا يتحقق حينئذ القطع
بالامضاء.
وبعبارة أخرى: ان العمل بأصالة العموم لا يستلزم مخالفة الدليل، إذ
يرتفع القطع بالامضاء تكوينا لارتفاع موضوعه، وهو عدم الدليل على الردع،
كما هو شأن الوارد بالنسبة إلى المورود.
اما عدم العمل بأصالة العموم، فهو اما أن يكون بلا وجه أو على وجه
دائر إذا استند إلى ثبوت الامضاء لأنه - أعني ثبوت الامضاء - يتوقف على عدم
العمل بالعموم. فما يقال في تقدم الدليل الوارد على المورود يقال بعينه ههنا.
اذن فالالتزام برادعية الآيات عملا بأصالة العموم لا محذور فيه. وما
ادعاه في الكفاية من استلزامه الدور كلام صوري لا حقيقة له كما بيناه بوضوح.
وعليه فيتلخص اشكالنا على الاستدلال بالسيرة في وجهين:
الأول: عدم ثبوت السيرة صغرويا.
الثاني: ثبوت الردع عنها بالآيات الكريمة. فلاحظ.
وقد قرب المحقق الأصفهاني دورية تخصيص الآيات بالسيرة: بان الامر
يدور بين ما هو تام الاقتضاء وما هو غير تام الاقتضاء، ولا يمكن ان يتقدم ما
305

هو غير تام الاقتضاء على ما هو تام الاقتضاء. بيان ذلك: ان العام حجة بالذات
في مدلوله العمومي لظهوره فيه، وتقديم الخاص عليه من باب تقديم أقوى
الحجتين، بخلاف السيرة فان أصل حجيتها تتقوم بعدم الردع الفعلي، فمقتضى
الحجية في السيرة اثباتا متقوم بعدم الردع الفعلي.
وعليه، فمقتضى الحجية في العام تام إثباتا وهو الظهور، ولا مانع عنه سوى
السيرة التي يتوقف مانعيتها على تمامية اقتضائها، وهو يتوقف على عدم رادعية
الآيات عنها، وعدم رادعيتها مع تمامية اقتضائها يتوقف على مانعية شئ ولا مانع
سوى السيرة وهي لا تصلح للمانعية الا بنحو دائر كما عرفت.
ثم إنه (قدس سره) ناقش هذا الكلام مبنى وبناء..
اما بناء فلانه انما يتم لو كان عدم تمامية الاقتضاء مستندا إلى غير تأثير
تام الاقتضاء، وإلا لكان صالحا للمزاحمة، وما نحن فيه كذلك، فان عدم تمامية
الاقتضاء في السيرة مستند إلى تأثير العام ورادعيته فعلا، فكل من تأثير العام
والسيرة منوط بعدم تأثير الاخر الا ان إناطة تأثير العام بعدم حجية السيرة من
إناطة المشروط بشرطه، وإناطة تأثير السيرة بعدم حجية العام من إناطة المقتضي
بمقومه، وكلاهما في المنع عن فعلية التأثير على حد سواء.
واما مبنا، فلانه انما يتم لو كان للعقلاء في موارد التخصيص بناء ان بناء عام
وبناء خاص فيقال بالعمل بالبناء العام حتى يثبت البناء الخاص، وليس الامر
كذلك، بل هناك بناءان خاصان أحدهما في مرود الخاص والاخر يخالفه في
غير مورد الخاص.
وعليه، فحيث إن حجية العام في مدلوله ببناء العقلاء، فلا يمكن أن يكون
لهم بناء على العموم وبناء مخصص له على حجية خبر الثقة، بل لو ثبت
البناء منهم على حجية خبر الثقة لم يكن منهم بناء على العموم بالمرة، بل البناء
منهم رأسا على العموم في غير مورد الخبر، فلا مقتضى للحجية في العام في مورد
306

خبر الثقة (1). هذا ملخص ما ذكره (قدس سره).
وقد عرفت بما لا مزيد عليه تقريب دورية مانعية السيرة عن العموم بلا
احتياج إلى التقريب المزبور في كلامه، واعطاء المطلب صورة برهانية دقيقة
اصطلاحية، وعرفت أيضا عدم دورية مانعية الآيات ورادعيتها عن السيرة.
واما ما ذكره أخيرا من المناقشة في مبنى كلامه، فهو غير سديد، لان عدم
تعدد البناء العام والخاص من قبل العقلاء انما هو في مورد يتنافى فيه البناءان ولا
يمكن الجمع بينهما فيقال: انه لم ينعقد البناء العملي العام رأسا بل انعقد على غير
الخاص.
اما مع عدم التنافي وامكان الجمع عملا بينهما فلا موضوع لما ذكر.
وما نحن فيه من هذا القبيل، لان البناء على العموم يرجع إلى البناء على أن
مراد الشارع النهي عن مطلق الظن وعدم حجية جميع افراده، ومنها خبر
الواحد - لان معنى أصالة الظهور هو تشخيص مراد المتكلم من طريق الظاهر -.
وهذا البناء العملي منهم لا يتنافى بوجه من الوجوه ببنائهم العملي - بما
انهم عقلاء - على حجية خبر الواحد.
وهذا واضح جدا فلا حاجة إلى إطالة البيان فيه.
وقد نفى المحقق العراقي (2) والمحقق النائيني - على ما في تقريرات
النائيني (3) - رادعية الآيات عن السيرة: بأن عمل العقلاء بخبر الواحد يرجع
إلى إلغاء احتمال الخلاف بنظرهم ورؤيته علما فلا تشمله آيات الردع عن غير
العلم لخروجه موضوعا عنها وانصرافها عنه بعد عدم التفات العقلاء إلى احتمال
مخالفة الخبر للواقع. وقد اعترف الأول بعدم صحة دعوى دورية مانعية الآيات

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 92 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 137 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 195 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
307

. عن السيرة لو اغمض النظر عن دعوى الانصراف وخروج السيرة موضوعا
عن الآيات الكريمة.
وقد عرفت فيها تقدم تقريب دعوى الانصراف والمناقشة في ذلك، فلا
نعيد وراجع ما تقدم تعرف عدم صحة هذه الدعوى لهذين العلمين.
واما ما ورد في بعض الكلمات من دعوى حكومة السيرة على الآيات
لاعتبار الخبر علما لدى العقلاء، فتترتب عليه آثاره (1). ففيه:
أولا: انه يبتنى على تصور الحكومة في الدليل اللبي وذلك يبتنى على
تفسير الحكومة بالتصرف بموضوع الدليل الاخر توسعة وضيقا نفيا أو اثباتا،
بحيث تشمل موارد اعتبار امر من افراد موضوع الحكم في الدليل الاخر
الكاشف عن كون موضوع الحكم أعم من الفرد الحقيقي والاعتباري.
اما إذا فسرت بنظر أحد الدليلين بمدلوله اللفظي إلى الدليل الاخر
وتكفله شرح الدليل الاخر فلا مجال لتوهم حكومة الدليل اللبي المتكفل
للاعتبار على الدليل اللفظي. وتحقيق ذلك في محله.
وثانيا: انه لو سلمت الحكومة بالنسبة إلى الدليل اللبي، فلا معنى لحكومة
الاعتبار العقلائي على الدليل الشرعي.
إذ اي وجه لترتيب أو نفي الأثر الشرعي الثابت بالدليل على اعتبار
العقلاء؟، فان الحكومة انما تصح إذا كان المعتبر هو جاعل الحكم نفسه، كي يقال
ان مقتضى اعتباره كون موضوع الحكم الأعم من الوجود الحقيقي والاعتباري،
اما إذا كان المعتبر غير جاعل الحكم فلا يصلح ذلك للحكومة. فاعتبار العقلاء
الخبر علما لا يجدي في التصرف في الدليل الشرعي فلاحظ جيدا.
هذا تمام الكلام في الاستدلال بالسيرة.

(1) قد يستفاد من كلمات المحقق النائيني. كما أنه صريح السيد الخوئي في دراساته. (منه عفي عنه).
308

وأما العقل، فقد استدل بوجوه:
الوجه الأول: ما اعتمده الشيخ (رحمه الله) سابقا، وهو إنا نعلم إجمالا
بصدور كثير مما بأيدينا من الاخبار المتضمنة للاحكام، ومقتضى هذ العلم
الاجمالي لزوم الاحتياط في جميع الاخبار وهو غير ممكن، فلا بد من العمل
بمظنون الصدور لأنه أقرب إلى الواقع من غيره.
وقد بين الشيخ (رحمه الله) بتفصيل الوجه في تحقق العلم الاجمالي
المذكور، وملخصه هو: ان ملاحظة اهتمام الرواة في رواية الحديث وضبطه والاهتمام
في تدوينه والمحافظة علية والتأكد من صحته توجب حصول العلم الاجمالي
بصدور كثير من الاخبار التي بأيدينا.
وقد ذكر (قدس سره) شواهد متعددة على الاهتمام والضبط فلاحظها.
وقد استشكل الشيخ (رحمه الله) في هذا الوجه لأسباب ثلاثة:
الأول: ان وجوب العمل بالاخبار الصادرة انما هو لاجل اشتمالها على
الأحكام الواقعية التي يجب امتثالها، فالعمل بالخبر الصادر من جهة كشفه عن
حكم الله تعالى لا بما أنه خبر.
وعليه، فالعلم الاجمالي بصدور كثير من الاخبار يرجع في الحقيقة إلى
العلم الاجمالي بوجود تكاليف واقعية في ضمن هذه الأخبار، والعلم الاجمالي
بوجود تكاليف واقعية لا يختص بالاخبار، بل نعلم إجمالا أيضا بوجود التكاليف
في ضمن الاخبار وغيرها من الامارات الظنية كالشهرات والاجماعات المنقولة،
ومقتضى هذا العلم الاجمالي اما الاحتياط إن أمكن، أو العمل بكل ما يفيد الظن
بالحكم الشرعي سواء كان خبرا أم غير خبر، فلا اختصاص للحجية الثابتة بهذا
الظن بالخبر.
309

ثم إنه (قدس سره) تعرض إلى نفي دعوى انحلال العلم الاجمالي الكبير
- وهو ما كانت أطرافه مطلق الامارات الظنية خبرا كانت أم غيره - بواسطة
العلم الاجمالي الصغير - وهو ما كانت أطرافه خصوص الاخبار -. ببيان: ان
انحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي الصغير انما يكون في صورة عدم
بقاء العلم الاجمالي الكبير لو فرض انا عزلنا من أطراف العلم الاجمالي الصغير
بمقدار المعلوم بالاجمال. أما إذا فرض بقاء العلم الاجمالي بين الباقي من أطراف
العلم الاجمالي الصغير وسائر أطراف العلم الكبير لم يكن وجود العلم الاجمالي
الصغير مؤثرا في انحلال العلم الاجمالي الكبير، فيكون الكبير منجزا.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنه لو عزلنا من الاخبار طائفة بمقدار
المعلوم صدوره من الاخبار، كان هناك علم اجمالي بوجود احكام واقعية بين باقي
الاخبار وسائر الامارات الظنية، وهذا أمر وجداني، إذ لا يستطيع أحد ان ينكر
عدم مطابقة جميع هذه الأطراف للواقع.
إذن فالعلم الاجمالي الكبير لا ينحل بالعلم الاجمالي الصغير، فيكون
منجزا، وقد عرفت أن أثره العمل بكل مظنون من الاحكام، دون خصوص
الاخبار المظنونة الصدور.
الثاني: ان مقتضى الوجه المذكور هو لزوم العمل بالخبر الذي يظن
بمضمونه سواء كان مظنون الصدور أولا، إذ عرفت أن جهة العمل بالخبر هو
كونه مشتملا على حكم الله الواقعي، وهو يقتضي كون المناط الظن فيه لا في
الصدور.
الثالث: ان مقتضى هذا الدليل لزوم العمل بالخبر المثبت للتكليف دون
النافي، كما أنه يقتضي العمل به من باب الاحتياط، فلا ينهض لاثبات الحجية
بنحو يصلح الخبر لمصادمة ظواهر الكتاب أو السنة القطعية. والمقصود في حجية
الخبر هو اثبات كونه دليلا متبعا في قبال الأصول اللفظية والعملية وسواء كان
310

مثبتا للتكليف أو نافيا له.
هذا ما ذكره الشيخ في تقريب هذا الوجه والاستشكال فيه (1).
وقد نقله صاحب الكفاية بنحو لا يرد عليه الوجهان الأولان من الوجوه
التي ذكرها الشيخ. فقر به: بانا نعلم اجمالا بصدور كثير مما بأيدينا من الاخبار
من الأئمة الأطهار بمقدار واف بمعظم الفقه، بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار
لانحل علمنا الاجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الامارات إلى العلم
التفصيلي بالتكاليف في مضامين الاخبار الصادرة المعلومة تفصيلا، والشك
البدوي في ثبوت التكاليف في مورد سائر الامارات. ومقتضى ذلك لزوم العمل
على وفق جميع الاخبار المثبتة. واما النافي منها، فإن كان على خلافه أصل يثبت
التكليف لم يجز العمل به، بل يلزم الرجوع إلى الأصل. وإن لم يكن على خلافه
أصل مثبت للتكليف جاز العمل به.
هذا ما افاده في الكفاية (2).
ولوضوح الفرق بينه وبين ما أفاده الشيخ نشير إشارة اجمالية إلى موارد
الانحلال، فنقول: إن الانحلال..
تارة: يكون بواسطة العلم التفصيلي بالمعلوم بالاجمال، وذلك هو الانحلال
الحقيقي.
وأخرى: يكون بواسطة قيام امارة معتبرة على اثبات المعلوم بالاجمال في
أحد الأطراف، وذلك يستلزم الانحلال الحكمي.
وهذان الموردان مما لا ريب في تحقق الانحلال بهما على أي مسلك من
مسالك تنجيز العلم الاجمالي، نعم هو مسلم في الجملة، ويقع الكلام في جهاته من
حيث تقدم العلم التفصيلي أو تأخره أو تقدم المعلوم أو تأخره، وهو في محله.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 102 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 304 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
311

وثالثة: ينضم إلى العلم الاجمالي علم اجمالي آخر في بعض أطراف العلم
الأول، كأن يعلم اجمالا بوجود النجس في هذه الأواني الثلاثة، ويعلم اجمالا
بوجود النجس في إناءين منها. وانحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي
الصغير محل اشكال، والذي اخترناه عدم الانحلال به، لان نسبة العلمين إلى
الأطراف المشتركة متساوية، فاجراء الأصول في جميع أطراف العلم الكبير
يستلزم المعارضة.
ولو قيل بالانحلال فهو انحلال حكمي لا حقيقي كما لا يخفى.
والذي يذهب إليه الشيخ (رحمه الله) هو الانحلال، وقد جعل الضابط في
تحقق الانحلال به هو: عدم زيادة المعلوم بالاجمال الكبير على المعلوم بالاجمال
الصغير، بحيث كان المعلوم الكبير محتمل الانطباق على المعلوم الصغير، وطريق
معرفة ذلك هو ما تقدمت الإشارة إليه، من انه لو عزلنا من أطراف العلم
الاجمالي الصغير بمقدار المعلوم بالاجمال، وضممنا باقي أطرافه إلى باقي أطراف
العلم الاجمالي الكبير، فان بقي لدينا علم اجمالي لم يكن المورد من موارد
الانحلال، وإن لم يبق كان من موارد الانحلال.
وعليه، فاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال بالعلم الكبير على المعلوم
بالاجمال بالعلم الصغير يكفي في تحقق الانحلال. وقد عرفت أنه (قدس سره)
ذهب إلى أن ما نحن فيه مما لا ينطبق على ضابط الانحلال، بل ينطبق عليه
ضابط عدم الانحلال، كما تقدم تقريبه.
إذا عرفت ذلك فنقول: ان الظاهر من صاحب الكفاية انه يلتزم بكبرى
الانحلال بهذا الضابط الذي ذكره الشيخ (رحمه الله) - كما يشير إليه قوله:
" بحيث لو علم تفصيلا.. " (1) -، وانما اختلافه مع الشيخ صغروي، بمعنى أنه

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 304 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
312

يرى ان المورد من موارد الانحلال وان ضابط عدم الانحلال لا ينبطق عليه.
إذن فلا بد من ايقاع الكلام في هذه الجهة - اما الكبرى فمحل الكلام
فيها ليس هذا المقام، ونتكلم ههنا على تقدير تسليم الكبرى - لنعرف أن الحق
مع الشيخ أو مع صاحب الكفاية.
وقد عرفت أن دعوى الشيخ (رحمه الله) في تطبيق ضابط عدم الانحال
فيما نحن فيه وجدانية، فإنه إذا عزلنا طائفة من الاخبار بمقدار المعلوم صدوره
بالاجمال، وضممنا باقي الاخبار إلى سائر الامارات يحصل العلم الاجمالي
بمطابقة بعضها للواقع، وهذا مما لا يمكن ان ينكره فقيه، إذ هل يستطيع أحد
أن يدعى ان جميع هذه الامارات وباقي الاخبار غير مطابقة للواقع؟ كيف؟ وقد
ادعي وجود العلم الاجمالي في خصوص الامارات غير الاخبار.
إذن فكيف يدعي صاحب الكفاية الانحال مع تسليمه الكبرى
وضابطها؟.
والذي نستطيع ان نقوله في ايضاح الوجه الذي التزم به صاحب الكفاية
بالانحلال، مع فرض التزامه بثبوت العلم الاجمالي، مع عزل طائفة من الاخبار،
وبه يخرج كلام صاحب الكفاية عن مجرد الدعوى إلى كلام رصين متين، هو: ان
عدم الانحلال لا يتقوم لمجرد وجود علم اجمالي مع عزل بعض أطراف العلم
الاجمالي الصغير، بل يتقوم بوجود علم اجمالي زائد على ما هو المعلوم بالاجمال
الصغير، بحيث لا يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال الكبير على المعلوم بالاجمال
الصغير، وإلا فمع احتمال انطباقه ينحل العلم الكبير كما أشرنا إليه، وما نحن
فيه كذلك، فان الذي لا يستطيع ان ينكره الفقيه بعد عزل طائفة من الاخبار
هو وجود علم اجمالي بوجود حكم واقعي بين الاخبار الباقية وسائر الامارات،
للعلم بمطابقة بعضها للواقع. ولكن هذا لا يستلزم بمجرده عدم الانحلال، بل
الذي يستلزمه هو أن يكون هذا المعلوم بالاجمال مقدارا زائدا على المعلوم
313

بالاجمال الذي عزلنا طائفة من الاخبار بمقداره، وهذا مما لا علم لدينا به، إذ
نحتمل قريبا أو بعيدا ان تكون تلك الامارات المطابقة للواقع متفقة في المضمون
مع الاخبار الصادرة المتضمنة للتكاليف ولا علم لدينا بان من الامارات التي
ليس على طبقها خبر صادر أصلا ما هو موافق للواقع ومصادف له، فتطبيق
ضابط عدم الانحلال فيما نحن فيه ناشئ من الخلط بين العلم بمطابقة بعض
الامارات وباقي الاخبار للواقع وبين العلم بثبوت تكليف زائد بينها على المقدار
المعلوم بالاجمال بين الاخبار من التكاليف. والذي ينفعهم هو الثاني دون الأول،
والموجود هو الأول دون الثاني. إذن فالمعلوم بالاجمال الكبير محتمل الانطباق
على المعلوم بالاجمال الصغير فيما نحن فيه، فلا يكون العلم الاجمالي الكبير
منجزا، بل دعوى الانحلال دعوى صحيحة.
وقد أخذ صاحب الكفاية هذه الجهة في ضمن الدليل، فلا يرد عليه
الوجه الأول من وجوه الشيخ.
وأما الثاني من الوجوه، فهو يرد على الاستدلال بالتقريب الذي ذكره
الشيخ له من لزوم العمل بمظنون الصدور بلحاظ تطبيق مقدمات الانسداد في
الاخبار، ولكن صاحب الكفاية لم يذهب إلى ذلك، بل ذهب - في تقريبه - إلى
لزوم العمل بجميع الاخبار المثبتة، فلا موضوع للوجه الثاني من إيرادات الشيخ
حينئذ.
وأما الوجه الثالث، فقد اتفق صاحب الكفاية مع الشيخ فيه، فهو
اشكال مشترك الورود على كلا التقريبين، وهو ما عرفت من أن هذا الدليل لا
ينهض على إثبات حجية الخبر بالمعنى المطلوب في باب الحجية من صلاحيته
لتقييد المطلقات وتخصيص العمومات وغير ذلك. بل إذا كان هناك اطلاق ينفي
التكليف جاز العمل به في قبال الخبر المثبت له في بعض افراده وبالعكس، بل
يلزم العمل بالأصل العملي إذا كان مثبتا للتكليف ولو كان على خلافه خبر
314

ينفيه، إذ لزوم العمل بالاخبار من باب الاحتياط وهو لا يؤسس الحجية بالمعنى
المطلوب.
ثم إن الشيخ ذكر لزوم العمل بالخبر المثبت دون النافي في ضمن الاشكال
على هذا الدليل، ولكن صاحب الكفاية جعله من متممات الدليل. فالتفت.
ثم إن ما ذكره صاحب الكفاية من الترديد في جريان الاستصحاب
المثبت للتكليف في قبال الخبر النافي له لا يرجع إلى الترديد في الكبرى، بل يرجع
إلى الترديد في الصغرى، وهي انه هل المورد من موارد جريان الاستصحاب أو
من موارد عدم جريانه، نظرا للاختلاف الواقع في جريان الاستصحاب في
أطراف العلم الاجمالي، وان عدم جريانه لقصور المقتضي أو لوجود المانع؟.
فلاحظ.
هذا تحقيق الحال في هذا الوجه.
وقد أطال المحقق النائيني الحديث فيه مما لا يهم التعرض إليه لعدم دخله
الكبير فيما نحن فيه.
ويظهر من صدر كلامه عدم تسليم دعوى الانحلال، ومن ذيله تسليم
دعوى الانحلال، وهو تهافت واضح. فراجع كلامه (1).
الوجه الثاني: ما نسب إلى صاحب الوافية مستدلا به على حجية الاخبار
الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة - كالكتب الأربعة - مع عمل جمع به من
دون رد ظاهر له، وهو: انا نقطع ببقاء التكاليف إلى يوم القيامة ولا سيما بالأصول
الضرورية، كالصلاة والزكاة والحج والمتاجر ونحوها، مع أن جل شرائطها
واجزائها وموانعها لا تثبت الا بالخبر غير القطعي، بحيث انا لو تركنا العمل
بخبر الواحد لقطعنا بخروج حقائق هذه الأمور التي نأتي بها عن حقيقتها

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 2 / 199 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
315

الواقعية، فنعلم اجمالا بثبوت الأجزاء والشرائط في ضمن هذه الأخبار (1).
واستشكل الشيخ (رحمه الله) فيه لسببين:
الأول: ان العلم الاجمالي بوجود الأجزاء والشرائط حاصل بملاحظة
جميع الاخبار لا خصوص الاخبار المشروطة بما ذكر، وهو غير منحل بالعلم
الاجمالي بوجودها في خصوص هذه الأخبار، لعين ما تقدم بيانه في الوجه الأول
من وجوه الاشكال على الدليل الأول. فاللازم هو ملاحظة العلم الاجمالي الكبير
والعمل بما يقتضيه حكم العقل بالنسبة إليه (2).
وأورد عليه في الكفاية بما تقدم من: ان العلم الاجمالي الكبير يحتمل أن يكون
المعلوم به منطبقا على المعلوم بالعلم الاجمالي الصغير، ولذا لو علم بما هو
الصادر من بين الاخبار المخصوصة انحل العلم الاجمالي الحاصل بين جميع
الاخبار.
وعليه، فيكون العلم الاجمالي الصغير موجبا لانحلال العلم الكبير (3).
ولا يخفى ان دعوى الانحلال تتوقف على أن يكون المعلوم بالاجمال
الصغير بقدر الكفاية بحيث لا يعلم بوجود اجزاء اخر أو شرائط في ضمن غيرها
من الاخبار، كما أشار إلى ذلك في الكفاية. وهذا أمر وجداني يختلف باختلاف
الانظار. فالتفت.
الثاني: ان مقتضى هذا الوجه هو لزوم العمل بالخبر المثبت للجزئية أو
الشرطية دون النافي لهما.
وذكر صاحب الكفاية: أن الأولى الايراد عليه، بان مقتضاه الاحتياط

(1) الوافية / 57.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 105 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 306 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
316

بالعمل بالاخبار المثبتة إذا لم يقم على خلافها دليل معتبر من عموم أو إطلاق (1)،
وليس مقتضاه حجية الخبر بالمعنى المرغوب بحيث يكون صالحا لمصادمة دليل
آخر على خلافه فيقيده أو يخصصه أو غير ذلك. كما لا يجوز العمل بالخبر النافي
إذا كان في قباله دليل على الجزئية أو الشرطية ولو كان ذلك الدليل أصلا عمليا،
إذ لا يثبت هذا الوجه حجية الخبر بنحو يرفع موضوع الأصل، بل العمل به
من باب الاحتياط وهو لا يتصور في موارد النفي.
وما ذكره صاحب الكفاية متين جدا فلا بأس بالالتزام به.
الوجه الثالث: ما نسب إلى المحقق التقي صاحب الحاشية على المعالم (2).
وملخص ما أفاده (قدس سره) - كما ذكره صاحب الكفاية -: انا نقطع بأننا
مكلفون بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلى يوم القيامة ولزوم العمل بهما. فإن تمكنا
من الرجوع إليهما بنحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه تعين ذلك، وإلا فلا
محيص عن الرجوع إلى الظن بالصدور أو بالاعتبار (3).
وناقشه الشيخ (رحمه الله) بما محصله: ان المراد بالسنة إن كان نفس قول
المعصوم وفعله وتقريره، فلزوم الرجوع إليها لا يختص بما إذا ثبتت بالخبر، بل
بكل طريق من الطرق، فإذا لم يمكن العلم بها تعين الرجوع إلى كل ما يحصل
الظن بها خبرا كان أو غيره من الامارات الظنية، فيكون مرجع ما ذكره إلى دليل
الانسداد. وان كان المراد بالسنة الاخبار الحاكية عن قول المعصوم أو فعله أو
تقريره، فهو مضافا إلى أنه خلاف الاصطلاح، راجع إلى الوجه الأول، إذ العلم
* (هامش) (1) والوجه فيه: ما يقرر في مبحث العلم الاجمالي من انه إذا قام على بعض أطرافه بالخصوص دليل جاز
العمل به ولو كان ذلك الدليل من الأصول العملية، ولا يقتضي العلم الاجمالي نفيه، وسيأتي توضيحه
في محله انشاء الله تعالى (منه عفي عنه).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. هداية المسترشدين / 397 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 306 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع). (*)
317

بلزوم الرجوع إلى الاخبار ولو لم يحصل العلم منها برأي المعصوم (عليه السلام)
انما هو لاجل العلم الاجمالي بصدور بعضها فيرجع إلى الوجه الأول، وإذا كان
منشؤه العلم الاجمالي بمطابقة بعضها للاحكام الواقعية رجع هذا الوجه إلى دليل
الانسداد.
وخلاصة المناقشة: انه على تقدير يرجع إلى دليل الانسداد، وعلى تقدير
آخر يرجع إلى الوجه الأول، فليس هو وجها مستقلا في قبال الوجوه
الأخرى (1).
واستشكل صاحب الكفاية فيما ذكره الشيخ: بان مراده يمكن أن يكون
شقا ثالثا لا يرجع كلامه معه لا إلى دليل الانسداد ولا إلى الوجه الأول، وهو
ثبوت العلم الاجمالي بلزوم الرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة.
وبعبارة أخرى: ثبوت العلم الاجمالي بحجية بعض الروايات من دون تمييز،
فينفصل كلامه عن دليل الانسداد وعن الدليل الأول كما لا يخفى.
وقد تنظر صاحب الكفاية فيه - ونعم التنظر -: بان مقتضى هذا العلم
الاجمالي ليس الرجوع إلى الظن، بل لزوم الرجوع إلى ما هو متيقن الاعتبار
من بين الاخبار - لوجوده بينها جزما كالصحيح الاعلائي مثلا -، فان وفي انحل
به العلم الاجمالي. وإلا أضيف إليه متيقن الاعتبار بالإضافة إلى غيره كخبر
الثقة مثلا بالإضافة إلى الضعيف، إذا كان هناك متيقن بالإضافة وبه ينحل العلم
الاجمالي، ولو لم يكن متيقن بالإضافة، فاللازم الاحتياط بالعمل بالخبر المثبت
إذا لم يقم على خلافه دليل، إذ لا ينهض هذا الوجه على اثبات حجية الخبر
بالمعنى المرغوب المطلوب، بل ينهض على لزوم العمل به من باب الاحتياط فلا
يصادم الدليل على خلافه. واما الخبر النافي فيجوز العمل به إذا لم يقم على

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 105 - الطبعة الأولى.
318

خلافه دليل على ما عرفت (1).
ونتيجة ذلك كله: انه لا دليل من العقل يقضي بحجية الخبر بالخصوص
بحيث يصادم سائر الحجج المعتبرة، فالوجوه العقلية كغيرها من وجوه الاستدلال
على حجية الخبر.
ويتحصل لدينا: انه لا دليل على حجية الخبر بالخصوص.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول: 307 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
319

" حجية مطلق الظن "
ويقع الكلام بعد ذلك في حجية مطلق الظن.
وقد ذكر لاثباتها وجوه:
الوجه الأول: ان الظن بالتكليف يلازم الظن بالضرر على مخالفته، ودفع
الضرر المظنون لازم.
أما الصغرى، فلان مخالفة التكليف تستلزم العقوبة، كما تستلزم الوقوع
في المفسدة بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد، فالظن بالتكليف ملازم
للظن بالعقوبة والمفسدة في مخالفته.
وأما الكبرى، فلحكم العقل بدفع الضرر المظنون، وحكمه بذلك لا
يستند إلى حكمه بالحسن والقبح، بل مع انكار التحسين والتقبيح العقليين يلتزم
بثبوت لزوم دفع الضرر المظنون، إذ لا ينكر الأشعري - المنكر للحسن والقبح -
بان العاقل بما هو عاقل له التزامات خاصة في أعماله ولا تصدر منه اعمال
سفهية، فهو لا ينكر ان العاقل لا يقدم على مظنون الضرر.
واستشكل صاحب الكفاية (1) في هذا الوجه بمنع الصغرى، فذهب إلى
* الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 308 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
321

ان الظن بالتكليف لا يستلزم الظن بالضرر على مخالفته.
أما العقوبة، فلانها لا تترتب على مجرد مخالفة التكليف الواقعي، بل هي
تترتب على المعصية، وهي لا تحقق إلا إذا كان التكليف منجزا عقلا. إذن فالظن
بالتكليف لا يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته.
ثم ذكر أنه قد يقال: إن العقل كما لا يستقل بتنجز التكليف بمجرد الظن
به لا يستقل بعدم العقاب على مخالفته، فتكون العقوبة محتملة، فيكون المورد
من موارد دفع الضرر المشكوك، ودعوى لزومه قريبة جدا.
ولكن هذا القول لو سلم، فهو يرجع إلى إنكار قاعدة قبح العقاب بلا
بيان، ولزوم الاحتياط لعدم المعذر، وهو أجنبي عن حجية الظن، بل هو قول
بلزوم الاحتياط. وهذا لم يذكره صاحب الكفاية.
وأما المفسدة، فلوجهين:
أحدهما: انكار لزوم تبعية الحكم للمصلحة أو المفسدة في متعلقه، بل
يمكن أن يكون تابعا لمصلحة فيه وهي تستوفى بمجرد الجعل.
والاخر: ان التكليف انما ينشأ عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه نوعية
لا شخصية، ولذا كانت بعض الواجبات تستلزم اضرارا شخصية، كالجهاد
والزكاة، كما أن بعض المحرمات تستلزم منافع شخصية، كالسرقة والغصب.
فلاحظ.
الوجه الثاني: انه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح
وهو بقبيح.
وأورد عليه: بأنه انما يتم لو فرض عدم قيام الحجة على خلاف الظن،
وفرض أيضا لزوم العمل وعدم جواز ترك العمل باجراء البراءة، وفرض أيضا
عدم امكان الجمع بين الاحتمالين أو عدم جوازه شرعا، فهذا الدليل يتوقف على
تمامية مقدمات الانسداد، وبدونها لا ينهض دليلا على حجية الظن، فيرجع إلى
322

دليل الانسداد.
الوجه الثالث: - ما عن السيد الطباطبائي (قدس سره) -: من انه لا
ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات، ومقتضى ذلك وجوب
الاحتياط بالاتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو موهوما، وترك ما يحتمل الحرمة
كذلك، ولكن مقتضى قاعدة نفي العسر والحرج عدم وجوب ذلك كله لأنه عسر
أكيد وحرج شديد، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج العمل
بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات لان الجمع على غير هذا
الوجه باطل اجماعا (1).
ويرد عليه: ان تمامية ما ذكر تبتنى على ضم مقدمات أخرى إليه، كانسداد
باب العلم والعلمي، وكعدم جواز الرجوع إلى الأصول العملية والتقليد. وإلا
فمع عدم الانسداد ينحل العلم الاجمالي، ولا يلزم الاحتياط إذا جاز الرجوع
إلى البراءة أو غيرها من الأصول. ومع ضميمة هذه المقدمات يرجع الدليل إلى
دليل الانسداد. فلاحظ.
الوجه الرابع: دليل الانسداد.
وقد ذكر في الكفاية: أنه مؤلف من مقدمات يستقل العقل مع تحققها
بكفاية الإطاعة الظنية - حكومة أو كشفا - وبدونها لا يستقل العقل بذلك، وهي
خمسة: الأولى: تحقق العلم الاجمالي بثبوت تكاليف فعلية في الشريعة.
الثانية: انسداد باب العلم والعلمي إلى كثير من هذه الأحكام.
الثالثة: عدم جواز إهمال الاحكام وعدم التعرض لامتثالها بالمرة.
الرابعة: عدم وجوب الاحتياط في أطراف العلم، بل عدم جوازه في

(1) كما في فرائد الأصول / 111 حكاية عن أستاذه شريف العلماء (قده).
323

الجملة، وعدم جواز الرجوع إلى الأصل في كل مسألة بملاحظتها بنفسها من
براءة أو احتياط أو تخيير أو استصحاب، وعدم جواز الرجوع إلى فتوى العالم
بحكم المسألة.
الخامسة: بما أن ترجيح المرجوح على الراجح قبيح، يستقل العقل حينئذ
بلزوم الإطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة بالاجمال، إذ لو نسلك هذا الطريق
بعد فرض انسداد باب العلم والعلمي، فاما ان نهمل الاحكام وهو ما نفي
بالمقدمة الثالثة. أو نرجع إلى الاحتياط التام أو الأصل في كل مسألة أو التقليد
فيها وهو ما نفي بالمقدمة الرابعة. أو الاكتفاء بالإطاعة الشكية والوهمية وهو ما
نفي بالمقدمة الخامسة. فالتفت.
هذا ما افاده صاحب الكفاية في بيان دليل الانسداد (1).
وقد ألفه الشيخ (رحمه الله) من مقدمات أربعة باسقاط مقدمية وجود
العلم الاجمالي بثبوت التكاليف الفعلية في الشريعة (2).
وصححه المحقق النائيني: بأن الغرض من هذه المقدمة إن كان العلم
بثبوت الشريعة وعدم نسخ أحكامها، فهو من البديهيات، نظير العلم بوجود
الشارع. وان كان المراد العلم الاجمالي بثبوت التكاليف في الوقائع المشتبهة، فهو
ليس من المقدمات، بل أحد الوجوه التي تبتني عليها المقدمة الثالثة - أعني عدم
جواز الاهمال - (3).
واستشكل المحقق الأصفهاني في حذف هذه المقدمة من قبل الشيخ
(رحمه الله): بان اسقاطها إن كان لاجل عدم المقدمية، فمن الواضح انه لولاها
لم يكن مجال للمقدمات الاخر إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع. وان كان

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 311 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 111. الطبعة الأولى.
(3) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 2 / 226 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
324

لوضوح هذه المقدمة لدلالة سائر المقدمات عليها، فمن الواضح ان وضوحها لا
يوجب عدم مقدميتها ولا الاستغناء بذكر الباقي عن ذكرها، وإلا كان بعضها
الآخر كذلك، بل بعضها أوضح، هذا تمام كلامه (1).
ولعل مقصوده من البعض الأوضح هو المقدمة الثالثة - بحساب صاحب
الكفاية -، فان عدم جواز إهمال الاحكام وعدم التعرض لامتثالها من
الواضحات التي لا تقبل الانكار كما سيجئ.
ولا يخفى عليك ان هذا الحديث بين الاعلام أشبه باللفظي، فان دخالة
وجود العلم الاجمالي بالاحكام و تأثيره في تمامية الدليل مما لا ينكر. انما البحث
في ذكره مقدمة بالاستقلال و عدم ذكره كذلك، بل استفادته من طي الكلام وهذا
المعنى ليس بمهم. ونستطيع ان نقول: ان الشيخ أخذ وجود العلم الاجمالي في
جملة المقدمات، إذ فرض وجود الواقعيات التي لا يجوز إهمال امتثالها وفرض
انسداد باب العلم والعلمي ملازم للعلم الاجمالي، ولولاه لما كان للمقدمات
الأخرى موضوع ومجال.
نعم، يختلف الشيخ عن صاحب الكفاية في أن تنبيهه على العلم الاجمالي
بالالتزام. بخلاف صاحب الكفاية فإنه نص عليه مطابقة وصريحا. والأمر سهل.
هذا، ولكن المحقق العراقي أعطى هذه الجهة من البحث أهمية، وذهب
إلى: ان أخذ العلم الاجمالي في جملة المقدمات ينتج ما لا ينتجه الغض عنه
وإهماله من المقدمات.
فذهب (رحمه الله) إلى: انه إذا فرض اخذ العلم الاجمالي كانت النتيجة
هي التبعيض في الاحتياط لا حجية الظن - حكومة أو كشفا -، بخلاف ما إذا
لم يؤخذ العلم الاجمالي، فان النتيجة هي حجية الظن لا التبعيض في الاحتياط.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 99 - الطبعة الأولى.
325

وقد أطال المقرر في بيان هذا المطلب، وملخص الذي ذكره في بيان عدم
إمكان الانتهاء إلى حجية الظن لو أخذ العلم الاجمالي بالتكليف في جملة
المقدمات، وانما النتيجة هي التبعيض في الاحتياط، هو: انه لو كانت النتيجة هي
حجية الظن لزم الوقوع في محذورين:
الأول: ان العلم الاجمالي منجز لأطرافه، فقيام الحجة على بعض أطرافه
محال لاستلزام ذلك تنجيز المنجز، مع أن المتنجز لا يتنجز ثانيا، فلا يمكن أن يكون
الظن حجة في أطراف العلم الاجمالي، إذ المتنجز لا يتنجز.
الثاني: ان الظن إذا كان حجة كان مستلزما لانحلال العلم الاجمالي
وارتفاعه، وهو مناف لفرض كونه مقدمة لحجية الظن، كما لا يخفى (1).
وهذان الوجهان مردودان، وذلك: لان المأخوذ مقدمة اما أنه يكون هو
العلم الاجمالي بوجوده التكويني بلا لحاظ منجزيته. أو يكون هو العلم الاجمالي
المنجز.
فعلى الأول: يتضح رد الوجه الأول من وجهي الاشكال اللذين ذكرهما، إذ
قيام الظن بما أنه منجز وحجة على أحد الأطراف لا يكون من تنجيز المنجز، إذ
لم يفرض التنجيز سابقا على الظن.
وأما الوجه الثاني، فيندفع:
أولا: بان قيام الحجة غير العلم يوجب انحلال العلم الاجمالي حكما لا
حقيقة فهو بعد على حاله.
وثانيا: لو سلم الانحلال الحقيقي بحيث لا يبقى للعلم الاجمالي بعد قيام
الظن عين ولا أثر، فهو لا ينافي مقدمية العلم الاجمالي إذا كان سبب استكشاف
حجية الظن هو العلم الاجمالي، نظير ما لو علم العبد أن عليه تكليفا ما، فكان

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 146 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
326

ذلك موجبا للفحص والتصدي إلى معرفته، فان حصول اليقين وإن كان يرفع
العلم الاجمالي السابق لكنه لا ينافي كونه مقدمة له بحيث لولاه لما حصل العلم
التفصيلي.
والسر في ذلك كله: ان العلم الاجمالي يفرض مقدمة بوجوده الحدوثي لا
الاستمراري فلا ينافي ذلك انحلاله بحجية الظن، لأنه مقدمة لحجية الظن
حدوثا لا بقاء.
وعلى الثاني: فالمراد لا بد أن يكون هو التنجيز بلحاظ المخالفة القطعية
لا بلحاظ الموافقة القطعية، إذ يلغو حينئذ فرض عدم جواز الاهمال مقدمة لأنه
مأخوذ في المقدمة الأولى كما يلغو أخذ المقدمة الثانية، لان المنجزية فرع انسداد
باب العلم والعلمي. فلا بد ان يراد التنجيز في الجملة ولو بلحاظ المخالفة
القطعية.
وهو لو سلم ولم يناقش فيه: بان المأخوذ ذات العلم الاجمالي بلا قد
التنجيز أصلا لعدم دخالته في النتيجة كما سيظهر في الكلام عن المقدمة الثالثة
- لو سلم ذلك - لم ينفع في تمامية الوجهين المذكورين..
اما الأول: فلان منجزية العلم الاجمالي بلحاظ حرمة المخالفة القطعية لا
تنافي قيام المنجز على أحد أطرافه المعين، لان كل طرف بعينه لم يتنجز بالعلم كما
لا يخفى.
وأما الثاني: فيندفع بما تقدم من أن العلم الاجمالي لا ينحل حقيقة، بل
ينحل حكما، وهو لا ينافي منجزية العلم الاجمالي في الجملة. وان العلم الاجمالي
لو فرض انحلاله حقيقة لم يضر ذلك في كونه مقدمة، لأنه مؤثر بوجوده
الحدوثي لا البقائي. فلاحظ.
والنتيجة: ان ما ذكره (قدس سره) غير تام، وقد عرفت ضرورة فرض
العلم بالاحكام، إذ بدونه لا موضوع لباقي المقدمات، كما هو واضح جدا. (*)
327

ثم إنه لا بأس بالتنبيه على شئ، وهو: بيان الفرق بين التبعيض في
الاحتياط وحجية الظن على الحكومة، حيث أنكره المحقق النائيني والتزم بان
معنى حجية الظن على الحكومة هو التبعيض في الاحتياط (1)، وقد أشار إلى ذلك
في بادئ الامر في البحث عن تعريف الأصول حول ما ذكره صاحب الكفاية
من القيد الزائد فيه (2).
والظاهر أن الفرق واضح، فان التبعيض في الاحتياط يرجع إلى العمل
بالظن في مقام افراغ الذمة عن التكليف المنجز بواسطة العلم الاجمالي. وبتعبير
آخر: هو متابعة العلم الاجمالي في بعض أطرافه وهو المظنونات خاصة.
أما حجية الظن، فهي ترجع إلى اثبات التكليف المجهول بواسطة الظن
وتنجزه على المكلف بطريقه. والأثر العملي يظهر في جواز الاسناد والاستناد بناء على حجية الظن
كسائر الحجج دون التبعيض في الاحتياط. كما يظهر في تقييد المطلقات
وتخصيص العمومات المثبتة للتكليف بالظن النافي له بناء على حجية الظن،
وليس كذلك بناء على التبعيض في الاحتياط.
نعم، هذا يتم لو فرض ان النتيجة هي العمل بالظن بقول مطلق حتى
الظن بعدم التكليف، وإلا لم تظهر الثمرة العملية من هذه الجهة كما لا يخفى.
ثم إنه لا يخفى ان ايقاع البحث في توجيه كون هذا الدليل عقليا وإطالة
الكلام في ذلك ليس بذي أهمية وأثر، فاغفال البحث عنه أولى. ويقع الكلام بعد
ذلك في اثبات أو نفي كل مقدمة مقدمة.
أما المقدمة الأولى: فقد ذكر في الكفاية بأنها وان كانت بديهية، لكن
عرفت انحلال العلم الاجمالي بما في الاخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 135 - 136 الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 28 - 29 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
328

(عليهم السلام) التي تكون فيما بأيدينا من الروايات الموجودة في الكتب
المعتبرة، ومعه لا موجب للاحتياط إلا في خصوص ما في الروايات، وهو غير
مستلزم للعسر، فضلا عما يوجب الاختلال ولم يقم الاجماع على عدم وجوبه لو
سلم قيام الاجماع على عدم وجوبه لو لم يكن انحلال (1).
ونظر صاحب الكفاية (قدس سره) إلى بيان انحلال العلم الاجمالي
الكبير بالعلم الاجمالي الصغير الذي تقدم تحقيقه في الوجه الأول العقلي المستدل
به على حجية خبر الواحد.
ولا يخفى ان المأخوذ في المقدمة الأولى هو العلم الاجمالي بوجوده
التكويني، كما تقدم تقريبه في مناقشة المحقق العراقي، وحينئذ فنفي هذه المقدمة
بوجود العلم الاجمالي الصغير المانع من تنجيز العلم الاجمالي الكبير ليس على
ما ينبغي، إذ لم يؤخذ التنجيز في المقدمة كي يكون نفيه نفيا للمقدمية، إلا أن
يكون مراد الكفاية تحديد دائرة المعلوم بالاجمال ومقداره لا نفي منجزية العلم
الكبير، بل بيان أن المعلوم بالاجمال له حد خاص كي يكون موضوعا للأبحاث
اللاحقة في سائر المقدمات.
ولا يخفى انه انما يتم إذا فرض انه يلتزم باستلزام العلم الاجمالي الصغير
انحلال العلم الاجمالي الكبير حقيقة لا حكما، وإلا فلا تتضيق دائرة المعلوم
بالاجمال بوجود العلم الصغير، وانما يرتفع تنجيزه وهو خارج عن محل البحث.
هذا، ولكن ما ذكرناه من التوجيه يتنافى مع ذيل كلامه من بيان لزوم
الاحتياط التام ومنجزية العلم الاجمالي. عين الاخبار، لان ظاهرة كون محط النظر
منجزية العلم الاجمالي. إلا أن يقال: ان بيان ذلك استطرادي واستعجال في بيان
نتيجة اختلاف المقدمة الأولى وتضييق دائرة المعلوم بالاجمال.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 312 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
329

وأما المقدمة الثانية: فهي بالنسبة إلى العلم لا تقبل الانكار بلحاظ
زماننا، فان كل من يطلع على فروع الفقه وأدلته يحصل له اليقين بعدم انفتاح
باب العلم فيه.
وأما بالنسبة إلى العلمي، فقد بنى الشيخ (رحمه الله) تماميتها على عدم
القول بحجية خبر الواحد الثقة. وإلا فمع الالتزام بحجية خبر الثقة لا تتم هذه
المقدمة لوفائه بمعظم الفقه (1). ومن هنا ذهب صاحب الكفاية إلى أنها غير ثابتة
لنهوض الأدلة على حجية خبر يوثق بصدقه - ويريد به الأعم من كون السبب
الوثاقة بالراوي أو الوثاقة بالصدور لاجل بعض القرائن -، وهو بحمد الله واف
بمعظم الفقه (2).
أقول: تقدم عدم تمامية الأدلة لاثبات حجية خبر الواحد إلا إذا أحرزت
وثاقته بالوجدان بحيث يحصل الوثوق والاطمئنان من خبره بصدور الحكم من
المعصوم (عليه السلام).
وهذا المعنى لم نتفرد به فقد قربه الشيخ في أواخر أدلة الحجية المتقدمة (3).
كما أنه قد يظهر من عبارة الكفاية في هذا المقام (4).
إذن، فنحن متفقون على حجية الخبر المفيد للاطمئنان الذي هو حجة
بلا كلام - بل عرفت فيما تقدم في بعض تحقيقاتنا ان حجيته على حد حجية
القطع (5).
لكن الاشكال في الصغرى، فهل لدينا من الاخبار التي يطمئن بصدورها

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 112 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 312 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 106 - الطبعة الأولى.
(4) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 312 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(5) راجع 4 / 186 من هذا الكتاب.
330

ما يفي بمعظم الفقه، كما يذهب إليه في الكفاية أو لا؟.
ولا يخفى ان ذلك يبتني على مزيد الفحص و السبر في الاخبار وأحوال
رواتها وحسن الظن في تعديلهم وتوثيقهم، وإلا فالأخذ بتوثيقهم من باب التعبد
لا ينفع في حصول الوثوق بالخبر، كما عرفت ذلك في البحث عن دلالة السنة
على حجية الخبر، فراجع.
إذن فنستطيع ان نقول - حيث ليس لدينا حسن الظن بالتعديل بالنحو
الذي ينفي احتمال اشتباه الموثق لدينا وانما نأخذ به من باب التعبد -: بان هذه
المقدمة - أعني انسداد باب العلم والعلمي - ثابتة تامة.
أما المقدمة الثالثة: فهي قطعية لا تقبل التشكيك. واستدل عليها
الشيخ بوجوه ثلاثة: الأول: الاجماع القطعي على عدم جواز إهمال امتثال الاحكام بالمرة
وصيرورتنا كالأطفال والمجانين.
وهذه المسألة لم تحرر في كتب الاعلام إلا أخيرا، فدعوى الاجماع تستند
إلى استفادة هذا الرأي من تصريحاتهم في بعض الموارد بحيث يقطع أنهم يقولون
به لو فرض انسداد باب العلم والعلمي عندهم.
الثاني: استلزام الاهمال للمخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بالخروج
عن الدين. ومن الواضح ان الخروج عن الدين مما يقطع بعدم جوازه شرعا.
الثالث: العلم الاجمالي المستلزم لتنجيز التكاليف المعلومة بين أطرافه، فلا
يجوز ترك جميع الأطراف لاستلزامه مخالفة العلم الاجمالي المنافية مع فرض
تنجيزه، مع غض النظر عن استلزام ذلك للخروج عن الدين (1).
وقد ذكر المحقق النائيني هذه الوجوه بعينها، والشئ الذي أراد ذكره،

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 112 - 115 - الطبعة الأولى.
331

هو: بيان اختلاف نتيجة دليل الانسداد باختلاف الوجوه. فإذا كان المستند لعدم
جواز الاهمال الوجهين الأولين كانت النتيجة حجية الظن. وإذا كان المستند هو
الوجه الأخير كانت النتيجة هي التبعيض في الاحتياط (1).
أما صاحب الكفاية، فقد استدل على هذه المقدمة بالوجهين الأولين، ولم
يستدل بالعلم الاجمالي لبنائه على انحلال العلم الاجمالي وعدم منجزيته لو جاز
أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه - كموارد الاضطرار إلى بعض الأطراف -،
ولم يلتزم بالتوسط في التنجيز كما التزم به غيره.
ومن هنا أورد على نفسه: بان العلم الاجمالي إذا لم يكن منجزا لم تصح
المؤاخذة على مخالفته، إذ العقاب حينئذ يكون بلا بيان والمؤاخذة عليها مؤاخذة
بلا برهان وذلك قبيح عقلا بلا كلام.
وأجاب عنه: بان العلم باهتمام الشارع بالأحكام الواقعية يكون كاشفا
بطريق اللم عن ايجاب الاحتياط من قبل الشارع، فيكون منجزا للواقع، وبه
يرتفع موضوع قبح العقاب بلا بيان، ويكون العقاب على المخالفة عقابا مع
البيان (2).
وقد يورد عليه:
أولا: بان ايجاب الاحتياط بوجوده الواقعي لا يصلح للبيانية والتنجيز،
وانما يكون كذلك بوجوده الواصل، وإذا فرض صلاحية العلم باهتمام الشارع
لايصال وجوب الاحتياط وكونه بيانا له، فهو صالح لبيان الواقع المجهول رأسا
بلا احتياج إلى توسيط وجوب الاحتياط.
وثانيا: أن إيجاب الاحتياط إن أريد به الاحتياط التام من جهة المخالفة

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 2 / 232 - 234. طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 312 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
332

القطعية والموافقة القطعية، فهو مناف لما يفرض في المقدمة الرابعة من عدم
وجوبه أو عدم جوازه على ما سيأتي. وان أريد به الاحتياط الناقص - يعني
الاحتياط من حيث المخالفة القطعية دون الموافقة القطعية -، فهو يتنافى مع
مسلكه من عدم امكان التفكيك بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة
القطعية، فإذا لم تجب هذه لم تحرم تلك (1).
وثالثا: ان فرض وجوب الاحتياط في هذه المقدمة يرفع موضوع المقدمة
الرابعة التي يقع البحث فيها في العمل بالاحتياط أو الرجوع إلى الأصول أو
التقليد، إذ لا يبقى مجال لذلك أصلا كما لا يخفى، لعدم الترديد في طرق الامتثال
حينئذ، وهذا خلف الفرض، فلا بد من فرض المقدمة الثالثة بنحو يفسح المجال
لسائر المقدمات لا بنحو يسد المجال عليها.
فالأولى أن يقال: ان مقتضى ما ذكر من الوجوه هو عدم جواز إهمال
امتثال الاحكام والرجوع إلى البراءة بقول مطلق، فالمقدمة الثالثة تتكفل اثبات
هذه الجهة فقط.
أما ما هو المرجع والطريق في مقام الامتثال، فهذا هو محل الكلام في
المقدمتين الأخيرتين.
والعمدة في هذه الايرادات هو الأخير. أما الايرادان الأولان، فهما قابلان
للمنع.
أما الأول: فلانه لا ملازمة بين صلاحية العلم بالاهتمام لبيان وجوب
الاحتياط وصلاحيته لبيان الواقع، إذ المدعى انه يوجب العلم بوجوب الاحتياط
مع أنه لا يوجب العلم بالواقع، فصلاحيته لايصال وجوب الاحتياط لاجل
سببيته للعلم به وهو ليس سببا للعلم بالواقع كما لا يخفى.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 100 - الطبعة الأولى.
333

وبعبارة أخرى: وصول وجوب الاحتياط بالعلم به المسبب عن العلم
بالاهتمام، ولا علم بالواقع - على الفرض - كي يكون منجزا بلا إيجاب
الاحتياط.
وأما الثاني: فلان صاحب الكفاية لا يلتزم بالتفكيك المزبور بلحاظ العلم
الاجمالي، بدعوى أن العلم الاجمالي إما أن يكون علة تامة للمنجزية، فكما تحرم
المخالفة القطعية تجب الموافقة القطعية. واما أن لا يكون علة تامة للتنجيز، فكما
لا تجب الموافقة القطعية لا تحرم المخالفة القطعية. أما إذا فرض عدم منجزية
العلم الاجمالي واستفيد وجوب الاحتياط من دليل خارجي، فالمتبع في مقدار
الاحتياط دليله، فقد يدل على الاحتياط التام وقد يدل على الاحتياط الناقص
والتفكيك بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية، كما التزم بلزوم الصلاة إلى جهة
واحدة فقط مع اشتباه القبلة لمساعدة بعض الأدلة، ولكن بشرط أن لا يعلم
خروج القبلة عن الجهة التي يصلي إليها، فالمخالفة القطعية محرمة مع عدم
وجوب الموافقة القطعية. فلاحظ والتفت.
وعلى كل، فالذي تفيده هذه المقدمة عدم جواز إهمال الواقعيات وعدم
التعرض لامتثالها رأسا.
وأما المقدمة الرابعة: فهي على ما عرفت تتكفل نفي الرجوع إلى
الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي. ونفي الرجوع إلى الأصل في كل مسألة
بملاحظتها نفسها ونفي الرجوع إلى فتوى المجتهد العالم بحكم المسألة.
فيقع الكلام في كل جهة من هذه الجهات..
أما الاحتياط التام: فإن كان يوجب اختلال النظام - والامر كذلك كما
يظهر من مراجعة كلام الشيخ في هذا المقام (1) -، فلا كلام في عدم وجوبه. واما

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 118 - الطبعة الأولى.
334

إذا كان يوجب العسر والحرج بلا اختلال في النظام، فقد يحتمل عدم وجوبه
استنادا إلى ما دل على نفي العسر والحرج.
ولكن صاحب الكفاية استشكل في ذلك، بل منعه، ابتناء على ما اختاره
في مفاد أدلة نفي الحرج ونفي الضرر (1).
وبيان ذلك: ان الاحتمالات في مفاد أدلة نفي الضرر ونفي الحرج متعددة،
وما يرتبط منها في المقام اثنان:
أحدهما: ما بنى عليه صاحب الكفاية من أنهما يتكفلان نفي الحكم عن
الموضوع الضرري أو الحرجي، فالمراد من الضرر والحرج الموضوع الضرري
والحرجي، فيقصد نفي الحكم عنهما بلسان نفيهما (2).
الآخر: ما ينسب إلى الشيخ من أنهما يتكفلان نفي الحكم الضرري
والحرجي، بمعنى الحكم الناشئ من قبله الضرر والحرج، فهما يتكفلان نفي
السبب بلسان نفي المسبب (3).
وعليه، فقد ذكر في الكفاية: انه بناء على ما اختاره في مفاد دليل نفي
الحرج لا يكون رافعا لوجوب الاحتياط العقلي. وذلك فان موضوع الحكم
الشرعي الواقعي لا يستلزم الحرج، ولذا لا يرتفع لو علم به، فلا ترفعه أدلة نفي
الحرج، وإنما المستلزم للحرج هو الاحتياط والجمع بين محتملات التكليف، وهو
ليس متعلقا لحكم شرعي بل عقلي، فلا يقبل الرفع شرعا.
أما بناء على المسلك الاخر، فأدلة نفي الحرج متكفلة لرفع الحكم
الشرعي الواقعي، لان العسر ينشأ من قبل التكاليف المجهولة فيرفعها دليل
نفي الحرج، وبرفعها لا يبقى مجال لقاعدة الاحتياط عقلا لارتفاع موضوعها.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 313 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 381 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 314 - الطبعة الأولى.
335

ثم ذكر صاحب الكفاية: أنه إذا التزم بتحكيم أدلة نفي الحرج في المقام
ورفع وجوب الاحتياط التام بواسطتها، لا وجه لدعوى استقلال العقل بلزوم
الاحتياط في بعض الأطراف، بل لا بد من دليل آخر شرعي يقوم عليه (1).
وهذا أيضا يبتني على ما التزم به في مبحث العلم الاجمالي من أنه إذا كان
هناك ما يمنع من تنجيزه التام - كالاضطرار إلى ارتكاب أو ترك بعض أطرافه
- سقط عن المنجزية بالمرة، فيجوز ارتكاب أو ترك الطرف الاخر غير المضطر
إليه (2). ولم يلتزم بالتوسط في التنجيز فيما نحن فيه كما ذهب إليه الشيخ (3) جمعا
بين قاعدة الاحتياط ومقتضى العلم الاجمالي وبين دليل نفي العسر والحرج.
وقد استشكل المحقق النائيني في عدم ارتفاع وجوب الاحتياط العقلي
إذا استلزم العسر والحرج، وقدم لذلك مقدمة طويلة ذكر انها لرفع شبهة غرست
في أذهان الطلاب منشؤها ما ذكره في الكفاية. وملخص ما استند إليه في تحقيق
الاشكال وجهان:
الأول: ان العسر والحرج كالاضطرار إلى بعض الأطراف، فكما أنه
موجب لعدم وجوب الاحتياط التام في جميع الأطراف كذلك العسر والحرج. فلا
يبتنى عدم وجوب الاحتياط التام على حكومة أدلة نفي الحرج على وجوب
الاحتياط شرعا.
الثاني: انه يمكن ان تكون أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على وجوب
الاحتياط العقلي. ببيان: ان وجوب الاحتياط الذي يحكم به العقل انما يحكم به
لاجل رعاية التكاليف الشرعية، فإذ كانت رعايتها في حال الانسداد مستلزمة
للعسر والحرج كانت أدلة نفيها مقتضية لعدم إلزام العقل بالاحتياط التام،

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 313 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 360 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 124 و 254 - الطبعة الأولى.
336

فتكون حكومتها على حكم العقل بالاحتياط من شؤون حكومتها على الأحكام الشرعية
، فان انتشار الأحكام الواقعية بين الأطراف الكثيرة ولزوم امتثالها هو
الذي استلزم الحرج، فهو ينتهي بالآخرة إلى الأحكام الشرعية (1).
وفي كلا الوجهين نظر:
أما الأول: فلما أفاده المحقق الأصفهاني من: ان القدرة لازمة في تنجز
التكليف، فإذا اضطر إلى أحد الأطراف اضطرارا عقليا يخرجه عن حد اختياره
امتنع تنجز التكليف في حقه لو كان فيما اضطر إليه، بل يحكم العقل بمعذوريته،
وهكذا الحال لو اضطر إلى غير معين، فان العقل يرخصه في اختيار أحد
الأطراف ويكون معذورا لو صادف الحرام. وليس كذلك العسر والحرج، فإنه
ليس من شرائط التكليف أو التنجيز عقلا، كما انها لا تستلزم رفع التكليف شرعا
لعدم كون متعلقه حرجيا، فلا يمتنع تنجز العلم الاجمالي إذا كان الاحتياط
حرجيا (2). وأما الثاني: فلان المقصود منه بيان ان أدلة نفي الحرج ترفع الحكم
الناشئ من قبله الحرج، فهو ليس اشكالا على صاحب الكفاية، لأنه خلاف
مبناه، وقد أشار إلى المبنى الاخر الملازم لحكومة أدلة نفي الحرج على قاعدة
الاحتياط، فليس أمرا جديدا.
وإن كان المقصود منه بيان انها رافعة لوجوب الاحتياط حتى على مسلك
صاحب الكفاية في مفادها. ففيه: ما عرفت أن ما يستلزم العسر هو الاحتياط
وهو ليس موضوعا لحكم شرعي كي يقبل الرفع شرعا.
إلا أن يكون نظره إلى أن وجوب الاحتياط وان كان عقليا لكنه ناشئ

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 2 / 254 - 255. طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 101 - الطبعة الأولى.
337

عما يقبل الرفع، لأنه لاجل مراعاة الأحكام الواقعية، وذلك يصحح رفع وجوب
الاحتياط من قبل الشارع.
ولكن ذلك غير صحيح، لان ما كان ذلك انما يصح رفعه ووضعه برفع
منشئه ووضعه لا برفعه ووضعه مباشرة. لعدم قابليته للرفع الا بلحاظ رفع منشئة.
والمفروض ان أدلة نفي الحرج لا تتكفل رفع الأحكام الواقعية لعدم العسر في
متعلقاتها فيبقى وجوب الاحتياط على حاله.
هذا، ولكن الذي يرد على صاحب الكفاية: ان ما التزم به في مفاد هذه
الأدلة له مجال في مثل: " لا ضرر " ونحوها مما كان بهذا التركيب، ولكن نفي الحرج
لم يرد بهذا اللسان أصلا، وإنما ظاهر دليله مثل قوله تعالى: (وما جعل عليكم
في الدين من حرج) (1) ان المرفوع نفي الحكم الحرجي، فان: " من حرج "
راجعة إلى ما تعلق به الجعل، فقد اخذ وصفا للمجعول وبيانا له. إذن، فلو سلمنا
لصاحب الكفاية مبناه في مثل دليل نفي الضرر فلا نسلمه في دليل نفي الحرج،
لاختلاف لسان الرفع فيهما، فلا مجال لعطف أحدهما عل الاخر. فالتفت.
هذا، ولكن الالتزام بذلك لا ينفع في رفع وجوب الاحتياط بدليل نفي
الحرج - وان قاله صاحب الكفاية على ما تقدم -، وذلك لوجهين ذكرهما المحقق
الأصفهاني:
الأول: ان العسر والحرج ليس في امتثال التكليف كي يكون التكليف
مرفوعا لكونه سببا للامتثال الحرجي، وانما هو في تحصيل العلم بامتثال التكليف
بالجمع بين محتملاته، وهو ليس من مقتضيات التكليف، وانما هو واجب دفع الضرر
المحتمل.

(1) سورة الحج الآية: 78.
338

الثاني: انه لو التزم بتحكيم أدلة نفي الحرج في مورد يكون العلم بامتثال
التكليف مستلزما للحرج، فما نحن فيه ليس كذلك، لأن كل تكليف في حد نفسه
لا حرج في الجمع بين محتملاته في مقام تحصيل العلم بامتثاله، وانما الحرج في
الجمع بين محتملات مجموع التكاليف وهو ليس من مقتضيات تكليف وحداني،
إذ كل تكليف انما يقتضي الجمع بين محتملاته خاصة لا الجمع بينها وبين محتملات
غيره، وليس مجموع التكاليف تكليفا وحدانيا كي يرتفع لاجل الحرج في الجمع
بين محتملاته، بل حاله حال تكاليف متعددة كان الحرج في امتثال مجموعها - كما
لو عسر عليه صيام شهر رمضان كله -، فإنه لا ترتفع جميع التكاليف بأسرها،
بل اللازم امتثال كل واحد حتى يتحقق العسر فيسقط الباقي. فلاحظ (1).
ولا يخفى عليك ان المناقشة في حكومة دليل نفي الحرج على وجوب
الاحتياط ليست بمهمة جدا، إذ الاحتياط التام يستلزم اختلال النظام - كما
أشرنا إليه -، ومع ذلك يسقط وجوبه بلا شبهة ولا اشكال. وإنما تعرضنا لتفصيل
بعض الكلام في ذلك مماشاة للاعلام (قدس سرهم)، فالتفت.
وأما ما أفاده في الكفاية من: انه لو التزم بتحكيم أدلة نفي الحرج ونفي
وجوب الاحتياط التام بها، فلا مجال للالتزام بلزوم الاحتياط في بعض الأطراف.
فقد عرفت أنه يبتني عليه مسلكه القائل بعدم التوسط في التنجيز - خلافا للشيخ -،
وهو محل كلام بين الاعلام، ونوكل تحقيقه إلى محله في مباحث العلم
الاجمالي (2).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 101 - الطبعة الأولى.
(2) راجع 5 / 126 من هذا الكتاب.
339

تنبيه: في قاعدة نفي الحرج:
الملحوظ من كلمات الاعلام ههنا وفي غير مقام، المفروغية عن تمامية
قاعدة نفي الحرج والعسر اثباتا، وانه لا كلام لهم فيها، وإنما يقع البحث في
لوازمها وشئونها.
ولكن الامر الذي كان يجول في أذهاننا وتحقق لنا أخيرا، أن هذه القاعدة
بهذا اللسان لا دليل عليها وإن كانت من الأمور المسلمة لدى الفقهاء.
وبما أنه لم يعقد لها في مباحث الأصول والفقه عنوان خاص لايقاع
البحث فيها وإنما يشار إليها في بعض المباحث استطرادا، رأينا من المناسب
التعرض لها في هذا المقام لورود ذكرها فيه ووقوع البحث عن تحكيمها وعدمه.
وتحقيق ذلك: ان ما يمكن الاستدلال به على ثبوت هذه القاعدة هو
الكتاب، والسنة، والاجماع.
ولكن الأخير لا يصلح للاعتماد عليه في مثل هذه المسألة، ولوجود ما
يمكن ان يستند إليه الفقهاء في فتواهم، فلا يكون الاجماع تعبديا.
يبقى الكتاب والسنة:
أما الكتاب: فما يستدل به على هذا المضمون - أعني نفي العسر والحرج -
آيات ثلاث:
الأولى: قوله تعالى في سورة المائدة في آية الوضوء والغسل والتيمم: (ما
يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم
لعلكم تشكرون) (1). ومركز الاستدلال هو قوله تعالى: (ما يريد الله ليجعل

(1) سورة المائدة، الآية: 6.
340

عليكم من حرج) وجه الاستدلال بها واضح لظهورها في نفي الحرج فيما
يجعله الله تعالى.
وتحقيق الكلام في ذلك: إن صدر الآية الكريمة قوله تعالى: (يا ايها
الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق
وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين وان كنتم جنبا فاطهروا وان كنتم
مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم
تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد
الله)، وهي بحسب ظاهرها تتكفل بيان جهتين: أحداهما سلبية، وهي نفي وجوب
الوضوء والغسل عند عدم وجدان الماء. والأخرى ثبوتية، وهي اثبات وجوب
التيمم في هذا الحال. والفقرة المستدل بها على القاعدة ذكرت بمنزلة قاعدة
كلية أريد تطبيقها فيما نحن فيه. فمن المحتمل - بدوا ومع قطع النظر عن صدر
الآية وذيلها -..
ان تكون مرتبطة بالجهة السلبية، فتدل على نفي الحرج بقول مطلق وهو
المدعى.
وأن تكون مرتبطة بالجهة الثبوتية، فلا تدل على المدعى، بل الذي تدل
عليه حيئنذ ان ما جعلته عليكم من وجوب التيمم أو وجوب الوضوء والغسل
ووجوب التيمم عند عدم وجدان الماء لم يكن الغرض منه والداعي لهو الايقاع
في الحرج، بل الداعي له غاية أخرى شريفة تستدعي الجعل ولو استلزم الحرج.
ومن الواضح أنها على هذا الوجه لا تدل على القاعدة بالمرة، لأنها ليست في مقام
نفي الحكم الحرجي، بل في مقام تبرير جعل الاحكام الحرجية وأنه لغاية شريفة
تدعو إلى ذلك.
والذي نراه أن الآية الكريمة ترتبط بالجهة الثبوتية دون السلبية - لو
سلم ظهورها في حد نفسها في ارتباطها بالجهة السلبية -، وذلك لوجوه:
341

الأول: ان وجوب الوضوء، مرتفع قهرا، لان عدم وجدان الماء يسلب
القدرة فلا يصح التكليف به، فلا معنى لبيان ارتفاعه بعدم جعل الحرج ورفعه.
الثاني: ان الاستدراك الذي يتضمنه قوله تعالى: (ولكن يريد
ليطهركم) ظاهر فيما ندعيه، إذ هو اثبات لما نفي بقوله: (وما يريد الله ليجعل
عليكم من حرج)، ومقتضى الظهور أن يكون النفي والاثبات واردين على
موضوع واحد ومرتبطين بجهة واحدة. ومن الواضح انه لو كان المراد من الآية
نفي وجوب الوضوء لاجل الحرج لم يكن معنى للاستدراك أصلا لأنه لا يرتبط
بالنفي بالمرة، بخلاف ما لو كان المراد ما ادعيناه فإنه يكون الاستدراك لبيان
الغاية الشريفة التي دعت إلى جعل هذه الأحكام المشتملة على الكلفة، أو
خصوص التيمم بلحاظ ان إمساس الوجه واليد بالتراب مما قد يكون شاقا من
الجهة النفسية على الطبع. فيكون المراد - والله العالم -، انه ليس الغرض من
جعل هذه الأحكام هو ايقاعكم في الحرج، بل الغرض تطهيركم من الحدث.
فيكون النفي والاثبات مرتبطين بجهة واحدة.
ومثل هذا الاستعمال شائع في العرف وكثير، فإنه كثيرا ما يقول القائل
لاخر عندما يطلب منه شيئا ذا مشقة، إني لا أريد ان أتعبك وليس غرضي
ايذائك ولكن الجهة الكذائية دعتني إلى هذا التكليف والطلب. فحين يأمر الوالد
ولده الصغير ان يذهب إلى المربي الذي هو شاق على أكثر الأطفال، يقول له
انه ليس غرضي ايذائك ولكن غرضي تأديبك وتعليمك ليحصل لك الرقي، إلى
غير ذلك من الدواعي الحسنة.
وبالجملة: هذا الاستدراك قرينة صريحة على ما نذهب إليه. فالتفت.
الثالث: إن قاعدة نفي العسر والحرج على تقدير استفادتها لا نظر لها
إلى الحكم الوارد مورد الحرج كالجهاد، كما لا نظر لها إلى الحكم المقيد بعدم
الحرج، فإنها تتكفل نفي مثل هذين الحكمين، إذ دليل الأول مخصص للقاعدة.
342

والثاني مرتفع بعدم موضوعه، فلا حاجة إلى دليل نفي الحرج، وهذا نظير ما يقال
من أن دليل رفع الخطأ لا يتكفل رفع الحكم المختص بحال الخطأ - ككفارة قتل
الخطأ -، ولا رفع الحكم المختص بحال العمد - ككفارة قتل العمد، أو الافطار
العمدي -، لارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه لا بدليل رفع الخطأ.
وإنما الذي تتكفله هذه القواعد هو رفع الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها
الأولية - بحسب أدلتها -، بحيث لا خصوصية للعمد والخطأ ولا للحرج وعدمه
في ثبوتها.
وعليه، نقول: ان الفقهاء حملوا عدم وجدان الماء المأخوذ في موضوع
وجوب التيمم في الآية على الأعم من عدم الوجدان العقلي والعرفي الذي يتحقق
بما إذا كان استعمال الماء حرجيا. كما استظهروا من الآية الكريمة أخذ الوجدان
في موضوع وجوب الوضوء، ويراد به الوجدان العرفي، يعني عدم العسر والمشقة
في استعمال الماء، فوجوب الوضوء مقيد بعدم تحقق الحرج به، فبناء على هذا
الاستظهار المشهور بين الفقهاء لا يكون مجال لتطبيق قاعدة نفي الحرج على
نفي وجوب الوضوء، لان ارتفاع وجوب الوضوء عند تحقق الحرج بارتفاع
موضوعه، وهو عدم الحرج، ولا يحتاج في بيان نفيه إلى تطبيق القاعدة، نظير عدم
شمول رفع الخطأ للحكم الثابت في مورد العمد وعدم الخطأ. فلاحظ.
الثانية: قوله تعالى في سورة البقرة في آية الصوم: (يريد الله بكم اليسر
ولا يريد بكم العسر) (1). وجهة الاستدلال بها واضحة.
والتحقيق: أن صدر الآية هو قوله تعالى: (شهر رمضان الذي انزل فيه
القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه
ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر يريد)، وبعدها قوله تعالى:

(1) سورة البقرة، الآية: 185.
343

(ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)
ولا يخفى ان الصدر اشتمل على جهتين: سلبية، وهي نفي وجوب الصوم
عن المريض والمسافر. وايجابية، وهي اثبات وجوبه في عدة من أيام اخر.
وقوله: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) يحتمل ارتباطه بجهة
السلب، فتكون دالة على القاعدة المدعاة وان كل حكم يستلزم العسر مرفوع.
كما يحتمل ارتباطه بجهة الايجاب، وانها في مقام بيان انه لم يجعل عليكم الصوم
في عدة من أيام اخر لاجل العسر، ولكن لغاية أخرى شريفة، ولعل الذي يشهد
لذلك - لو لم ندع ظهورها فيه بملاحظة الصدر، وانه سبحانه في مقام تبرير جعل
الصوم في أيام اخر وعلى عدم رفعه بالكلية قوله: (ولتكملوا العدة)، فإنه
ظاهر في تعليل جعله في الأيام الاخر، كما أن قوله: (ولتكبروا على ما هداكم)
انما يتناسب مع جعل الحكم وتشريعه لا مع سلبه ورفعه كما لا يخفى.
هذا، مع أن رفع الصوم عن المسافر لا ينحصر بموارد الحرج في الصوم،
بل صريح النصوص الكثيرة (1) وما عليه الفقهاء ومذهب الشيعة هو أن الصوم
مرفوع عن المسافر مطلقا استلزم الحرج أم لم يستلزم، بل الامر كذلك في المرض
الرافع للصوم، فإنه لا يعتبر أن يكون الصوم حرجيا، بل يكفي احتمال الضرر
ولو لم يلتفت إليه الانسان إلا بعد حين، بحيث لا تكون مباشرة الصوم حرجية.
وهذا يتنافى مع تطبيق الآية على الجهة السلبية والحكم السلبي، إذ هو أعم
من الحرج، ولو سلم نظر الآية إلى جهة السلب، فذلك يكون قرينة على أن
المراد بالآية بيان حكمة الرفع وهو العسر النوعي لا علته، فلا يستفاد منها
قاعدة كلية تفيد نفي الحكم الحرجي.
ولو تنزلنا عن جميع ذلك وقلنا بان الآية ناظرة إلى نفي الحكم الحرجي،

(1) وسائل الشيعة 7 / باب: 1 من أبواب من يصح منه الصوم.
344

فلا إطلاق في الآية بحيث يستفاد منها قاعدة كلية في جميع الموارد، فتختص برفع
الصوم عن المسافر والمريض، وان الله سبحانه يريد اليسر في هذا المورد
بالخصوص. فتدبر.
الثالثة: قوله تعالى في سورة الحج: (يا ايها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا
واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون. وجاهدوا في الله حق جهاده هو
اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم
المسلمين من قبل) (1). وما يستدل به منها قوله تعالى: (وما جعل عليكم
في الدين من حرج) ووجه الاستدلال به واضح لا يحتاج إلى بيان.
والتحقيق فيها: انه يحتمل أن يكون المراد منها ما قيل من نفي الحكم
المستلزم للحرج ورفعه عن المكلفين.
ويحتمل ان يراد منها ما ذكرناه في سابقتيها من أنها لبيان ان الغرض من
الاحكام ليس جهة الحرج، وإنما الغايات المهمة الشريفة المترتبة عليها.
ولو سلمت انها في حد نفسها ظاهرة في الأول، فلا بد من رفع اليد عن
ذلك، لأنها واردة في الجهاد، وهو من أظهر مصاديق الحرج، سواء أريد به جهاد
الكفار أو جهاد النفس. وقد عرفت أن مثل هذا الحكم لا يرتفع بدليل نفي
الحرج لو ثبتت قاعدته، كما لا يرتفع وجوب سجدتي السهو برفع النسيان.
وعليه، فلا يمكن ان يراد بالآية نفي الحكم الحرجي، وإلا للزم خروج
موردها، وهو مستهجن، فتحمل على ما احتملناه من أنها لبيان تبرير جعل هذه الأحكام
المشتملة على الكلفة بخصوصياتها أو بمجموعها، وانه ليس المقصود
ايقاع المكلفين في الحرج والمشقة، بل المقصود ايصالهم إلى المصالح المجهولة
لديهم.

(1) سورة الحج، الآية: 77 و 78.
345

ويؤكد ذلك تعقيب الآية الشريفة بقوله: (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم
المسلمين من قبل)، فإنه يتناسب مع مقام الترغيب في امتثال هذه الأحكام ولو
كانت حرجية، وتبرير جعلها إذ هي مجعولة من قبل وهي ملة إبراهيم الحنيف
الذي كانت العرب تكن له الآجال والحب، فإنه يقرب اطاعتها في النفوس.
ولا يتناسب مع رفع الاحكام بواسطة الحرج، فان مثل ذلك لا يحتاج إلى مزيد
تعليل وترغيب، لأنه مما تقبله النفوس وتتقبله الأطباع.
هذا، ولكن يمكن ان يستظهر من الآية الشريفة بملاحظة الصدر والذيل
معنى آخر، وهو: أن الله سبحانه وتعالى أمر أولا بالركوع والسجود وعبادته وفعل
الخير، ثم أمر بالمجاهدة في امتثال هذه الأحكام وعدم التواني فيها واتيانه على
أصوله، فان ما جعله الله سبحانه ليس بحرجي، بل شريعة سهلة سمحة وهي
ملة إبراهيم. فلا نظر في الآية الكريمة إلى نفي الحكم الثابت بمقتضى دليله إذا
كان مستلزما للحرج، بل نظرها إلى بيان ان دين الله سبحانه المجعول فعلا واسع
سهل ليس بحرجي، في قبال بعض الأديان السابقة التي كانت تتضمن الاحكام
الشاقة التي يعسر تحملها.
إذن فلا دلالة لها على المدعى.
فان قلت: الوجه الأخير يكفي في استفادة نفي الحكم في مورد الحرج،
وذلك لان جعله في مورد الحرج يتنافى مع المدلول المطابقي للآية، وهي كون
الشريعة الاسلامية سهلة لا ضيق فيها، فنفي الحكم الحرجي يكون بالملازمة لا
بالمدلول المطابقي كما هو مقتضي الاستظهار الأول.
قلت: بما انا نعلم بورود احكام في الشريعة في خصوص موارد الحرج
كموارد الجهاد، بحيث لا يمكن الالتزام بارتفاعها في مورد الحرج، فيدور الامر
في عموم الآية بين حمله على بيان عدم الحرج في الدين بلحاظ نوع احكامه
وغالب تشريعاته بحسب غالب الموارد، بحيث لا يتنافى مع ثبوت بعض
346

التشريعات في موارد الحرج. وبين حمله على العموم الافرادي الذي يستتبع
الحكم الحرجي وتخصيصه بالموارد التي يقوم الدليل فيها على ثبوت الحكم
الحرجي بالخصوص، ولازم ذلك تحقق التعارض بينه وبين ما يدل على ثبوت
الحكم مطلقا في موارد الحرج وغيرها تعارض العامين من وجه.
ولو لم نستظهر من نفس لحن الآية الكريمة - ولو بملاحظة موردها لو
أريد منه الجهاد المصطلح لا الجهاد في امتثال الأحكام - أنها واردة لبيان عدم
الحرج بلحاظ النوع لا كل حكم حكم، فلا أقل من إجمالها وعدم ظهورها في
أحد الاحتمالين، ومعه لا ظهور للآية الكريمة في المدعى. فتدبر جيدا.
والذي يتحصل: انه لا دلالة للآيات الكريمة على قاعدة نفي العسر
والحرج كما ادعي.
وأما السنة الشريفة: فعمدتها ما ورد فيها تطبيق الآية الأخيرة
والاستشهاد بها بنحو لا يظهر منها أكثر مما استظهرناه منها أخيرا من تكفلها
بيان سهولة الدين وعدم الضيق فيه. وقد عرفت أن هذا لا ينفع في اثبات
المدعى.
واليك بعض هذه النصوص:
منها: رواية أبي بصير قال: " قلت لأبي عبد الله: انا نسافر، فربما بلينا
بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية فيكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي
وتبول فيه الدابة وتروث؟. فقال: ان عرض في قلبك شئ فقل هكذا (يعني
أفرج الماء بيدك) ثم توضأ فان الدين ليس بمضيق فان الله سبحانه يقول: (ما
جعل عليكم في الدين من حرج).. " (1).
ولا يخفى ان الامر الذي بينه (ع) هو طهارة الغدير وجواز الوضوء منه

(1) وسائل الشيعة 1 / باب: 9 من أبواب الماء المطلق، حديث: 14.
347

لرفع ما يمكن ان يقع في قلب السائل من الاستقذار. ثم علل ذلك ب‍: " ان
الدين ليس بمضيق ان الله... ". ومن الواضح انه بيان لجعل هذه الأحكام
وان الشريعة سهلة لا ضيق فيها كما قد يتخيل. فليس في تطبيق الآية نظر الا إلى
ذلك لا إلى نفي حكم حرجي.
وهذا لا يختلف عن ظاهر الآية الأولى على ما عرفت.
ومنها: رواية الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (ع): " في الرجل يغتسل
فينتضح من الماء في الاناء؟. فقال: لا بأس (ما جعل عليكم في الدين من
حرج).. " (1).
وهذا الرواية كسابقتها، فان السائل يحتمل أن يؤثر اختلاط الماء بما
استعمل في رفع الحدث الأكبر موجبا لعدم صحة الغسل منه، فنفاه الإمام (ع)
وبين انه لا بأس بالغسل منه، إما لعدم مانعيته أو لعدم مانعية اختلاط هذا المقدار
القليل منه، ثم استشهد بالآية الشريفة. ومن الواضح ان نظر الإمام (ع) ليس
إلى رفع الحكم في مورد الحرج، بل إلى بيان عدم المانعية من رأس، وهو من
الاحكام السهلة التي بنيت الشريعة عليها.
وهكذا الكلام في غيرهما من النصوص فلاحظها في مظانها.
وخلاصة الكلام فيها: ان دليل نفي العسر والحرج يتكفل - لو سلم ثبوته -
رفع الاحكام التي يكون لها مقتضي الثبوت بلحاظ دليلها.
وفي موارد هذه النصوص ليس هناك حكم كذلك بحيث يتكفل النص
رفعه ويكون حاكما على دليله، بل هي تتكفل اثبات حكم سهل أو بيان عدم
ثبوت حكم متوهم الثبوت، ثم بيان ان ذلك مقتضى سهولة الدين وعدم الضيق
فيه، وهذا أجنبي عن رفع الحكم في مورد الحرج.

(1) وسائل الشيعة 1 / باب: 9 من الماء المضاف، حديث: 5.
348

فلا يستفاد من النصوص أزيد مما يستفاد من الآية في حد نفسها، ولو
أستدل ببعض النصوص الواردة في الصوم في السفر بأنه رفع لمكان الضرورة
لكان أولى من حيث الظهور في المدعى، لكن عرفت انها مما لا يعمل بها في
موردها للنصوص الدالة على أن الصوم في السفر ساقط ولو مع عدم الحرج،
فتحمل هذه النصوص على بيان الحكمة.
نعم، رواية عبد الأعلى مولى آل سام ظاهرة في رفع الحكم في مورد الحرج
وان المراد بالآية ذلك، وهي روايته عن الصادق (ع) قال: " قلت لأبي عبد
الله (ع): عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع
بالوضوء؟. قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل. قال الله تعالى:
(ما جعل عليكم في الدين من حرج) امسح عليه " (1).
ولكن هذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها، وذلك لان ما يستفاد من
كتاب الله سبحانه هو رفع المسح على البشرة. أما المسح على المرارة، فلا تتكفله
الآية الشريفة.
ودعوى: ان المسح الواجب يشتمل على جهتين: أصل المسح وهو إمرار
اليد، وكونه على البشرة، فإذا تعذر أو عسر كونه على البشرة فلا يسقط أصل
المسح.
تندفع: بان الظاهران الواجب واحد هو المسح على البشرة رأسا، لا
امران كما ادعي.
مع أن مقتضى وجوب المسح على البشرة الضمني ارتفاع الامر بالوضوء
بتعذر كونه على البشرة، لما ثبت في محله من أن رفع الامر الضمني يرفع الامر
بالكل، فمن أين نستفيد بقاء الامر بالوضوء والمسح على المرارة؟.
ودعوى: ان ذلك يستفاد من قاعدة الميسور المرتكزة في النفوس،

(1) وسائل الشيعة 1 / باب: 39 من أبواب الوضوء، حديث: 5.
349

فوجوب الضوء الناقص يعرف من كتاب الله بضميمة قاعدة الميسور.
تندفع: بان قاعدة الميسور لو سلمت، فهي إنما تتكفل تعلق الامر
بالباقي المتمكن منه هو لا تثبت أمرا بأمر زائد عليه أجنبي عنه. إذن فالمسح على
المرارة لا يستفاد من قاعدة الميسور، لأنه ليس من أجزاء الوضوء في حد نفسه.
هذا كله مع ضعف سند الرواية، فلا تصلح للاستناد إليها سندا ودلالة.
فتدبر.
ونتيجة ذلك: انه لا دليل على قاعدة نفي العسر والحرج بالمرة، فالتفت
ولا تغفل.
ونعود بعد ذلك إلى الكلام فيما نحن بصدده، وهو العلم بالاحتياط
الذي عرفت انكار صاحب الكفاية ارتفاع وجوبه بدليل نفي الحرج.
وقد نبه الشيخ (رحمه الله) ههنا (1) على أمر يتلخص في: انه لو بني على
نفي وجوب الاحتياط بالاجماع والعسر، فإنما ينفى به الاحتياط التام في مطلق
الاحتمالات المظنونة والمشكوكة والموهومة، أما لزوم الاحتياط الناقص بالمقدار
الذي لا يستلزم العسر فلا يرتفع.
وعليه، فيلزم الاحتياط في مظنونات التكليف ومشكوكاته لاندفاع العسر
بترك موهوماته.
ونتيجة ذلك: عدم الوصول إلى حجية الظن، إذ لازم حجيته الرجوع في
المورد الخالي عنه إلى الأصل المقرر في تلك الواقعة مع قطع النظر عن العلم
الاجمالي، وليس الحال كذلك على ما ذكرنا، إذ في المشكوكات لا بد من العمل
بالاحتياط، لعدم استلزام ضمها إلى المظنونات العسر والحرج.
وبالجملة: نتيجة رفع الاحتياط بواسطة العسر هو التبعيض في الاحتياط

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 124 - الطبعة الأولى.
350

بالنحو المذكور لا حجية الظن.
ثم أورد (قدس سره) أيضا: أن رفع الاحتياط بواسطة نفي العسر حيث
كانت نتيجته التبعيض في الاحتياط - ولو في خصوص المظنونات - لم يكن
مستلزما لحجية الظن بنحو ينهض لتخصيص العمومات الثابتة بالظنون الخاصة
ومخالفة سائر الظواهر الثابتة بها، لان العمل به من باب الاحتياط ومنجزية
العلم الاجمالي، وهو غير الحجية.
وقد أورد على نفسه: بأن ضم الاحتياط في المشكوكات إلى المظنونات
مستلزم للعسر أيضا.
وأجاب: بأنها دعوى خلاف الانصاف لقلة موارد الشك.
ثم احتمل دعوى الاجماع على عدم وجوبه في المشكوكات
وذكر: بأنها دعوى مشكلة جدا، وان تحقق الظن بها، لكن مجرد الظن لا
ينفع ما لم يصل إلى حد العلم.
ثم أوقع البحث في اثبات حجية مثل هذا الظن لأنه ظن بالطريق
وعدمها، تحت عنوان: " ان قلت " و: " قلت ". وفي بيان ذلك عبارتان إحداهما
منسوبة إلى السيد الشيرازي (قدس سره). وقيل إنه قرره عليها. وقد وقع
النقض والابرام فيهما بما لا يهمنا التعرض إليه، ونكتفي بمجرد الإشارة.
والذي يهمنا هو ما افاده أولا من: ان التبعيض في الاحتياط غير حجية
الظن، بنحو يعده اشكالا على تمامية مقدمات الانسداد واخلالا بها. فإنه يتنافى
مع ما يذهب إليه المحقق النائيني من: إن مرجع حجية الظن على الحكومة إلى
التبعيض في الاحتياط. فالتفت. وليكن هذا على ذكر منك حتى ينفعك عند
وصول الحديث عن نتيجة المقدمات.
ولا يخفى عليك: ان الالتزام بتبعيض الاحتياط يبتني - كما صرح به
(قدس سره) - على الالتزام بالتوسط في التنجيز الذي أنكره صاحب الكفاية،
351

كما أشرنا إليه آنفا. فنوكل الحكم بصحته وعدمها ليا ما سنحققه في تلك المسألة
في مباحث العلم الاجمالي. فانتظر.
هذا فيما يرتبط بالعمل الاحتياط.
وأما الرجوع إلى الأصول بحسب ما تقتضيه كل مسألة بحد ذاتها..
فالذي ذكره صاحب الكفاية من: انه لا مانع عقلا من العمل بالأصول
المثبتة من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف مع تمامية المقتضي لجريانها من
حكم العقل أو عموم النقل.
ولا موهم لعدم اجراء الاستصحاب المثبت للتكليف، إلا ما ذهب إليه
الشيخ (رحمه الله) من عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي،
بدعوى: ان شمول دليله لأطراف العلم الاجمالي يستلزم التناقض بين صدر دليل
الاستصحاب وذيله، إذ مقتضى صدره - وهو: " لا تنقض " - حرمة النقض في كل
من الأطراف، ومقتضى ذيله - وهو قوله: " ولكن تنقضه بيقين آخر " - وجوب
النقض في بعضها، وبما أنه يعلم اجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعض أطراف
الاستصحابات المثبتة للتكليف امتنع جريانها بناء على ذلك (1).
ولكن يندفع هذا الوهم: بان البناء المزبور لا يؤثر في عدم جريان
الاستصحاب فيما نحن فيه، وذلك لأنه إنما يلزم فيما كان الشك في أطرافه فعليا،
أما إذا لم يكن كذلك، بل لم يكن الشك فعلا إلا في بعض أطرافه وكانت
الأطراف الأخرى مغفولا عنها وليست بملتفت إليها أصلا فلا يلزم ذلك، لان
مقتضى: " لا تنقض " هو حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك فعلا دون
غيره، لعدم تحقق الشك فيه من جهة الغفلة عنه، ولا علم بالانتقاض في
خصوص الطرف المشكوك كي يتحقق التناقض بين الصدر والذيل.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 429 و 126 - الطبعة الأولى.
352

وما نحن فيه كذلك، لان المجتهد في مقام استنباط الاحكام لا يكون
ملتفتا إلى تمام الوقائع بأسرها، بل هو غافل عن أكثرها، فليس لديه شك فعلي
إلا في بعض الأطراف التي لا يعلم بانتفاض الحالة السابقة فيها، فله إجراء
الاستصحاب في كل واقعة لعدم تحقق المحذور المزبور بالنسبة إليه.
ثم التزم بعد ذلك بجريان الأصول النافية لتمامية المقتضي من حكم
العقل وعموم النقل، وعدم المانع عقلا من جريانها، لان المانع المتوهم هو محذور
المخالفة العملية للعلم الاجمالي، وهو لا وجود له إذا فرض ان موارد الأصول
المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا أو نهض عليه علمي كانت بمقدار المعلوم بالاجمال
فينحل العلم الاجمالي بها حكما، بل يكفي ان تكون بمقدار لا يستكشف معه
وجوب الاحتياط شرعا لقلة الموارد المتبقية بنحو لا يعلم اهتمام الشارع بها
بحيث يجعل الاحتياط. هذا ما أفاده في الكفاية بالنسبة إلى اجراء الأصول (1).
ونتيجة ما ذكره: أنه لا محذور في اجراء الأصول المثبتة وكذا النافية إذا
انحل العلم الاجمالي ببركة العلم التفصيلي والظن الخاص والأصول المثبتة.
ثم ذكر (قدس سره): انه لو لم ينحل العلم الاجمالي بذلك كان خصوص
موارد الأصول النافية محلا للاحتياط، ويرفع اليد عنه كلا أو بعضا بمقدار رفع
الاختلال أو العسر - على ما عرفت - لا مطلق محتملات التكليف). انتهى ما
أفاده.
وتحقيق الكلام أن موارد الاشتغال والاستصحاب المثبت في الشبهات
الحكمية في العبادات قليلة جدا، كمسألة الماء المتغير الذي يزول تغيره من قبل
نفسه، ومسألة الجمعة والظهر، وغيرهما.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 314 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 314 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
353

وأما في المعاملات، فان موارد الأصل الذي يثبت التكليف - وهو أصالة
عدم ترتب الأثر المعبر عنها بأصالة الفساد - كثيرة إذا لم نرجع إلى الاطلاقات
العامة والخاصة والسيرة العقلائية في اثبات صحة المعاملة، وإلا كانت قليلة كما
في العبادات.
وعليه، فنقول: إن ما ادعي من استلزام العمل بالأصول المثبتة للتكليف
الحرج ليس بصحيح لقلة مواردها كما عرفت.
كما أن دعوى العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض مواردها
ممنوعة، إذ ما الوجه في ذلك بعد فرض قلة موارد الأصول، وما المانع من كون
جميعها مطابقة للواقع؟.
وهكذا ما ادعاه صاحب الكفاية من انحلال العلم الاجمالي باجراء
الأصول مع الضميمة، فان موارد الأصول المثبتة إذا كانت قليلة كيف ينحل بها
العلم الاجمالي بثبوت التكاليف في العبادات والمعاملات؟.
وأما ما أفاده (قدس سره) من عدم منافاة العلم الاجمالي بالانتقاض
لجريان الاستصحاب هنا - لو سلم منافاته في نفسه -. ففيه: ان المجتهد بعد
انتهائه من استنباط الاحكام جميعها يحصل لديه علم بان بعض الاحكام التي
اختارها استنادا إلى الاستصحاب غير واقعية، فكيف يعمل بها أو يفتي على
طبقها ليعمل بها مقلدوه؟. وهذا الاشكال واضح تعرض إليه الكثير.
وعليه، فقد ظهر انه لا مجال لجريان الاستصحاب فيما نحن فيه لو التزم
بمنافاة العلم الاجمالي للأصول ولو كانت مثبتة إذا تحقق العلم بالانتقاض. كما
ظهر أن إجراء الأصول المثبتة لا ينفع في حل العلم الاجمالي.
وعليه، فلا يمكن الرجوع إلى الأصول النافية في مواردها لاستلزامه
المخالفة العملية للعلم الاجمالي بالتكليف. فلاحظ.
وأما ما ذكره (قدس سره) أخيرا من: انه مع عدم انحلال العلم الاجمالي
354

يكون مورد الاحتياط هو موارد الأصول النافية فقط لا مطلق محتملات
التكليف. فهو مما لا نعرف تأثيره في شئ، لان العمل بالأصل المثبت في بعض
الموارد والاحتياط في الموارد الأخرى يكون حاله كحال الاحتياط التام في مطلق
محتملات التكليف، فنسبة دليل رفع الحرج أو اختلال النظام إلى الجميع على
حد سواء، فينبغي رفع اليد عن الاستصحاب كما يرفع اليد عن وجوب
الاحتياط في موارد الأصول النافية. فيتحقق الدوران بين موارد احتمال التكليف
كما هو الحال عند رفع اليد عن الاحتياط التام.
وبالجملة: ما ذكره لا تأثير له في الاخلال بمقدمات الانسداد. فالتفت.
وأما الرجوع إلى فتوى المجتهد العالم بحكم المسألة: فهو لا يجوز، إذ
المفروض ان من يريد الرجوع يرى انسداد باب العلم والعلمي. وعليه فهو
يرى خطأ من يدعى انفتاح باب العلم والعلمي، ومع ذلك لا يجوز الرجوع إليه،
لأنه من قبيل رجوع العالم إلى الجاهل، وهو غير جائز قطعا.
واما احتمال الرجوع إلى القرعة، فيندفع: بأنه إن لوحظت القرعة في حد
نفسها، فمن الواضح أنها لا كاشفية لها عن الواقع أصلا ولا طريقية لها إليه، بل
حالها حال اختيار أحد المشتبهين عن التفات وقصد. وإن لوحظت بالإضافة إلى
دليلها، فلا يخفى ان الدليل انما دل على جريانها في موارد خاصة ليس فيها
طريق إلى الوصول إلى الواقع، فلا وجه للتعدي منها إلى سائر الموارد، كما لا
يمكن تنقيح المناط، إذ اعتبارها في موارد لا يمكن فيها التخيير، كموارد فصل
الخصومات، إذ لا يمكن ايكال الامر إلى اختيار الخصمين لبقاء النزاع، ولا
اختيار الحاكم لما فيه من المفاسد الشخصية والنوعية. فتدبر.
وأما المقدمة الخامسة: فقد أفاد صاحب الكفاية أنها مما يستقل بها
العقل، وانه لا يجوز التنزل بعد عدم التمكن من الإطاعة العلمية أو عدم وجوبها
355

إلى غير الإطاعة الظنية من الإطاعة الشكية والوهمية لمرجوحيتهما بالنسبة إلى
الإطاعة الظنية، لأقربيتها إلى الواقع منهما، ويقبح - في نظر العقل - ترجيح
المرجوح على الراجح (1).
أقول: مراده بالإطاعة الظنية التي ورد التعبير بها في كلماته يحتمل أمرين:
الأول: ان اللازم أن يحصل الظن بإطاعة الاحكام المعلومة، وهذا إنما
يتحقق بالاتيان بمظنونات التكليف ومشكوكاته، إذ مع الاقتصار على المظنونات
وترك المشكوكات لا يظن بالإطاعة، بل يتحقق عنده الشك بها لوجود احتمال
التكليف متساوي الطرفين لم يأت به.
وبالجملة: يكون المراد الإطاعة المظنونة.
الثاني: أن اللازم العمل بالظن في قبال العمل بالمشكوكات والموهومات
فيكون المراد الإطاعة بالظن، فيكون وصف الإطاعة بالظنية من باب أن ما
يطاع به هو الظن.
والذي يبدو لنا أن مراده هو الثاني، كما يظهر من بعض عباراته صدرا
وذيلا. فراجع.
إلى هنا تنتهي صورة دليل الانسداد.
وقد عرفت اننا ممن قرب بعض مقدماته كالمقدمة الأولى والثانية والثالثة،
ولنا كلام في المقدمة الرابعة.
ولكن الذي يبدو لنا فعلا أن المقدمة الأولى غير تامة بدعوى انحلال
العلم الاجمالي بثبوت الاحكام بين مطلق الوقائع، بالعلم الاجمالي بثبوت
الاحكام في الاخبار الواصلة الينا - كما تقدمت هذه الدعوى من صاحب
الكفاية (قدس سره) -. فإننا وان كنا ممن يتوقف في انحلال العلم الاجمالي

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 315 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
356

الكبير بالعلم الاجمالي الصغير، لكن الذي نراه أخيرا هو الانحلال وفاقا
لصاحب الكفاية، وسنتعرض لذلك في محله من مباحث العلم الاجمالي ونشير
الآن إلى وجهه بنحو الاجمال. فنقول: الذي نختاره هو انحلال العلم الاجمالي
الكبير بالعلم الاجمالي الصغير بالانحلال الحقيقي، مع احتمال انطباق المعلوم
بالعلم الاجمالي الكبير على المعلوم بالعلم الاجمالي الصغير، كما هو الحال فيما
نحن فيه، حيث نحتمل انطباق الأحكام الواقعية المعلومة بالاجمال مطلقا على
الأحكام الواقعية المعلومة بالاجمال في ضمن الاخبار الواصلة الينا، إذ لا علم
بأزيد من التكاليف الموجودة في ضمن الاخبار.
أما الانحلال الحكمي به فلنا مناقشة فيه. وبيان ذلك: ان الانحلال
الحكمي عبارة عن انتفاء أثر العلم الاجمالي، وهو المنجزية، مع ثبوته بنفسه وعدم
زواله، كما لو قامت البينة على نجاسة أحد الإناءين المشتبهين، أو جرى
استصحاب نجاسة أحدهما فقط إذا كانت حالته السابقة هي النجاسة، فان
أصالة الطهارة في الاناء الاخر تجرى بلا معارض، لعدم جريانها في الاناء
النجس بحكم البينة أو الاستصحاب. فالعلم الاجمالي وان كان موجودا في
الفرض لكنه غير منجز.
وأما الانحلال الحقيقي، فهو عبارة عن زوال العلم الاجمالي حقيقة، كما
إذا علمت تفصيلا بالاناء الذي وقعت النجاسة من الإناءين المشتبهين،
ونحو ذلك.
إذا عرفت ذلك: فقد تقرب دعوى انحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم
الاجمالي الصغير فيما نحن فيه بنحو الانحلال الحكمي، بأن بعض أطراف العلم
الاجمالي الكبير مما قام عليها المنجز، وهو العلم الاجمالي الصغير، فلا تكون
مجرى للأصول النافية، فتجرى الأصول النافية في ما عداها بلا معارض.
وهذا هو معنى الانحلال الحكمي، إذ لا يكون للعمل الاجمالي الكبير
357

تأثير بالنسبة إلى أطرافه.
وفيه: أن نسبة العلمين - الكبير والصغير - إلى أطراف العلم الصغير
نسبة واحدة، فما الوجه في جعل المانع من جريان الأصل النافي في دائرة العلم
الصغير هو العلم الصغير؟، فليكن العلم الكبير أو هما معا.
فالحق هو الانحال الحقيقي، ببيان: ان العلم الاجمالي إما أن يلتزم بأنه
علم تفصيلي بالجامع والتردد - في انطباقه على أحد الفردين أو الافراد. وإما أن
يلتزم بتعلقه بالفرد المردد - على كلام مفصل يأتي في محله -. وعلى كلا الالتزامين
والمسلكين فالتردد مما يقوم تحقق العلم الاجمالي، فإذ زال التردد زال العلم
الاجمالي.
وعليه، نقول: إذا علم إجمالا بوجود النجس بين هذه العشرة أواني التي
منها خمسة بيض ومنها خمسة سود، وعلم في الوقت نفسه بوجود النجس بين
الأواني السود الخمسة، فان العلم الاجمالي بوجود النجس بين العشرة يزول
قطعا، إذ لا ترديد في وجود النجس بين الأواني السود، فليس له أن يقول اعلم
اجمالا بوجود النجس اما في السود أو البيض، لعلمه بان النجس في السود.
وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنه وإن علم اجمالا بثبوت الاحكام بين
مطلق الوقائع المحتملة، إلا أنه في الوقت نفسه يعلم إجمالا بثبوت أحكام بين
الاخبار، فيزول الترديد. فتدبر.
وإذا ثبت لدينا انحلال العلم الكبير بالعلم الاجمالي بثبوت أحكام في
ضمن الاخبار، اختل دليل الانسداد، لان الاحتياط في دائرة الاخبار لا محذور
فيه من اختلال نظام أو حرج.
ونتيجة ما ذكرناه، من التوقف في حجية خبر الواحد غير المفيد
للاطمئنان، وعدم وفائه بمعظم الفقه لو كان، وانحلال العلم الكبير بالاحكام
بالعلم الاجمالي في ضمن الاخبار، هو: لزوم العمل بالاخبار الواصلة الينا في
358

الكتب المعتبرة بعنوان الاحتياط، ولا بأس فيه.
ودعوى: ان لازم ذلك التوقف - في مقام العمل بالاخبار - في حمل المطلق
المثبت للتكليف على المقيد وتخصيص العام المثبت للتكليف بالخاص، لعدم
العلم بصدور المقيد والخاص النافيين للتكليف ولا حجيتهما. فكيف ترفع اليد
عن المطلق والعام، مع أنه خلاف الاحتياط، لان الفرض ان المقيد أو الخاص
ينفي التكليف؟. كما أن لازمه التوقف في حمل ما ظاهره الوجوب على
الاستحباب، لاجل معارضته بما هو نص في الإباحة، لعدم العلم بحجية ما هو
نص في الإباحة فلا يعلم بعدم إرادة الوجوب. ومثل ذلك يستلزم تأسيس فقه
جديد.
مندفعة: بان شيئا من ذلك غير لازم، بل نلتزم بالتقييد والتخصيص ورفع
اليد عن الظهور كما لو كانت الاخبار حجة.
بيان ذلك: أما بالنسبة إلى الاطلاق والتقييد والعموم والخصوص، فلان
المقيد والخاص كما أنه ليس بحجة شرعا كذلك المطلق والعام. وإنما يؤخذ به من
باب الاحتياط لدلالته على الحكم المطلق أو العام. ومع احتمال صدور المقيد لا
يبقى لنا علم بكون المراد الجدي للمطلق - على تقدير صدوره هو الاطلاق،
فالقدر المتيقن المعلوم إرادته من المطلق على تقدير صدوره هو غير موارد
المقيدات الواردة، وحينئذ فطرف العلم الاجمالي هو الحكم المقيد لا المطلق
والحكم الخاص لا العام، فهو الذي يجب الاحتياط فيه لا أزيد.
وبعبارة واضحة: ان مقتضى العلم الاجمالي بثبوت الاحكام في ضمن
الاخبار معناه العلم بثبوت الاحكام بحسب المراد من الألفاظ الواردة في
الاخبار، وهذا يقتضي لزوم الاحتياط بما تؤديه الاخبار من الاحكام بحسب
مداليلها الكاشفة عن المراد الجدي، فكل ما يحتمل أنه حكم المولى بحسب
ظهورها وكشفها عن المراد الواقعي لا بد من الاخذ به، لا كل ما يحتمل أنه
359

مراد المولى ولو لم تكن ظاهرة فيه، وبملاحظة وجود الخبر المقيد المحتمل للصدور
لا يقين بان المراد الواقعي للمطلق على تقدير صدوره هو الاطلاق. فلا يجب
الاحتياط إلا في غير موارد التقييد. وأما أكثر من ذلك، فهو خارج عن أطراف
العلم الاجمالي في ضمن الاخبار، بل يمكننا ان ندعي عدم العلم بوجود حكم
مطلق عند الشارع لكثرة التقييدات. ولا محذور فيه أصلا.
نعم، قد يقال: إنه نعلم إجمالا بصدور بعض العمومات والمطلقات. ولا
نعلم بصدور ما نجده مما نسبته إليها نسبة الخاص والمقيد إلى العام والمطلق وهذا
يقتضي العمل بجميع العمومات والمطلقات - احتياطا -، لان العمومات الصادرة
لا بد من العمل بها مع عدم ثبوت التخصيص للأصل، فمع اشتباهها لا بد من
العمل بجميع العمومات كي يعلم بالامتثال.
ولكنه يندفع: بانا نعلم بان بعض المطلقات والعمومات الصادرة واقعا
مقيد لا محالة وليست كلها مرادة بعمومها وإطلاقها.
وعليه، فتسقط أصالة الاطلاق والعموم في جميعها للمعارضة، فلا حجة
على الحكم المطلق والعام.
وأما بالنسبة إلى ما هو ظاهر في الالزام كالوجوب والحرمة، فلا نستطيع
ان ننفي العلم بإرادة الوجوب أو الحرمة من بعضها، فانا نعلم بإرادة الوجوب أو
الحرمة في بعض الاخبار، ومقتضى ذلك الاحتياط في جميع ما هو ظاهر في
الوجوب أو الحرمة، لان ما يقتضي الاستحباب والكراهية ليس بحجة شرعا كي
ترفع اليد به عن الظهور في الوجوب والحرمة.
إلا انا نقول: ان هذا العلم الاجمالي بوجود الحكم الالزامي في ضمن
ظواهر الاخبار ينحل بما علم تفصيلا من الأحكام الإلزامية بواسطة الضرورة
والتواتر والاطمئنان والسيرة القطعية والاجماعات، بحيث لنا ان ندعي عدم
العلم بوجوب أو حرمة غير ما علم وجوبه أو حرمته.
360

وعليه، فما هو ظاهر في الوجوب في نفسه بملاحظة ما هو نص في الإباحة
لا يكون ظاهرا في الوجوب، فلا يقين بحكم الزامي في ضمن ما يدل عليه بظاهره
بنفسه بعد ملاحظة وجود ما يصرف الظهور عرفا، وكما ان الصارف للظهور ليس
بحجة، كذلك ما يدل على الحكم الالزامي.
وبالجملة: الكلام في هذا المقام كالكلام بالنسبة إلى المطلق والمقيد.
يبقى الكلام في أمر أشير إليه سالفا، وهو: أنه بناء على العمل بالاخبار
من باب الاحتياط لا يمكن الاخذ بها في قبال ظهورات الكتاب من اطلاق أو
عموم أو غير ذلك. والذي نقوله في حل هذه المشكلة، هو: أنا نعلم اجمالا بتقييد
وتخصيص بعض مطلقات وعمومات الكتاب المجيد. وذلك مما يسقطها جميعها
عن الحجية، لعدم تمييز المقيد منها عن غيره، فالعلم الاجمالي مانع من اجراء
أصالة الظهور فيها.
ولو تنزل عن هذه الدعوى، فلا يكون ما ذكر مشكلة مهمة، إذ ليست
ظهورات الكتاب المصادمة للاخبار بتلك الكثرة بنحو يكون العمل بها موجبا
لتأسيس فقه جديد. فتدبر واعرف (1).

(1) ثم إن سيدنا الأستاذ دام ظله تعرض إلى البحث عن نتيجة دليل الانسداد من حيث تعلق الظن
بالواقع والطريق ومن حيث الاهمال والتعيين الذي يتفرع الكلام من الكشف والحكومة. تعرض إلى
ذلك بمقدار سطح الكفاية تقريبا، ولأجل وضوحه أهملنا كتابته، كما أنه اكتفى بهذا المقدار ولن يسهب
في تحقيق تنبيهات دليل الانسداد، لأنه بحث بلا ثمرة عملية بعد أن كان باطلا في نظره ونظر غيره في
هذه الآونة. والله سبحانه الموفق. انتهى البحث عن ذلك يوم الأربعاء 14 / شوال 1389 ه‍.
361

مباحث
الأصول العملية
363

مباحث الأصول العملية
" تمهيد "
ذكر الشيخ في مدخل بحثه في الأصول العملية بحثا مفصلا، نقتطف منه
أمرين: أحدهما: ما أفاده من أن الحكم الظاهري هو الحكم الثابت في فرض
الشك بالواقع. فقد استشكل فيه: بأنه يشمل الأحكام الواقعية
للشكوك ولا يلتزم به، إذ لا يلتزم أحد أن قول المولى: " يجب عليك التصدق إذا
شككت في وجوب الصلاة " يقتضي أن يكون وجوب التصدق حكما ظاهريا
لتفرعه عن الشك في الواقع (1).
فلا بد ان يقيد ما ذكره بأنه الحكم الثابت في فرض الشك بالواقع بعنوان
تعيين الوظيفة بالنسبة إلى الواقع المشكوك. فلاحظ.
والآخر: ما أفاده من أن الحكم الظاهري الثابت بالأصل في طول الحكم
الثابت بالدليل العلمي أو الظني، لان موضوع الحكم الظاهري هو الشك في
الواقع، فهو متأخر طبعا عن الواقع (2).

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 190 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 190 - الطبعة الأولى.
365

وقد نسب المحقق النائيني (قدس سره) إلى الشيخ: أنه يرى ان التنافي
بين حكم الأصل وحكم الامارة كالتنافي بين الحكم الظاهري والواقعي وان الجمع
بينهما بتعدد المرتبة. واستشكل في ذلك: بأنه لا تنافي بينهما بالمرة، لان المجعول في
الامارة هو الطريقية فلا حكم في موردها كي يتخيل المنافاة (1).
أقول: الظاهر أن منشأ نسبة المحقق النائيني إلى الشيخ ما تقدم، هو
تعبير الشيخ بالطولية والتأخر الطبعي.
ولكنه لا يلازم ما نسبه إليه، بل يمكن أن يكون نظر الشيخ إلى بيان
عدم المنافاة بين الدليلين - دليل الامارة ودليل الأصل لتوهم المعارضة بدوا كما
لو كانت الامارة ملزمة والأصل ينفي التكليف - لعدم اجتماع حكميهما في آن
واحد. فان حكم الأصل إنما يثبت مع الشك وعدم الحجة فمع ارتفاع الشك
بالامارة لا حكم للأصل.
وهذا لابد ان يذكر ولو فرض ان دليل الامارة إنما يجعل الطريقية، إذ
جعل الطريقية لا يجتمع مع اطلاق العنان بالنسبة إلى الواقع - كما هو مفاد أصل
البراءة -.
وبالجملة: نظر الشيخ في ذكر الطولية إلى بيان عدم تحقق التنافي بين
الدليلين - بما هما دليلان -، لعدم اجتماع مفاديهما في آن واحد، لان إلى أن التنافي
بينهما من باب التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي، بل تنافيهما المتوهم من قبيل
التنافي بين الحكمين الظاهريين أو الواقعيين. فلاحظ.
وبعد ذلك يحسن بنا أن نشير إلى الوجه في إدراج مسائل الأصول العملية
في علم الأصول.
وقد تقدم البحث - مفصلا - عن ذلك في صدر المباحث الأصولية عند

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 2 / 326 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
366

البحث في ضابط المسألة الأصولية.
وقد عرفت هناك ان صاحب الكفاية حاول إدراجها في المسائل الأصولية
بزيادة قيد: " أو التي ينتهى إليها في مقام العمل عند اليأس عن الظفر
بالدليل " (1).
ولكن عرفت فيما تقدم تحديد ضابط المسألة الأصولية بنحو لا يعطي
مجالا لدخول بعض المسائل الفقهية فيها، كما هو الحال بناء على بعض
التعريفات. وهو أن المسألة الأصولية هي التي تتكفل رفع التحير والتردد في مقام
الوظيفة العملية بالنسبة إلى الحكم الشرعي وبذلك تدخل مسائل الأصول
العملية بلا توقف.
وعرفت أن مقتضى التعريف الذي ذكرناه هو اندراج مسائل الأصول
في الشبهات الموضوعية في علم الأصول ولا ملزم لاخراجها عنه، وانما خص
المسائل الأصولية بما يجري في الشبهات الحكمية - من خصها - لعدم انطباق
تعريفه عليها. وعليه فتدخل مثل قاعدة الفراغ والتجاوز في علم الأصول.
ولعله إلى ما ذكرناه يرجع تعريف الأصفهاني للمسألة الأصولية بأنها ما
كانت في مقام تحصيل الحجة على الحكم الشرعي (2). فلا وجه لالتزامه بان مسألة
البراءة بناء على كون المجعول فيها الإباحة الظاهرية أو أن مرجعها إلى رفع
الحكم، لا تكون من مسائل الأصول، بل يكون البحث فيها استطراديا، لأنه
على كلا التقديرين توجب معذورية المكلف عن الواقع، وهي من آثار الحجة، إذ
الحجة يترتب عليها المنجزية والمعذرية.
وإذا أردت المزيد من الحديث فراجع مبحث ضابط المسألة الأصولية (3).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 9 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 12 - الطبعة الأولى.
(3) راجع 1 / 21 من هذا الكتاب.
367

مبحث
البراءة
369

فصل:
في الشك في التكليف
وقبل الخوض في أصل المبحث نشير إلى أمر، وهو أن الشيخ (رحمه الله)
تعرض إلى أصل البراءة في ضمن مباحث ومسائل متعددة بلغت الاثني عشرة
مسألة (1). وخالفه صاحب الكفاية فعنون المبحث بعنوان واحد وجعل المسألة
واحدة (2).
والسبب في ذلك: ان تعدد المسائل بنظر صاحب الكفاية - كما صرح
بذلك في مبحث اجتماع الأمر والنهي (3) - بتعدد جهة البحث، فمع وحدة الجهة
تتحد المسألة ولو مع تعدد الموضوع أو المحمول، وبما أن جهة البحث ههنا
واحدة لا تختلف فيها الموضوعات المتعددة، إذ دليل البراءة والاحتياط على
تقديره واحد يعم جميع ما فرض من الموضوعات المتنوعة، ولا خصوصية لبعض
تلك الموضوعات عن الأخرى في جهة البحث.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 192 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 338 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 150 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
371

ومنشأ تفصيل الشيخ وتعداده المسائل يمكن أن يكون لاجل اختلاف
الموارد في بعض الخصوصيات ولذا ذهب الأخباريون إلى البراءة في الشبهة
الوجوبية والى الاحتياط في الشبهة الحكمية بدعوى وجود الفرق بينهما، فلا بد
من إفراز المباحث والبحث عن كل مسألة على حدة، لاختلاف جهة البحث.
وهذا هو الأوجه، لكنا نسلك ما سلكه صاحب الكفاية من المنهج، لان
طريقتنا في المباحث كطريقته.
فيقع الكلام في ما إذا شك في التكليف وجوبا كان أو حرمة ولم يكن
في البين دليل يعين أحد الطرفين.
" أدلة البراءة "
وقد قيل: بأن الأصل مع هذا الشك هو البراءة وهو مختار الأصوليين في
قبال الأخباريين -، واستدل على ذلك بالأدلة الأربعة:
أما الكتاب: فبآيات متعددة:
منها قوله تعالى - في سورة الإسراء -: (وما كنا معذبين حتى نبعث
رسولا) (1).
وتقريب دلالتها على المدعى: ان التعبير ببعث الرسول ليس لاجل
خصوصية فيه، بل هو كناية عن قيام الحجة، نظير قول القائل: " لا أصلي حتى
يؤذن المؤذن " يقصد به الكناية عن دخول الوقت، فتكون ظاهرة في نفي العذاب
قبل قيام الحجة.
وأورد على الاستدلال بها بوجوه عديدة:
الأول: انها تختص بالعذاب الدنيوي، فلا ظهور لها في في ما نحن فيه من
نفي عذاب الآخرة.

(1) سورة الإسراء، الآية: 15.
372

الثاني: انها تتكفل الحكاية عن عذاب الأمم السابقة، وانه لم يكن يحصل
الانقياد لقول الرسول، فلا ربط لها بما نحن فيه. والوجه فيه هو ما يظهر من
لفظ: " كنا " في كونه حكاية عن الفعل في الزمان الماضي.
الثالث: ان غاية ما تتكفله هو نفي العذاب الفعلي، وهو لا يلازم عدم
الاستحقاق لامكان أن يكون منشؤه - مع تحقق الاستحقاق - هو المنة على
العباد واللطف بهم، ومركز البحث بين الأخباريين والأصوليين هو الاستحقاق
وعدمه لا ثبوت العذاب وعدمه. وهذا الايراد لصاحب الكفاية " رحمه الله " (1).
والذي نراه: ان الآية الشريفة وافية بالمدعى، وانه لا وقع لجميع هذه
الايرادات.
وذلك لان ما قبل الآية هو قوله تعالى: (وكل انسان ألزمناه طائره في
عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، إقرأ كتابك كفى بنفسك
اليوم عليك حسيبا، من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل
عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا..).
ومن الواضح ان ظاهر هذه الفقرات المتعددة أنها لبيان ان الطريقة
المشروعة في مقام العذاب والثواب وان العذاب لا يكون الا على طبق الموازين
العقلائية، ولذا لا تزر وازرة وزر أخرى، والهداية للنفس والضلال عليها، فتكون
ظاهرة في نفي العقاب عند عدم الحجة لأنه على خلاف الموازين وان تقيده بقيام
الحجة مما تقتضيه الموازين فنفي العذاب، وإن كان في حد نفسه أعم من نفي
الاستحقاق، لكنه في المقام ظاهر في أن منشأه هو عدم الاستحقاق.
وبتوضيح آخر نقول: ان قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث
رسولا) لا ظهور له في إرادة الزمان الماضي عن وقت التكلم، بل هو ظاهر في

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 339 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
373

إرادة الماضي منه بالنسبة إلى زمان بعثة الرسول وقيام الحجة، فلا عذاب قبلها،
فتكون الآية ظاهرة في بيان ما هو شأن الله تعالى وسنته في باب العذاب، وأنه
ليس من شأنه العذاب قبل قيام الحجة (1).
ولو استشكل في ظهور الآية في ذلك في حد نفسها، فالقرينة على هذا
الظهور ما يظهر من صدر الآية الكريمة الذي نقلناه من بيان الطريقة العادلة
لثبوت العقاب على الانسان، وعدم تخطي الموازين العقلائية في ذلك، وانها في
مقام ما يقتضي العدل. هذا مع أن العذاب الدنيوي لا يرتبط بقيام الحجة، إذ
هو يعم الصالح والطالح والكبير والصغير والرضيع. فتكون الآية لبيان عدم
استحقاق العبد للعقاب قبل قيام الحجة، وانه ليس من شأن الله سبحانه ان
يعذب قبل قيام الحجة.
وعليه، فلا اختصاص لها بالعذاب الدنيوي، ولا نظر لها إلى خصوص
الأمم السابقة، كما انها تتكفل نفي الاستحقاق لا نفي الفعلية فقط.
ولو كابرت في القول ولم تقتنع بما ذكرناه وقلت: ان " كنا " ظاهر في الزمان
الماضي عن وقت التكلم، فتتكفل الآية بيان حال الأمم السابقة بالنسبة إلى
العذاب الدنيوي خاصة.
فلا يضر الاستدلال بها، وذلك لان الآية الشريفة على هذا تتكفل بيان
ان العذاب الدنيوي منوط بقيام الحجة.
وهذا مما لا يمكن الالتزام به على إطلاقه، لان العذاب الدنيوي قد
يشمل من هو مكتمل الايمان، ولذا نجد المؤمنين كثيري المحن والمصائب، كما قد
يشمل من لا يتصور في حقه قيام الحجة كالأطفال والرضع والمجانين. إذن فتعليق

(1) هذا الاستظهار للمحقق العراقي (قده) وان كان في ذهن السيد الأستاذ قبل مراجعة مطلب العراقي.
كما ذكر ذلك حفظه الله تعالى (منه عفي عنه).
374

العذاب على قيام الحجة لا بد أن يخصص بالعذاب الوارد على المعذب بعنوان
الجزاء والعقاب، فإنه الذي يصح ان يناط بقيام الحجة، وإلا فغيره من أنواع
العذاب لا تناط بقيام الحجة، بل تحصل لمصالح نوعية أو شخصية.
وإذا حملت الآية - تصحيحا لمدلولها - على إناطة المجازاة بالعذاب
الدنيوي على قيام الحجة، دلت على إناطة استحقاق العذاب الأخروي بقيام
الحجة بالأولوية - كما قيل -، لأنه إذا فرض ان استحقاق العقاب القليل نسبتا
يتوقف على قيام الحجة، فاستحقاق العقاب الكبير لا بد ان يتوقف على قيام الحجة
بطريق أولى.
والمتحصل: ان الآية ظاهرة عرفا في نفي الاستحقاق بدون قيام الحجة،
وان عدم العذاب فيها لاجل عدم الاستحقاق.
ولو التزم بأنها ظاهرة في نفي فعلية العذاب فقط من دون ظهور في نفي
الاستحقاق، فهل تصلح للاستدلال أو لا؟.
قد يقال: بان الخصم يدعي الملازمة بين نفي فعلية العقاب ونفي
استحقاقه، فتكون الآية ردا على الخصم الذي يدعي استحقاق العقاب على
ارتكاب الشبهة. وناقشه صاحب الكفاية: بان الاستدلال بالآية يكون جدليا لا
برهانيا يطلب فيه اليقين بالمطلب.
هذا مع وضوح منع الملازمة، لان الملازمة لو ثبتت بين نفي فعلية العقاب
ونفي استحقاقه لكانت هناك ملازمة بين الاستحقاق والفعلية - لأنه لو ثبت
الاستحقاق -. ولم يتحقق العقاب، لكان ذلك خلف الملازمة بين عدم العقاب وعدم
الاستحقاق -. الواضح انه لا يدعي أحد ثبوت الملازمة بين استحقاق
العقاب وفعليته، إذ ليست الشبهة بأهم من نفس المحرم المعلوم، مع أن الوعيد
بالعقاب عليه قد لا يلازم فعليته لتوبة أو شفاعة أو غير ذلك.
أقول: إن عمدة ما يستدل به الأخباريون على مدعاهم الروايات الامرة
375

بالوقوف عند الشبهة تورعا عن الاقتحام في الهلكة وتجنبا عن الوقوع فيها،
الذي هو ظاهر في ثبوت احتمال الهلكة والعقاب في كل شبهة. وإذا بطل هذا
الدليل فلا محيص عن القول بالبراءة.
وعليه، فنقول: أن الآية إذا دلت على نفي فعلية العقاب كانت منافية
لمفاد روايات الوقوف عند الشبهة، إذ لا يجتمع احتمال الهلكة مع عدم فعلية
العقاب. ومقتضى ذلك اما تخصيص الروايات إن كانت الآية أخص مطلقا منها.
أو طرحها إن كانت النسبة هي العموم من وجه لأنها روايات مخالفة للكتاب.
فالآية الشريفة كما هي صالحة لالزام الخصم، كذلك هي صالحة لرد دعواه
في نفسها، لعدم الدليل عليها مع تسليم دلالة الآية.
ولعل نظر الشيخ (رحمه الله) في دعوى الملازمة بين نفي الفعلية ونفي
الاستحقاق إلى دعوى الملازمة في خصوص ما نحن فيه بلحاظ مقام الاثبات،
وإنه ان قام الدليل على نفي الفعلية فقد دل على نفي الاستحقاق لعدم الدليل
على الاستحقاق سوى ما هو ظاهر في فعلية العقاب المنفي بالآية الشريفة، فلا
يكون الاستدلال بالآية حينئذ جدليا، كما لا يدعى الملازمة في مقام الثبوت كي
يدفع بما جاء في الكفاية من نفي الملازمة. فتدبر (1).
هذا ولكن الآية إنما تصلح للاستدلال ورد الخصم بناء على أن يكون
استدلال الخصم بروايات الوقوف عند الشبهة بالتقريب المتقدم.
أما بناء على أن يكون استدلالهم بدعوى ظهور النصوص في وجوب
الاحتياط والتوقف، وأن قوله: " فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في
الهلكة " (2)، لبيان وجوب الوقوف بالطريقة المألوفة في مقام بيان الواجبات باثبات

(1) الأنصاري المحقق مرتضى. فرائد الأصول / 194 - الطبعة الأولى.
(2) وسائل الشيعة 18 / باب: 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 1.
376

العقاب على تركها وبيان المحرمات باثباته على الفعل فيكون الاستعمال كناية
عن وجوب التوقف وحرمة الاقتحام، لا لبيان احتمال الهلكة في الشبهة ويكون
وجوب التوقف ارشاديا كما هو الحال على التقريب الأول.
بناء على هذا التقريب تكون اخبار الاحتياط وإرادة على الآية الشريفة،
لأنها تتكفل بيان الحكم الواقعي وإقامة الحجة عليه.
ولعله إلى ذلك أشار الشيخ فيما ذكره من أن هذه الآيات تكون مورودا
لدليل الاحتياط لو تم، وتكون نسبتها له نسبة الأصل إلى الدليل.
ومنها: قوله تعالى - في سروة الطلاق -: (لا يكلف الله نفسا إلا ما
آتاها) (3). وتقريب الاستدلال بها: أنها تدل على عدم التكليف إلا بما آتاه الله
من الاحكام، فما لم يؤته لا تكليف به، والتكليف المجهول مما لم يؤته الله.
وتحقيق الكلام في ذلك: ان في مدلول الآية الشريفة محتملات أربعة:
الأول: ان المراد بالموصول فيها خصوص المال، فيكون المعنى ان الله لا
يكلف إلا انفاق ما أعطاه من المال.
الثاني: ان يراد بالموصول مطلق الفعل أعم من انفاق المال وغيره،
فيكون الايتاء بمعنى الاقدار واعطاء القدرة، ويكون المعنى انه لا تكليف إلا
بما أقدر الله العبد عليه، وهي بذلك تشمل المورد، إذ الانفاق مع التقتير في الرزق
من مصاديق ما لم يقدر الله العبد عليه.
الثالث: ان يراد بالموصول خصوص الحكم الشرعي، فيكون الايتاء
بمعنى الاعلام.
الرابع: ان يراد بالموصول أعم من الفعل والحكم، فيكون المراد بالايتاء
الاعلام بالنسبة إلى الحكم والاقدار بالنسبة إلى الفعل، فان إيتاء كل شئ

(1) سورة الطلاق، الآية: 7.
377

بحسبه.
ولا يخفى ان الآية على الأولين لا ترتبط بما نحن فيه كما لا يخفى، إذ هي
على الأول تنفي التكليف بانفاق ما لم يعط من المال. وعلى الثاني تنفي التكليف
بغير المقدور. وشئ منهما لا ينطبق على ما نحن فيه. نعم على الثالث والرابع
تفيد نفي التكليف المجهول.
لكن الثالث لا يمكن الالتزام به، لأنه يتنافى مع مورد الآية الكريمة،
لان موردها الانفاق بما يملك من المال.
وأما الرابع، فقد استشكل الشيخ فيه: بان تعلق الفعل في الآية وهو:
" يكلف " بالحكم يختلف عن نحو تعلقه بالفعل، فان تعلقه بالحكم والنسبة بينهما
نسبة المفعول المطلق، ونسبته إلى الفعل نسبة المفعول به، ولا جامع بين النسبتين،
فإرادتهما معا يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو ممتنع (1).
ولكن المحقق العراقي (قدس سره) حاول تصحيح إرادة الجامع للفعل
والحكم من الموصول بوجهين:
الأول: انه انما يرد هذا الاشكال إذا فرض إرادة الخصوصيات المزبورة
من شخص الموصول، والا فبناء على استعمال الموصول في معناه الكلي العام
وإرادة الخصوصيات المزبورة من دوال أخر خارجية فلا محذور، لان تعلق الفعل
بالموصول يكون بنحو واحد، وتعدده بالتحليل إلى نحوين لا يقتضي تعدده
بالنسبة إلى الجامع الذي هو مفاد الموصول. وعليه فيمكن التمسك باطلاق الآية
على البراءة، لامكان إرادة الأعم من الموصول.
الثاني: المراد من التكليف في الآية الشريفة ليس هو المعنى الاصطلاحي
وهو الحكم كي يلزم منه كون نسبته إلى الحكم نسبة المفعول المطلق، إذ إرادته

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 193 - الطبعة الأولى.
378

من الآية تستلزم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها لتكفل الآية نفي
التكليف واقعا في حق الجاهل، وهو مما لا يمكن الالتزام به.
وإنما المراد بالتكليف هو المعنى اللغوي منه وهو المشقة والكلفة.
وعليه، فيكون تعلقه بالموصول بمعناه الجامع بنسبة المفعول به أو المفعول
منه وهو المفعول النشوي، فيكون المعنى على الأول انه سبحانه لا يوقع عباده
في كلفة حكم أو فعل إلا الحكم والفعل الذي آتاه المكلف. وعلى الثاني انه لا
يوقع عباده في كلفة الا من قبل حكم أو فعل آتاه إياهم فنسبة الفعل إلى
الموصول نسبة واحدة مع التحفظ على إرادة المعنى العام منه واستفادة
الخصوصيات من دال آخر خارجي.
وعليه، تكون الآية باطلاقها دالة على البراءة.
ولكنه بعد أن قرب دلالتها على البراءة ناقشها بمناقشات ثلاثة:
الأولى: ان القدر المتيقن بقرينة السياق هو المال، وهو مانع من التمسك
باطلاق الموصول.
الثانية: ان مفاد الآية مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فهي تنفي الكلفة
من قبل التكليف مع عدم وصوله، فأدلة الاحتياط على تقدير تماميتها تكون واردة
عليها، لأنها تفيد ايجاب الاحتياط فيكون واصلا، فيقع المكلف في الضيق من
جهته.
وبعبارة أخرى: ان الاحتياط حجة على الواقع بمقتضى دليلة، فيرتفع
به موضوع الآية الكريمة، فلا يضر الاخباري الاستدلال بالآية.
الثالثة: ان الايتاء بما أنه منسوب إليه جل اسمه، فهو عبارة عن اعلامه
بالتكليف بالسبب العادي المتعارف، وهو اعلامه بطريق الوحي إلى أنبيائه
وأمر هم بتبليغ الحكم، فما لم يعلمه يكون عبارة عما لم يبلغه لأنبياء أو عما امر
انبائه عدم تبليغه، فيكون مفاد الآية الشريفة مفاد قوله (عليه السلام): " ان الله
379

سكت عن أشياء لم يسكت... " (1) فلا ترتبط بما نحن فيه مما لم يصل إلى العباد من
جهة خفائه بسبب ظلم الظالمين. فلاحظ (2).
ولكن لنا في كثير مما أفاده توقف:
أما الوجه الأول: الذي ذكره لتصحيح تعلق التكليف - الفعل - بالأعم
من الحكم والفعل، فيرد عليه: انه بعد أن كانت نسبة التكليف إلى الحكم في
الواقع نسبة المفعول المطلق، ونسبته إلى الفعل في الواقع نسبة المفعول به،
فخصوصية الحكم والفعل ان استفيدت من قرينة خارجية بحيث تتعدد النسب
الكلامية بتعدد القرائن الحافة بالكلام فلا محذور فيه، إذ لا مانع من تعدد نسبة
إلى الفعل الواحد إلى غيره كنسبته في كلام واحد إلى الفاعل والمفعول به، فإذا
فرض تعدد الدال على المفعول به والمفعول المطلق في الكلام كانت النسبة
الكلامية متعددة لتعدد أطرافها ولا مانع منه. إلا أنه على هذا لا معنى لما ذكره
من الرجوع إلى اطلاق الموصول في استفادة العموم، إذ مع وجود الدال على كل
من الحكم والفعل أي حاجة تبقى للتمسك بالاطلاق.
وإن كان الدال الكلامي منحصرا في الموصول وأريد استفادة العموم من
إطلاقه، فمع فرض تعدد نسبة التكليف واقعا بلحاظ أفراد الموصول لا يمكن
إرادة العموم من الموصول، لأنه يستلزم الدلالة على النسبتين الواقعيتين بنسبة
واحدة كلامية وهو ممتنع.
وأما الوجه الثاني: الذي ذكره في تقريب إرادة العموم من الموصول، فيرد
عليه: أنه خلاف الظاهر من لفظ التكليف، فإنه يساوق الحكم ولا ظهور له في
المعنى اللغوي.

(1) نهج البلاغة الحكم: 105.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 202 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
380

وأما ما ذكره من المحذور على تقدير إرادة الحكم من التكليف، فيندفع:
بأنه إن لم يقم دليل قطعي على بطلان تقييد الأحكام الواقعية بالعالمين بها، فلا
مانع من الالتزام بما هو ظاهر الآية الشريفة من تقييد الأحكام الواقعية بالعالمين
بها. وإن قام دليل على ذلك نرفع اليد عن ظهور الآية في ذلك ونلتزم بنفي
التكليف ظاهرا، نظير حديث الرفع. ولا يسوغ ذلك لرفع اليد عن ظهور لفظ
التكليف وصرفه إلى معنى آخر.
وأما ايراده الأول على الاستدلال بالآية - بعد تقريب دلالتها على العموم
-، وهو عدم جواز التمسك بالاطلاق لوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب.
فهو ايراد مبنائي، وقد تقدم الحديث عن مانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب
عن التمسك بالاطلاق فراجع.
نعم ايراده الثاني وجيه، وهو ايضاح ما أشار إليه الشيخ من انه لو تمت
دلالة الآيات كان مورودة لدليل الاحتياط لو تم، لتعليق الحكم فيها على عدم
البيان.
وأما إيراده الثالث: فمدفوع: بان الايتاء في الآية الكريمة كما هو
منسوب إلى الله سبحانه منسوب إلى العباد. ومن الواضح أن مجرد إبلاغ الرسل
بالحكم لبعض الناس لا يوجب صدق إعلام الآخرين به.
نعم يصدق الاعلام بقول مطلق، لا إعلام هذا الجاهل، لكنه لا ينفع فيما
نحن فيه بلحاظ مدلول الآية، فما دام الشخص لم يعلم بالحكم يكون مشمولا
للآية الشريفة وإن كان قد أبلغ الحكم لبعض الناس الآخرين. وشاهدنا على
ذلك الذي لا يقبل الترديد، هو انه لو هيئت لشخص أسباب الرزق وكسب
المال وتقاعس ولم يندفع في هذا السبيل، فهل يلزم بالانفاق مع فقره بلحاظ ان
إيتاء المال المألوف من قبل الله سبحانه قد تحقق؟. إذن فمجرد الايتاء من قبل
الله سبحانه لا ينفع في تحقق التكليف ما لم يعلم المكلف بالحكم نفسه، إذ بدون
381

العلم لا يصدق إيتاء الله المكلف وإن صدق إيتاء الله سبحانه، فالايراد ناشئ
عن قصر النظر على نسبة الايتاء إلى الله سبحانه وقطع النظر عن نسبة ايتائه
إلى المكلف.
والذي يتحصل: ان إشكال استعمال اللفظ في أكثر من معنى وارد على
الاستدلال بالآية.
وعلى أي حال، فظاهر الآية إرادة المال من الموصول لظهورها في كون
المراد من الموصول فيها نفس المراد من قوله: (فلينفق مما آتاه الله). ومن
الواضح إرادة المال من الموصول هنا. هذا مع أن إرادة مطلق الفعل تتوقف على
تقدير القدرة عليه لأنها هي المعطاة، أو أخذ الايتاء كناية عن الاقدار، وكل منهما
خلاف الظاهر، فان معنى الايتاء هو الاعطاء.
هذا مع أن رفع التكليف في صورة الجهل ظاهري ورفعه في صورة العجز
واقعي.
والجمع بينهما في انشاء واحد لعله منشأ إشكال، ولو أمكن تصحيح فهو
مؤونة زائدة لا تثبت بالاطلاق، بل هي مانعة عن التمسك به كما لا يخفى.
وعليه، فلا دلالة للآية على المدعى.
وأما السنة: فبروايات عديدة:
منها: حديث الرفع: وهو رواية حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله (عليه
السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): رفع عن أمتي تسعة أشياء:
الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا
إليه والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق (الخلوة خ ل) ما لم ينطقوا
382

بشفة " (1).
ومحل الاستشهاد قوله: " ما لا يعلمون "، ولوضوح الحال في دلالة الرواية
وفي كلمات الاعلام في المقام نتعرض إلى ذكر أمور:
الامر الأول: في أن الرفع والدفع متغايران أو لا؟.
ذهب المحقق النائيني إلى وحدتهما، وان الرفع في الحقيقة دفع، لأنه يمنع
من تأثير المقتضي في الزمان اللاحق بملاحظة ان بقاء الشئ يحتاج إلى علة
كحدوثه.
وعليه، فيصح استعمال الرفع في مقام الدفع حقيقة وبلا تجوز وعناية (2).
وأورد عليه: بان حقيقة الرفع والدفع وان كانت واحدة إلا أنه بعد أن
كان لدينا أمران: أحدهما ما يمنع المقتضي في مرحلة الحدوث. والاخر ما يمنع
المقتضي في مرحلة البقاء. وفرض ان لفظ الدفع وضع للامر الأول، ولفظ الرفع
وضع للامر الثاني، وكان المفهوم العرفي للدفع والرفع ذلك لم تكن وحدة تأثيرهما
موجبة لصحة استعمال أحدهما مقام الاخر، لان ذلك لا يرتبط بمقام الوضع. إذن
فالرفع مفهوما غير الدفع. والمراد به في الحديث ما يساوق معنى الدفع، إذ من
المعلوم عدم حدوث الاحكام في موارد الاضطرار وغيره، لا انها حدثت، والمقصود
بيان عدم استمرارها كما هو واضح.
ولأجل ذلك حاول البعض (3) تصحيح إرادة معنى الرفع من لفظه في
الحديث الشريف بفرض لحاظ ثبوت هذه الأحكام للأمم السابقة، فبملاحظة
ذلك يكون عدم ثبوتها لنا ارتفاعا لا اندفاعا، أو بملاحظة مرحلة الاسناد

(1) وسائل الشيعة: 11 / باب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 1.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 337 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 264 - الطبعة الأولى.
383

الكلامي.
وأنت خبير، بأنه بعد أن كان المراد من الحديث معلوما لم يكن البحث في
جميع ذلك من اتحاد مفهوم الرفع والدفع، ومن كون الرفع ههنا مستعمل في معناه
حقيقة أو في معنى الدفع مجازا وغير ذلك بذي أثر عملي أصلا في ما هو المستفاد
من الحديث، ولم نعرف السر في اهتمام الاعلام بذلك، فالاكتفاء بهذا المقدار
متعين.
الامر الثاني: لا يخفى ان المراد من الموصول في: " ما اضطروا إليه وما
اكرهوا عليه " هو المتعلق للحكم، إذ لا معنى للاضطرار إلى نفس الحكم.
وعليه، فيقع الكلام في أن اسناد الرفع إلى متعلقات الاحكام هل هو
اسناد حقيقي أو اسناد مجازي، باعتبار انها غير. مرفوعة حقيقة وانما المرفوع
حكمها؟.
وثمرة هذا البحث تظهر..
أولا: في البحث عن المراد ب‍: " ما لا يعلمون "، وانه خصوص الشبهة
الموضوعية أو الأعم منها ومن الشبهة الحكمية، وذلك لأنه إذا فرض كون اسناد
الرفع إلى المتعلق للحكم اسنادا مجازيا امتنع إرادة العموم، لان اسناد الرفع إلى
الموضوع المجهول الحكم يكون اسنادا مجازيا، واسناده إلى الحكم المجهول
يكون اسنادا حقيقيا، ولا جامع بين النسبتين، فيمتنع إرادة العموم لاستلزامه
التعبير عن النسبتين بنسبة كلامية واحدة وهو ممتنع.
وعليه، فيسقط الاستدلال على البراءة في الشبهات الحكمية بهذا
الحديث.
وتوهم: اختيار إرادة خصوص الشبهة الحكمية فيتحد الاسناد ويكون
حقيقيا ولا ينافي كونه مجازيا بالنسبة إلى الفقرات الأخرى، لعدم امتناع ذلك
بعد تعدد النسب الكلامية بتعدد أطرافها في الكلام، فيمكن ان يراد بإحداها
384

الاسناد المجازي وبالأخرى الحقيقي.
مندفع: بأنه لما كان ظاهر الفقرات الأخرى إرادة الموضوع من الموصول
كان مقتضى وحدة السياق كون الموضوع مرادا قطعا من الموصول في: " ما لا
يعلمون ". غاية ما في الامر انه يمكن إن يدعى إرادة الأعم من الموضوع والحكم
لو لم يكن محذور فيه. اما إرادة خصوص الحكم دون الموضوع فهو مما يتنافى مع
وحدة السياق. فالتفت.
وثانيا: في البحث عما هو المقدر من كونه جميع الآثار أو المؤاخذة أو الأثر
الظاهر، فإنه إذا ظهر أن الاسناد إلى نفس المتعلق يكون بنحو الحقيقة، فلا مجال
للبحث المزبور، وانما يتأتى على تقدير مجازية الاسناد، فيقع الكلام في أن الرفع
مسند مجازا إلى نفس المذكورات. أو مسند حقيقة إلى أمر مقدر مضاف إليها،
ويقع الكلام بعد ذلك فيما هو ذلك الامر المقدر.
وتحقيق الكلام: ان اسناد الرفع إلى متعلق الحكم يكون اسنادا حقيقيا
لا تجوز فيه ولا عناية، وذلك إذا كان الملحوظ رفعه في عالم التشريع لا عالم
التكوين. فان رفع الحكم عنه ملازم لعدم ثبوته في عالم التشريع والاحكام حقيقة
فيصح اسناد الرفع إليه حقيقة، وذلك كما تقول: " اني محوت الكلمة الكذائية
وأعدمتها " بلحاظ دفتر خاص تكون فيه، فإنه يصدق اعدامها حقيقة من ذلك
الدفتر.
وبالجملة: ان رفع الموضوع في عالم التشريع وان كان برفع حكمه، لكنه
يصحح اسناد الرفع إليه حقيقة بلحاظ ذلك العالم الخاص، فرفع الحكم واسطة
في الثبوت لا واسطة في العروض. وما ذكرناه هو ما أفاده المحقق النائيني (1).
ومع هذا البيان لا حاجة إلى تكلف تقريب كون اسناد الرفع إلى

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 342 و 348 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
385

الموضوع حقيقة، ببيان: أن الشوق والإرادة من الصفات التعلقية التي لا تكاد
تتحقق وتتصور بدون متعلق، وهكذا البعث، وكما أن للماهية وجودا خارجيا وذهنيا
كذلك يكون للماهية بلحاظ عروض الشوق عليها وجود شوقي، فهي موجوده
بوجود الشوق.
وعليه، فيصح اسناد الرفع إلى معروض الحكم حقيقة لانعدامه بما هو
موضوع الحكم حقيقة بانعدام نفس الحكم، لان له وجود بوجود الحكم نفسه،
فان هذا الوجه مضافا إلى دقته لا يخلو عن إشكال. فراجع مبحث تعلق الاحكام
بالطبائع أو الافراد لتعرف حقيقة الحال (1).
الامر الثالث: في بيان المرفوع بحديث الرفع.
وتحقيق الحال في مفاد الحديث: أنه يمكن الالتزام بان الرفع فيما لا
يعلمون رفع واقعي كالرفع في سائر الفقرات المذكورة في الحديث، بمعنى: ان
الحديث يكون متكفلا لبيان ارتفاع الحكم الفعلي عند عدم العلم، فلا يكون من
أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه كي يكون محالا، كما لا يكون من إناطة
الواقع بقيام الامارة كي يكون تصويبا مجمعا على بطلانه.
وأما ما ادعي من وجود الأخبار المتواترة الدالة على أن الاحكام مشتركة
بين العالم والجاهل. فليس له في الاخبار عين ولا أثر، وما يستظهر منه ذلك يختص
بموارد الشبهات الموضوعية. اذن فلا محذور في الالتزام بان الرفع واقعي، فالحكم
مرتفع واقعا عند الجهل به، ولا موجب للالتزام بان الرفع ظاهري كما عليه
الاعلام (رحمهم الله).
وبعض منهم - كالشيخ (2) - قد التزم في مقام الجمع بين الحكم الواقعي

(1) راجع 2 / 469 من هذا الكتاب.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 30 - الطبعة الأولى.
386

والظاهري: بان الحكم الواقعي ليس بفعلي وانما هو انشائي أو شأني أو غير ذلك
من التعبيرات.
ولكنهم ههنا يلتزمون بان الرفع ظاهري وهو بلا ملزم.
وعليه، فما نقربه ليس خرقا لاجماع أو مناهضة لضرورة. نعم الذي يوقعنا
عن الجزم بهذا الامر هو ان المتيقن من الحديث هو إرادة الشبهة الموضوعية. وقد
عرفت أن النصوص كثيرة على بقاء الحكم الواقعي وثبوته فيها، فلا يسعنا
الالتزام بان الرفع واقعي في المقام. ثم إنه لو لم نلتزم بذلك، فهل يتكفل حديث الرفع جدا حكما وجوديا،
أم ان المراد الجدي منه هو الرفع تمسكا بالتعبير على حدة؟. الذي نستظهره هو
أن المقصود الجدي من الكلام هو جعل الحلية الظاهرية، ولكن كني عنها برفع
الحكم، لأنه استعمال شائع عرفا، فإنه كثيرا ما تؤدى حلية الشئ بالتعبير بعدم
المانع منه، ويكون المولى في مقام بيان حلية الشئ، فيعبر بأنه لا مانع منه.. إذن
فالمنشأ جدا بحديث الرفع هو الحلية الظاهرية لا رفع الحكم، نظير قوله (عليه
السلام): " كل شئ لك حلال... " (1)، لكنه يؤدي الحلية مطابقة وحديث الرفع يؤديها
كناية. وهذا المعنى التزم به الشيخ وإن لم يصرح به ولكنه التزم بلازمة كما سيأتي
التنبيه عليه.
وبناء على هذا الظهور فتحقيق نسبته مع دليل الاحتياط أن يقال: إنه
ان قيل إن الحلية الظاهرية ملازمة لرفع الحرمة واقعا دفعا لمحذور اجتماع الحكم
الظاهري والواقعي، كان الحديث على هذا حاكما على دليل الاحتياط، وذلك
لأنه يدل بالدلالة الالتزامية على نفي الواقع، فيرفع موضوع وجوب الاحتياط
الذي هو احتمال الواقع، فيكون من باب قيام الامارة على عدم موضوع حكم

(1) وسائل الشيعة 17 / باب: 61 من الأطعمة والأشربة، الحديث: 1 و 2.
387

آخر، ولا يتوقف أحد في حكومتها على الدليل الاخر.
وهكذا الحال في قوله (عليه السلام): " كل شئ لك حلال... " لأنه يدل
بالملازمة على نفي الحرمة الواقعية.
وإن لم يلتزم بان الحكم الظاهري ملازم لارتفاع فعلية الواقع، بل الواقع
على فعليته مع قيام الحكم الظاهري - كما عليه المحقق النائيني (رحمه الله) (1) -،
فقد يتخيل تعارض هذا الحديث مع دليل الاحتياط.
ولكنه يتم في مثل: " كل شئ لك حلال... "، لا في مثل حديث الرفع، لان
واقعه وإن كان جعل الحلية، لكنه بلسان رفع الواقع وهو يكفي في الحكومة، إذ
النظر في مقام الحكومة إلى لسان الدليلين ونظر أحدهما إلى موضوع الاخر.
وإلا فالحكومة تشترك مع التخصيص ومرجعها إلى رفع الحكم عن
الموضوع المنفي تنزيلا. فحديث الرفع ينظر بحسب لسانه اللفظي إلى موضوع
دليل الاحتياط ويتصرف فيه. فلاحظ.
ولو لم يلتزم بما استظهرناه من: أن المنشأ في الحديث هو الحلية الظاهرية،
والتزم بمدلوله المطابقي الصريح، وهو رفع الحكم ظاهرا عند عدم العلم، فيقع
البحث في متعلق الرفع الظاهري، وأنه هو الحكم الواقعي نفسه أو وجوب
الاحتياط؟.
يمكن أن يقرب تعلقه بنفس الواقع ظاهرا: بان الرفع إنما يصلح أن
يتوجه ويتعلق بالحكم إذا كان أمر وضعه بيد المولى، وإلا فيمتنع عليه رفعه.
وعليه، فنقول: ان الحكم الواقعي في ظرف الجهل يمكن ان يوضع على
المكلف ظاهرا بجعل ايجاب الاحتياط عليه، فايجاب الاحتياط يكون سببا لنحو
ثبوت للحكم الواقعي يصحح اسناد الوضع إليه، فعدم جعل ايجاب الاحتياط

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 103 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
388

في هذا الظرف، يكون رفعا للواقع حقيقة، فيصح تعلق الرفع حقيقة بالواقع
بلحاظ عدم جعل ايجاب الاحتياط. نظير نفي الاحراق بلحاظ نفي سببه وهو
النار.
وعلى هذا، فلا ملزم للالتزام بان المرفوع رأسا وحقيقة هو ايجاب
الاحتياط كما هو ظاهر الشيخ في قوله: " والحاصل: ان المرتفع فيما لا يعلمون
وأشباهه مما لا يشملها أدلة التكليف هو ايجاب التحفظ على وجه لا يقع في مخالفة
الحرام الواقعي " (1). أما قوله: " معنى رفع أثر التحريم فيما لا يعلمون عدم إيجاب
الاحتياط " (2)، فهو يحتمل الامرين وان استشهد به المحقق النائيني على ما نسبه
إليه من كون المرفوع رأسا وجوب الاحتياط (3)، فالنكتة التي تنحل بها المشكلة
هي ما عرفت من أنه يكون للواقع بايجاب الاحتياط نحو جعل ووضع، فيصح
اسناد الرفع إليه حقيقة برفع سببه وهو ايجاب الاحتياط.
نعم لو لم يكن ايجاب الاحتياط مصححا لوضع الواقع ونسبة الجعل إليه،
لم يكن رفعه مصححا لاسناد الرفع إلى الواقع حقيقة، إذ جعل الواقع حينئذ لا
يكون بيد الشارع كي يرفعه.
وقد عبر عما أوضحناه من تصحيح نسبة الرفع إلى الواقع صاحب
الكفاية بعبارة مختصرة أشار فيها إلى النكتة، فقال: " فالالزام المجهول مما لا
يعملون فهو مرفوع فعلا، وإن كان ثابتا واقعا، ولا مؤاخذة عليه قطعا " (4) حيث
جعل الرفع متعلقا بنفس الحكم الواقعي في مرحلة الفعلية مع الالتزام بثبوته
الواقعي، وهو معنى الرفع الظاهري، ولم يلتزم بتعلق الرفع رأسا بايجاب

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 197 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 197 - الطبعة الأولى.
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 172 - الطبعة الأولى.
(4) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 339 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
389

الاحتياط. نعم ذكر بعد ذلك أن مقتضى رفع الواقع هو رفع ايجاب الاحتياط،
وقد تقدم تقريبه. فإن في تعبيره: " فلا مؤاخذة عليه " وعدم تعبيره برفع المؤاخذة
ملحوظة مهمة، وهي الفرار من الاشكال بان المؤاخذة ليست من الأمور
الشرعية القابلة للرفع والوضع، إذ هو التزم بارتفاعها لا برفعها، وارتفاعها إنما
هو لاجل عدم تحقق موضوعها بعد أن كان الحديث دالا على رفع الواقع ورفع
ايجاب الاحتياط، فهي ترتفع عقلا ولا ترفع شرعا.
ومن الغريب جدا ما جاء في تقريرات المرحوم الكاظمي في هذا المقام،
فإنه بعد أن حكم بأن الرفع يتوجه إلى الواقع وأنه ملازم لرفع وجوب الاحتياط،
وأورد على الشيخ (رحمه الله) في التزامه: بأن المرفوع أولا وبالذات هو وجوب
الاحتياط، قرب المطلب. بما لا ينتهي إلى ما لا يختلف مع التزام الشيخ من كون
المرفوع هو وجوب الاحتياط. فلاحظ كلامه من قوله في الامر الأول: " وتوضيح
ذلك هو أن أدلة الاحكام... " إلى آخر كلامه تعرف حقيقة الحال فيه (1). فالتفت.
الامر الرابع: في عموم الحكم للشبهة الحكمية والموضوعية.
وقد يدعى العموم بتقريب: ان مقتضى اطلاق الموصول في: " ما لا يعلمون "
إرادة الأعم من الحكم والموضوع. واستشكل في ذلك بوجهين:
الأول: ان اسناد الرفع إلى الحكم اسناد حقيقي والى ما هو له، واسناده
إلى الموضوع إسناد إلى غير ما هو له، لان المرفوع في الحقيقة هو الحكم لا
الموضوع. فإرادة الأعم من الحكم والموضوع من الموصول مستلزمة لاستعمال
النسبة الكلامية الواحدة في نسبتين واقعيتين مختلفتين وهو ممتنع، لأنه من استعمال
اللفظ في أكثر من معنى. ولا يتصور الجامع بين النسب لأنها من سنخ الوجود

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 339 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
390

ولا وجود جامع بين وجودين.
الثاني: ان المراد بالموصول في الفقرات الأخرى هو الفعل الموضوع لعدم
تصور معنى معقول للاكراه على الحكم أو الاضطرار إليه، فلا يتعلق الاكراه
ونحوه إلا بالموضوع. ومقتضى وحدة السياق كون المراد من الموصول فيما لا
يعلمون هو الموضوع أيضا، لان إرادة الأعم تنافي وحدة السياق والظهور العرفي
للكلام في وحدة المراد من الموصول المتكرر في جميع فقراته.
والجواب عن الأول قد اتضح في الامر الثاني، فإنه قد بينا ان اسناد
الرفع إلى الموضوع حقيقي كاسناده إلى الحكم، وذلك بملاحظة كون الرفع
بلحاظ صفحة التشريع لا صفحة التكوين، فإرادة الجامع لا تستلزم تعدد النسبة،
بل ليس هناك إلا نسبة واحدة حقيقة. فراجع.
وأما الاشكال الثاني، فقد أجيب عنه بوجهين:
الوجه الأول: ان التفكيك في المراد من اللفظ الواحد المتكرر بين أفراده
إنما يضر بالظهور إذا كان التفكيك في المراد الاستعمالي، بان يستعمل اللفظ في
كل فقرة في غير ما استعمل فيه في فقرة أخرى فإنه خلاف الظاهر عرفا.
أما التفكيك في المراد الجدي مع وحدة المستعمل فيه فلا يضر بوحدة
السياق وليس هو أمرا خلاف الظاهر.
وما نحن فيه من قبيل الثاني، لان الموصول في كل فقرة مستعمل في معناه
العام وهو الشئ، ولكن المراد الواقعي منه بقرينة الصلة في بعض فقراته هو
الموضوع، فلا ينافي ان يراد به جدا الأعم من الموضوع والحكم في فقرة: " ما لا
يعلمون " لعدم اختلال السياق باختلاف المراد الجدي، وليس المدعى كون
المستعمل فيه الموصول فيما اضطروا إليه هو الفعل، والمستعمل فيه فيما لا يعلمون
هو الأعم، كي يكون ذلك مخالفا للظهور العرفي ووحدة السياق.
وهذا الجواب لا يخلو عن نظر، بل منع لوجهين:
391

أحدهما: عدم وضوح ما ادعي من اختصاص وحدة السياق والظهور
السياقي في وحدة المستعمل فيه فقط دون المراد الجدي، فإنها دعوى بلا شاهد،
فلا بد من الجزم بأحد الطرفين نفيا أو اثباتا من تتبع موارد الاستعمالات العرفية
وملاحظة ما تقتضيه وعلى كل فنحن نقف الآن موقف المشكك من هذه
الدعوى.
ثانيهما: ان التفكيك اللازم فيما نحن فيه هو التفكيك في المراد الاستعمالي
لا الجدي فقط، وذلك لان القرينة المقتضية لاختصاص الموصول في الفقرات
الأخرى بخصوص الموضوع ليست قرينة منفصلة حتى لا تكون مخلة بظهور
الموصول استعمالا في العموم وإنما هي قرينة متصلة وهي صلة الموصول من
الاضطرار والاكراه وعدم الإطاقة، فإنها بنفسها تضيق دائرة الموصول في المراد
الاستعمالي منه وتحدد المراد منه بما يقبل الاضطرار والاكراه، وهو خصوص
الموضوع، نظير العادل في قول الامر: " أكرم العالم العادل "، فإنه يضيق المراد
الاستعمالي من العالم، فلا يمكن ان يراد به مطلق العالم، بل خصوص ما يصلح
لطرو العدالة عليه، وإذا ثبت ان المراد الاستعمالي من الموصول في سائر الفقرات
هو خصوص الشئ الذي يقبل الاضطرار وغيره المساوق للفعل، فيكون
الالتزام بكون المراد منه فيما لا يعلمون مطلق الشئ أعم مما يقبل الاضطرار
وما لا يقبله كالحكم منافيا للظهور السياقي. فلاحظ.
الوجه الثاني: ما جاء في تقريرات المحقق العراقي من إنكار وحدة
السياق...
أولا: لان من الفقرات في الحديث الطيرة والحسد والوسوسة، ولا يكون
المراد منها الفعل ومع هذا الاختلاف كيف يمكن دعوى ظهور السياق في إرادة
الموضوع المشتبه؟، ومن أن الحمل على الموضوع فيما لا يعلمون يقتضي خلاف
الظاهر السياقي من جهة أخرى.
392

ثانيا: لان الظاهر من الموصول فيما لا يعلمون هو ما كان بنفسه معروض
الوصف - أعني عدم العلم - كما في سائر الفقرات، فان المراد بالموصول فيها ما
كان معروضا للوصف المأخوذ في الصلة من الاضطرار والاكراه وغيرهما.
فإذا أريد من الموصول فيما لا يعلمون الموضوع يلزم منه مخالفة هذا
الظهور، لان الموضوع لا يكون بنفسه معروض لعدم العلم، وإنما يكون
المعروض له عنوانه. فيدور الامر بين حفظ السياق من هذه الجهة بحمل
الموصول على إرادة الحكم المشتبه، وبين حفظه من الجهة الأخرى بحمله على
إرادة الموضوع، والعرف يعين الأول فيتعين الحمل فيما لا يعلمون على إرادة
الحكم (1).
ومع التردد يكون الكلام مجملا لا يتعين فيه أحد الاحتمالين.
ولكن هذا الوجه كسابقه محل منع، وذلك..
أما دعوى اختلال السياق بذكر الطيرة والحسد والوسوسة، لعدم إرادة
الفعل منها. فلانه لا يلزم في وحدة السياق أن يكون المراد بجميع فقرات الكلام
الطويل شيئا واحدا حتى تحمل عليه الفقرة المشكوكة، بل يكفي فيه تكرر
اللفظ الواحد بلا فصل، ولو كان صدر وذيل الكلام أمرا بعيدا عن المراد
باللفظ المتكرر. وليس في هذه الألفاظ لفظ الموصول كي يقال ان اللفظ الواحد
المتكرر أريد منه في مورد شئ وفي آخر معنى آخر فيختل السياق. كما أنها لم
تقع فاصلة بين: " ما لا يعلمون " وسائر الفقرات، حتى لا يكون هناك ظهور في
وحدة المراد من الموصول، بل جاءت هذه الألفاظ في آخر الكلام، فلا تكون
موجبة للاخلال بالظهور السياقي للموصول في الفقرات المتعددة.
وأما دعوى معارضة وحدة السياق من جهة الموصول بوحدة السياق من

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 216 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
393

جهة الوصف العارض وترجيح الثاني على الأول فلأن المراد من الموصول بقرينة
تعلق الرفع التشريعي به ليس ذات الفعل، بل الفعل المأخوذ موضوعا للحكم،
لأنه هو القابل للرفع، فلا معنى لرفع ما لم يؤخذ في موضوع الحكم الشرعي، كما
هو. فليس المراد منه المائع الذي اضطر إلى شربه، بل بما هو خمر، لان وصف
الخمرية دخيل في الموضوع. فالمراد بالموصول ما هو الموضوع بالحمل الشائع
وذات ما يكون معروضا للحكم. ومن الواضح ان حمل الموصول فيما لا يعلمون
على إرادة الفعل لا يستلزم عدم تعلق عدم العلم بنفسه، بعد هذا البيان، لان
المجهول ما هو موضوع الحكم، وهو المراد من الموصول، فعدم العلم تعلق بنفس
المراد منه، فشرب الخمر - في مورد المائع المردد - مجهول. نعم بلحاظ ذات المائع
يقال ان الفعل بنفسه غير مجهول، بل بعنوانه وهو كونه خمرا، ولكن عرفت أنه
ليس بمراد من الموصول إلا مقيدا بعنوانه الدخيل في الموضوع، فمع الجهل
بالعنوان يصدق الجهل بما هو موضوع بنفسه. فتنحفظ وحدة السياق من هذه
الجهة مع فرض إرادة الموضوع من الموصول.
وهذا البيان مستفاد من بعض كلمات المحقق الأصفهاني، لا في مقام الرد
على الدعوى المتقدمة، بل في مقام آخر فيما نحن فيه (1).
وقد تصدى المحقق الكاظمي - في تقريراته لبحث أستاذه المحقق
النائيني - إلى دفع الاشكال على التعميم، بعدان قربه بنظير ما تقدم منا. ولكنه
لم يأت بما يغني، بل الذي قرره وقربه هو تعلق الرفع في جميع الفقرات بالحكم،
لأنه هو القابل للرفع والوضع، فيراد من الموصول فيما لا يعلمون مطلق الحكم
على اختلاف أسباب الجهل به، وذكر: ان إضافة الرفع في غير ما لا يعلمون إلى
الأفعال الخارجية إنما هو لاجل ان الاكراه والاضطرار ونحو ذلك إنما يعرض

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 181 - الطبعة الأولى.
394

الأفعال لا الاحكام وإلا فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعي (1).
وأنت خبير، بان ما أفاده لا يحل الاشكال، إذ هو بمقتضى بيانه التزم
بان اسناد الرفع إلى الأفعال مجازي، لأن المرفوع في الحقيقة هو الحكم. فإرادة
خصوص الحكم من ما لا يعلمون يستلزم اختلال السياق في الموصول، كما
يستلزم تعدد النسبة واختلافها بين الفقرات.
وعجيب منه اغفاله لدعوى أن الرفع متعلق بالموضوع حقيقة بلحاظ
عالم التشريع، مع أنه قرب ذلك وصحح اسناد الرفع الحقيقي إلى الموضوع.
ويتلخص مما مر: أن اشكال وحدة السياق مما لم نعرف له جوابا وجيها.
وعليه، فلا مناص من الالتزام بكون المراد بالموصول فيما لا يعملون هو
الموضوع لا الأعم منه ومن الحكم.
هذا، ولكن قد ادعي: ان أخذ الموصول بمعنى الفعل لا الأعم منه ومن
الحكم لا يستلزم اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعية، بل يمكن الالتزام
بعمومه للشبهة الحكمية، ولو كان المراد من الموصول هو الفعل. وتقريب ذلك
بوجوه ثلاثة:
الأول: ان يراد من الموصول الفعل، لكنه لا بذاته، بل بما هو واجب وحرام
مع التعميم من حيث أسباب الجهل، فكل ما لا يعلمون أنه واجب أو حرام لعدم
النص أو لاشتباه الأمور الخارجية فهو مرفوع.
وأورد عليه المحقق الأصفهاني (رحمه الله) ايرادين:
أحدهما: ان الالتزام بذلك يوجب اختلال السياق في الحديث، لان ظاهر
الفقرات الأخرى كون المراد من الموصول هو الفعل بعنوانه لا بما هو واجب
أو حرام، وذلك لان الوصف المذكور في الصلة من الاكراه والاضطرار ونحوهما

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 345 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
395

لا يعرض على الفعل بما هو حرام أو واجب، بل بما هو هو. فالاكراه على شرب
الخمر بما هو لا عليه بما أنه حرام.
والآخر: ان المشتق لا وجود له بالذات، وانما الموجود بالذات هو ذات
الموضوع ومبدأ المحمول، فعنوان الحرام لا وجود له بالذات، بل الموجود بالذات
هو الحرمة والخمر مثلا. وإذا لم يكن العنوان الاشتقاقي موجودا بالذات، بل كان
موجودا بالعرض لم يتعلق الجهل به بالذات أيضا، بل المجهول بالذات، إما ذات
الموضوع كالخمر أو مبدأ المحمول كالحرمة. واما الفعل الحرام، فالجهل به ليس
امرا وراء أحد النحوين من الجهل بالذات. وإذا كان العنوان مجهولا بالعرض
امتنع أن يراد من الموصول الفعل بما أنه حرام، إذ الظاهر أن المراد مما لا يعلمون
ما لا يعلمونه حقيقة لا ما لا يعلمونه عرضا (1).
أقول: الايراد الأول لا إشكال فيه.
وأما الايراد الثاني، فهو ممنوع، فان كون العنوان الاشتقاقي مما لا
يوجد الا بالعرض ولا يوجد بالذات ولا يكون من المقولات لا ينافي تعلق
الجهل به بالذات وحقيقة، بل الجهل حقيقة يتعلق به بما له من الوجود ولو
بواسطة الجهل بما هو الموجود بالذات، فان الأمور الانتزاعية قابلة لتعلق الجهل
والعلم بها حقيقة، كيف؟ وهي تقبل النفي والاثبات حقيقة، بل قد يحاول إقامة
البرهان على ثبوتها أو نفيها كاثبات إمكان العالم، فان الامكان من الأمور
الانتزاعية مع أنه يتعلق للنفي والاثبات ويبرهن عليه في محله.
وإذا أمكن تعلق النفي والاثبات وتواردهما على الامر الانتزاعي أمكن
تعلق العلم والجهل به كما لا يخفى.
و بالجملة: المطلب واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 180 - الطبعة الأولى.
396

الثاني: أن يراد من الموصول الفعل، ويراد من الجهل به الأعم من الجهل
به بنفسه أو بوصفة، وهو الحكم.
وأورد عليه المحقق الأصفهاني: بأن وصف الشئ بالجهل بلحاظ الجهل
بوصفه من وصف الشئ بحال المتعلق، وهو خلاف الظاهر، فان الظاهر من
قوله: " ما لا يعلمون " انه لا يعلمونه بنفسه من الوصف بحال الشئ، لا أنه لا
يعلمونه بحكمه من الوصف بحال المتعلق.
ثم إنه استشكل على نفسه: بان العلم التصديقي والجهل التصديقي لا
يتعلقان بالمفردات، بل انما يتعلقان بالمركبات وثبوت شئ لشئ، فالفعل بنفسه لا
يتعلق به الجهل التصديقي، وانما يتعلق الجهل بثبوت الوصف له، والجهل به
تصديقا يرجع إلى ذلك.
وعليه، فلا فرق بين الجهل بثبوت الخمرية للمائع والجهل بثبوت الحرمة
لشرب التتن من هذه الجهة، وإنما الفرق بينهما ان عنوان الخمرية ذاتي وعنوان
الحرمة عرضي وهو ليس بفارق فيما نحن فيه.
وأجاب عنه: بان المراد بالفعل ليس ذات الفعل، بل هو الفعل المأخوذ
في موضوع الحكم بقرينة تعلق الرفع التشريعي به.
وعليه، فلا يراد بالموصول هو شرب المائع بما هو شرب مائع، لأنه كذلك
ليس مأخوذا في موضوع الحكم، وانما الذي يراد به هو شرب الخمر بما هو كذلك
لأنه مأخوذ كذلك في موضوع الحكم.
ومثل ذلك يتصور تعلق الجهل به بنفسه، لأنه يكون مجهول الوجود، ولا
يخرج الجهل بذلك عن الجهل التصديقي، فيقال: " شرب الخمر مجهول الوجود
فيرفع تشريعا ". إذن فلا ملزم لحمل الجهل ههنا على الجهل بعنوانه كي يعم المراد إلى
العنوان الذاتي والعرضي المجهول. فتدبر (1).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 180 - الطبعة الأولى.
397

الثالث: ما أفاده (قدس سره) وهو يبتني على مقدمتين ذكرهما:
إحداهما: ان الموضوع للحكم الشرعي ليس هو الوجود الخارجي، إذ
متعلق الحكم وموضوعه هو ما يتقوم به الحكم في أفق الاعتبار، وهو الموضوع
الكلي، لامتناع كون الشئ الخارجي متعلقا للحكم، كما بين في محله.
وثانيتهما: ان للموضوع والمتعلق وجودا بوجود الحكم، فان الحكم والبعث
حيث إنه من الصفات التعلقية التي لا توجد إلا متعلقة بمتعلقها، كان المتعلق
والموضوع موجودا بعين. وجود الحكم يصطلح عليه بالوجود الشوقي، وهو
وجود للماهية غير وجودها الخارجي والذهني.
وذكر: بان نسبة الوجود إلى متعلق الحكم في أفق الاعتبار نسبة حقيقية
عرفا، وإن كانت بالدقة مجازية كنسبة الوجود إلى الماهية، فإنها عرفا حقيقية
لكنها بالدقة مجازية، إذ الموجود في الخارج هو الوجود لا الماهية.
إذا عرفت ذلك، فقد ذهب (قدس سره) إلى: اخذ الفعل بمعنى
الموضوع الكلي ويسند الرفع إليه حقيقة، لان رفع الموضوع تشريعا مساوق
لرفع الحكم، كما أن وضعه بعين وضع الحكم، فتنحفظ وحدة السياق.
ويراد من الحديث رفع الموضوع الكلي المجهول نفسا، كشرب التتن
المجهول كونه موضوعا، والمجهول تطبيقا كشرب الخمر المجهول كونه موضوعا
تطبيقا ومن جهة انطباق الموضوع الكلي عليه (1).
ولكن ما أفاده لا يمكن الموافقة عليه بأكثر جهاته..
أما ما أفاده (قدس سره) من أن متعلق الحكم ليس هو الوجود الخارجي،
فهو مما لا اشكال فيه كما تقدم في مبحث متعلق الاحكام. لكن تقدم هناك لا
يمكن أيضا الالتزام بان متعلق الحكم هو الماهية، لأنها بما هي غير قابلة لتعلق

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 2 / 181 - الطبعة الأولى.
398

الطلب فاقدة للغرض الداعي للطلب. فما التزم به ههنا من أن متعلق الطلب
هو الموضوع الكلي الذي يوجد بالطلب غير صحيح، بل الذي حقق هو الالتزام
بكون متعلق الطلب هو الوجود التقديري للماهية - بحسب اصطلاح الفلاسفة
-، أو الوجود الفرضي أو الزعمي - بحسب اصطلاح بعض الأصوليين -.
هذا، مع أنه من الواضح جدا والذي يلتزم به كل أحد هو ان الحكم لا
يصير فعليا إلا إذا وجد موضوعه في الخارج، وكثيرا ما يعبر (قدس سره) بان
فعلية الحكم بفعلية موضوعه. فما لم تتحقق الاستطاعة خارجا لا يصير وجوب
الحج فعليا.
نعم هو قبل وجود موضوعه موجود انشاء - كما حققناه سابقا في بيان
مرتبتي الانشاء والفعلية -.
وإذا ارتبطت فعلية الحكم بوجود موضوعه الخارجي، فلا معنى حينئذ
لاخذ العنوان الكلي هو موضوع الحكم، كي يرجع الشك في الشبهة الموضوعية
إلى الشك فيه تطبيقا. إذن فيكون الشك في الشبهة الموضوعية شكا في وجود
الموضوع الجزئي للحكم الفعلي الجزئي، لا شكا في الموضوع الكلي، إذ ليس
العنوان الكلي مدارا لثبوت الحكم خارجا، بل المدار على وجود الموضوع خارجا،
فلا يتم ما أراده من جعل المراد هو الموضوع الكلي المجهول اما نفسا أو تطبيقا،
كي يكون الحديث عاما للشبهة الحكمية والموضوعية.
وأما المقدمة الثانية، فإن كان مراده من سردها هو بيان ان الجهل بالحكم
عين الجهل بالموضوع لا غيره لوحدة وجودها، فيرجع الشك في الحكم الكلي إلى
الشك في الموضوع حقيقة، فلا يكون الجهل بالموضوع بلحاظ حكمه من
الوصف بحال المتعلق. ففيه: انه خلاف الفهم العرفي، إذ لو تم ما أفاده في
المقدمة، فالمغايرة عرفا بين الموضوع وحكمه ثابتة، ولا يرى العرف ان الجهل
بالحكم عين الجهل بالموضوع، ولا يصحح اسناد الجهل إلى الموضوع بعين
399

اسناده إلى الحكم.
وأما ما أفاده من أخذ الفعل بمعنى الموضوع الكلي بما هو موضوع،
ويراد من الجهل به الجهل به نفسا، بمعنى الجهل بموضوعيته أو الجهل به
تطبيقا. فيرده: ان موضوعية الموضوع تساوق ثبوت الحكم له، فاخذ الجهل
بالفعل بما هو موضوع يرجع إلى اخذ الجهل به بما هو واجب أو حرام، وهذا هو
الوجه الأول الذي نفاه (قدس سره) بأنه مخالف لوحدة السياق.
وبالجملة: الاضطرار وغيره لا يتعلق بالفعل بما هو موضوع، فلأجل
المحافظة على وحدة السياق لا بد من اخذ الجهل بالفعل بذاته لا بما هو
موضوع. فتدبر.
ويتحصل من مجموع ما تقدم: انه لم يتم ما قيل في وجه تعميم الموصول
للحكم والموضوع، كما لم يتم ما قيل في وجه تعميم الحديث للشبهة الحكمية
والشبهة الموضوعية.
والتحقيق أن يقال: ان المراد بالموصول هو الحكم أعم من الحكم الكلي
أو الجزئي. وبتعبير آخر: مع تعميم الجهل به من حيث كونه ناشئا من اشتباه
الأمور الخارجية أو ناشئا من إجمال الدليل أو عدمه أو تعارض الدليلين، فيعم
الشبهة الحكمية والموضوعية، كما التزم بذلك صاحب الكفاية (1) وقربه المحقق
العراقي (2).
ولا محذور في ذلك سوى ما يتوهم من: ان الالتزام به يتنافى مع وحدة
السياق، لان المراد بالموصول في الفقرات الأخرى هو الموضوع، فإرادة الحكم
من الموصول فيما لا يعلمون يتنافى مع وحدة السياق، فان ظاهر سياق الحديث

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 340 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 216 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
400

كون المراد بالموصول في جميع الفقرات واحدا.
ولكن هذا التوهم فاسد، لان أخذ الموصول في سائر الفقرات بمعنى
الموضوع والفعل من جهة أضافة الاضطرار ونحوه إليه، والفرض ان الاضطرار
لا يقبل العروض على الحكم، فمن ظهور الفقرة في عروض الاضطرار
على المراد بالموصول، وكون المراد بالموصول هو معروض الاضطرار لا غيره التزم بان
المراد بالموصول هو الموضوع.
ومن الواضح ان مقتضى ظهور الوصف في تعلقه - في نفسه وبلحاظ
وحدة السياق - بما هو المراد من الموصول وعروضه عليه بنفسه هو
إرادة الحكم من الموصول فيما لا يعلمون لا الموضوع، لأنه لا يعرض عليه الجهل
بنفسه، فنفس القرينة التي بمقتضاها حملنا الموصول في سائر الفقرات على
الموضوع هي تقتضي إرادة الحكم من الموصول فيما لا يعلمون، فلا مخالفة لوحدة
السياق، بل هو أخذ بظاهر السياق.
أما الوجه في عدم عروض الجهل على الموضوع بنفسه، بل بعنوان آخر
زائد عليه، فلان الموضوع.
أما أن يراد به الموجود الخارجي المشكوك... أو يراد به العنوان الكلي.
فعلى الأول: فالموجود الخارجي المشكوك كونه خمرا مثلا لا يتعلق الشك
به، بل يتعلق بعنوان، فلا شك في وجود المائع لأنه معلوم، وانما يشك في خمريته.
فالشك لا يتعلق به بنفسه.
وعلى الثاني: فلا يتصور الشك فيه - في موارد الشبهة الموضوعية - إلا
بلحاظ انطباقه على الخارج، فمثلا الخمر لا يشك في وجوده، وانما يشك في
انطباقه على المورد الخاص في الخارج، إذا فلا شك في وجود الموضوع الكلي،
وانما الشك في جهة زائدة على وجوده، وهو خصوصية وجوده في المورد الخاص
المصطلح عليه بالانطباق. (*)
401

أما الحكم، فهو معروض الجهل بنفسه كليا كان أو جزئيا، فيشك في وجود
حرمة شرب التتن كما يشك في وجود حرمة شرب هذا المائع المشكوك كونه خمرا.
ولعل هذا هو مراد المحقق العراقي الذي نقلناه واستشكلنا فيه (1).
وعلى هذا، فالحديث يعم كلتا الشبهتين الحكمية والموضوعية. فتدبر.
الامر الخامس: مقتضى ما ذكر في تقريب اسناد الرفع الظاهري إلى
الحكم، من أن الحكم مرفوع برفع وجوب الاحتياط، لان وضعه في مرحلة
الظاهري إنما يكون بجعل الاحتياط، لا يكون الحديث شاملا لموارد العلم
الاجمالي، وذلك لان مفاد الحديث - على هذا - هو بيان عدم جعل الحكم ورفعه
ظاهرا في فرض يكون ثبوته ظاهرا بيد الشارع بجعله وجوب الاحتياط فيرفعه.
وهو بذلك ينصرف إلى الموارد التي يكون وضع التكليف الظاهري منحصرا
بالشارع، وانه هو الذي يضيق على المكلف لو أراد، فينصرف عن موارد العلم
الاجمالي الذي يكون الحكم الواقعي فيها منجزا بحكم العقل، فلا ينحصر
وجوب الاحتياط بالشارع فيها.
ثم على تقدير تسليم شموله في نفسه لموارد العلم الاجمالي، لا ينفع في نفي
الاحتياط العقلي، لان غاية مدلوله ان الشارع لم يجعل وجوب الاحتياط، وهو
لا ينافي أصلا تنجز الواقع بطريق آخر وبمقتضى حكم العقل.
ومن هنا، يشكل الامر في جريان البراءة الشرعية في الأقل والأكثر بناء
على عدم انحلال العلم الاجمالي فيه كما ذهب إليه صاحب الكفاية (2). لما عرفت
من قصور الحديث أو عدم منافاته للاحتياط العقلي الثابت في موارد العلم
الاجمالي.

(1) راجع / 378 من هذا الكتاب.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 363 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
402

وسيأتي له تتمة توضيح ان شاء الله تعالى في محله.
نعم، لو كان مفاد الحديث الحلية الظاهرية بلسان الرفع كما قربناه سابقا،
كان شاملا لموارد العلم الاجمالي ومنافيا للاحتياط العقلي كما لا يخفى.
الامر السادس: في عموم رفع ما لا يعلمون للمستحبات وعدم عمومه.
والمعروف عدم شموله للمستحبات المجهولة.
والوجه فيه..
أما على الالتزام بكون الرفع ظاهريا راجعا إلى عدم ايجاب الاحتياط،
فلان مفاد الحديث على هذا هو نفي الحكم ظاهرا بملاحظة عدم جعل ايجاب
الاحتياط الذي هو نحو ايصال للحكم ظاهرا.
ومن الواضح ان استحباب الاحتياط شرعا في موارد الاستحباب
المشكوك ثابت، فهو وصول ظاهري للحكم الاستحبابي، فلا يمكن ان يقال
برفع الاستحباب بهذا المعنى، ولو لم يثبت حسن الاحتياط شرعا فهو ثابت
عقلا بلا كلام، فيمنع من شمول الحديث لما عرفت في الامر الخامس من قصور
الدليل عن شئ ما يثبت فيه الاحتياط العقلي. فراجع.
وهذا الوجه مما لم نعلم من التفت إليه قبلنا وان كان قد طبع في بعض
التقريرات لكنه مأخوذ منا في مجالس المذاكرة.
وأما على الالتزام بأن مفاد الفقرة جعل الحلية الظاهرية بلسان الرفع -
كما أشرنا إليه في الامر الثالث -، فلانه لم يعهد بيان الترخيص برفع الحكم
الاستحبابي، لاشتمال الاستحباب على الترخيص في نفسه، فلا معنى لشمول
الحديث بهذا المعنى للاستحباب.
وأما على الالتزام بان الرفع واقعي، فقد يشكل الامر لقابلية الاستحباب
للرفع الواقعي، ومقتضى عموم الموصول هو إرادة مطلق الاحكام.
ولكن قد يقال: بان ظاهر الرفع هو ما يقابل الوضع، وهو ظاهر في جعل
403

ما هو ثقيل على المكلف، فيختص بهذا الاستظهار برفع الأحكام الإلزامية دون
غيرها. ولا يخفى أنه لا طريق برهاني لاثبات اخذ الثقل في مفهوم الرفع.
فالمحكم هو الوجدان فراجعه تعرف صحة الدعوى من سقمها.
وعلى كل، فالاختصاص بالالزام - على هذا الالتزام - يبتني على صحة
هذه الدعوى. فتدبر.
الامر السابع: في تحديد موارد الحديث من الأحكام الوضعية والتكليفية.
وتحقيق ذلك..
أما الأحكام التكليفية..
فتارة: يكون المجهول هو الحكم التكليفي الاستقلالي، كوجوب الدعاء
عند رؤية الهلال وحرمة شرب التتن.
وأخرى: يكون الجهل متعلقا بالحكم الضمني، كالشك في وجوب السورة
في الصلاة.
ويصطلح على مثل هذه الموارد بموارد الأقل والأكثر.
أما إذا تعلق الجهل بالحكم الاستقلالي، فهو المتيقن من حديث الرفع،
ولا شبهة في شموله له.
وأما موارد الشك في الأقل والأكثر، فهو على قسمين، لان الدوران بين
الأقل والأكثر... تارة: يكون في متعلق الحكم. وأخرى: في المحصل له.
أما مورد دوران الامر بين الأقل والأكثر في متعلق الحكم، فالحديث في
جريان البراءة في الجزء المشكوك - مع قطع النظر عن ما تقدم في الامر الخامس -،
إنما يتأتى بناء على الالتزام بانبساط الوجوب على الاجزاء وتوزعه عليها،
بحيث يكون كل واحد من الاجزاء متعلقا لامر ضمني.
أما بناء على الالتزام بما قد يستظهر من عبارة الكفاية في مبحث التعبدي
والتوصلي من عدم انبساط الوجوب، بل ليس إلا وجوب واحد بسيط متعلق
404

بالاجزاء بعين تعلقه بالكل، نظير الخيمة وما تظله من المكان، واللحاف وما يغطيه
من أجزاء الجسم، فإنه يبقى على وحدته بلا انثلام ولا توزع (1). فلا يتأتى هذا
الحديث، إذ لا أمر بالجزء على حدة يشك فيه، بل ليس إلا أمر واحد لا شك فيه
وليس متعلقا للجهل. فلاحظ.
وأما دوران الامر بين الأقل والأكثر في المحصل فقد نسب إلى بعض
الاجلة التفصيل فيه بين المحصل الشرعي كالوضوء بناء على أنه محصل للطهارة
فتجري البراءة مع الشك في الأقل والأكثر فيه، وبين المحصل غير الشرعي فلا
تجري فيه البراءة (2). والكلام في ذلك كله موكول إلى محله من مباحث الأقل والأكثر
، فانتظر واصبر فان الله مع الصابرين.
وأما الأحكام الوضعية، فالبحث فيها في مقامين:
الأول: في الأحكام الوضعية في غير باب المعاملات، كالنجاسة والطهارة
واشتغال الذمة ونحو ذلك.
الثاني: في الأحكام الوضعية في باب المعاملات، كالمبادلة الحاصلة بالبيع
ونحوها.
أما الأول، فمثل الطهارة مما ليس موضوعا على المكلف - بحسب ما هو
ظاهر: " عليه " من الثقل والعهدة - لا يكون مرفوعا، لان الرفع عن المكلف في
مقابل الوضع عليه، والطهارة لا ثقل فيها، بل فيها تسهيل وتخفيف. وأما
النجاسة فلا يشملها الحديث لوجهين:
الأول: انها ليست حكما موضوعا على المكلف الجاهل بخصوصه، بل هي
حكم موضوعه ذات النجس بلا توجيه إلى مكلف خاص، بل يشترك فيه جميع

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 73 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 360 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
405

المكلفين، فلم توضع النجاسة عليه كي ترفع عنه.
ولو كانت من الأمور الانتزاعية المنتزعة عن الحكم الشرعي، فهي تنتزع
عن مجموع الأحكام التكليفية المتعلقة بالمكلفين لا عن حكم الجاهل
بخصوصه.
الثاني: أنه قد عرفت أن الرفع الظاهري في قبال الوضع الظاهري، وهو
غير متصور ههنا، إذ لا معنى لتنجيز النجاسة الواقعية بوجوب الاحتياط كي
يقال ان الرفع بلحاظ امكان الوضع بوجوب الاحتياط - كما قلنا في الأحكام التكليفية
-، وجعل النجاسة ظاهرا ليس ايصالا للواقع، بل هو فرد مماثل للواقع،
فهو وصول له لا للواقع، بخلاف ايجاب الاحتياط في التكليف، فإنه يستلزم كون
الواقع في العهدة عند الجهل، وهو معنى الوصول الظاهري.
ومن هنا، ظهر الحال في مثل اشتغال الذمة، فإنه ليس مرفوعا بحديث
الرفع، لأنه لا يقبل الوضع الظاهري كالنجاسة. نعم هو حكم وضعي مجعول
على المكلف نفسه، فلا يتأتى فيه الوجه الأول. فلاحظ.
ثم إن ثمرة البحث عن رفع النجاسة ظاهرا بحديث الرفع مع أن الشك
فيها مجرى لأصالة الطهارة، هو انه قد لا يمكن اجراء أصالة الطهارة للابتلاء
بالمعارض، ولا أصل يعين أحد الطرفين، فينفع حديث الرفع حينئذ بناء على عدم
معارضة جميع الأصول في طرف الأصل الواحد في الطرف الاخر. وسيأتي الحديث
فيه في محله.
وأما الثاني، فالحق ان الحكم الوضعي في مثل البيع ونحوه غير مرفوع
لوجوه:
الأول: ان الحكم الوضعي في باب البيع، وهو المبادلة والنقل والانتقال،
ليس فيه ثقل على المكلف بحسب طبعه، بل قد يرغب فيه المكلف ويقدم عليه
بنفسه كما لا يخفى.
406

الثاني: ما تقدم في باب النجاسة من أن الحكم الوضعي ههنا غير ثابت
للمكلف بخصوصه ووارد عليه، فان المبادلة سواء كانت أمرا انتزاعيا عن حكم
تكليفي أم كانت حكما وضعيا، لا تختص بمكلف، بل موضوعها المالان، وتنتزع
عن مجموع الأحكام الثابتة للمكلفين من عدم جواز تصرف البائع والمشتري
فيما انتقل عنهما إلا باذن الاخر وغير ذلك. فليست هي موضوعة على الجاهل،
بل هي واردة على الفعل والمخاطب بها الجميع.
وهذا البيان لا يجري في بعض الأحكام الوضعية، كالحكم الوضعي في
باب الطلاق.
وعليه، فتطبيق الحديث على مورد الحلف بالطلاق مكرها لا يدل على
تكفل الحديث لرفع الأحكام الوضعية مطلقا وبنحو العموم. وسيأتي الكلام فيه
انشاء الله تعالى.
الثالث: ما تقدم أيضا من أن الحكم الوضعي الواقعي غير قابل للوضع
الظاهري، لا بجعل الاحتياط ولا بغيره.
هذا كله بناء على كون مؤدي الحديث هو الرفع الظاهري.
أما بناء على كون مؤداه هو الحلية الظاهرية، فلا موهم حينئذ لارتفاع
الأحكام الوضعية به، إذ لم يتوهم أحد بتكفل أصالة الحل - نظير: " كل شئ
حلال.. " -، رفع الحكم الوضعي فتدبر.
إلى هنا ينتهي بعض الكلام فيما يرتبط ب‍: " رفع ما لا يعملون ".
ويقع الكلام في سائر الفقرات.
أما رفع الاضطرار والاكراه وما لا يطيقون والخطأ والنسيان، فيقع الكلام
فيه من جهات:
الجهة الأولى: في بيان ان المرفوع بحديث الرفع هو الحكم الثابت
للمضطر إليه أو غيره، لا بعنوان الاضطرار وغيره، بل لذات الفعل مع قطع
407

النظر عن عروض هذه الصفات عليه. بيان ذلك: ان الحكم..
تارة: يكون ثابتا لموضوعه بوصف العمد - مثلا -، نظير وجوب الكفارة
المترتب على الافطار العمدي.
وأخرى: يكون ثابتا بوصف الخطأ والنسيان وغيرهما، كوجوب الكفارة
المترتب على قتل الخطأ، وكوجوب سجدتي السهو المترتب على تحقق السهو في
الصلاة.
وثالثة: يكون ثابتا لذات الشئ لا بوصف العمد والخطأ، بل هو ثابت
له بعنوانه الأولي كحرمة شرب الخمر، ووجوب القصر على المسافر، وغير ذلك
من الاحكام.
ومن الواضح ان حديث الرفع لا يتكفل رفع الحكم الثابت في حال العمد
- بمقتضى دليله -، إذ مع الخطأ وعدم العمد يرتفع الحكم بنفسه قهرا لعدم
موضوعه، بل لا احتياج لحديث الرفع.
و إنما الكلام في شموله للنحو الثاني من الاحكام. وهو محل الكلام في هذه
الجهة.
وقد يحرر هذا البيان بصورة ايراد، وهو: ان ظاهر حديث الرفع هو رفع
الحكم عن المضطر إليه بما هو كذلك، وهكذا في سائر الفقرات، بمعنى انه يتكفل
رفع الحكم الثابت بعنوان الاضطرار فيكون مصادما للأدلة التي تتكفل جعل
الحكم في مورد الاضطرار بخصوصه وبعنوانه.
وقد يجاب عن هذا الاشكال - بما هو ظاهر الكفاية - من: ان الظاهر
من الحديث أن هذه العناوين هي الموجبة لرفع الحكم، إذ أسند إليها الرفع،
وظاهر كل موضوع دخالته في ثبوت محموله. إذن فهو ظاهر في أن علة الرفع هي
هذه العناوين.
وبما أنه يستحيل أن يكون العنوان الواحد مقتضيا لعدم الشئ ومقتضيا
408

لثبوته لم يكن حديث الرفع شاملا للموارد التي تكون هذه العناوين دخيلة في
الحكم، ويكون الحكم مترتبا عليها. لاستلزامه أن يكون الشئ الواحد مقتضيا
للمتنافيين، بل كان منصرفا - بمقتضى هذا الوجه العقلي - عن هذه الصورة
ومختصا بمورد يكون الحكم ثابتا لذات العمل بعنوانه الأولي بلا دخالة هذه العناوين
أصلا. فليس حديث الرفع ظاهرا في رفع الحكم الثابت في مورد الاضطرار، بل
هو ظاهر في رفع الحكم لاجل الاضطرار، إذ " الاضطرار " اخذ في موضوع الرفع
فيكون دخيلا فيه، ولم يؤخذ في المرفوع كي يرد الاشكال المزبور (1).
وهذا البيان أشار إليه ملخصا المحقق النائيني (2). وأوضحه المحقق
الأصفهاني (قدس سره) بضميمة مقدمة إليه، وهي ظهور ورود الحديث في مورد
الامتنان (3).
وهذه الجهة بنظرنا غير دخيلة في البيان، فإنه يتم ولو لم يؤخذ فيه ورود
الحديث مورد المنة والتسهيل.
بل التحقيق: ان هذا الامر - أعني كون ملاك الرفع هو الامتنان كما
يصرح به ويلتزم بلوازمه -، لو سلم كان مخلا بالبيان السابق، إذ مرجعه إلى كون
رفع التكليف في موارد هذه العناوين لاجل التسهيل والمنة على العباد، وهذا لا
ينافي كون هذه العناوين بحسب ذواتها مقتضية لثبوت الحكم، إذ لا منافاة بين
كون الشئ بلحاظ ذاته مقتضيا لثبوت شئ، وبلحاظ جهة أخرى فيه مقتضيا
لعدم ذلك الشئ، ولا مانع من اقتضاء الشئ الواحد للمتنافيين بهذا الوجه.
إذن فلا مانع من الالتزام بظهور حديث الرفع في كون هذه العناوين لاجل المنة
رافعة للحكم مع الالتزام بشموله لموارد تكون هذه العناوين بذواتها موجبة لثبوت

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 341 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 348 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 183 - الطبعة الأولى.
409

الحكم، فكون الشئ الواحد مقتضيا للمتنافيين ليس محذورا على إطلاقه.
فالتحقيق ان يقال في جواب الاشكال وتحقيق جهة البحث، هو: انا نقطع
بصدور الأحكام الثابتة لهذه العناوين بما هي، كما نقطع بثبوت ما هو مفاد حديث
الرفع من رفع الاضطرار ونحوه، ومقتضى ذلك هو حمل الحديث على كون نظره
إلى الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية، لان حمله على رفع الأحكام الثابتة
للأشياء بهذه العناوين يستلزم إما رفع اليد عنه أو عن أدلة تلك الأحكام للتنافي
بينهما، وهو مما لا يمكن الالتزام به. فلاحظ.
الجهة الثانية: في عموم رفع هذه العناوين لموارد الفعل والترك.
وقد ذهب المحقق النائيني (رحمه الله) إلى عدم شمول الحديث لموارد
الاكراه أو الاضطرار المتعلق بالترك، وانما يختص بالاضطرار أو الاكراه على
الفعل، فقد ذكر بعد كلام طويل - لا يهمنا التعرض إليه -: ان المكلف إذا اكره
على الترك أو اضطر إليه أو نسي الفعل، ففي شمول حديث الرفع لذلك
إشكال، كما لو نذر ان يشرب من ماء دجلة، فأكره على العدم، أو اضطر إليه أو
نسي الشرب.
وقد وجه الاشكال: بان شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم، وليس
تنزيل المعدوم منزلة الموجود، لان تنزيل المعدوم منزلة الموجود يكون وضعا لا
رفعا. فإذا أراد أن يشمل حديث الرفع المثال المزبور كان مقتضاه انه ينزل عدم
الشرب منزلة الشرب، فيجعله كالشرب في ترتب الأثر عليه من عدم الحنث
ومخالفة النذر.
وهذا بخلاف ما إذا توجه الرفع إلى الفعل، فإنه ينزله منزلة العدم في عدم
ترتب الأثر فيصدق الرفع.
وبالجملة: بملاحظة ان حديث الرفع يتكفل التنزيل، لا يصح تعلقه
بالترك، لان مقتضاه تنزيله منزلة الوجود وهو يلازم الوضع لا الرفع. فيختص
410

بتنزيل الموجود منزلة العدم.
وانتهى (قدس سره) من هذا البيان إلى عدم امكان تصحيح العبادة
الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط لنسيان أو اكراه أو نحو ذلك بحديث الرفع،
إذ لا مجال لورود الرفع على السورة المنسية - مثلا - لخلو صفحة الوجود منها.
هذا مضافا إلى أن أثر السورة هو الاجزاء وصحة العبادة، ولا يمكن أن يكون
رفع السورة بلحاظ رفع اثرها المزبور - مع قطع النظر عن عدم قابليته
للجعل الشرعي -، لان مقتضاه فساد العبادة وهو خلاف الامتنان.
وذكر بعد ذلك: احتمال أن يكون المرفوع نفس جزئية المنسي للمركب.
ودفعه: بان الجزئية ليست منسية وإنما الذي طرأ عليه النسيان هو الجزء (1).
أقول: فيما أفاده (قدس سره) مواضع للنظر..
منها: ما أفاده من أن شأن حديث الرفع هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم،
لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود. إذ فيه..
أولا: انه لا وجه للالتزام بان حديث الرفع يتكفل التنزيل بعد ما عرفت
من تصوير تعلق الرفع حقيقة بالفعل المعروض لهذه العناوين بملاحظة كون
الرفع في عالم التشريع والجعل. وعرفت أنه ممن افاده (قدس سره)، وإذا كان
حديث الرفع يتكفل رفع معروض هذه العناوين حقيقة، فلا فرق بين الفعل
والترك، فهو كما يرفع الفعل في عالم التشريع يرفع الترك أيضا في عالم التشريع
بملاحظة رفع أثره، فلا يكون رفع الترك مساوقا للوضع.
فما أفاده ههنا هدم لما شيده قبل قليل فالتفت.
وثانيا: انه لو سلم ان حديث الرفع يتكفل التنزيل، فلا محذور في شموله
للترك، وذلك لأنا نقول إنه يتكفل تنزيل المعدوم منزلة الموجود في عدم ترتب أثر

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 354 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
411

المعدوم لا في ترتب أثر الموجود كي يكون الرفع وضعا.
بيان ذلك: ان العدم والترك إذا كان موضوع أثر خاص، فهو مما لا
يترتب على الوجود قهرا، فمثلا إذا كان الترك محرما لم يكن الوجود كذلك، وإن
كان للوجود أثر وجودي خاص كالوجوب مثلا. فالذي نقوله: أن الاشكال نشأ
عن تخيل ان حديث الرفع إذا تكفل تنزيل المعدوم منزلة الموجود فهو يقتضي
ترتب آثار الموجود عليه، وهذا وضع لا رفع. مع أن الامر ليس كذلك، بل حديث
الرفع انما يتكفل تنزيل المعدوم منزلة الموجود في عدم ترتب الأثر عليه لا غير،
فيكون الترك - في المثال المزبور - بمنزلة الفعل في عدم كونه محرما ومخالفة لا في
كونه واجبا ومما يتحقق به الامتثال، فلا يكون رفع العدم على هذا وضعا.
ومنها: ما ذكره من عدم إمكان استفادة صحة الصلاة من حديث الرفع
فيما إذا نسي الاتيان ببعض الاجزاء أو اضطر إلى تركه أو اكره عليه، لما تقدم
من أن الترك لا يكون مشمولا بالحديث. فإنه لا يخلو من خلط، إذ النسيان كما
ينتسب إلى الترك كذلك ينتسب إلى الفعل، فالترك الناشئ عن نسيان لا بد
أن يكون عن نسيان الفعل، فالنسيان عارض على الفعل وعلى الترك، فالمتعين
إفراده بالكلام وفصله عن صورة الاضطرار إلى الترك، إذ لا يتصور صدور الترك
عن نسيان مع عدم نسيان الفعل.
ولعل مراده ما ذكرنا من تعدد الملاك، وأن الكلام في الاضطرار لا يتأتى
في النسيان، بل عدم شمول حديث الرفع لنسيان الجزء لوجوه أخرى، والاشتباه
كان من المقرر.
ومنها: ما ذكره من أن الجزئية غير منسية مع نسيان الجزء. وهذا مما لا
يمكن الالتزام به، إذ يمتنع أن يكون المكلف في المكان المقرر للجزء ملتفتا إلى
جزئية الجزء ثم ينسى الاتيان بالجزء، بل لا بد أن يكون نسيان الجزء مصاحبا
لنسيان الجزئية. ويستحيل التفكيك بينهما. فالتفت ولا تغفل.
412

وقد تعرض إلى بعض ما أوردناه على المحقق النائيني بعض الأعاظم
المحققين فراجع تقريرات بحثه (2).
ثم إنه قد يشكل شمول الحديث لموارد ترك الواجب من جهة أخرى،
وهي: ان ظاهر الحديث هو رفع الأثر الشرعي المترتب على معروض الاكراه -
مثلا - دون غيره، لما عرفت من أن المراد بالموصول الفعل الذي تعلق به الحكم
أو يكون موضوعا له، والاكراه على الترك لا يكون من الاكراه على موضوع
الأثر، إذ الوجوب متعلق بالفعل، فلا أثر للترك كي يرتفع بالاكراه، وما هو
موضوع الأثر لم يعرض عليه الاكراه.
ولكنه يجاب بما حقق في مسألة الضد من: ان الامر بالشئ عين النهي
عن الضد العام له وهو الترك. بتقريب: ان البعث والتحريك الاعتباري كالبعث
الخارجي، فكما أن البعث الخارجي نحو شئ تكون له نسبتان: نسبة إلى الفعل
المبعوث نحوه، وهي نسبة القرب إليه. ونسبة إلى عدمه، وهي نسبة البعد عنه.
كذلك البعث الاعتباري، فان البعث نحو شئ اعتبارا كما ينسب إلى الفعل
فيكون محركا إليه كذلك ينسب إلى عدمه فيكون زاجرا عنه. فنفس طلب الفعل
ووجوبه ينهى عن الترك ويبعد المكلف عنه بالتقريب المذكور، فيكون الترك
موضوعا للأثر الشرعي لانتساب الحكم إليه بنسبة الزجر عنه.
ولولا هذا البيان لأشكل الامر في تعلق الاكراه بالمحرم أيضا بناء على أن
الحرمة طلب الترك - كما قربناه - لا الزجر عن الفعل. فان الاكراه على
الفعل لا يكون من الاكراه على متعلق الحكم، إذ متعلقه هو الترك.
نعم، لو كانت الحرمة هي الزجر عن الفعل كان الفعل بنفسه متعلقا
للحكم.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 218 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
413

ولا طريق إلى التفصي عن هذا الاشكال في موارد الحرمة، إلا بنظير ما
ذكرناه في موارد الوجوب، فنقول ان طلب الترك كما ينسب إلى الترك فيكون
محركا نحوه كذلك ينسب إلى الفعل فيكون زاجرا عنه. فتدبر.
الجهة الثالثة: في ما هو المرفوع من الأحكام التكليفية بهذه الفقرات.
لا إشكال في شموله للاحكام الاستقلالية، كما لو اكره على ترك الواجب
أو اضطر إليه أو نساه، أو اكره على شرب الخمر أو اضطر إليه أو شربه ناسيا.
وهل تشمل موارد الاحكام الضمنية أولا؟. فيه كلام. كما لو اضطر إلى
ترك بعض أجزاء الصلاة أو اكره عليه أو نسي جزئيته فتركه.
قد يقال: بعدم شمول رفع الاضطرار والاكراه للجزئية إذا اكره على ترك
الجزء أو اضطر إليه لا لاجل ان الجزئية ليست من الأمور المجعولة شرعا، فان
له حديثا آخر نتعرض له فيما يأتي ان شاء الله تعالى، بل لان حديث الرفع إنما
يتأتى في المورد الذي يكون جريانه فيه على وفق المنة والتسهيل. وجريانه ههنا
يستلزم الكلفة والتثقيل، وذلك لان مقتضى الاضطرار إلى ترك الجزء هو سقوط
الوجوب عن الكل لارتفاع الكل بارتفاع الامر الضمني المتعلق بالجزء، ومقتضى
رفع جزئيته بحديث الرفع هو لزوم الاتيان بالباقي لأنه مركب تام الاجزاء بلحاظ
حال الاضطرار. فيكون حديث الرفع مقتضيا للوضع وهو خلاف الامتنان.
وأما في صورة النسيان فجريان حديث الرفع موافق للامتنان، إذ الناسي
لا يلتفت إلى نسيانه وهو كذلك، ومعنى ذلك أنه أتى بالمركب الناقض ناسيا،
وانما يلتفت بعد ذلك وبعد زوال النسيان، فعدم رفع جزئية ما نساه يلزمه بالإعادة
للاخلال بما أتى به، فيكون اجراء حديث الرفع موافقا للامتنان.
هذه خلاصة ما يذكر في مقام الفرق بين صورة النسيان وصورة
الاضطرار.
وقد ينجر البحث ههنا كما ينجز في رفع ما لا يعلمون إلى أن الجزئية هل
414

تقبل الرفع بحيث يثبت الامر بباقي الاجزاء أولا؟. فقد يقال: ان جزئية الجزء
ليست مجعولة شرعا، وإنما هي منتزعة عن تعلق الامر بالمركب، فينتزع عن كل
جزء من المركب أنه جزء المأمور به، وهي بهذا المعنى تكون قابلة للوضع والرفع
شرعا. ولكنها انما تقبل الرفع بلحاظ رفع منشأ انتزاعها وهو الامر الضمني
المتعلق بالجزء، وبما أن الامر الضمني لا يثبت مستقلا ومنفردا عن سائر الأوامر
الضمنية المتعلقة بسائر الاجزاء، لم يمكن رفعه وحده، بل لا يرتفع إلا بارتفاع
الامر بالكل. وعليه فرفع الجزئية لا يكون الا برفع الامر بالكل، فلا دليل على
ثبوت الامر بالباقي.
ومن هنا أشكل الامر في اثبات وجوب الأقل لو دار الامر بينه وبين
الأكثر، بواسطة شمول حديث الرفع للجزء المجهول كونه جزء.
و قد تصدى صاحب الكفاية إلى الإجابة عن هذا الاستشكال بما لم نعهد
صدوره قبله، ومحصل ما أفاده (قدس سره): ان لدينا دليل على الامر بالكل.
ولدينا دليل يرشد إلى جزئية أمر، كقوله: " لا صلاة الا بفاتحة الكتاب " (1)، وهذا
الدليل بمقتضى اطلاقه يتكفل الاخبار عن دخالة الجزء في العمل في مطلق
الأحوال. فحديث الرفع يتكفل الاخبار عن عدم جعل جزئية الفاتحة في حال
الجهل أو غيره، فيكون مخصصا لدليل الجزئية، ولا نظر له إلى دليل الامر بالكل
مباشرة. فيكون نظير الاستثناء المتصل الدال على عدم الجزئية في غير مورد
الجهل. فلو ورد الدليل هكذا: " لا صلاة الا بفاتحة الكتاب في حال عدم الجهل "،
هل يتوقف أحد في ثبوت الامر في مورد الجهل بالفاقد للجزء المضطر إلى تركه؟.
وبالجملة: بعد تخصيص دليل الجزئية بحديث الرفع يرجع في اثبات الامر
بالباقي إلى دليل الامر بالعمل نفسه. فلاحظ.

(1) العوالي اللئالي 1 / 196. الحديث 2.
415

ولكنه (قدس سره) خص هذا البيان بمورد الشك في الجزئية أو نسيانها،
أما مورد الاضطرار إلى ترك الجزء، فقد ذهب إلى عدم جريان حديث الرفع
فيه (1).
ويمكن أن يقال في بيان الفرق بين صورة الاضطرار وصورة الجهل: إن
الاخبار بعدم جزئية شئ لشئ لازم أعم لعدم تعلق الامر بالمركب أصلا وللأمر
بالمركب الفاقد لذلك الشئ. إلا أن الاخبار بالرفع المقابل للوضع، لا يصح إلا
في مورد يكون أصل ثبوت الامر مفروغا عنه، وانما الشك في جزئية شئ للمأمور
به، فإذا قال المولى: " جزئية هذا الشئ للمأمور به مرفوعة "، فإنه ظاهر في
المفروغية عن ثبوت الامر بالمركب ووجود المأمور به. فلا يشمل المورد الذي لا
يكون للمركب المأمور به ثبوت.
وعليه، نقول: في موارد دوران الامر بين الأقل والأكثر لما كان وجود
المأمور به المركب مفروغا عنه للعمل به، وانما الشك في جزئية شئ له، كان الرفع
صادقا، إذ يصدق رفع جزئية المشكوك عن المأمور به. فيكون حديث الرفع
شاملا لموارد الجهل بالجزئية.
أما مع العجز عن اتيان الجزء، فبما أنه يسقط الامر بالكل للعجز عن
بعض أجزائه، فلا يكون ثبوت المأمور به مفروغا عنه، مع قطع النظر عن حديث
الرفع الذي يحاول به اثبات الامر بالباقي، فلا يصدق حينئذ رفع الجزئية، فعدم
شمول حديث الرفع لموارد الاضطرار العقلي إلى ترك الجزء من باب عدم صدق
الرفع على نفي الجزئية.
ولعل هذا هو الوجه الفارق بين الصورتين في نظر صاحب الكفاية،
فيكون مراده ان حديث الرفع لا يشمل مورد الاضطرار لعدم صدق الرفع، لا

(1) الخراساني المحقق محمد كاظم. كفاية الأصول / 366 - 369 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
416

لاجل صدق الوضع من جهة اثباته للامر بالباقي.
وبعبارة أخرى: يكون مراده ان شمول حديث الرفع يتفرع على
المفروغية عن أصل الوضع، فلا يثبت في مورد لا وضع فيه. لا أن مراده انه لا
يتكفل وضع التكليف، لأنه خلاف الامتنان كما هو ظاهر كلامه. فتدبر.
وهذا بعض الكلام في هذه الجهة، وتمام التحقيق يأتي في محله من دوران
الامر بين الأقل والأكثر ان شاء الله تعالى فانتظر.
الجهة الرابعة: في شمول رفع الاضطرار والاكراه للأحكام الوضعية.
وعمدة الكلام في الأحكام الوضعية المرتبطة بباب المعاملات. وهي على
قسمين: عقود وايقاعات...
أما المعاملات العقدية كالبيع ونحوه، فلا يشمله رفع الاكراه والاضطرار
لما تقدم من أن ظاهر الرفع عن المكلف انه في مقابل الوضع عليه الظاهر في نوع
من الثقل، ولا ثقل في الحكم الوضعي كصحة البيع ونحوها بلحاظ ذاته، إذ قد
يرغب فيه المكلف ويحاول تحقيقه بشتى الطرق في بعض الأحيان.
ولما تقدم من أن مثل صحة البيع ونحوها ليس مما يتعلق بمكلف خاص
يخاطب به، بل هو حكم يخاطب به جميع المكلفين، فليست هي مجعولة على
المضطر أو المكره، كي ترتفع عنه بالاضطرار أو الاكراه، سواء كانت حكما
وضعيا أم كانت حكما انتزاعيا، إذ هي تنتزع عن مجموعة احكام تكليفية تتعلق
بمجموع المكلفين لا من خصوص ما يتعلق به من أحكام.
هذا، مع أن رفع صحة البيع بالنسبة إلى المضطر إليه خلاف الامتنان
والارفاق به، إذ يؤدي به ذلك إلى الهلاك.
كما أنه لا جدوى في اثبات شمول رفع الاكراه للمعاملات المالية كالبيع،
لما علم من الأدلة بتقييد الصحة فيها بصورة عدم الاكراه وطيب النفس والرضا،
فالصحة منتفية في صورة الاكراه لتلك الأدلة.
417

هذا، مع أن ذلك مانع عن شمول الحديث، لما عرفت في الجهة الأولى ان
هذا الحديث لا يتكفل رفع الأحكام الثابتة للشئ بقيد عدم الاكراه. فراجع.
وأما المعاملات الايقاعية، كالطلاق والعتق، فالحال فيها كالحال في
العقود.
ثم إنه قد يدعى شمول رفع الاكراه للأحكام الوضعية بدلالة رواية
صفوان بن يحيى والبزنطي جميعا عن أبي الحسن (عليه السلام): " في الرجل
يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال:
لا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وضع عن أمتي ما اكرهوا عليه وما لم
يطيقوا وما أخطأوا " (1).
والتحقيق: أن المكره عليه إن كان الحلف على الفعل من ايجاد الطلاق
والعتق والصدقة - بالمعنى المصدري - فيراد من قوله: " أيلزمه ذلك " وجوب
صدور ذلك منه، كانت الرواية أجنبية عما نحن فيه، إذ هي تتكفل رفع الحكم
التكليفي بوجوب الوفاء باليمين وحرمة الحنث. وان كان الحلف على الطلاق
وغيره بالمعنى الاسم المصدري، نظير نذر النتيجة، فيكون المراد من قوله:
" أيلزمه ذلك " نفوذ ولزومه الوضعي وترتب هذه الأمور بمجرد الحلف، كانت
مما نحن فيه. ولكن ذلك خلاف ظاهرها، فان ظاهرها كون الحلف على ايجاد هذه
الأمور لا على ترتبها وتحققها في أنفسها.
هذا، مع أن الحلف على هذه الأمور باطل عندنا، ولو كان بدون اكراه،
فتطبيق حديث الرفع عليه ظاهر في كون الطرف السائل من المخالفين، أو المورد
مورد التقية (2).

(1) وسائل الشيعة 16 / 164 باب: 12 من أبواب كتاب الايمان، الحديث: 12.
(2) مضمون هذا الايراد ذكره المحقق الأصفهاني راجع نهاية الدراية 2 / 182 - الطبعة الأولى.
418

وعليه، فلا ظهور في كون الاستدلال بحديث الرفع استدلالا واقعيا، بل
يمكن أن يكون جدليا لالزام الطرف المقابل لتسليمه ظهور الحديث في رفع
الحكم الوضعي. وهذا لا يعني ان الإمام (عليه السلام) يرى ذلك. ومثل ذلك
كثير في كلامهم (عليهم السلام).
ولو سلم ظهور الرواية في المدعى ونريد العمل بها، فهي لا تقتضي
شمول الحديث لمطلق موارد الأحكام الوضعية، بل تختص بالايقاعات.
وذلك للفرق بين العقود والايقاعات في أن الحكم الوضعي في باب العقود
يترتب على مجموع الايجاب والقبول، وليس هو فعل المكره فقط، فالايجاب
المكره عليه أو القبول ليس موضوع الأثر، وموضوع الأثر ليس فعل المكره كي
يرتفع بالاكراه، بخلاف الايقاع، فان موضوع الأثر هو نفس فعل المكره.
وبالجملة: لو أردنا التنزل عن الاشكالات المتقدمة، فههنا ايراد آخر
في باب العقود، وهو: ان الظاهر من الحديث هو رفع الأثر المترتب على فعل
المكره دون غيره، وفعل المكره في باب العقود ليس مورد الأثر، إذ الأثر يترتب
على فعل شخصين الموجب والقابل، فلا يتكفل رفع الاكراه رفع صحة البيع مع
الاكراه على الايجاب، لان الصحة تترتب على الايجاب والقبول لا خصوص
الايجاب.
وهذا الايراد لا يتأتى في باب الايقاعات، لان موضوع الأثر نفس انشاء
المكره لا غير، فيمكن ان يشمله حديث الرفع. فإذا دل دليل على الرفع في مورد
الايقاعات فلا يلازم ثبوت الرفع في موارد العقود.
ولا يخفى ان الحديث يرتبط بباب الايقاعات، إذ فرض الاستدلال
بالنص ان هذه الأمور تتحقق بمجرد الحلف بلا احتياج إلى قبول في مثل الصدقة،
بل تكون نظير الوقف على المساجد، واما كل من الطلاق والعتق فهو في نفسه
لا يحتاج إلى قبول. فلا دلالة له على دلالة الحديث على رفع مطلق الاحكام
419

الوضعية. فلاحظ وتدبر.
ثم إنه بقيت في هذا الحديث أبحاث أخر مختصرة خارجة عما نحن بصدده
أهملنا التعرض إليها.
تنبيه: تكرر في بعض الكلمات ورود هذا الحديث مورد الامتنان على
الأمة الظاهر في الامتنان بحسب النوع، ومقتضى ذلك تحقق التعارض في بعض
الموارد فيما إذا دار الامر بين ضررين على شخصين، بان كان جريان حديث
الرفع مستلزما في حق أحد لضرر آخر، فيلتزم بعدم شمول حديث الرفع لمثل
ذلك.
ولكن هذه الدعوى لا شاهد عليها، بل غاية ما يستفاد من الحديث هو
وروده مورد التسهيل، وهو ظاهر في التسهيل الشخصي نظير رفع الحرج.
وعليه، فلا مانع من شمول حديث الرفع للمثال المزبور إذ فيه تسهيل
وارفاق بمن يجري في حقه بلا كلام. فتدبر.
هذا تمام الكلام في حديث الرفع.
ومنها: حديث الحجب: وهو قوله (عليه السلام): " ما حجب الله علمه
عن العباد فهو موضوع عنهم " (1). وتقريب الاستدلال به: أنه يدل على أن الحكم
المجهول موضوع عن العباد، وهو من حيث شموله للشبهة الحكمية أظهر من
حديث الرفع، إذ لا يتأتى فيه اشكال وحدة السياق لعدم الموضوع له، بل
المتيقن منها بقرينة اسناد الحجب إلى الله إرادة الشبهة الحكمية، فإنه يتناسب
مع إرادة الحكم الكلي المجهول كما لا يخفى. وقد نوقش في الاستدلال بها.
وتحقيق الكلام فيه: ان الحكم المجهول..
تارة: يكون حكما انشائيا صرفا لم يبين إلى الناس لبعض المصالح، ولم

* (1) وسائل الشيعة 18 / 119 باب: 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 28.
420

يؤمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمة (صلوات الله عليهم) بتبليغه إليهم.
وأخرى: يكون حكما فعليا بلغ إلى الناس وبين لهم، ولكنه خفي علينا
ولم يصل الينا لبعض الأسباب من ظلم الظالمين وغيره.
ولا يخفى ان محل الكلام في باب البراءة هو النحو الثاني، فالبحث يقع
في أنه إذا احتمل صدور الحكم إلى الناس ولكنه خفي علينا بحيث لو اطلعنا
عليه لوجب علينا امتثاله، فهل تجري البراءة أو الاحتياط؟.
أما النحو الأول: فهو ليس محل الكلام بين الأصوليين والأخباريين، بل
احتماله لا يوجب الاحتياط قطعا ولا يعتنى به أصلا، إذ هو مما سكت الله تعالى
عنه، وقد ورد الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بالأمر بالسكوت عنه (1).
إذا تبين ذلك، نقول: انه قد ادعي ان الحديث المزبور ناظر إلى النحو
الأول من الاحكام، فلا دلالة له على البراءة فيما نحن فيه وهو النحو الثاني،
بل يكون مساوقا للحديث الشريف المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
الذي أشرنا إليه.
وفي تقريبه وجهان:
أحدهما: ما أشار إليه صاحب الكفاية (قدس سره) من أن الجهل بالحكم
بالنحو الثاني لم يكن سببه الله تعالى، إذ هو أمر بتبليغه وبلغ، وإنما نشأ عن إخفاء
الظالمين للاحكام ومنعهم من انتشارها وتدليس المدلسين وغير ذلك من الأسباب
الخارجية. بخلاف الجهل بالنحو الأول، فإنه ناشئ من عدم أمر الله تعالى
بتبليغه وبيانه.
وعليه، فلا يصح نسبة الحجب إلى الله سبحانه بلحاظ الجهل بالنحو
الثاني، ويصح نسبته إليه بلحاظ النحو الأول، فلا بد من حمل الحديث على إرادة

(1) نهج البلاغة، قصار الحكم 105.
421

النحو الأول من الاحكام (1).
وهذا الوجه مردود: بان الأسباب الخارجية التي تكون سببا لخفاء النحو
الثاني من الاحكام..
تارة: لا تكون من الأفعال الاختيارية للعباد، بل من الأسباب التكوينية،
كضياع كتب الحديث بواسطة غرق أو عارض سماوي ونحو ذلك.
وأخرى: تكون من الأفعال الاختيارية كوضع الوضاعين واتلاف
الظالمين لكتب الحق.
ولا يخفى أنه يصح نسبة الحجب إلى الله تعالى إذا كان سبب الخفاء هو
العوارض السماوية ونحوها مما لا تتدخل فيها إرادة العباد.
وأما إذا كان سبب الخفاء هو الفعل الاختياري للعبد، فتصح نسبته إلى
الله تعالى بلحاظ ما هو المذهب الحق من الالتزام بالأمر بين الامرين، فأن الفعل
الصادر من العبد، كما تكون له نسبة إلى العبد تكون له نسبته إلى الله سبحانه
بملاحظة انه بيده وجود العبد، كما حقق في محله.
نعم، من يقول بالتفويض لا يصحح نسبة العبد الاختياري إلى الله
سبحانه، ولكنه خلاف ما نعتقد به نحن الامامية أعلى الله كلمتنا ببركة محمد
وآله (صلوات الله وسلامه عليهم).
إذن فكما يصح نسبة الحجب إلى الله سبحانه في مورد الجهل بالنحو
الأول من الاحكام، كذلك يصح نسبته إليه تعالى في مورد الجهل بالنحو الثاني.
الوجه الاخر: أنه وان صح نسبة الحجب إليه تعالى، لكن الظاهر العرفي
من إسناد الحجب إليه تعالى هو إرادة ما إذا كان الاخفاء بأمره، إذ لا يسند
الحجب إليه عرفا إذا كان الاخفاء على خلاف أمره، بل كان بواسطة الظلم

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 341 - طبعة مؤسسة آل البت (ع).
422

المحرم المبغوض إليه، فيختص الحديث بالنحو الأول من الاحكام.
وهذا الوجه لا يخلو عن صورة وجيهة.
لكن يمكن أن ينحل الاشكال: بأن ظاهر قوله (عليه السلام): " ما
حجب الله علمه " هو ثبوت الحكم في نفسه في الواقع، إذ الحجب متعلق بالعلم
به، فإنه ظاهر في أن الحكم له تقرير وثبوت في الواقع. فيراد من الموصول هو
الحكم الثابت المجهول، كما أن ظاهر قوله: " فهو موضوع عنهم " أنه في مقابل
الوضع عليهم ارفاقا بالعباد وتسهيلا عليهم، وحينئذ فيختص بالاحكام التي
تكون قابلة للوضع على العباد فوضعها الله عنهم ارفاقا بهم.
والحكم القابل للوضع على العباد هو الحكم الفعلي الصادر المبين لبعض
الناس وإن خفي بعد ذلك، فإنه قابل للوضع الظاهري في حال الجهل بجعل
ايجاب الاحتياط.
أما الحكم الانشائي المختص بعلم الله تعالى فقط أو مع النبي والأئمة
(عليهم السلام) الذي لم يبين إلى أحد لمصلحة تقتضي ذلك، فليس هذا بقابل
للوضع على العباد كي يرفع عنهم، ولا موهم لوضعه عليهم بعد فرض عدم تبليغه
وبيانه، لقصور في مقتضيه أو لغير ذلك، ولذا لو تعلق به العلم - فرضا - لا يجب
امتثاله واطاعته، بل قد لا يسمى حكما لدى العرف فلا يكون الكلام لديهم
ظاهرا في كونه هو المنظور به.
ومع هذا الظهور لا مجال لدعوى الظهور السابق الذي أريد به دفع
دلالة الحديث على البراءة. إذن فالحديث من أدلة البراءة، ومقتضى إطلاق
الموصول إرادة مطلق الحكم أعم من موارد الشبهة الحكمية وموارد الشبهة
الموضوعية.
ومنها: حديث الحل: وهو ما ذكره في الكفاية من قوله (عليه السلام):
423

" كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه " (1). وادعى ان دلالته على حلية
ما لم تعلم حرمته - مطلقا من جهة الاشتباه الحكمي أو الموضوعي - تامة. ولكنها
بحسب ظهورها الأولي مختصة بالشبهة التحريمية. إلا أنه ذهب إلى تعميم
الحكم للشبهة الوجوبية بأحد وجهين:
الأول: عدم الفصل قطعا بين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمة
وعدم وجوبه في الشبهة الوجوبية، فان كل من يرى البراءة في الشبهة
التحريمية يرى البراءة في الشبهة الوجوبية، وأن كان ليس كل من يرى البراءة
في الشبهة الوجوبية يراها في الشبهة التحريمية.
الثاني: ان ترك محتمل الواجب محتمل الحرمة، إذ الترك على تقدير
الوجوب محرم، فيكون ترك الواجب المحتمل مشمولا لحديث الحل رأسا للشك
في حرمته (2).
أقول: الكلام في هذا الحديث في مقامين:
الأول: في وجود حديث بهذا النص بالخصوص ومستقلا، فقد ادعي ان
هذا النص ورد في رواية مسعدة بن صدقة المشتملة على تطبيقه على بعض موارد
الشبهات الموضوعية، كالثوب المحتمل انه سرقة والجارية المحتمل انها أخته
بالرضاعة، والعبد المحتمل أنه حر.
نعم، ورد نص أخر يقارب هذا النص بنحو الاستقلال تارة. وفي مورد
الجبن أخرى. ولكنه ظاهر في الشبهة الموضعية لقوله: " كل شئ فيه حلال
وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه " (3). ولعله يأتي الحديث فيها
مفصلا.

(1) وسائل الشيعة 12 / باب: 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 4.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 341 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) وسائل الشيعة 12 / باب: 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.
424

الثاني: في دلالته على المدعى. ونتكلم فيه..
تارة: على أنه نص مستقل غير رواية مسعدة بن صدقة.
وأخرى: على أنه رواية مسعدة بن صدقة.
أما على الأول: فقد يستشكل - كما في تقريرات الكاظمي (1) - في شموله
للشبهة الحكمية بملاحظة قوله: " بعينه "، فإنه ظاهر في كون الشك في تعيين
الحرام، وهو انما يكون في مورد ينقسم إلى قسمين حرام، وغير حرام كاللحم
المنقسم إلى الميتة والمذكى، فيختص الحديث بالشبهة الموضوعية، إذ لا معنى
لمعرفة الحرمة بعينها.
ولكنه مخدوش: بأنه يمكن تعميم الحديث للشبهة الحكمية مع المحافظة
على ظهور لفظ: " بعينه " كما في موارد العلم الاجمالي (2)، بدوران الحرمة المجعولة
بين شيئين كحرمة الغيبة أو الغناء، فإنه يصدق على مثل ذلك بان كلا منهما حلال
حتى يعرف الحرام بعينه، مع كون الشبهة في كل منهما حكمية لا موضوعية.
فالاشكال نشأ من تخيل لزوم رجوع لفظ: " بعينه " إلى الحرمة على تقدير إرادة
الشبهة الحكمية، وهو مما لا معنى له، مع أنه غير لازم، إذ يمكن ارجاعه إلى
الحرام مع فرض الشبهة حكمية كما عرفت تصويره.
وأما ما ذكره صاحب الكفاية في مقام تعميم البراءة الثابتة بهذا الحديث
للشبهة الوجوبية، فهو ممنوع..
أما الوجه الأول: فلان عدم الفصل والاجماع المركب انما يؤخذ به لو كان

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 364 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) لا يلزم ان يفرض العلم الاجمالي منجزا كي يشكل بان الحديث مما يعلم بعدم شموله له وان موضوع
الكلام هو موارد عدم العلم الاجمالي، بل ينفع ما قلناه في موارد العلم الاجمالي غير المنجز كخروج
بعض أطرافه عن محل الابتلاء أو لانحلاله حكما - كما هو أحد وجوه العلم الاجمالي الذي ادعاه
الأخباريون مستدلين به على الاحتياط - أو حقيقة. فلاحظ.
425

منشؤه الاطلاع على رأي المعصوم (عليه السلام) من طريق ليس بأيدينا، والأمر
ليس كذلك ههنا، فان من يلتزم بالبراءة في الشبهة الوجوبية أو الشبهة
التحريمية يستند في التزامه إلى الوجوه المعلومة التي نحن في مقام التحدث عن
تماميتها وعدم تماميتها، فلا يكون مثل هذا الاجماع المركب حجة في المقام.
وأما الوجه الثاني: فلان الترك في موارد الوجوب لا يصدق عليه أنه حرام
عرفا، ولا يصدق على الشك فيه أنه شك في الحرام. فلا وجه لما أفاده، ولعل قوله:
" فتأمل " إشارة إلى ذلك.
وأما على الثاني: فقد يستشكل في دلالتها على البراءة في الشبهة الحكمية
من جهة تطبيقها - بعنوان التمثيل - على موارد كلها من الشبهات الموضوعية،
وظاهر التطبيق والتمثيل كون المراد بالعموم هو خصوص الشبهات الموضوعية.
بل قد يشكل تكفلها لجعل أصالة البراءة التي هي محل البحث، لان جميع
الأمثلة المذكورة في النص مما لا يكون المستند في الحلية فيها أصالة الحل، بل
الأصول أو الامارات الموضوعية الحاكمة على أصالة الفساد أو أصالة الاحتياط
في الفروج والأموال، بحيث لولا هذه الأصول الموضوعية لكان المرجع هو
الاحتياط لا البراءة.
أقول: الاشكال من الجهة الأولى هين إذ لا ظهور في التطبيق بنحو
يوجب صرف العام عن عمومه. وإنما العمدة هو الاشكال من الجهة الثانية.
وعليه، يدور مفاد الرواية بين كونها اخبارا عن ثبوت الحلية في جميع موارد
الشبهة، كل شبهة بحسب ما يتقرر فيها من دليل أو أصل يقتضي الحلية،
فيكشف عن جعل أصالة الحل والبراءة في الموارد المشتبهة الخالية عن ما يقتضي
الحلية من أصل موضوعي أو دليل. وكونها إشارة إلى ما جعله الشارع من أصول
و امارات تقتضي الحلية وبيان تسهيل الشارع على العباد وعدم تضييقه عليهم،
426

نظير ما دل على أنه (صلى الله عليه وآله) بعث بالحنيفية السمحاء (1)، فلا تدل
على جعل أصالة البراءة في موارد الشبهات البدوية الخالية عن الأصول
الموضوعية المقتضية للحل. ولا قرينة انها بالنحو الأول، فتكون مجملة لا ظهور
لها في المدعى، بعد عدم امكان الاخذ بظاهرها الأولي وهو جعل الحلية وانشائها.
ومنها: حديث السعة: وهو قوله (عليه السلام): " الناس في سعة ما لا
يعلمون " (2).
وهو في نصه وصياغته يحتمل وجهين:
أحدهما: ان تكون: " ما " موصولة أضيف إليها لفظ السعة فيكون المفاد
" الناس في سعة ما داموا لا يعلمون " الاخر: ان تكون: " ما " ظرفية، ولفظ سعة منون الآخر فيكون المفاد:
" الناس في سعة ما داموا لا يعلمون ".
وقد ذكر صاحب الكفاية أنه يدل على البراءة على كلا الاحتمالين، فإنه
يدل على أن الناس في سعة وتخفيف من جهة التكليف الذي لا يعلمونه أو
ما داموا لا يعلمون التكليف، فيكون معارضا لأدلة الاحتياط - لو تمت -، لأنها
تقتضي ان المكلف في ضيق من الواقع المجهول.
وقد يقال: ان أدلة الاحتياط تقتضي العلم بالاحتياط، فتكون واردة على
هذا الحديث المقيد بالعلم.
وأجاب عنه صاحب الكفاية: بان أدلة الاحتياط لا تستلزم العلم بالواقع،
بل انما تقتضي تنجيز الواقع وجعل المكلف في عهدته، لان وجوب الاحتياط
طريقي، فلا يرتفع موضوع حديث السعة.

(1) وسائل الشيعة 14 / 74 باب 48 الحديث 1
(2) وسائل الشيعة 2 / 1073 باب: 50 من أبواب النجاسات، الحديث: 11.
427

نعم، لو كان وجوبه نفسيا كان المكلف في ضيقه وكانت أدلته رافعة
لموضوع حديث السعة بالنسبة إليه (1).
أقول: ما أفاده (قدس سره) يتم بناء على احتمال إضافة السعة إلى: " ما "
على أن تكون موصولة، إذ الظاهر إرادة عدم العلم بنفس الحكم الذي يكون
المكلف في سعة منه وأدلة الاحتياط لا تستلزم العلم به.
وأما بناء على احتمال كون: " ما " ظرفية، فلا يتم ما أفاده، لان ظاهر
الحديث حينئذ: " ان الناس في سعة وراحة ما داموا لا يعلمون ". ومثل هذا التعبير
متعارف الاطلاق لبيان رفع الحرج في حال عدم العلم، ولكن من البديهي الواضح
تقييد متعلق العلم بما يرتبط بما يكون في سعة منه، إذ لا معنى لان يراد ان الناس
في سعة من حرمة شرب الخمر ما داموا لا يعلمون وجوب الخمس أو حرمة أكل
الأرنب أو أي شئ كان، وانما المراد ان الناس في سعة من حرمة شرب الخمر
- مثلا - ما داموا لا يعلمون ما يرتبط به من ثبوته أو ثبوت الطريق عليه أو نحو
ذلك مما يتعارف كونه رافعا للسعة وموجبا للوقوع في الضيق.
ومقتضى اطلاقه عموم متعلق العلم لكل ما ينجز التكليف. فتكون أدلة
الاحتياط على هذا واردة على هذا الحديث.
ويكون مفاد الحديث على حد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لا يمكن
الأخذ به إلا إذا لم تتم أدلة الاحتياط.
وبما أن الحديث يدور بين هذين الوجهين - المختلفي النتيجة - ولا ظهور
له في أحدهما، لم يكون من أدلة البراءة بالنحو الذي يعارض أدلة الاحتياط
لاجماله. فلاحظ.
ومنها: حديث الاطلاق: وهو قوله (عليه السلام) في مرسلة الفقيه: " كل

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 342 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
428

شئ مطلق حتى يرد فيه نهي " (1).
وقد ذهب الشيخ (رحمه الله) إلى أنها في الدلالة أوضح من الكل (2).
ولكن صاحب الكفاية (رحمه الله) توقف في دلالتها على المدعى: بلحاظ
ان الورود غير ظاهر في الوصول المساوق للعلم بالنهي، بل يصدق الورود على
صدور النهي، ولو لم يصل إلى المكلف ولم يعلم به، فيكون مفاد الحديث إباحة
الشئ حتى يصدر فيه نهي، فلا ترتبط بما نحن فيه، إذ محل البحث هو حكم ما
شك في صدور النهي فيه هل هو الإباحة أو الاحتياط؟، فلا يشمله هذا الحديث،
لان موضوعه ما لم يصدر فيه نهي لا ما يشك في صدور النهي فيه، فما يشك في
صدور النهي فيه يكون من الشبهات المصداقية لهذا الحديث، ولا يصح التمسك
بالعام في مورد الشبهة المصداقية له (3).
ولكن المحقق الأصفهاني (رحمه الله) حاول اثبات دلالتها على المدعى،
وهو الإباحة الظاهرية في مورد الشك في صدور الحرمة وعدم وصولها للمكلف
بطريقين:
الطريق الأول: عدم تصور إرادة جعل الإباحة مقيدة بعدم صدور النهي
واقعا على جميع تقادير الإباحة، المستلزم ذلك لحمل الورود ههنا على الوصول
لو سلم أنه ظاهر في أصل الصدور، فرارا عن المحاذير. بيان ذلك: ان الإباحة
على قسمين..
إباحة مالكية مرجعها إلى عدم الحرج - عقلا - في الفعل والترك في مورد
احتمال الحرمة، بملاحظة مالكية المولى لأفعال العبد وكون فعل العبد تصرفا في
سلطان المولى وملكه، مع قطع النظر عن التشريع، وهي المعبر عنها بالإباحة قبل

(1) وسائل الشيعة 18 / 127 باب: 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 60.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 199 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 342 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
429

الشرع.
وإباحة شرعية، وهي الترخيص المجعول من قبل الشارع بما أنه شارع،
وهي تارة تكون واقعية. وأخرى تكون ظاهرية.
فالمراد من: " الاطلاق " في المرسلة لا يخلوا إما أن يكون الإباحة الشرعية
الواقعية أو الإباحة الشرعية الظاهرية أو الإباحة المالكية. والكل لا يتلاءم مع
إرادة عدم الصدور من عدم الورود.
أما الإباحة الواقعية، فلان إرادتها تقتضي أن يكون مفاد الحديث: " ان
كل شئ لم يتعلق به نهي واقعا مباح واقعا ". وهو لغو لو اخذ التقييد بنحو
المعرفية، إذ مرجعه إلى بيان ان غير الحرام مباح، وهو واضح لا يحتاج إلى بيان.
ولو أخذ التقييد بنحو الموضوعية فيرجع إلى أخذ عدم الحرمة في موضوع
الإباحة. وهو غير صحيح لما حقق من أن عدم الضد لا يكون من مقدمات
وشروط وجود ضده، بل هما متلازمان.
وأما الإباحة الظاهرية، فلان ارادتها ممتنعة لوجوه:
أولا: تخلف الحكم عن موضوعه لان موضوع الحكم الظاهري هو الجهل
وعدم العلم، فإذا كان مقيدا بعدم صدور النهي، فقد يكون النهي صادرا، ولكنه
مشكوك، فلا يكون هناك حكم ظاهري مع تحقق موضوعه وهو الشك.
وثانيا: ما أشرنا إليه من أن موضوع الإباحة الظاهرية إذا كان هو عدم
صدور النهي فهو مشكوك، فلا يمكن اثبات الإباحة الظاهرية في مورد الشك،
لأنه من التمسك بالدليل مع الشك في موضوعه.
والتمسك باستصحاب عدم الصدور، لا يجدي إما لكفايته بنفسه بلا
احتياج إلى الخبر، أو عدم فائدته وعدم صحة الاستدلال به، كما يأتي توضيحه.
وثالثا: ان جعل عدم صدور النهي غاية للإباحة الظاهرية يرجع إلى
فرض عدم الحرمة حدوثا، ومعه لا شك في الحرمة والحلية من أن أول الامر، فلا معنى
430

لجعل الحلية الظاهرية حينئذ.
وأما الإباحة المالكية، فلان ارادتها بعيدة عن منصب الإمام (عليه السلام) المعد لتبليغ الاحكام، خصوصا وأن الخبر مروي عن الصادق (عليه
السلام) بعد ثبوت الشرع بمدة طويلة، فلا معنى لان يبين ذلك.
وإذا ظهر امتناع أخذ الإباحة بجميع أقسامها مفيدة بعدم صدور النهي
فلا بد من حمل الورود ههنا على إرادة الورود على المكلف المساوق لوصوله إليه،
ويراد من الاطلاق الإباحة الشرعية الظاهرية. والتعبير عن الوصول تعبير
شائع في العرف.
الطريق الثاني: ان الورود ليس بمعنى الصدور، بل هو بمعنى يساوق
الوصول، وذلك لان الورود متعد بنفسه، فهناك وارد ومورود، فيقال ورد الماء
وورد البلد ووردني كتاب فلان، وقد يتعدى بعلى بلحاظ اشراف الوارد على
المورود، فيقال ورد علي كتاب فلان. وقد يكون للوارد محل في نفسه كالحكم،
فيقال: ورد فيه نهي مثلا. فموضوع الحكم محل للوارد لا مضائف له، فلا يقال
عن الموضوع انه ورده نهي، بل مضائف الحكم الوارد هو المكلف.
وعليه، فيكون مفاد الرواية: " حتى يرد المكلف نهي "، فلا يكون الورود
بمعنى الصدور مفهوما حتى لا يحتاج إلى مكلف يتعلق به، بل هو يساوق
الوصول لاجل التضائف بين الوارد والمورود.
فهذا الطريق يرجع إلى ظهور الورود عرفا فيما يساوق الوصول،
والطريق الأول يرجع إلى ضرورة حمل الورود على ما يساوق الوصول (1).
أقول: لا يمكن أن يكون المجعول هو الإباحة الظاهرية، مع كون المراد
من الورود الصدور، إذ جعل الإباحة الظاهرية ترجع إلى جعل المعذورية. ومن

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 187 - الطبعة الأولى.
431

الواضح انه لا معنى للحكم بالمعذورية مقيدا بعدم صدور النهي واقعا أو مغيى
بالصدور الواقعي، لان المعذورية مع عدم الصدور واقعا لا اشكال فيها فلا
حاجة إلى الحكم بها.
وأما ما أفاده المحقق الأصفهاني فيمكن، المناقشة فيه..
أما الطريق الأول: فلانه يمكن فرض شق رابع - أشار إليه المحقق
النائيني (1) -، وهو: أن يكون المقصود الامر بالسكوت عما سكت الله عنه كما ورد
هذا المضمون في بعض النصوص (2).
أو فقل: انا نختار الشق الأول، وليس المراد بيان ان غير الحرام واقعا
حلال واقعا، بل المراد التنبيه على لزوم ترتيب أثر الحلية على ما هو حلال وعدم
التصدي إلى الفحص والسؤال وايقاع النفس في الضيق، فالاطلاق في النص لا
يراد به نفس الإباحة، بل هو بلحاظ أثر الإباحة من السعة في مقابل الضيق.
وأما الطريق الثاني: فلان فرض كون الورود متعديا يحتاج إلى مفعول،
ويكون مضائفا للمورود كالعلة والمعلول، لا ملازمة بينه وبين علم المكلف
بالوارد، إذ هو أول الكلام، وأي شئ في كلامه (قدس سره) يدل على الملازمة،
بل غاية ما يدل عليه كلامه هو تعلق الورود بالمكلف. أما ان تعلقه به يستلزم
علم المكلف بالوارد، فهذا مما لا يتكفله كلامه كما لا يخفى، كما أنه محل تشكيك
لدينا ولا نستطيع الجزم به، إذ يصح أن يقول القائل وردني ضيف ولم أعلم به
حتى خرج، فتدبر.
ومنها: رواية عبد الأعلى عن الصادق (عليه السلام) قال: " سألته عمن
لم يعرف شيئا؟. هل عليه شئ قال: لا " (3).

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 363 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) نهج البلاغة، قصار الحكم 105.
(3) الأصول من الكافي 1 / 164. الحديث 2.
432

وتقريب الاستدلال بها - كما في الرسائل -: ان المراد بالشئ الأول فرد
معين مفروض في الخارج، فيكون المراد هل عليه في خصوص ذلك المجهول
شئ، وقد تكفلت الرواية نفي الشئ عليه وهي ظاهرة في معذوريته (1).
وللمناقشة في هذا الاستدلال مجال، لظهورها في إرادة الجاهل القاصر
الذي لا يلتفت إلى غالب الاحكام ولا يعرف شيئا من الاحكام ويعبر عنه
بالفارسية: " جيزي سرش نميشود "، فلا ترتبط بما نحن فيه.
وأما ما أفاده العراقي في تقريب دلالتها من: أنها تشمل الجاهل الملتفت
غير القادر على الفحص، وبضميمة عدم الفصل تثبت المعذورية بالنسبة
للجاهل الذي لا يعرف شيئا خاصا الذي هو محل الكلام فيما نحن فيه (2).
ففيه: انه وإن أمكن إرادة ذلك من النص، لكن العبرة بظهورها لا بما
يمكن حمله عليه، وهو ظاهر في ما عرفت من الجاهل القاصر الذي لا يتوصل
إلى إدراك الأمور.
ومنها: قوله (عليه السلام): " أيما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شئ
عليه " (3).
وتقريب الاستدلال بها واضح. وقد استشكل الشيخ في دلالتها بدعوى
ظهورها في كون المراد هو الجاهل المركب والغافل عن الواقع لا الجاهل البسيط
المتردد - الذي هو محل الكلام في أصالة البراءة، لان الغافل والجاهل المركب مما
لا اشكال في معذوريتهما -. ولم يوجه الشيخ استظهاره المزبور. وبين الوجه فيه:
بان ذلك ظاهر الباء لظهورها في السببية، والارتكاب انما يكون بسبب الجهل
إذا كان الجهل مركبا فيكون فعله الحرام مستندا إلى اعتقاد عدم حرمته، لا ما

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 199 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 229 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) تهذيب الأحكام 5 / 73.
433

إذا كان بسيطا إذ الفعل في مورد التردد لا يكون مسببا عن التردد.
وأيد الشيخ (رحمه الله) دعواه المتقدمة: بان تعميم النص للجاهل المتردد
يستلزم التخصيص بالشاك غير المقصر إذ المقصر غير معذور قطعا، مع أن سياق
النص يأبى عن التخصيص (1).
وأورد على ذلك: بان التخصيص لازم على كل حال، لأنه لو أريد
خصوص الجاهل المركب، فلا بد من تخصيصه بغير المقصر، لان المقصر غير
معذور ولو كان جهله مركبا.
وأما ما أفاده من ظهور الرواية في إرادة الجاهل المركب وعدم شمولها
لصورة التردد، فهو متين.
وقد أورد عليه المحقق العراقي: بان السبب في الارتكاب في مورد الجهل
البسيط هو الجهل أيضا بتوسيط قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فالمستند بالآخرة
هو الجهل، فظهور الباء في السببية لا يقتضي تخصيص النص بالجاهل
المركب (2).
وفيه: ان الاستناد إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان في ارتكاب المجهول
بالجهل البسيط يستلزم أن يكون ارتكاب الحرام - لو صادف كونه حراما - عن
علم وجزم لا عن جهل، لعلمه بعدم المؤاخذة، فهو يقدم على ارتكاب المجهول
ولو صادف كونه حراما لأمانه من العقاب بتوسيط القاعدة، فلا يعد ارتكابه
بسبب الجهل. وهذا بخلاف الجاهل المركب، فان سبب ارتكابه الحرام هو جهل
المركب به وغفلته عنه وتخيله بأنه ليس بحرام، إذ لو التفت لم يرتكبه. فلاحظ.
ومنها: رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم (عليه السلام)

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 199 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 229 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
434

قال: " سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة، أهي ممن لا تحل له أبدا؟.
فقال (عليه السلام): لا، اما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها،
فقد يعذر الناس في الجهالة وبما هو أعظم من ذلك. قلت: بأي الجهالتين أعذر،
بجهالته ان ذلك محرم عليه أم بجهالته أنها في عدة؟ قال (عليه السلام): إحدى
الجهالتين أهون من الأخرى، الجهالة بان الله تعالى حرم عليه ذلك، وذلك بأنه
لا يقدر على الاحتياط معها. قلت: فهو في الأخرى معذور؟. قال (عليه السلام):
نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها " (1).
والاستدلال بها واضح لا يحتاج إلى بيان.
ولكن الشيخ (رحمه الله) ناقش فيه: بأن موضوع السؤال إن كان هو
الجاهل المركب أو الغافل، فهو خارج عما نحن فيه وان كان هو الملتفت الشاك،
فالشك..
تارة: يكون في انقضاء العدة مع العلم بتشريعها ومقدارها، فالشبهة
موضوعية.
وأخرى: يكون في انقضاء العدة لاجل الشك في مقدار العدة شرعا
فالشبهة مفهومية.
وثالثة: يكون في أصل تشريع العدة فالشبهة حكمية.
أما إذا كانت الشبهة موضوعية، فهي أجنبية عما نحن فيه، لان البحث
في الشبهة الحكمية.
هذا، مع أنه لا مجال للبراءة فيها، لان مقتضى الاستصحاب المرتكز في
الأذهان بقاء العدة، فلا يكون معذورا لحكومة الاستصحاب على البراءة.
وأما إذا كانت الشبهة مفهومية، فليس معذور أيضا، لأنه يلزمه السؤال

(1) الأصول من الكافي 5 / 427. الحديث 3.
435

وتحصيل العلم فقد قصر بترك السؤال، مع أن مقتضى الأصل بقاء العدة
وأحكامها.
وأما إذا كانت حكمية، فلا يكون معذورا أيضا لتقصيره في السؤال
خصوصا مع وضوح الحكم لدى المسلمين الكاشف عن تقصير الجاهل لا
قصوره. هذا مع أن أصالة عدم ترتب الأثر على العقد تقتضي الحكم بفساد
العقد.
إذن فلا يمكن الالتزام بأنه معذور من حيث الحكم التكليفي في جميع
الصور، فلا بد ان يراد من المعذورية المعذورية من حيث الحكم الوضعي، وهو
الحرمة الأبدية كما وقع التصريح به ولا نظر إلى عدم المؤاخذة (1).
وما أفاده (قدس سره) متين جدا.
لكن يرد عليه: انه لا وجه للترديد في مراد الرواية بين الشبهة الموضوعية
والشبهة الحكمية مع فرض تكفل الرواية لكلتا الشبهتين وتعرضها إلى كلتا
الجهتين. فلم نعرف الوجه في ترديده.
ولا بأس بالتنبيه على أمرين يتعلقان بالرواية:
الأول: في بيان المراد بالأعذرية، فان العذر ليس من الأمور القابلة
للتشكيك والتفاضل، فليس فيها شدة وضعف أو كثرة وقلة، فهو كالقتل لا
كالبياض والعلم.
والذي يمكن ان يوجه به التعبير بالأعذرية، هو انه ناشئ عن ملاحظة
السبب في تحقق العذر، فما كان السبب في العذر فيه آكد وأقوى وأوجه كان أعذر،
فإذ اجتمع سببان للعذر كان أعذر مما إذا كان له سبب واحد. نظير التفاوت في
أسباب القتل فإنها قابلة للتأكد والتعدد، وإن لم يكن القتل كذلك، فالتعبير

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 200 - الطبعة الأولى.
436

بالأعذرية بلحاظ الأسباب لا المسبب.
الثاني: ورد في الرواية تعليل الأعذرية: بان الجهل بالحرمة لا يقدر معه
على الاحتياط بخلاف الجهل بالعدة. وقد وجه الشيخ ذلك بحمل الجاهل
بالحرمة على الجاهل المركب المعتقد للجواز أو الغافل، وحمل الجاهل بالعدة على
المتردد الشاك.
وقد يشكل، بان التفكيك بين الجهالتين خلاف الظاهر. وقد أشار إليه
الشيخ وقال بعده: " فتدبر فيه وفي دفعه " (1).
وقد دفعه غير واحد من المحشين على الكتاب: بان الجهل في كلا
الموضعين استعمل في معناه العام الشامل لجميع افراده، لكن الغالب في الجهل
بالحرمة هو الغفلة واعتقاد الخلاف، لان حرمة الزواج في العدة واضحة جدا لدى
الكل، فتعرف بمجرد الالتفات إليها والسؤال عنها، فلا يتمركز الشك فيها إلا
نادرا.
وأما الجهل بالعدة، فهو على العكس، لان الغالب الالتفات إليه وعدم
الغفلة عنه عند الزواج لسؤاله عن خصوصيات الزوجة عادة، فإذا تحقق الجهل
بها فهو الجهل البسيط (2).
ومنها: قوله (عليه السلام): " إن الله يحتج على العباد بما آتاهم
وعرفهم " (3).
وناقشه الشيخ (رحمه الله): بان مدلوله مما لا ينكره الأخباريون (4).
وتوضيح ذلك: انه لو كان النص: " ان الله يحتج على ما آتاهم " لكانت

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 200.
(2) حاشية الآشتياني / 21 من مبحث البراءة.
(3) الأصول من الكافي 1 / 162 الحديث 1. (4) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 199 - الطبعة الأولى.
437

دالة على البراءة في قبال الأخباريين، لأنها تنافي اخبار الاحتياط، لان مفاد اخبار
الاحتياط الاحتياج على المجهول وهو ما لم يأتهم، وهو ما تنفيه هذه الرواية.
ولكن مفادها هو نفى الاحتياج بما لم يأتهم لا على ما لم يأتهم فلا تنافي
دعوى الأخباريين لأنهم يذهبون إلى الاحتجاج بأخبار الاحتياط، وهو احتجاج
بما آتاهم لوصولها إلى المكلفين وان كان على ما لم يأتهم.
هذا تمام الكلام في النصوص، وقد ظهر انه لا دلالة لما يدل منها على أكثر
من قاعدة قبح العقاب بلا بيان ما عدا حديث الرفع والحجب.
وأما الاجماع: فلم يعطه سيدنا الأستاذ دام ظله أهمية في البحث، فلم يزد
على المقدار الذي ذكره صاحب الكفاية، وسر ذلك هو ان مثل هذا الاجماع لا
يمكن الركون إلى أنه تعبدي كي يكون دليلا في قبال غيره، وذلك لما ذكر من
الأدلة المتكثرة على البراءة من كتاب وسنة وعقل، فهو إجماع مدركي فليس
بحجة. واما العقل: فالكلام فيه في جهات ثلاث:
الأولى: في تحقيق قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وأنها ثابتة أولا؟.
الثانية: في تحقيق قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وثبوتها.
الثالثة: في كيفية الجمع بين القاعدتين فيما نحن فيه.
أما الجهة الأولى: فتحقيق الكلام فيها يتضح بتقديم مقدمة، وهي ان
الحكم العقلي بالقبح والحسن فيه مسلكان:
الأول: انه لا يتصور للعقل حكم شئ وإنما شأنه إدراك الأشياء على
واقعها التي هي فيه سواء كانت شرعية أو عقلائية.
وعليه، فمرجع دعوى حكم العقل بشئ إلى ثبوت أحكام عقلائية بنى
عليها العقلاء وتوافقت عليه آراؤهم حفظا للنوع من الفساد.
فحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان - مثلا - لا واقع له سوى اتفاق
438

العقلاء عملا على قبح ذلك، ووافقهم الشارع باعتبار أنه رأس العقلاء وكبيرهم.
الثاني: ان يراد من الحكم العقلي بالحسن والقبح هو ملائمة الشئ للقوة
العاقلة منافرته لها، إذ الانسان يشتمل على قوى متعددة كالباصرة واللامسة ومنها
القوة العاقلة، فكما يكون لسائر القوى ملائمات ومنافرات - كملائمة الناعم
للقوة اللامسة ومنافرة الخشن لها - كذلك للقوة العاقلة ملائمات ومنافرات، فما
يلائم القوة العاقلة يكون حسنا وما ينافرها يكون قبيحا. فالاحسان للمريض
المنقطع في البيداء المسالم الذي يأمن ضرره يكون ملائما للقوة العاقلة وفي قباله
اضراره وايذائه بلا سبب موجب، فإنه مما يتنفر منه العاقل بما له من القوة
العاقلة، فيعد الأول حسنا والثاني قبيحا بهذه الملاحظة.
وعليه، فمرجع قبح العقاب بلا بيان - على هذا المسلك - إلى منافرة
العقاب بلا حجة للقوة العاقلة.
والفرق بين المسلكين هو: انه مع الشك في مصداقية شئ للظلم، يكون
المرجع على المسلك الأول هو العقلاء وينظر ما هو بناؤهم العملي فيرتفع الشك.
وعلى المسلك الثاني، فلا طريق إلى تشخيص ذلك غير وجدان الشخص.
والمفروض انه مشكك، فيبقى الشك على حاله.
ولتكن على علم بان مرجع الاحكام العقلية - على كلا المسلكين - بقبح
الأشياء وحسنها إلى حكمه بقبح الظلم وحسن العدل.
وبعد هذه المقدمة يقع الكلام في صحة العقاب على المخالفة عند الشك
في التكليف.
أما المخالفة مع العلم، فقد تقدم الكلام فيها في مباحث القطع. فراجع.
والكلام في المخالفة مع الشك في مقامات ثلاثة:
المقام الأول: في صحة مؤاخذة المولى العرفي عبده.
ولا يخفى ان العقاب لا يقبح - على كلا المسلكين - عند تحقق المخالفة
439

عن عمد وعلم. كما أنه يقبح مع الغفلة والجهل المركب - إذا كان عن تقصير -.
أما العقاب مع التردد والشك في رضا المولى بالعمل وعدم رضاه، فلم يعلم
انه من منافرات القوة العاقلة، كما لا يعلم ان بناءهم على عدمه حفظا للنظام،
لعدم العلم بأن المؤاخذة مخلة بالنظام، ولا سبيل إلى احراز ذلك. فمثلا لو ضرب
العبد مولاه جاهلا في رضا المولى بذلك لاحتماله انه ليس بمولاه، فلا يعلم قبح
المؤاخذة من المولى - على كلا المسلكين -.
المقام الثاني: في صحة مؤاخذة المولى الشرعي في النشأة الدنيوية، بعد
تسليم قبح مؤاخذة المولى العرفي عبده على المخالفة في صورة الجهل والتردد.
ولا يخفى إنه لا سبيل إلى الجزم بالقبح على كلا المسلكين بالنسبة إلى
المولى الحقيقي المكون للعباد، إذ كثيرا ما يتحقق الايلام بالمرض ونحوه بالنسبة
إلى المطيع تمام الإطاعة فضلا عن المخالف، من دون أن يرى العقل القبح فيه.
وأساس الوجه الذي به ينفى حكم العقل بالقبح في هذا المقام هو ان
مدار حكم العقل بالقبح والحسن بكلا مسلكيه على تحقق الظلم والعدل، وأساس
الظلم والعدل على فرض حقوق وحدود بين الطرفين بحيث يكون تجاوزها ظلما
وعدمه عدلا. وهذا يتصور بين المولى العرفي وعبده وبين الوالد وولده.
أما بين المولى الحقيقي ومخلوقه، فلا يتصور ان للعبد حقا خاصا على
مولاه، إذ هو ملكه ومخلوقه يتصرف به ما يشاء يفقره ويمرضه ويهمه وغير ذلك،
مع علم العبد بالمخالفة وجهله، بل ومع إطاعته لمولاه وخضوعه لأوامره ونواهيه،
ولا يتنافى ذلك مع بناء العقلاء، كما أنه لا ينافر القوة العاقلة.
والمقام الثالث: في صحة مؤاخذة المولى الشرعي في النشأة الأخروية مع
جهل العبد بالمخالفة بتردده فيها.
ولا يخفى أن العقاب الأخروي وهكذا الثواب فيه آراء ثلاثة:
الأول: أنه من باب تجسم الاعمال، فحال العمل كحال البذرة التي
440

تتجسم فتصير زرعا طيبا أو غير طيب باختلاف جنس البذر، فالمعصية تتجسم
فتصير عقربا - مثلا -، والطاعة تتجسم فتصير شجرة طيبة.
الثاني: أنه من قبيل الأثر الوضعي للمعصية، فهو كالموت المسبب عن
السم القاتل.
الثالث: أنه عمل المولى بقرار منه حيث أوعد على المخالفة بالعقاب كما
وعد على الإطاعة بالثواب، فيكون من باب المجازاة التي قررها المولى نفسه.
فعلى الرأي الأول والثاني، لا مجال لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان،
إذ ليس هو فعلا اختياريا كي يتصف بالقبح والحسن، بل هو أمر قهري يترتب
على العمل بلا دخل للعلم والجهل فيه، كما هو الحال في سائر موارد اللوازم
الوضعية وتجسم الاعمال. فإذا فرض ان ذات العمل كيفما تحققت مما يترتب
عليها ذلك لم يكن في ذلك قبح.
وأما على الرأي الثالث، فلا سبيل إلى حكم العقل - بكلا مسلكيه - بقبح
العقاب على المخالفة في صورة الشك وعدم البيان، لعدم العلم بالملاك الذي
بملاحظته أوعد الشارع بالعقاب على المخالفة، إذ الملاك في ثبوت العقاب دنيويا
أنما هو ردع المخالف عن العودة في الفعل أو تأديب غيره لكي لا يرتكب
المعصية، وهذا إنما يتحقق بلحاظ العالم الدنيوي لا العالم الأخروي، إذ ليس هو
عالم التكليف والعمل - كما أوضحناه في مباحث القطع -، فلا بد أن يكون
العقاب الأخروي بملاك آخر لا نعرفه، وإذا لم نتمكن من معرفته وتحديده لم
يمكن الجزم بثبوته في صورة دون أخرى.
وعليه، فمن المحتل أن يكون الملاك ثابتا في مورد المخالفة مع الشك،
فكيف يدعى منافرته للقوة العاقلة، أو انه يتنافى مع بناء العقلاء لاجل حفظ
النظام؟، وانما يدور الامر مدار بيان الشارع لموضوع العقاب وتحديده.
وبالجملة: لا سبيل إلى العقل في باب العقاب خصوصا على الرأي القائل
441

بان مرجع الحكم العقلي إلى بناء العقلاء لاجل حفظ النظام. فلاحظ.
وعلى هذا ينتج لدينا إنكار حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فالقاعدة
المشهورة لا أساس لها.
وقد اختلف ما أفاده المحقق النائيني في هذا المقام بحسب تقريري بحثه.
ففي تقريرات المرحوم الكاظمي: ان عدم العقاب في مورد عدم البيان
الواصل إنما هو لاجل ان فوات مطلوب المولى ومراده الواقعي لم يستند إلى
المكلف بعد إعمال وظيفته من الفحص عن الدليل، بل هو مستند إما إلى المولى
نفسه فيما إذا لم يستوف مراده ببيان يمكن وصول العبد إليه عادة، واما إلى بعض
الأسباب الأخرى الموجبة لاختفاء مراد المولى على المكلف، كاخفاء الظالمين أو
تسبيبهم لضياع الاحكام. ولأجل عدم استناده إلى المكلف يستقل العقل بقبح
مؤاخذته (1).
وفي تقريرات السيد الخوئي: ان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لاجل
ان التكليف الواقعي عند عدم الوصول لا مقتضى التحريك فيه بنفسه، بل
التحريك يتقوم بوصول التكليف واحرازه، فان الأسد الخارجي لا يوجب الفرار
عنه إلا بعد احراز وجوده، كما أن وجود الماء واقعا لا يستلزم تحرك العطشان إليه
إلا بعد احراز وجوده.
وعليه، فالعقاب على مخالفة التكليف غير الواصل عقاب على ما لا
يقتضي بنفسه المحركية، ولا ريب في قبح ذلك كما يظهر بأدنى تأمل في أحوال
العبيد مع مواليهم العرفية (2).
وستعرف الاشكال في كل كلا البيانين بعد أن نذكر كلام المحقق الأصفهاني.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 366 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 176 - الطبعة الأولى.
442

فقد أفاد (قدس سره): أنه بناء على عدم فعلية التكليف إلا بالوصول
باعتبار انه عبارة عن جعل ما يمكن أن يكون داعيا، وهو لا يتحقق إلا
بالوصول، فلا إشكال في عدم المؤاخذة مع عدم وصول الحكم، إذ لا موضوع لها،
لان المؤاخذة انما هي على مخالفة التكليف ولا تكليف مع عدم الوصول.
ولكن هذا لا يمكن أن يكون أساس البراءة العقلية: لان البراءة محل
الوفاق، والمبنى المذكور محل خلاف وأنكره الأستاذ (قدس سره)، فلا بد من أن
يكون الوجه في البراءة على المسلك المشهور هو أن قبح العقاب بلا بيان - على
تقديره - إنما هو لاجل كونه من صغريات الظلم المحكوم بقبحه.
ولا يخفى أن الحكم باستحقاق العقاب في مورده إنما هو لاجل خروج
العبد عن زي الرقية الراجع إلى كونه ظالما لمولاه. ومن الواضح ان مقتضى
الرقية لا يستلزم الامتثال إلا في صورة قيام الحجة، أما مع عدم قيام الحجة فلا
تكون المخالفة خروجا عن زي الرقية ولا تعد ظلما للمولى.
وعليه، فلا يستحق العبد العقاب، فيكون عقابه ظلما وعدوانا وهو
قبيح. انتهى موضع الحاجة من كلامه (1).
والكل موضع مناقشة..
أما ما جاء في تقريرات الكاظمي ففيه: انه إنما يصح لو كان المحتمل أو
المدعى هو ترتب العقاب على نفس عدم الوصول إذ يقال ان العقاب على أمر
خارج عن اختيار المكلف. ولكن الامر ليس كذلك، إذ الكلام في ترتب العقاب
على نفس مخالفة التكليف المشكوك، وهو عمل اختياري للمكلف لالتفاته كما
هو المفروض. ولم يتعرض لدفع احتمال ترتب العقاب على ذلك، بل هو مغفول
عنه في الكلام بالمرة.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 190 - الطبعة الأولى.
443

أما ما جاء في أجود التقريرات: فإن كان مراده من كون العقاب على
مخالفة التكليف غير الواصل عقابا بلا مقتض، هو ما يلتزم به المحقق
الأصفهاني من أن فعلية التكليف بالوصول، فلا تكليف بدون الوصول، فهو
يتنافى مع مسلكه من أن التكليف له وجود واقعي فعلي بفعلية موضوعه ولو مع
عدم الوصول.
وإن لم يكن مراده. ذلك، فلماذا لا يصح العقاب مع تحقق موضوعه وهو
مخالفة التكليف الفعلي؟.
وإن كان مراده من عدم المقتضي عدم الوجه المصحح فهو أول الكلام
ونفس المدعى، فلا معنى للاستدلال على المدعى بنفسه.
فكلامه (قدس سره) في كلا تقريريه لا يمكن الالتزام به.
وأما ما أفاده الأصفهاني (رحمه الله) على مسلكه من تقوم فعلية التكليف
بالوصول، ففيه:
أولا: انه قد تقدم منا في مبحث الواجب المعلق: ان التكليف هو جعل ما
يقتضي الداعوية لا ما يمكن أن يكون داعيا، واقتضاء الداعوية لا يتقوم
بالوصول.
وثانيا: أن التكليف في صورة الاحتمال له إمكان الداعوية، إذ الداعي
ليس هو نفس الامر، فإنه سابق على العمل وجودا مع أن الداعي ما يتأخر عن
العمل في الوجود الخارجي ويسبقه في الوجود الذهني. وانما الداعي هو موافقة
الامر وامتثاله، والموافقة يمكن أن تكون داعية في ظرف الاحتمال، كما في موارد
الاحتياط.
وأما ما أفاده على المسلك المشهور ففيه:
أولا: ان الجزم بان العقاب مع عدم الوصول ظلم، لان المخالفة مع عدم
الوصول ليست خروجا عن زي الرقية فليست ظلما للمولى، لا يخلو عن توقف،
444

إذ الثابت ان المخالفة مع الوصول ظلم للمولى، كما انها في صورة الغفلة والجهل
المركب ليست بظلم. أما المخالفة مع التردد، فكونها ليست بظلم أول الكلام،
فانكاره للواسطة غير سديد.
وثانيا: لو سلم ان المخالفة مع عدم الوصول - مطلقا - ليست خروجا
عن زي الرقية، فلا نسلم ان العقاب عليها ظلم من المولى الشرعي، لما عرفت
من أن الظلم هو الخروج عن الحقوق والحدود المفروضة بين الطرفين.
وهذا إنما يتأتى بالنسبة إلى المولى العرفي وعبده، أما المولى الحقيقي فلا
يتصور فيه ذلك، فان العبد لمولاه وبيده تكوينا واعتبارا يتصرف فيه كيفما يشاء،
ولا حق للعبد على المولى كي يكون الخروج عنه ظلما.
وثالثا: ان حكم العقل بقبح العقاب لأنه ظلم لا يتأتى على مسلكه في
حكم العقل من كونه بملاك حفظ النظام، لان الظلم مخل بالنظام نوعا، وهو
قبيح، كما صرح به ههنا. إذ أي نظام يحافظ عليه بقبح الظلم في العالم الأخروي،
هل هو نظام ذلك العالم وهو مما لا نعرف كيفيته وشؤونه - وقد صرح (قدس سره)
فيما يأتي في بيان عدم ثبوت قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، ان الاقدام على
العقاب يكون اقداما على ما يترتب في نشأة أخرى أجنبية عن انحفاظ النظام
وعدمه. فلاحظ -، أم نظام العالم الدنيوي وهو مما لا يرتبط بقبح الظلم في العالم
الأخروي لعدم تأثيره كما لا يخفى؟.
كما أنه لا يتأتى على المسلك الاخر، إذ لا علم لنا بان ملاك العقاب هو
ظلم العبد مولاه كي يعد عقاب المولى عبده مع عدم خروجه عن زي الرقية
ظلما وعدوانا، وهو مما ينافر القوة العاقلة، بل يمكن أن يكون بملاك آخر. كما
تقدم بيان ذلك.
هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.
ويبقى الكلام في الجهتين الأخريين، ولنقدم الكلام في الجهة الثالثة، وهي
445

كيفية الجمع بين قاعدتي قبح العقاب بلا بيان ووجوب دفع الضرر المحتمل - لو
سلم وجودهما - فنقول: إن قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على قاعدة دفع
الضرر المحتمل، لان موضوع الثانية احتمال الضرر. والأولى تنفي احتماله
وتقضي بالجزم بعدمه فيرتفع موضوع الثانية وجدانا.
ومعه لا مجال لتقدم قاعدة دفع الضرر على قاعدة قبح العقاب بلا بيان،
لاستلزامه الدور أو التخصيص بلا وجه، كما هو الشأن في كل دليل وارد ودليل
مورود كالأصل السببي و المسببي.
فراجع تلك المباحث تطلع على تفصيل الوجه الذي أشرنا إليه.
وهذا المعنى أشار إليه الشيخ (1). واكتفى بذكره صاحب الكفاية (2)، ولم
يتعرض لما يرد على هذا البيان من إشكال أشار إليه الشيخ في كلامه ودفعه (3)،
مع أنه كان ينبغي أن يذكره ويرده.
وعلى أي حال، فقد يقول القائل: إن ما بين في وجه ورود قاعدة قبح
العقاب بلا بيان على قاعدة دفع الضرر المحتمل يتأتى نظيره على العكس.
فيقال: إن موضوع الأولى عدم البيان، والثانية تصلح لان تكون بيانا، فيرتفع
بها موضوع الأولى، فكل من القاعدتين رافع لموضوع الأخرى و يتحقق التوارد
بين القاعدتين.
وقد ذكر الشيخ (رحمه الله) في مقام دفع هذا الاشكال كلاما مجملا إليك
نصه: " ان الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول
المعاقب عليه، وإنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية وإن لم يكن في مورده تكليف
في الواقع، فلو تمت عوقب على مخالفتها وإن لم يكن تكليف في الواقع، لا على

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 203 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 343 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى.. فرائد الأصول / 203 - الطبعة الأولى.
446

التكليف المحتمل على فرض وجوده، فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة
القبح المذكور، بل قاعدة.... " (1).
وتوضيح المراد من عبارة الشيخ يتم بتقديم أمرين:
الأول: ان المراد بالبيان ليس هو العلم، بل هو الحجة على الحكم، فإنها
تصحح المؤاخذة والاحتجاج، إذ قد يتم البيان ولا يتحقق الظن فضلا عن العلم
كالبينة غير المصحوبة بالظن، فإنها حجة على مؤداها.
الثاني: ان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل قد فرض في موضوعها
احتمال العقاب، ويمتنع ان تكون القاعدة هي المصححة لهذا العقاب المحتمل،
لأنه في رتبة سابقة عليها والحكم متفرع عليه. بل لابد أن يكون المصحح
للعقاب المحتمل أمرا آخر غير نفس القاعدة، كما يتنافى موارد تنجز التكليف
الواقعي بالعلم الاجمالي أو الاحتمال قبل الفحص.
إذن فالعقاب على الواقع المحتمل لا يمكن ان تصححه القاعدة، ومن
هنا لا تصلح لان تكون حجة على الواقع وبيانا له. فلو فرض كون القاعدة
مصححة للعقوبة فلا بد أن يكون العقاب الذي تصححه عقابا آخر غير العقاب
المحتمل المأخوذ في موضوعها، وذلك فيما يفرض الوجوب في القاعدة نفسيا،
بمعنى أنه يجب دفع الضرر المحتمل بما هو محتمل، سواء وافق الواقع أم لم
يوافق، فيكون العقاب على مخالفته.
أما تعين كون الوجوب كذلك لو تمت القاعدة، فلانه لا يصح أن يكون
الوجوب طريقيا بداعي تنجيز الضرر المحتمل المأخوذ في موضوعه لفرض
تنجزه في مرحلة سابقة عليه. كما لا يصح أن يكون إرشاديا إلى ترتب الضرر
على تقدير وجوده، إذ الامر الارشادي في الحقيقة اخبار عن ترتب المرشد إليه،

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 203 - الطبعة الأولى.
447

وان كان في الصورة انشاء، والمرشد إليه هو ترتب الضرر على تقدير وجوده، وهو
انما يصح في مورد الغفلة عنه، أما مع الالتفات إليه واحتمال تحققه فلا يصح، إذ
المخبر يعلم بتحققه على تقدير وجوده فلا معنى لاخباره بذلك، فإنه تحصيل
الحاصل. فيتعين أن يكون وجوبا نفسيا يترتب العقاب على مخالفته.
ولكنه أيضا غير صحيح، لأنه يستلزم أن يكون ارتكاب المحتمل أشد من
ارتكاب المقطوع، إذ ليس في ارتكاب المقطوع سوى عقاب واحد. ومقتضى ما
بين: أن يكون في ارتكاب المحتمل عقابان على تقدير المصادفة، وهو باطل جزما.
وعلى كل حال، فلسنا الآن بصدد إنكار القاعدة كما انتهينا إليه، لعدم
تصور الوجوب بانحائه.
وإنما بصدد بيان مراد الشيخ وهو عدم صلاحية القاعدة لبيان الواقع
المحتمل. وأن الوجوب لو تم لكان العقاب على مخالفته، وقد ظهر ذلك بوضوح
فتدبر.
ونتيجة ذلك: ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان مقدمة على قاعدة وجوب
دفع الضرر المحتمل لورودها عليها.
وتصل النوبة الآن إلى البحث عن وجود قاعدة وجوب دفع الضرر
المحتمل وعدم وجودها.
ولا قائدة فيه بعد فرض كونها مورودة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان،
ولكن لا بأس به تنزلا.
والكلام في مقامين:
المقام الأول: في ثبوت وجوب دفع الضرر الأخروي المحتمل.
ولم يتعرض للبحث في ذلك مفصلا إلا المحقق الأصفهاني، وقد انتهى
(قدس سره) إلى عدم ثبوت حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، لا بمفاد
448

الحكم العقلي العملي - بمعنى ما ينبغي أن يعمل وما ينبغي أن يترك - الراجع
إلى التحسين والتقبيح، ولا بمعنى بناء العقلاء عملا، كبنائهم عل العمل بخبر
الثقة ونحوه.
أما الأول، فلان معناه في ما نحن فيه، هو اذعان العقل بقبح الاقدام
على ما فيه الضرر، ومرجع الحكم بالقبح هو الحكم بكون الفعل مذموما عليه
لدى العقلاء، وذم الشارع عقابه.
ومن الواضح ان الاقدام على ما فيه العقاب والذم العقلائي لا يترتب
عليه سوى العقاب والذم الذي أقدم عليه ولا يكون موردا لعقاب وذم آخر،
سواء في ذلك المقطوع والمحتمل.
هذا، مع أن الحكم بالقبح من باب بناء العقلاء عليه لاجل حفظ النظام
ومن الواضح ان الاقدام على العقاب اقدام على مالا يترتب إلا في نشأة
أخرى أجنبية عن انحفاظ النظام واختلاله. إذن فالاقدام على محتمل الضرر،
بل مقطوعه، خارج عن مورد التحسين والتقبيح العقليين.
وأما الثاني، فلان بناء العقلاء عملا على شئ كالعمل بخبر الثقة
وبالظاهر، ينبعث عن حكمة نوعية في نظر العقلاء تدعوهم إلى العمل المزبور.
ومن البين أن الاقدام على العقاب المحتمل، بل المقطوع، لا يترتب عليه
إلا ما هو المحتمل والمقطوع من دون وجود مصلحة مترتبة على ترك الاقدام
زائدة على الفرار من ذلك المحتمل والمقطوع.
ثم بعد ذلك أفاد (قدس سره): أن الفرار عن الضرر فطري وطبعي
ينبعث عن حب النفس المستلزم لفرار عما يؤذيه (1).
هذا ما أفاده (قدس سره) نقلناه ملخصا وهو متين. قد أشرنا في الجهة

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 192 - 193 - الطبعة الأولى.
449

الثانية إلى تقريب عدم ثبوت وجوب دفع الضرر شرعا بجميع انحاء الوجوب.
فهي ليست بقاعدة شرعية ولا عقلية ولا عقلائية. وإنما هي أمر فطري جبلي.
فالتفت.
المقام الثاني: في ثبوت وجوب دفع الضرر الدنيوي المحتمل.
وقبل الخوض في ذلك نتعرض إلى بعض الكلام على تقدير ثبوته، وانه
هل ينفي البراءة عقلا أولا؟.
ولا يخفى انه لا مجال لدعوى ورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان على
القاعدة بلحاظ الضرر الدنيوي.
إذ الضرر الدنيوي لا يناط ترتبه بالعلم، بل هو من لوازم الفعل علم به
أو لا، فلا ينتفي احتماله بواسطة الجهل. والذي تنفيه القاعدة هو خصوص
العقاب دون مطلق الضرر.
وقد ذكر الشيخ (رحمه الله) في هذا المقام: ان الشبهة من هذه الجهة
موضوعية، فلا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين، فلو ثبت وجوب دفع
الضرر المحتمل لكان الاشكال مشترك الورود، فلا بد على كلا القولين إما من
منع وجوب دفع الضرر المحتمل، أو دعوى ترخيص الشارع واذنه في مورد
الشك في مصاديق الضرر، كما يجئ في الشبهة الموضوعية، وهو يلازم الالتزام
بالجبر والتدارك من قبل الشارع على تقدير الوقوع في الضرر وأورد عليه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل. (1).
أولا: بان الشبهة ليست موضوعية، لأنها مما يرجع فيها إلى الشارع لعدم
معرفة وجود الضرر إلا من قبل الشارع، ببيان الحكم الدال على ثبوت الضرر
بطريق الآن.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 204 - الطبعة الأولى.
450

وثانيا: بأنه لو سلم كون الشبهة موضوعية، فلا وجه للالتزام بالبراءة..
لا عقلا، لحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، وقد عرفت عدم
المجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
ولا نقلا، لان العمدة مما دل من النقل على البراءة في الشبهة الموضوعية
وهو قوله (عليه السلام): " كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال... " (1). وقد
ذكر الشيخ في محله ان هذا القيد لبيان منشأ الشبهة وأنه وجود القسمين. ومن
المعلوم ان المنشأ للشبهة في المقام ليس ذلك، بل هو احتمال الحرمة، فلا يشمل
الحديث المقام.
وأما دعوى استلزام الترخيص الشرعي للجبر والتدارك من قبله فهي
تشكل بأنه يمكن أن يكون الترخيص لمصلحة داعية إليه من دون تدارك
للمضرة الفعلية.
ثم إنه (قدس سره) أنكر موضوع القاعدة فيما نحن فيه، وادعى ان
احتمال الحرمة لا يلازم احتمال الضرر، إذ احتماله بتبع احتمال الحرمة يبتني على
تبعية الاحكام للملاك في المتعلق.
ولكنه على تقديره، فهو بملاك المصالح والمفاسد في المتعلقات لا بملاك
المنافع والمضار، إذ قد يكون الشئ حراما ونافعا شخصا كالربا، وقد يكون
واجبا وضارا بالضرر المالي كالزكاة والخمس، أو الضرر البدلي كالجهاد
والصوم (2).
وخلاصة الجواب عن الاشكال من جهة وجوب دفع الضرر المحتمل
بنحو يجمع كلمات الكفاية وغيره، هو: أن القاعدة ممنوعة صغرى وكبرى:

(1) وسائل 17 / باب: 61 من الأطعمة المباحة، الحديث: 1 و 7.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول / 123 - الطبعة الأولى.
451

أما صغرى: فلان الأحكام الشرعية غير تابعة للمضار والمنافع
الشخصية، بل هي تابعة للمصالح والمفاسد النوعية، فاحتمال الحكم لا يستلزم
احتمال الضرر.
وأما كبرى - وهو محل الكلام في هذا المقام -: فإنه على تقدير تسليم ان
تكون الاحكام ناشئة من المضار والمنافع الشخصية، أو قلنا بعدم الفرق بين
الضرر النوعي والشخصي - ببيان: ان العقلاء لا يفرقون بين الضرر المتوجه
على الشخص والضرر المتوجه على الغير، ولا يفرقون في الغير بين أن يكون
فردا أو نوعا -، فلنا ان ننكر أصل وجوب دفع الضرر الدنيوي المحتمل
لوجهين:
الأول: ان التحرز عن الضرر ولو كان مقطوعا، لم يحرز الملاك فيه، وانه
بملاك حكم العقل بقبح الاقدام على ما فيه الضرر، أو أنه ناشئ عن العاقل
بما هو ذي شعور محب لنفسه، الذي يشترك فيه مع الحيوان، فهو فطري جبلي.
وعليه، فلا سبيل لنا إلى دعوى كون القاعدة مما يحكم بها العقل، فان
أصل التحرز محرز لكن ملاكه غير محرز.
الثاني: انه يمكننا ان نلتزم بأن دفع الضرر ليس بملاك حكم العقل
بوجوبه، وذلك لان الاقدام على ما فيه الضرر اما أن يكون علة تامة للقبح
كالظلم. أو مقتضيا له - ونعني به ما كان بطبعه قبيحا لولا عروض صفة عليه
مانعة كالكذب القبيح في نفسه المرتفع قبحه فيما إذا كان مقدمة لواجب أهم
كحفظ نفس المؤمن -.
والأول باطل جزما، لان الاقدام على ما فيه الضرر لا يكون قبيحا إذا
كان بداع عقلائي يخرجه عن كونه سفهيا وتهورا، كهبة المال للأجنبي إذا كانت
مقدمة لدفع الضرر عنه أو جلب منفعة كبيرة إليه. والثاني ممنوع أيضا، لأنه لو كان قبيحا لو خلي ونفسه لم يرتفع قبحه بلا
452

عروض صفة لازمة عليه تخرجه عن كونه قبيحا. ومن الواضح ان الاقدام على
الضرر لا يكون قبيحا إذا كان بداع عقلائي، ولو لم يكن لازما كالتحرز عن
ضرر أهم أو لجلب منفعة لازمة، كما لو وهب المال لأجنبي لمجرد كسب محبته
وصداقته أو تقديرا لعلمه وكرمه، بلا ان يخاف من ضرره أو يرجو نفعه. فلاحظ
وتدبر.
هذا تمام الكلام في قاعدة قبح العقاب بلا بيان وقاعدة وجوب دفع الضرر
المحتمل، وما يتعلق بها من شؤون.
يبقى الكلام فيما حكاه الشيخ عن السيد أبي المكارم مما استدل
به على البراءة: وهو ان التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق.
ووجهه الشيخ (رحمه الله) بما توضيحه: ان الغرض من التكليف هو
الإطاعة، وهي الاتيان بالفعل بداعي الامر، وليس الغرض منه مطلق الاتيان به
ولو بداع آخر، لأنه لا يترتب على الامر فلا يعقل أن يكون غرضا منه، لان
الغرض من الشئ ما يترتب على الشئ. ومع عدم العلم بالأمر لا يمكن
حصول الغرض منه وهو الإطاعة فلا أمر.
واحتمال أن يكون الغرض من الامر عند الشك فيه هو الاتيان بالفعل
بداعي احتمال الامر..
مندفع، بأنه مع وجود الملزم بالفعل بهذا الداعي في مورد احتمال الامر،
يكون الامر بذات الفعل لغوا وعبثا، ومع عدم الملزم به لا ينفع التكليف المشكوك
في حصول الغرض (1).
أقول: هذا الدليل ينفع في مقامين:
الأول: مسألة ان الأصل الأولي في الواجبات هل يقتضي التعبدية أو

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 204 - الطبعة الأولى.
453

التوصلية؟.
الثاني: مسألة البراءة، إذ لا يحتاج إلى أصل البراءة للقطع بعدم
التكليف مع الجهل.
وهو من الناحية الأولى ذو أهمية، وقد تقدم الكلام منا مفصلا فراجع (1).
وكيف كان فالجواب عن هذا الدليل بنحو الاجمال: ان الغرض من الامر
ليس هو الإطاعة، لأنها تنفك عن الامر كثير، بل الغرض منه - على قول -
إمكان الداعوية، وهو حاصل ولو مع عدم تحقق الإطاعة.
وهل يتقوم إمكان الداعوية بالوصول - كما يراه الأصفهاني (2) - أو لا؟.
قد عرفت عدم تقومه بالوصول، وان التكليف له امكان الدعوة في صورة الجهل.
هذا، مع أنه لنا ان نلتزم بان الغرض هو جعل ما يقتضي الداعوية،
والاقتضاء يجامع الجهل. وقد سبق الكلام في ذلك عن قريب جدا. فراجع (3).
ثم إنه قد عرفت أن كثيرا من الأدلة السابقة لا يزيد مدلوله على قاعدة
قبح العقاب بلا بيان - على تقدير ثبوتها -، فلو تمت أخبار الاحتياط لكانت
مقدمة عليها لورودها عليها.
ولعله لاجل ذلك تعرض الشيخ للبحث عن الاستدلال على البراءة
بالاستصحاب، فإنه لو تم الاستدلال به لكان مقدما على الاحتياط، لأنه حاكم
أو وارد على البراءة والاحتياط - كما يوضح في محله -. ونحن نتعرض للبحث فيه
وإن أهمل ذكره في الكفاية.
فنقول: مع الشك في ثبوت التكليف يجري استصحاب البراءة المتيقنة
حال الصغر أو الجنون فتثبت البراءة بعد البلوغ أو العقل بواسطة استصحابها.

(1) راجع 1 / 412 من هذا الكتاب.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 190 - الطبعة الأولى.
(3) راجع 4 / 442 من هذا الكتاب.
454

وقد استشكل الشيخ فيه: بأنه لا ينفع في المقام، لان الثابت بأدلة
الاستصحاب هو ترتب اللوازم الشرعية المجعولة على المستصحب لا غير،
والمستصحب هنا إما براءة الذمة من التكليف، أو عدم المنع من الفعل، أو عدم
استحقاق العقاب عليه.
ولا يخفى ان المطلوب اثباته في الآن اللاحق - وهو آن الشك - هو القطع
بعدم ترتب العقاب على الفعل، أو ما يستلزم القطع، إذ مع عدم تحقق القطع
وبقاء احتمال ثبوته احتيج إلى ضميمة حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، ومعه
لا يحتاج إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة، لثبوت حكم العقل بمجرد
الشك.
ومن الواضح ان المطلوب المزبور لا يترتب على المستصحبات المذكورة،
لان عدم استحقاق العقاب ليس من اللوازم المجعولة لأحدها.
نعم، هو مما يترتب على الاذن والترخيص الشرعي وهو أمر مجعول،
لكنه - أعني الاذن - ليس من اللوازم الشرعية للمستصحبات المزبورة، بل من
المقارنات، من باب ثبوت أحد الضدين عند نفي الاخر (1).
وذكر المحقق الخراساني في حاشيته على الرسائل: ان أساس استشكال
الشيخ هو عدم كون العدم قابلا للجعل، لعدم كونه مقدورا.
وأورد عليه: ان القدرة تتعلق بطرفي الوجود والعدم بنحو الارتباط، فإذا
كان الوجود مقدورا كان العدم كذلك.
وعليه، فاستصحاب عدم المنع استصحاب لامر مجعول شرعا، فلا حاجة
إلى ترتب أثر شرعي عليه، بل يكفي ترتب أثر عملي عليه ولو كان عقليا، لأنه
إنما يعتبر أن يكون الأثر شرعيا إذا كان المستصحب أمرا غير مجعول شرعا (2).

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 204 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول / 125 - الطبعة الأولى.
455

وأفاد المحقق النائيني (قدس سره) - في وجه انكار الاستصحاب -: ان
الاستصحاب إنما يصح في المورد الذي يدور الأثر فيه مدار الواقع.
أما إذا كان الأثر يترتب على مجرد الشك في الواقع - كما في المقام، لان
عدم العقاب من أثار مجرد الشك لقبح العقاب بلا بيان -، فلا فائدة في الأصل
لاجل إثبات عدم العقاب فإنه من تحصيل الحاصل، بل هو من أردأ أنحائه، لأنه
من باب تحصيل المحرز بالوجدان بواسطة الأصل (1).
وقد استشكل المحقق العراقي (قدس سره) في توهم ان العدم ليس
بمقدور فلا يقبل الجعل: بأن العدم مقدور وبيد الشارع ابقاؤه ورفعه.
كما استشكل فيما أفيد من عدم الفائدة في الاستصحاب، لحكم العقل
بقبح العقاب بلا بيان بمجرد الشك، فيتحقق القطع بعدم العقاب المطلوب من
الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة: بان لدينا حكمين للعقل:
أحدهما: حكمه بقبح العقاب بلا بيان. والاخر: حكمه بقبحه لبيان
العدم. والاستصحاب يحقق موضوع الحكم الثاني، فيكون واردا على قاعدة قبح
العقاب بلا بيان لنفيه موضوعها.
ولو لم يلتزم بذلك لامتنع جريان الامارات النافية، لعدم ترتب فائدة
عليها بعد حكم العقل بالبراءة بمجرد الشك (2).
أقول: أما ما افاده المحقق النائيني (رحمه الله)، فقد تقدم الحديث فيه مفصلا في
مبحث تأسيس الأصل في باب الحجية. فراجع (3).
وأما ما أفاده الشيخ (رحمه الله)، فالظاهر أن نظره هو: عدم قابلية عدم

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 191 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 239 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) راجع / 196 من هذا الجزء.
456

التكليف للجعل الشرعي، وذلك لا لاجل عدم كونه اختياريا، كي يشكل بما
ذكر، بل لأجل أن العدم يتحقق بعدم جعل الوجود، إذ هو لا يحتاج إلى علة،
بل هو يتحقق بعدم تحقق علة الوجود - فما افاده الأصفهاني من احتياج العدم
إلى علة في غير محله -. وعليه فلا معنى لتعلق الجعل به وتشريعه، فعدم الحرمة
يتحقق بعدم تشريع الحرمة لا بتشريعه بنفسه.
وعليه، فيكون العدم كالموضوع التكويني لا يصح التعبد به بلحاظ نفسه
لعدم قابليته للجعل، بل لا بد أن يكون بلحاظ الأثر الشرعي المترتب عليه، كما
إذا كان موضوعا لحكم شرعي تكليفي أو وضعي، أو كان الوجود موضوعا للأثر
الشرعي فيستصحب العدم لنفي أثر الوجود. مثل عدم الملكية في المال الموضوع
لحرمة التصرف فيه وعدم حلية اللحم الموضوع لحرمة الصلاة فيه وضعا والعدم
فيما نحن فيه ليس موضوعا لحكم شرعي كما بينه الشيخ وقد تقدم ذكره.
هذا، مضافا إلى أن الاستصحاب إنما يتكفل جعل العدم ظاهرا، وهو لا
ينفي احتمال الوجود واقعا، فيحتاج إلى اجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان،
ويكفي شاهدا على ما نقول أنه لو قطع بجعل العدم في مرحلة الظاهر بتصريح
الشارع به لم يستلزم ذلك القطع بالعدم في الواقع، بل يحتمل أن يكون التكليف
في الواقع ثابتا لعدم التنافي بين الواقع والظاهر - كما قرر في محله -. إذن فلا ينفع
الاستصحاب في نفي احتمال الواقع، ومع احتماله نحتاج إلى الرجوع إلى قاعدة
قبح العقاب بلا بيان.
نعم، مع جعل الإباحة ظاهرا لا حاجة إلى القاعدة، إذ الترخيص ظاهرا
يستحيل معه العقاب، فلا احتمال له كي ينفى بالقاعدة.
وأما النقض بالامارات القائمة على نفي التكليف - الوارد في كلام
العراقي -، فيندفع بالفرق بين الامارة والاستصحاب، لان الامارة الدالة على
عدم الحرمة تدل بالملازمة على الترخيص - للملازمة بين عدم أحد الضدين
457

ووجود الضد الآخر -، ومع الترخيص لا يحتمل العقاب، كما لا مجال للنقض
بالبراءة الشرعية، لان دليلها - كحديث الرفع - دال على الترخيص أما التزاما
أو كناية - كما تقدم -، فلا تحتمل العقوبة.
أما الاستصحاب، فليس هو حجة في اللوازم العقلية، ولم يرد في خصوص
المقام كي يدل على جعل الترخيص بدلالة الاقتضاء.
والنتيجة: ان الاستصحاب لا مجال له في هذا المضمار.
ثم إنه قد أشرنا فيما تقدم - في أوائل الكلام في حديث الرفع - إلى أن
الشيخ (رحمه الله) يلتزم باقتضاء الدليل الدال على الرفع لجعل الإباحة ولكنه لم
يصرح به، وإنما صرح بلازمه وما ينتهى إلى الالتزام به، وهو ما أفاده ههنا من أن
عدم المنع عن الفعل بعد العلم الاجمالي بعدم خلو فعل المكلف عن أحد
الأحكام الخمسة لا ينفك من كونه مرخصا فيه، فان مقتضاه ان الدليل الدال
على عدم المنع دال على الترخيص إما التزاما أو كناية.
مع أن إشكاله في الاستصحاب مع عدم توقفه في حديث الرفع من هذه
الجهة والحال مع أن مفادهما واحد، يكشف عن كون نظره إلى أن حديث الرفع
يتكفل الترخيص المستلزم لرفع المؤاخذة قهرا بلا احتياج إلى ضم قاعدة قبح
العقاب بلا بيان. فلاحظ (1).
هذا تمام الكلام في أدلة القول بالبراءة.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 204 - الطبعة الأولى.
458

" أدلة الاحتياط "
وقد عرفت أن في مقابل القول بالبراءة قول الأخباريين بالاحتياط،
واستدل له بالكتاب والسنة والعقل:
أما الكتاب: فبطوائف من الآيات:
منها: ما دل على النهي عن القول بغير علم (1). فان القول بالبراءة
وترخيص الشارع في ارتكاب المجهول حكمه قول بغير علم وهو منهي عنه، ولا
يرد مثله على الالتزام بالاحتياط، فان الاخباري لا يفتي بالاحتياط، بل يلتزم
بترك المشكوك، والترك لا يستلزم اسناد شئ إلى الشارع. وهو بخلاف
الارتكاب على القول بالبراءة، فإنه يستلزم اسناد الترخيص وعدم المنع إلى
الشارع.
ومنها: آية النهي عن الالقاء في التهلكة (2).
ومنها: ما دل على الامر بالتقوى وجهاد النفس (3).
وأجيب عن الاستدلال بالطائفة الأولى: بان القول بالبراءة استنادا إلى
دليلها ليس قولا بغير علم، بل بعلم وحجة.
وعن الاستدلال بالثانية: بان المراد من التهلكة إن كان هو العقاب
الأخروي فهو منفي بدليل البراءة، فدليل البراءة وارد على الآية كوروده على
قاعدة دفع الضرر المحتمل. وان كان هو الضرر الدنيوي أو ما يعمه، فمضافا

(1) سورة الأعراف، الآية: 33.
(2) سورة البقرة، الآية: 195.
(3) سورة المائدة، الآية: 35.
459

إلى أن الشبهة تكون موضوعية، انه ليس كل ضرر دنيوي بعد تهلكة، بل
التهلكة ما يؤدي إلى الموت وما يقرب منه، ومن المعلوم ان المحرمات المحتملة لا
يحتمل فيها الضرر بهذا النحو.
وعن الاستدلال بالثالثة: بان العمل على طبق البراءة بعد تمامية دليلها
لا يعد منافيا للتقوى وجهاد النفس كما لا يخفى.
واما السنة الشريفة (*):
وقد خلط شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) بين الروايات فلم يصنفها
تصنيفا كاملا. والمتأخرون عنه صنفوها إلى أصناف ثلاثة:
الاخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهات.
الاخبار الامرة بالاحتياط في موارد الشبهات.
أخبار التثليث.
أما الاخبار الامرة بالتوقف عند الشبهات: فقد ادعى بعضهم تواترها.
ولكن الظاهر هو عدم تواترها، بل عدم بلوغها حد الاستفاضة، فضلا عن
التواتر، وهي كالآتي:
مقبولة عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله (عليه لاسلام) - إلى أن قال في
آخرها -: " فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات " (1).
ورواية مسعدة بن زياد، عن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم
السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " لا تجامعوا في النكاح على
الشبهة، وقفوا عند الشبهة.. - إلى أن قال -: فان الوقوف عند الشبهة خير من

من هنا إلى دليل العقل على الاحتياط اخذ من ما كتبه العلامة الحجة سماحة الشيخ الجعفري بعد
عدم وجوده في التقريرات.
(1) وسائل الشيعة 18 / 75 باب 9 - الحديث 1 من أبواب صفات القاضي.
460

الاقتحام في الهلكة " (1).
وخبر أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " الوقوف
عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة.. " (2).
وخبر داود بن فرقد، عن أبي شيبة، عن أحدهما (عليهما السلام)، قال في
حديث: " الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة " (3).
وخبر السكوني، عن الصادق (عليه السلام)، عن أبيه (عليه السلام)،
عن علي (عليه السلام) قال: " الوقوف في الشبهة خير من الاقتحام في
التهلكة " (4).
وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة - كما عن شيخنا العلامة الأنصاري
(قدس سره) -: بان المراد بال‍: " توقف " هو مطلق السكون وعدم المضي، فهو
كناية عن عدم الحركة وعدم الاقدام على الفعل.
وعليه، فلا مجال للاشكال فيه: بان المراد بالتوقف..
ان كان هو التوقف عن الحكم الواقعي - المفروض كونه مشكوكا فيه،
فهو مسلم به عند كل من الأصوليين والأخباريين.
كما أن الافتاء بالحكم الظاهري - منعا أو ترخيصا - مشترك فيه - أيضا
- بينهما.
وأما التوقف عن العمل، فلا معنى له، إذ لابد له من الفعل أو الترك
على كلا التقديرين، أي على تقديري القول بالبراءة والقول بالاحتياط.
والحاصل: ان وجوب التوقف - بالمعنى المذكور - معناه: وجوب الاحتياط

(1) وسائل الشيعة 18 / 116 - باب 12 الحديث 15 من أبواب صفات القاضي.
(2) وسائل الشيعة 18 / 112 باب 12 - الحديث 2 من أبواب صفات القاضي.
(3) وسائل الشيعة 18 / 115 باب 12 - الحديث 13 من أبواب صفات القاضي.
(4) وسائل الشيعة 18 / 126 باب 12 - الحديث 5 من أبواب صفات القاضي.
461

في موارد الشبهة.
ثم تعرض شيخنا الأنصاري (قدس سره) بعد ذلك لدفع اعتراض قد
يورد على الروايات بعدم دلالتها على الوجوب، بقوله: " وتوهم ظهور هذا الخبر
المستفيض في الاستحباب مدفوع، بملاحظة: أن الاقتحام في الهلكة لا خير فيه
أصلا. مع أن جعله تعليلا لوجوب الارجاء في المقبولة قرينة على المطلوب.
فمساقه مساق قول القائل: " أترك الأكل يوما خير من أن أمنع منه سنة "،
وقوله (عليه السلام) في مقام وجوب الصبر حتى تيقن الوقت: " لان أصلي بعد
الوقت أحب إلي من أصلي قبل الوقت " (1)، وقوله (عليه السلام) في مقام التقية:
" لان افطر يوما من شهر رمضان فاقضيه أحب إلي من أن يضرب عنقي " (2)..
وقد أجاب شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) عن ذلك: بأن الامر
بالتوقف أمر ارشادي، لا يترتب عليه شئ سوى ما يترتب على متعلقه، وهو
الامر المرشد إليه، فلا يكون مثل هذا الامر دالا على وجوب شئ.
بيان ذلك: ان الأوامر الارشادية هي أوامر بصورتها، ولكنها - في واقعها -
إخبار، فهي غير متضمنة للالزام بشئ أصلا، وانما الالزام في مواردها ينشأ من
اللزوم في المرشد إليه نفسه، فإن كان هناك فيه موجب للالزام كانت متابعة الامر
الارشادي بالعمل على طبقة لازما، وإلا فلا. ومثاله في أوامر الطبيب التي هي
أوامر ارشادية من القسمين هو: ان أمره بشرب الدواء النافع لجهة ضرورية في
صحة البدن، كأن يأمر بشرب الدواء لاجل الخلاص من المرض المهلك، يكون
لازم العمل، للزوم المرشد إليه، وهو شرب الدواء المذكور. كما أن أمره بشرب
الدواء النافع لزيادة الشهية - أو توليد النشاط فيه -، باعتبار عدم اللزوم في

(1) وسائل الشيعة 3 / 122 باب 13 - الحديث 5 من أبواب مواقيت الصلاة.
(2) وسائل الشيعة 7 / 95 باب 57 الحديث 4 من أبواب يمسك عنه الصائم.
462

المرشد إليه، نظرا إلى دخله في جهة كمالية لا ضرورية، لا يكون لازم العمل على
طبقة، لعدم لزوم المرشد إليه.
وعلى هذا، فالامر بالتوقف عند الشبهات ارشاد لا محالة إلى إنه - على
تقدير عدم التوقف - يترتب على ارتكاب الشبهة ما هو الثابت في ارتكاب
الشئ المذكور واقعا، فإذا كان هناك في ارتكاب الشئ ما يلزم التحرز عنه كان
التوقف لازما، وإلا فلا. وعليه فلا يستفاد من هذه الروايات لزوم التوقف، بل
اللزوم وعدمه تابعان لشئ خارج عن ذلك، وأنه إذا كان هناك ما يترتب على
ارتكاب الشبهة ما يجب التحرز عنه عقلا - كالعقاب المترتب على ارتكاب
الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي، أو الشبهة البدوية قبل الفحص - كان التوقف
لازما، وإلا فلا. فهذه الروايات لا دلالة لها على لزوم التوقف، كما لا يخفى.
و بكلمة أخرى: هذه الروايات لا تدل على لزوم التوقف في كل شبهة،
كما هو المدعى.
ثم إن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) أفاد وجها لدلالة
الروايات على وجوب التوقف في كل شبهة، كما هو المدعى، بقوله: " ان قلت... "،
وهذا هو العمدة في استدلال الأخباريين، وحاصلة:
ان بيان كل من الوجوب والحرمة قد يكون بالأمر بالفعل أو النهي عنه،
الظاهرين في الوجوب أو الحرمة. وقد يكون ذلك ببيان ما يترتب على امتثال
الواجب من الثواب، وعلى مخالفة الحرام من العقوبة - مثلا - الوالد يقول
لأولاده: من تكلم منكم في هذه الساعة اضربه كذا... فان هذا الكلام يكون
ظاهرا عرفا في النهي عن التكلم. أو يقول: من يكتب منكم صفحة.. أعطيه
كذا..، فإنه يكون ظاهرا عرفا - بالدلالة الالتزامية - في الامر بالفعل. وعلى
هذا فالهلكة المفروضة في مورد الشبهات - والمراد بها: هي العقوبة الأخروية، كما
مر لا محالة يكون ظاهرا عرفا في حرمة ارتكاب المشتبه، ويكون ذلك من قبيل
463

الاستعمالات الكنائية، باستعمال اللفظ في اللازم وإرادة الملزوم. فيكون مفاد
الروايات: حرمة ارتكاب المشتبه، ووجوب الاحتياط.
أو يقال - كما هو ظاهر عبارة الرسائل -: ان الروايات انما دلت على أن
كل شبهة هي مظنة لاقتحام الهلكة، لا أنها تدل على أنه في مورد احتمال الهلكة
- بنحو التعليق على الموضوع المقدر وجوده - يكون ارتكاب الشبهة اقتحاما في
الهلكة. فمفادها: ان ارتكاب كل شبهة مصداق للاقتحام في الهلكة.
وبما انا نعلم: ان ثبوت الهلكة في المشتبه - مع عدم البيان - قبيح عقلا،
فلا محالة نستكشف من ذلك - بدلالة الاقتضاء - امرا شرعيا متعلقا بالاحتياط،
يكون مصححا للعقوبة المحتملة على تقدير وجودها. وإلا كان الاكتفاء في
العقاب بالتكاليف الواقعية المشكوك فيها قبيحا عقلا.
وقد أجاب عنه شيخنا الأنصاري (قدس سره): بان الامر بالاحتياط
المستكشف من الروايات المذكورة بالالتزام أو بالظهور العرفي، لا يخلو حاله
من أن يكون أمرا مقدميا أو يكون نفسيا.
والأول - وهو الامر المقدمي - لا يصحح العقوبة، فإنه أمر تبعي لاجل
التحرز من العقاب، فلا يكون هو مصححا للعقوبة، فتكون العقوبة بلا
مصحح، لأنه لا تصح العقوبة على أمر مجهول باعترافه.
وبعبارة أخرى الامر المقدمي إما هو غير معقول، لكونه مقدمة للتحرز
من العقوبة، فلا يمكن أن يكون مصححا للعقوبة أو أنه على تقدير المعقولية لا
يكون بيانا مصححا للعقوبة.
والثاني خلف الفرض، فان العقوبة في مخالفة الامر النفسي مترتبة على
مخالفته، مع أن صريح هذه الروايات ترتب العقوبة على مخالفة الواقع (1).

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى الأصول / 207 - 208 - الطبعة الأولى.
464

هذا، وقد اعترض عليه المحقق، صاحب: " كفاية الأصول " (قدس سره)
وغيره ممن تبعه في ذلك: بعدم انحصار الامر في هذين القسمين، بل هناك قسم
ثالث، وهو الامر الطريقي. وكان شيخنا الأنصاري (قدس سره) - ويعتبر:
المؤسس لهذا الاصطلاح - نسي - هنا - القسم المذكور، فلذلك حصر الأوامر في
القسمين (1).
أقول: الظاهر هو تمامية ما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره)،
وأنه قد تعرض لجميع أقسام الأوامر، بلا إهمال لشئ من أقسامها. وذلك، لان
مراده - (قدس سره) - من الامر النفسي هو ما يعم الامر الطريقي.
بيانه: ان أقسام الامر ثلاثة: الامر الغيري، النفسي، الطريقي.
أما الامر الغيري، فاما أنه غير معقول، لأنه انما يكون بعنوان المقدمية
للتحرز عن العقوبة المحتملة، فلا بد وأن يكون هناك مصحح للعقوبة حتى
يعقل الامر المقدمي للتحرز عنها، فلا يعقل أن يكون هو مصححا للعقوبة، أو أنه
لا يجدي، فإنه على فرض التسليم بالمعقولية لا يجدي لتصحيح العقوبة، نظرا
إلى أن الامر الغيري لا تستتبع مخالفته العقاب، بل العقاب يكون على مخالفة
الامر النفسي.
وأما الامر النفسي، فهو انما يستوجب العقوبة على مخالفة نفسه، بمعنى:
ان الامر بالاحتياط لو كان نفسيا لكانت العقوبة مترتبة على مخالفة الامر
المذكور بنفسه، مع أن مفاد الروايات انما هي العقوبة على مخالفة الواقع نظرا
إلى أن الهلكة المفروض فيها في مورد الشبهات، انما هي على مخالفة الواقع، لا
على مخالفة الامر بالاحتياط.
وأما الامر الطريقي، فلان المصحح للعقوبة على مخالفة الواقع إذا كان

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 345 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
465

هو الأمر الطريقي، فلا محالة تكون العقوبة في طول الامر الطريقي ومترتبة
عليه، ولا يعقل أن يكون الامر الطريقي في طولها ومترتبا عليها. مع أن المفروض
في الروايات انما هي العقوبة في مرتبة سابقة على الامر بالاحتياط، حيث إنه
علل فيها الامر بالاحتياط بالهلكة، وهذا لا يتلائم وكون الامر بالاحتياط
طريقيا.
وحاصل الكلام: ان فرض العقوبة في الروايات على الواقع، وفي مرحلة
سابقة على الامر بالتوقف - بهذين القيدين، أعني بهما: فرض العقوبة على
الواقع، وفرضها في مرحلة سابقة على الامر بالتوقف - مما يتنافى مع كون الامر
به نفسيا وطريقيا. فان فرض العقوبة على الواقع مناف لكون الامر بالتوقف
نفسيا، وفرضها في مرحلة سابقة مناف لكونه طريقيا.
وعليه، فلم يهمل شيخنا الأنصاري (قدس سره) ذكر شئ من أقسام
الامر في المقام، بل انه قد أشار إلى جميع ذلك. فلاحظ.
ودعوى: أن الامر بالتوقف - في الروايات - وإن لم يكن طريقيا لما تقدم،
لكنه يستكشف من التعليل في الروايات، بأن الوقوف عند الشبهات خير من
الاقتحام في الهلكات، أمر آخر طريقي يكون هو المصحح للعقوبة. يأتي الجواب
عنها - ان شاء الله تعالى - في نقد كلام المحقق الأصفهاني (قدس سره)، فانتظر.
ثم إن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) أيد ما أفاده في الجواب
عن روايات التوقف بوجه اخر، كما يلي: ان الاخبار الامرة بالتوقف عند
الشبهات شاملة لكل من الشبهتين: الوجوبية والتحريمية مطلقا، سواء كانتا من
الشبهة الحكمية أو الموضوعية. مع أن الأخباريين لا يقولون بالاحتياط في
الشبهة الوجوبية الحكمية والموضوعية، وفي الشبهة التحريمية الموضوعية - إلا
ما ينسب إلى صاحب الوسائل (قدس سره) من الاحتياط في الشبهة
466

الوجوبية (1) -، ولا مجال لتخصيص الروايات، باخراج الشبهة الوجوبية
الحكمية، والموضوعية التحريمية والوجوبية. فأن لسان الروايات المذكورة آبية
عن التخصيص. فإنه كيف يمكن التخصيص في الاقتحام في الهلكة، بالترخيص
في ذلك في مورد دون آخر. وعليه فلا بد من حمل الامر بالتوقف فيها على الارشاد
حتى يختص ذلك بمورد يحكم العقل فيه بلزوم الاحتياط، لتمامية المنجز فيه
للتكليف المشكوك فيه، كالشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي، والبدوية قبل
الفحص. وبذلك نسلم عن الاشكال (2).
هذا، وقد حاول بعضهم تقرير هذا وجها مستقلا لنقد الروايات الامرة
بالتوقف قائلا: ان عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعية مطلقا، سواء
أكانت تحريمية أم كانت موضوعية، وعدم وجوبها في الوجوبية الحكمية، مما
يكشف لنا عن أن المراد بالشبهة في هذه الروايات ليست هي بمعناها المصطلح
عليه، أعني به: ما لم يعلم حكمه الواقعي. بل المراد بها: ما يساوق " المشكل " و
" المشتبه " المأخوذين في قاعدة القرعة، بان يراد به: ما ليس إليه طريق مجعول
لا واقعا ولا ظاهرا. فلا تشمل ما كان حكمه في الظاهر الترخيص، كالشبهات
البدوية بعد الفحص، التي هي مجرى البراءة (3).
قلت: ما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) تأييدا لما أجاب
به عن نصوص الوقوف عند الشبهات يمكن الجواب عنه: بان الاستدلال
بالنصوص الامرة بالتوقف عند الشبهات انما كان يبتني على استفادة حكمين
عامين منها: أحدهما: ان كل شبهة تكون مظنة للاقتحام في الهلكة. والاخر: ان
الوقوف في كل شبهة خير من الاقتحام في الهلكة. والتخصيص - على فرض

(1 و 2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 207 - الطبعة الأولى.
(3) الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول / 2 / 299 - الطبعة الأولى.
467

الالتزام به - انما يكون بالنسبة إلى العام الأول، ولسانه ليس بآب من
التخصيص، حيث إنه للشارع اخراج بعض افراد الشبهة عن كونها مظنة
للاقتحام في الهلكة، وهذا مما لا محذور فيه. نعم لسان العام الثاني آب عن
التخصيص، لكنه لا موجب للالتزام بالتخصيص بالنسبة إليه.
فالمهم هو الجواب المتقدم بنفسه، بلا حاجة إلى ضم المؤيد المذكور إليه.
كلام المحقق الأصفهاني (قدس سره) ونقده.
قال المحقق الأصفهاني (قدس سره): " يمكن اصلاح الاستدلال بهذه
الطائفة، بناء على كون الفقرة تعليلا، باثبات أمرين: أحدهما: كون الشبهة
مطلقة شاملة للشبهة البدوية، لعدم تقيد الشبهة بما يأبى عن الشمول للبدوية.
وثانيهما: ظهور الهلكة في العقوبة، لا فيما يعم المفسدة. فيدل التعليل على أن
الاقدام في كل شبهة اقتحام في العقوبة، فصونا للكلام عن اللغوية يستكشف
أمر طريقي بالاحتياط في الشبهة البدوية، من باب استكشاف العلة عن معلولها.
ولا يخفى عليك: أن ايجاب الاحتياط الواقعي وان كان غير قابل لمنجزية بل
القابل هو الايجاب الواصل. لكنه لا فرق في وصوله بين انحاء وصوله، فوصوله
بوصول معلوله كوصوله بنفسه. نعم الامر الارشادي بالتوقف المعلل بهذه العلة،
كما لا يمكن أن يكون بنفسه مصححا للعقوبة لفرض انبعاثه عن عقوبة
مفروضة، كذلك لا يعقل أن يكون وصوله وصول الامر الطريقي المصحح
للمؤاخذة، لان صحة المؤاخذة بنفس وصوله الموصل للامر الطريقي، فكيف
ينبعث عن مؤاخذة مفروضة مستدعية لفرض الوصول بغير هذا الامر المعلل؟.
وعليه، ينبغي حمل ما أفاده شيخنا العلامة (قدس سره) - في آخر العبارة -:
" فهذا الامر المعلل لا بد من أن يكون كاشفا عن امر طريقي واصل.. "، مع
أنه لم يصل الا هذا الامر في الشبهة البدوية. لان الكلام في الاستدلال به
لوجوب التوقف المنجز للواقع لا بغيره. إلا بدعوى: أن أمر المخاطب بالتوقف
468

المعلل بهذه العلة كاشف عن وصول الامر بالاحتياط إليه، واحتماله في حق
المخاطب بلا مانع، وبضميمة - قاعدة الاشتراك - يكون واصلا الينا، لا بهذا
الامر الارشادي، ليكون مستحيلا. وحينئذ يكون الامر بالتوقف، بضميمة
قاعدة الاشتراك مع المخاطب كاشفا عن ايجاب الاحتياط طريقيا في الشبهة
البدوية.. " (1).
وحاصله: تقريب الاستدلال باخبار التوقف بوجهين:
أحدهما: استكشاف الامر الطريقي بالاحتياط من التعليل بان الوقوف
في الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات، بدلالة الاقتضاء، يكون هو المصحح
للعقوبة، فان مصحح العقوبة هو الامر الطريقي الواصل مطلقا، ولو كان وصوله
من طريق وصول معلوله، وهي العقوبة في كل شبهة، فان اللازم هو الوصول،
واما اعتبار كونه واصلا بنفسه فلا موجب له، بل يكفي وصوله ولو بوصول
معلوله.
والآخر: استكشاف الامر الطريقي المصحح للمؤاخذة من الامر
بالتوقف في الشبهات، المعلل...، لا من التعليل نفسه، وذلك بان يكون أمر
المخاطبين بالتوقف في الروايات المشار إليها كاشفا عن وصول الامر الطريقي
بالاحتياط إليهم، وهذا مما لا مانع منه في حق المخاطبين، وحينئذ بمقتضى قاعدة
الاشتراك مع المخاطبين في التكليف، يستكشف الامر الطريقي بالاحتياط في
حق غيرهم، فيكون الكاشف عن الامر الطريقي المصحح للمؤاخذة بالنسبة
إلى غير المخاطبين، الامر بالتوقف، مع قاعدة الاشتراك في التكليف.
والوجهان مما يشتركان في ابتنائهما على كون المراد بالهلكة في الروايات،
هي العقوبة الأخروية.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية / 196 - الطبعة الأولى.
469

ولذلك يكون ما أورده المحقق الأصفهاني (قدس سره) من منع إرادة
العقوبة الأخروية من الهلكة واردا على كلا الوجهين.
فقد أفاد (قدس سره) ما نصه: " فالأولى المنع من ظهور الهلكة في
خصوص العقوبة ". لان هذا الكلام ذكر في موردين، لا مانع من إرادة العقوبة
في أحدهما ولا يمكن ارادتها في الاخر.
أما الأول: ففي ذيل مقبولة عمر بن حنظلة - بعد ذكر المرجحات وفرض
التساوي من جميع الجهات - حيث قال (عليه السلام): " إذا كان كذلك فأرجه
حتى تلقى إمامك، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات "،
فإنه لا مانع من إرادة العقوبة، لان المورد من الشبهات التي يمكن ازالتها
بملاقاة الإمام (عليه السلام).
مع أنه يمكن ان يقال: ان المراد هو التوقف من حيث الفتوى على طبق
احدى الروايتين في مقام فصل الخصومة، كما هو مورد المقبولة.
ولذا لا تعارض الاخبار الدالة على التخيير بعد فرض المساواة، فإنه لا
مجال للتخيير في مقام فصل الخصومة، فان كلا من المتخاصمين يختار ما يوافق
مدعاه، فيبقى الخصومة على حالها.
وعليه، فلزوم التوقف في الشبهة القابلة للإزالة أو التوقف في الفتوى لا
ربط له بما نحن فيه. فكون الهلكة بمعنى العقوبة في مثلهما لخصوصية المورد.
وأما الثاني: ففي موثقة مسعدة بن زياد، عن الصادق (عليه السلام)، عن
أبيه (عليه السلام)، عن ابائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله)
قال (صلى الله عليه وآله): " لا تجامعوا في النكاح على الشبهة، وقفوا عند الشبهة.
يقول: إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها أو أنها لك محرمة، وما أشبه ذلك. فان
الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة "، فإنه لا شبهة في أن الهلكة لا
يراد منها العقوبة، بل المفاسد الذاتية الواقعية. كيف؟ وقد نص في موثقة مسعدة
470

بن صدقة: بان الاقدام حلال، ممثلا له بذلك وبأشباهه.
وعليه، فما في رواية أخرى أيضا لا ظهور للهلكة فيها في العقوبة، بل في
الجميع ارشاد إلى ما يعم العقوبة والمفسدة، كل بحسب ما يقتضيه المورد من
وجود المنجز وعدمه " (1).
هذا، وما أفاده (قدس سره) من الوجهين لتقريب الاستدلال باخبار
التوقف على وجوب الاحتياط، مما لم نفهمه..
أما الوجه الثاني، فهو مبني - كما عرفت - على أن يكون الامر بالاحتياط
واصلا إلى المخاطبين، كي يتنجز - بذلك - الواقع في حقهم، وبمقتضى قاعدة
الاشتراك يثبت ذلك في حقنا أيضا.
ولكن هذا غير ثابت، ولم يذكر (قدس سره) في كلامه مثبتا لذلك، وإنما
ساقه كمجرد احتمال لا أزيد من ذلك.
وأما الوجه الأول، فبأننا لا ننكر امكان بيان الأمر والنهي ببيان ما يترتب
عليهما من الثواب والعقاب، فيكون وصول الامر بوصول معلوله وهو الثواب
على الفعل -، ووصول النهي بوصول معلوله، وهي العقوبة على الفعل. كما أننا
لا ننكر صدور الامر أو النهي المولوي من مقام، وصدور الامر الارشادي ارشادا
إلى ما يترتب على إطاعة الامر المذكور أو على مخالفة النهي المذكور من مقام
آخر، كما هو الحال في الخطباء والوعاظ بالنسبة إلى أوامر الشرع الحنيف
ونواهيه.
بل الذين ننكره هو: صدور كلا الامرين من المولى نفسه، بأن يأمر المولى
بأمر مولوي بشئ - مثلا - ويأمر معه - في ذلك الكلام - بأمر إرشادي، فهذا ما
لا نتصوره ولم نفهم له معنى محصلا. بل نراه مما يضحك منه العاقل. فلا يمكن

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية / 197 الطبعة الأولى.
471

- اذن - الجمع في روايات التوقف بين الأمر بالتوقف ارشادا، والأمر المولوي
المستكشف من فرض الهلكة - وهي العقوبة الأخروية - باعتبار كون العقوبة
من لوازم الامر المولوي.
وعليه، فليس هناك سوى أمر واحد، وهو الأمر بالتوقف، وهو أمر
إرشادي، حسب البيان المتقدم ذكره.
واما الاخبار الامرة بالاحتياط:
فمنها: صحيح عبد الرحمن بن الحجاج قال: " سألت أبا الحسن (عليه
السلام) عن رجلين أصابا صيدا، وهما محرمان، الجزاء بينهما، أو على كل واحد
منهما جزاء قال: لا، بل عليهما ان يجزي كل واحد منهما الصيد. قلت: إن بعض
أصحابنا سألني عن ذلك، فلم أدر ما عليه!. فقال: إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا،
فعليكم الاحتياط، حتى تسألوا عنه فتعلموا " (1).
وقد أجاب عنه شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره): بان المشار إليه
بكلمة: " هذا " اما نفس واقعة الصيد - أي: الموضوع المشتبه حكمه -. أو السؤال
عن حكم ما لا يعلم حكمه، نظرا إلى أن المفروض: ان الراوي كان قد سئل
منه حكم الصيد المذكور، فلم يدر بذلك، فيكون المراد: انه إذا ابتلي أحدهم
بالسؤال عما لا يعلم بحكمه..
فعلى الأول: بان تكون إشارة إلى أصل المسألة، فاما أن يكون المورد من
قبيل الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين. أو يكون ذلك من الأقل والأكثر
الارتباطيين.
فإن كان الأول، نظير الدين المردد بين الأقل والأكثر، فيتوجه عليه:

(1) وسائل الشيعة 18 / 111 باب 12 الحديث 1 من أبواب صفات القاضي.
472

أولا: ان ذلك مما لا يجب فيه الاحتياط باتفاق الأصوليين والأخباريين،
لكون مورد الرواية من الشبهات الوجوبية، التي لا يجب الاحتياط فيها اتفاقا.
وثانيا: انه على تقدير التسليم بالاحتياط في مورد الرواية، بفرضه من
موارد الدوران بين المتبائنين، الواجب فيها الاحتياط، فهو أجنبي عما هو محل
البحث، لان التكليف في مورد الرواية يكون معلوما بالاجمال، فيلزم فيه
الاحتياط، ومحل كلامنا هو الشك في التكليف وعدم العلم به ولو إجمالا.
وان كان الثاني، فهو إن كان محل الخلاف، ومذهب بعض الأصوليين فيه
هو الاشتغال، نظرا إلى فرض الشك فيه في المكلف به بعد إحراز أصل التكليف.
إلا أنه على هذا التقدير تكون الرواية أجنبية عن محل البحث، لان البحث انما
هو في الشك في التكليف، لا في المكلف به مع احراز أصل التكليف.
وعلى الثاني: بان تكون إشارة إلى الابتلاء بالسؤال عما لا يعلم بحكمه،
فاما ان يراد بالاحتياط هو الفتوى بالاحتياط، أو يراد به الاحتياط في الفتوى،
بان لا يفتى بشئ احتياطا. وعلى كلا التقديرين فالرواية غير نافعة لمحل
البحث، فان المفروض في مورد الرواية هو التمكن من استعلام حكم الواقعة
فيما بعد، وذلك بالسؤال والتعلم. ولا مضايقة عن القول بوجوب الاحتياط - بكلا
محتمليه - في مثل هذه الواقعة الشخصية، حتى يتعلم حكم المسألة في المستقبل.
وأين ذلك مما هو محل البحث، حيث إنه لا مجال للتعلم فيما بعد أيضا، فان
الفحص بالمقدار اللازم قد تحقق ولم ينته به - على الفرض - إلى نتيجة معلومة،
فهو فيما يأتي - كما هو عليه الآن - في شك وحيرة من الحكم (1).
قلت: أما على تقدير أن يكون: " هذا " إشارة إلى السؤال، لا إلى نفس
الواقعة فالظاهر هو دلالة الرواية على أن حكم المشتبه هي الاحتياط دون

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 210 - الطبعة الأولى.
473

البراءة، فيتم الاستدلال بها لما هو محل البحث.
بيان ذلك: ان مثل هذا الكلام: " إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا، فعليكم
بالاحتياط حتى تسألوا وتعلموا " يمكن القول به في ثلاثة موارد
أولا: بالنسبة إلى من يعتمد في استنباط الأحكام الشرعية الطرق غير
الصحيحة والمعتبرة عند الإمامية، كأن يعتمد على القياس، والاعتبارات الظنية،
والاستحسانات العقلية، فلا يقوم هو بدور الاجتهاد الصحيح وانما يفتي على
أساس المستندات المشار إليها.
ثانيا: من يفتي بالبراءة بدون الفحص عن الدليل، بل يفتي في كل مسألة
ترد عليه بما يقتضيه حكم الشك في تلك المسألة، من دون تريث وفحص عن
الدليل الاجتهادي القائم في تلك المسألة.
ثالثا: من لا يعتمد في استنباطه الطرق غير الصحيحة، كما لا يفتي بما
يقتضيه الشك في المسألة إلا بعد استفراغ وسعة في البحث والفحص عن دليل
المسألة واليأس عن تبين حكمها على ضوء الأدلة الصحيحة، فإذا لم يظفر
بالدليل يحكم بالبراءة، أو...
اما الفرض الأول، فهو بعيد عن مورد الرواية، وان كانت الرواية - على
تقديره - أجنبية جدا عما هو محل البحث. والوجه في بعده: هو ان ملاحظة
الراوي - وهو عبد الرحمن بن الحجاج - وملاحظة نفس الرواية مما يبعدان ذلك.
واما الثاني، فحمل الرواية عليه وان كان قريبا جدا، وبذلك تصبح
الرواية أجنبية عن المدعى، فان القائل بالبراءة انما يقول بها بعد الفحص عن
الدليل واليأس عن الظفر به، لا مطلقا ولو كان قبل ذلك.
إلا أن هذا - أي دلالة الرواية على وجوب الاحتياط بالإضافة إلى ما
قبل الفحص - يعتبر اشكالا اخر على الرواية، ولا يرتبط ذلك بما هو محل
474

البحث وهو: أنها هل تدل على وجوب الاحتياط، من غير جهة اعتبار الفحص
واليأس عن الدليل في اجراء البراءة؟.
وعليه، فإذا فرضنا - كما هو مفروض كلام شيخنا العلامة الأنصاري
(قدس سره) - حمل الرواية على الفرض الثالث، فلا محالة يتم دلالة الرواية
على وجوب الاحتياط، وأن الوظيفة في مورد الشك انما والاحتياط دون
البراءة، فإنه إذا كان الواجب هو الاحتياط وعدم الفتوى بالبراءة حتى مع
الفحص واليأس عن الدليل، كانت الوظيفة - لا محالة - في الشبهة البدوية هو
الاحتياط دون البراءة، والا لم يكن موجب للاحتياط عن الفتوى أو الفتوى
بالاحتياط مع كون حكم المورد هي البراءة، كما هو ظاهر.
إلا أن الظاهر من الرواية هو الفرض الثاني - كما أشرنا إليه -، فهي
تدل عل الاحتياط قبل الفحص واليأس عن الدليل، فما دام لم يتحقق الشرط
- وهو الفحص - على المكلف الاحتياط. حتى يسأل ويتعلم، أي: حتى يفحص.
وبكلمة أخرى: الرواية دالة على الاحتياط في الفتوى أو الفتوى بالاحتياط ما
دام لم يتحقق منه الفحص، وهو السؤال عن حكم الموضوع وتعلمه في ما بعد.
وعليه، فالرواية لا تدل على وجوب الاحتياط في ما هو محل الكلام، وهو
ما بعد الفحص واليأس عن الدليل، وهذا اشكال أخر يتوجه عليها غير
الاشكال الذي وجهه إليها شيخنا الأنصاري (قدس سره). فلاحظ وتأمل.
ثم إن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) أفاد بأنه: بناء على التسليم
بكون المورد من الأقل والأكثر الاستقلاليين، والتسليم بكون الوظيفة فيه هو
الاحتياط، لا يتم الاستدلال بها لمحل البحث. فإنه - على هذا - يكون التكليف
بالأكثر معلوما في الجملة، ووجوب الاحتياط في مثله بمقتضى الرواية، لا يوجب
التعدي والاحتياط في الشبهة البدوية، التي لا يكون التكليف فيها معلوما
475

أصلا (1).
ويتوجه عليه: انه - بناء على كون المورد من الأقل والأكثر الاستقلاليين -
يكون التكليف بالأكثر مشكوكا فيه بالشبهة البدوية قطعا، ويكون هذا المورد
هو المتيقن به من موارد انحلال العلم الاجمالي، وان الموجود هي صورة العلم
الاجمالي. فالتعدي عن مورد الرواية إلى الشبهة البدوية - التي هي محل الكلام
- في محله.
وعليه، فبعد التسليم بهذا المبنى لا مجال للتوقف في الاستدلال بالرواية،
كما لا يخفى.
ومنها: موثق عبد الله بن وضاح: " انه كتب إلى العبد الصالح (عليه
السلام)، يسأله عن وقت المغرب والافطار. فكتب إليه: أرى لك أن تنتظر حتى
تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدينك " (2).
وتقريب الاستدلال بها، بحيث تدل على وجوب الاحتياط مطلقا لا في
خصوص موردها هو أن يقال: إن قوله (عليه السلام): " وتأخذ بالحائطة لدينك "
بمثابة التعليل لقوله (عليه السلام): " أرى لك أن تنتظر " كما في قول القائل:
" أرى لك أن توفي دينك، وتخلص نفسك " حيث يدل هذا الكلام على أن تخليص
النفس مطلقا - ولو من غير جهة الدين - لازم. فتدل الرواية - اذن - على وجوب
الاحتياط بقول مطلق.
والجواب عن ذلك - كما عن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) -:
أولا: بان الرواية ظاهرة في استحباب الاحتياط لا وجوبه، فان كلمة:
" أولى " ظاهرة في الاستحباب، ولا ظهور لها في الوجوب. فلا تدل الرواية على

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 210 - الطبعة الأولى.
(2) الوسائل 18 / 122 باب 12 - الحديث 37 من أبواب صفات القاضي.
476

وجوب الاحتياط.
وثانيا: ان ظاهر الرواية هي الشبهة الموضوعية، بتقريب: ان الغروب
عبارة عن استتار القرص عن خط الأفق، هو مشكوك فيه، من جهة احتمال
أن يكون ارتفاع الحمرة فوق الجبل علامة عدم استتار القرص حقيقة.
بيانه: انه لو كان مورد الرواية هي الشبهة الحكمية، بان كان المشكوك
فيه هو ان الغروب - شرعا - عبارة عن استتار القرص المفروض تحققه أو زوال
الحمرة المشرقية، لكان المناسب بالامام (عليه السلام) رفع الشك المذكور، فان
شأنه - (عليه السلام) - هو ذلك، وليس من شأنه (عليه السلام) أمره
بالاحتياط، المفروض معه ابقاء الشك بحاله. وعليه فحيث إنه لم يقم (عليه
السلام) ببيان ما هو حقيقة الغروب شرعا ونستكشف منه عدم كون الشك في
مورد الرواية شكا في الشبهة الحكمية، بل لابد وأن يكون هو الشك في الشبهة
الموضوعية.
وبما أن الاحتياط في موارد الشبهة الموضوعية غير واجب باتفاق
الأصوليين والأخباريين، فلا بد وأن يكون وجوه في خصوص مورد الرواية
لاجل خصوصية اقتضت ذلك، وهي: ان المورد من موارد استصحاب بقاء
الوقت. أو اشتغال الذمة بالتكليف مع الشك في الشك في الخروج منه. فان الافطار عند
استتار القرص - مثلا - يوجب الشك - لا محالة - في فراغ الذمة من الصوم،
الذي علم باشتغال ذمته به قطعا. وحينئذ فالتعدي عن مورد الرواية إلى ما لا
يشترك معه في الخصوصية المذكورة مما لا وجه له.
وثالثا: سلمنا ان الشك في مورد الرواية شك في مورد الشبهة الحكمية،
ومعلوم أيضا أن وظيفة الإمام (عليه السلام) انما هو رفع هذه الشبهة، ولنفرض
أن الغروب شرعا هو زوال الحمرة المشرقية، إلا أن عدم تصدي الإمام (عليه السلام) لبيان هذا الحكم حتى يرتفع به الشك المذكور، لاجل التقية من
477

المخالفين حيث إن الغروب عندهم هو استتار القرص، فلذلك توصل الإمام (عليه السلام)
إلى هدفه بصورة غير مستقيمة، حيث إن ايجاب الاحتياط بعد
استتار القرص مما يحقق - عملا - النتيجة المترتبة على كون الغروب هو زوال
الحمرة. والخلاصة: انه (عليه السلام) توصل إلى هذه النتيجة بصورة غير
مستقيمة، وذلك بايجاب الاحتياط بعد استتار القرص. فقد بين الإمام (عليه السلام) الحكم الواقعي، وقام بما هو وظيفته من بيان الاحكام، لكنه - لاجل
التقية من المخالفين - لم يبين ذلك بصورة مستقيمة، بل بصورة غير مستقيمة،
فالمخالفون يتخيلون ان الانتظار لاجل العلم باستتار القرص، في حين أن ذلك
- بحسب الواقع - لاجل تحقق زوال الحمرة المشرقية، الذي هو محقق الغروب
شرعا (1).
إلا انا نقول - بعد التسليم بهذا -: لا يمكن دلالة الرواية على وجوب
الانتظار والاحتياط، فإنه على خلاف التقية، حيث إن العامة لا يوجبون
الاحتياط، فلا يمكن للامام (عليه السلام) ايجاب الاحتياط بعد كونه خلاف
التقية، فلا بد وأن يكون مفاد الرواية هو رجحان الاحتياط والانتظار، وإلا كان
ذلك على خلاف المفروض في مورد الرواية، وهي التقية.
والمتحصل: ان الرواية لا دلالة لها على وجوب الاحتياط على جميع
التقادير والفروض المتصورة فيها. فلاحظ.
ومنها: ما رواه ولد الشيخ الطائفة الطوسي (قدس سره) في أماليه، بإسناده عن
أبي هاشم، داود بن القاسم الجعفري، عن الرضا (عليه السلام): " إن أمير
المؤمنين (عليه السلام قال لكميل بن زياد: أخوك دينك، فاحتط لدينك بما
شئت " (2).

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 210 - الطبعة الأولى.
(2) وسائل الشيعة 18 / 122 باب 12 الحديث 41 من أبواب صفات القاضي.
478

والجواب عنه - كما عن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) -:
أولا: بان الامر بالاحتياط في الرواية اما محمول على الارشاد، أو على
المولوي الجامع بين الوجوب والاستحباب. وذلك لان حمله على الوجوب كلية
يستلزم التخصيص بالأكثر، وهو مستهجن. بيان الملازمة: ان الشبهات
الموضوعية خارجة بنحو مطلق، سواء فيها الوجوبية والتحريمية. كما أن الشبهة
الحكمية الوجوبية أيضا خارجة، للاتفاق على عدم وجوب الاحتياط في هذه
الموارد. وبما أنه لا مجال لحمله على الاستحباب، لوجوب الاحتياط في بعض
الفروض، كموارد العلم الاجمالي. فلا بد اما الحمل على الارشاد، وحينئذ يكون
اللزوم وعدمه تابعا للمرشد إليه، كما مرت الإشارة إليه سابقا. أو الحمل على
الجامع بين الوجوب والاستحباب.
والنتيجة: انه لا دلالة لها على الوجوب كلية.
وثانيا: ان الظاهر كون الامر بالاحتياط في الرواية امرا استحبابيا
مولويا، وذلك بقرنية قوله (عليه السلام): " بما شئت " فان هذه الجملة تقال في
موردين:
أحدهما: لبيان التخيير في مراتب الشئ، وفي مثل المقام يكون المراد هو
التخيير في مراتب الاحتياط. نظير ذلك في الفارسية: " بكوهر مقدار كه دلت
بخواهد " أو ما تعريبه: " قل ما شئت " فإنه يراد به التخيير في مقدار الكلام، قليلا
أو كثيرا.
والآخر: لبيان المرتبة العالية من الشئ، كما يقال في الفارسية: " أين كار
يا سخن.. خوب بود هر مقدار كه دلت بخواهد " أو ما تعريبه: " هذا الفعل أو
الكلام.. كان حسنا ما شئت " اي كان في أعلى مراتب الحسن وفي المقام يراد به:
المرتبة العالية من الاحتياط. (*)
479

فإن كان المراد بقوله (عليه السلام): " بما شئت " المعنى الأول، كان اللازم
حمل الامر بالاحتياط على الارشاد أو على الجامع بين الوجوب والاستحباب،
وهو مطلق الرجحان. لوجوب بعض مراتب الاحتياط دون بعض. فلا يمكن
حمله على الوجوب التخييري بين جميع المراتب. وان كان هو الثاني، لم يكن مانع
من حمله على الاستحباب، لان حمله على الوجوب غير صحيح، لعدم وجوب
الغاية القصوى والمرحلة العالية من الاحتياط قطعا. وتشبيه الدين بالأخ في
الرواية - أخوك دينك.. - يقتضي الحمل على الثاني، فان الاخوة هي أعلى
مراتب الارتباط بين افراد البشر، حيث إن الصلة بين الأخ والأخ هي أعلى
مراتب الصلة، بالنسبة إلى الصلة مع غير الأخ من الاشخاص أو الأموال.
وحينئذ فجعل الدين بمنزلة الأخ معناه: رجحان المرتبة العالية من الاحتياط
بشأن الدين، كما أن المرتبة العالية من الروابط بين الاخوة متحققة وثابتة (1) (*).
واما روايات التثليث: ك‍:
مقبولة عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث -
قال: " ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند
أصحابك فيؤخذ به عن حكمنا، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند
أصحابك، فان المجمع عليه لا ريب فيه.. وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع،
وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله. قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك. فمن ترك
هذا، ولم يتعرض سيدنا الأستاذ (دام ظله) لسائر الروايات التي تكون بهذا المضمون لما تقدم من
المناقشة في روايات الطائفة الثانية، مضافا إلى ضعف اسنادها. (*)

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 210 - الطبعة الأولى.
480

الشبهات نجى من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات، وهلك من
حيث لا يعلم " (1).
وموضع الاستشهاد في الرواية هو: (قوله صلى الله عليه وآله): " فمن ترك
الشبهات نجى من المحرمات.. ". وهذه الفقرة - ابتداءا - لا دلالة لها على وجوب
الاحتياط، إلا بضم مقدمة أشار إليها شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره)
بها تتم دلالتها على المدعى، وهو: ان الرواية دلت على وجوب طرح الخبر الشاذ النادر
في مقابل الخبر المجمع عليه، معللا ذلك: بأن المجمع عليه لا ريب فيه. وبمقتضى
المقابلة يكون الشاذ مما فيه الريب، لا أن الشاذ يكون مما لا ريب في بطلانه، بل
المقابلة تقتضي أن يكون الشاذ مما فيه الريب. وحينئذ فيدخل الخبر الشاذ تحت
الامر المشكل، الذي يجب ان يرد علمه إلى الله.. ولا يكون من بين الغي.
وعلى هذا فاستشهاد الإمام (عليه السلام) في هذا المقام بقوله (صلى الله
عليه وآله): " حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات... "
يكون دليلا على أن ترك الشبهات واجب، وإلا لما تم الاستشهاد به لوجوب
طرح المشكل الذي هو مورد الرواية، كما لا يخفى (2).
فإذا تمت هذه المقدمة تم الاستدلال بالرواية، وإلا فلا. هذا، ولكن الشأن
هو تمامية المقدمة المذكورة، والظاهر هو عدم تماميتها. فان أساس هذه المقدمة
مبتن على أن يكون الخبر الشاذ - بمقتضى المقابلة - مما فيه الريب، لا مما لا
ريب في بطلانه. وقد استشهد شيخنا الأنصاري (قدس سره) لاثبات ذلك
بوجوه ثلاث:
الأول: ان المفروض في الرواية هو تأخر الترجيح بالشهرة عن الترجيح

(1) الشيعة 18 / 114 باب 12 ح 9 من أبواب صفات القاضي.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 211 - الطبعة الأولى.
481

بالأعدلية والأصدقية..، ولو كانت الشهرة توجب كون ما يقابلها - وهو غير
المشهور - مما لا ريب في بطلانه، لكان الترجيح بالشهرة مقدما على سائر
المرجحات.
الثاني: ان الراوي افترض الشهرة في كلتا الروايتين، ولازم هذا أن لا
يكون مقابل الشهرة داخلا في ما لا ريب في بطلانه، وإلا لم يعقل فرض الشهرة
في فكلتا الطائفتين المتعارضتين.
الثالث: انه - على تقدير كون غير المشهور مما لا ريب في بطلانه - تكون
الأمور اثنين لا ثلاثة، فإنها اما ان تكون بين الرشد أو تكون بين الغي، ولا ثالث
لهما. مع أنه (عليه السلام) صرح في الرواية بتثليث الأمور، مستشهدا لذلك
بقول النبي (صلى الله عليه وآله) أيضا، الدال على التثليث.
فهذه الشواهد الثلاثة كلها تدل على أن الخبر الشاذ يكون مما فيه الريب،
لا أنه يكون مما لا ريب في بطلانه.
وعليه، فيتم الاستدلال بالرواية، كما عرفت (1).
ويمكن الجواب عنه: بأن استشهاده (عليه السلام) بقول النبي (صلى
الله عليه وآله) لا يقتضى كون ترك المشتبه والاجتناب عنه واجبا، بل يصح
الاستشهاد المذكور حتى مع كون الترك راجحا، بالمعنى الجامع بين الوجوب
والاستحباب، اي مطلق الرجحان.
وذلك: لان قوله (صلى الله عليه وآله) ارشاد إلى أن في ارتكاب الشبهات
مظنة الضرر. والتحرز عن الضرر قد يكون واجبا، إذا كان الضرر المحتمل هو
العقاب منجزا على تقدير وجوده. وقد لا يكون كذلك، كما إذا لم يكن العقاب
منجزا على تقدير وجوده، كما في الشبهات الموضوعية مطلقا، والوجوبية الحكمية

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 211 - الطبعة الأولى.
482

باتفاق الأصوليين والأخباريين، والشبهات التحريمية حسب رأي الأصوليين.
والاستشهاد بمثل هذا الكلام الدال على الجامع بين الوجوب
والاستحباب، لمورد يكون الاجتناب والترك فيه واجبا - كترك الخبر الشاذ الذي هو
هو مورد الرواية - لا محذور فيه أصلا.
وخلاصة المقال: ان كون مورد الرواية مما يجب تركه، لا يقتضي أن يكون
ترك الشبهات - الذي استشهد الإمام (عليه السلام) بقول النبي (صلى الله عليه
وآله) بشأنه - أيضا واجبا، ليكون النبوي - مقتضى استشهاد الإمام (عليه السلام) به - دالا على وجوب الاجتناب عن الشبهات، والاحتياط في موردها،
بل يتناسب ذلك مع رجحان الترك والاحتياط أيضا، فلا دلالة للرواية - اذن -
على وجوب الاحتياط.
ثم إن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) أيد دعواه بعدم دلالة
النبوي - الذي استشهد به الإمام (عليه السلام) - على وجوب الاحتياط،
بوجهين:
الأول: عموم النبوي للشبهات التحريمية الموضوعية. فقد اتفق
الأخباريون على عدم وجوب الاحتياط فيها. ولا يمكن الالتزام بدلالة النبوي
على الوجوب، مع خروج الشبهات التحريمية الموضوعية تخصيصا. أما أولا:
فلكونه تخصيصا مستهجنا، لكونه من التخصيص بالأكثر. وثانيا: سياق النبوي
آب عن التخصيص، فان النبوي وارد في مقام حصر المشتبه كله. وحينئذ فإما
ان تكون الشبهة التحريمية الموضوعية داخلة في القسم الثالث، ولازمه وجوب
الاحتياط فيها، وإلا لم يكن الحصر حاصرا لوجود ما يكون خارجا عن الأقسام
الثلاثة المذكورة في الرواية، فان خروجها عن الحلال البين والحرام البين ظاهر،
فلو كانت خارجة عن القسم الثالث لزم ما ذكرناه، كما هو ظاهر.
الثاني: ان النبوي دال على أن ارتكاب الشبهات مما يؤدي بالمرتكب لها
483

إلى الوقوع في الحرام. وليس المراد بذلك ان ارتكاب مجموع موارد الشبهة مما
يكون كذلك، باعتبار: أن في ضمن موارد الشبهة - بالعلم الاجمالي - مقدارا من
الحرام الواقعي، حيث نعلم اجمالا ان في ضمن الكمية الكثيرة من الموارد المشتبه
بها، محرمات واقعية أيضا، يكون المرتكب لجميع موارد الشبهة قطعا وبالعلم
الاجمالي مرتكبا لجمله من المحرمات الواقعية أيضا، بأن تكون الرواية في مقام
التحذير عن ارتكاب المجموع. ليس الامر كذلك، بل المراد ان ارتكاب الشبهة
بما هي شبهة - أي: جنس الشبهة - مما ينجز بالمرتكب إلى الوقوع في الحرام لا
محالة. والدليل عل ذلك:
أولا: ان النبوي في مقام تصوير قسم ثالث، ليس هو بالحلال البين، ولا
بالحرام البين، وهو المشتبه، ولا يناسب هذا إرادة المجموع من المشتبه، فان
المجموع لا يمكن فرضه مقابلا للقسمين، كما هو ظاهر. بل المناسب له إرادة
الجنس من المشتبه، فإنه - على هذا - يكون قسما ثالثا في مقابل القسمين الأولين.
وثانيا: ان الإمام (عليه السلام) قد استشهد بالنبوي لترك الخبر الشاذ
النادر، ولو كان المراد بالشبهة - في النبوي - المجموع دون الجنس، لما تم
الاستشهاد المذكور، كما لا يخفى.
وعليه، فالمراد بالنبوي: ان ارتكاب الشبهة بما هي شبهة - أي: الجنس -
مما يشرف بالمرتكب إلى الوقوع في الحرام، كالاشراف في مجاز المشارفة،
فمرتكب الشبهة مشرف على ارتكاب الحرام، كما أن من يرعى بغنمه حول
الحمى مشرف على الدخول في الحمى، كما وقع التشبيه بذلك في بعض الروايات.
وعلى هذا، فغاية ما يستفاد من النبوي هو: ان ارتكاب الشبهة اشراف
على ارتكاب الحرام، فلا بد لمن يريد الاستدلال بالرواية لحرمة ارتكاب الشبهة
من اثبات حرمة الاشراف على الحرام أيضا.
وثالثا: الروايات الكثيرة المساوقة لهذه الرواية الظاهرة - لقرائن مذكورة
484

فيها - في الاستحباب..
كرواية نعمان بن بشير، قال: " سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يقول: لكل ملك حمى، وحمى الله حرامه وحلاله، والمشتبهات بين ذلك. لو أن
راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن يقع في وسطه. فدعوا
الشبهات " (1).
ومرسله الصدوق (رحمه الله): أنه خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)
وقال: " حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك. فمن ترك ما اشتبه عليه من
الاثم، فهو لما استبان له أترك. والمعاصي حمى الله، فمن يرتع حولها يوشك أن
يدخلها " (2).
ورواية أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: " قال جدي رسول الله (صلى
الله عليه وآله) - في حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام -: من رعى
غنمه قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى. ألا وإن لكل ملك حمى،
ألا وإن حمى الله محارمه، فاتقوا حمى الله ومحارمه " (3).
وما ورد، من أن: " في حلال الدنيا حسابا، وفي حرامها عقابا، وفي
الشبهات عتابا " (4).
ورواية فضيل بن عياض، قال: " قلت لابي عبد الله (عليه السلام): من
الورع من الناس؟. قال: الذي يتورع من محارم الله، ويتجنب هؤلاء، فإذا لم
يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه " (5) (6).

(1) وسائل الشيعة 18 / 122 باب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 40.
(2) وسائل الشيعة 18 / 118 باب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 22.
(3) وسائل الشيعة 18 / 124 باب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 47.
(4) كفاية الأثر / 227.
(5) بحار الأنوار 70 / 303 - الحديث 348.
(6) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 212 - الطبعة الأولى.
485

واما العقل: فقد استدل به على الاحتياط بوجوه:
الوجه الأول: وهو العمدة فيها - دعوى العلم الاجمالي بوجود واجبات
ومحرمات كثيرة في موارد الشك في الوجوب والحرمة، وقد تقرر في محله لزوم
الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي، فلا بد من فعل كل ما احتمل وجوبه وترك
كل ما احتمل حرمته تفريغا للذمة المشغولة قطعا. ولا خلاف في ذلك إلا من
بعض الأصحاب.
هذا تقرير الوجه الأول كما جاء في الكفاية.
وقد أجاب عنه (قدس سره): بدعوى انحلال العلم الاجمالي (1).
ولتوضيح مراد الكفاية نشير إلى صور الانحلال وعدم منجزية العلم
الاجمالي، وهي ثلاثة:
الأول: الانحلال الحقيقي التكويني بواسطة العلم التفصيلي بالمعلوم
بالاجمال، كما إذا علم اجمالا بوقوع قطرة بول في أحد هذين الإناءين، ثم علم
تفصيلا بان قطرة البول في هذا الاناء المعين، فان العلم الاجمالي يزول قهرا، إذ
لا تردد بعد العلم التفصيلي.
الثاني: الانحال الحكمي، وهو زوال أثر العلم الاجمالي من التنجيز وان
كان باقيا بنفسه، وذلك كما في موارد قيام الامارة على تعيين المعلوم بالاجمال في
أحد الأطراف، فإنه لا يكون منجزا في الطرف الآخر.
الثالث: الانحلال الحقيقي، ولكن لا بواسطة حدوث علم تفصيلي، بل
بواسطة انكشاف عدم تعلق العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير
فيزول أثره وهو التنجيز، ويصح ان نعبر عن مثل هذا العلم الاجمالي بالعلم

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 346 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
486

الاجمالي البدوي لأنه يزول بعد ذلك. كما في موارد تعلق العلم
الاجمالي بتكليف مردد بين ما هو محل الابتلاء وما هو ليس بمحل الابتلاء،
فان العلم الاجمالي يحدث بدوا، لكن بعد معرفة ان أحد طرفيه خارج عن مورد
الابتلاء المنافي لتعلق التكليف الفعلي به، يزول العلم وينكشف بأنه لا تكليف
على كل تقدير من أول الامر وان العلم الاجمالي كان وهميا. فهذه الصورة ليست
عبارة عن انحلال العلم الاجمالي، بل عبارة عن زواله لانكشاف الخلاف. نظير
موارد الشك الساري.
ويجمع كل هذه الموارد عدم تنجيز العلم الاجمالي.
وغرضنا في هذا المقام هو: الإشارة إلى المطلب بعنوان الدعوى، فلسنا
بصدد بيان السر في تحقق الانحلال وعدم تنجيز العلم الاجمالي في هذه الموارد،
فان له مجالا آخر يأتي ان شاء الله تعالى.
إذا تبين ذلك، قد جمع صاحب الكفاية في جوابه جميع صور الانحلال.
فقد أشار إلى دعوى الانحلال الحقيقي التكويني - وهو الصورة الأولى
- في ذيل كلامه بقوله: " هذا إذا لم يعلم ثبوت التكاليف الواقعية... ". وتوضيحه:
ان العلم الاجمالي بثبوت تكاليف في ضمن المشتبهات ينحل بالعلم الاجمالي
بثبوت تكاليف واقعية في موارد الطرق الشرعية بمقدار المعلوم بالاجمال، فينحل
العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي الصغير، ولا يتنجز سوى موارد الطرق
الشرعية دون المشتبهات التي لم يقم طريق شرعي عليها.
كما التزم بالانحلال بالنحو الثالث في صدر جوابه، وبيانه: ان قيام
الامارة والطريق الشرعي على الحكم يمنع من فعلية الواقع في موردها لامتناع
اجتماع حكمين فعليين - كما بين ذلك في محله -.
وعليه، فالمكلف كما يعلم بثبوت تكاليف واقعية في ضمن المشتبهات، يعلم
بثبوت طرق وأصول مثبتة للتكاليف بمقدار المعلوم بالاجمال أو أزيد.
487

وهذا يمنع من منجزية العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعية، إذ هو لا يعلم
بثبوت الأحكام الواقعية الفعلية على كل تقدير، بل على خصوص تقدير غير
موارد قيام الطرق، لعدم فعلية الواقع في موارد الطرق.
ومثله لا يكون منجزا، إذ هو لا يعلم بثبوت احكام فعلية غير ما قامت
عليه الطرق والأصول العملية. فيكون المورد من قبيل تعلق العلم الاجمالي
بتكليف مردد بين ما هو محل الابتلاء وما هو ليس محل الابتلاء.
ثم إنه بعد أن ذكر ذلك أورد على نفسه: ان العلم بالحكم الفعلي ههنا
متأخر، لان العلم الاجمالي بالتكاليف ينشأ من أول البلوغ والالتفات إلى وجود
شريعة ودين، وبعد ذلك يحصل العلم بثبوت تكاليف فعلية في موارد الطرق
والأصول العملية، والعلم المتأخر لا ينفع في انحلال العلم الاجمالي السابق، فلا
يدعي أحد انحلال العلم الاجمالي بنجاسة أحد الإناءين بالعلم التفصيلي
بنجاسة أحدهما المعين المتأخرة وبسبب آخر.
وأجاب عنه: بان المناط في الانحلال هو مقارنة المعلوم لا العلم، فإذا تعلق
العلم الاجمالي المتأخر بما يقارن العلم الاجمالي تحقق انحلال العلم الاجمالي، ولذا
لو علم - مؤخرا - بنجاسة أحد الإناءين المعين التي هي المعلومة بالاجمال انحل
العلم الاجمالي السابق.
وعليه، فالحكم الفعلي الثابت في مورد الامارة سابق الحدوث والمتأخر هو
العلم به، فالتكليف الواقعي ليس فعليا في مورده من السابق، فلاحظ.
والسر في عدم تنجيز العلم بواسطة ذلك: ما أشار إليه الشيخ (رحمه الله)
في أول مبحث القطع من: ان القطع يكون حجة ما دام موجودا، فإذا زال فلا
حجية له (1). وقد عرفت أن العلم الاجمالي ههنا يزول بالعلم بالطرق المثبتة

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 2 - الطبعة الأولى.
488

للتكاليف.
ودعوى: ان ذلك غير مطرد، إذ قد يزول العلم مع بقاء تنجزه، كما لو
طهر أحد الإناءين المشتبهين بالنجاسة، فإنه لا بد من الاجتناب عن الاناء
المشتبه الاخر بلا اشكال.
تندفع: بان التطهير لا يكون سببا لزوال العلم بنجاسة أحد الإناءين
قبل تحقق، فهو فعلا يعلم بنجاسة أحد الإناءين قبل التطهير - على أن يكون
(قبل التطهير) قيدا للنجاسة لا العلم -، وهو سبب تنجيز التكليف بعد تحقق
التطهير. فالعلم باق لم يزل، بخلاف ما نحن فيه على ما عرفت.
وأما الانحلال الحكمي، فقد التزم به في جواب ايراد أورده على نفسه بعد
جواب الايراد السابق.
ومحصل الايراد ان ما أفيد انما يتم بناء على الالتزام بان المجعول في باب
الامارات والطرق احكام فعلية، واما بناء على أن المجعول هو المنجزية والمعذرية
- كما عليه صاحب الكفاية - فلا يتم ما ذكر، لأنه لا تزول فعلية الواقع بقيام
الامارة، فالحكم الواقعي المعلوم بالاجمال فعلي على كل تقدير - تقدير الامارة
وتقدير غيرها -.
وأجاب عنه: بالالتزام بالانحلال الحكمي - على هذا المبنى الصحيح في
المجعول في باب الامارات - بدعوى: ان نهوض الحجة على ما ينطبق عليه
المعلوم بالاجمال في بعض الأطراف يكون بحكم الانحلال عقلا ويستلزم صرف
تنجزه إلى ما إذا كان التكليف الواقعي في ذلك الطرف والعذر عما إذا كان في
سائر الأطراف. ومثل له بما إذا علم بحرمة اناء زيد بين الإناءين وقامت البينة
على أن هذا اناء زيد، فإنه لا شك في عدم لزوم الاجتناب عن الاناء الاخر، كما
لو علم تفصيلا إناء زيد.
وتوضيح ما ذكره (قدس سره): أن لدينا موردين لانحلال العلم وعدم
489

تنجيزه.
أحدهما: ما إذا كان في أحد الطرفين أصل مثبت، فإنه يمنع من تنجيز
العلم الاجمالي، ويصح اجراء الأصل النافي في الطرف الاخر.
وهذا يختص بالقول بان العلم الاجمالي مقتضى للتنجيز. أما على القول
بأنه علة تامة له فلا مجال لجريان الأصل النافي أصلا.
ثانيهما: ما إذا قامت إمارة على تعيين المعلوم بالاجمال في أحد الطرفين،
وهو مورد الانحلال الحكمي، فمورد الانحلال الحكمي يختلف عن مورد قيام
الأصل المثبت في طرف والنافي في الطرف الاخر.
والوجه في الانحلال الحكمي..
أما ما ادعاه صاحب الكفاية من استلزام دليل الحجية لصرف التنجيز
فهو مجمل ومجرد دعوى بلا ان يقيم عليها دليل.
نعم قد يوجه بوجهين:
أحدهما: ارجاع مورد قيام الامارة على طرف إلى مورد قيام الأصل
المثبت في طرف، ويكون الجامع كل مورد يقوم الدليل - من أصل أو امارة - على
اثبات التكليف في طرف ونفيه في الطرف الاخر، يرتفع تأثير العلم الاجمالي
- هذا لا بد منه، لأنه في موارد الانحلال الحكمي يلتزم به مطلقا - بلا تفرقة
بين الالتزام بعلية العلم الاجمالي للتنجيز أو باقتضائه. وعليه فلا ثمرة للخلاف المزبور إلا فرضا.
ولكن هذا لا ينفعنا فيما نحن فيه، وانما ينفع في موارد الشبهة الموضوعية،
فان البينة على وقوع النجاسة المرددة بين الإنائين في هذا الاناء بينة على عدم
وقوعها في الاناء الاخر، لأنه مدلول التزامي لوقوعها في ذلك الاناء، فهنا دليل
مثبت ودليل ناف.
أما فيما نحن فيه، فالخبر الذي يتكفل حكم باب الصلاة لا ينفي الحكم
490

المشكوك في باب الصوم، إذ ليس المعلوم بالاجمال احكاما معدودة بعدد خاص
لا تزيد عليه حتى يستلزم قيام الطرق على ثبوت ذلك العدد في موارد نفيها
بالملازمة في الموارد الأخرى.
والآخر: من أن المتنجز لا يتنجز، فإذا قامت الامارة على الحكم في مورد
كان منجزا، فيمتنع ان يتنجز ثانيا بالعلم الاجمالي. وعليه فلا يكون العلم
الاجمالي منجزا على كل تقدير، فلا أثر له.
ولكن هذا مما لا يمكن ان يوجه به كلام الكفاية لأنه يبتني - كما لا يخفى -
على أن يكون الطريق بوجوده الواقعي - بقيد كونه في معرض الوصول -
حجة ومنجزا، لا مقيدا بالوصول وهو مما لا يلتزم به صاحب الكفاية. وان التزم
به المحقق الأصفهاني (1). واخترناه سابقا في مبحث تأسيس الأصل في باب
الحجية. فراجع (2).
هذا تمام الكلام في بيان جواب صاحب الكفاية عن دعوى العلم الاجمالي.
وقد اقتصرنا على ايضاح كلامه والإشارة إلى مبانيه، بلا دخول معه في
نقض وإبرام، فان له محلا آخر سيأتي الكلام فيه مفصلا عن الانحلال وشئونه
و أنحائه والدليل عليه، وستعرف ان شاء الله تعالى مدى تمامية كلام الكفاية وعدمه
عندما تصل النوبة إليه.
ويكفينا هنا في رد دعوى العلم الاجمالي الالتزام بالانحلال الحقيقي
بواسطة العلم الاجمالي الصغير. وقد قربنا كيفية انحلال العلم الاجمالي به في
مقدمات دليل الانسداد. فراجع (3).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 200 الطبعة الأول.
(2) راجع / 196 من هذا الجزء.
(3) راجع / 298 من هذا الجزء.
491

الوجه الثاني: ما قيل من أن العقل يستقل بالحظر في الأفعال غير
الضرورية حتى يرد الترخيص من الشرع.
وقد يوجه ذلك بوجه استحساني وهو: ان العبد لما كان مملوكا للمولى
كانت تصرفاته بيد المولى، فتصرفه في شئ بدون اذن المولى تصرف في سلطان
المولى، وهو مما يحكم العقل بقبحه، لأنه خروج عن زي الرقية ومقتضى العبودية.
وأجاب عنه في الكفاية بوجوه:
الأول: بان هذه المسألة محل خلاف فلا يتجه الاستدلال بأحد القولين
فيها، والا لأمكن التمسك للبراءة بالرأي الاخر القائل بان الأفعال على
الإباحة لا على الحظر.
الثاني: انه ورد الترخيص شرعا، لما عرفت من قيام الأدلة على الإباحة
شرعا، ولا تعارضها أدلة الاحتياط.
الثالث: ان تلك المسألة تختلف عما نحن فيه، ولعل الوجه فيه هو ان
الكلام في تلك المسألة بلحاظ ما قبل الشرع، والكلام في البراءة والاحتياط
بلحاظ ما بعد الشرع، وهذا الفرق يمكن أن يكون فارقا اعتبارا، فلا يلازم
القول بالوقف في تلك المسألة للاحتياط في هذه المسألة، بل قد يحكم العقل فيها
بالبراءة استنادا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان (1).
الوجه الثالث: ان محتمل الحرمة يحتمل الضرر لاحتمال المفسدة فيه،
ودفع الضرر المحتمل واجب.
والجواب عنه كما في الكفاية (2) - وقد مر تفصيل الكلام فيه صغرى
وكبرى -: بان احتمال الحرمة يلازم احتمال المفسدة لا احتمال الضرر، والمفسدة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 348 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 218 - الطبعة الأولى.
492

المحتملة ليست بضرر، إذ المصالح والمفاسد لا ترجع إلى المنافع و المضار، بل
يكون الامر بالعكس. إذن فالصغرى ممنوعة مضافا إلى منع الكبرى، لعدم كون
الضرر المقطوع فضلا عن المحتمل مما يجب التحرز عنه عقلا دائما، بل قد يجب
ارتكابه، إذا ترتب عليه ما هو أهم منه بنظر العقل. فتدبر.
هذا تمام الكلام في أدلة الاحتياط. وقد عرفت عدم نهوض شئ منها
لاثبات الاحتياط في الشبهات الحكمية.
وأما أدلة البراءة، فقد عرفت أن عمدتها لا يستفاد منه أكثر من القاعدة
العقلية - لو تمت -.
نعم: حديث الرفع يستفاد منه جعل الحلية شرعا، لكنه ضعيف السند فلا
يعول عليه.
وأما حديث الحجب، فهو وان كان تام السند، لكن عرفت ما يدور حول
دلالته من مناقشة فلا يصلح لان يعتمد عليه في المقام إلا إذا حصل الجزم
بدلالته.
493

وينبغي التنبيه على أمور:
التنبيه الأول: أن أصل البراءة إنما يجري فيما إذا لم يكن أصل موضوعي في
مورده، لان الأصل الجاري في الموضوع يتقدم على الأصل الجاري في الحكم
بالحكومة أو بالورود - على الخلاف في ذلك -، فان الأصل السببي متقدم على
الأصل المسببي بلا كلام، وانما البحث في وجه تقدمه وأنه بالحكومة أو بالورود أو
غيرهما؟.
وقد حمل المحقق النائيني عبارة الشيخ (1) على إرادة كل أصل حاكم على
أصل البراءة ولو كان جاريا في الحكم كالاستصحاب المثبت للتكليف، لأنه يتقدم
على البراءة بلا اشكال (2).
وهذا المعنى وإن كان صحيحا في نفسه، إلا أن حمل كلام الشيخ عليه بلا
ملزم، لأنه خلاف الظاهر من كلامه، خصوصا وان المثال الذي يدور البحث حوله
في المسألة، من قبيل ما إذا جرى الأصل في موضوع الحكم المشكوك، وهو أصالة
عدم التذكية.
وعلى كل حال، فأصل المطلب بنحو الكلية معلوم لا كلام فيه.
إنما الكلام في الفرع المذكور في المسألة، وهو ما إذا شك في حلية حيوان
لاجل الشك في التذكية، فهل تجري أصالة عدم التذكية، وحينئذ لا مجال لأصالة
البراءة، أو لا تجري؟. ولا بأس بتفصيل الحديث فيه لعدم التعرض إليه في غير
هذا المحل من الأصول.
وقد ذكر: ان الشبهة تارة تكون حكمية. وأخرى موضوعية.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 218 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 380 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
494

والشبهة الحكمية تارة: تنشأ من الشك في قابلية الحيوان للتذكية، فيشك
في حليته لذلك، كالحيوان المتولد من الغنم والكلب ولم يلحق أحدهما في الاسم.
وأخرى يعلم بقابليته للتذكية، لكن يشك في حلية أكل لحمه ذاتا كالأرنب مثلا.
والشبهة الموضوعية أيضا كذلك، فتارة يشك في حلية لحم الحيوان لاجل
الشك في تحقق التذكية. أخرى يشك فيها لاجل الشك في أنه من لحم حيوان
محلل الأكل كالغنم، أو محرمة كالفأر، مع العلم بتحقق التذكية.
ولا يخفى ان البحث في جريان أصالة عدم التذكية في مورد الشك فيها
من جهة الشبهة الحكمية يتوقف على أمرين:
أحدهما: عدم وجود عموم أو اطلاق يدل على قبول كل حيوان للتذكية
إلا ما خرج بالدليل. وإلا كان هذا العموم متكفلا لاثبات القابلية في مورد
الشك، فلا مجال للأصل.
والآخر: ان يفرض كون موضوع حرمة اللحم أمرا عدميا وهو غير
المذكى، لا أمرا وجوديا وهو الميتة - بناء على انها أمر وجودي -.
وتوضيح ذلك: ان الأقوال في هذا الباب ثلاثة -.
فقول: بان موضوع الحرمة والنجاسة هو الميتة، وهي أمر وجودي لازم
لعدم التذكية.
وقول: بان موضوع الحرمة والنجاسة أمر عدمي، وهو غير المذكى.
وقول: بالتفصيل بين حرمة الأكل، فموضوعها الامر العدمي والنجاسة،
فموضوعها الامر الوجودي. وهو المنسوب إلى الشهيد، ولذا حكم بحرمة أكل
الحيوان المتولد من حيوانين أحدهما محلل الأكل والاخر محرمه ولم يلحق أحدهما
بالاسم، وطهارته. فإذا كان موضوع الحرمة هو الامر الوجودي لم تنفع أصالة
عدم التذكية - على تقدير جريانها - في اثبات الحرمة إلا بناء على الأصل المثبت.
فلا بد من فرض الموضوع غير المذكى كي تترتب الحرمة على أصل عدم التذكية
495

من ترتب الحكم على موضوعه.
وإذا تبين ذلك، فنعود إلى أصل الكلام وهو: انه هل تجري أصالة عدم
التذكية مع الشك في قابلية الحيوان للتذكية أو لا تجري؟.
ذهب صاحب الكفاية إلى جريانها، وحكم بحرمة اللحم، لان الحرمة
تترتب على غير المذكى كما تترتب على الميتة (1).
ولتحقيق الحال فيما ذهب إليه (قدس سره) نقول: ان المحتملات
المذكورة لمعنى التذكية ثلاثة:
الأول: انها عبارة عن المجموع المركب من الأفعال الخاصة - كفري
الأوداج بالحديد والبسملة -، ومن قابلية المحل، فتكون قابلية المحل مأخوذة في
معنى التذكية بنحو الجزئية.
الثاني: انها عبارة عن مجرد الأفعال الخاصة، ولكن بقيد ورودها على
المحل القابل، فالقابلية مأخوذة بنحو الشرطية وخارجة عن مفهوم التذكية.
الثالث: إنها عبارة عن أمر بسيط وحداني يترتب على الأفعال الخاصة،
نظير الطهارة بالنسبة إلى أفعال الوضوء.
ولا يخفى انه بناء على الثالث يصح اجراء أصالة عدم التذكية عند الشك
في تحققها، لأنها أمر حادث مسبوق بالعدم، فيستصحب مع الشك في ارتفاعه
بالوجود سواء في ذلك موارد الشبهة الحكمية والموضوعية.
وأما بناء على الأول، فمع الشك في ثبوت القابلية للحيوان، بشكل
استصحاب عدمها، لأنه ليس لها حالة سابقة، بل الحيوان عند وجوده إما أن يكون
له قابلية أو لا يكون.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 348 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
496

وليس وصف المجموع هو الموضوع له كي يستصحب عدمه مع الشك،
بل الموضوع له هو ذوات الاجزاء، والتعبير بالمجموع طريقي.
وهكذا الحال بناء على الثاني.
وقد يلتزم بناء على هذين الوجهين بجريان أصالة عدم القابلية بنحو
استصحاب العدم الأزلي.
ولكن جريانه يتوقف على مقدمتين:
الأولى: كون موضوع الحرمة هو الحيوان مع عدم التذكية، على أن يؤخذ
عدم التذكية بنحو التركيب المعبر عنه بالعدم المحمولي، لا التوصيف المعبر عنه
بالعدم النعتي، إذ قد تقدم أن أساس استصحاب العدم الأزلي هو أن
يرد عام ثم يرد خاص فيخصص العام، ويستلزم ذلك تعنون العام بعنوان عدم
الخاص بنحو التركيب، فيكون موضوع الحكم مركبا من العام وعدم الخاص،
فإذا أحرز العام بأحراز عدم الخاص بالأصل ثبت الحكم، أما إذا أخذ بنحو
التوصيف وكان الموضوع هو العام المتصف بعدم الخصوصية، فاستصحاب العدم
الأزلي لا ينفع في اثبات الحكم إلا بناء على الأصل المثبت.
الثانية: ان يلتزم في محله يجريان الأصل الأزلي مطلقا، بلا تفصيل بين ما
كان الوصف في مرتبة نفس الذات فلا محرز فيه، وما كان في مرتبة الوجود ومن
عوارض الوجود فيجرى فيه، إذ مع الالتزام بهذا التفصيل - وهو الذي نختاره
بناء على عدم انكار استصحاب العدم الأزلي رأسا كما قربناه - لا مجال لجريان
أصالة عدم القابلية، لأنها عن الأوصاف الذاتية وفي مرتبة نفس الذات. فأصالة
عدم القابلية بنحو استصحاب العدم الأزلي انما تجري بعد فرض هاتين
المقدمتين. وكلاهما محل إشكال.
هذا بالنسبة إلى الشبهة الحكمية.
أما بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية، فإنما لا تجري أصالة عدم التذكية
497

فيها - بناء على هذين الوجهين -.
إذا كان الشك من جهة الشك في القابلية، كما إذا تردد أمر اللحم
المطروح بين أن يكون لحم حيوان قابل للتذكية كالغنم، أو لحم حيوان غير قابل
للتذكية كالكلب.
أما إذا كان الشك من جهة تحقق بعض الأفعال الخاصة، فلا اشكال في
جريان الأصل في نفيها، لأنها أمور حادثة والأصل عدم الحادث.
ثم إنه ينبغي ايقاع الكلام في أن معنى التذكية أي هذه المعاني الثلاثة،
وهل هي اسم للسبب أو للمسبب؟. فنقول:
أما المحتمل الأول، وهو كونها اسم للمجموع المركب من الأفعال
الخاصة والقابلية، بحيث تكون القابلية جزء المعنى، فلا يمكن الالتزام به
لوضوح ان التذكية من المعاني الحدثية القابلة للاشتقاق، فيشتق منها الفعل
والفاعل والمفعول وغير ذلك من انحاء الاشتقاقات، وهذا لا يتلاءم مع وضعها
للمجموع المركب، لان القابلية ليست من المعاني الحدثية، بل هي من الجوامد
غير القابلة للاشتقاق كما لا يخفى.
وأما المعنى الثاني وهو كونها اسما للأفعال الخاصة في المورد القابل، فلا
يرد عليه ما ذكر، إذ الموضوع له هو الحصة الخاصة من الأفعال وهي معنى
حدثي، نظير وضع البيع لتمليك عين ما، مع أن العين ليست من المعاني الحدثية.
لكن يرد عليه انه لا يتلاءم مع بعض استعمالات لفظ التذكية في النصوص، وذلك
كاستعمالها بإضافتها ونسبتها إلى المورد المعلوم القابلية كالغنم، فيقال: " ذكاه
الذابح "، وفي مثله لا يمكن ان يراد منه المعنى المزبور، إذ معناها هو الذبح في
المورد القابل، ولا معنى لان يراد: " اذبح في المورد القابل الغنم "،، لان معنى:
" ذلك الغنم " هو ذلك على هذا الوجه. وهو مما لا محصل له.
وأما المعنى الثالث وهو كونه امرا بسيطا مترتبا على الأفعال الخاصة. فقد
498

نفاه المحقق النائيني (1) بأنه خلاف ظاهر نسبة التذكية إلى الفاعلين في قوله
تعالى: (إلا ما ذكيتم) (2).
وما افاده يبتني على دعوى ظهور اسناد الفعل في المباشرة خاصة لا
الأعم من المباشرة والتسبيب.
والعمدة في نفي المعنى الثالث هو: ان الامر البسيط المفروض ترتبه على
هذه الأفعال الخاصة إما أن يكون امرا واقعيا تكوينيا أو يكون أمرا اعتباريا
مجعولا.
أما الأول: فممنوع للجزم بعدم وجود اثر واقعي يختلف الحال فيه وجودا
وعدما بقول بسم الله وعدمه، بحيث يكون قول بسم الله تأثير واقعي فيه.
وأما الثاني: فهو يقتضي فرض حكم وضعي متوسط بين الأفعال الخاصة
والحكم الوضعي بالطهارة والتكليفي بالحلية، وهو مما لا داعي إليه ولا نرى له
اثرا مصححا فيكون لغوا.
وإذا ثبت عدم صحة الالتزام بكل هذه المعاني، فقد يلتزم بان التذكية
عبارة عن نفس الأفعال الخاصة بلا أن يكون لقابلية المحل دخل في المسمى لا
بنحو الجزئية ولا الشرطية. نعم هي شرطه في تأثير الأفعال في ترتب حكم الحلية
أو الطهارة. والى ذلك ذهب المحقق النائيني (3).
والتحقيق: ان التذكية بمفهومها العرفي عبارة عما يساوق النزاهة
والنظافة والطهارة، ويمكننا ان نقول إن المراد بها في موارد الاستعمالات الشرعية
من النصوص والكتاب هو المعنى العرفي لها فتكون التذكية هي الطهارة، لا أنها موضوع للحكم بالطهارة.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 380 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) سورة المائدة، الآية: 3.
(3) الكاظمي الشيخ محمد علي. كفاية الأصول 3 / 382 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
499

والوجه في ذلك:
أولا: انه لا وجه لصرف اللفظ عما له من المعنى العرفي إلى معنى جديد
مستحدث، فإنه مما يحتاج إلى قرينة ودليل وهو مفقود في المقام.
وثانيا: انه لم نعثر - بعد الفحص في النصوص - على مورد رتب
الحكم بالطهارة فيه على التذكية، بحيث يظهر منه أن التذكية غير الطهارة. فهذا
مما يشهد بان المراد بالتذكية هو الطهارة. وتكون الأفعال الخاصة دخيلة في تحقق
الطهارة بعد الموت، أو فقل دخيلة في بقاء الطهارة إلى ما بعد الموت، لان الحكم
ببقاء الطهارة بيد الشارع وقد رتبه على الأفعال الخاصة.
وعلى هذا، فلو شك في قابلية الحيوان للتذكية فهو شك في طهارته بعد
الموت بالأفعال الخاصة، ومقتضى الاستصحاب بقاء الطهارة، فيكون الأصل
متكفلا لاثبات التذكية لا لنفيها.
وبالجملة: الكلام السابق كله يبتني على فرض التذكية أمرا غير الطهارة
والحلية، ولذا جعلت موضوعا لهما، مع أن الواقع خلافه، إذ لم يرد ما يظهر منه
ترتيب الطهارة على التذكية بحيث يفرض لها أثران، فالتذكية بحسب ما نراه
هي الطهارة لا غير، فيصح لنا ان نقول انها اسم للمسبب لا للسبب، وهو
الأفعال الخاصة، وإن أطلق عليها في بعض الأحيان لفظ التذكية، لكنه كاطلاق
لفظ التطهير على الغسل، من باب اطلاق لفظ المسبب على السبب وهو كثير
عرفا.
نعم يبقى سؤال وهو: ان هذه الأفعال الخاصة يترتب عليها في بعض
الحيوانات الحلية والطهارة كالغنم، وفي بعض آخر الطهارة فقط كالسباع، وفي
بعض ثالث يترتب عليها الحلية دون الطهارة كالسمك، فإنه طاهر مطلقا ولو
بعد الموت، وانما يترتب على الأفعال الخاصة فيه الحلية، وأما طهارته فهي ثابتة
أجريت الأفعال الخاصة أو لا، مع أنه قد عبر عن اخراجه من الماء حيا بالذكاة،
500

فإنه يكشف عن أن التذكية غير الطهارة، إذ هي متحققة ولو لم يتحقق اخراجه
حيا من الماء.
والجواب: بأنه بعد ورود التعبير بالذكاة عن الطهارة كما ورد في مطهرية
الشمس (1)، وورود النص في خصوص السمك بان الله سبحانه قد ذكاه (2)، أو
أنه ذكي (3)، يسهل الحال في التعبير بالذكاة عن اخراجه حيا.
وذلك لان حلية الأكل في سائر الحيوانات تترتب على طهارته المرادة من
التذكية. أما السمك فلا تترتب الحلية فيه على الطهارة، لأنه طاهر ولو كان ميتة،
وإنما تترتب الحلية فيه على أمر آخر وهو اخراجه من الماء حيا - مثلا -.
وعليه، نقول: بعد فرض التعبير عن الطهارة بالتذكية في خصوص
السمك وفي غيره، وبعد فرض أن أثر الطهارة في غير مورد السمك هو حلية
الأكل لم يكن خلاف المتعارف أن يعبر عن موضوع الحلية في السمك بالتذكية
من باب التنزيل والحكومة، بل هو من المتداول عرفا، فإذا كان من المتعارف أن
تكون الأجرة على عمل ما دينارا، فإذا لم يرد الأجير ان يأخذ الدينار وانما أراد
شيئا آخر، فقد يقول: أجرتي ان تكون أخلاقك حسنة - مثلا -، أو غير ذلك.
وعليه، فالتعبير بالتذكية عن اخراج السمك من الماء حيا تعبير من باب
التنزيل والحكومة. وهو مما لا مانع منه عرفا، ويحمل عليه الكلام قهرا للمناسبة
المزبورة. فلاحظ.
وبالجملة: لا نرى ما يصرف لفظ التذكية عن معناه العرفي، فلا محيص
عن الالتزام بان المراد بها هو الطهارة وانها ليست شيئا آخر غير الطهارة كما
عليه القوم.

(1) وسائل الشيعة: باب 29 من أبواب النجاسات.
(2) مجمع البحرين: مادة ذكا.
(3) وسائل الشيعة: 26 / 360 باب 31.
501

وأما قابلية المحل: فهي مما لا محصل له بحسب مقام الاثبات، فان
الالتزام بوجود أمر غير الأفعال الخاصة وغير خصوصية الحيوان من كونه غنما
أو غيره يعبر عنه بقابلية المحل، بحيث يكون محلا للنفي والاثبات، مما لا وجه
له أصلا ولا موهم له من نص وغيره. فما الفرق بين اللحوم وبين سائر
موضوعات التحريم أو الحلية المأخوذ فيها قيود خاصة، فلم لا يلتزم بمثل ذلك
في مثل العنب إذا غلى الذي تترتب عليه الحرمة ونحوه فليس لدينا سوى
الذات الخاصة التي يترتب عليها الحكم التكليفي من حلية وحرمة بقيود خاصة
معلومة من فري الأوداج وذكر الله تعالى والاستقبال. وبتعبير آخر الذي يلتزم
به هو ان الموضوع للحلية وهو الذات مع أفعال خاصة من الذبح أو النحر أو
الفري أو الاخراج من الماء حيا بقيود خاصة. أما قابلية المحل فهو، أمر وهمي
لا دليل عليه ولا موهم له ولو ظنا، ففرض ثبوت وصف القابلية وايقاع البحث
في نفيه واثباته بالأصل العملي، والكلام في صحة اجراء الأصل فيه، أمر لا نعرف
وجهه ومدركه.
والى ما ذكرنا أشار المحقق الأصفهاني، ولكنه ببيان يختلف عن البيان
الذي ذكرناه، فلاحظ وتدبر (1).
وعلى اي حال، فقد عرفت المقصود بالتذكية وتحقيق حالها.
وبعد ذلك يقع الكلام - بناء على مسلك القوم من ترتيب أثرين على
التذكية - كما إذا اخذت التذكية بمعنى الأفعال الخاصة من الذبح أو النحر -
هما الحلية والطهارة، وأثرين على عدمها وهما الحرمة والنجاسة - في: أن موضوع
الحرمة والنجاسة وموضوع الحلية والطهارة هل هو أمر وجودي أو أمر عدمي أو
التفكيك بين الحرمة والنجاسة، فيلتزم بترتب النجاسة على عنوان وجودي فقط

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 211 - الطبعة الأولى.
502

وترتب الحرمة على عنوان عدمي.
ثم بناء على أنه أمر عدمي، فأخذه يتصور على وجوه، من كونه بمفاد ليس
التامة، أو بمفاد ليس الناقصة، أو بنحو عدم الملكة. وقد عرفت الأثر العملي
لهذا البحث.
وعلى كل، فأساس الحديث في أن موضوع النجاسة والحرمة هل واحد أو
أنه متعدد، فموضوع النجاسة أمر وجودي وموضوع الحرمة أمر عدمي؟.
قد يلتزم بأن موضوع النجاسة أمر وجودي، وهو عنوان الميتة فإنه عنوان
لما مات حتف أنفه لا كل ميت، ولذا عطف عليه في الآية الشريفة الموقوذة
والمتردية وغيرهما (1)، وبما أنه لا يمكن الالتزام بأن موضوع النجاسة خصوص
ما مات حتف أنفه، يلتزم بأنه الميتة عبارة عن كل ما مات بغير سبب مصحح.
فان الميتة بلحاظ هيئتها الخاصة لا تساوق مطلق الميت، وإنما تساوق
الميت المشوب بالاستقذار العرفي والاشمئزاز النفسي، وهو كل ما مات بغير
سبب يصح أكله ويرفع جهة الاستقذار فيه، على اختلاف مصاديق ذلك بلحاظ
اختلاف الشرائع والعادات فيه.
وبالجملة: الذي يلتزم به القائل هو أن موضوع النجاسة هو الميتة، وهي
تعبر عن أمر وجودي وهو زهاق الروح بغير سبب مصحح. ولم يرد في النص
أخذ غير المذكى أو نحوه من العناوين العدمية في موضوع النجاسة، بل هي
محمولة في النصوص على عنوان الميتة.
ويمكن المناقشة فيه:
أولا: بان النجاسة لم تحمل في النصوص على خصوص عنوان الميتة، بل
كما حملت على عنوان الميتة حملت أيضا على عنوان الميت وعنوان ما مات

(1) سورة المائدة، الآية: 3.
503

ونحوهما. ومن الواضح انه عنوان مطلق يشمل كل غير ذي روح، سواء كان
زهاق روحه لنفسه أو بسبب مصحح أو غير مصحح، ومقتضاه نجاسة المذكى
كغير المذكى، لكن قيام الدليل على تخصيصه بالمذكى واخراجه عنه يستلزم تقييد
موضوع الحكم بغير موارد التذكية، ولازم ذلك أخذ عدم التذكية في موضوع
النجاسة.
وثانيا: ان مفهوم قوله (عليه لاسلام) في النص: " إذا سميت ورميت
فانتفع به " (1) هو حرمة الانتفاع - لاجل النجاسة، لأنه ظاهر محور السؤال - مع
عدم التسمية أو الرمي، وهو ظاهر في تعليق النجاسة على أمر عدمي رأسا، فلو
لم نلتزم بان موضوع النجاسة مطلق الميت، بل خصوص الميتة بالمعنى المزبور،
كفانا في اثبات اخذ الامر العدمي في موضوع النجاسة مفهوم النص المزبور.
وعليه، فيثبت لدينا انه قد اخذ في موضوع النجاسة جهة عدمية، كعدم
الذبح أو الرمي أو التسمية، أو غير ذلك من شرائط التذكية.
وأما الحرمة، فقد رتبت على أمر وجودي كالميتة، كما رتبت على أمر عدمي
كما لم يذكر أسم الله عليه.
فلا فرق بين النجاسة والحرمة في الموضوع، بل هما مترتبان على أمر
وجودي في بعض الأدلة وعلى أمر عدمي في بعض آخر.
هذا، ولكن نقول إنه بناء على أن الميتة عنوان وجودي، وهو ما زهقت
روحه بغير سبب مصحح، وعدم رجوعه إلى امر عدمي، وهو غير المذكى، كي
يكون الموضوع في الحكمين خصوص الامر العدمي، بناء على ذلك المستلزم
لتعدد موضوع الحرمة والنجاسة في لسان الدليل، وبعد فرض ملازمة العنوان
الوجودي مع العنوان العدمي، لا بد من رفع اليد عن موضوعية أحد هذين

(1) وسائل الشيعة: 16 / 278 - الحديث 7 مضمونا.
504

الموضوعين، إذ من المعلوم أنه ليس لدينا إلا حرمة ونجاسة واحدة، وليس لدينا
حرمتان إحداهما موضوعها الميتة والأخرى موضوعها غير المذكى، ففي مثل
هذه الحال لا يرى العرف الا كون الموضوع الواقعي واحدا، وان التعبير بالاخر
لاجل ملازمته لموضوع الواقعي.
وعليه، فهل يرى في مثل ذلك أن الأصالة للامر الوجودي ويكون الامر
العدمي تابعا، أو لا؟.
ولا يخفى انه لو لم نجزم بان العرف يقضي في مثل هذه الموارد بان
الموضوع هو الامر الوجودي، كفانا التشكيك فيه في نفي ترتب الأثر المطلوب،
إذ على هذا لا يمكننا اثبات الحرمة ولا النجاسة بأصالة عدم التذكية - في مورد
تجري في نفسها - إذ لا يعلم ان الحرمة والنجاسة من آثار عدم التذكية كي
تترتبان على الأصل المزبور، بل يحتمل أن يكون الأصل من الأصول المثبتة،
باعتبار ان موضوع الحرمة والنجاسة أمر وجودي لا يثبت بالأصل المزبور إلا
بالملازمة.
ثم إنه لو ثبت أن الجهة العدمية دخيلة في موضوع الحرمة والنجاسة،
فذلك يتصور على وجوه لان المقسم الذي يلحظ بالنسبة إلى المذكى وغيره..
إما أن يكون ذات الحيوان، فيكون الحيوان المذكى حلالا والحيوان غير
المذكى حراما.
وأما أن يكون المقسم ما زهقت روحه لا ذات الحيوان، وهو يتصور على
وجهين:
أحدهما: أن يكون قيدا للموضوع ويكون الشرط هو التذكية وعدمها،
فمثلا يكون موضوع الحلية هو ما زهقت روحه إن كان مستندا إلى التذكية،
وموضوع الحرمة ما زهقت روحه إن لم يكن بسبب التذكية.
والآخر: ان يؤخذ في الشرط بأن يكون موضوع الحلية هو الحيوان ان
505

زهقت روحه بالتذكية، وموضوع الحرمة هو الحيوان ان زهقت روحه بغير التذكية.
فالوجوه المتصورة ثبوتا ثلاثة.
والثمرة الظاهرة في اختلاف الوجوه، هو انه على فرض أخذ المقسم هو
الحيوان وكان الشرط هو التذكية وعدمها، فالحرمة مترتبة على الحيوان إن لم يذك
كما إذا لم يذبح. فمع الشك في تحقق الذبح أو غيره من الشرائط صح جريان
أصالة عدم تحقق التذكية في الحيوان، لأنها مسبوقة بالعدم، وترتب على ذلك
ثبوت الحرمة.
وأما على فرض اخذ زهاق الروح في المقسم، فان أخذ في الشرط فالحال
كذلك أيضا للشك في تحقق ازهاق الروح الخاص، فيستصحب عدمه.
وأما إذا أخذ في الموضوع، فلا مجال لجريان الأصل، إذ المشكوك هو
استناد زهاق الروح للتذكية، وهو مما لا حالة سابقة له كما لا يخفى، فلا يجري
أصل عدم التذكية.
وإذا عرفت أثر هذه الوجوه فيقع الكلام في اختيار أحدها بلحاظ مقام
الاثبات.
والتحقيق هو ان زهاق الروح المسبب عن الأفعال الخاصة دخيل قطعا
في ثبوت الحكم. أما أصل الموت فلانه من المعلوم من النص عدم حلية اللحم
بمجرد ورود الذبح عليه قبل موته، بل انما يحل إذا مات. واما اعتبار استناد
الموت إلى الذبح ونحوه، فان قوله (عليه السلام): " ان سميت ورميت فانتفع
به " وان كان مطلقا من هذه الجهة، إلا أنه من المعلوم بالضرورة الفقهية انه يعتبر
استناد الموت إلى الفعل الخاص من الرمي والذبح ونحوهما، بحيث إذا استند
إلى غيرها - كما لو خنقه بعد الذبح - لم ينفع في ثبوت الحلية ولو تحققت هذه
الأفعال. اذن فيندفع الاحتمال الأول.
ويدور الامر بين الاحتمالين الآخرين فلو لم نقل بظهور اخذ زهاق
506

الروح في الموضوع وكون الشرط مجرد استناده إلى الذبح وعدمه، فلا أقل من
التشكيك فيه، وهو يكفينا في منع جريان أصالة عدم التذكية كما لا يخفى.
والذي ينتج مما ذكرناه بمجموعه: أنه لا مجال لأصالة عدم التذكية في
حال من الأحوال.
أما في الشبهة الحكمية، فلان الشك لا يكون إلا في الحكم الشرعي من
الحلية والطهارة، ولا يتصور الشك في موضوعه، لأنه إذا فرضنا ان حيوانا معلوم
الاسم وأجرينا عليه الذبح بشرائطه المعتبرة، وشككنا في حلية أكل لحمه، فلا
شك لدينا في الموضوع للعلم بخصوصية الحيوان وباجراء التذكية عليه، فإذا كان
هناك شك فهو شك في جعل الحلية له. ومن الواضح أنه مجرى أصالة الحل، كما أنه
مجرى لاستصحاب الطهارة قبل الموت فلا شك في الموضوع كي يجري فيه
الأصل الحاكم على أصالة الحل.
نعم بناء على أخذ القابلية والشك فيها، أو كون التذكية معنى اعتباريا
مسببا عن الأفعال الخاصة وموضوعا للطهارة والحلية وتحقق الشك فيها، كان
للأصل الموضوعي مجال.
ولكن عرفت أن حديث القابلية لا أساس له، وان فرض التذكية أمرا
اعتباريا مسببا عن الأفعال الخاصة، ويكون موضوعا للطهارة والحلية مما لا
دليل عليه بتاتا، بل لم يرد في النصوص اخذ التذكية في موضوع الطهارة أصلا.
وعلى كل، فيتمحص الشك في موارد الشبهة الحكمية بالشك في الحكم
الشرعي ولا شك في الموضوع أصلا.
وأما في الشبهة الموضوعية، فالشك في الموضوع قد يتحقق كما إذا شك
في تحقق الذبح أو التسمية أو الاستقبال أو غيرها من شرائط الحلية.
إلا أنه لا ينفع استصحاب عدمه في ترتيب الحرمة والحكومة على أصالة
الحل، لاحتمال كون الموضوع للحرمة أمرا وجوديا لا يثبت بالأصل إلا بالملازمة،
507

من باب ان نفي أحد الضدين يلازم ثبوت الضد الآخر.
وعلى تقدير أنه عدمي، فقد عرفت أن موضوع الحلية ليس هو الحيوان
مع ورد الأفعال الخاصة كالذبح عليه، بل هو الحيوان الميت مع استناد الموت
إلى الذبح، ومقتض ذلك أن يكون موضوع الحرمة هو الميت، بلا استناد الموت
إلى السبب الشرعي، وهذا ثبوت يتصور على وجوه ثلاثة:
الأول: أن يكون الموضوع امرا وجوديا كما إذا كانت الحرمة مرتبة على
الميت المستند موته إلى سبب غير السبب الشرعي.
الثاني: أن يكون امرا عدميا مأخوذا بنحو العدم النعتي، كما إذا كانت
الحرمة مرتبة على الميت الذي لم يمت بسبب شرعي.
الثالث: أن يكون الموضوع عدميا مأخوذا بنحو العدم المحمولي وبنحو
التركيب، بان يكون المجموع المركب من الموت وعدم الذبح الشرعي موضوعا
للحرمة.
ولا يخفى أن أصالة عدم الذبح الشرعي لا ينفع بناء على الأول، إذ
الموضوع للحرمة جهة وجودية ملازمة لذلك لا
كما لا ينفع على الثاني، إذ ليس للموت حالة سابقة كي يستصحب
اتصافه بعدم استناده إلى السبب الشرعي، إذ هو حين تحقق لا يخلو إما أن يكون
مستندا إلى سبب شرعي أو غير مستند.
نعم، ينفع الأصل من باب استصحاب العدم الأزلي بناء على الثالث
لاحراز أحد الجزئين بالوجدان وهو الموت والآخر بالأصل وهو عدم تحقق الذبح
الشرعي.
هذا بملاحظة مقام الثبوت.
أما بملاحظة مقام الاثبات، فمع التنزل عن كون الموضوع امرا وجوديا
والالتزام بأنه أمر عدمي، فظاهر الدليل الدال على اخذ القيد العدمي أنه مأخوذ
508

بنحو التوصيف والعدم النعتي كقوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله
عليه) (1).
ولو تنزل عن ذلك فلا أقل من التشكيك وعدم ثبوت أحد النحوين، وهو
كاف في عدم جريان الأصل.
ودعوى: انه مع الشك ودوران الامر بين اخذ العدم بنحو العدم النعتي
وأخذه بنحو العدم المحمولي، فالأصل يعين الثاني.
مندفعة: بان المقصود بالأصل إما الأصل اللفظي وهو الاطلاق. وإما
الأصل العملي.
أما الاطلاق بلحاظ ان أخذ خصوصية الاتصاف مؤونة زائدة. ففيه: انه
لا ينفي اخذ الاتصاف في موضوع الحكم. وذلك لأنه بعد أن علم بدخالة الوصف
مع الذات في ثبوت الحكم. ومن الواضح أيضا انه مع تحقق الوصف واقعا يتحقق
الاتصاف قهرا ولا يمكن تخلفه عنه، فلا معنى للاطلاق حينئذ، إذ مفاد الاطلاق
هو ثبوت الحكم في مورد وجود الخصوصية المشكوكة ومورد عدمها، وتسرية الحكم
لكلتا الحالتين، وهذا مما يعلم بعدمه ههنا، للعلم بان الحكم لا يثبت إلا في مورد
تحقق الاتصاف - وان شك في دخالته - لأنه صفة لازمة للوصف المفروض كونه
دخيلا، فلا معنى للتمسك بالاطلاق لنفي دخالة الاتصاف، كما هو الحال في
مطلق الصفات اللازمة لموضوع الحكم، فإنه يمتنع التمسك بالاطلاق لنفي
دخالتها في الموضوع.
وأما الأصل العملي، فان أريد به التمسك بالبراءة في نفي دخالة
خصوصية الاتصاف، لأنها مجهولة. ففيه: ان البراءة لا تجري في تحديد الموضوع.
وانما تجري في متعلقات الاحكام. وان أريد به التمسك باستصحاب عدم ملاحظة

(1) سورة الأنعام، الآية: 121.
509

خصوصية الاتصاف. فهو معارض باستصحاب عدم ملاحظة الوصف مع الذات
بنحو التركيب، لأنها ملاحظة حادثة والأصل عدمها.
وعليه، فلا طريق لدينا لاثبات أحد النحوين، وهو يستلزم التوقف في
اجراء أصالة عدم التذكية.
وبذلك تعرف ان أصالة عدم التذكية مما لا أساس له.
نعم، ورد في النصوص (1) ما يدل على أن حلية الأكل مترتبة على اليقين
والعلم بالتذكية، وانه مع الجهل لا يحل اللحم، وبذلك لا مجال لاجراء أصالة
الحل في اللحم المشتبه بالشبهة الموضوعية، وإن تجر أصالة عدم التذكية.
إلا أن الذي تتكفله النصوص نفي الحلية مع الجهل لا نفي الطهارة، فلا
مانع من التمسك بأصالة الطهارة في اللحم المشتبه وإن حرم أكله لاجل النص.
فلاحظ وتدبر جيدا.
هذا تمام الكلام في تحقق الحال في أصالة عدم التذكية.
يبقى الكلام فيما أفاده صاحب الكفاية في صور الشبهة الحكمية. فقد
ذكر (قدس سره): ان الشبهة تارة تكون حكمية. وأخرى موضوعية.
أما الشبهة الحكمية، فصور الشك فيها ثلاث:
الأولى: ان يشك في حلية اللحم لاجل الشك في قابليته للتذكية، وقد
أجرى فيها أصالة عدم التذكية الراجع إلى أصالة عدم القابلية الحاكم على
أصالة الحل في اللحم.
الثانية: ان يشك في حلية اللحم مع علمه بقبوله للتذكية، وقد اجرى ههنا
أصالة الإباحة كسائر ما شك في حليته وحرمته لعدم أصل موضوعي حاكم على
أصالة الحل.

(1) وسائل الشيعة 16 / 323 - باب 13.
510

الثالثة: ان يشك في حلية اللحم للشك في زوال قابليته للتذكية بعروض
عارض كالجلل إذا شك في مانعيته للتذكية، وقد فرض هذه الصورة مما يوجد
أصل موضوعي حاكم على أصالة عدم التذكية.
ثم اجرى استصحاب حلية الحيوان بالفري شرائطه الثابتة قبل الجلل
فيما بعد الجلل. وهو استصحاب للحكم التعليقي بهذا التصوير كما لا يخفى.
وبعد ان ذكر هذه الصور للشبهة الحكمية، عطف عليها الشبهة
الموضوعية، وان الشك فيها تارة: يكون لاجل الشك في تحقق ما يعتبر في التذكية
شرعا، كالشك في تحقق التسمية، فأصالة عدم التذكية محكمة. وأخرى: يكون
لاجل الشك في طروء ما يعلم مانعيته للتذكية كالشك في تحقق الجلل على تقدير
مانعيته، فأصالة قبوله للتذكية محكمة. هذا ما افاده (قدس سره) (1).
وقد عرفت الكلام في الصورة الأولى من صور الشبهة الحكمية وصورتي
الشبهة الموضوعية.
أما الصورة الثانية من صور الشبهة الحكمية...
فقد أورد عليه المحقق الأصفهاني بان الخصوصية المفروضة في الحيوان
تختلف بحسب الأثر. فتارة: يترتب عليها الطهارة والحلية كما في الغنم. وأخرى:
يترتب عليها الطهارة فقط دون الحلية كما في السباع. وثالثة: يترتب عليها الحلية
دون الطهارة كما في السمك، فان ميتته طاهرة، فلا ترتبط الطهارة بتذكيته، وهذا
مما يكشف ان الخصوصية المؤثرة في الطهارة غير الخصوصية المؤثرة في الحلية.
وعليه، فالشك في الحلية ينشأ من الشك في ثبوت الخصوصية المؤثرة فيها،
وان علم بثبوت الخصوصية المؤثرة في الطهارة، ومعه لا مجال لأصالة الحل، بل
تجري أصالة عدم تلك الخصوصية الحاكمة على أصالة الحل كالصورة الأولى.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 348 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
511

هذا بناء على مسلك صاحب الكفاية من فرض خصوصية وراء الأفعال الخاصة
وذات الحيوان، يصطلح عليها بقابلية التذكية.
وهكذا الحال بناء على مسلكنا - الضمير يرجع إلى المحقق الأصفهاني -
من انكار فرض القابلية والالتزام بأن التذكية عبارة عن أمر اعتباري بسيط
يترتب على الأفعال الخاصة، وأثره الطهارة والحلية أو أحدهما، لأنه يشك في تحققه
في هذا المقام فيجري الأصل في نفيه. إذن فأصالة عدم التذكية هو المحكم في هذه الصورة (1).
وأما الصورة الثالثة: فيرد عليه:
أولا: ان ظاهر كلامه هو اجراء الأصل في الحكم التعليقي مع أنه له مجال
في نفس الموضوع بان يجري في نفس القابلية، لأنها محرزة الثبوت سابقا
فتستصحب، فكما أجرى استصحاب عدم التذكية في الصورة الأولى كان عليه
ان يجري استصحاب التذكية في هذه الصورة. مضافا إلى ما في استصحاب
الحكم التعليقي من كلام طويل بين الاعلام، فقد وقع الكلام في أصل جريانه
وفي معارضته بالاستصحاب التنجيزي دائما. فاختياره للاستصحاب التعليقي في
غير محله.
وثانيا: انه فرض ان المورد من موارد وجود الأصل الموضوعي بالنسبة
إلى أصالة عدم التذكية. فان أراد اجراء أصالة قابلية الحيوان للتذكية، فهو ليس
في موضوع عدم التذكية، بل هو الطرف النقيض لعدم التذكية، والأصل الجاري
في الوجود لا يكون أصلا موضوعيا بالنسبة إلى الأصل الجاري في العدم. وإن
أراد اجراء الاستصحاب التعليقي، فهو لا يكون أصلا موضوعيا، بل هو أصل
حكمي كما لا يخفى.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 213 - الطبعة الأولى.
512

ومن هنا يعرف الحال في نظير هذه الصورة من الشبهة الموضوعية. فتدبر.
التنبيه الثاني: في الاحتياط في العبادات.
ذكر صاحب الكفاية: انه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في
الشبهة الوجوبية أو التحريمية في العبادات وغيرها، كما لا ينبغي الارتياب في
استحقاق الثواب فيما إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الامر أو النهي (1).
أقول: للتوقف في ترتب استحقاق الثواب عقلا على الاحتياط بما هو،
ومع قطع النظر عن استحبابه شرعا، مجال واسع. فما أفاده (قدس سره) من عدم
الارتياب فيه وارساله إرسال المسلمات مستدرك.
والوجه فيه بنحو الاجمال: ان الاحتياط إنما يكشف عن وجود صفة
حسنة كامنة في نفس المحتاط، وهي صفة الانقياد، وهي لا تستلزم سوى الحسن
الفاعلي لا الفعلي، وهو لا يستلزم الثواب.
هذا، مع أن مجرد الآيتان بالفعل الحسن لا يستلزم استحقاق الثواب ما
لم يربطه بالمولى.
وإذا أردت استيضاح الامر، فراجع ما بيناه في مبحث التعبدي
والتوصلي (2).
والامر في هذا سهل ولننقل الكلام إلى البحث عن إمكان الاحتياط في
العبادات.
فقد ادعي عدم امكانه فيما لو دار الامر بين الوجوب وغير الاستحباب
- إذ لو دار بينه وبين الاستحباب يكون الامر معلوما فلا إشكال -. ببيان: ان
العبادة يعتبر فيها قصد القربة، وهو يتوقف على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 349 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) راجع ج 1 / 479 من هذا الكتاب.
513

إجمالا وبتقرير آخر: ان الاحتياط عبارة عن الاتيان بالعمل المحتمل تعلق
الامر به بسائر ما يعتبر فيه جزءا أو شرطا، بحيث لا يفقد المأتي به سوى الجزم
بأنه مأمور به.
ومن الواضح انه يعتبر في العبادة قصد القربة بمعنى قصد امتثال الامر.
ومع الجهل بتعلق الامر بالعمل لا يعلم بكون العمل مقربا، فهو لا يعلم باتيانه
بالعمل المأمور به احتمالا، فلا يعد ذلك احتياطا.
أقول: هذا الاشكال يتوجه على بعض المباني في تحقق العبادية.
أما على غيره، فاما أن لا يتصور له وجه معقول، أو يتصور له وجه معقول
لكنه مردود.
توضيح ذلك: أنه..
تارة: يلتزم باعتبار الجزم بالنية في العبادة، بحيث لا تتحقق العبادية
بدونها.
وأخرى: لا يلتزم بذلك. وعليه..
فتارة: يلتزم بان الاتيان بالفعل بداعي احتمال الامر يكون موجبا لكونه
مقربا، ولو لم يكن مصادفا للواقع، بل له موضوعية في تحقق التقرب بالعمل.
وأخرى: لا يلتزم بذلك، بل يلتزم بأنه يكون مقربا إذا صادف الواقع.
فبناء على الأول - وهو اعتبار الجزم بالنية في العبادية -، يتوجه الاشكال،
إذ مع التردد في تعلق الامر لا يمكن الجزم، فيختل أحد شروط العمل العبادي
فلا يتحقق الاحتياط.
وأما بناء عل الثاني، فلا يرد اشكال أصلا، إذ الاتيان بالفعل بداعي
احتمال الامر يعلم معه الاتيان بكل ما يعتبر في العبادة جزء وشرطا، للعلم باتيان
الفعل المقرب فعلا لا تقديرا، فلا يتصور فيه الاشكال بكلا تقريريه.
نعم، على الثالث قد يتوجه الايراد السابق من انه يعتبر في الاحتياط
514

العلم باتيان جميع ما يعتبر في العمل، وهو غير حاصل مع الجهل بتعلق الأمر.
ولكن يندفع: بأنه لا دليل على ما ذكر، بل الاحتياط لا يعتبر فيه سوى
الاتيان بما يحصل به الامن، وما يتحقق به ادراك الواقع لو كان مأمورا به.
وهذا يتحقق بالاتيان بالعمل رجاء وبداعي احتمال الامر، لتحقق قصد
القربة لو كان الامر ثابتا.
إذن فلا يصح اشكال بناء على الوجهين الأخيرين، وإنما يرد الاشكال
بناء على الوجه الأول وهو اعتبار الجزم بالنية، ولكنه فاسد كما حقق في محله
خصوصا مع عدم التمكن من العلم بالأمر.
فيصح لنا أن نلتزم بصحة الاحتياط في العبادات.
هذا، وقد تصدى البعض إلى اثبات تعلق الامر بالعبادة المأتي بها بعنوان
الاحتياط بحيث يتحقق الجزم بالنية، وذلك بطريقين:
أحدهما: ان حسن الاحتياط عقلا يستلزم تعلق الامر به شرعا، لقاعدة
الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، فيثبت الامر به بنحو اللم.
والاخر: ان ترتب الثواب على الاحتياط يكشف - بنحو الآن - عن تعلق
الامر به، لان ثبوت الثواب معلول ثبوت الامر.
وقد ناقشهما في الكفاية بوجهين:
الأول: ان اثبات الامر بالاحتياط لا ينفع في تصحيح الاحتياط، لان
الامر يتوقف على ثبوت الاحتياط توقف العارض على المعروض، فلا يعقل أن يكون
من مبادئ ثبوته وامكان تحققه، فإنه دور.
الثاني: ان حكم العقل بحسن الاحتياط، كما أن ترتب الثواب عليه لا
يستلزم تعلق الامر به، بل يكون حاله في ذلك حال الإطاعة الحقيقية، فان
الاحتياط نحو من الطاعة. ومن الواضح عدم تعلق الامر بالإطاعة مع حسنها
515

عقلا وترتب الثواب عليها شرعا. فلاحظ (1).
وقد تصدى المحقق الأصفهاني (رحمه الله) إلى الايراد على الوجه الأول
من هذين الوجهين بوجه مفصل يرجع - بعد تقسيمه العوارض إلى عارض
الوجود، وهو ما يحتاج إلى موضوع موجود كالبياض المحتاج في وجوده إلى
موضوع موجود. والى عارض الماهية، وهو ما لم يكن كذلك، بل كان ثبوت
المعروض بثبوت عارضه والعروض تحليلي، ومنه عروض الوجود على الماهية،
فإنه من قبيل عارض الماهية، وإلا لاحتاج عروض الوجود عليها إلى وجود
الماهية، فيلزم الدور أو التسلسل - إلى أن نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة عارض
الماهية إلى الماهية، فلا يتوقف على وجود المعروض. فالحكم عارض على ماهية
العمل لا على وجوده.
وهذا الامر تكرر منه (قدس سره)، مع أنه يتنافى مع ما يلتزم به من أن
الماهية بما هي لا يتعلق بها الطلب لخلوها عن المصلحة والملاك، كما أن الوجود
الخارجي لا يتعلق به الطلب لأنه تحصيل الحاصل، وهو مسقط للطلب لا مقوم له.
ولأجل ذلك التزم بان متعلق الطلب هو الوجود الزعمي - بتعبير -
والتقديري - بتعبير آخر - وهو نحو وجود تخلقه النفس (2).
وقد مر إيضاح ذلك في مبحث متعلق الأمر والنهي وانه الطبيعة أو الفرد.
فراجع (3).
وقد تصدى الشيخ الأعظم (رحمه الله) - في رسائله - إلى دفع الاشكال
على جريان الاحتياط في العبادات - بعد أن قوى الاشكال أولا، وإن قيل بان
العبارة سهو من الناسخ -: بان الاحتياط في العبادة هو مجرد الفعل الجامع لجميع

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 350 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 214 - الطبعة الأولى.
(3) راجع ج 2 / 477 من هذا الكتاب.
516

الأجزاء والشرائط عدا نية القربة، وهو مما يعلم باتيانه (1).
وناقشه في الكفاية بوجهين:
الأول: انه لا دليل على حسن الاحتياط بهذا المعنى، لأنه في الحقيقة
ليس باحتياط، فلو دل عليه دليل كان مطلوبا مولويا نفسيا. نعم لو دل دليل
على الامر بالاحتياط في خصوص العبادات ولم يتصور امكانه بمعناه الحقيقي
فيها، التزم بهذا المعنى بدلالة الاقتضاء.
الثاني: ان ما افاده (قدس سره) ليس حلا للاشكال وردا له، بل هو
التزام به واقرار له كما لا يخفى (2).
وبعد ذلك تعرض صاحب الكفاية (قدس سره) إلى حل الاشكال: بان
الاحتياط عبارة عن الاتيان بما احتمل تعلق الوجوب به بتمام أجزائه وشرائطه،
وهذا متحقق في العبادات، إذ الامر يتعلق بذات العمل ولا ينبسط على قصد
القربة، لان اعتباره في الواجب عقلي لا شرعي. إذن فما يحتمل الامر به شرعا
يؤتى به مع الجهل بالأمر. غاية الامر انه لا بد ان يؤتى به بنحو مقرب لو كان
مأمورا به شرعا، وذلك يحصل بالاتيان به بداعي احتمال الامر أو لاحتمال
محبوبيته، فيقع امتثالا للامر على تقدير ثبوته واقعا.
وذكر بعد ذلك: بأنه قد انقدح انه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى
تعلق أمر بها، بل لو فرض تعلقه بها لكانت مستحبا نفسيا كسائر المستحبات
النفسية ولا ربط لذلك بالاحتياط (3).

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 229 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 350 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 351 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
517

" التسامح في أدلة السنن "
ومن هنا ظهر: انه لو قيل بدلالة اخبار من بلغ على استحباب العمل
الذي بلغ عليه الثواب لما كان ينفع ذلك في جريان الاحتياط في تلك الموارد، بل
كان الفعل مستحبا كسائر ما قام الدليل على استحبابه.
وبما أنه قد وردت الإشارة إلى وجود ما يدل على استحباب العمل البالغ
عليه الثواب، ويعبر عنه ب‍ " اخبار من بلغ ". فقد جرت عادة الاعلام على تفصيل
الكلام في ذلك.
وإن كان أجنبيا عن المقام.
ونحن نجري على ما نهج عليه من سبقنا، فنوقع البحث في ذلك، فنقول
- وعلى الله الاتكال ومنه نستمد العصمة والسداد -.
انه قد وردت نصوص متعددة تتضمن ان من بلغه ثواب على عمل أو
شئ من الثواب فعمله كان له ذلك الثواب وإن لم يكن الامر كما بلغه..
فمنها: صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبد الله
(عليه السلام) قال: " من بلغه عن النبي (صلى الله عليه وآله) شئ من الثواب
فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله (صلى الله عيه وآله) لم يقله " (1).
وقد استفاد المشهور منها - على ما قيل - حجية الخبر الضعيف في اثبات
الاستحباب للفعل. كما ذهب البعض إلى أنها تدل على استحباب الفعل الذي
قام على استحبابه خبر ضعيف، وإن لم يكن الخبر حجة.
وهذا الاختلاف الراجع إلى أن المستفاد من النصوص مسألة أصولية أو

(1) وسائل الشيعة 1 / باب: 18 من أبواب مقدمة العبادات.
518

مسألة فقهية، وإن لم يكن عديم الأثر كما ستعرف في بعض تنبيهات المسألة،
لكن لا نوقع البحث فيه، إذ الالتزام بإفادتها مسألة أصولية لا يستند على أساس
وجيه حتى يحرر البحث فيه، فالبحث إنما يقع في أنها هل تدل على استحباب
العمل الذي دل الخبر على استحبابه، أو انها لا تدل على شئ من ذلك، بل
غاية ما تدل عليه هو حسن الانقياد شرعا وترتب الثواب عليه كما هو مذهب
طائفة من الاعلام؟.
وقبل الشروع في بيان جهة الاختلاف ومنشئه وترجيح أحدهما على
الاخر، ينبغي ان ننبه على شئ وهو: أنه لدينا كبرى مسلمة، وهي انه إذا ورد
دليل يتكفل ترتيب الثواب على عمل لا اقتضاء فيه في حد نفسه للثواب، كان
ذلك الدليل كاشفا عن ثبوت الامر وتعلقه بذلك بالعمل، ولذا يقع كثيرا بيان
الامر ببيان ترتب الثواب على العمل.
كما أنه لا يستظهر تعلق الامر بالعمل إذا كان له اقتضاء في نفسه لترتب
الثواب كالانقياد.
وهذه الكبرى غير قابلة للمناقشة. إذا عرفت ذلك فاعرف ان البحث
فيما نحن فيه صغروي، يقع في أن موضوع ترتب الثواب في هذه النصوص من
اي النحوين؟.
فالوجه في الاختلاف هو: ان النصوص المزبورة هل تتكفل ترتيب
الثواب على ذات العمل الذي بلغ الثواب عليه، أو تتكفل جعله على العمل
الخاص وهو المأتي به بداعي احتمال الامر - بهذا القيد -؟.
فعلى الأول تدل على استحباب العمل لعدم الوجه في ترتب الثواب على
ذات العمل سوى تعلق الامر به، فيكون نظير: " من سرح لحيته له كذا " في
استفادة استحباب تسريح اللحية.
وأما على الثاني، فلا تدل على استحباب العمل، لوجود المقتضي للثواب
519

مع قطع النظر عن الامر، وهو الانقياد، ولو فرض استظهار الاستحباب منها
كانت دالة على استحباب الاحتياط لا نفس العمل.
والوجه الموجب لدعوى أن الثواب مرتب على العمل المقيد بداعي
احتمال الامر لا ذات العمل، هو ظهور الفاء في قوله: " فعمله " في كونه تفريعا
على بلوغ الثواب، وهو ظاهر في داعوية تحصيل الثواب لتحقق العمل.
وناقشه المحقق الأصفهاني (رحمه الله): بان التفريع على قسمين:
أحدهما: تفريع المعلول على علته الغائية، ومعناه هنا انبعاث العمل عن
الثواب المحتمل.
والآخر: التفريع بمعنى ترتيب أحدهما على الاخر، بلا أن يكون المرتب
عليه علة غائبة للمرتب نظير قول القائل: " سمع الأذان فبادر إلى المسجد "،
فان الداعي للمبادرة هو تحصيل فضيلة المبادرة لاسماع الأذان. وما نحن فيه
قابل للحمل على ذلك بلحاظ ترتب العمل على بلوغ الثواب لتقوم العمل
المترتب عليه الثواب ببلوغ الثواب.
وعليه، فمجرد كون الفاء للتفريع لا يعين القسم الأول، فلا وجه
لاستظهار أخذ داعوية الثواب في موضوع ترتب الثواب (1).
وفيه: ان ما أفاده من تقسيم التفريع إلى قسمين متين، لكن الذي يظهر
من مثل هذا التعبير هو كون الاندفاع نحو العمل لاجل تحصيل الثواب،
فالظاهر من التفريع ههنا هو القسم الأول منهما.
والمثال المذكور لا يصلح نقضا لعدم تصور داعوية سماع الأذان للمبادرة،
إذ الداعي ما يكون بوجوده العيني مترتبا على العمل، وبوجوده الذهني سابقا
عليه، وسماع الأذان لا يترتب خارجا على المبادرة.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 221 - الطبعة الأولى.
520

وأما ما حكي عن الشيخ من إنكار كون الفاء للتفريع والسببية، بل هي
عاطفة (1). فقد رده الأصفهاني: بأنه خلاف الاصطلاح لعدم التقابل بين السببية
والعطف، بل العاطفة تارة للسببية. وأخرى للترتيب. وثالثة للتعقيب (2).
وبالجملة: لا يسعنا إلا الالتزام بأن الفاء في النص ظاهرة في تفرع العمل
عن الثواب بنحو يكون الثواب داعيا للعمل.
ومقتضى ما تقدم الالتزام بان الثواب مترتب على العمل المقيد، فلا دلالة
له على الاستحباب.
لكن المحقق صاحب الكفاية ذهب إلى: أن ظاهر النص ترتب الثواب
على ذات العمل، ولو كانت الفاء للتفريع وظاهرة في داعوية الثواب إليه، ولا
منافاة بينهما، ومن هنا التزم بدلالة النص على استحباب ذات العمل (3).
وقد قربه المحقق الأصفهاني بما لا يخلو عن إشكال بل منع، فقد ذكر في
مقام تقريبه: ان الظاهر من الثواب البالغ هو الثواب على العمل بذاته لا بداعي
الثواب المحتمل، لان مضمون الخبر الضعيف هو ذلك، كمضمون الخبر
الصحيح، وهذا الطور لا ريب فيه.
كما أن الظاهر من أخبار من بلغ هو كونها في مقام تقرير ذلك الثواب البالغ
وتثبيته، ومقتضى ذلك ثبوته لنفس العمل، لأنه هو الذي بلغ الثواب عليه، فلو
ثبت الثواب - باخبار من بلغ - لغير ذات العمل لزم أن يكون ثوابا آخر لموضوع
آخر، وهو ينافي ظهور الاخبار في اثبات نفس ذلك الثواب البالغ المفروض
كون موضوعه هو ذات العمل.
ولا ينافي هذا الظهور ظهور الفاء في التفريع الظاهر في داعوية الثواب

(1) رسالة التسامح للشيخ الأنصاري.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 221 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 353 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
521

للعمل. ببيان: ان الداعي إلى العمل يمتنع أن يصير من وجوه وعناوين ما يدعو
إليه، بحيث يتعنون العمل المدعو إليه بعنوان من قبل نفس الداعي، إذ الفرض
ان العنوان ينشأ من دعوة الشئ، فيمتنع أن يكون مقوما لمتعلق الدعوة
وللمدعو إليه كما هو واضح جدا.
وعليه، فما يدعو إليه الثواب هو ذات العمل، ويستحيل أن يكون هو
العمل الخاص المتخصص بخصوصية ناشئة من قبل دعوة الثواب، كخصوصية
كونه انقيادا أو احتياطا، فما يدعو إليه الثواب ليس هو الانقياد، وانما الانقياد
يتحقق باتيان ذات العمل بداعي احتمال الامر، فهو متأخر عن دعوة احتمال
الامر فيمتنع أن يؤخذ في متعلق دعوته.
وعليه، فالثواب المترتب إنما رتب على ما دعى إليه احتمال الامر، وهو
ذات العمل لا العمل المقيد بالاحتمال ولا ما يتعنون بعنوان الانقياد. فالالتزام
بظهور الفاء في اتيان العمل بداعي احتمال الثواب.
لا ينافي ظهور النصوص في
ترتب الثواب على ذات العمل المدعو إليه، بعد أن لم تكن الدعوة موجبة لتغير
عنوان المدعو إليه من قبل نفس دعوة احتمال الامر.
هذا تقريب كلام صاحب الكفاية بحسب ما أفاده الأصفهاني (قدس
سره) (1).
وهو كما أشرنا إليه غير خال عن الاشكال، لأنه بنى الاستدلال على
ظهور النصوص في وحدة الثواب المجعول مع الثواب البالغ، وهو يقتضي وحدة
الموضوع.
وهذا هو مركز إشكالنا، فان ظهور الكلام في وحدة الثواب لا يعني إرادة
الوحدة الشخصية المتحققة بالمحافظة على تمام الخصوصيات البالغة من حيث

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 121 - الطبعة الأولى.
522

المتعلق وغيره، بل يراد به الوحدة من حيث الجنس، بمعنى ان نفس ذلك الثواب
يحصله المكلف سواء كان على نفس ذلك العمل أم على أمر آخر ملازم له،
فالمنظور إثبات الثواب البالغ بكمه وكيفه لا أكثر. فتدبر.
والتحقيق في توجيه مرام الكفاية: أن يقال: إن تمامية ما افاده تبتني على
مقدمات غير موضحة بتمامها في الكفاية، بل قد طوي بعضها وهي:
أولا: ان الظاهر في موارد العطف بفاء التفريع على مدخول أداة الشرط،
هو ارتباط الحكم الثابت في الجزاء بمدخول الفاء، وان ما قبله ذكر توطئة وتمهيدا،
كما لو قال: " إذا رأيت زيدا فاحترمته كان لك كذا "، فان ظاهر الكلام ان رؤية زيد
ذكرت توطئة لذكر موضوع الحكم.
وثانيا: ان ظاهر الكلام في مثل ذلك أن ما يكون مدخول الفاء هو تمام
الموضوع بلا دخل لغيره فيه.
وثالثا: ما تقدم من أن متعلق الداعي يمتنع أن يكون معنونا بعنوان من
قبل الداعي، وقد أوضحنا ذلك فلا نعيد.
إذا تمت هذه المقدمات نقول: ان مقتضى المقدمة الأولى هو دخالة
العمل في ترتب الثواب الذي هو مدخول الفاء. ومتقضى المقدمة الثالثة ان
مدخول الفاء هو ذات العمل لا العمل الخاص، لان الخصوصية ناشئة من قبل
الداعي فلا يعقل ان تكون مأخوذة في متعلق الداعي. ومقتضى المقدمة الثانية
هو كون الثواب مترتبا على ذات العمل وإن جئ به بداعي الامر، لتمحض
مدخول الفاء في الموضوعية بلا دخل لغيره. والمفروض ان مدخول الفاء هو ذات
العمل.
وإذا ثبت ظهور الاخبار في جعل الثواب على ذات العمل، كان كاشفا
عن تعلق الامر به بمقتضى الكبرى التي عرفت أنها مسلمة.
وما ذكرناه هو غاية ما يمكن به تقريب استفادة الاستحباب من الاخبار.
523

وهو قابل للمنع. ومرجع ما نريد أن ندعيه في مقام المنع إلى أن الجهة التي
بها يستفاد الامر من قبل جعل الثواب غير متوفرة فميا نحن فيه، فالاشكال في
انطباق الكبرى المسلمة على ما نحن فيه.
وبيان ذلك: ان بيان الامر ببيان الثواب أمر لا يقبل الانكار - كما تقدم
-، والشواهد العرفية عليه كثيرة، ومثله بيان النهي ببيان العقاب، فان شواهده
العرفية والشرعية كثيرة.
والسر في استفادة الامر واستكشافه من ترتب الثواب أحد أمرين:
الأول: دلالة الاقتضاء والدلالة الالتزامية العرفية. ببيان: ان العمل - في
موارد جعل العقاب - لا اقتضاء فيه بنفسه، لثبوت العقاب، فاثبات العقاب عليه
كاشف عن تعلق النهي به ليكون الفعل معصية له، وهي موضوع ثبوت العقاب،
فثبوت النهي في موارد جعل العقاب - لا اقتضاء فيه بنفسه، لثبوت العقاب، فاثبات العقاب عليه
كاشف عن تعلق النهي به ليكون الفعل معصية له، وهي موضوع ثبوت العقاب،
فثبوت النهي في موارد جعل العقاب يستكشف بحكم العقل ودلالة الاقتضاء.
وأما جعل الثواب في مورد، فهو ليس بمستلزم عقلا لثبوت الامر لتحقق
الثواب مع الاتيان به رجاء، لكنه عرفا مستلزم للامر، فان العرف يفهم من جعل
الثواب جعل الامر في المورد الذي لا يقتضى ثبوت الثواب في حد نفسه، وهذا
المعنى غير بعيد في اللغة العربية، فان بيان الملزوم ببيان اللازم ليس بعزيز،
والاستعمالات الكنائية منه.
إذن فاستفادة الامر من جعل الثواب بالملازمة العرفية.
الثاني: ان جعل الثواب في مقام الترغيب على العمل والحث عليه كاشف
عن محبوبية العمل، وهي ملازمة للامر، مع عدم العلم بثبوت الامر سابقا
وإلا فلا دلالة له إلا على الترغيب على إطاعة الامر السابق، وذلك
كترغيب الوعاظ عل فعل الواجبات ببيان الثواب عليها، ففي غير هذا المورد
يكون الترغيب كاشفا عن المحبوبية وهي تلازم الامر، لأنها مقتض له والمانع
مفقود، لفرض كون المولى في مقام الترغيب الكاشف عن عدم المانع.
524

وهذان الوجهان لا يتأتيان فيما نحن فيه:
أما الأول: فلان العمل المأتي به بداعي احتمال الثواب - كما هو الفرض
- يكون معنونا بعنوان الاحتياط وسببا لتحقق الانقياد، وفي مثله لا ظهور للكلام
عرفا في ثبوت الامر بالعمل لقوة احتمال رجوع الثواب إلى الثواب على الانقياد
أو الاحتياط، وهو ثابت في نفسه مع قطع النظر عن الامر.
وأما الثاني: فلان أساسه على فرض المولى في مقام الترغيب. وهذا غير
ثابت فيما نحن فيه، لان الظاهر من ترتيب الثواب ههنا انه في مقام التفضل
والاحسان وبيان ان المولى الجليل لا يخيب من أمله ورجاه، ولا يضيع تعب من
تعب لاجل الثواب الذي تخيله أو رجاه تفضلا منه ومنة، فلا ظهور له في
الترغيب نحو العمل - وان حصلت الرغبة فيه بعد ملاحظة هذا الوعد -. وهذا
كثيرا ما يصدر عرفا فيقول القائل: " ان من قصد داري بتخيل وجود الطعام فيه
لا أحرمه من ذلك وأطعمه "، فإنه في مقام بيان علو همته وطيب نفسه وكمال
روحيته، وليس في مقام الترغيب إلى قصد داره، بل قد يكون كارها له لضيق
ما في يده، ولكنه يتحلى بنفسية تفرض عليه عدم حرمان من أمله وقصده.
ولو لم نجزم بظهور الاخبار فيما ذكرناه بملاحظة ما يشابهها من الأمثلة
العرفية، فلا أقل من الشك الموجب لاجمال الاخبار فلا تتم دلالتها على
الاستحباب.
وهذا كما يكون اشكالا على الوجه الثاني يكون إشكالا على الوجه
الأول، لأنه إذا كان في مقام التفضل والاكرام، فلا دلالة عرفية ولا عقلية على أن
الثواب عل العمل من جهة تعلق الامر به، إذ لا ملازمة عرفا ولا عقلا بين
الثواب التفضلي والامر. وإنما يستكشف الامر إذا فرض كون ترتيب الثواب
بعنوان الجزاء والاستحقاق. فلاحظ.
فعمدة الاشكال على استفادة الامر من هذه الأخبار هو، انها مسوقة في
525

مقام بيان تفضل الله سبحانه وتعالى على العباد وهو، يلازم ثبوت الامر عقلا
ولا عرفا. فتدبر.
ولعله إلى ما ذكرنا أشار الشيخ (قدس سره) في رسائله في آخر كلامه:
بان الاخبار المتكلفة لاثبات لثواب الخاص الذي لا يحكم به العقل، لأنه إنما
يحكم بأصل الثواب، انما تتكفله من باب التفضل، وانه من قبيل قوله تعالى.
(من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) في كونه في مقام تفضل الله سبحانه
وتعالى. والآية الكريمة لو كانت وحدها أمكن دعوى كونها في مقام الترغيب في
الحسنة، لكنها مقترنة بقوله تعالى (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها)
وهو لا يتناسب مع كونه في مقام الترغيب، لان لازم كونه في مقام الترهيب في السيئات. والآية لا تتكفل الترهيب كما لا
يخفى. وعليه فتحمل الآية على أنه في مقام بيان تفضل الله سبحانه وتعالى في
باب الحسنات وعدله في باب السيئات.
وبعد أن عرفت ما ذكرناه، تعرف أنه لا وجه لما أورده المحقق الأصفهاني
على الشيخ: بان ثواب الله سبحانه مطلقا تفضل منه وإحسان، إذ كونه تفضلا
لا استحقاقا لا ربط له بما ذكرناه من وروده مورد بيان التفضل لا الترغيب في
العمل.
كما أن ما أفاده (قدس سره) من ظهور النصوص في جعل الامر لتكفلها
ترتيب الثواب الخاص وهو مما لا يستقل العقل به إذ غاية ما يستقل به العقل
هو أصل الثواب (4). غير سديد، فان الشيخ (رحمه الله) التفت إلى ذلك كما

(1) سورة الأنعام، الآية: 160.
(2) سورة الأنعام، الآية: 160.
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 230 - الطبعة الأولى.
(4) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 223 - الطبعة الأولى.
526

عرفت عند نقل كلامه، ولكنه حمل الثواب ههنا على التفضل، وقد عرفت عدم
ملازمته للاستحباب.
وخلاصة الكلام: انه لا يمكننا استفادة الامر أصلا من ترتب الثواب
على العمل بعد ظهورها في مقام التفضل لا مقام الترغيب.
وأما ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره):
أولا: من ظهور قوله: " فعمله " في الامر بالعمل بلحاظ انها جملة خبرية
واقعة في مقام الانشاء، فتفيد الامر، فهي بمنزلة قوله: " فاعمل ".
وثانيا: من كون الاخبار في مقام جعل حجية الخبر الضعيف في موارد
الاستحباب، واستشهد على ذلك بفهم المشهور، إذ قد اشتهر على الألسنة
التعبير بقاعدة التسامح في أدلة السنن (1).
ففيه: انه غير سديد.
أما الأول: فهو غريب في مثل هذا المثال، لا يساعده الفهم العرفي أصلا
ولا شاهد عليه من الاستعمالات الشرعية أو العرفية، ولعل السر فيه أن الفاء
ههنا عاطفة لا للجزاء فقوله " فعمله " من توابع الشرط وليس جزاء للشرط، وإلا
لم تدخل عليه الفاء، فلا دلالة على الامر، إذ الجملة الخبرية انما تفيد الدلالة على
الامر إذا وقعت موقع التحريك والبعث، والشرط بشؤونه ليس كذلك، إذ هو
بمنزلة الموضوع للحكم.
ومن الواضح ان الموضوع بما هو موضوع يؤخذ مفروض الوجود بلا أن يكون
المولى في مقام الدعوة إليه. نعم قد يصير المولى في هذا المقام بالنسبة إلى
الموضوع فيأخذ الموضوع جزاء لشرط آخر. فتدبر جيدا فإنه لا يخلو عن دقة.
وأما الثاني: فلا وجه له أصلا. وفهم المشهور لا حجية له. مع أن تعبيرهم

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 412 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
527

بالتسامح في أدلة السنن يلتئم مع الالتزام باستحباب العمل البالغ عليه الثواب،
بل جاء في بعض النصوص من اخذ العمل مقيدا برجاء قول النبي (صلى
الله عليه وآله) ظاهر في عدم الحجية، إذا الحجية تلازم الجزم لا الترديد، فلا معنى
لان يؤخذ في موضوعها العمل المقيد بالرجاء.
كما أنه مما ينفي احتمال الحجية ما جاء في بعض النصوص أيضا من ترتب
الثواب وإن لم يكن رسول الله (ص) قد قاله، إذ الحجية ترجع إلى ما يساوق
جعل الخبر طريقا إلى الواقع، وهذا لا يتناسب مع فرض عدم الواقع في
موضوعها. فلاحظ.
والمتحصل: أن هذه النصوص لا تدل على الاستحباب، ولا على حجية
الخبر الضعيف القائم على الاسستحباب، فما بنى عليه المشهور لا أساس له.
ولو فرض الالتزام بظهور هذه النصوص في استحباب العمل الذي بلغ
عليه الثواب فهو بملاحظة النصوص المطلقة التي لم يقيد موضوع الثواب فيها
بالاتيان التماسا للثواب الموعود ونحوه.
وحينئذ قد يدعى رفع اليد عنها بواسطة ما دل على ترتيب الثواب على
العمل المقيد باحتمال الثواب والتماسه حملا للمطلق على المقيد. وهذا ايراد آخر
على استفادة استحباب العمل البالغ عليه الثواب.
وقد تفصي عن ذلك بوجهين:
الأول: ما أشار إليه المحقق النائيني - وإن لم يلتزم به - من أن حمل المطلق
على المقيد لا يلتزم به في المستحبات، بل يلتزم باستحباب ذات المطلق واستحباب
المقيد بما هو مقيد، بدعوى تعدد مراتب الاستحباب (1).
وهذا منه مبتن على فهم الاستحباب من الروايات المقيدة، لا الحكم

(1) المحقق السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 210 - الطبعة الأولى.
528

الارشادي كما ذهب إليه صاحب الكفاية. فلا ينبغي الايراد على ما افاده بما
يبتنى على فهم الحكم الارشادي، بل إن كان هناك ايراد فينبغي أن يكون في
المبنى.
الثاني: ما أشار إليه في الكفاية من عدم التنافي بين المطلق والمقيد، إذ
المقيد يتكفل حكما إرشاديا إلى ما يحكم به العقل من حسن الانقياد والاحتياط،
فلا ينافي ما دل على استحباب ذات العمل كي يستلزم التصرف فيه ورفع اليد
عنه (1).
وهذا منه مبتن على فهم الحكم الارشادي من الدليل المقيد.
ويرد على كلا الوجهين بنحو الاشتراك ان الظاهر عرفا من ملاحظة
النصوص بمجموعها المطلقة والمقيدة كونها في مقام بيان أمر واحد وشئ فارد،
فإذا فرض تحكيم المقيد لأقوائية ظهوره في دخل القيد، فلا بد من الحكم
باستحباب العمل المقيد خاصة - على مبنى النائيني - والحكم بأن المراد من
المطلق في المطلقات هو العمل الخاص، فتدل على حكم إرشادي على مبنى
صاحب الكفاية. فتدبر.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 353 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
529

وينبغي التنبيه على أمور: مبتنية على فهم الاستحباب من الاخبار
المزبورة.
تنبيهات المسألة:
التنبيه الأول: بناء على كون المستفاد من هذه الأخبار حكما فرعيا وهو
استحباب العمل البالغ عليه الثواب، فموضوعه واقعا يتقوم بمن بلغه الثواب
على العمل، فتشكل فتوى المجتهد باستحباب العمل الذي بلغه الثواب عليه
بقول مطلق بلا تقييد موضوع الاستحباب بمن بلغه الثواب، لعدم توفر
الموضوع لدى مطلق المقلدين، ولا تنفع أدلة التقليد وتنزيل المجتهد منزلة المقلد،
فإنها انما تفيد في ثبوت الحكم للمقلد إذا توفرت شروطه فيه، ومن شروط هذا
الحكم بلوغ الثواب على العمل، فإذا أراد المجتهد ان يفتي بالاستحباب فلا بد
عليه ان يقيد موضوع الاستحباب بالبالغ إليه الثواب، أو يتكفل ابلاغ مقلديه
أولا بثبوت خبر ضعيف دال على رجحان العمل ثم يفتي باستحبابه.
وأما بناء على كون المستفاد حكما أصوليا وهو حجية الخبر الضعيف على
الاستحباب، فيصح للمجتهد ان يفتي بالاستحباب بقول مطلق عند قيام الخبر،
إذ بقيام الخبر لديه تقوم الحجة عنده على الحكم الشرعي، وليس موضوعه مقيدا
بشئ، فيكون كما لو قام لديه خبر صحيح السند على استحباب عمل خاص،
فيفتي بمضمون الخبر الضعيف لقيام الحجة لديه دون المقلد. فلاحظ.
التنبيه الثاني: في شمول النصوص الفتوى الفقيه باستحباب عمل، فهل
يصح للفقيه الاخر الالتزام باستحبابه أولا؟.
والتحقيق: ان الفتوى تارة يقال: إنها عبارة عن الرأي والنظر والاعتقاد.
530

وأخرى يقال: إنها عبارة عن الاخبار عن الحكم الشرعي لكن بتوسط
حدس المجتهد واستنباطه لا بطريق الحس أو ما يلازمه عادة.
وبناء على الأول، يمتنع البقاء على تقليد المجتهد إذا مات لانقطاع رأيه
ونظره بالموت لتقومه بالحياة والادراك، فهو مما لا رأي له فعلا، فلا فتوى له فعلا
وإن صدق أن رأيه كان كذا.
وأما على الثاني، فلا يمتنع البقاء لعدم تقوم الخبر بالحياة، بل الخبر باق
بعد الموت، ولذا يصدق الخبر فعلا على اخبار صاحب الوسائل (رحمه الله) مع
أنه ميت وتحقيق ذلك في محله من الفقه.
فعلى الالتزام بالأول، لا يصدق بلوغ الثواب على الفتوى إذ البلوغ
يتحقق بالاخبار، والمفروض ان المجتهد لا يخبر عن الواقع بل يقول: " رأيي
كذا " وقد لا يطابق رأيه الواقع، فلا يصدق البلوغ على قوله المذكور.
وعلى الالتزام بالثاني، يصدق البلوغ لتحقق الاخبار، فيكون مشمولا
لاخبار من بلغ.
وأما ما ادعي من ظهورها في الاخبار عن حس لا عن حدس فهو مما لا
نرى له وجها عرفيا، فلا يمكننا الالتزام به. فالتفت.
التنبيه الثالث: هل تشمل هذه الأخبار الخبر القائم على الامر الضمني
أولا؟ وعلى تقدير شمولها له هل تتكفل اثبات الامر الضمني أو لا؟ وفائدة ذلك
فيما لو تكفلت اثبات الامر الضمني هو ترتب أثر الامر الضمني على ما قام على
جزئيته خبر ضعيف كغسل مسترسل اللحية، فيجوز المسح ببلله، لأنه من أفعال
الوضوء.
بخلاف ما إذا لم تشمل الاخبار الاخبار بالأمر الضمني، أو لم تتكفل
سوى اثبات استحبابه النفسي في ضمن العمل للامر الضمني، فإنه لا يجوز
المسح ببلله لأنه ليس ببلل الوضوء.
531

إذن فجواز المسح ببلل مسترسل اللحية يتوقف على مقدمتين: إحداهما:
شمول الاخبار للامر الضمني. والأخرى: اثباتها له.
وغاية ما يمكن أن يقال في إثبات ذلك هو: ان الظاهر من الاخبار هو
استحباب الشئ على النحو الذي دل عليه الخبر الضعيف من كونه نفسيا
استقلاليا أو جزء واجبا أو مستحبا لامر واجب أو مستحب.
وهذه الدعوى مردودة لوجوه:
الأول: ان بلوغ الثواب لا يصدق ببلوغ الامر الضمني، إذ لا ثواب
عليه، بل الثواب واحد على الكل ولا يتوزع.
الثاني: لو فرض ان الثواب يتوزع بحيث تلحق كل جزء حصة من
الثواب، فظاهر النصوص - بملاحظة تنكير الثواب فيها - هو كون الموضوع
بلوغ ثواب خاص من حيث الكمية أو النوعية، أما بلوغ ترتب أصل الثواب،
فلا أثر له.
ومن الواضح ان بلوغ الثواب على الامر الضمني - بعد الفرض المزبور
- من قبيل الثاني لا الأول فلا تشمله الاخبار.
وهذه نكتة دقيقة توجب التوقف في الحكم باستحباب كثير من الأمور
التي قام على استحبابها خبر ضعيف، إذ الاخبار بالاستحباب اخبار بأصل
الثواب لا بخصوصيته، فلا تشمله أخبار من بلغ، فالتفت إليها ولا تغفل عنها.
الثالث: انه لو فرض شمولها للاخبار بالأمر الضمني، فلا ظهور لها في
أكثر من استحباب العمل في ضمن المركب، وهو أعم من كونه جزء له أو مستحبا
نفسيا في ضمنه، إذا ما يلازم ترتب الثواب هو أصل ثبوت الامر - بالوجهين
السابقين -، أما خصوصية كونه ضمنيا، فلا طريق إلى اثباتها بواسطة ترتب
الثواب. فكيف يدعى تكفل الاخبار اثبات استحباب الشئ بالنحو الذي قام
عليه الخبر الضعيف؟.
532

وعليه، فلا تترتب آثار الامر الضمني على ما قام الخبر على جزئيته، بل
انما تترتب آثار استحبابه بقول مطلق.
نعم، يمكن سلوك طريق آخر لاثبات جزئية ما قام الخبر الضعيف على
جزئية، وهو أن يقال: إن الخبر الدال على الامر الضمني بعمل يدل بالملازمة على
ترتب الثواب على العمل المركب من هذا الجزء وسائر الاجزاء، ومقتضى ذلك
ثبوت استحباب المركب من هذا الجزء وغيره مما هو معلوم الجزئية. فتثبت جزئية
المشكوك بهذه الوسيلة. فلاحظ.
التنبيه الرابع: في شمول الاخبار للخبر الضعيف القائم على الوجوب أو
الحرمة أو الكراهة.
وتحقيق ذلك:
أما مورد القيام الخبر على الوجوب، فقد يدعى شمول الاخبار له فيثبت
به استحباب العمل بتقريب: ان الاخبار بالوجوب اخبار بترتب الثواب على
العمل بالملازمة، لأنه راجح فلا يختلف عن الاخبار بالاستحباب. فيصدق بلوغ
الثواب على العمل فيكون مستحبا بمقتضى هذه الأخبار.
هذا بناء على استفادة الاستحباب من الاخبار. أما بناء على استفادة
الحجية فقد يستشكل الامر، لان الخبر الضعيف الثابت حجيته بأخبار من بلغ يدل
على الوجوب، ومقتضى ذلك ثبوت الوجوب به لا الاستحباب.
وقد تفصي عن ذلك بالالتزام بالتبعيض في مدلوله، بان يكون حجة على
اثبات أصل الرجحان لا الرجحان الخاص، بنحو اللزوم لقيام الاجماع على عدم
حجية الخبر الضعيف في اثبات الوجوب. فتدبر.
ولكن الحق عدم شمول أخبار من بلغ لهذا المورد لظهورها في كون
الداعي إلى العمل هو تحصيل الثواب، بمعنى أن موضوعها ما يتفرع العمل فيه
على بلوغ الثواب طبعا وعادة، بحيث يكون الداعي هو الثواب.
533

والأمر في الواجبات ليس كذلك، إذ الداعي إلى فعل الواجب عادة
وطبعا هو الفرار عن مفسدة تركه وهو العقاب، لا الوقوع في مصلحة فعله وهو
الثواب. فلا يكون الاخبار بالوجوب مشمولا لهذه القاعدة، لما عرفت من
اختصاص موضوعها بما يؤتى به بداعي الثواب عادة، وهو خصوص
المستحبات، لعدم الاتيان بالواجب عادة بداعي الثواب وإن أمكن حصوله
أحيانا. فالتفت.
وأما مورد قيام الخبر الضعيف على حرمة عمل، فإنه قد يقال إنه يدل
على ترتب الثواب على تركه، فيثبت استحباب الترك بمقتضى أخبار من بلغ.
ولكن الحق عدم شمول أخبار من بلغ للمحرمات لوجهين:
أحدهما: ما تقدم في الواجبات من ظهور الاخبار في كون موضوعها ما
يؤتى به بداعي الثواب عادة وهو لا ينطبق على المحرمات، إذ الامتثال فيها لا
يكون بداعي حصول الثواب عادة، بل بداعي الفرار عن العقاب.
والآخر: التوقف في صدق بلوغ الثواب في موارد التحريم بالاخبار به.
أما على القول بان النهي عبارة عن الزجر عن الفعل - كما هو المشهور
- فواضح، إذ لا ظهور في الزجر عن الفعل إلا في الصد عن مغبة العمل
ومفسدته، بحيث يستحق اللوم والعقاب على الفعل، فا لاخبار بالزجر لا يكون
اخبار بترتب الثواب على الترك، وان ترتب عليه بحكم العقل لاجل الامتثال،
لكنه أجنبي عن ظهور اللفظ عرفا في الوعد على الثواب.
وأما على القول بأنه عبارة عن طلب الترك - كما هو المختار تبعا لصاحب
الكفاية (1) -، فقد يتوهم انه ظاهر في رجحان الترك، وهو ملازم لترتب الثواب.
ولكن نقول: ان طلب الترك في المحرمات انما هو بملاك وجود المفسدة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 369 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
534

في الفعل لا المصلحة فيه، وإلا كان واجبا، ولم ترد أدلة تدل بالمطابقة على ترتب
الثواب على ترك المحرمات - حتى يستلزم ذلك الملازمة العرفية بين الحرمة وترتب
الثواب على الترك - بخلاف فعل الواجبات فقد بين ترتب الثواب عليها كثيرا -.
نعم، دل الدليل على ترتب الثواب على جهاد النفس والصبر على المحرم،
ولكنهما فعلان وجوديان مستحبان أو لازمان، فلا ربط لذلك بالثواب على ترك
الحرام. وقد تعارف بيان المحرمات بترتيب العقاب على الفعل.
وعليه، فلا ظهور لطلب الترك - بنحو اللزوم بملاك المفسدة في الفعل -
إلا في التحرز عن مفسدة الفعل، فلا ظهور له عرفا في ثبوت الثواب عليه. ومجرد
ترتب الثواب عقلا على الامتثال لا يلازم الظهور العرفي للدليل الموجب لصدق
البلوغ كما عرفت. فتدبر.
وأما مورد قيام الخبر الضعيف على الكراهة فقد يقال في وجه شمول
الاخبار له: ان داعوية الامر إلى العمل ومحركيته نحوه بما هو أمر وطلب لا
تتحقق إلا بلحاظ ما يترتب على المخالفة من أثر شئ مكروه أو ما يترتب على
الموافقة من أثر حسن مرغوب فيه. والأول ثابت في الامر الوجوبي والنهي
التحريمي.
والثاني في الامر الاستحبابي والنهي التنزيهي المعبر عنه بالكراهة، إذ لا
يترتب على مخالفة الكراهة العقاب، فلا بد أن يترتب على موافقته الثواب،
ليصح النهي بلحاظه، لصلاحيته للداعوية بذلك.
والاتيان بالعمل أو تركه بلحاظ الأثر الوضعي لا يصحح داعوية الامر
أو النهي، إذ الأثر الوضعي لا يرتبط بالأمر والنهي وموافقتهما ومخالفتهما بما هما
أمر أو نهي.
وعليه، فهناك تلازم عقلا بين الكراهة وترتب الثواب على الموافقة،
فيكون الاخبار بالكراهة إخبارا بترتب الثواب بالملازمة.
535

ولكن الحق هو عدم شمول أخبار من بلغ لموارد الكراهة، إذ لا ظهور
عرفا للدليل الدال على الكراهة في ترتب الثواب، وإنما التلازم عقلي على ما بين،
وهو لا يصحح الظهور العرفي الذي يستند إلى فهم العرف للملازمة لا إلى حكم
العقل بها.
والغالب في مواقع بيان الكراهة هو بيانها بترتب المفاسد الوضعية على
الفعل، وقل مورد - إن لم ينعدم - بين فيه النهي التنزيهي بعنوان ترتب الثواب
على الترك مطابقة.
فإذا ثبت ذلك، يظهر عدم صدق بلوغ الثواب عند الاخبار بالكراهة،
فلا تشمله أخبار من بلغ.
وهذا هو العمدة في منع شمول الاخبار للخبر القائم على الكراهة.
فانتبه.
التنبيه الخامس: ذكر المحقق العراقي (قدس سره): انه يعتبر في صدق
البلوغ ظهور اللفظ في المعنى، فمع اجماله لا يصدق البلوغ، وعليه فيعتبر عدم
اتصاله بقرينة توجب سلب ظهوره.
وأما قيام القرينة المنفصلة على الخلاف، فلا يضر في صدق البلوغ، كما
لو قام خبر ضعيف على استحباب اكرام كل عالم، وقام خبر آخر على عدم
استحباب اكرام النحويين، فإنه بمقتضى اخبار من بلغ يحكم باستحباب اكرام
الجميع، لان المخصص المنفصل لا يستلزم انثلام ظهور العام في العموم، وإنما
يستلزم عدم حجيته فيه، مع بقاء ظهوره على حاله، فيصدق بلوغ استحباب اكرام
الجميع مع قيام المخصص المنفصل، وهكذا الحال في ما إذا كان نسبة المعارض
المنفصل نسبة التباين.
هذا في فرض كون الخبر القائم على خلاف الاستحباب غير معتبر في
نفسه.
536

أما إذا كان حجة في نفسه، فقد يتوهم عدم شمول القاعدة - أعني قاعدة
التسامح - حينئذ للخبر الدال على الاستحباب، باعتبار ان دليل الحجية يتكفل
تتميم الكشف الراجع إلى إلغاء احتمال الخلاف، فيقطع تعبدا بعدم استحبابه.
وعليه، فلا يصدق البلوغ الذي هو موضوع الحكم بالاستحباب، فيكون
دليل الحجية حاكما على أخبار من بلغ.
ولكنه توهم فاسد، لعدم التنافي بينهما لعدم ورود النفي والاثبات فيهما على
موضوع واحد، فان مفاد أخبار من بلغ هو استحباب العمل بعنوان ثانوي، وهو
عنوان بلوغ الثواب، ومفاد الخبر المعتبر عدم استحباب العمل بعنوانه الأولي،
فلا تنافي بينهما كما هو واضح.
هذا خلاصة ما أفاده (قدس سره) مما يهمنا ذكره، بتوضيح منا (1).
أقول: مقتضى التحقيق أن يجعل محل البحث في مورد قيام القرينة المنفصلة،
هو ما إذا كان كل من دليلي العموم والخصوص حجة في نفسه، فيبحث في أنه
هل يتمسك بأخبار من بلغ في اثبات استحباب ما قام الدليل المعتبر الخاص على
عدم استحبابه، أو لا يتمسك بها لعدم شمولها لمثل هذا المقام؟.
وذلك لان المورد الذي يرد فيه حديث انقلاب الظهور العمومي وانثلامه
بورود المخصص المنفصل فلا يصدق البلوغ وعدمه فيصدق البلوغ، هو ذلك
المورد، دون ما إذا كان كلا الدليلين غير معتبرين أو كان أحدهما كذلك. وذلك
لان مناط حمل المطلق على المقيد - ظهورا أو حجية - فيما إذا استند الكلامان
إلى متكلم واحد. وأما مع عدم صدورهما من متكلم واحد، فلا تنافي بينهما كي
يكون أحدهما قرينة على الاخر، فهل هناك تناف بين أمر زيد عمرا بشئ عام،
ونهي عمرو خالدا عن بعض افراد ذلك الشئ؟. وهل يتخيل أحد التصرف في

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 283 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
537

العام الصادر من زيد لاجل صدور الخاص من عمرو.
ولا يخفى أنه مع عدم حجية الدليلين أو أحدهما، لا يثبت صدور الكلامين
من واحد، فلا وجه لحمل أحدهما على الاخر، فكيف يتوهم التصرف في ظهور
العام مع عدم ثبوت صدور الخاص من الإمام (عليه السلام)؟. كما أنه لا يتوهم
التصرف في ظهور العام الذي لا تعلم حجيته وصدوره من الإمام (عليه السلام)
بواسطة الخاص المعلوم الصدور؟.
وهذا هو الوجه في التوقف لا ما يتخيل من أنه لا مجال لأصالة الظهور
مع عدم اعتبار السند كما لا مجال لاعتبار السند مع اجمال الدليل، ولذا يلتزم
بعدم شمول أدلة حجية الخبر للخبر الصحيح المجمل في ظهوره، فإنه تخيل
فاسد لان عدم التعبد بصدور الخبر المجمل إنما هو لعدم ترتب اثر عليه.
أما حجية الظهور في مورد ضعف الخبر، فلا محذور فيها بعد ترتب أثر
عملي على تشخيص الظهور ومعرفة مراد المتكلم، وهو صدق بلوغ الثواب الذي
عرفت أنه موضوع الحكم بالاستحباب، إذ ما لم تكن للكلام كاشفية عن مراد
المخبر وجدانا أو تعبدا لم يتحقق صدق البلوغ، فلا مانع من اجراء أصالة
الظهور في كلامه بلحاظ الأثر المزبور، ولذا يتمسك بأصالة الظهور مع العلم
بكذب المخبر، فينسب له الكذب على الإمام (عليه السلام) استنادا إلى حجية
ظهور كلامه في تشخيص مراده لترتيب آثار الكذب على الإمام (عليه السلام).
وإذا ظهر ما ذكرناه فيقع الكلام في حكم الصورة التي بيناها.
والحق عدم شمول أخبار من بلغ لمورد الخاص، لان تقديم المقيد على
المطلق الراجع إلى بيان قصر المراد الجدي للعام على غير مورد الخاص موجب
لعدم صدق بلوغ الثواب بالنسبة إلى مورد الخاص، إذ صدق البلوغ يتوقف على
كاشفية الكلام عن المراد الجدي - ولو لم يكن حجة -.
538

أما إذا لم يكن كاشفا عن المراد الجدي - كما لو صرح المتكلم بان مرادي
الجدي ليس على طبق ما تكلمت ولم أكن في مقام بيانه - فلا يصدق البلوغ.
وعليه، فمع تقديم المقيد - بضميمة أن الكلام المتعدد الصادر من الأئمة
(عليهم السلام) بمنزلة كلام واحد يفسر بعضه بعضا - يكشف ذلك عن أن
المخبر عن الإمام (عليه السلام) بالمطلق أو العام لم يكن قصده الاخبار عن
المطلق أو العام جدا. ولم يكن قاصدا الحكاية عن أن المراد الجدي هو العموم،
فلا يصدق بلوغ الثواب على مورد التخصيص.
وأما مورد التعارض، وكون الخبر المعارض حجة كما إذا قام خبر ضعيف
على الاستحباب وقام خبر صحيح على عدم الاستحباب، ويدخل فيه ما إذا قام
الخبر الضعيف على الاستحباب بنحو العموم وقام الخبر الصحيح على عدمه في
مورد خاص - إذ عرفت أنه ليس من موارد الجمع الدلالي -، فقد يتخيل دعوى
الحكومة بالتقريب السابق المذكور في كلام العراقي (قدس سره).
ولكن فيه: ان البلوغ يساوق الاخبار. ومن الواضح ان العمل بأحد
الدليلين لحجيته سندا الراجع إلى إلغاء احتمال الخلاف سندا، لا ينتفي به صدق
الاخبار بالاستحباب جدا في موارد الخبر الضعيف، فيصدق البلوغ.
وبالجملة: في مورد تقديم الخاص من حيث الدلالة لا يصدق البلوغ. وأما
في مورد تقديمه سندا بلا تصرف في مدلول العام أو الدليل الاخر، فيصدق
البلوغ لتحقق الاخبار بالثواب جدا.
وأما ما أفاده (قدس سره) في دفع الحكومة بعدم التنافي لتعدد الموضوع
فهو عجيب منه (قدس سره)، إذ لا يفرض التنافي بين الحاكم والمحكوم، ولذا
يقدم الحاكم على المحكوم، كما أن الدليل الحاكم المتصرف في الموضوع لا يرد
على ما يرد عليه المحكوم، بل هو يستلزم التصرف في موضوعه.
وبالجملة: دليل حجية الخبر الصحيح - بمقتضى الدعوى - يستلزم رفع
539

صدق البلوغ. فالجواب عنه بان الخبر الصحيح يتكفل الاستحباب بالعنوان
الأولي فلا ينافي اخبار من بلغ. غير جار على الأسس الصناعية في جواب مثل
الدعوى، فان المدعى فرض حكومة دليل الاعتبار على اخبار من بلغ
لاستلزامه رفع موضوعها، فأي ربط لذلك ببيان مدلول الخبر المعتبر؟!. فألتفت ولا
تغفل.
التنبيه السادس: في شمول اخبار من بلغ للاخبار بالفضائل التي يتحلى
بها الأئمة (صلوات الله عليهم) ومناقبهم. والاخبار بالمراقد الشريفة. وقد حكي
عن الشهيد الثاني نسبته إلى الأكثر (1). وحكي عن الشيخ (رحمه الله) الذهاب
إليه في رسالته (2).
وتقريب الشمول: هو ان العمل بكل شئ على حسب ذلك الشئ
فالعمل بالخبر القائم على الفضيلة نشرها، والعمل بالخبر القائم على أن هذا
المكان مرقد الإمام (عليه السلام) هو الحضور عنده، فيكون الاخبار بالموضوع
إخبارا بالملازمة عن استحباب العمل المتعلق به من فعل أو قول، فتشمله أخبار
من بلغ بلحاظ المدلول الالتزامي من استحباب النقل أو الحضور عنده أو
غيرهما.
وإلا فنفس الموضوع المخبر به لا معنى لان يكون مما بلغ فيه الثواب،
إذ الثواب على العمل لا على الموضوع.
أقول: لا يخفى أن هذه الأخبار لا تشمل ما إذا كان المورد في نفسه ومع
قطع النظر عنها قبيحا عقلا أو عقلا وشرعا.
والسر فيه هو ظهورها في كون مجرد بلوغ الثواب محركا للمبلغ نحو
العمل وداعيا إليه.

(1) الشهيد الثاني زين الدين - الدراية / 29 طبعة النجف
(2) المحقق الشيخ محمد حسن الآشتياني - بحر الفوائد 2 / 71. الطبعة الأولى.
540

ومن الواضح أن بلوغ الثواب على ما هو قبيح عقلا أو شرعا لا يكون
محركا للعبد نحو العمل، ولا يصدر العمل منه بداعي الثواب بمجرد بلوغه،
فالاخبار لا تشمل مثل هذا المورد.
وعليه نقول: إذا كان العمل المتعلق بالموضوع المخبر به من مقولة
القول، كنشر الفضيلة ونقل المصيبة ونحوهما. أشكل شمول اخبار من بلغ
للاخبار باستحبابه، وذلك لان النقل والاخبار بما لا يعلم مطابقته للواقع قبيح،
لأنه كذب محرم شرعا وعقلا، بناء على أن الكذب هو الاخبار بما لا يعتقد
مطابقته للواقع لا ما يعتقد مخالفته فيكون التقابل بينه وبين الصدق تقابل العدم
والملكة.
وأما بناء على أن الكذب عدم مطابقة المخبر به للواقع والصدق هو
المطابقة - فيكون التقابل بينهما تقابل التناقض أو التضاد، أن أريد من عدم
المطابقة المخالفة للواقع -، فما لا يعلم أنه مطابق لا يعلم أنه صدق أو كذب، فلا
يحرم شرعا لأصالة البراءة، لأنه شبهة موضوعية، ولكنه قد يقال بقبحه عقلا
بدعوى أن الاخبار بما لا يعلم مطابقته يقبح عقلا.
وقد يذكر ذلك بدعوى أن الشئ ما لم يرجع إلى الظلم لا يكون قبيحا
عقلا، ولا يصدق الظلم على مجرد الاخبار بما لا يعلم مطابقته إذا لم يترتب عليه
ضرر على نفسه أو غيره.
والصحيح ان يقال في وجه حرمته وقبحه عقلا: إن كل ما لا يعلم انه
كذب يكون طرفا لعلم اجمالي بحرمة الاخبار به أو بنقيضه أو ضده للعلم بعدم
مطابقة أحدهما للواقع فيكون كذلك، فإذا لم يعلم بمجئ زيد، يعلم اجمالا بان
الاخبار به أو الاخبار بعدم مجيئه حرام واقعا لخلو الواقع عن أحدهما، فهو يعلم
ان الكذب لا يخرج عن أحدهما. وهو علم اجمالي منجز فيستلزم حرمة كل من
الطرفين عقلا. فلاحظ وتدبر.
541

هذا تمام الكلام في قاعدة التسامح. وبه ينتهي الكلام عن التنبيه الثاني
من تنبيهات مسألة البراءة.
التنبيه الثالث: ذكر صاحب الكفاية (قدس سره): أن النهي عن العمل
تارة: يرجع إلى النهي عنه وطلب تركه في زمان أو مكان، بحيث لو وجد الفعل
دفعه واحدة لم يتحقق امتثال النهي أصلا. وأخرى: يرجع إلى طلب ترك كل فرد
منه على حدة، بحيث يكون ترك تكل فرد إطاعة على حدة، فلو جاء ببعض
الافراد وترك البعض الاخر لأطاع وعصى.
فعلى الأول، لابد على المكلف من احراز ترك العمل بالمرة، فإذا شك في
فرد أنه من أفراد ذلك العمل أولا، كان مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم تركه
تحصيلا للفراغ اليقيني. إلا إذا أمكن احراز ترك العمل المنهي عنه - في هذه
الحال ومع الاتيان بالمشكوك - بالأصل، وهو استصحاب ترك العمل لو كان
مسبوقا بالترك، فيثبت به الامتثال.
وأما على الثاني: فلا يلزم المكلف الا ترك ما علم أنه فرد للعمل. وأما مع
الشك في كونه من افراده فأصالة البراءة محكمة (1).
فما أفاده (قدس سره) تفصيل في اجراء البراءة في الشبهة الموضوعية
التحريمة.
هذا ولكن مراده من النحو الأول الذي لا يكون مجرى للبراءة لا يخلو
عن إجمال، إذ لا يعلم نظره إلى كيفية تعلق النهي وما هو متعلقه؟. ولأجل ذلك
وقع الاشتباه في كلمات الاعلام.
وتوضيح الكلام بنحو يرتفع به بضع الاجمال عن مطلب الكفاية هو: ان
النهي عن الفعل انما ينشأ بملاك وجود المفسدة فيه، لو التزم بأنه عبارة عن طلب

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 353 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
542

الترك - كما هو المختار وفاقا لصاحب الكفاية (1) -، فان طلب الترك بملاك
المصلحة فيه يرجع إلى وجوبه كما في مورد الصوم لوجوب الترك فيه لمصلحة فيه.
وعليه، فصور النهي المتصورة لا تعدو الثلاثة..
لان المفسدة إما ان تكون في صرف وجود الفعل بالمعنى الأصولي لصرف
الوجود وهو أول الوجود، كما لو أراد الشخص ان ينام ساعتين وكان بحيث إذا
استيقظ لا يستطيع النوم بعد ذلك، فإنه يكره صرف وجود الكلام الموجب
لايقاظه بمعنى أول وجوده.
أما إذا تحقق الكلام واستيقظ لا يكره الكلام بعد ذلك، ومقتضى ذلك هو
تعلق الطلب بترك صرف وجود الكلام، فينهي عبيده أو أولاده عن صرف وجود
الكلام، فلو تكلموا واستيقظ فلا نهي منه عن تكلمهم.
وأخرى: تكون المفسدة في كل فرد من افراد الفعل وهو واضح، فيتعلق
الطلب بترك كل فرد فرد على حدة.
وثالثة: تكون المفسدة في مجموع افراد الفعل في زمان خاص، كما إذا كان
الشخص يتأذى من مجموع افراد الفعل الواقعة في ساعتين لا أقل، فيتعلق
النهي بمجموع الأفعال الراجع إلى طلب ترك مجموع الافراد في الزمان الخاص.
وهذه الصور تختلف في مقام الامتثال..
فالامتثال في الصورة الأولى لا يتحقق الا بترك جميع الوجودات، لان
ترك صرف الوجود لا يتحقق إلا بترك الكل، إذ لو جاء بفرد واحد تحقق صرف
الوجود، فليس للنهي فيه الا إطاعة واحدة وعصيان واحد.
وأما في الصورة الثانية، فالانتهاء عن كل فرد يكون إطاعة مستقلة لتعلق
الطلب بتركه خاصة، فالنهي فيه له إطاعة متعددة وعصيان متعدد.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 149 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
543

وأما الصورة الثالثة، فيتحقق الامتثال بترك أحد الوجودات ولو جاء
بالباقي لصدق ترك المجموع، لان لمجموع لا يتحقق إذا لم يتحقق أحد
الوجودات لأنه جزؤه، ولا يتحقق العصيان إلا باتيان جميع الوجودات، فليس
له إلا إطاعة واحدة وعصيان واحد لكنه يختلف عن الصورة الأولى.
ولا يخفى أنه يمكن أن يكون منظور الكفاية هو الصورة الأولى للنهي،
لما عرفت فيها من أن الاتيان بالفعل ولو دفعة موجب لعدم تحقق الامتثال، في
قبال الصورة الثانية التي ذكرها في كلامه.
وللمحقق الأصفهاني (قدس سره) في المقام تعليقة طويلة تعرض فيها
إلى بحث اصطلاحي ببيان المراد من صرف الوجود، وأنه الوجود الجامع بين
وجودات طبيعة خاصة بنهج الوحدة في الكثرة، فهو الطبيعي الذي لا يشذ عنه
وجود.
كما تعرض للبحث عن طلب الترك الناشئ عن مصلحة فيه، ثم بعد أن
بحث في ذلك مفصلا حمل كلام الكفاية على ما إذا انبعث طلب الترك عن
مصلحة واحدة في طبيعي الترك بحده أو مجموع التروك، فالمطلوب إما مجموع
التروك أو صرف الترك، وهو الطبيعي الذي لا يشذ عنه ترك (1).
أقول: لا يهمنا البحث الاصطلاحي.
كما أنه لا نوجه عليه اشكال عدم المناسبة للتعرض إلى البحث عن
المصلحة الوجوبية، وانه استطراد، إذ التعرض إليه لا يخلو من فائدة.
إنما الذي نؤاخذه به هو حمله كلام الكفاية على ما عرفت من موارد
الوجوب، مع أن كلام الكفاية في النهي المتعلق بالفعل. وقد عرفت أنه ينطبق على
الصورة الأولى من الصور التي ذكرناها. وقد صرح (قدس سره) في كلامه: بان

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 228 - الطبعة الأولى.
544

عدم أول وجود الطبيعة يستلزم عدم سائر الوجودات، في مقام بيان عدم كون
العدم المطلق نقيض أول الوجود وبديله. فلم لم يحمل كلام الكفاية على طلب
عدم أول وجود الطبيعة الذي قربناه بتصوير المفسدة في أول الوجود؟. فالتفت
ولا تغفل.
وأما المحقق النائيني (قدس سره)، فلم يتصور في كلامه لما يشترك مع ما
فرضه صاحب الكفاية في اللازم - وهو عدم تحقق الامتثال بتحقق الفعل دفعة
واحدة -، سوى طلب الترك بنحو العموم المجموعي وجعله مجرى البراءة مع
الشك في المصداق، لدوران الامر بينا الأقل والأكثر، ولب العنوان الانتزاعي
عن مجموع التروك الذي عبر عنه بالموجبة المعدولة المحمول، كقوله: " كن لا
شارب الخمر " فإنه لا يتحقق إلا بمجموع التروك، فلو شرب الخمر ولو دفعة لم
يتحقق هذا لعنوان، وهو عنوان: " لا شارب الخمر " أو: " تارك شرب الخمر "، وقد
جعل مورد الشك في المصداق ههنا مجرى الاشتغال، لان مجموع التروك
الخارجية محصل للعنوان البسيط المطلوب، فالشك في المصداق يرجع إلى الشك
في المحصل بدونه وهو مجرى الاشتغال (1).
وقد عرفت إمكان تصوير كلام الكفاية بما لا يرجع إلى أحد هذين
الوجهين، فذلك غفلة عن تعلق الطلب بترك أول الوجود. فلاحظ.
هذا كله فيما يرتبط بالموضوع الذي يريده صاحب الكفاية، والذي بين
لازمه بلا ان يتعرض لتصويره.
ويقع الكلام في الحكم من حيث
جريان البراءة والاشتغال مع الشك في
المصداق. فنقول: في الصورة التي صورنا بها مراد الكفاية وهو تعلق الطلب بترك
أول الوجود الملازم لترك سائر الوجودات. إذا شك في شئ أنه خمر أولا - مثلا

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 394 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
545

- لا بد من الاحتياط بالترك لعدم العلم بدونه بتحقق ترك أول الوجود. ولا مجال
لاجراء البراءة، لان مورد البراءة هو الشك في أصل ثبوت التكليف أو في سعته
وضيقه كما في موارد الأقل والأكثر، ولا شك لدينا كذلك، فان التكليف معلوم
بحدوده وكل ترك ملازم لمتعلق التكليف لا نفسه، فيرجع الشك إلى الشك في
الامتثال.
وأما لو كان الطلب متعلقا بالترك بنحو العموم المجموعي، كان مورد
الشك مجرى البراءة، لأنه من دوران الامر بين الأقل والأكثر.
ولو كان الطلب متعلقا بالترك بنحو الوحدة في الكثرة فكذلك، لرجوع
الشك في مصداقية شئ إلى الشك في انبساط التكليف على الحصة المشكوكة
وهو مجرى البراءة.
وقد سلك المحقق الأصفهاني في تقريب جريان البراءة في هذه الصورة
مسلكا دقيقا يشتمل على الاشكال والرد (1). مع أنه كان يكتفي بالوجه البسيط
الذي ذكرناه.
وسيتضح الحال فيه أن شاء الله تعالى عند التكلم قريبا في الشبهة
الموضوعية بخصوصياتها.
وأما الصورة المذكورة في كلام المحقق النائيني الراجعة إلى تعلق الطلب
بالعنوان الانتزاعي، فلو سلم وجود عنوان انتزاعي نسبته إلى التروك الخارجية
نسبة المسبب إلى السبب كان مورد الشك مجرى الاشتغال، لأنه من الشك في
المحصل كما أفاد (قدس سره).
وأما الاستصحاب الذي أشار إليه في الكفاية وهو استصحاب كون
المكلف تاركا للحرام، فيثبت به متعلق الحكم (2)، فقد استشكل فيه المحقق

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 230 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 353 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
546

الأصفهاني: بان المستصحب ليس من الأمور المجهولة، كما أنه لا يترتب عليه
اثر مجعول إذ المترتب عليه هو الفراغ عن العهدة، وهو ليس بأثر شرعي بل
هو عقلي (1).
أقول: بناء على ما وجه به كلام الكفاية من حمل مراده على ما إذا كان
المطلوب هو طبيعي الترك بحده بنحو الوحدة في الكثرة، يكون الاستصحاب
فيما نحن فيه من الاستصحاب الجاري في متعلق الحكم، وهو لا محذور فيه، بل
يلتزم به في بعض الموارد.
نعم، بناء على ما وجهنا به كلامه من حمل مراده على تعلق الطلب بترك
أول الوجود، لا يكون الاستصحاب من استصحاب متعلق الحكم، إذ الترك لازم
للمتعلق لا نفس متعلق الحكم، فيتوجه الاشكال المزبور. وسيجئ تتمة توضيح
لذلك في مبحث الشبهة الموضعية ان شاء الله تعالى فانتظر.
التنبيه الرابع: لا يخفى ان الاحتياط - بعد ثبوت حسنه عقلا ونقلا -
يحسن في مطلق موارد احتمال التكليف، سواء كانت حجة على نفيه أم لم تكن.
نعم، يستثنى ما إذا يستلزم الاحتياط اختلال النظام، فإنه لا يكون حسنا
عقلا ولا شرعا، إذ الاخلال بالنظام قبيح عقلا، فيمتنع أن يحسن الاحتياط
المستلزم له، بل الاحتياط حسن بالمقدار الذي لا يخل بالنظام، فإذ وصل إلى
حد الاخلال لم يكن حسنا. وهذا واضح.
وقد نبه المحقق الأصفهاني على أمرين:
الأول: ان الرجحان الشرعي لا حقيقة له إلا الاستحباب المولوي، إذ
الراجح من الشارع بما أنه شارع معناه المستحب المولوي، إذ المدح من الشارع
بما هو عاقل يرجع إلى رجحانه العقلي لا رجحانه من الشارع بما هو شارع. إذن

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 230 - الطبعة الأولى.
547

فمعنى كون الاحتياط راجحا شرعا هو كونه مستحبا مولويا، فلا معنى بعد
الحكم برجحانه شرعا للترديد في أن الأمر به للاستحباب أو للارشاد. كما جاء
في الرسائل (1).
الثاني: ان صاحب الكفاية لا يرى امكان التفكيك بين الموافقة القطعية
والمخالفة القطعية.
وعلى هذا الأساس بنى على عدم منجزية العلم الاجمالي أصلا في مورد
الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه، ولم يلتزم بالتوسط في التنجيز كما ذهب
إليه آخرون.
وعليه، فما ذكره من التبعيض في الاحتياط في موارد اختلال النظام لا يتم
بالإضافة إلى الجمع بين محتملات تكليف واحد، لأنه من قبيل الاضطرار إلى أحد
الأطراف لا بعينه يمنع من منجزية العلم.
وإنما يتم بالإضافة إلى الجمع بين الاحتياطات بالنسبة إلى تكاليف
متعددة، لان كل تكليف منجز في نفسه، فما لم يطرأ المانع لا يرتفع التنجيز (2).
وهذا التنبيه لا ينبغي صدوره من مثله، إذ الكلام ليس في لزوم الاحتياط،
بل في رجحانه وحسنه في مورد فرض فيه عدم منجزية العلم وقيام الحجة على
الخلاف. فلا يختلف الحال بين الجمع بين محتملات تكليف واحد وتكاليف متعددة.
فهو (قدس سره) لا يلتزم بعدم حسن الاحتياط في الطرف الآخر عند
الاضطرار إلى أحدهما، وإن التزم بعدم وجوبه. فالتفت.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 216 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 232 - الطبعة الأولى.
548