الكتاب: محاضرات في أصول الفقه
المؤلف: تقرير بحث الخوئي ، للفياض
الجزء: ٢
الوفاة: ١٤١١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٩
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك: ٩٦٤-٤٧٠-٠٥٨-٩
ملاحظات: تقرير أبحاث آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي

محاضرات
في أصول الفقه
تقرير أبحاث الأستاذ الأعظم آية الله العظمى
السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره
تأليف
العلامة المدقق الشيخ محمد إسحاق الفياض دام ظله
الجزء الثاني
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
1

شابك 9 - 058 - 470 - 964
9 - 058 - 470 - isbn 964
محاضرات في أصول الفقه
- ج 2 -
تقرير أبحاث: آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره
المقرر: الفقيه المحقق والأصولي المدقق الشيخ محمد إسحاق الفياض
الموضوع: أصول الفقه
طبع ونشر: مؤسسة النشر الاسلامي
عدد لاجزاء: 5 أجزاء
الطبعة: الأولى
المطبوع: 1000 نسخة
التاريخ: 1419 ه‍. ق
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
بحث الأوامر
الكلام فيها يقع في مقامين:
الأول: في مادة الأمر (أ م ر).
الثاني: في هيئة (افعل) وما شاكلها من الهيئات، كهيئة فعل الماضي
والمضارع، ونحوهما.
أما الأول فالكلام فيه من جهات
الأولى: ذكر جماعة: أن مادة الأمر موضوعة لعدة معان: الطلب، الشئ،
الحادثة، الشأن، الغرض، الفعل، وغير ذلك، وقد أنهاها بعضهم إلى خمسة عشر
معنى (1).
واختار صاحب الفصول (قدس سره) أنها موضوعة لمعنيين من هذه المعاني، أي:
الطلب والشأن (2).
وذكر صاحب الكفاية (قدس سره): أن عد بعض هذه المعاني من معاني الأمر من

(1) لقد استقصى المحقق الرشتي (قدس سره) استعمالها في أربعة عشر معنى، ثم قال: (وربما يظهر
استعمالات اخر مغايرة للأربعة عشر، لكن الظاهر أن الاستعمالات المغايرة المتباينة منها لا
تزيد على أربعة) ثم ذكرها (قدس سره). انظر بدائع الأفكار: ص 199.
(2) الفصول الغروية: ص 62 أآلهتنا 36.
3

اشتباه المصداق بالمفهوم فإن الأمر لم يستعمل في نفس هذه المعاني، وإنما
استعمل في معناه، ولكنه قد يكون مصداقا لها.
ثم قال: ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشئ (1).
وذهب شيخنا الأستاذ (قدس سره) إلى أن لفظ الأمر موضوع لمعنى واحد، وهو
الواقعة التي لها أهمية في الجملة، وجميع ما ذكر من المعاني يرجع إلى هذا المعنى
الواحد، حتى الطلب المنشأ بإحدى الصيغ الموضوعة له، وهذا المعنى قد ينطبق
على الحادثة، وقد ينطبق على الشأن، وقد ينطبق على الغرض، وهكذا. نعم، لابد أن
يكون المستعمل فيه من قبيل الأفعال والصفات، فلا يطلق على الجوامد، بل يمكن
أن يقال: إن الأمر بمعنى الطلب أيضا من مصاديق هذا المعنى الواحد، فإنه أيضا
من الأمور التي لها أهمية، فلا يكون للفظ " الأمر " إلا معنى واحد يندرج الكل فيه،
وتصور الجامع القريب بين الجميع وإن كان صعبا إلا أنا نرى وجدانا أن استعمال
الأمر في جميع الموارد بمعنى واحد، وعليه فالقول بالاشتراك اللفظي بعيد (2).
وما أفاده (قدس سره) يحتوي على نقطتين:
الأولى: أن لفظ " الأمر " موضوع لمعنى واحد يندرج فيه جميع المعاني
المزبورة حتى الطلب المنشأ بالصيغة.
الثانية: أن الأهمية في الجملة مأخوذة في معناه.
ولنأخذ بالنقد على كلتا النقطتين:
أما الأولى: فلأن الجامع الذاتي بين الطلب وغيره من المعاني المذكورة غير
معقول، والسبب في ذلك: أن معنى الطلب معنى حدثي قابل للتصريف والاشتقاق،
دون غيره من المعاني، فإنها من الجوامد، وهي غير قابلة لذلك، ومن الواضح أن
الجامع الذاتي بين المعنى الحدثي والمعنى الجامد غير متصور.
وبكلمة أخرى: أن الجامع بينهما لا يخلو من أن يكون معنى حدثيا، أو

(1) كفاية الأصول: ص 81.
(2) هو المحقق النائيني (قدس سره) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 86.
4

جامدا، ولا ثالث لهما، وعلى كلا التقديرين لا يكون الجامع المزبور جامعا ذاتيا،
إذ على الأول لا ينطبق على الجوامد، وعلى الثاني لا ينطبق على المعنى الحدثي،
وهذا معنى عدم تصور جامع ذاتي بينهما.
ومما يشهد على ذلك: اختلافهما - أي: الأمر بمعنى الطلب، والأمر بمعنى
غيره - في الجمع، فإن الأول يجمع على أوامر، والثاني على أمور، وهذا شاهد
صدق على اختلافهما في المعنى، ولهذا لا يصح استعمال أحدهما في موضع
الآخر، فلا يقال: بقي أوامر، أو: ينبغي التنبيه على أوامر...، وهكذا. فالنتيجة:
بطلان هذه النقطة.
وأما الثانية: فلأنه لا دليل على أخذ الأهمية في معنى الأمر بحيث يكون
استعماله فيما لا أهمية له مجازا، وذلك لوضوح أن استعماله فيه كاستعماله فيما له
أهمية في الجملة من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.
وإن شئت قلت: إن الأهمية لو كانت مأخوذة في معناه لكانت متبادرة منه
عرفا عند إطلاقه، وعدم نصب قرينة على الخلاف مع أنها غير متبادرة منه كذلك،
ومن هنا صح توصيفه بما لا أهمية له. وبطبيعة الحال أنها لو كانت داخلة في معناه
لكان هذا تناقضا ظاهرا.
فالنتيجة: أن نظرية المحقق النائيني (قدس سره) في موضوع بحثنا نظرية خاطئة ولا
واقع موضوعي لها.
ويمكن أن نقول: إن مادة الأمر موضوعة لغة لمعنيين على سبيل الاشتراك
اللفظي:
أحدهما: الطلب في إطار خاص، وهو الطلب المتعلق بفعل الغير، لا الطلب
المطلق الجامع بين ما يتعلق بفعل غيره وما يتعلق بفعل نفسه: كطالب العلم، وطالب
الضالة، وطالب الحق، وما شاكل ذلك.
والسبب فيه: أن مادة الأمر - بما لها من معنى - لا تصدق على الحصة الثانية
وهي المتعلقة بفعل نفس الإنسان، وهذا قرينة قاطعة على أنها لم توضع للجامع
5

بينهما. ومن هنا يظهر: أن النسبة بين الأمر والطلب عموم مطلق.
وثانيهما: الشئ الخاص، وهو الذي يتقوم بالشخص من الفعل أو الصفة أو
نحوهما في مقابل الجواهر وبعض أقسام الأعراض، وهي بهذا المعنى قد تنطبق
على الحادثة، وقد تنطبق على الشأن، وقد تنطبق على الغرض.... وهكذا.
الدليل على ما ذكرناه أمران:
أحدهما: أن لفظ " الأمر " بمعناه الأول قابل للتصريف والاشتقاق، فتشتق
منه الهيئات والأوزان المختلفة: كهيئة الماضي، والمضارع، والفاعل، والمفعول،
وما شاكلها، وهذا بخلاف الأمر بمعناه الثاني حيث إنه جامد فلا يكون قابلا
لذلك.
وثانيهما: أن الأمر بمعناه الأول يجمع على أوامر، وبمعناه الثاني يجمع على
أمور، ومن الطبيعي أن اختلافهما في ذلك شاهد صدق على اختلافهما في المعنى.
وعلى ضوء هذا قد اتضح فساد كلا القولين السابقين: " الاشتراك اللفظي "
" الاشتراك المعنوي ".
أما الأول: فقد عرفت أن جميع المعاني المشار إليها آنفا ليست من معاني
الأمر على سبيل الاشتراك اللفظي، كيف؟ فإن استعماله فيها غير معلوم لو لم يكن
معلوم العدم، فضلا عن كونه موضوعا بإزائها، ومن هنا لا يكون المتبادر منه عند
الإطلاق وعدم نصب قرينة على إرادة الخلاف إلا أحد المعنيين السابقين لا غير.
وأما الثاني: فلعدم تصور جامع ماهوي بينها ليكون موضوعا له.
فالنتيجة: أنه موضوع بإزاء المعنيين الماضيين على نحو الاشتراك اللفظي:
" الحصة الخاصة من الطلب " " الحصة الخاصة من مفهوم الشئ "، وهي ما يتقوم
بالشخص في قبال الجواهر وبعض أقسام الأعراض، ولأجل ذلك لا يصح أن
يقال: " رأيت أمرا عجيبا " إذا رأى فرسا عجيبا أو إنسانا كذلك، ولكن يصح أن
يقال: " رأيت شيئا عجيبا " إذا رأى فرسا أو إنسانا كذلك.
والسبب في هذا ظاهر، وهو: أن الشئ بمفهومه العام ينطبق على الأفعال
6

والأعيان والصفات بشتى ألوانها وأشكالها، ولذلك قالوا: إنه عرض عام لجميع
الأشياء.
وعلى أثر هذا البيان يظهر نقد ما أفاده شيخنا المحقق (قدس سره): من أن الأمر وضع
لمعنى جامع وحداني على نحو الاشتراك المعنوي، وهو الجامع بين ما يصح أن
يتعلق الطلب به تكوينا، وما يتعلق الطلب به تشريعا مع عدم ملاحظة شئ من
الخصوصيتين في المعنى الموضوع له، والأصل فيه أن يجمع على أوامر (1).
وجه الظهور ما عرفت: من أنه لا جامع ذاتي بين المعنى الحدثي والمعنى
الجامد ليكون الأمر موضوعا بإزائه. وأما الجامع الانتزاعي فهو وإن كان أمرا
ممكنا وقابلا للتصوير إلا أنه لم يوضع بإزائه يقينا، على أنه خلاف مفروض
كلامه (قدس سره).
وأما الوضع العام والموضوع له الخاص يرده - مضافا إلى ذلك - ما حققناه في
مبحث الصحيح والأعم: من أن نتيجة الوضع العام والموضوع له الخاص كنتيجة
الاشتراك اللفظي، فلاحظ. هذا من ناحية (2).
ومن ناحية أخرى: أن اختلاف لفظ " الأمر " في الجمع قرينة قطعية على
اختلافه في المعنى، ضرورة أن معناه لو كان واحدا لن يعقل اختلافه في الجمع.
هذا على ما بيناه في الدورات السابقة.
ولكن الصحيح في المقام أن يقال: إن مادة الأمر لم توضع للدلالة على حصة
خاصة من الطلب وهي الحصة المتعلقة بفعل الغير، بل وضعت للدلالة على إبراز
الأمر الاعتباري النفساني في الخارج.
والسبب في ذلك: ما حققناه في بحث الإنشاء: من أنه عبارة عن اعتبار الأمر
النفساني وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكله. هذا من ناحية (3).

(1) هو المحقق الأصفهاني (قدس سره) انظر نهاية الدراية: ج 1 ص 146 - 147.
(2) تقدم في الجزء الأول من هذا الكتاب: ص 168 فراجع.
(3) تقدم في ج 1 ص 99 كذلك.
7

ومن ناحية أخرى: ما ذكرناه في بحث الوضع: من أنه عبارة عن التعهد
والالتزام النفساني (1).
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي وضع مادة الأمر أو ما شاكلها
بطبيعة الحال لما ذكرناه، أي: للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني، لا
للطلب والتصدي، ولا للبعث والتحريك. نعم، إنها كصيغتها مصداق للطلب
والتصدي والبعث والتحريك، لا أنها معناها.
وبكلمة أخرى: أننا إذا حللنا الأمر المتعلق بشئ تحليلا موضوعيا فلا نعقل
فيه سوى شيئين:
أحدهما: اعتبار المولى ذلك الشئ في ذمة المكلف من جهة اشتماله على
مصلحة داعية إلى ذلك.
وثانيهما: إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز كمادة الأمر أو
نحوها، فالمادة أو ما شاكلها وضعت للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري
النفساني، لا للطلب، ولا للبعث والتحريك.
نعم، قد عرفت أن المادة أو ما شاكلها مصداق للطلب والبعث، ونحو تصد إلى
الفعل، فإن الطلب والبعث قد يكونان خارجيين، وقد يكونان اعتباريين، فمادة
الأمر أو ما شابهها مصداق للطلب والبعث الاعتباري، لا الخارجي، لوضوح أنها
تصد في اعتبار المولى إلى إيجاد المادة في الخارج، وبعث نحوه، لا تكوينا
وخارجا كما هو ظاهر.
ونتيجة ما ذكرناه أمران:
الأول: أن مادة الأمر أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر
الاعتباري النفساني في الخارج، وهو اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف، ولا
تدل على أمر آخر ما عدا ذلك.
الثاني: أنها مصداق للطلب والبعث، لا أنهما معناها.

(1) تقدم في ج 1 ص 52 أيضا فراجع.
8

إلى هنا قد تبين: أن القول بالاشتراك اللفظي بين جميع المعاني المتقدمة باطل
لا واقع موضوعي له، وكذلك القول بالاشتراك المعنوي، فالصحيح: هو القول
بالاشتراك اللفظي بين المعنيين المتقدمين.
ثم لا يخفى أنه لا ثمرة عملية لذلك البحث أصلا، والسبب فيه: أن الثمرة هنا
ترتكز على ما إذا لم يكن المراد الاستعمالي من الأوامر الواردة في الكتاب
والسنة معلوما، وحيث إن المراد الاستعمالي منها معلوم فإذا لا أثر له.
المعنى الاصطلاحي للأمر
حكى المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) أن الأمر قد نقل عن معناه الأصلي إلى
القول المخصوص، وهو هيئة " إفعل " (1).
ويرد عليه: أنه إن كان هذا مجرد اصطلاح فلا مشاحة فيه، وإلا فلا وجه له
أصلا، وذلك لأن الظاهر أن الاشتقاق منه بحسب معناه الاصطلاحي، وعليه فلو
كان معناه الاصطلاحي القول المخصوص لم يمكن الاشتقاق منه، لأنه جامد،
ومن الطبيعي أن مبدأ المشتقات لابد أن يكون معنى حدثيا قابلا للتصريف
والتغيير. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن يكون المبدأ خاليا عن جميع الخصوصيات ليقبل كل
خصوصية ترد عليه.
ومن ثمة قلنا في بحث المشتق: إن المصدر لا يصلح أن يكون مبدأ له، لعدم
توفر الشرط الأساسي للمبدأ فيه، وهو خلوه عن جميع الأشكال والصور المعنوية
واللفظية حتى يقبل أية صورة ترد عليه، نظير الهيولي في الأجسام حيث إنها
فاقدة لكل صورة افترضت، ولذا تقبل كل صورة ترد عليها بشتى أنواعها
وأشكالها، وبطبيعة الحال أنها لو لم تكن فاقدة لها فلا تقبل صورة أخرى، لوضوح
إباء كل صورة عن صورة أخرى، وكل فعلية عن فعلية ثانية (2).

(1) راجع كفاية الأصول: ص 82.
(2) تقدم في ج 1 ص 311 فراجع.
9

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أن القول المخصوص لا يصلح أن
يكون مبدأ للمشتقات وأن يجعله شقة شقة، لاستحالة تصريفه، وورود هيئة أخرى
عليه، فيكون نظير: الجملة، والمفرد، والكلمة، والكلام، وما شاكل ذلك مما هو اسم
لنفس اللفظ، فإنها غير قابلة لأن تشتق منها المشتقات، لعدم توفر الركيزتين
الأساسيتين للمبدأ فيها " المعنى الحدثي " " الخلو من الخصوصيات ".
نعم، التلفظ بالقول المخصوص قابل لأن تشتق منه المشتقات، وترد عليه
الهيئات والصور، وذلك لأن التلفظ: إن لوحظ بنفسه مع عدم ملاحظة شئ معه من
الخصوصيات الخارجة عن حدود ذاته فهو مبدأ. وإن لوحظ قائما بغيره
- فحسب - فهو مصدر. وإن لوحظ زائدا على هذا وذاك وجوده وتحققه في
الخارج قبل زمان التكلم فهو ماض، وفي زمانه وما بعده فمضارع...، وهكذا.
ولكن من المعلوم أنه لا صلة لذلك بما ذكرناه أصلا.
ولكن لشيخنا المحقق (قدس سره) في هذا الموضوع كلام، وهو: أن الأمر بهذا المعنى
أيضا قابل للاشتقاق والتصريف، وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك نصه: (وإن كان
وجه الإشكال ما هو المعروف من عدم كونه معنى حدثيا ففيه: أن لفظ " إضرب "
صنف من أصناف طبيعة الكيف المسموع، وهو من الأعراض القائمة بالمتلفظ به،
فقد يلاحظ نفسه من دون لحاظ قيامه وصدوره عن الغير فهو المبدأ الحقيقي
الساري في جميع مراتب الاشتقاق. وقد يلاحظ قيامه فقط فهو المعنى المصدري
المشتمل على نسبة ناقصة. وقد يلاحظ قيامه وصدوره في الحال أو الاستقبال فهو
المعنى المضارعي...، وهكذا، فليس هيئة " إضرب " كالأعيان الخارجية والأمور
غير القائمة بشئ حتى لا يمكن لحاظ قيامه فقط، أو في أحد الأزمنة، وعليه
فالأمر موضوع لنفس الصيغة الدالة على الطلب مثلا، أو للصيغة القائمة بالشخص.
و " أمر " موضوع للصيغة الملحوظة من حيث الصدور في المضي، و " يأمر "
موضوع الصيغة الملحوظة من حيث الصدور في الحال أو الاستقبال) (1).
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره)، وحاصله: أن ما ذكره في إطاره وإن كان في

(1) نهاية الدراية: ج 1 ص 148.
10

غاية الصحة والمتانة إلا أنه لا صلة له بما ذكرناه، والسبب في ذلك: أن لكل لفظ
حيثيتين موضوعيتين:
الأولى: حيثية صدوره من اللافظ خارجا وقيامه به، كصدور غيره من
الأفعال كذلك.
الثانية: حيثية تحققه ووجوده في الخارج، فاللفظ من الحيثية الأولى وإن كان
قابلا للتصريف والاشتقاق إلا أن لفظ " الأمر " لم يوضع بإزاء القول المخصوص
من هذه الحيثية، وإلا لم يكن مجال لتوهم عدم إمكان الاشتقاق والصرف منه، بل
هو موضوع بإزائه من الحيثية الثانية، ومن الطبيعي أنه بهذه الحيثية غير قابل
لذلك كما عرفت (1). فما أفاده (قدس سره) مبني على الخلط بين هاتين الحيثيتين.
الجهة الثانية: هل أن العلو معتبر في معنى الأمر أم لا؟ الظاهر اعتباره، إذ لا
يصدق الأمر عرفا على الطلب الصادر من غير العالي وإن كان بنحو الاستعلاء
وإظهار العلو.
وعلى الجملة: فصدوره من العالي منشأ لانتزاع عنوان الأمر والبعث
والتحريك والتكليف وما شاكل ذلك، دون صدوره عن غيره، بل ربما يوجب
توبيخه باستعماله الأمر.
ويدلنا على ذلك - مضافا إلى مطابقة هذا للوجدان - صحة سلب الأمر عن
الطلب الصادر من غير العالي، بل يستحق التوبيخ عليه بقوله: أتأمر الأمير؟ مثلا.
ومن المعلوم أن التوبيخ لا يكون على أمره بعد استعلائه، وإنما يكون على
استعلائه واستعماله الأمر.
الجهة الثالثة: لا إشكال في تبادر الوجوب عرفا من لفظ " الأمر " عند
الإطلاق، وإنما الإشكال والكلام في منشأ هذا التبادر هل هو وضعه للدلالة
عليه، أو الإطلاق ومقدمات الحكمة، أو حكم العقل به؟ وجوه، بل أقوال:
المعروف والمشهور بين الأصحاب قديما وحديثا: هو القول الأول (2).

(1) تقدم ذكره في ص 9 فراجع.
(2) انظر قوانين الأصول: ج 1 ص 83، ومفاتيح الأصول: ص 110 - 111 أآلهتنا 20.
11

واختار جماعة القول الثاني (1)، ولكن الصحيح هو الثالث. فلنا دعويان:
الأولى: بطلان القول الأول والثاني.
الثانية: صحة القول الثالث.
أما الدعوى الأولى: فإنها تبتنى على ركيزتين:
إحداهما: ما حققناه في بحث الوضع: من أنه عبارة عن التعهد والالتزام
النفساني (2).
وثانيتهما: ما حققناه في بحث الإنشاء: من أنه عبارة عن اعتبار الأمر
النفساني وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكله (3).
وعلى ضوء هاتين الركيزتين يظهر: أن مادة الأمر وضعت للدلالة على إبراز
الأمر الاعتباري النفساني في الخارج، فلا تدل على الوجوب، لا وضعا ولا إطلاقا.
أما الأول: فظاهر. وأما الثاني: فإنه يرتكز على كونها موضوعة للجامع بين
الوجوب والندب، ليكون إطلاقها معينا للوجوب دون الندب، باعتبار أن بيان
الندب يحتاج إلى مؤنة زائدة والإطلاق غير واف به. ولكن قد عرفت أنها كما
لم توضع لخصوص الوجوب أو الندب كذلك لم توضع للجامع بينهما، بل وضعت
لما ذكرناه.
هذا، مضافا إلى عدم الفرق بين الوجوب والندب من هذه الناحية، وإذن فلا
يكون الإطلاق معينا للأول دون الثاني، فحاله حال الوجوب من هذه الناحية من
دون فرق بينهما أصلا.
وأما الدعوى الثانية: فلأن العقل يدرك - بمقتضى قضية العبودية والرقية -
لزوم الخروج عن عهدة ما أمر به المولى ما لم ينصب قرينة على الترخيص في
تركه، فلو أمر بشئ ولم ينصب قرينة على جواز تركه فهو يحكم بوجوب إتيانه

(1) منهم: المحقق الأصفهاني في الفصول الغروية: ص 64 أآلهتنا 31، والمحقق العراقي في نهاية
الأفكار: ج 1 ص 162.
(2) تقدم في ج 1 ص 52 من هذا الكتاب فراجع.
(3) تقدم كذلك في ج 1 ص 99.
12

في الخارج قضاء لحق العبودية، وأداء لوظيفة المولوية، وتحصيلا للأمن من
العقوبة، ولا نعني بالوجوب إلا إدراك العقل لأبدية الخروج عن عهدته فيما إذا لم
يحرز من الداخل أو من الخارج ما يدل على جواز تركه.
الجهة الرابعة: في الطلب والإرادة. قد سبق منا في الجهة الثالثة: أن الأمر
موضوع للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج، فلا يدل على
شئ ما عداه. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: تعرض المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في المقام للبحث عن
جهة أخرى، وهي: أن الطلب هل يتحد مع الإرادة أو لا؟ فيه وجوه وأقوال، قد
اختار (قدس سره) القول بالاتحاد، واليك نص مقولته:
(فاعلم: أن الحق كما عليه أهله - وفاقا للمعتزلة، وخلافا للأشاعرة - هو
اتحاد الطلب والإرادة، بمعنى: أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد، وما بإزاء
أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة
الإنشائية. وبالجملة: هما متحدان مفهوما وإنشاء وخارجا، لا أن الطلب الإنشائي
الذي هو المنصرف إليه إطلاقه - كما عرفت - متحد مع الإرادة الحقيقية التي ينصرف
إليها إطلاقها أيضا، ضرورة أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس.
فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد ففي مراجعة الوجدان عند طلب
شئ والأمر به حقيقة كفاية، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان، فإن الإنسان
لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب غيرها،
سوى ما هو مقدمة تحققها عند خطور الشئ، والميل، وهيجان الرغبة إليه، والتصديق
لفائدته، والجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لأجلها. وبالجملة: لا يكاد يكون
غير الصفات المعروفة والإرادة هناك صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب، فلا
محيص إلا عن اتحاد الإرادة والطلب، وأن يكون ذاك الشوق المؤكد المستتبع
لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة، أو المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده،
لا كذلك مسمى بالطلب والإرادة كما يعبر به تارة، وبها أخرى كما لا يخفى) (1).

(1) كفاية الأصول: ص 85.
13

ما أفاده (قدس سره) يحتوي على عدة نقاط:
1 - اتحاد الإرادة الحقيقية مع الطلب الحقيقي.
2 - اتحاد الإرادة الإنشائية مع الطلب الإنشائي.
3 - مغايرة الطلب الإنشائي للطلب الحقيقي، والإرادة الإنشائية للإرادة
الحقيقية.
ولم يبرهن (قدس سره) على هذه النقاط، بل أحالها إلى الوجدان.
ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط:
أما الأولى: فهي خاطئة جدا، والسبب في ذلك: أن الإرادة بواقعها
الموضوعي من الصفات النفسانية، ومن مقولة الكيف القائم بالأنفس. وأما الطلب
فقد سبق أنه من الأفعال الاختيارية الصادرة عن الإنسان بالإرادة والاختيار،
حيث إنه عبارة عن التصدي نحو تحصيل شئ في الخارج. ومن هنا لا يقال:
طالب الضالة أو: طالب العلم إلا لمن تصدى خارجا لتحصيلهما، وأما من اشتاق
إليهما - فحسب - وأراد فلا يصدق عليه ذلك، ولذا لا يقال: طالب المال أو: طالب
الدنيا لمن اشتاق وأرادهما في أفق النفس، ما لم يظهر في الخارج بقول أو فعل (1).
وبكلمة أخرى: أن الطلب عنوان للفعل، سواء أكان الفعل نفسانيا أم خارجيا،
فلا يصدق على مجرد الشوق والإرادة النفسانية، ويظهر ذلك بوضوح من مثل
قولنا: طلبت زيدا فما وجدته، أو: طلبت من فلان كتابا - مثلا - فلم يعطني...،
وهكذا، ضرورة أن الطلب في أمثال ذلك عنوان للفعل الخارجي، وليس إخبارا
عن الإرادة والشوق النفساني فحسب، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الطلب
متعلقا بفعل نفس الإنسان أو عنوانا له كطالب الضالة وطالب العلم وما شاكلهما،
وأن يكون متعلقا بفعل غيره، وعلى كلا التقديرين فلا يصدق على مجرد الإرادة.
وقد تحصل من ذلك: أن الطلب مباين للإرادة مفهوما ومصداقا، فما أفاده (قدس سره)
من أن الوجدان يشهد باتحادها خطأ جدا.

(1) تقدم في ص 5 فراجع.
14

وأما النقطة الثانية: فقد ظهر نقدها مما أوردناه على النقطة الأولى، وذلك لما
عرفت من أن الطلب عنوان للفعل الخارجي أو الذهني، وليس منشأ بمادة الأمر،
أو بصيغتها، أو ما شاكلها. فإذا لا موضوع لما أفاده (قدس سره): من أن الطلب الإنشائي
عين الإرادة الانشائية.
ومن هنا يظهر حال النقطة الثالثة، فإنها إنما تتم إذا كانت متوفرة لأمرين:
الأول: القول بأن الطلب منشأ بالصيغة، أو نحوها.
الثاني: القول بالإرادة الإنشائية في مقابل الإرادة الحقيقية، ولكن كلا القولين
خاطئ جدا.
وأما النقطة الرابعة: (1) فالأمر وإن كان كما أفاده (قدس سره) إلا أن عدم تحقق الطلب
حقيقة ليس بملاك عدم تحقق الإرادة كذلك في أمثال الموارد، بل بملاك ما عرفت
من أن الطلب عنوان لمبرز الإرادة ومظهرها من قول أو فعل، وحيث لا إرادة هاهنا
فلا مظهر لها حتى يتصف بعنوان الطلب.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر فساد ما قيل: من أن الطلب والإرادة متباينان
مفهوما ومتحدان مصداقا وخارجا (2)، ووجه الظهور ما عرفت من تباينهما مفهوما
ومصداقا، فلا يمكن صدقهما في الخارج على شئ واحد كما مر بشكل واضح.
ثم لا يخفى أن غرض صاحب الكفاية (قدس سره) من هذه المحاولة نفي الكلام
النفسي الذي يقول به الأشاعرة، بتخيل أن القول بتغاير الطلب والإرادة يستلزم
القول بثبوت صفة أخرى غير الصفات المعروفة المشهورة، وبطبيعة الحال أن مرد
ذلك هو التصديق بما يقوله الأشاعرة من الكلام النفسي.
ولكن قد عرفت أن هذه المحاولة غير ناجحة. هذا من ناحية. ومن ناحية
أخرى: أنا سنذكر بعد قليل: أن نفي الكلام النفسي لا يرتكز على القول باتحاد
الطلب والإرادة، حيث إنا نقول بتغايرهما، فمع ذلك نبرهن بصورة قاطعة بطلان
محاولة الأشاعرة لإثبات أن كلامه تعالى نفسي لا لفظي (3).

(1) كذا، ولكن النقاط المشار إليها إجمالا فيما سبق ثلاث نقاط، فلاحظ.
(2) انظر درر الفوائد: ج 1 ص 41.
(3) سيأتي في ص 18 وما بعدها فلاحظ.
15

بحث ونقد حول عدة نقاط
الأولى: نظرية الأشاعرة: الكلام النفسي، ونقدها.
الثانية: نظرية الفلاسفة: إرادته تعالى من الصفات الذاتية، ونقدها.
الثالثة: نظرية الأشاعرة: مسألة الجبر، ونقدها.
الرابعة: نظرية المعتزلة: مسألة التفويض، ونقدها.
الخامسة: نظرية الإمامية: مسألة الأمر بين الأمرين.
السادسة: نظرية العلماء: مسألة العقاب.
(1)
نظرية الأشاعرة
" الكلام النفسي " ونقدها
ذهب الأشاعرة إلى أن كلامه تعالى من الصفات الذاتية العليا، وهو قائم بذاته
الواجبة، قديم كبقية صفاته العليا: من العلم، والقدرة، والحياة، وليس من صفاته
الفعلية: كالخلق، والرزق، والرحمة، وما شاكلها. ولأجل ذلك قد اضطروا إلى
الالتزام بأن كلامه تعالى نفسي ما وراء الكلام اللفظي، وهو قديم قائم بذاته تعالى،
فإن الكلام اللفظي حادث فلا يعقل قدمه، وقد صرحوا به في ضمن محاولتهم
واستدلالهم على الكلام النفسي، وإليكم نص مقولتهم:
16

(وهذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره نحن، بل نقوله ونسميه كلاما لفظيا،
ونعترف بحدوثه، وعدم قيامه بذاته تعالى، ولكنا نثبت أمرا وراء ذلك، وهو المعنى
القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ، ونقول: هو الكلام حقيقة، وهو قديم قائم
بذاته تعالى، ونزعم أنه غير العبارات، إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة
والأقوام، ولا يختلف ذلك المعنى النفسي، بل نقول: ليس ينحصر الدلالة عليه في
الألفاظ، إذ قد يدل عليه بالإشارة والكتابة، كما يدل عليه بالعبارة. والطلب الذي
هو معنى قائم بالنفس واحد لا يتغير مع تغير العبارات، ولا يختلف باختلاف
الدلالات، وغير المتغير، أي: ما ليس متغيرا - وهو المعنى - مغاير للمتغير الذي هو
العبارات. ونزعم أنه - أي: المعنى النفسي الذي هو الخبر - غير العلم، إذ قد يخبر
الرجل عما لا يعلمه، بل يعلم خلافه أو يشك فيه، وأن المعنى النفسي الذي هو
الأمر غير الإرادة، لأنه يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا؟
فإن مقصوده مجرد الاختبار دون الإتيان بالمأمور به، وكالمتعذر من ضرب عبده
بعصيانه فإنه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به، ليظهر عذره عند من
يلومه. واعترض عليه بأن الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر، لا حقيقته،
إذ لا طلب فيهما أصلا، كما لا إرادة قطعا، فإذا هو - أي: المعنى النفسي الذي يعبر
عنه بصيغة الخبر والأمر - صفة ثالثة مغايرة للعلم والإرادة، قائمة بالنفس، ثم نزعم
أنه قديم، لا امتناع قيام الحوادث بذاته تعالى) (1).
ومن الغريب جدا ما نسب إلى الحنابلة في شرح المواقف (2)، وهذا نصه: (قال
الحنابلة: كلامه حرف وصوت يقومان بذاته تعالى، وإنه قديم، وقد بالغوا فيه
حتى قال بعض جهلا: الجلد والغلاف قديمان فضلا عن المصحف) (3).
يتضمن هذا النص عدة خطوط:
1 - إن لله تعالى سنخين من الكلام: النفسي واللفظي، والأول من صفاته
تعالى، وهو قديم قائم بذاته الواجبة دون الثاني.

(1) شرح المواقف: المقصد السابع ج 8 ص 95 ط منشورات الرضي.
(2) الموقف الخامس من الإلهيات: ص 76.
(3) شرح المواقف: المقصد السابع ج 8 ص 92.
17

2 - إن الكلام النفسي عبارة عن المعنى القائم بالنفس، ويبرزه في الخارج
بالألفاظ والعبارات بشتى ألوانها وأشكالها، ولا يختلف ذلك المعنى باختلافها،
كما لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.
3 - إنهم عبروا عن ذلك المعنى تارة بالطلب، واخرى بالأمر، وثالثة بالخبر،
ورابعة بصيغة الخبر.
4 - إن هذا المعنى غير العلم، إذ قد يخبر الإنسان عما لا يعلمه، أو يعلم خلافه.
وغير الإرادة، إذ قد يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده فإن مقصوده
الامتحان والاختبار والإتيان بالمأمور به في الخارج.
ولنأخذ بالنقد على هذه الخطوط جميعا:
أما الأول: فسنبينه بشكل واضح في وقت قريب إن شاء الله تعالى: أن كلامه
منحصر بالكلام اللفظي، وأن القرآن المنزل على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو كلامه تعالى
بتمام سوره وآياته وكلماته، لا أنه حاك عن كلامه، لوضوح أن ما يحكي القرآن
عنه ليس من سنخ الكلام كما سيأتي بيانه. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن السبب الذي دعا الأشاعرة إلى الالتزام بالكلام النفسي
هو تخيل أن التكلم من صفاته الذاتية، ولكن هذا الخيال خاطئ جدا، وذلك لما
سيجئ (1) - إن شاء الله تعالى - بصورة واضحة: أن التكلم ليس من الصفات
الذاتية، بل هو من الصفات الفعلية.
وأما الثاني: فيتوقف نقده على تحقيق حال الجمل الخبرية والإنشائية.
أما الأولى: فقد حققنا في بحث الإنشاء والإخبار: أن الجمل الخبرية
موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والإخبار عن الثبوت، أو النفي في
الواقع. هذا بناء على نظريتنا (2).
وأما بناء على نظرية المشهور فلأنها موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة في
الواقع، أو نفيها عنه. ومن الطبيعي أن مدلولها على ضوء كلتا النظريتين ليس من

(1) سيأتي في ص 23 - 24 فلاحظ.
(2) تقدم في ج 1 ص 96 فراجع.
18

سنخ الكلام ليقال: إنه كلام نفسي، ضرورة أن الكلام النفسي عند القائلين به وإن
كان موجودا نفسانيا إلا أن كل موجود نفساني ليس بكلام نفسي، بل لابد أن
يكون سنخ وجوده سنخ وجود الكلام، لفرض أنه ليس من سنخ وجود الصفات
المعروفة الموجودة في النفس. ومن المعلوم أن قصد الحكاية على رأينا وثبوت
النسبة على رأي المشهور ليس من ذلك.
وبكلمة واضحة: إذا حللنا الجمل الخبرية تحليلا موضوعيا وفحصنا مداليلها
في اطاراتها الخاصة فلا نجد فيها سوى عدة أمور:
الأول: تصور معاني مفرداتها بموادها وهيئاتها.
الثاني: تصور معاني هيئاتها التركيبية.
الثالث: تصور مفردات الجملة.
الرابع: تصور هيئاتها.
الخامس: تصور مجموع الجملة.
السادس: تصور معنى الجملة.
السابع: التصديق بمطابقتها للواقع، أو بعدم مطابقتها له.
الثامن: إرادة إيجادها في الخارج.
التاسع: الشك في ذلك.
وبعد ذلك نقول: إن شيئا من هذه الأمور ليس من سنخ الكلام النفسي عند
القائلين به.
أما الأول: فواضح، إذ الكلام النفسي عند القائلين به ليس من سنخ المعنى
أولا على ما سيأتي بيانه (1). وليس من سنخ المعنى المفرد ثانيا.
وأما الثاني: فلأن الكلام النفسي - كما ذكروه - صفة قائمة بالنفس كسائر
الصفات النفسانية، ومن الطبيعي أن المعنى ليس كذلك فإنه مع قطع النظر عن

(1) سيأتي تفصيله في البحث التالي، فانتظر.
19

وجوده وتحققه في الذهن ليس قائما بها، ومع لحاظ وجوده وتحققه فيه وإن كان
قائما بها إلا أنه بهذا اللحاظ علم وليس بكلام نفسي على الفرض.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر حال جميع الأمور الباقية، فإن الثالث، والرابع،
والخامس، والسادس، والتاسع من مقولة العلم التصوري، والسابع من مقولة العلم
التصديقي، والثامن من مقولة الإرادة.
فالنتيجة: أن الكلام النفسي بهذا الإطار الخاص عند القائلين به غير متصور
في موارد الجمل الخبرية، وحينئذ فلا يخرج عن مجرد افتراض ولقلقة لسان بلا
واقع موضوعي له.
وأما الجمل الإنشائية: فقد سبق الكلام فيها بشكل مفصل، وقلنا هناك: إن
نظريتنا فيها تختلف عن نظرية المشهور، حيث إن المشهور قد فسروا الإنشاء
بإيجاد المعنى باللفظ.
ولكن قد حققنا هناك: أنا لا نعقل لذلك معنى صحيحا معقولا، والسبب في
ذلك: هو أنهم لو أرادوا بالإيجاد الإيجاد التكويني كإيجاد الجوهر والعرض
فبطلانه من البديهيات التي لا تقبل الشك، ضرورة أن الموجودات الخارجية
- بشتى أشكالها وأنواعها - ليست مما توجد بالألفاظ. كيف والألفاظ ليست واقعة
في سلسلة عللها وأسبابها كي توجد بها؟
وإن أرادوا به الإيجاد الاعتباري كإيجاد الوجوب والحرمة أو الملكية
والزوجية وغير ذلك فيرده: أنه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفساني من دون
حاجة إلى اللفظ والتكلم به، ضرورة أن اللفظ في الجملة الإنشائية لا يكون علة
لإيجاد الأمر الاعتباري، ولا واقعا في سلسلة علته، لوضوح أنه يتحقق بنفس
اعتبار المعتبر في أفق النفس، سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن (1).
ودعوى: أن مرادهم بذلك الإيجاد التنزيلي ببيان أن وجود اللفظ في الخارج

(1) قد تقدم في ج 1 ص 99 فراجع.
20

وجود للمعنى فيه تنزيلا - ومن هنا يسري إليه قبح المعنى وحسنه، وعلى هذا صح
أن يفسروا الإنشاء بإيجاد المعنى - خاطئة جدا، وذلك لأن تمامية هذه الدعوى
ترتكز على نظرية من يرى كون الوضع عبارة عن الهوهوية، وجعل وجود اللفظ
وجودا تنزيليا للمعنى، ولكن قد ذكرنا في محله: أن هذه النظرية باطلة، وقلنا
هناك: إن حقيقة الوضع عبارة عن التعهد والالتزام النفساني (1)، وعليه فلا اتحاد
بينهما، لا حقيقة وواقعا، ولا عناية ومجازا ليكون وجود اللفظ وجودا تنزيليا له.
وأما مسألة سراية القبح والحسن فهي لا ترتكز على النظرية المزبورة، بل هي
من ناحية كون اللفظ كاشفا عنه ودالا عليه، ومن الطبيعي أنه يكفي لذلك وجود
العلاقة الكاشفية بينهما، ولا فرق في وجود هذه العلاقة بين نظرية دون أخرى في
مسألة الوضع.
وبعد ذلك نقول: إن مدلول الجمل الإنشائية على كلتا النظريتين ليس من سنخ
الكلام النفسي عند القائلين به.
أما على نظرية المشهور فواضح، لما عرفت من أن الكلام النفسي عندهم: عبارة
عن صفة قائمة بالنفس في مقابل سائر الصفات النفسانية، وقديم كغيرها من الصفات
الأزلية (2). وبطبيعة الحال أن إيجاد المعنى باللفظ فاقد لهاتين الركيزتين معا.
أما الركيزة الأولى فلأنه ليس من الأمور النفسانية ليكون قائما بها.
وأما الثانية فلفرض أنه حادث بحدوث اللفظ، وليس بقديم.
وأما على نظريتنا فأيضا الأمر كذلك، فإن إبراز الأمر الاعتباري ليس من
الأمور النفسانية أيضا.
فالنتيجة لحد الآن: أنه لا يعقل في موارد الجمل الخبرية والإنشائية ما يصلح
أن يكون من سنخ الكلام النفسي، ومن هنا قلنا: إنه لا يخرج عن مجرد وهم
وخيال، فلا واقع موضوعي له.

(1) تقدم في ج 1 ص 47 - 51 فراجع.
(2) مر ذكره في ص 14 - 17 فراجع.
21

ثم إنه قد يتوهم أن صورة الكلام اللفظي المتمثلة في أفق النفس هي كلام
نفسي، ولكن هذا التوهم خاطئ، لسببين:
الأول: أن هذه الصورة وإن كانت موجودة في أفق النفس ومتمثلة فيه إلا أنها
ليست بكلام نفسي، ضرورة أن الكلام النفسي عند القائلين به مدلول للكلام
اللفظي، والمفروض أن تلك الصورة بهذا الإطار الخاص ليست كذلك، لما
عرفت (1) من أن مدلول الكلام سواء أكان إخباريا أم إنشائيا أجنبي عنها. أضف
إلى ذلك ما ذكرناه (2) في محله: من أن الموجود بما هو موجود لا يعقل أن يكون
مدلولا للفظ، من دون فرق في ذلك بين الموجود الخارجي والذهني، فإذا لا
يمكن أن تكون تلك الصورة مدلولا له لتكون كلاما نفسيا، على أنها لا تختص
بخصوص الكلام الصادر عن المتكلم بالاختيار، بل تعم جميع الأفعال الاختيارية
بشتى أنواعها وأشكالها، حيث إن صورة كل فعل اختياري متمثلة في أفق النفس
قبل وجوده الخارجي.
الثاني: أن هذه الصورة نوع من العلم والتصور، وهو التصور الساذج، وقد
تقدم أن الكلام النفسي عندهم صفة أخرى في مقابل صفة العلم والإرادة
ونحوهما (3).
وقد تخيل بعضهم أن الكلام النفسي: عبارة عن الطلب المدلول عليه بصيغة
الأمر، ولكن هذا الخيال فاسد جدا، والسبب في ذلك: ما حققناه سابقا من أن
الطلب وإن كان غير الإرادة مفهوما ومصداقا إلا أنه ليس بكلام نفسي، لما
عرفت (4) من أنه عبارة عن التصدي نحو المقصود خارجا، وهو من الأفعال
الخارجية، وليس من المفاهيم اللفظية في شئ حتى يدعى أنه كلام نفسي، ومن
هنا قلنا: إن الصيغة مصداق للطلب، لا أنها وضعت بإزائه.
فالنتيجة على ضوء هذا البيان أمران:

(1) تقدم في ص 17 فراجع.
(2) قد تقدم في ج 1 ص 60 فراجع.
(3) راجع ص 17 من هذا الكتاب.
(4) تقدم في ص 7 - 8 فراجع.
22

الأول: فساد توهم كون الطلب منشأ بالصيغة أو ما شاكلها.
الثاني: أن الأشاعرة قد أخطأوا هنا في نقطة وأصابوا في نقطة أخرى.
أما النقطة الخاطئة: فهي أنهم جعلوا الطلب من الصفات النفسانية، وقد
عرفت خطأ ذلك.
وأما النقطة الثانية: فهي أنهم جعلوا الطلب مغايرا للإرادة ذاتا وعينا، وقد
سبق صحة ذلك.
وأما الثالث: فنفس اختلاف كلماتهم في تفسيره - يعني: مرة بالطلب، واخرى
بالخبر، وثالثة بالأمر، ورابعة بصيغة الأمر - شاهد صدق على أنهم أيضا لم
يتصوروا له معنى محصلا، إلا أن يقال: إن ذلك منهم مجرد اختلاف في التعبير
واللفظ والمقصود واحد، ولكن ننقل الكلام إلى ذلك المقصود الواحد، وقد عرفت
أنه لا واقع موضوعي له أصلا، ولا يخرج عن حد الفرض والخيال.
وأما الرابع: فقد ظهر جوابه مما ذكرناه بصورة مفصلة: من أنه ليس في
الجمل الخبرية والإنشائية شئ يصلح أن يكون كلاما نفسيا (1).
وقد استدل على الكلام النفسي بعدة وجوه أخر:
الأول: أن الله تعالى قد وصف نفسه بالتكلم في الكتاب الكريم بقوله: * (وكلم
الله موسى تكليما) * (2). ومن المعلوم أن التكلم صفة له: كالعلم والقدرة والحياة وما
شاكلها. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن صفاته تعالى قديمة قائمة بذاته ولا يمكن أن تكون
حادثة، لاستحالة قيام الحادث بذاته تعالى كقيام الحال بالمحل، والصفة
بالموصوف. نعم، يجوز قيام الحادث بها كقيام الفعل بالفاعل.
ومن ناحية ثالثة: أن الكلام اللفظي حيث إنه مؤلف من حروف وأجزاء
متدرجة متصرمة في الوجود لا يعقل أن يكون قديما، وعليه فلا يمكن أن يكون

(1) راجع ص 19 وما بعدها.
(2) النساء: 164.
23

المراد من الكلام في الآية الكريمة الكلام اللفظي، ضرورة استحالة كون ذاته
المقدسة محلا للحادث.
ومن ناحية رابعة: أن الكلام النفسي حيث إنه ليس من مقولة الألفاظ فلا
يلزم من قيامه بذاته تعالى قيام الحادث بالقديم.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي أن كلامه تعالى نفسي لا لفظي.
ولنأخذ بالنقد على هذا الدليل: أن صفاته تعالى على نوعين:
الأول: الصفات الذاتية: كالعلم، والقدرة، والحياة، وما يؤول إليها، فإن هذه
الصفات عين ذاته تعالى في الخارج، فلا اثنينية فيه ولا مغايرة، وإن قيامها بها قيام
عيني، وهو من أعلى مراتب القيام وأظهر مصاديقه، لا قيام صفة بموصوفها، أو
قيام الحال بمحله. ومن هنا ورد في الروايات: " أن الله تعالى وجود كله، وعلم
كله، وقدرة كله، وحياة كله " (1). وإلى هذا المعنى يرجع قول أمير المؤمنين (عليه السلام)
في نهج البلاغة: " وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير
الموصوف " (2).
الثاني: الصفات الفعلية: كالخلق، والرزق، والرحمة، وما شاكلها فإن هذه
الصفات ليست عين ذاته تعالى. حيث إن قيامها بها ليس قياما عينيا كالصفات
الذاتية. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن قيام هذه الصفات بذاته تعالى ليس من قيام الحال
بمحله، والوجه في ذلك: أن هذه الصفات لا تخلو من أن تكون حادثة، أو تكون
قديمة، ولا ثالث لهما. فعلى الأول لزم قيام الحادث بذاته تعالى، وهو مستحيل،
وعلى الثاني لزم تعدد القدماء وقد برهن في محله استحالة ذلك.
فالنتيجة على ضوئهما أمران:
الأول: أن مبادئ هذه الصفات أفعاله تعالى الاختيارية.

(1) بحار الأنوار: ج 4 ص 84 ح 16 و 17 و 19 مع تفاوت.
(2) نهج البلاغة: الخطبة الأولى.
24

الثاني: أنها تمتاز عن الصفات الذاتية في نقطة واحدة، وهي: أن الصفات
الذاتية عين ذاته تعالى، فيستحيل اتصاف ذاته بعدمها بأن لا يكون ذاته في مرتبة
ذاته عالما، ولا قادرا، ولا حيا، وهذا بخلاف تلك الصفات، حيث إنها أفعاله تعالى
الاختيارية فتنفك عن ذاته، وتتصف ذاته بعدمها، يعني: يصح أن يقال: إنه تعالى لم
يكن خالقا للأرض - مثلا - ثم خلقها، ولم يكن رازقا لزيد - مثلا - ثم رزقه...،
وهكذا. ومن ثمة تدخل عليها أدوات الشرط وما شاكلها، ولم تدخل على
الصفات العليا الذاتية.
وإن شئتم قلتم: إن القدرة تتعلق بالصفات الفعلية وجودا وعدما، فإن له تعالى
أن يخلق شيئا، وله أن لا يخلق، وله أن يرزق، وله أن لا يرزق، وهكذا، ولم تتعلق
بالصفات الذاتية أبدا.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر: أن التكلم من الصفات الفعلية دون الصفات
الذاتية، وذلك لوجود ملاك الصفات الفعلية فيه، حيث يصح أن يقال: إنه تعالى
كلم موسى (عليه السلام) ولم يكلم غيره، أو كلم في الوقت الفلاني ولم يكلم في وقت آخر،
وهكذا.
ولا يصح أن يقال: إنه تعالى ليس عالما بالشئ الفلاني، أو في الوقت
الفلاني. فما ذكره الأشاعرة: من أن التكلم صفة له تعالى وكل صفة له قديم نشأ من
الخلط بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية (1).
الثاني (2): أن كل كلام صادر من المتكلم بإرادته واختياره مسبوق بتصوره
في أفق النفس على الشكل الصادر منه، ولا سيما إذا كان للمتكلم عناية خاصة به،
كما إذا كان في مقام إلقاء خطابة أو شعر أو نحو ذلك، وهذا المرتب الموجود في أفق
النفس هو الكلام النفسي وقد دل عليه الكلام اللفظي، وإلى ذلك أشار قول الشاعر:

(1) قد مر الاستدلال بهذا في ص 23 فلاحظ.
(2) أي: الوجه الثاني من وجوه الاستدلال على الكلام النفسي.
25

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما * جعل اللسان على الفؤاد دليلا
ويرده أولا: أن هذه الدلالة ليست دلالة لفظية، وإنما هي دلالة عقلية كدلالة
وجود المعلول على وجود علته، ومن هنا لا تختص بخصوص الألفاظ، بل تعم
كافة الأفعال الاختيارية.
وبكلمة أخرى: بعدما ذكرنا في بحث الحروف: أن الألفاظ لم توضع
للموجودات الخارجية ولا للموجودات الذهنية (1) فلا يعقل أن تكون تلك الصورة
معنى لها لتكون دلالتها عليها دلالة وضعية، بل هي من ناحية أن صدور الألفاظ
عن لافظها حيث كان بالاختيار والإرادة فبطبيعة الحال تدل على تصورها في
أفق النفس دلالة المعلول على علته، بقانون أن كل فعل صادر عن الإنسان
بالاختيار لابد أن يكون مسبوقا بالتصور والالتفات، وإلا فلا يكون اختياريا.
وعلى هذا فكل فعل اختياري ينقسم إلى نوعين:
الأول: الفعل النفسي.
الثاني: الفعل الخارجي فلا يختص ذلك بالكلام فحسب، ولا أظن أن
الأشاعرة يلتزمون بذلك.
وثانيا: أن تلك الصورة نوع من العلم، وقد عرفت أن الأشاعرة قد اعترفت
بأن الكلام النفسي صفة أخرى في مقابل صفة العلم (2).
الثالث: لا ريب في أن الله تعالى متكلم، وقد دلت على ذلك عدة من الآيات.
ولازم ذلك قيام المبدأ على ذاته قياما وصفيا، لا قيام الفعل بالفاعل، وإلا لم يصح
إطلاق المتكلم عليه.
ومن هنا لا يصح إطلاق النائم والقائم، والمتحرك، والساكن، والذائق، وما
شاكل ذلك عليه تعالى، مع أن مبادئ هذه الأوصاف قائمة بذاته قيام الفعل
بالفاعل.

(1) تقدم في ج 1 ص 60 فراجع.
(2) قد مر ذكره في ص 18 فلاحظ.
26

وإن شئت قلت: إن هذه الهيئات وما شاكلها لا تصدق على من قام عليه المبدأ
قيام الفعل بالفاعل، وإنما تصدق على من قام عليه المبدأ قيام الصفة بالموصوف.
هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: أن الذي دعا الأشاعرة إلى الالتزام بالكلام النفسي هو
تصحيح متكلميته تعالى في مقابل بقية صفاته، فإن الكلام اللفظي حيث إنه
حادث لا يعقل قيامه بذاته تعالى قيام الصفة بالموصوف، لاستحالة كون ذاته
تعالى محلا للحوادث.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أن كلامه تعالى نفسي لا لفظي.
ولنأخذ بالمناقشة في هذا الدليل نقضا وحلا:
أما الأول: فلا ريب في أن الله تعالى متكلم بكلام لفظي، وقد دلت على ذلك
عدة من الآيات والروايات:
منها: قوله تعالى: * (إنما أمره إذا أرد شيئا أن يقول له كن فيكون) * (1)، فإن
قوله: " كن فيكون " كلامه تعالى، ومن هنا لا نظن أن الأشاعرة ينكرون ذلك، بل
قد تقدم أنهم معترفون به (2). وعليه، فما هو المبرر لهم في إطلاق المتكلم بالكلام
اللفظي عليه تعالى هو المبرر لنا.
وأما الثاني: فلأن المتكلم ليس مشتقا اصطلاحيا، لفرض عدم المبدأ له. بل
هو نظير هيئة: اللابن، والتامر، والمتقمص، والمتنعل، والبقال، وما شاكل ذلك، فإن
المبدأ فيها من أسماء الأعيان، والذوات، وهو اللبن، والتمر، والقميص، والنعل،
والبقل، ولكن باعتبار اتخاذ الشخص هذه الأمور حرفة وشغلا ولازما له صارت
مربوطة به، ولأجل هذا الارتباط صح إطلاق هذه الهيئات عليه.
نعم، إنها مشتقات جعلية باعتبار جعلية مبادئها ومصادرها. والسبب في
ذلك: أن الكلم ليس مصدرا للمتكلم، لفرض أن معناه: الجرح لا الكلام، وكلم ليس

(1) يس: 82.
(2) راجع ص 17 من هذا الكتاب.
27

فعلا ثلاثيا مجردا له ليزاد عليه حرف فيصبح مزيدا فيه. وعليه فبطبيعة الحال
يكون التكلم مصدرا جعليا، والكلام اسم مصدر كذلك. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن المبدأ الجعلي للمتكلم في هذا الحال لا يخلو من أحد
أمرين: إما التكلم، أو الكلام، ولا ثالث لهما.
أما على الأول: فلا يرد عليه النقض بعدم صدق النائم والقائم والمتحرك وما
شابه ذلك عليه تعالى، مع أنه موجد لمبادئها، وذلك لأن التكلم من قبيل الأفعال
دون الأوصاف. والمبادئ في الهيئات المذكورة من قبيل الأوصاف دون الأفعال،
ولأجل الاختلاف في هذه النقطة تمتاز هيئة المتكلم عن هذه الهيئات، حيث إنها
لا تصدق إلا على من تقوم به مبادئها قيام الصفة بالموصوف، والحال بالمحل،
ومن ثمة لا تصدق عليه تعالى، وهذا بخلاف هيئة المتكلم فإنها تصدق على من
يقوم به التكلم قيام الفعل بالفاعل، ولا يعتبر في صدقها الاتصاف والحلول، ولذلك
صح إطلاقها عليه تعالى من دون محذور.
وأما على الثاني: فالأمر أيضا كذلك. والوجه فيه: أن الكلام عبارة عن الكيف
المسموع الحاصل من تموج الهواء واصطكاكه، ومن الطبيعي أن المتكيف بالكلام
والمتصف به إنما هو الهواء دون غيره، فلا يعقل قيامه بغيره قيام الصفة بالموصوف
والحال بالمحل، ولا فرق في ذلك بين ذاته تعالى وغيره.
ونتيجة ذلك: أن إطلاق المتكلم عليه تعالى كإطلاقه على غيره باعتبار إيجاده
الكلام، بل الأمر كذلك في بعض المشتقات المصطلحة أيضا: كالقابض والباسط
وما شاكلهما، فإن صدقه عليه تعالى بملاك أنه موجد للقبض والبسط ونحوهما،
لا بملاك قيامها به قيام وصف أو حلول.
وأما عدم صحة إطلاق النائم، والقائم، والساكن، وما شاكل ذلك عليه تعالى
مع أنه موجد لمبادئها فيمكن تبريره بأحد وجهين:
الأول: أن ذلك ليس أمرا قياسيا بحيث إذا صح الإطلاق بهذا الاعتبار في
مورد صح إطلاقه في غيره من الموارد أيضا بذلك الاعتبار، وليس لذلك ضابط
28

كلي، بل هو تابع للاستعمال والإطلاق، وهو يختلف باختلاف الموارد، فيصح في
بعض الموارد دون بعض كما عرفت (1).
ودعوى: أن هيئة الفاعل موضوعة لإفادة قيام المبدأ بالذات قيام حلول
خاطئة جدا، وذلك لما ذكرناه في بحث المشتق: من أن الهيئة موضوعة للدلالة
على قيام المبدأ بالذات بنحو من أنحاء القيام، وأما خصوصية كون القيام بنحو
الحلول، أو الإيجاد، أو الوقوع، أو غير ذلك فهي خارجة عن مفاد الهيئة (2).
وقد تحصل من ذلك: أنه ليس لما ذكرناه ضابط كلي، بل يختلف باختلاف
الموارد. ومن هنا لا يصح إطلاق المشتق في بعض الموارد على من يقوم به المبدأ
قيام حلول، كإطلاق المتكلم على الهواء فإنه لا يصح، وكذا إطلاق الضارب على
من وقع عليه الضرب... وهكذا، مع أن قيام المبدأ فيها قيام الحال بالمحل.
الثاني: يمكن أن يكون منشأ ذلك اختلاف نوعي الفعل، أعني: المتعدي واللازم.
بيان ذلك: أن الفعل إذا كان متعديا كفى في اتصاف فاعله به قيامه به قيام
صدور وإيجاد، وأما الزائد على هذا فغير معتبر فيه، وذلك كالقابض والباسط،
والخالق، والرازق، والمتكلم، والضارب، وما شاكلها.
وأما إذا كان لازما فلا يكفي في اتصافه به صدوره منه، بل لابد في ذلك من
قيام المبدأ به قيام الصفة بالموصوف، والحال بالمحل، وذلك كالعالم والنائم،
والقائم، وما شاكله.
وعلى ضوء هذا الضابط يظهر وجه عدم صحة إطلاق النائم والقائم عليه
تعالى، كما يظهر وجه صحة إطلاق العالم، والخالق، والقابض، والباسط، والمتكلم،
وما شابه ذلك عليه سبحانه وتعالى. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: يظهر وجه عدم صحة إطلاق المتكلم على الهواء، وإطلاق
الضارب على من وقع عليه الضرب... وهكذا.
الرابع: أن الكلام كما يصح إطلاقه على الكلام اللفظي الموجود في الخارج

(1) مر ذكره في ص 27 فلاحظ.
(2) راجع ج 1 ص 325 وما بعدها.
29

كذلك يصح إطلاقه على الكلام النفسي الموجود في الذهن، من دون لحاظ عناية
في البين. ومن هنا يصح أن يقول القائل: إن في نفسي كلاما لا أريد أن أبديه.
ويشهد على ذلك قوله تعالى: * (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات
الصدور) * (1)، وقوله تعالى: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به
الله) * (2)، ونحوهما مما يدلنا على ذلك، وهذا الموجود المرتب في النفس هو
الكلام النفسي، ويدل عليه الكلام اللفظي.
وجوابه يظهر مما ذكرناه آنفا: من أن هذا الموجود المرتب في النفس ليس
من سنخ الكلام ليكون كلاما نفسيا عند القائلين به، بل هو صورة للكلام اللفظي.
ومن هنا قلنا: إن ذلك لا يختص بالكلام، بل يعم كافة أنواع الأفعال الاختيارية.
وبكلمة واضحة: إن أرادوا به أن يكون لكل فعل فردان: فرد خارجي، وفرد
ذهني، ومنه الكلام فهو غير معقول، وذلك لأن قيام الأشياء بالنفس إنما هو
بصورها - قياما علميا - لا بواقعها الموضوعي، وإلا لتداخلت المقولات بعضها في
بعض، وهو مستحيل.
نعم، الكيفيات النفسانية كالعلم والإرادة ونحوهما قائمة بها بأنفسها وبواقعها
الموضوعي، وإلا لذهب إلى ما لا نهاية له. وعليه فلا يكون ما هو الموجود في
النفس كلاما حقيقة، بل هو صورة ووجود علمي له.
وإن أرادوا به صورة الكلام اللفظي فقد عرفت أنها من مقولة العلم، وليست
بكلام نفسي في شئ، على أنك عرفت أن الكلام النفسي عندهم مدلول للكلام
اللفظي، وتلك الصورة ليست مدلولة له كما تقدم (3).
ومن هنا يظهر: أن إطلاق الكلام على هذا المرتب الموجود في النفس مجاز:
إما بعلاقة الأول، أو بعلاقة المشابهة في الصورة.

(1) الملك: 13.
(2) البقرة: 284.
(3) راجع ص 19 من هذا الكتاب.
30

وأما الآيتان الكريمتان فلا تدلان بوجه على أن هذا الموجود في النفس كلام
نفسي.
أما الآية الأولى: فيحتمل أن يكون المراد فيها من " القول السر " هو القول
الموجود في النفس، فالآية تكون عندئذ في مقام بيان أن الله تعالى عالم به،
سواء أظهروه في الخارج أم لم يظهروه، وإطلاق القول عليه يكون بالعناية.
ويحتمل أن يكون المراد منه القول السري، وهذا هو الظاهر من الآية
الكريمة. فإذا الآية أجنبية عن الدلالة على الكلام النفسي بالكلية.
وأما الآية الثانية فيحتمل أن يكون المراد مما في الأنفس: صورة الكلام.
ويحتمل أن يكون المراد منه نية السوء، وهذا الاحتمال هو الظاهر منها، وكيف كان
فلا صلة للآية بالكلام النفسي أصلا.
نتائج البحث لحد الآن عدة نقاط:
الأولى: أن ما ذكر من المعاني المتعددة لمادة الأمر لا واقع موضوعي له، وقد
عرفت أنها موضوعة لمعنيين: إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج،
وحصة خاصة من الشئ. هذا من ناحية (1).
ومن ناحية أخرى: أن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن الأهمية في الجملة
مأخوذة في معنى الأمر لا أصل له. ومن هنا قلنا بصحة توصيف الأمر بما لا أهمية
له بدون عناية (2). كما أنه لا أصل لجعل معناه واحدا، لما ذكرناه من أن اختلافه
في الجمع شاهد على تعدد معناه (3).
ومن ناحية ثالثة: أن ما أفاده شيخنا المحقق (قدس سره) من أنه موضوع للمعنى
الجامع بينهما خاطئ جدا، لما سبق من أن الجامع الذاتي بينهما غير معقول (4).
الثانية: لا ثمرة للبحث عن أن معنى الأمر واحد أو متعدد.
الثالثة: لا يمكن أن يكون القول المخصوص " هيئة إفعل " معنى الأمر، لعدم

(1) تقدم في ص 7 و 5 فراجع.
(2) تقدم في ص 7 و 5 فراجع.
(3) قد تقدم في ص 6 فراجع.
(4) سبق ذكره في ص 7.
31

إمكان الاشتقاق منه باعتبار هذا المعنى. وما ذكره شيخنا المحقق (قدس سره) في تصحيح
ذلك قد عرفت فساده (1).
الرابعة: أن العلو معتبر في معنى الأمر، ولا يكفي الاستعلاء.
الخامسة: أن الوجوب ليس مفاد الأمر، لا وضعا ولا إطلاقا. بل هو بحكم
العقل، فينتزعه عند عدم نصب قرينة على الترخيص.
السادسة: أن الطلب مغاير للإرادة مفهوما وواقعا، حيث إن الطلب فعل
اختياري للإنسان، والإرادة من الصفات النفسانية الخارجة عن الاختيار. ومن
ثمة ذكرنا: أنه لا وجه لما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من اتحاده مع
الإرادة مفهوما وخارجا (2).
السابعة: أنه لا واقع موضوعي للكلام النفسي أصلا، ولا يخرج عن مجرد
الفرض والخيال.
الثامنة: أن ما ذكره الأشاعرة من الأدلة لإثبات الكلام النفسي قد عرفت (3)
فسادها جميعا.
(2)
نظرية الفلاسفة
" إرادته تعالى ذاتية " ونقدها
المعروف والمشهور بين الفلاسفة قديما وحديثا: هو أن إرادته تعالى من
الصفات العليا الذاتية، كصفة العلم والقدرة والحياة. ومال إلى ذلك جماعة من
الأصوليين منهم: المحقق صاحب الكفاية، وشيخنا المحقق (قدس سرهما).
قال في الكفاية: إن إرادته التكوينية هو العلم بالنظام الكامل التام (4).
ولكن أورد عليه شيخنا المحقق (قدس سره) بأن هذا التفسير غير صحيح. وقد أفاد في
وجه ذلك بما إليك نصه:

(1) راجع ص 11.
(2) تقدم في ص 14 فراجع.
(3) قد تقدم في ص 18 - 30.
(4) كفاية الأصول: ص 88.
32

(لا ريب في أن مفاهيم صفاته تعالى الذاتية متخالفة، لا متوافقة مترادفة وإن
كان مطابقها في الخارج واحدا بالذات ومن جميع الجهات، مثلا: مفهوم العلم غير
مفهوم الذات، ومفهوم بقية الصفات وإن كان مطابق الجميع ذاته بذاته لا شئ آخر
منضما إلى ذاته، فإنه تعالى صرف الوجود، وصرف القدرة، وصرف العلم،
وصرف الحياة، وصرف الإرادة، ولذا قالوا: " وجود كله، وقدرة كله، وعلم كله،
وإرادة كله "، مع أن مفهوم الإرادة مغايرة لمفهوم العلم، ومفهوم الذات، وسائر
الصفات. وليس مفهوم الإرادة العلم بالنظام الأصلح الكامل التام كما فسرها بذلك
المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)، ضرورة أن رجوع صفة ذاتية إلى ذاته - تعالى
وتقدس - وإلى صفة أخرى كذلك إنما هو في المصداق، لا في المفهوم، لما عرفت
من أن مفهوم كل واحد منها غير مفهوم الآخر. ومن هنا قال الأكابر من الفلاسفة:
إن مفهوم الإرادة هو الابتهاج، والرضا، أو ما يقاربهما معنى، لا العلم بالصلاح
والنظام، ويعبر عنه بالشوق الأكيد فينا. والسر في التعبير عن الإرادة فينا بالشوق
المؤكد وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالى: هو أنا لمكان إمكاننا ناقصون في
الفاعلية، وفاعليتنا لكل شئ بالقوة، فلذا نحتاج في الخروج من القوة إلى الفعل
إلى مقدمات زائدة على ذواتنا من تصور الفعل، والتصديق بفائدته، والشوق
الأكيد، فيكون الجميع محركا للقوة الفاعلة المحركة للعضلات، وهذا بخلاف
الواجب تعالى فإنه لتقدسه عن شوائب الإمكان وجهات القوة والنقصان فاعل
بنفس ذاته العليمة المريدة، وحيث إنه صرف الوجود وصرف الخير مبتهج بذاته
أتم الابتهاج، وذاته مرضي لذاته أتم الرضا، وينبعث من هذا الابتهاج الذاتي
- وهو الإرادة الذاتية - ابتهاج في مرحلة الفعل، فإن من أحب شيئا أحب آثاره،
وهذه المحبة الفعلية هي الإرادة في مرحلة الفعل، وهي التي وردت الأخبار عن
الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بحدوثها) (1).

(1) نهاية الدراية: ج 1 ص 164.
33

يحتوي ما أفاده (قدس سره) على عدة نقاط:
الأولى: أن مفهوم الإرادة غير مفهوم العلم، فإن مفهوم الإرادة الابتهاج
والرضا، ومفهوم العلم الانكشاف، فلا يصح تفسير أحدهما بالآخر وإن كان
مطابقهما واحدا وهو ذاته تعالى.
الثانية: أن إرادته تعالى من الصفات الذاتية العليا: كالعلم والقدرة وما
شاكلهما، وليست من الصفات الفعلية.
الثالثة: أن الإرادة فينا عبارة عن الشوق الأكيد المحرك للقوة العاملة المحركة
للعضلات نحو المراد، وتحققها ووجودها في النفس يتوقف على مقدمات:
كالتصور والتصديق بالفائدة ونحوهما. ومن الواضح أن الإرادة بهذا المعنى لا
تتصور في حقه سبحانه وتعالى، فإن فاعليته تامة لا نقصان فيها أبدا، وأنه فاعل
بنفس ذاته العليمة المريدة، ولا تتوقف فاعليته على أية مقدمة خارجة عن ذاته
تعالى.
الرابعة: أن الابتهاج في مرحلة الفعل هو الإرادة الفعلية المنبعثة عن الابتهاج
الذاتي الذي هو الإرادة الذاتية، والروايات الدالة على حدوث الإرادة إنما يراد
بها الإرادة الفعلية التي هي من آثار إرادته الذاتية.
ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فهي تامة من ناحية، وهي: أن مفهوم الإرادة غير مفهوم
العلم. وخاطئة من ناحية أخرى، وهي: أن مفهوم الإرادة الابتهاج والرضا.
أما تماميتها من الناحية الأولى فلما ذكرناه في بحث المشتق: من أن مفاهيم
الصفات العليا الذاتية مختلفة ومتباينة، فإن مفهوم العلم غير مفهوم
القدرة... وهكذا، ولا فرق في ذلك بين الواجب والممكن.
نعم، يفترق الواجب عن الممكن في نقطة أخرى، وهي: أن مطابق هذه
34

الصفات في الواجب واحد عينا وذاتا وجهة، وفي الممكن متعدد كذلك.
وأما عدم تماميتها من الناحية الثانية فلأن من الواضح أن مفهوم الإرادة ليس
هو الابتهاج والرضا، لا لغة ولا عرفا، وإنما ذلك اصطلاح خاص من الفلاسفة،
حيث إنهم فسروا (1) الإرادة الأزلية بهذا التفسير، ولعل السبب فيه: التزامهم بعدة
عوامل تالية:
الأول: أن إرادته تعالى عين ذاته خارجا وعينا.
الثاني: أنها ليست بمعنى الشوق الأكيد المحرك للعضلات كما عرفت (2).
الثالث: أنها مغايرة للعلم والقدرة والحياة وما شاكلها من الصفات العليا
بحسب المفهوم.
الرابع: أنه لم يوجد معنى مناسبا للإرادة غير المعنى المذكور، وبطبيعة الحال
أن النتيجة على ضوء هذه العوامل هي ما عرفت.
ولكن هذا التفسير خاطئ جدا، وذلك لأن الإرادة لا تخلو من أن تكون
بمعنى إعمال القدرة، أو بمعنى الشوق الأكيد، ولا ثالث لهما. وحيث إن الإرادة
بالمعنى الثاني لا تعقل لذاته تعالى تتعين الإرادة بالمعنى الأول له سبحانه، وهو
المشيئة وإعمال القدرة.
وأضف إلى ذلك أن الرضا من الصفات الفعلية كسخطه تعالى، وليس من
الصفات الذاتية: كالعلم والقدرة ونحوهما، وذلك لصحة سلبه عن ذاته تعالى، فلو
كان من الصفات العليا لم يصح السلب أبدا.
على أنا لو فرضنا أن الرضا من الصفات الذاتية فما هو الدليل على أن إرادته
أيضا كذلك بعد ما عرفت من أن صفة الإرادة غير صفة الرضا؟ وكيف كان، فما
أفاده (قدس سره) لا يمكن المساعدة عليه بوجه.
وأما النقطة الثانية " إرادته تعالى صفة ذاتية له ": فهي خاطئة جدا.

(1) انظر نهاية الدراية: ج 1 ص 164.
(2) مر ذكره آنفا فلاحظ.
35

والسبب في ذلك أولا: ما تقدم من أن الإرادة بمعنى الشوق المؤكد لا تعقل
في ذاته تعالى. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد سبق أن تفسير الإرادة بصفة الرضا والابتهاج تفسير
خاطئ لا واقع له.
ومن ناحية ثالثة: أنا لا نتصور لإرادته تعالى معنى غير إعمال القدرة
والسلطنة.
وثانيا: قد دلت الروايات الكثيرة على أن إرادته تعالى فعله، كما نص به قوله
سبحانه: * (إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * (1). وليس في شئ من هذه
الروايات إيماء، فضلا عن الدلالة على أن له تعالى إرادة ذاتية أيضا، بل فيها ما
يدل على نفي كون إرادته سبحانه ذاتية، كصحيحة عاصم بن حميد، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: لم يزل الله مريدا؟ " قال: إن المريد لا يكون إلا لمراد معه،
لم يزل الله عالما قادرا ثم أراد " (2).
ورواية الجعفري قال: قال الرضا (عليه السلام): " المشيئة من صفات الأفعال، فمن
زعم أن الله لم يزل مريدا شائيا فليس بموحد " (3). فهاتان الروايتان تنصان على
نفي الإرادة الذاتية عنه سبحانه.
ثم إن سلطنته تعالى حيث كانت تامة من كافة الجهات والنواحي ولا يتصور
النقص فيها أبدا فبطبيعة الحال يتحقق الفعل في الخارج، ويوجد بصرف إعمالها
من دون توقفه على أية مقدمة أخرى خارجة عن ذاته تعالى، كما هو مقتضى قوله
سبحانه: " إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ".
وقد عبر عن هذا المعنى في الروايات تارة بالمشيئة، وتارة أخرى بالإحداث
والفعل.

(1) يس: 82.
(2) انظر أصول الكافي: باب الإرادة ج 1 ص 109 ح 1.
(3) بحار الأنوار: كتاب التوحيد ب 4 القدرة والإرادة ج 4 ص 145 ح 18.
36

أما الأول: كما في صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" المشيئة محدثة " (1). وصحيحة عمر بن أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " خلق
الله المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة " (2).
ومن الطبيعي أن المراد بالمشيئة: هو إعمال القدرة والسلطنة، حيث إنها
مخلوقة بنفسها، لا بإعمال قدرة أخرى. وإلا لذهب إلى مالا نهاية له.
وأما الثاني: كما في صحيحة صفوان بن يحيى، قال (عليه السلام): " الإرادة من الخلق
الضمير، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأما من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير
ذلك، لأنه لا يروي، ولا يهم، ولا يتفكر، وهذه الصفات منفية عنه، وهي صفات
الخلق، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ، ولا نطق بلسان،
ولا همة، ولا تفكر، ولا كيف لذلك، كما أنه لا كيف له " (3). فهذه الصحيحة تنص
على أن إرادته تعالى هي أمره التكويني.
وأما النقطة الثالثة فهي تامة، لوضوح أن إرادتنا هي الشوق المؤكد الداعي
إلى إعمال القدرة والسلطنة نحو إيجاد المراد، وسنبين (4) - إن شاء الله تعالى - أن
ملاك كون الأفعال في إطار الاختيار هو صدورها بإعمال القدرة والمشيئة، لا
كونها مسبوقة بالإرادة، بداهة أن الإرادة بكافة مقدماتها غير اختيارية، فلا يعقل
أن تكون ملاكا لاختياريتها، على أنا نرى وجدانا وبشكل قاطع أن الإرادة
ليست علة تامة للأفعال، وسيأتي توضيح هذه النقاط بصورة مفصلة إن شاء الله
تعالى.
وأما النقطة الرابعة فيرد عليها: أن الروايات قد دلت على أن إرادته تعالى
ليست كعلمه وقدرته ونحوهما من الصفات الذاتية العليا، بل هي فعله وإعمال
قدرته كما عرفت.

(1) أصول الكافي: باب الإرادة ج 1 ص 110 ح 7.
(2) المصدر السابق: ح 4.
(3) أصول الكافي: باب الإرادة ج 1 ص 109 ح 3.
(4) سيأتي بيانه في ص 57 - 59 فانتظر.
37

وإن شئتم قلتم: لو كانت لله تعالى إرادتان " ذاتية وفعلية " لأشارت الروايات
إلى ذلك لا محالة، مع أنها تشير إلى خلاف ذلك.
ثم إن قوله (عليه السلام) في الصحيحة المتقدمة " إن المريد لا يكون إلا لمراد معه " (1)
إشارة إلى أن الإرادة الإلهية لو كانت ذاتية لزم قدم العالم، وهو باطل. ويؤيد هذا
رواية الجعفري عن الرضا (عليه السلام) " فمن زعم أن الله لم يزل مريدا شائيا فليس
بموحد " (2) فإنه صريح في أن إرادته ليست عين ذاته: كالعلم والقدرة والحياة.
لحد الآن قد ظهر أمران:
الأول: أنه لا مقتضى لما التزم به الفلاسفة وجماعة من الأصوليين منهم:
صاحب الكفاية وشيخنا المحقق (قدس سرهما) من كون إرادته تعالى صفة ذاتية له، بل قد
تقدم (3) عدم تعقل معنى محصل لذلك.
الثاني: أن محاولتهم لحمل الروايات الواردة في هذا الموضوع على إرادته
الفعلية دون الذاتية خاطئة ولا واقع موضوعي لها، فإنها في مقام بيان انحصار
إرادته تعالى بها.
ولشيخنا المحقق الأصفهاني (قدس سره) في المقام كلام (4)، وحاصله: أن مشيئته
تعالى على قسمين: مشيئة ذاتية، وهي عين ذاته المقدسة، كبقية صفاته الذاتية. فهو
تعالى صرف المشيئة، وصرف القدرة، وصرف العلم، وصرف الوجود... وهكذا،
فالمشيئة الواجبة عين الواجب تعالى ومشيئة فعلية، وهي عين الوجود الإطلاقي
المنبسط على الماهيات. والمراد من المشيئة الواردة في الروايات من أنه تعالى
خلق الأشياء بالمشيئة والمشيئة بنفسها: هو المشيئة الفعلية التي هي عين
الوجود المنبسط والوجود الإطلاقي. والمراد من الأشياء: هو الموجودات
المحدودة الخاصة، فموجودية هذه الأشياء بالوجود المنبسط، وموجودية الوجود
المنبسط بنفسها لا بوجود آخر، وهذا معنى قوله (عليه السلام): " خلق الله الأشياء

(1) تقدمت الإشارة إليهما في ص 36 فراجع.
(2) تقدمت الإشارة إليهما في ص 36 فراجع.
(3) راجع بيان ما تقدم في ص 35.
(4) انظر نهاية الدراية: ج 1 ص 195.
38

بالمشيئة "، أي: بالوجود المنبسط الذي هو فعله الإطلاقي، وخلق المشيئة بنفسها،
ضرورة أنه ليس للوجود المنبسط ما به الوجود.
ولا يخفى أنه (قدس سره) قد تبع في ذلك نظرية الفلاسفة القائلة بتوحيد الفعل،
وبطبيعة الحال أن هذه النظرية ترتكز على ضوء علية ذاته الأزلية للأشياء، وعلى
هذا الضوء فلا محالة يكون الصادر الأول عنه تعالى واحدا ذاتا ووجودا، لاقتضاء
قانون السنخية والتناسب " بين العلة والمعلول " ذلك. وهذا الصادر الواحد هو
الوجود الإطلاقي المعبر عنه بالوجود المنبسط تارة، وبالمشيئة الفعلية تارة
أخرى، وهو الموجود بنفسه لا بوجود آخر، يعني: أنه لا واسطة بينه وبين وجوده
الأزلي فهو معلوله الأول، والأشياء معلولة بواسطته، وهذا المعنى هو مدلول
صحيحة عمر بن أذينة المتقدمة (1).
ولنأخذ بالنقد عليه من وجهين:
الأول: أن القول بالوجود المنبسط في إطاره الفلسفي يرتكز على نقطة
واحدة، وهي: أن نسبة الأشياء بشتى أنواعها وأشكالها إلى ذاته تعالى نسبة
المعلول إلى العلة التامة، ويترتب على هذا أمران:
الأول: التجانس والتسانخ بين ذاته تعالى وبين معلوله.
الثاني: التعاصر بينهما، وعليه حيث إنه لا تجانس بين موجودات عالم
المادة بكافة أنواعها وبين ذاته تعالى فلابد من الالتزام بالنظام الجملي السلسلي،
وهو عبارة عن ترتب مسببات على أسباب متسلسلة، فالأسباب والمسببات
جميعا منتهيتان في نظامهما الخاص وإطارهما المعين بحسب الطولية والعرضية
معا إلى مبدء واحد وهو الحق سبحانه، وهو مبدأ الكل، فالكل ينال منه، وهو
مسبب الأسباب على الإطلاق. ونتيجة هذا: أن الصادر الأول عن الله تعالى لابد
أن يكون مسانخا لذاته ومعاصرا معها، وإلا استحال صدوره منه. ومن الطبيعي أن
ذلك لا يكون إلا الوجود المنبسط في إطاره الخاص.

(1) تقدمت في ص 37 فراجع.
39

وغير خفي أنه لا شبهة في بطلان النقطة المذكورة، وأنه لا واقع موضوعي
لها أصلا، والسبب في ذلك واضح، وهو: أن سلطنته تعالى وإن كانت تامة من كافة
الجهات ولا يتصور النقص فيها أبدا إلا أن مرد هذا ليس إلى وجوب صدور الفعل
منه واستحالة انفكاكه عنه، كوجوب صدور المعلول عن العلة التامة، بل مرده إلى
أن الأشياء بكافة أشكالها وأنواعها تحت قدرته وسلطنته التامة، وأنه تعالى متى
شاء إيجاد شئ أوجده بلا توقف على أية مقدمة خارجة عن ذاته وإعمال قدرته
حتى يحتاج في ايجاده إلى تهيئة تلك المقدمة، وهذا معنى السلطنة المطلقة التي لا
يشذ شئ عن إطارها.
ومن البديهي أن وجوب وجوده تعالى ووجوب قدرته، وأنه تعالى وجود
كله، ووجوب كله، وقدرة كله لا يستدعي ضرورة صدور الفعل منه في الخارج،
وذلك لأن الضرورة ترتكز على أن يكون إسناد الفعل إليه تعالى كإسناد المعلول
إلى العلة التامة، لا إسناد الفعل إلى الفاعل المختار. فلنا دعويان:
الأولى: أن إسناد الفعل إليه ليس كإسناد المعلول إلى العلة التامة.
الثانية: أن إسناده إليه كإسناد الفعل إلى الفاعل المختار.
أما الدعوى الأولى: فهي خاطئة عقلا ونقلا.
أما الأول: فلأن القول بذلك يستلزم في واقعه الموضوعي نفي القدرة
والسلطنة عنه تعالى، فإن مرد هذا القول إلى أن الوجودات بكافة مراتبها الطولية
والعرضية موجودة في وجوده تعالى بنحو أعلى وأتم، وتتولد منه على سلسلتها
الطولية تولد المعلول عن علته التامة، فإن المعلول من مراتب وجود العلة النازلة،
وليس شيئا أجنبيا عنه، مثلا: الحرارة من مراتب وجود النار وتتولد منها، وليست
أجنبية عنها...، وهكذا.
وعلى هذا الضوء فمعنى علية ذاته تعالى للأشياء: ضرورة تولدها منها
وتعاصرها معها، كضرورة تولد الحرارة من النار وتعاصرها معها، ويستحيل
انفكاكها عنها. غاية الأمر أن النار علة طبيعية غير شاعرة، ومن الواضح أن الشعور
40

والالتفات لا يوجبان تفاوتا في واقع العلية وحقيقتها الموضوعية، فإذا كانت
الأشياء متولدة من وجوده تعالى بنحو الحتم والوجوب، وتكون من مراتب
وجوده تعالى النازلة بحيث يمتنع انفكاكها عنه فإذا ما هو معنى قدرته تعالى
وسلطنته التامة؟ على أن لازم هذا القول انتفاء وجوده تعالى بانتفاء شئ من هذه
الأشياء في سلسلته الطولية، لاستحالة انتفاء المعلول بدون انتفاء علته.
وأما الثاني: فقد تقدم (1) ما يدل من الكتاب والسنة على أن صدور الفعل منه
تعالى بإرادته ومشيئته.
ومن هنا يظهر: أن ما ذكر من الضابط للفعل الاختياري وهو: أن يكون صدوره
من الفاعل عن علم وشعور وحيث إنه تعالى عالم بالنظام الأصلح فالصادر عنه
فعل اختياري لا يرجع إلى معنى محصل، بداهة أن علم العلة بالمعلول. وشعورها
به لا يوجب تفاوتا في واقع العلية وتأثيرها، فإن العلة سواء أكانت شاعرة أم كانت
غير شاعرة فتأثيرها في معلولها بنحو الحتم والوجوب، ومجرد الشعور والعلم
بذلك لا يوجب التغيير في تأثيرها والأمر بيدها، وإلا لزم الخلف.
فما قيل: من أن الفرق بين الفاعل الموجب والفاعل المختار: هو أن الأول
غير شاعر وملتفت إلى فعله دون الثاني، فلأجل ذلك قالوا: إن ما صدر من الأول
غير اختياري وما صدر من الثاني اختياري لا واقع موضوعي له أصلا، لما
عرفت (2) من أن مجرد العلم والالتفات لا يوجبان التغيير في واقع العلية بعد فرض
أن نسبة الفعل إلى كليهما على حد نسبة المعلول إلى العلة التامة.
وأما الدعوى الثانية: فقد ظهر وجهها مما عرفت (3) من أن إسناد الفعل إليه
تعالى إسناد إلى الفاعل المختار، وقد تقدم أن صدوره بإعمال القدرة والسلطنة،
وبطبيعة الحال أن سلطنة الفاعل مهما تمت وكملت زاد استقلاله واستغناؤه عن الغير.
وحيث إن سلطنة الباري - عز وجل - تامة من كافة الجهات والحيثيات ولا

(1) راجع ص 35 - 36.
(2) قد تقدم آنفا فلاحظ.
(3) تقدم في ص 35 - 36 فراجع.
41

يتصور فيها النقص أبدا فهو سلطان مطلق، وفاعل ما يشاء، وهذا بخلاف سلطنة
العبد حيث إنها ناقصة بالذات فيستمدها في كل آن من الغير، فهو من هذه الناحية
مضطر فلا اختيار ولا سلطنة له، وإن كان له اختيار وسلطنة من ناحية أخرى، وهي
ناحية إعمال قدرته وسلطنته. وأما سلطنته تعالى فهي تامة وبالذات من كلتا
الناحيتين.
لحد الآن قد تبين: أن القول بالوجود المنبسط بإطاره الفلسفي الخاص
وبواقعه الموضوعي يستلزم الجبر في فعله تعالى، ونفي القدرة والسلطنة عنه،
أعاذنا الله من ذلك.
الثاني (1): أن ما أفاده (قدس سره) من المعنى للحديث المذكور خلاف الظاهر جدا،
فإن الظاهر منه بقرينة تعلق الخلق بكل من المشيئة والأشياء تعدد المخلوق، غاية
الأمر أن أحدهما مخلوق له تعالى بنفسه وهو المشيئة، والآخر مخلوق له
بواسطتها.
وإن شئت قلت: إن تعدد الخلق بطبيعة الحال يستلزم تعدد المخلوق،
والمفروض أنه لا تعدد على المعنى الذي ذكره (قدس سره) تبعا لبعض الفلاسفة، فإن
المخلوق على ضوء هذا المعنى هو الوجود المنبسط فحسب دون غيره من
الأشياء، لأن موجوديتها بنفس الوجود المنبسط لا بإيجاد آخر، مع أن ظاهر
الرواية بقرينة تعدد الخلق أن موجوديتها بإيجاد آخر.
وقد تحصل من ذلك: أن ما أفاده (قدس سره) لا يمكن الالتزام به ثبوتا ولا إثباتا.
(3)
نظرية الأشاعرة
" مسألة الجبر " ونقدها
استدلوا على الجبر بوجوه:
الأول: ما إليكم نصه: (لو كان العبد موجدا لأفعاله بالاختيار والاستقلال

(1) أي: الوجه الثاني من النقد.
42

لوجب أن يعلم تفاصيلها، واللازم باطل. وأما الشرطية - أي: الملازمة - فلأن
الأزيد والأنقص مما أتى به ممكن، إذ كل فعل من أفعاله يمكن وقوعه منه على
وجوه متفاوتة بالزيادة والنقصان، فوقوع ذلك المعين منه دونهما لأجل القصد إليه
بخصوصه، والاختيار المتعلق به وحده مشروط بالعلم به كما تشهد به البداهة،
فتفاصيل الأفعال الصادرة عنه باختياره لابد أن تكون مقصودة معلومة. وأما
بطلان اللازم فلأن النائم وكذا الساهي قد يفعل باختياره، كانقلابه من جنب إلى
جنب آخر، ولا يشعر بكمية ذلك الفعل وكيفيته) (1).
والجواب عنه: أن دخل العلم والالتفات في صدور الفعل عن الفاعل
بالاختيار أمر لا يعتريه شك ولم يختلف فيه اثنان، وبدون ذلك لا يكون اختياريا.
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن العلم المعتبر في ذلك إنما هو العلم بعنوان الفعل
والالتفات إليه حين صدوره، بأن يعلم الإنسان أن ما يصدر عنه في الخارج ينطبق
عليه عنوان شرب الماء مثلا، أو الصلاة، أو الصوم، أو الحج، أو قراءة القرآن، أو
السفر إلى بلد، أو التكلم، أو ما شابه ذلك. ومن الواضح أنه لا يعتبر في صدور هذه
الأفعال بالاختيار أزيد من ذلك، فإذا علم الإنسان بالصلاة بما لها من الأجزاء
والشرائط وأتى بها كذلك فقد صدرت عنه بالاختيار وإن كان لا يعلم حقيقة
أجزائها ودخولها تحت أية مقولة من المقولات.
فالنتيجة: أن ملاك صدور الفعل بالاختيار هو سبقه بالالتفات والتصور على
نحو الإجمال في مقابل صدوره غفلة وسهوا.
وبعد ذلك نقول: إن أراد الأشعري من العلم بتفاصيل الأفعال العلم بكنهها
وحقيقتها الموضوعية فيرده:
أولا: أن ذلك لا يتيسر لغير علام الغيوب، فإن حقائق الأشياء بكافة أنواعها

(1) انظر شرح المواقف: المرصد السادس ج 8 ص 148.
43

وأشكالها مستورة عنا ولا طريق لنا إليها، لأن أفكارنا لا تملك قوة إدراكها
والوصول إلى واقعها ومغزاها.
وثانيا: أن هذا العلم لا يكون ملاكا لاتصاف الفعل بالاختيار كما عرفت (1).
وإن أراد منه العلم بما يوجب تمييز الأفعال بعضها عن بعضها الآخر كأن يعلم
بأن ما يفعله خارجا ويأتي به شرب ماء - مثلا - لا شرب خل... وهكذا وإن لم
يعلم كنهه وحقيقته فهو صحيح كما مر (2)، إلا أن اللازم على هذا ليس بباطل،
لفرض أن كل فاعل مختار يعلم أفعاله في إطار عناوينها الخاصة.
وإن أراد منه العلم بحدها التام المشهوري أو برسمها التام أو الناقص فيرد عليه:
أولا: أن ذلك العلم لا يتيسر لأغلب الناس، بداهة أن العامي لا يعرف جنس
الأشياء ولا فصلها ولا خواصها حتى يعرف حدها التام أو الناقص، أو رسمها التام
أو الناقص.
وثانيا: قد سبق أن هذا العلم لا يكون مناطا لصدور الفعل بالاختيار.
ومن هنا يظهر: أن ما ذكره لبيان بطلان اللازم من أن النائم وكذا الساهي قد
يفعله باختياره غريب جدا، بداهة أن ما يصدر عنهما من الحركة: كالتقلب من
جنب إلى جنب آخر أو نحو ذلك غير اختياري، ولذا لا يستحقان عليه المدح
والذم والثواب والعقاب.
وقد تقدم (3) أن الالتفات إلى الفعل على نحو الإجمال ركيزة أساسية
لاختياريته، وبدونه لا يعقل صدوره بالاختيار.
الثاني: ما إليكم نصه: (إن العبد لو كان موجدا لفعله بقدرته واختياره استقلالا
فلابد أن يتمكن من فعله وتركه، وإلا لم يكن قادرا عليه مستقلا فيه، وأن يتوقف
ترجيح فعله على تركه على مرجح، إذ لو لم يتوقف عليه كان صدور الفعل عنه مع
جواز طرفيه وتساويهما اتفاقيا، لا اختياريا، ويلزم أيضا أن لا يحتاج وقوع أحد

(1) تقدمت آنفا فلاحظ.
(2) تقدمت آنفا فلاحظ.
(3) تقدمت آنفا فلاحظ.
44

الجائزين إلى سبب، فينسد باب إثبات الصانع، وذلك المرجح لا يكون من العبد
باختياره، وإلا لزم التسلسل، لأنا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجح عنه
ويكون الفعل عنده - أي: عند ذلك المرجح - واجبا، أي: واجب الصدور عنه
بحيث يمتنع تخلفه عنه، وإلا لم يكن الموجود - أي: ذلك المرجح المفروض - تمام
المرجح، لأنه إذا لم يجب منه الفعل - حينئذ - جاز أن يوجد معه الفعل تارة،
ويعدم أخرى مع وجود ذلك المرجح فيهما، فتخصيص أحد الوقتين بوجوده
يحتاج إلى مرجح لما عرفت، فلا يكون ما فرضناه مرجحا تاما، هذا خلف، وإذا
كان الفعل مع المرجح الذي ليس منه واجب الصدور عنه فيكون ذلك الفعل
اضطراريا لازما، لا اختياريا بطريق الاستقلال كما زعموه) (1).
يتضمن هذا النص عدة نقاط:
الأولى: أن العبد لو كان مستقلا في فعله ومختارا فلازمه أن يكون متمكنا من
تركه وفعله.
الثانية: أن ترجيح وجود الفعل على عدمه في الخارج يتوقف على وجود
مرجح، إذ لو وجد بدونه لكان اتفاقيا لا اختياريا.
الثالثة: أن وقوع أحد الجائزين " الوجود والعدم " في الخارج لو كان ممكنا
من دون وجود مرجح وسبب لا نسد باب إثبات الصانع، ولأمكن وجود العالم بلا
سبب وعلة.
الرابعة: أن المرجح لا يمكن أن يكون تحت اختيار العبد، وإلا لزم التسلسل.
الخامسة: أن وجود الفعل واجب عند تحقق المرجح.
ولنأخذ بالمناقشة في هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فالصحيح - على ما سيأتي بيانه بشكل واضح - أن يقال: إن
ملاك صدور الفعل عن الإنسان بالاختيار: هو أن يكون بإعمال القدرة والسلطنة،
ويعبر عن هذا المعنى بقوله: له أن يفعل وله أن لا يفعل.

(1) انظر شرح المواقف: المرصد السادس ج 8 ص 149.
45

ولا ينافي ذلك ما سنحققه - إن شاء الله تعالى - في المبحث الآتي، وهو بحث
الأمر بين الأمرين (1): أن العبد لا يستقل في فعله تمام الاستقلال، حيث إن كافة
مبادئ الأفعال: كالحياة والقدرة والعلم والاختيار مفاضة من الله تعالى آنا فآنا،
وخارجة عن اختياره بحيث لو انقطعت الإفاضة آنا ما لانتفت تلك المبادئ
بأسرها.
وعلى هذا الضوء: فإن أريد من استقلال العبد استقلاله من كافة النواحي فهو
باطل، لا ما هو لازمه، فإنه صحيح على تقدير ثبوته. وإن أريد منه استقلاله في
فرض تحقق تلك المبادئ وإفاضتها فهو صحيح، وكذا لازمه. وعلى كلا التقديرين
فالتالي صادق.
وأما النقطة الثانية فهي خاطئة جدا، وذلك لأنها ترتكز على ركيزة لا واقع
لها، وهي استحالة ترجيح وجود الفعل على عدمه بدون وجود مرجح.
والسبب في ذلك: أن المحال إنما هو وجود الفعل في الخارج بلا سبب
وفاعل. وأما صدور الفعل الاختياري عن الفاعل من دون وجود مرجح له ليس
بمحال، لما عرفت من أن وجوده خارجا يدور مدار اختياره، وإعمال قدرته من
دون توقفه على شئ آخر كوجود المرجح أو نحوه. نعم، بدونه يكون لغوا وعبثا.
وقد تحصل من ذلك: أنه لا دخل لوجود المرجح في إمكان الفعل أصلا، ولا
صلة لأحدهما بالآخر. على أن وجود المرجح لاختيار طبيعي الفعل كاف وإن
كانت أفراده متساوية، من دون أن يكون لبعضها مرجح بالإضافة إلى بعضها
الآخر، ولا يلزم وجوده في كل فعل شخصي اختاره المكلف.
ودعوى: أن الاختيار هو المرجح في فرض التساوي ساقطة بأن الاختيار لا
يمكن أن يكون مرجحا، لوضوح أن المرجح ما يدعو الإنسان إلى اختيار أحد
فردين متساويين أو أفراد متساوية، فلا يعقل أن يكون هو المرجح.

(1) سيأتي التفصيل في ص 88 - 92 فانتظر.
46

على أنه لو كان مرجحا لم يبق موضوع، لما ذكر من أن ترجيح وجود الفعل
على عدمه يتوقف على وجود مرجح، لفرض أنه موجود وهو الاختيار.
ومن هنا يظهر بطلان ما ذكر: من أن الفعل الصادر من دون وجود مرجح
اتفاقي، لا اختياري.
وأما النقطة الثالثة فقد ظهر فسادها مما أشرنا إليه في النقطة الثانية: من أن
المحال إنما هو وجود الفعل بلا سبب وفاعل، لا وجوده بدون وجود مرجح. وقد
وقع الخلط في كلامه بين هذين الأمرين، وذلك لأن ما يوجب سد باب إثبات
الصانع إنما هو وجود الممكن بدونه، حيث قد برهن في موطنه استحالة ترجح
الممكن ووجوده من دون سبب وفاعل، لأن حاجة الممكن إليه داخلة في كمون
ذاته وواقع مغزاه، لفرض أنه عين الفقر والحاجة، لا ذات له الفقر والحاجة، فلا
يمكن تحققه ووجوده بدونه.
وأما وجوده بدون وجود مرجح - كما هو محل الكلام - فلا محذور فيه أصلا.
وأما النقطة الرابعة فقد عرفت أن الفعل الاختياري لا يتوقف على وجود
مرجح له. وعلى تقدير توقفه عليه وافتراضه فلا يلزم أن يكون اختياريا دائما،
لوضوح أن المرجح قد يكون اختياريا، وقد لا يكون اختياريا. وعلى تقدير أن
يكون اختياريا فلا يلزم التسلسل، وذلك لأن الفعل في وجوده يحتاج إلى وجود
مرجح، وأما المرجح فلا يحتاج في وجوده إلى مرجح آخر، بل هو ذاتي له فلا
يحتاج إلى سبب كما هو ظاهر.
وأما النقطة الخامسة فيظهر خطؤها مما ذكرناه: من أنه لا دخل للمرجح في
صدور الفعل بالاختيار، فيمكن صدوره عن اختيار مع عدم وجود المرجح له أصلا.
كما أنه يظهر بذلك: أن وجوده لا يوجب وجوب صدور الفعل وضرورة
وجوده في الخارج، وذلك لأن الفعل الاختياري ما يصدر بالاختيار وإعمال
القدرة، سواء أكان هناك مرجح أم لم يكن، بداهة أن المرجح مهما كان نوعه لا
47

يوجب خروج الفعل عن الاختيار، ولو كان ذلك المرجح هو الإرادة، لما سنشير
إليه إن شاء الله تعالى: من أن الإرادة مهما بلغت ذروتها من القوة والشدة لا توجب
سلب الاختيار عن الإنسان (1).
الثالث: ما إليكم لفظه: (إن فعل العبد ممكن في نفسه، وكل ممكن مقدور لله
تعالى، لما مر من شمول قدرته للممكنات بأسرها، وقد مر مخالفة الناس من
المعتزلة والفرق الخارجة عن الإسلام في أن كل ممكن مقدور لله تعالى على
تفاصيل مذاهبهم، وإبطالها في بحث قادرية الله تعالى، ولا شئ مما هو مقدور لله
بواقع بقدرة العبد، لامتناع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد) (2).
والجواب عنه: أما ما ذكره من الصغرى والكبرى - يعني: أن فعل العبد ممكن،
وكل ممكن مقدور لله تعالى - وإن كان صحيحا، ضرورة أن الممكنات بشتى
أنواعها وأشكالها مقدورة له تعالى، فلا يمكن خروج شئ منها عن تحت قدرته
وسلطنته إلا أن ما فرعه على ذلك من أنه لا شئ مما هو مقدور لله بواقع تحت
قدرة العبد، لامتناع اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد خاطئ جدا.
والسبب في ذلك: ما سيأتي بيانه بشكل واضح من أن أفعال العباد رغم كونها
مقدورة لله تعالى من ناحية أن مبادئها بيده سبحانه مقدورة للعباد أيضا وواقعة
تحت اختيارهم وسلطانهم فلا منافاة بين الأمرين أصلا (3).
وبكلمة أخرى: أن كل مقدور ليس واجب الوجود في الخارج لتقع المنافاة
بينهما، بداهة أنه لا مانع من كون فعل واحد مقدورا لشخصين، لعدم الملازمة بين
كون شئ مقدورا لأحد وبين صدوره عنه في الخارج، فالصدور يحتاج إلى أمر
زائد عليه، وهو إعمال القدرة والمشيئة.
ومن ضوء هذا البيان يظهر وقوع الخلط في هذا الدليل بين كون أفعال العباد

(1) سيأتي تفصيله في ص 53 فانتظر.
(2) انظر شرح المواقف: ج 8 ص 148، المرصد السادس.
(3) سيأتي في ص 70 - 71.
48

مقدورة لله تعالى وبين وقوعها خارجا بإعمال قدرته.
وعليه، فما ذكره من الكبرى وهي: استحالة اجتماع قدرتين مؤثرتين على
مقدور واحد خاطئ جدا.
نعم، لو أراد من القدرة المؤثرة إعمالها خارجا فالكبرى المزبورة وإن كانت
تامة إلا أنها فاسدة من ناحية أخرى، وهي: أن أفعال العباد لا تقع تحت مشيئة الله
وإعمال قدرته على ما سنذكره (1) إن شاء الله تعالى، وإنما تقع مبادئها تحت مشيئته
وإعمال قدرته لأنفسها، فإذا لا يلزم اجتماع قدرتين مؤثرتين على شئ واحد.
لحد الآن قد تبين بطلان هذه الوجوه وعدم إمكان القول بشئ منها.
ثم إن من الغريب ما نسب في شرح المواقف إلى أبي الحسن الأشعري، واليك
نصه: (إن أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى وحدها، وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل
الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا، فإذا لم يكن هناك
مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما، فيكون فعل العبد مخلوقا لله إبداعا
وإحداثا ومكسوبا للعبد، والمراد بكسبه إياه: مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن
يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له، وهذا مذهب
الشيخ أبي الحسن الأشعري) (2).
ووجه الغرابة: أما أولا: فلا دليل على ثبوت هذه العادة لله تعالى.
وأما ثانيا: فقد قام البرهان القطعي على عدم واقع موضوعي لها أصلا.
توضيح ذلك: أن الكلام من هذه الناحية تارة يقع في المعاليل الطبيعية
المترتبة على عللها. واخرى في الأفعال الاختيارية.
أما الأولى: فلأنها تخضع لقوانين طبيعية ونظم خاصة أودعها الله تعالى في
كمون ذاتها وطبائعها ضمن إطار معين، وهي مبدأ السنخية والتناسب.
والسر في ذلك: أن العلل تملك معاليلها في واقع ذواتها وكمون طبائعها بالنحو

(1) سيأتي بيانه في ص 70 - 71 فانتظر.
(2) راجع شرح المواقف: المرصد السادس ج 8 ص 145.
49

الأتم والأكمل، وليست المعاليل موجودات اخر في قبال وجوداتها، بل هي تتولد
منها ومن مراتب وجودها النازلة، وعليه فبطبيعة الحال تتناسب معها، مثلا: معنى
كون الحرارة معلولة للنار هو أن النار تملك الحرارة في صميم ذاتها وتتولد منها
وتكون من مراتب وجودها، وهذا هو التفسير الصحيح لاعتبار السنخية والتناسب
بينهما.
فالنتيجة: أن الكائنات الطبيعية بعللها ومعاليلها جميعا خاضعة لقانون
التناسب والتسانخ، ولا تتخلف عن السير على طبقه أبدا. وعلى ضوء هذا فلا
يمكن القول بأن ترتب المعاليل على عللها بمجرد جريان عادة الله تعالى بذلك من
دون علاقة ارتباط ومناسبة بينهما رغم أن العادة لا تحصل إلا بالتكرار.
وعليه، فما هو المبرر لصدور أول معلول عن علته مع عدم ثبوت العادة
هناك؟ وما هو الموجب لتأثيرها فيه ووجوده عقيب وجودها؟ ومن الطبيعي أنه
ليس ذلك إلا من ناحية ارتباطه معه ذاتا ووجودا، فإذا كان المعلول الأول خاضعا
لقانون العلية فكذلك المعلول الثاني...، وهكذا، بداهة عدم الفرق بينهما من هذه
الناحية أبدا.
وكيف يمكن أن يقال: إن وجود الحرارة - مثلا - عقيب وجود النار في أول
سلسلتهما الطولية مستند إلى مبدأ السنخية والمناسبة وخاضع له، وأما بعده فهو من
جهة جريان عادة الله تعالى بذلك، لا من جهة خضوعه لذلك المبدأ؟
فالنتيجة: أن مرد هذه المقالة إلى إنكار واقع مبدأ العلية، وهو لا يمكن.
وأما الثانية وهي الأفعال الاختيارية: فقد تقدم أنها تصدر بالاختيار وإعمال
القدرة، فمتى شاء الفاعل إيجادها أوجدها في الخارج، وليس الفاعل بمنزلة الآلة
كما سيأتي (1) بيانه بصورة مفصلة.
على أنه كيف يمكن أن يثبت العادة في أول فعل صادر عن العبد؟ فإذا ما هو
المؤثر في وجوده؟ فلا مناص من أن يقول: إن المؤثر فيه هو إعمال القدرة

(1) سيأتي التفصيل في ص 53 فانتظر.
50

والسلطنة، ومن الطبيعي أنه لا فرق بينه وبين غيره من هذه الناحية.
فالنتيجة: أن ما نسب إلى أبي الحسن الأشعري لا يرجع إلى معنى محصل
أصلا. هذا تمام الكلام في هذه الوجوه ونقدها.
بقي هنا عدة وجوه أخر قد استدل بها على نظرية الأشعري أيضا:
الأول: المعروف والمشهور بين الفلاسفة قديما وحديثا: أن الأفعال
الاختيارية بشتى أنواعها مسبوقة بالإرادة. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنها إذا بلغت حدها التام تكون علة تامة لها.
وتبعهم في ذلك جماعة من الأصوليين منهم: المحقق صاحب الكفاية (1)
وشيخنا المحقق (2) (قدس سرهما).
فالنتيجة على ضوء ذلك: هي وجوب صدور الفعل عند تحقق الإرادة
واستحالة تخلفه عنها، بداهة استحالة تخلف المعلول عن العلة التامة.
وإلى هذا أشار شيخنا المحقق (قدس سره) بقوله: (الإرادة ما لم تبلغ حدا يستحيل
تخلف المراد عنها لا يمكن وجود الفعل، لأن معناه صدور المعلول بلا علة تامة،
وإذا بلغت ذلك الحد امتنع تخلفه عنها، وإلا لزم تخلف المعلول عن علته التامة) (3).
وقال صدر المتألهين: (إن إرادتك ما دامت متساوية النسبة إلى وجود المراد
وعدمه لم تكن صالحة لأحد ذينك الطرفين على الآخر، وأما إذا صارت حد
الوجوب لزم منه وقوع الفعل) (4).
ومراده من التساوي: بعض مراتب الإرادة، كما صرح بصحة إطلاق الإرادة
عليه. كما أن مراده من صيرورتها حد الوجوب: بلوغها إلى حدها التام، فإذا بلغت
ذلك الحد تحقق المراد في الخارج، وقد صرح بذلك في غير واحد من الموارد.
وكيف كان، فتتفق كلمات الفلاسفة على ذلك رغم أن الوجدان لا يقبله. هذا
من ناحية.

(1) انظر كفاية الأصول: ص 88.
(2) راجع نهاية الدراية: ج 1 ص 169.
(3) راجع نهاية الدراية: ج 1 ص 169.
(4) انظر الأسفار: الفصل الثاني من الموقف الرابع ج 6 ص 317.
51

ومن ناحية أخرى: أن الإرادة بكافة مبادئها من التصور والتصديق
بالفائدة والميل وما شاكلها غير اختيارية، وتحصل في أفق النفس قهرا من دون أن
تنقاد لها.
نعم، قد يمكن للإنسان أن يحدث الإرادة والشوق في نفسه إلى إيجاد شئ
بالتأمل فيما يترتب عليه من الفوائد والمصالح، ولكن ننقل الكلام إلى ذلك الشوق
المحرك للتأمل فيه. ومن الطبيعي أن حصوله للنفس ينتهي بالأخرة إلى ما هو
خارج عن اختيارها، وإلا لذهب إلى ما لا نهاية له.
وعلى ضوء ذلك: أن الإرادة لابد أن تنتهي: إما إلى ذات المريد الذي هو بذاته
وذاتياته وصفاته وأفعاله منته إلى الذات الواجبة. وإما إلى الإرادة الأزلية.
وقد صرح بذلك المحقق الأصفهاني (قدس سره) بقوله: (إن كان المراد من انتهاء الفعل
إلى إرادة الباري تعالى بملاحظة انتهاء إرادة العبد إلى إرادته تعالى، لفرض
إمكانها المقتضي للانتهاء إلى الواجب فهذا غير ضائر بالفاعلية التي هي شأن
الممكنات، فإن العبد بذاته وبصفاته، وأفعاله لا وجود لها إلا بإفاضة الوجود من
الباري تعالى، ويستحيل أن يكون الممكن مفيضا للوجود) (1).
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنه لا مناص من الالتزام بالجبر
وعدم السلطنة والاختيار للإنسان على الأفعال الصادرة عنه في الخارج.
ولنأخذ بنقد هذه النظرية على ضوء درس نقطتين:
الأولى: أن الإرادة لا تعقل أن تكون علة تامة للفعل.
الثانية: أن الأفعال الاختيارية بكافة أنواعها مسبوقة بإعمال القدرة
والسلطنة.
أما النقطة الأولى: فلا ريب في أن كل أحد إذا راجع وجدانه وفطرته في
صميم ذاته - حتى الأشعري - يدرك الفرق بين حركة يد المرتعش وحركة يد
غيره، وبين حركة النبض وحركة الأصابع، وبين حركة الدم في العروق وحركة اليد

(1) نهاية الدراية: ج 1 ص 171.
52

يمنة ويسرة...، وهكذا. ومن الطبيعي أنه لا يتمكن أحد ولن يتمكن من إنكار
ذلك الفرق بين هذه الحركات، كيف؟ حيث إن إنكاره بمثابة إنكار البديهي:
كالواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء، وما شاكلهما. ولو كانت الإرادة
علة تامة وكانت حركة العضلات معلولة لها كان حالها عند وجودها حال حركة يد
المرتعش وحركة الدم في العروق ونحوهما، مع أن ذلك - مضافا إلى أنه خلاف
الوجدان والضمير - خاطئ جدا ولا واقع له أبدا.
والسبب في ذلك: أن الإرادة مهما بلغت ذروتها لا يترتب عليها الفعل كترتب
المعلول على علته التامة، بل الفعل على الرغم من وجودها وتحققها كذلك يكون
تحت اختيار النفس وسلطانها، فلها أن تفعل ولها أن لا تفعل.
وإن شئت قلت: إنه لا شبهة في سلطنة النفس على مملكة البدن وقواه الباطنة
والظاهرة، وتلك القوى بكافة أنواعها تحت تصرفها واختيارها. وعليه، فبطبيعة
الحال تنقاد حركة العضلات لها، وهي مؤثرة فيها تمام التأثير من غير مزاحم لها
في ذلك، ولو كانت الإرادة علة تامة لحركة العضلات ومؤثرة فيها تمام التأثير لم
تكن للنفس تلك السلطنة، ولكانت عاجزة عن التأثير فيها مع فرض وجودها،
وهو خاطئ وجدانا وبرهانا.
أما الأول: فلما عرفت من أن الإرادة مهما بلغت من القوة والشدة لا تترتب
عليها حركة العضلات كترتب المعلول على العلة التامة ليكون الإنسان مقهورا في
حركاته وأفعاله (1).
وأما الثاني: فلأن الصفات التي توجد في أفق النفس غير منحصرة بصفة
الإرادة، بل لها صفات أخرى كصفة الخوف ونحوها. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن صفة الخوف إذا حصلت في النفس تترتب عليها آثار
قهرا وبغير اختيار وانقياد للنفس: كارتعاش البدن، واصفرار الوجه، ونحوهما.

(1) تقدم آنفا فلاحظ.
53

ومن المعلوم أن تلك الأفعال خارجة عن الاختيار حيث كان ترتبها عليها كترتب
المعلول على العلة التامة. فلو كانت الإرادة أيضا علة تامة لوجود الأفعال فإذا ما
هو نقطة الفرق بين الأفعال المترتبة على صفة الإرادة والأفعال المترتبة على صفة
الخوف؟ إذ على ضوء هذه النظرية فهما في إطار واحد، فلا فرق بينهما إلا
بالتسمية فحسب، من دون واقع موضوعي لها أصلا، مع أن الفرق بين الطائفتين
من الأفعال من الواضحات الأولية.
ومن هنا يحكم العقلاء باتصاف الطائفة الأولى بالحسن والقبح العقليين،
واستحقاق فاعلها المدح والذم، دون الطائفة الثانية. ومن الطبيعي أن هذا الفرق
يرتكز على نقطة موضوعية، وهي: اختيارية الطائفة الأولى دون الطائفة الثانية، لا
على مجرد تسمية الأولى بالأفعال الاختيارية والثانية بالأفعال الاضطرارية، مع
عدم واقع موضوعي لها. ومن ذلك يظهر: أن الإرادة تستحيل أن تكون علة تامة
للفعل.
ولتوضيح ذلك نأخذ بمثالين:
الأول: أننا إذا افترضنا شخصا تردد بين طريقين: أحدهما مأمون من كل
خطر على النفس والمال والعرض وفيه جميع متطلباته الحيوية وما تشتهيه نفسه،
والآخر غير مأمون من الخطر وفيه ما ينافي طبعه ولا يلائم إحدى قواه ففي مثل
ذلك - بطبيعة الحال - تحدث في نفسه إرادة واشتياق إلى اختيار الطريق الأول
واتخاذه مسلكا له دون الطريق الثاني، ولكن مع ذلك نرى بالوجدان أن اختياره
هذا ليس قهرا عليه، بل حسب اختياره وإعمال قدرته، حيث إن له - والحال هذه -
أن يختار الطريق الثاني.
الثاني: إذا فرضنا أن شخصا سقط من شاهق ودار أمره بين أن يقع على ولده
الأكبر المؤدي إلى هلاكه وبين أن يقع على ولده الأصغر ولا يتمكن من التحفظ
على نفس كليهما معا فعندئذ - بطبيعة الحال - يختار سقوطه على ابنه الأصغر
- مثلا - من جهة شدة علاقته بابنه الأكبر، حيث إنه بلغ حد الرشد والكمال من
54

جهة، وارتضى سلوكه من جهة أخرى. ومن البديهي أن اختياره السقوط على
الأول ليس من جهة شوقه إلى هلاكه وموته وإرادته له، بل هو يكره ذلك كراهة
شديدة ومع ذلك يصدر منه هذا الفعل بالاختيار وإعمال القدرة، ولو كانت الإرادة
علة تامة للفعل لكان صدوره عنه محالا، لعدم وجود علته وهي الإرادة. ومن
المعلوم استحالة تحقق المعلول بدون علته.
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه أمران:
الأول: أن الإرادة في أية مرتبة افترضت بحيث لا يتصور فوقها مرتبة أخرى
لا تكون علة تامة للفعل، ولا توجب خروجه عن تحت سلطان الإنسان واختياره.
الثاني: على فرض تسليم أن الإرادة علة تامة للفعل إلا أن من الواضح جدا
أن العلة غير منحصرة بها. بل له علة أخرى أيضا، وهي: إعمال القدرة والسلطنة
للنفس، ضرورة أنها لو كانت منحصرة بها لكان وجوده محالا عند عدمها، وقد
عرفت (1) أن الأمر ليس كذلك.
ومن هنا يظهر: أن ما ذكره الفلاسفة (2) وجماعة من الأصوليين منهم: شيخنا
المحقق (3) (قدس سره) من امتناع وجود الفعل عند عدم وجود الإرادة خاطئ جدا.
ولعل السبب المبرر لالتزامهم بذلك - أي: بكون الإرادة علة تامة للفعل مع
مخالفته للوجدان الصريح ومكابرته للعقل السليم، واستلزامه التوالي الباطلة، منها:
كون بعث الرسل وإنزال الكتب لغوا - هو التزامهم بصورة موضوعية بقاعدة " أن
الشئ ما لم يجب لم يوجد " (4) حيث إنهم قد عمموا هذه القاعدة في كافة الممكنات
بشتى أنواعها وأشكالها، ولم يفرقوا بين الأفعال الإرادية والمعاليل الطبيعية من
هذه الناحية، وقالوا: سر عموم هذه القاعدة حاجة الممكن وفقره الذاتي إلى العلة.
ومن الطبيعي أنه لا فرق في ذلك بين ممكن وممكن آخر. هذا من ناحية.

(1) مر ذكره آنفا فلاحظ.
(2) راجع الأسفار: ج 8 ص 351.
(3) انظر نهاية الدراية: ج 1 ص 169.
(4) انظر الأسفار: فصل 15 من المنهج الثاني ج 1 ص 221.
55

ومن ناحية أخرى: حيث إنهم لم يجدوا في الصفات النفسانية صفة تصلح لأن
تكون علة للفعل غير الإرادة فلذلك التزموا بترتب الفعل عليها ترتب المعلول على
العلة التامة.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أن كل ممكن ما لم يجب وجوده
من قبل وجود علته يستحيل تحققه ووجوده في الخارج.
ومن هنا يقولون: إن كل ممكن محفوف بوجوبين (1): " وجوب سابق " وهو
الوجوب في مرتبة وجود علته، و " وجوب لاحق " وهو الوجوب بشرط وجوده
خارجا.
ولنبحث هنا عن أمرين:
الأول: عن الفرق الأساسي بين المعاليل الطبيعية والأفعال الاختيارية.
الثاني: عدم جريان القاعدة المذكورة في الأفعال الاختيارية.
أما الأمر الأول: فقد سبق بشكل إجمالي أن الأفعال الإرادية تمتاز عن
المعاليل الطبيعية بنقطة واحدة، وهي: أنها تحتاج في وجودها إلى فاعل (2)، وقد
أشار إلى ذلك قوله تعالى: * (أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون) * (3)، فأثبت
" عز من قائل " بذلك احتياج الفعل إلى فاعل وخالق، وبدونه محال، والفاعل لهذه
الأفعال هو نفس الإنسان، فإنها تصدر عنها بالاختيار وإعمال القدرة والسلطنة،
وليس في إطارها حتم ووجوب، فلها أن تشاء وتعمل، ولها أن لا تشاء ولا تعمل،
فهذه المشيئة والسلطنة لا تتوقف على شئ آخر كالإرادة ونحوها، بل هي كامنة
في صميم ذات النفس، حيث إن الله تعالى خلق النفس كذلك. وهذا بخلاف
المعاليل الطبيعية فإنها تحتاج في وجودها إلى علل طبيعية تعاصرها وتؤثر فيها
على ضوء مبدأ السنخية في إطار الحتم والوجوب، ولا يعقل فيها الاختيار.
وإن شئت فقل: إن الفعل الاختياري حيث كان يخضع لاختيار الإنسان

(1) انظر الأسفار: فصل (16) من المنهج الثاني ج 1 ص 224.
(2) تقدم في ص 47 فراجع.
(3) الطور: 35.
56

ومشيئته فلا يعقل وجود نظام له كامن في صميم ذاته ليكون سيره ووجوده تحت
إطار هذا النظام الخاص من دون تخلفه عنه.
والوجه في هذا واضح، وهو: أن مشيئة الإنسان تختلف باختلاف أفراده، كما
تختلف باختلاف حالاته النفسية ودواعيه الداخلية والخارجية، فلهذا السبب
جعل لها نظم وقوانين خاصة ليكون سيرها الوجودي تحت إطار هذه النظم، وهذا
بخلاف سلسلة المعاليل الطبيعية فإنها تخضع في سيرها الوجودي نظاما خاصا
وإطارا معينا الذي أودعه الله تعالى في كمون ذاتها، ويستحيل أن تتخلف عنه،
ولذا لا يعقل جعل نظام لها من الخارج، لعدم خضوعها له واستحالة تخلفها عن
نظمه الطبيعية، وهذا برهان قطعي على أن السلسلة الأولى سلسلة اختيارية فأمرها
وجودا وعدما بيد فاعلها، دون السلسلة الثانية فإنها مقهورة ومجبورة في سيرها
على طبق نظمها الطبيعية الموضوعة في صميم ذاتها وكمون واقعها.
لحد الآن قد تبين افتراق السلسلة الأولى عن السلسلة الثانية بنقطة
موضوعية، فلو كانت السلسلة الأولى كالسلسلة الثانية مقهورة ومجبورة في
سيرها الوجودي لم يمكن الفرق بينهما.
وأما الأمر الثاني: فالقاعدة المذكورة وإن كانت تامة في الجملة إلا أنه لا
صلة لها بالأفعال الاختيارية. والسبب في ذلك: أن هذه القاعدة ترتكز على مسألة
التناسب والسنخية التي هي النقطة الأساسية لمبدأ العلية، فإن وجود المعلول - كما
تقدم - مرتبة نازلة من وجود العلة، وليس شيئا أجنبيا عنه. وعلى هذا فبطبيعة
الحال أن وجود المعلول قد أصبح ضروريا في مرتبة وجود العلة، لفرض أنه
متولد منها ومستخرج من صميم ذاتها وواقع مغزاها، وهذا معنى احتفاف وجوده
بضرورة سابقة.
ومن الطبيعي أنه لا يمكن تفسير الضرورة في القاعدة المذكورة على ضوء
مبدأ العلية إلا في المعاليل الطبيعية، ولا يمكن تفسيرها في الأفعال الاختيارية
57

أصلا، وذلك لأن الأفعال الاختيارية سواء أكانت معلولة للإرادة أم كانت معلولة
لإعمال القدرة والسلطنة فلا يستند صدورها إلى مبدأ السنخية، بداهة أنها لا
تتولد من كمون ذات علتها وفاعلها، ولا تخرج عن واقع وجوده وصميم ذاته
لتكون من شؤونه ومراتبه، بل هي مباينة له ذاتا ووجودا، وعلى هذا فلا يمكن
التفسير الصحيح، لاحتفافها بالضرورة السابقة، فإن معنى هذا - كما عرفت - وجود
المعلول في مرتبة وجود علته، وهذا لا يعقل إلا في المعاليل الطبيعية (1).
ومن هنا يظهر: أننا لو قلنا بأن الإرادة علة تامة لها فمع ذلك لا صلة لها
بالقاعدة المزبورة، لوضوح أنه لا معنى لوجوب وجودها في مرتبة وجود
الإرادة ثم خروجها من تلك المرتبة إلى مرتبتها الخاصة.
وعلى الجملة: فإذا كانت العلة مباينة للمعلول وجودا ولم تكن بينهما علاقة
السنخية فبطبيعة الحال لا يتصور هنا وجوب وجود المعلول من قبل وجود علته،
فإذا ليس هنا إلا وجوده بعد وجودها من دون ضرورة سابقة، ومرد هذا بالتحليل
العلمي إلى عدم قابلية الإرادة للعلية.
وقد تحصل من ذلك: أن الفعل في وجوده يحتاج إلى فاعل ما، ويصدر عنه
باختياره وإعمال قدرته، ولا تأثير للإرادة فيه بنحو العلة التامة. نعم، قد يكون لها
تأثير فيه بنحو الاقتضاء.
فالنتيجة: أنه لا مجال للقاعدة المتقدمة في إطار سلسلة الأفعال الاختيارية
فتختص بسلسلة المعاليل الطبيعية (2).
وأما النقطة الثانية - وهي: أن الفعل الاختياري ما أوجده الإنسان باختياره
وإعمال قدرته - فقد تبين وجهها على ضوء ما حققناه في النقطة الأولى: من أن
الإرادة مهما بلغت ذروتها من القوة لن تكون علة تامة للفعل، وعليه فبطبيعة الحال
يستند وجود الفعل في الخارج إلى أمر آخر، وهذا الأمر: هو إعمال القدرة

(1) مر ذكره في ص 49 فراجع.
(2) أي: قاعدة " أن الشئ ما لم يجب لم يوجد " المتقدمة في ص 55.
58

والسلطنة المعبر عنهما بالاختيار. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الله - عز وجل - قد خلق النفس للإنسان واجدة لهذه
السلطنة والقدرة، وهي ذاتية لها وثابتة في صميم ذاتها، ولأجل هذه السلطنة
تخضع العضلات لها وتنقاد في حركاتها، فلا تحتاج النفس في إعمالها لتلك
السلطنة والقدرة إلى إعمال سلطنة وقدرة أخرى.
ومن هنا يظهر فساد ما قيل: من أن الاختيار ممكن، والمفروض أن كل ممكن
يفتقر إلى علة، فإذن ما هو علة الاختيار؟
ووجه الظهور ما عرفت: من أن الفعل الاختياري يحتاج إلى فاعل وخالق، لا
إلى علة (1)، والفاعل لهذه الصفة - أي: صفة الاختيار - هو النفس، غاية الأمر أنها
تصدر عنها بنفسها، أي: بلا توسط مقدمة أخرى، وسائر الأفعال تصدر عنها
بواسطتها.
وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه أمران:
الأول: أن الفعل الاختياري إنما يصدر عن الفاعل بإعمال قدرته لا بالإرادة.
نعم، الإرادة قد تكون مرجحة لاختياره.
الثاني: أن اختيار النفس للفعل وإن كان يفتقر غالبا إلى وجود مرجح إلا أنه
ليس من ناحية استحالة صدوره عنها بدونه، بل من ناحية خروجه عن اللغوية.
ولشيخنا المحقق (قدس سره) في هذا الموضوع كلام، حيث إنه (قدس سره) بعدما أصر على
أن الإرادة علة تامة للفعل أورد على ما ذكرناه: من أن الفعل الاختياري ما أوجده
الفاعل بالاختيار وإعمال القدرة، وليس معلولا للإرادة بعدة وجوه، وقبل بيان
هذه الوجوه تعرض (قدس سره) لكلام لا بأس بالإشارة إليه ونقده، وإليكم نصه:
(إن الالتزام بالفعل النفساني المسمى بالاختيار: إما لأجل تحقيق استناد
حركة العضلات إلى النفس حتى تكون النفس فاعلا ومؤثرا في العضلات، بخلاف
ما إذا استندت حركة العضلات إلى صفة النفس وهي الإرادة، فإن المؤثر فيها هي

(1) مر ذكره في ص 56 و 58 فلاحظ.
59

تلك الصفة لا النفس. وإما لأجل أن الإرادة حيث إنها صفة قهرية منتهية إلى
الإرادة الأزلية توجب كون الفعل المترتب عليها قهريا غير اختياري، فلابد من
فرض فعل نفساني وهو عين الاختيار، لئلا يلزم كون الفعل بواسطة هذه الصفة
القهرية قهريا.
فإن كان الأول ففيه: أن العلة الفاعلية لحركة العضلات هي النفس بواسطة
اتحادها مع القوى، والعلم والقدرة والإرادة مصححات لفاعلية النفس، وبها تكون
النفس فاعلا بالفعل، والفعل مستند إلى النفس، وهي العلة الفاعلية دون شرائط
الفاعلية كما في غير المقام، فإن المقتضى يستند إلى المقتضي دون الشرائط وإن
كان له ترتب على المقتضى وشرائطه، فمن هذه الحيثية لا حاجة إلى فعل نفساني
يكون محققا للاستناد.
وإن كان الثاني ففيه: أن هذا الأمر المسمى بالاختيار: إن كان عين تأثير
النفس في حركة العضلات وفاعليتها لها فلا محالة لا مطابق له في النفس ليكون
أمرا ما وراء الإرادة، إذ ماله مطابق بالذات ذات العلة والمعلول وذات الفاعل
والمفعول، وحيثية العلية والتأثير والفاعلية انتزاعية، ولا يعقل أن يكون لها مطابق،
إذ لو كان لها مطابق في الخارج لاحتاج ذلك المطابق إلى فاعل، والمفروض أن
لحيثية فاعلية هذا الفاعل أيضا مطابق فيه...، وهكذا إلى ما لا نهاية له، ولأجل
ذلك لا يعقل أن يكون لهذه الأمور الانتزاعية مطابق بالذات، بل هي منتزعة عن
مقام الذات، فلا واقع موضوعي لها أصلا.
وإن كان أمرا قائما بالنفس فنقول: إن قيامه بها قيام الكيف بالمتكيف، فحاله
حال الإرادة من حيث كونه صفة نفسانية داخلة في مقولة الكيف النفساني، فكل ما
هو محذور ترتب حركة العضلات على صفة الإرادة وارد على ترتب الحركات
على الصفة المسماة بالاختيار، فإنها أيضا صفة تحصل في النفس بمبادئها قهرا
فالفعل المترتب عليها كذلك (1).

(1) انظر نهاية الدراية: ج 1 ص 168.
60

وغير خفي أنه لا وجه لتشقيقه (قدس سره) الاختيار بالشقوق المذكورة، ضرورة أن
المراد منه معلوم، وهو كونه فعل النفس ويصدر عنها بالذات، أي: بلا واسطة مقدمة
أخرى كما عرفت (1). وبقية الأفعال تصدر عنها بواسطته، وهو فعل قلبي لا
خارجي. ومن هنا يظهر: أنه ليس من مقولة الكيف، ولا هو عبارة عن فاعلية
النفس، وعليه فبطبيعة الحال يكون قيامه بها قيام الفعل بالفاعل، لا الكيف
بالمتكيف، ولا الحال بالمحل، ولا الصفة بالموصوف.
ولكنه (قدس سره) أورد على ذلك - أي: على كون قيامه بها قيام الفعل بالفاعل - بعدة
وجوه:
الأول: ما إليك لفظه: (إن النفس بما هي مع قطع النظر عن قواها الباطنة
والظاهرة لا فعل لها، وفاعلية النفس لموجودات عالم النفس التي مرت سابقا هو
إيجادها النوري العقلاني في مرتبة القوة العاقلة، أو الوجود الفرضي في مرتبة
الواهمة، أو الوجود الخيالي في مرتبة المتخيلة. كما أن استناد الإبصار والإسماع
إليها أيضا بلحاظ أن هذه القوى الظاهرة من درجات تنزل النفس إليها. ومن الواضح
أن الإيجاد النوري المناسب لإحدى القوى المذكورة أجنبي عن الاختيار الذي
جعل أمرا آخر مما لابد منه في كل فعل اختياري، بداهة أن النفس بعد حصول
الشوق الأكيد ليس لها إلا هيجان بالقبض والبسط في مرتبة القوة العضلاتية) (2).
نلخص ما أفاده (قدس سره) في عدة نقاط:
الأولى: أن النفس تتحد مع كافة قواها الباطنة والظاهرة، ولذا قد اشتهر في
الألسنة أن النفس في وحدتها كل القوى عليه، فبطبيعة الحال أن الأفعال التي
تصدر عن هذه القوى تصدر حقيقة منها، لفرض أنها من شؤونها ومن مراتب
وجودها ومنقادة لها تمام الانقياد فلا يصدر عنها فعل إلا بأمرها.
الثانية: أنه لا فعل للنفس بالمباشرة، وإنما الفعل يصدر عنها بواسطة هذه
القوى، ومن المعلوم أن شيئا من الأفعال الصادرة عنها ليس بصفة الاختيار.

(1) تقدم في ص 59 فراجع.
(2) نهاية الدراية: ج 1 ص 169.
61

الثالثة: أن النفس في وحدتها لا تؤثر في شئ من الأفعال الخارجية، وإنما
تؤثر فيها بعد حصول الإرادة والشوق الأكيد حيث يحصل لها بعده هيجان بالقبض
والبسط في مرتبة القوة العضلاتية، فتكون الإرادة الجزء الأخير من العلة التامة.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فالأمر فيها كما ذكره (قدس سره)، لأن هذه القوى كلها جنود للنفس
وتعمل بقيادتها، فالأفعال الصادرة عنها في الحقيقة تصدر عن النفس، وهذا واضح
فلا حاجة إلى مزيد بيان.
وأما النقطة الثانية فيرد عليها:
أولا: أن الأمر ليس كما ذكره (قدس سره)، إذ لا ريب في أن للنفس أفعالا تصدر عنها
باختيارها وسلطنتها مباشرة، أي: من دون توسيط إحدى قواها الباطنة والظاهرة.
ومنها: البناء القلبي، فإن لها أن تبنى على شئ، وأن لا تبنى عليه، وليس
البناء فعلا يصدر عن إحدى قوة من قواها كما هو ظاهر.
ومنها: قصد الإقامة عشرة أيام، فإن لها أن تقصد الإقامة في موضع عشرة
أيام، ولها أن لا تقصد، فهو تحت يدها وسلطنتها مع قطع النظر عن وجود كافة قواها.
ومنها: عقد القلب، وقد دل عليه قوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها
أنفسهم) * (1) فأثبت سبحانه أن عقد القلب على شئ غير اليقين به، فإن الكفار
كانوا متيقنين بالرسالة والنبوة بمقتضى الآية الكريمة ولم يكونوا عاقدين عليها.
وكيف كان، فلا شبهة في أن للنفس أفعالا في أفقها تصدر عنها باختيارها،
وإعمال سلطنتها: كالبناء والالتزام والقصد وعقد القلب وما شاكل ذلك.
وثانيا: على فرض تسليم عدم صدور الفعل عن النفس من دون توسط إحدى
قواها الباطنة والظاهرة إلا أنك عرفت (2) أن الأفعال التي تصدر عن قواها في
الحقيقة تصدر عنها، وهي الفاعل لها حقيقة وواقعا.
والسبب في ذلك: أن هذه القوى بأجمعها تصحح فاعلية النفس بالفعل، فإن

(1) النمل: 14.
(2) تقدم آنفا فلاحظ.
62

فاعليتها كذلك تتوقف على توفر شروط منها: وجود إحدى قواها، حيث إن
فاعليتها في مرتبة القوة العاقلة إدراك الأمور المعقولة بواسطتها، وفي مرتبة القوة
الواهمة الفرض والتقدير، وفي مرتبة القوة المتخيلة الخيال، وفي مرتبة القوة
الباصرة الإبصار، وفي مرتبة القوة السامعة الإسماع، وفي مرتبة القوة العضلاتية
التحريك نحو إيجاد فعل في الخارج.
وإن شئت قلت: إن النفس متى شاءت أن تدرك الحقائق الكلية أدركت بالقوة
العاقلة، ومتى شاءت أن تفرض الأشياء وتقدرها قدرت بالقوة الواهمة، ومتى
شاءت أن تفعل شيئا فعلت بالقوة العضلاتية...، وهكذا.
وعلى هذا فبطبيعة الحال أن هذه الأفعال التي تصدر عنها بواسطة تلك القوى
جميعا مسبوقة بإعمال قدرتها واختيارها، ولا فرق من هذه الناحية بين الأفعال
الخارجية التي تصدر عنها بالقوة العضلاتية وبين الأفعال الداخلية التي تصدر
عنها بإحدى تلك القوى.
فما أفاده (قدس سره): من أن أفعال تلك القوى أجنبية عن الاختيار مبني على جعل
الاختيار في عرض تلك الأفعال، ولذلك قال: (ما هو فاعله والمؤثر فيه). ولكن
قد عرفت بشكل واضح أن الاختيار في طولها، وفاعله هو النفس.
فالنتيجة: أن الاختيار يمتاز عن هذه الأفعال في نقطتين:
الأولى: أن الاختيار يصدر عن النفس بالذات لا بواسطة اختيار آخر، وإلا
لذهب إلى ما لا نهاية له، وتلك الأفعال تصدر عنها بواسطته لا بالذات.
الثانية: أن الاختيار لم يصدر عنها بواسطة شئ من قواها دون تلك الأفعال،
حيث إنها تصدر عنها بواسطة هذه القوى.
وأما النقطة الثالثة: فقد ظهر خطأها مما قدمناه آنفا: من أن الإرادة ليست علة
تامة للفعل، ولا جزءا أخيرا لها فلاحظ، ولا نعيد (1).
الثاني (2): ما إليك لفظه: (إن هذا الفعل النفساني المسمى بالاختيار إذا حصل في

(1) مر ذكره في ص 58 فراجع.
(2) أي الثاني من وجوه الإيراد.
63

النفس فإن ترتبت عليه حركة العضلات بحيث لا تنفك الحركة عنه كان حال
الحركة وهذا الفعل النفساني حال الفعل وصفة الإرادة، فما المانع عن كون الصفة
علة تامة للفعل دون الفعل النفساني، وكونه وجوبا بالاختيار مثل كونه وجوبا
بالإرادة؟) (1).
وغير خفي أن ما ذكره (قدس سره) من الغرائب! والسبب في ذلك: أن الفعل وإن كان
مترتبا على الاختيار وإعمال القدرة في الخارج إلا أن هذا الترتب بالاختيار.
ومن المعلوم أن وجوب وجود الفعل الناشئ من الاختيار لا ينافي الاختيار، بل
يؤكده.
وبكلمة أخرى: أن النفس باختيارها وإعمال قدرتها أوجدت الفعل في
الخارج، فيكون وجوب وجوده بنفس الاختيار وإعمال القدرة، ومرده إلى
الوجوب بشرط المحمول، أي: بشرط الوجود. ومن الطبيعي أن مثل هذا الوجوب
لا ينافي الاختيار، حيث إن وجوبه معلول له فكيف يعقل أن يكون منافيا له؟
فيكون المقام نظير المسبب المترتب على السبب الاختياري، وهذا بخلاف
وجوب وجود الفعل من ناحية وجود الإرادة، فإنه ينافي كونه اختياريا، وذلك
لأن الإرادة - كما عرفت (2) - بكافة مبادئها غير اختيارية، فإذا فرضنا أن الفعل
معلول لها ومترتب عليها كترتب المعلول على العلة التامة فكيف يعقل كونه
اختياريا نظير ترتب المسبب على السبب الخارج عن الاختيار؟ وعلى ضوء هذا
البيان يمتاز وجوب الفعل المترتب على صفة الاختيار عن وجوب الفعل المترتب
على صفة الإرادة.
الثالث: ما إليك نص قوله: (إن الاختيار الذي هو فعل نفساني إن كان لا ينفك
عن الصفات الموجودة في النفس من العلم والقدرة والإرادة فيكون فعلا قهريا،
لكون مبادئه قهرية لا اختيارية. وإن كان ينفك عنها وأن تلك الصفات مرجحات
فهي بضميمة النفس الموجودة في جميع الأحوال علة ناقصة، ولا يوجد المعلول

(1) نهاية الدراية: ج 1 ص 169.
(2) قد تقدم في ص 52.
64

إلا بعلته التامة. وتوهم الفرق بين الفعل الاختياري وغيره من حيث كفاية وجود
المرجح في الأول دون الثاني من الغرائب، فإنه لا فرق بين ممكن وممكن في
الحاجة إلى العلة، ولا فرق بين معلول ومعلول في الحاجة إلى العلة التامة، فإن
الإمكان مساوق للافتقار إلى العلة، وإذا وجد ما يكفي في وجود المعلول به كان
علة تامة له، وإذا لم يكن كافيا في وجوده فوجود المعلول به خلف، فتدبره فإنه
حقيق) (1).
ولا يخفى أن ما أفاده (قدس سره) مبني على عموم قاعدة " أن الشئ ما لم يجب لم
يوجد " للأفعال الاختيارية أيضا، وأنه لا فرق بينها وبين المعاليل الطبيعية من
هذه الناحية. ولكن قد تقدم (2) بشكل واضح عدم عمومية القاعدة المذكورة،
واختصاصها على ضوء مبدأ السنخية والتناسب بسلسلة المعاليل الطبيعية. هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد سبق أن الإرادة وكذا غيرها من الصفات النفسانية لا
تصلح أن تكون علة تامة لوجود الفعل في الخارج (3).
ومن ناحية ثالثة: أن الصفات الموجودة في النفس: كالعلم والقدرة والإرادة
وما شاكلها ليست من مبادئ وجوده وتحققه في النفس كي يوجد فيها قهرا عند
وجود هذه الصفات، بل هو مباين لها، كيف؟ حيث إنه فعل النفس وتحت
سلطانها. وهذا بخلاف تلك الصفات فإنها أمور خارجة عن إطار اختيار النفس
وسلطانها.
وعلى ضوء هذه النواحي يظهر: أن ما أفاده (قدس سره): من أن الاختيار على تقدير
انفكاكه عن النفس يلزم كون النفس مع هذه الصفات علة ناقصة لا تامة، مع أن
المعلول لا يوجد إلا بوجود علته التامة خاطئ جدا.
والسبب في ذلك أولا: ما تقدم من أن الاختيار ذاتي للنفس فلا يعقل انفكاكه

(1) انظر نهاية الدراية: ج 1 ص 169.
(2) تقدم في ص 56 - 58 فراجع.
(3) تقدم في ص 56 - 58 فراجع.
65

عنها، وليس حاله من هذه الناحية حال سائر الأفعال الاختيارية (1).
وثانيا: ما عرفت بشكل واضح من أن الفعل لا يفتقر في وجوده إلى وجود
علة تامة له، بل هو يحتاج إلى وجود فاعل (2)، والمفروض أن النفس فاعل له، فإذا
لا معنى لما أفاده (قدس سره): من أن الفعل ممكن وكل ممكن يحتاج إلى علة تامة.
وإن أصررت على ذلك وأبيت إلا أن يكون للشئ علة تامة ويستحيل
وجوده بدونها فنقول: إن العلة التامة للفعل إنما هي إعمال القدرة والسلطنة
بتحريك القوة العضلاتية نحوه، ومن الطبيعي أن الفعل يتحقق بها ويجب وجوده،
ولكن بما أن وجوب وجوده مستند إلى الاختيار ومعلول له فلا ينافي الاختيار.
فالنتيجة: هي أن الممكن وإن كان بكافة أنواعه وأشكاله يفتقر من صميم ذاته
إلى علة تامة له إلا أن العلة التامة في الأفعال الاختيارية حيث إنها الاختيار
وإعمال القدرة فبطبيعة الحال تكون ضرورتها من الضرورة بشرط الاختيار. ومن
الواضح أن مثل هذه الضرورة يؤكد الاختيار.
الرابع: ما إليكم لفظه: (إن الفعل المسمى بالاختيار إن كان ملاكا لاختيارية
الأفعال وان ترتب الفعل على صفة الإرادة مانع عن استناد الفعل إلى الفاعل لكان
الأمر في الواجب تعالى كذلك، فإن الملاك عدم صدورها عن اختياره، لا انتهاء
الصفة إلى غيره، مع أن هذا الفعل المسمى بالاختيار يستحيل أن يكون عين ذات
الواجب، فإن الفعل يستحيل أن يكون عين فاعله فلا محالة يكون قائما بذاته قيام
الفعل بالفاعل صدورا، فإن كان قديما بقدمه كان حال هذا القائل حال الأشعري
القائل بالصفات القديمة القائمة بذاته الزائدة عليها. وإن كان حادثا كان محله
الواجب فكان الواجب محلا للحوادث، فيكون حاله حال الكرامية القائلين
بحدوث الصفات، ويستحيل حدوثه وعدم قيامه بمحل، فإن سنخ الاختيار ليس
كسنخ الأفعال الصادرة عن اختيار من الجواهر والأعراض حتى يكون موجودا
قائما بنفسه أو قائما بموجود آخر، بل الاختيار يقوم بالمختار، لا بالفعل

(1) راجع ص 63 - 64.
(2) مر ذكره في ص 59 فراجع.
66

الاختياري في ظرف وجوده، وهو واضح) (1).
يحتوي ما أفاده (قدس سره) على عدة نقاط:
الأولى: أنه لا فرق بين فاعليته سبحانه وتعالى وفاعلية غيره من ناحية
صدور الفعل بالإرادة والاختيار. نعم، فرق بينهما من ناحية أخرى، وهي: أن
فاعليته تعالى تامة وبالذات من كافة الجهات: كالعلم والقدرة والحياة والإرادة
وما شاكلها، دون فاعلية غيره فإنها ناقصة وبحاجة إلى الغير في تمام هذه
الجهات، بل هي عين الفقر والحاجة، فلابد من إفاضتها آنا فآنا من قبل الله تعالى.
الثانية: أنه لو كان ملاك الفعل الاختياري صدوره عن الفاعل بإعمال القدرة
والاختيار لكان الأمر في الباري - عز وجل - أيضا كذلك، وعندئذ نسأل عن هذا
الاختيار هل هو عين ذاته أو غيره؟ وعلى الثاني فهل هو قديم أو حادث؟ والكل
خاطئ.
أما الأول: فلاستحالة كون الفعل عين فاعله ومتحدا معه خارجا وعينا.
وأما الثاني: فيلزم تعدد القدماء، وهو باطل.
وأما الثالث: فيلزم كون الباري تعالى محلا للحوادث، وهو محال.
الثالثة: أن سنخ الاختيار ليس كسنخ بقية الأفعال الخارجية، فإنها لا تخلو
من أن تكون من مقولة الجوهر، أو من مقولة العرض. ومن الواضح أن الاختيار
ليس بموجود في الخارج حتى يكون في عرض هذه الأفعال وداخلا في إحدى
المقولتين، بل هو في طولها، وموطنه فيه تعالى ذاته، وفي غيره نفسه، فالجامع: هو
أن الاختيار قائم بذات المختار لا بالفعل الاختياري، ولا بموجود آخر ولا بنفسه.
وعلى هذا فتأتي الشقوق المشار إليها في النقطة الثانية، وقد عرفت استحالة جميعها.
فالنتيجة لحد الآن قد أصبحت: أن الاختيار أمر غير معقول.
هذا، ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:

(1) انظر نهاية الدراية: ج 1 ص 170.
67

أما النقطة الأولى: فهي وإن كانت تامة من ناحية عدم الفرق بين ذاته تعالى
وبين غيره في ملاك الفعل الاختياري إلا أن ما أفاده (قدس سره): من أن ملاكه هو صدوره
عن الفاعل بالإرادة والعلم خاطئ جدا، وذلك لأن نسبة الإرادة إلى الفعل لو كانت
كنسبة العلة التامة إلى المعلول استحال كونه اختياريا، حيث إن وجوب وجوده
بالإرادة مناف للاختيار، ولا فرق في ذلك بين الباري - عز وجل - وغيره.
ومن هنا صحت نسبة الجبر إلى الفلاسفة في أفعال الباري تعالى أيضا.
بيان ذلك: هو أن مناط اختيارية الفعل كونه مسبوقا بالإرادة والالتفات في
أفق النفس. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: الإرادة علة تامة للفعل على ضوء مبدأ افتقار كل ممكن
إلى علة تامة واستحالة وجوده بدونها، ولا فرق في ذلك بين إرادته تعالى وإرادة
غيره.
نعم، فرق بينهما من ناحية أخرى، وهي: أن إرادته سبحانه عين ذاته، ومن هنا
تكون العلة في الحقيقة هي ذاته، وحيث إنها واجبة من جميع الجهات وكافة
الحيثيات فبطبيعة الحال يجب صدور الفعل عنه على ضوء مبدأ " أن الشئ ما لم
يجب لم يوجد ".
ومن ناحية ثالثة: أنهم قد التزموا بتوحيد أفعاله تعالى على ضوء مبدأ " أن
الواحد لا يصدر منه إلا الواحد " واستحالة صدور الكثير منه.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي ضرورة صدور الفعل منه واستحالة
انفكاكه عنه، وهذا معنى الجبر وواقعه الموضوعي في أفعاله سبحانه.
وإن شئت قلت: إن الإرادة الأزلية لو كانت علة تامة لأفعاله تعالى لخرجت
تلك الأفعال عن إطار قدرته سبحانه وسلطنته، بداهة أن القدرة لا تتعلق بالواجب
وجوده أو المستحيل وجوده، والمفروض أن تلك الأفعال واجبة وجودها من
جهة وجوب وجود علتها، حيث إن علتها - وهي الإرادة الأزلية على نظريتهم -
واجبة الوجود وعين ذاته سبحانه، وتامة من كافة الحيثيات والنواحي، ولا يتصور
68

فيها النقص أبدا، فإذا كانت العلة كذلك فبطبيعة الحال يحكم على هذه الأفعال
الحتم والوجوب، ولا يعقل فيها الاختيار. ومن الواضح أن مرد هذا إلى إنكار
قدرة الله تعالى وسلطنته.
ومن هنا قلنا: إن أفعاله تعالى تصدر عنه بالاختيار وإعمال القدرة (1)، وذكرنا:
أن إرادته تعالى ليست ذاتية، بل هي عبارة عن المشيئة وإعمال القدرة (2)، كما أنا
ذكرنا: أن معنى تمامية سلطنته تعالى من جميع الجهات وعدم تصور النقص فيها
ليس وجوب صدور الفعل منه، بل معناها: عدم افتقار ذاته سبحانه إلى غيره، وأنه
سلطان بالذات دون غيره فإنه فقير بالذات والفقر كامن في صميم ذاته (3).
وقد تحصل من ذلك: أن الضابط لكون الفعل في إطار الاختيار هو صدوره
عن الفاعل بالمشيئة وإعمال القدرة، لا بالإرادة والشوق المؤكد.
وأما النقطة الثانية: فقد تبين من ضمن البحوث السابقة بصورة موسعة: أن
صدور الفعل عن الباري - عز وجل - إنما هو بإعمال قدرته وسلطنته، لا بغيرها.
وما ذكره (قدس سره) من الإيراد عليه فغريب جدا! بل لا نترقب صدوره منه (قدس سره).
والوجه في ذلك: هو أن قيام الاختيار بالنفس قيام الفعل بالفاعل، لا قيام
الصفة بالموصوف والحال بالمحل، وذلك لوضوح أنه لا فرق بينه وبين غيره من
الأفعال الاختيارية، وكما أن قيامها بذاته سبحانه قيام صدور وإيجاد فكذلك
قيامه بها.
وعلى هذا فلا موضوع لما ذكره (قدس سره) من الشقوق والاحتمالات، فإنها جميعا
تقوم على أساس كون قيامه بها قيام الصفة بالموصوف أو الحال بالمحل.
فما ذكره (قدس سره): من أن الاختيار قائم بذات المختار لا بالفعل الاختياري وإن
كان صحيحا إلا أن مدلوله ليس كونه قائما بها قيام الصفة بالموصوف.
فالنتيجة: أن الاختيار يشترك مع بقية الأفعال الاختيارية في نقطة، ويمتاز

(1) تقدم في ص 37 فراجع.
(2) مر ذكره في ص 38 فراجع.
(3) تقدم ذكره في ص 40 - 42 فراجع.
69

عنها في نقطة أخرى.
أما نقطة الاشتراك: فهي أن قيام كليهما بالفاعل قيام صدور وإيجاد، لا قيام
صفة أو حال.
وأما نقطة الامتياز: فهي أن الاختيار صادر عن ذات المختار بنفسه وبلا
اختيار آخر، وأما بقية الأفعال فهي صادرة عنها بالاختيار لا بنفسها.
وأما النقطة الثالثة: فهي خاطئة جدا. والسبب في ذلك: أن الأفعال الصادرة
عن الفاعل بالاختيار وإعمال القدرة لا تنحصر بالجواهر والأعراض، فإن الأمور
الاعتبارية فعل صادر عن المعتبر بالاختيار، ومع ذلك ليست بموجودة في
الخارج فضلا عن كونها قائمة بنفسها أو بموجود آخر.
وعلى هذا فلا ملازمة بين عدم قيام فعل بنفسه ولا بموجود آخر وبين قيامه
بذات الفاعل قيام الصفة بالموصوف أو الحال بالمحل، لما عرفت من أن الأمور
الاعتبارية فعل للمعتبر على رغم أن قيامها به قيام صدور وإيجاد، لا قيام صفة أو
حال (1)، فليكن الاختيار من هذا القبيل، حيث إنه فعل اختياري على الرغم من
عدم قيامه بنفسه ولا بموجود آخر، بل يقوم بذات المختار قيام صدور وإيجاد.
فالنتيجة لحد الآن: هي أن ما ذكره (قدس سره) من الوجوه غير تام.
الوجه الثاني (2): أن أفعال العباد لا تخلو: من أن تكون متعلقة لإرادة الله
سبحانه وتعالى ومشيئته، أو لا تكون متعلقة لها، ولا ثالث لهما.
فعلى الأول: لابد من وقوعها في الخارج، لاستحالة تخلف إرادته سبحانه
عن مراده.
وعلى الثاني: يستحيل وقوعها، فإن وقوع الممكن في الخارج بدون إرادته
تعالى محال، حيث لا مؤثر في الوجود إلا الله، ونتيجة ذلك: أن العبد مقهور في
إرادته ولا اختيار له أصلا.
والجواب عن ذلك: أن أفعال العباد لا تقع تحت إرادته سبحانه وتعالى ومشيئته.

(1) تقدم آنفا فلاحظ.
(2) تقدم الوجه الأول في ص 51.
70

والوجه فيه ما تقدم بشكل مفصل: من أن إرادته تعالى ليست من الصفات
العليا الذاتية. بل هي من الصفات الفعلية التي هي عبارة عن المشيئة وإعمال
القدرة (1) وعليه فبطبيعة الحال لا يمكن تعلق إرادته تعالى بها لسببين:
الأول: أن الأفعال القبيحة: كالظلم والكفر وما شاكلهما التي قد تصدر من
العباد لا يمكن صدورها منه تعالى بإعمال قدرته وإرادته، كيف؟ حيث إن
صدورها لا ينبغي من العباد فما ظنك بالحكيم تعالى؟
الثاني: أن الإرادة بمعنى إعمال القدرة والسلطنة يستحيل أن تتعلق بفعل
الغير، بداهة أنها لا تعقل إلا في الأفعال التي تصدر من الفاعل بالمباشرة، وحيث
إن أفعال العباد تصدر منهم كذلك فلا يعقل كونها متعلقة لإرادته تعالى وإعمال
قدرته. نعم، تكون مبادئ هذه الأفعال: كالحياة والعلم والقدرة وما شاكلها تحت
إرادته سبحانه ومشيئته.
نعم، لو شاء سبحانه وتعالى عدم صدور بعض الأفعال من العبيد فيبدي المانع
عنه أو يرفع المقتضي له. ولكن هذا غير تعلق مشيئته بأفعالهم مباشرة ومن دون
واسطة.
الوجه الثالث: أن الله تعالى عالم بأفعال العباد بكافة خصوصياتها: من كمها
وكيفها ومتاها وأينها ووضعها ونحو ذلك. ومن الطبيعي أنه لابد من وقوعها منهم
كذلك في الخارج، وإلا لكان علمه تعالى جهلا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وعليه فلابد من الالتزام بوقوعها خارجا على وفق إطار علمه سبحانه، ولا يمكن
تخلفه عنه، فلو كانوا مختارين في أفعالهم فلا محالة وقع التخلف في غير مورد
وهو محال.
وقد صرح بذلك صدر المتألهين بقوله: (ومما يدل على ما ذكرناه من أنه
ليس من شرط كون الذات مريدا وقادرا: إمكان أن لا يفعل، حيث إن الله تعالى إذا
علم أنه يفعل الفعل الفلاني في الوقت الفلاني فذلك الفعل لو لم يقع لكان علمه

(1) راجع ص 35.
71

جهلا، وذلك محال، والمؤدي إلى المحال محال، فعدم وقوع ذلك الفعل محال،
فوقوعه واجب، لاستحالة خروجه من طرفي النقيضين) (1).
والجواب عنه: أن علمه سبحانه وتعالى بوقوع تلك الأفعال منهم خارجا في
زمان خاص ومكان معين لا يكون منشأ لاضطرارهم إلى إيقاعها في الخارج في
هذا الزمان وذاك المكان. والسبب في ذلك: هو أن علمه تعالى قد تعلق بوقوعها
كذلك منهم بالاختيار وإعمال القدرة. ومن الطبيعي أن هذا العلم لا يستلزم وقوعها
بغير اختيار، وإلا لزم التخلف والانقلاب.
والسر فيه: أن حقيقة العلم هو انكشاف الواقع على ما هو عليه لدى العالم من
دون أن يوجب التغيير فيه أصلا، ونظير ذلك: ما إذا علم الإنسان بأنه يفعل الفعل
الفلاني في الوقت الفلاني من جهة إخبار المعصوم (عليه السلام) أو نحوه، فكما أنه لا
يوجب اضطراره إلى إيجاده في ذلك الوقت فكذلك علمه سبحانه.
وبكلمة أخرى: أن الاضطرار الناشئ من قبل العلم الأزلي يمكن تفسيره بأحد
تفسيرين.
الأول: تفسيره على ضوء مبدأ العلية، بدعوى: أن العلم الأزلي علة تامة
للأشياء، منها: أفعال العباد.
الثاني: تفسيره على ضوء مبدأ الانقلاب - أي: انقلاب علمه تعالى جهلا - من
دون وجود علاقة العلية والمناسبة بينهما.
ولكن كلا التفسيرين خاطئ جدا.
أما الأول: فلا يعقل كون العلم من حيث هو علة تامة لوجود معلومه، بداهة أن
واقع العلم وحقيقته هو انكشاف الأشياء على ما هي عليه لدى العالم. ومن الطبيعي
أن الانكشاف لا يعقل أن يكون مؤثرا في المنكشف على ضوء مبدأ السنخية
والمناسبة، ضرورة انتفاء هذا المبدأ بينهما.
وأضف إلى ذلك: أن العلم الأزلي لو كان علة تامة لأفعال العباد فبطبيعة الحال

(1) الأسفار: ج 8 ص 318 الفصل الثاني من الموقف الرابع.
72

ترتبط تلك الأفعال به ذاتا وتعاصره زمانا، وهذا غير معقول.
وأما الثاني: فلفرض أن العلم لا يقتضي ضرورة وجود الفعل في الخارج،
حيث إنه لا علاقة بينهما ما عدا كونه كاشفا عنه. ومن الطبيعي أن وقوع المنكشف
في الخارج ليس تابعا للكاشف، بل هو تابع لوجود سببه وعلته، سواء أكان هناك
انكشاف أم لم يكن، وعليه فلا موجب لضرورة وقوع الفعل إلا دعوى الانقلاب،
ولكن قد عرفت خطأها وعدم واقع موضوعي لها.
ونزيد على هذا: أن علمه سبحانه بوقوع أفعال العباد لو كان موجبا
لاضطرارهم إليها وخروجها عن اختيارهم لكان علمه سبحانه بأفعاله أيضا موجبا
لذلك. فالنتيجة: أن هذا التوهم خاطئ جدا.
الوجه الرابع: ما عن الفلاسفة من أن الذات الأزلية علة تامة للأشياء، وتصدر
منها على ضوء مبدأ السنخية والمناسبة، حيث إن الحقيقة الإلهية بوحدتها
وأحديتها جامعة لجميع حقائق تلك الأشياء وطبقاتها الطولية والعرضية، ومنها:
أفعال العباد، فإنها داخلة في تلك السلسلة التي لا تملك الاختيار ولا الحرية (1).
والجواب عنه: أن هذه النظرية خاطئة من وجوه:
الأول: ما تقدم بشكل موسع: من أن هذه النظرية تستلزم نفي القدرة والسلطنة
عن الذات الأزلية أعاذنا الله من ذلك (2).
الثاني: أنه لا يمكن تفسير اختلاف الكائنات بشتى أنواعها وأشكالها ذاتا
وسنخا على ضوء هذه النظرية، وذلك لأن العلة التامة إذا كانت واحدة ذاتا
ووجودا وفاردة سنخا فلا يعقل أن تختلف آثارها وتتباين أفعالها، ضرورة
استحالة صدور الآثار المتناقضة المختلفة والأفعال المتباينة من علة واحدة
بسيطة، فإن للعلة الواحدة أفعالا ونواميسا معينة لا تختلف ولا تتخلف عن إطارها
المعين، كيف؟ حيث إن في ذلك القضاء الحاسم على مبدأ السنخية والمناسبة بين
العلة والمعلول، ومن الطبيعي أن القضاء على هذا المبدأ يستلزم انهيار جميع العلوم

(1) انظر الأسفار: ج 6 ص 110 - 116.
(2) راجع تفصيله في ص 40 - 41.
73

والأسس القائمة على ضوئه، فلا يمكن - عندئذ - تفسير أية ظاهرة كونية ووضع
قانون عام لها.
ودعوى: الفرق - بين الذات الأزلية والعلة الطبيعية: هو أن الذات الأزلية وإن
كانت علة تامة للأشياء إلا أنها عالمة بها دون العلة الطبيعية فإنها فاقدة للشعور
والعلم - وإن كانت صحيحة إلا أن علم العلة بالمعلول إن كان مانعا عن تأثيرها فيه
على شكل الحتم والوجوب بقانون التناسب فهذا خلف، حيث إن في ذلك القضاء
الحاسم على علية الذات الأزلية، وإن تأثيرها في الأشياء ليس كتأثير العلة التامة
في معلولها، بل كتأثير الفاعل المختار في فعله.
وإن لم يكن مانعا عنه - كما هو الصحيح - حيث إن العلم لا يؤثر في واقع
العلية وإطار تأثيرها - كما درسنا ذلك سابقا (1) - فلا فرق بينهما عندئذ أصلا، فإذا
ما هو منشأ هذه الاختلافات والتناقضات بين الأشياء؟ وما هو المبرر لها؟ وبطبيعة
الحال لا يمكن تفسيرها تفسيرا يطابق الواقع الموضوعي إلا على ضوء ما درسناه
سابقا بشكل موسع: من أن صدور الأشياء من الله سبحانه بمشيئته وإعمال سلطنته
وقدرته (2). وقد وضعنا هناك الحجر الأساسي للفرق بين زاوية الأفعال
الاختيارية، وزاوية المعاليل الطبيعية، وعلى أساس هذا الفرق تحل المشكلة.
الثالث: أنه لا يمكن على ضوء هذه النظرية إثبات علة أولي للعالم التي لم
تنبثق عن علة سابقة.
والسبب في ذلك: أن سلسلة المعاليل والحلقات المتصاعدة التي ينبثق بعضها من
بعض لا تخلو: من أن تتصاعد تصاعدا لا نهائيا، أو تكون لها نهاية، ولا ثالث لهما.
فعلى الأول هو التسلسل الباطل، ضرورة أن هذه الحلقات جميعا معلولات
وارتباطات فتحتاج في وجودها إلى علة أزلية واجبة الوجود كي تنبثق منها، وإلا
استحال تحققها.
وعلى الثاني لزم وجود المعلول بلا علة، وذلك لأن للسلسلة إذا كانت نهاية

(1) قد تقدم في ص 72 و 73 فراجع.
(2) راجع ص 36 و 58.
74

فبطبيعة الحال تكون مسبوقة بالعدم. ومن الطبيعي أن ما يكون مسبوقا به ممكن
فلا يصلح أن يكون علة للعالم ومبدأ له. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه لا علة له. فالنتيجة على ضوئهما: هي وجود الممكن
بلا علة وسبب، وهو محال، كيف؟ حيث إن في ذلك القضاء المبرم على مبدأ العلية.
فإذا على القائلين بهذه النظرية أن يلتزموا بأحد أمرين: إما بالقضاء على مبدأ
العلية، أو بالتسلسل، وكلاهما محال.
الرابع: أن لازم هذه النظرية انتفاء العلة بانتفاء شئ من تلك السلسلة.
بيان ذلك: أن هذه السلسلة والحلقات حيث إنها جميعا معاليل لعلة واحدة
ونواميس خاصة لها ترتبط بها ارتباطا ذاتيا وتنبثق من صميم ذاتها ووجودها
فيستحيل أن تتخلف عنها، كما يستحيل أن تختلف. وعلى هذا الضوء إذا انتفى
شئ من تلك السلسلة فبطبيعة الحال يكشف عن انتفاء العلة، ضرورة استحالة
انتفاء المعلول مع بقاء علته وتخلفه عنها. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه لا شبهة في انتفاء الأعراض في هذا الكون، ومن
الطبيعي أن انتفاءها من ناحية انتفاء علتها، وإلا فلا يعقل انتفاؤها، فالتحليل العلمي
في ذلك أدى في نهاية المطاف إلى انتفاء علة العلل وعلى هذا الأساس فلا يمكن
تفسير انتفاء بعض الأشياء في هذا الكون تفسيرا يتلائم مع هذه النظرية.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أن تلك النظرية خاطئة جدا ولا واقع
موضوعي لها أصلا.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي: بطلان نظرية الجبر مطلقا،
يعني: في إطارها الأشعري والفلسفي، وأنها نظرية لا تطابق الواقع الموضوعي،
ولا الوجدان، ولا البرهان المنطقي.
(4)
نظرية المعتزلة
" مسألة التفويض " ونقدها
ذهب المعتزلة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد فوض العباد في أفعالهم
75

وحركاتهم إلى سلطنتهم المطلقة على نحو الأصالة والاستقلال، بلا دخل لإرادة
وسلطنة أخرى فيها، وهم يفعلون ما يشاؤون ويعملون ما يريدون من دون حاجة
إلى الاستعانة بقدرة أخرى وسلطنة ثانية. وبهذه النقطة تمتاز عن نظرية الأمر بين
الأمرين، فإن العبد على ضوء تلك النظرية وإن كان له أن يفعل ما يشاء ويعمل ما
يريد إلا أنه في عين ذلك بحاجة إلى استعانة الغير فلا يكون مستقلا فيه.
وغير خفي أن المفوضة وإن احتفظت بعدالة الله تعالى إلا أنهم وقعوا في
محذور لا يقل عن المحذور الواقع فيه الأشاعرة، وهو: الإسراف في نفي السلطنة
المطلقة عن الباري - عز وجل - وإثبات الشريك له في أمر الخلق والإيجاد.
ومن هنا وردت (1) روايات كثيرة تبلغ حد التواتر في ذم هذه الطائفة، وقد
ورد فيها: " أنهم مجوس هذه الأمة " (2)، حيث إن المجوس يقولون بوجود إلهين:
أحدهما خالق الخير، وثانيهما خالق الشر، ويسمون الأول " يزدان "، والثاني
" أهريمن "، وهذه الطائفة تقول بوجود آلهة متعددة بعدد أفراد البشر، حيث إن هذا
المذهب يقوم على أساس أن كلا منهم خالق وموجد بصورة مستقلة بلا حاجة منه
إلى الاستعانة بغيره. غاية الأمر أن الله تعالى خالق للأشياء الكونية كالإنسان
ونحوه، والإنسان خالق لأفعاله الخارجية من دون افتقاره في ذلك إلى خالقه.
وقد استدل على هذه النظرية: بأن سر حاجة الممكنات وفقرها إلى العلة هو
حدوثها، وبعده فلا تحتاج إليها أصلا، لاستغناء البقاء عن الحاجة إلى المؤثر.
وعليه فالإنسان بعد خلقه وإيجاده لا يحتاج في بقائه إلى إفاضة الوجود من
خالقه، فإذا بطبيعة الحال يستند صدور الأفعال إليه استنادا تاما، لا إلى العلة
المحدثة، ومن الواضح أن مرد هذا إلى نفي السلطنة عن الله - عز وجل - على
عبيده نفيا تاما.
والجواب عن ذلك يظهر على ضوء درس هذه النقطة (استغناء البقاء عن

(1) انظر بحار الأنوار: ج 5 كتاب العدل باب القضاء والقدر.
(2) بحار الأنوار: ج 5 ص 9، وتفسير القمي: ج 1 ص 226.
76

المؤثر) ونقدها: مرة في الأفعال الاختيارية، واخرى في الموجودات التكوينية.
أما في الأفعال الاختيارية فهي واضحة البطلان. والسبب في ذلك: ما أشرنا
إليه آنفا من أن كل فعل اختياري مسبوق بإعمال القدرة والاختيار، وهو فعل
اختياري للنفس، وليس من مقولة الصفات، وواسطة بين الإرادة والأفعال
الخارجية، فالفعل في كل آن يحتاج إليه ولا يعقل بقاؤه بعد انعدامه وانتفائه، فهو
تابع لإعمال قدرة الفاعل حدوثا وبقاء، فإن أعمل قدرته فيه تحقق في الخارج،
وإن لم يعملها فيه استحال تحققه. فعلى الأول إن استمر في إعمال القدرة فيه
استمر وجوده، وإلا استحال استمراره.
وعلى الجملة: فلا فرق بين حدوث الفعل الاختياري وبقائه في الحاجة إلى
السبب والعلة، وهو إعمال القدرة والسلطنة. فإن سر الحاجة - وهو إمكانه
الوجودي وفقره الذاتي - كامن في صميم ذاته وواقع وجوده، من دون فرق بين
حدوثه وبقائه، مع أن البقاء هو الحدوث، غاية الأمر أنه حدوث ثان ووجود آخر
في قبال الوجود الأول، والحدوث هو الوجود الأول غير مسبوق بمثله. وعليه
فبطبيعة الحال إذا تحقق فعل في الخارج من الفاعل المختار فهو كما يحتاج إلى
إعمال القدرة فيه والاختيار كذلك يحتاج إليه في الآن الثاني والثالث...، وهكذا،
فلا يمكن أن نتصور استغناءه في بقائه عن الفاعل بالاختيار.
وبكلمة أخرى: أن كل فعل اختياري ينحل إلى أفعال متعددة بتعدد الآنات
والأزمان، فيكون في كل آن فعل صادر بالاختيار وإعمال القدرة، فلو انتفى
الاختيار في زمان يستحيل بقاء الفعل فيه.
ومن هنا، لا فرق بين الدفع والرفع عقلا إلا بالاعتبار، وهو: أن الدفع مانع عن
الوجود الأول، والرفع مانع عن الوجود الثاني، فكلاهما في الحقيقة دفع.
فالنتيجة: أن احتياج الأفعال الاختيارية في كل آن إلى الإرادة والاختيار من
الواضحات الأولية، فلا يحتاج إلى زيادة مؤنة بيان وإقامة برهان.
وأما في الموجودات التكوينية فالأمر أيضا كذلك، إذ لا شبهة في حاجة
77

الأشياء إلى علل وأسباب فيستحيل أن توجد بدونها. وسر حاجة تلك الأشياء
بصورة عامة إلى العلة وخضوعها لها بصورة موضوعية: هو أن الحاجة كامنة في
ذوات تلك الأشياء، لا في أمر خارج عن إطار ذواتها، فإن كل ممكن في ذاته
مفتقر إلى الغير ومتعلق به، سواء أكان موجودا في الخارج أم لم يكن، ضرورة أن
فقرها كامن في نفس وجوده. ومن الطبيعي أن الأمر إذا كان كذلك فلا فرق بين
الحدوث والبقاء في الحاجة إلى العلة، فإن سر الحاجة - وهو الإمكان - لا ينفك
عنه، كيف؟ فإن ذاته عين الفقر والإمكان، لا أنه ذات لها الفقر.
وعلى ضوء هذا الأساس، فكما أن الأشياء في حدوثها في أمس الحاجة إلى
وجود سبب وعلة فكذلك في بقائها، فلا يمكن أن نتصور وجودا متحررا عن تلك
الحاجة، إذ النقطة التي تنبثق منها حاجة الأشياء إلى مبدأ العلية والإيجاد ليست
هي حدوثها، لاستلزام هذه النظرية تحديد حاجة الممكن إلى العلة من ناحيتين:
المبدأ والمنتهى.
أما من الناحية الأولى: فلأنها توجب اختصاص الحاجة بالحوادث، وهي
الأشياء الحادثة بعد العدم، وأما إذا فرض أن للممكن وجودا مستمرا بصورة أزلية
لا توجد فيه حاجة إلى المبدأ. وهذا لا يتطابق مع الواقع الموضوعي للممكن حيث
يستحيل وجوده من دون علة وسبب، وإلا لانقلب الممكن واجبا، وهذا خلف.
وأما من الناحية الثانية: فلأن الأشياء على ضوء هذه النظرية تستغني في
بقائها عن المؤثر. ومن الطبيعي أنها نظرية خاطئة لا تطابق الواقع الموضوعي،
كيف؟ فإن حاجة الأشياء إلى ذلك المبدأ كامنة في صميم ذاتها وحقيقة وجودها
كما عرفت (1).
فالنتيجة: أن هذه النظرية بما أنها تستلزم هذين الخطأين في المبدأ وتوجب
تحديده في نطاق خاص وإطار مخصوص فلا يمكن الالتزام بها.
فالصحيح إذا هو نظرية ثانية، وهي: أن منشأ حاجة الأشياء إلى المبدأ

(1) تقدم آنفا فراجع.
78

وخضوعها له خضوعا ذاتيا هو إمكانها الوجودي وفقرها الذاتي، وعلى هذا
الأساس فلا فرق بين الحدوث والبقاء أصلا.
ونتيجة ذلك: أن المعلول يرتبط بالعلة ارتباطا ذاتيا وواقعيا، ويستحيل انفكاك
أحدهما عن الآخر، فلا يعقل بقاء المعلول بعد ارتفاع العلة، كما لا يمكن أن تبقى
العلة والمعلول غير باق، وقد عبر عن ذلك ب‍ " التعاصر بين العلة والمعلول زمانا ".
وقد يناقش في ذلك الارتباط بأنه مخالف لظواهر الموجودات التكوينية من
الطبيعية والصناعية، حيث إنها باقية بعد انتفاء علتها، وهذا يكشف عن عدم صحة
قانون التعاصر والارتباط، وأنه لا مانع من بقاء المعلول واستمرار وجوده بعد
انتفاء علته، وذلك كالعمارات التي بناها البناؤون وآلاف من العمال فإنها تبقى
سنين متمادية بعد انتهاء عملية العمارة والبناء، وكالطرق والجسور ووسائل النقل
المادية بشتى أنواعها، والمكائن والمصانع وما شاكلها مما شاده المهندسون وذوو
الخبرة والفن في شتى ميادينها فإنها بعد انتهاء عمليتها تبقى إلى سنين متطاولة
وأمد بعيد من دون علة وسبب مباشر لها، وكالجبال والأحجار والأشجار وغيرها
من الموجودات الطبيعية على سطح الأرض فإنها باقية من دون حاجة في بقائها
إلى علة مباشرة لها.
فالنتيجة: أن ظواهر تلك الأمثلة تعارض قانون التعاصر والارتباط، حيث
إنها بظاهرها تكشف عن أن المعلول لا يحتاج في بقائه واستمرار وجوده إلى
علة، بل هو باق مع انتفاء علته.
ولنأخذ بالنقد على تلك المناقشة، وحاصله: هو أنها قد نشأت عن عدم فهم
معنى مبدأ العلية فهما موضوعيا، وقد تقدم بيان ذلك، وقلنا هناك: إن حاجة
الأشياء إلى مبدء وسبب كامنة في واقع ذاتها وصميم وجودها، ولا يمكن أن تملك
حريتها بعد حدوثها (1).

(1) راجع تفصيله في ص 77 - 78.
79

والوجه في ذلك: هو أن علة تلك الأشياء والظواهر حدوثا غير علتها بقاء،
وبما أن الرجل المناقش لم ينظر إلى علة تلك الظواهر لا حدوثا ولا بقاء نظرة
صحيحة موضوعية وقع في هذا الاشتباه والخطأ.
بيان ذلك: أن ما هو معلول للمهندسين والبنائين وآلاف من العمال في بناء
العمارات والدور بشتى ألوانها، وصنع الطرق والجسور والوسائل المادية الأخرى
بمختلف أشكالها من السيارات والطيارات والصواريخ والمكائن وما شاكلها إنما
هو نفس عملية بنائها وصنعها وتركيبها وتصميمها في إطار مخصوص. ومن
الطبيعي أن تلك العملية نتيجة عدة من حركات أيدي الفنانين والعمال والجهود
التي يقومون بها، ونتيجة تجميع المواد الخام الأولية من الحديد والخشب والآجر
وغيرها لتصنيع هذه الصناعات وتعمير تلك العمارات. ومن المعلوم أن ما هو
معلول للعمال والصادر عنهم بالإرادة والاختيار إنما هو هذه الحركات لا غيرها،
ولذا تنقطع تلك الحركات بصرف إضراب العمال عن العمل وكف أيديهم عنها.
وأما بقاء تلك الأشياء والظواهر على وضعها الخاص وإطارها المعين فهو
معلول لخصائص تلك المواد الطبيعية، وقوة حيويتها، وأثر الجاذبية العامة التي
تفرض على تلك الجاذبية المحافظة على وضع الأشياء بنظامها الخاص، ونسبة
الجاذبية إلى هذه الأشياء كنسبة الطاقة الكهربائية إلى الحديد عند اتصاله بها بقوة
جاذبية طبيعية تجره إليها آنا فآنا بحيث لو انقطعت منه تلك القوة لانقطع منه
الجذب لا محالة.
ومن ذلك يظهر سر بقاء الكرة الأرضية وغيرها بما فيها من الجبال والأحجار
والأشجار والمياه وما شاكلها من الأشياء الطبيعية على وضعها الخاص ومواضعها
المخصوصة، وذلك نتيجة خصائص طبيعية موجودة في صميم موادها، والقوة
الجاذبية التي تفرض على جميع الأشياء الكونية والمواد الطبيعية. وقد أصبحت
عمومية هذه القوة في يومنا هذا من الواضحات، وقد أودعها الله سبحانه وتعالى
في صميم هذه الكرة الأرضية وغيرها للتحفظ على الكرة وما عليها على وضعها
80

المعين ونظامها الخاص في حين أنها تتحرك في هذا الفضاء الكوني بسرعة هائلة
وفي مدار خاص حول الشمس.
وإن شئت فقل: إن بقاء تلك الظواهر والموجودات الممكنة معلول لخصائص
تلك المواد الطبيعية من ناحية، والقوة الجاذبية المحافظة عليها من ناحية أخرى
فلا تملك حريتها بقاء، كما لا تملك حدوثا.
ونتيجة ذلك نقطتان متقابلتان:
الأولى: بطلان نظرية أن سر حاجة الأشياء إلى العلة هو الحدوث، لأن تلك
النظرية ترتكز على أساس تحديد حاجة الأشياء إلى العلة في إطار خاص ونطاق
مخصوص لا يطابق الواقع الموضوعي، وعدم فهم معنى العلية فهما صحيحا يطابق
الواقع.
الثانية: صحة نظرية أن سر الحاجة إلى العلة هو إمكان الوجود، فإن تلك
النظرية قد ارتكزت على أساس فهم معنى العلية فهما صحيحا مطابقا للواقع، وأن
حاجة الأشياء إلى المبدأ كامنة في صميم وجوداتها فلا يعقل وجود متحرر عن
المبدأ.
وقد تحصل من ذلك: أن الأشياء بشتى أنواعها وأشكالها خاضعة للمبدأ الأول
خضوعا ذاتيا، وهذا لا ينافي أن يكون تكوينها وإيجادها بمشيئة الله تعالى
وإعمال قدرته من دون أن يحكم عليه قانون التناسب والسنخية، كما فصلنا
الحديث من هذه الناحية (1).
أو فقل: إن الأفعال الاختيارية تشترك مع المعاليل الطبيعية في نقطة واحدة،
وهي: الخضوع للمبدأ والسبب خضوعا ذاتيا الكامن في صميم ذاتها ووجودها.
ولكنها تفترق عنها في نقطة أخرى، وهي: أن المعاليل تصدر عن عللها على ضوء
قانون التناسب دون الأفعال، فإنها تصدر عن مبدئها على ضوء الاختيار وإعمال
القدرة.

(1) راجع تفصيله في ص 57 - 58.
81

[(5)
نظرية الإمامية
" مسألة الأمر بين الأمرين "
إن طائفة الإمامية بعد رفض نظرية الأشاعرة في أفعال العباد ونقدها صريحا،
ورفض نظرية المعتزلة فيها ونقدها كذلك اختارت نظرية ثالثة فيها، وهي " الأمر
بين الأمرين "، وهي نظرية وسطى لا إفراط فيها ولا تفريط. وقد أرشدت الطائفة
إلى هذه النظرية الروايات (*) الواردة في هذا الموضوع من الأئمة الأطهار (عليهم السلام)]

(1) أصول الكافي: ج 1 ص 159 باب الجبر والقدر ح 9.
(2) المصدر السابق: ح 11.
(3) بحار الأنوار: ج 5 ص 4 ح 1.
(4) المصدر السابق: ص 9 ح 14.
82



(1) الكافي: ج 1 ص 159 ح 10.
(2) المصدر السابق: ص 160 ح 13.
(3) أصول الكافي: ج 1 ص 158 ح 6 باب الجبر والقدر.
(4) بحار الأنوار: ج 5 ص 53 ب 1 من أبواب العدل ح 89.
(5) الكافي: ج 1 ص 159 ح 8 باب الجبر والقدر.
(6) المصدر السابق: ص 157 ح 3.
(7) المصدر السابق: ص 160 ح 14.
83

الدالة على بطلان الجبر والتفويض من ناحية، وعلى إثبات الأمر بين الأمرين من
ناحية أخرى، ولولا تلك الروايات لوقعوا - بطبيعة الحال - في جانبي الإفراط أو
التفريط، كما وقع أصحاب النظريتين الأوليين.
وعلى ضوء هذه الروايات كان علينا أن نتخذ تلك النظرية لكي نثبت بها العدالة
والسلطنة لله سبحانه وتعالى معا.
بيان ذلك: أن نظرية الأشاعرة وإن تضمنت إثبات السلطنة المطلقة للباري - عز
وجل - إلا أن فيها القضاء الحاسم على عدالته سبحانه وتعالى، وسنتكلم فيها من
هذه الناحية في البحث الآتي إن شاء الله تعالى. ونظرية المعتزلة على عكسها،

(1) بحار الأنوار: ج 5 ص 17 ب 1 من أبواب العدل ح 28.
(2) المصدر السابق: ح 26.
(3) المصدر السابق: ح 27.
(4) انظر البحار: ج 5 ب 1 من أبواب العدل، والكافي: ج 1 ص 160 باب الجبر والقدر.
(5) تقدم في ص 43 - 75 وص 76 - 81 فراجع.
84

يعني: أنها وإن تضمنت إثبات العدالة للباري تعالى إلا أنها تنفي بشكل قاطع
سلطنته المطلقة، وأسرفت في تحديدها.
وعلى هذا فبطبيعة الحال يتعين الأخذ بمدلول الروايات لا من ناحية التعبد
بها، حيث إن المسألة ليست من المسائل التعبدية، بل من ناحية أن الطريق الوسط
الذي يمكن به حل مشكلة الجبر والتفويض منحصر فيه.
تفصيل ذلك: أن أفعال العباد تتوقف على مقدمتين:
الأولى: حياتهم وقدرتهم وعلمهم وما شاكل ذلك.
الثانية: مشيئتهم وإعمالهم القدرة نحو إيجادها في الخارج.
والمقدمة الأولى تفيض من الله تعالى وترتبط بذاته الأزلية ارتباطا ذاتيا،
وخاضعة له، يعني: أنها عين الربط والخضوع، لا أنه شئ له الربط والخضوع.
وعلى هذا الضوء لو انقطعت الإفاضة من الله سبحانه وتعالى في آن انقطعت
الحياة فيه حتما. وقد أقمنا البرهان على ذلك بصورة مفصلة عند نقد نظرية
المعتزلة، وبينا هناك: أن سر حاجة الممكن إلى المبدأ كامن في صميم ذاته
ووجوده، فلا فرق بين حدوثه وبقائه من هذه الناحية أصلا (1).
والمقدمة الثانية تفيض من العباد عند فرض وجود المقدمة الأولى، فهي
مرتبطة بها في واقع مغزاها، ومتفرعة عليها ذاتا، وعليه فلا يصدر فعل من العبد إلا
عند إفاضة كلتا المقدمتين. وأما إذا انتفت إحداهما فلا يعقل تحققه. وعلى أساس
ذلك صح إسناد الفعل إلى الله تعالى، كما صح إسناده إلى العبد.
ولتوضيح ذلك نضرب مثالا عرفيا لتمييز كل من نظريتي الجبر والتفويض عن
نظرية الإمامية. بيانه: أن الفعل الصادر عن العبد خارجا على ثلاثة أصناف:
الأول: ما يصدر عنه بغير اختياره وإرادته، وذلك كما لو افترضنا شخصا
مرتعش اليد وقد فقدت قدرته واختياره في تحريك يده ففي مثله إذا ربط المولى
بيده المرتعشة سيفا قاطعا وفرضنا أن في جنبه شخصا راقدا وهو يعلم أن السيف

(1) قد تقدم في ص 77 - 78 فراجع.
85

المشدود في يده سيقع عليه فيهلكه حتما. ومن الطبيعي أن مثل هذا الفعل خارج
عن اختياره ولا يستند إليه، ولا يراه العقلاء مسؤولا عن هذا الحادث، ولا يتوجه
إليه الذم واللوم أصلا، بل المسؤول عنه إنما هو من ربط يده بالسيف ويتوجه إليه
اللوم والذم، وهذا واقع نظرية الجبر وحقيقتها.
الثاني: ما يصدر عنه باختياره واستقلاله من دون حاجة إلى غيره أصلا،
وذلك كما إذا افترضنا أن المولى أعطى سيفا قاطعا بيد شخص حر وقد ملك تنفيذ
إرادته وتحريك يده ففي مثل ذلك إذا صدر منه قتل في الخارج يستند إليه دون
المعطي، وإن كان المعطي يعلم أن إعطاءه السيف ينتهي به إلى القتل، كما أنه
يستطيع أن يأخذ السيف منه متى شاء، ولكن كل ذلك لا يصحح استناد الفعل إليه،
فإن الاستناد يدور مدار دخل شخص في وجوده خارجا، والمفروض أنه لا
مؤثر في وجوده ما عدا تحريك يده الذي كان مستقلا فيه. وهذا واقع نظرية
التفويض وحقيقتها.
الثالث: ما يصدر عنه باختياره وإعمال قدرته على رغم أنه فقير بذاته
وبحاجة في كل آن إلى غيره بحيث لو انقطع منه مدد الغير في آن انقطع الفعل فيه
حتما، وذلك كما إذا افترضنا أن للمولى عبدا مشلولا غير قادر على الحركة فربط
المولى بجسمه تيارا كهربائيا ليبعث في عضلاته قوة ونشاطا نحو العمل، وليصبح
بذلك قادرا على تحريكها، وأخذ المولى رأس التيار الكهربائي بيده وهو الساعي
لإيصال القوة في كل آن إلى جسم عبده بحيث لو رفع اليد في آن عن السلك
الكهربائي انقطعت القوة عن جسمه فيه وأصبح عاجزا. وعلى هذا فلو أوصل
المولى تلك القوة إلى جسمه وذهب باختياره وقتل شخصا والمولى يعلم بما فعله
ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كل منهما. أما إلى العبد فحيث إنه صار متمكنا من
إيجاد الفعل وعدمه بعد أن أوصل المولى القوة إليه وأوجد القدرة في عضلاته وهو
قد فعل باختياره وإعمال قدرته. وأما إلى المولى فحيث إنه كان معطي القوة
والقدرة له حتى حال الفعل والاشتغال بالقتل، مع أنه متمكن من قطع القوة عنه
86

في كل آن شاء وأراد، وهذا هو واقع نظرية الأمر بين الأمرين وحقيقتها.
وبعد ذلك نقول: إن الأشاعرة تدعي: أن أفعال العباد من قبيل الأول حيث
إنها لم تصدر عنهم باختيارهم وإرادتهم، بل هي جميعا بإرادة الله تعالى التي لا
تتخلف عنها، وهم قد أصبحوا مضطرين إليها ومجبورين في حركاتهم وسكناتهم
كالميت في يد الغسال.
ومن هنا قلنا: إن في ذلك القضاء الحاسم على عدالته سبحانه وتعالى (1). هذا
من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد تقدم نقد هذه النظرية بشكل موسع وجدانا وبرهانا (2).
وقد أثبتنا أن تلك النظرية لا تتعدى عن مجرد الافتراض بدون أن يكون لها واقع
موضوعي.
والمعتزلة تدعي: أن أفعال العباد من قبيل الثاني، وأنهم مستقلون في
حركاتهم وسكناتهم، وإنما يفتقرون إلى إفاضة الحياة والقدرة من الله تعالى
حدوثا فحسب، ولا يفتقرون إلى علة جديدة بقاء، بل العلة الأولى كافية في بقاء
القدرة والاختيار لهم إلى نهاية المطاف.
ومن هنا قلنا: إن هذه النظرية قد أسرفت في تحديد سلطنة الباري سبحانه
وتعالى (3). هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد سبق أن تلك النظرية تقوم على أساس نظرية الحدوث،
وهي النظرية القائلة: بأن سر حاجة الأشياء إلى أسبابها هو حدوثها (4). ولكن قد
أثبتنا آنفا خطأ تلك النظرية بشكل واضح، وأن سر حاجة الأشياء إلى أسبابها هو
إمكانها الوجودي، لا حدوثها، ولا فرق فيه بين الحدوث والبقاء.
والإمامية تدعي: أن أفعال العباد من قبيل الثالث، وقد عرفت أن النظرية
الوسطى هي تلك النظرية (الأمر بين الأمرين) (5)، ونريد الآن درس هذه النظرية

(1) قد تقدم في ص 42 - 74 فراجع.
(2) قد تقدم في ص 42 - 74 فراجع.
(3) راجع بحث نظرية المعتزلة في ص 76.
(4) تقدم في ص 76 - 80 فراجع
(5) قد تقدم في ص 82 فراجع.
87

بصورة أعمق منطقيا وموضوعيا.
قد تقدم أن سر حاجة الأشياء إلى العلة بصورة عامة - الكامن في جوهر ذاتها
وصميم وجودها - هو إمكانها الوجودي وفقرها الذاتي في قبال واجب الوجود
والغني بالذات، ومعنى إمكانها الوجودي بالتحليل العلمي: أنها عين الربط
والتعلق، لا ذات لها الربط والتعلق، وإلا لكانت في ذاتها غنية وغير مفتقرة إلى
المبدأ، وفي ذلك انقلاب الممكن إلى الواجب، وهو مستحيل. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه لا فرق في ذلك بين وجودها في أول سلسلتها
وحلقتها التصاعدية وبين وجودها في نهاية تلك السلسلة، لاشتراكهما في هذه
النقطة، وهي الإمكان والفقر الذاتي، وإلا لزم كون الممكن واجبا في نهاية
المطاف (1).
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أن الأشياء الخارجية بكافة
أشكالها أشياء تعلقية وارتباطية، وأنها عين التعلق والارتباط، وهو مقوم لكيانها
ووجودها، فلا يعقل استغناؤها عن المبدأ، ضرورة استحالة استغنائها عن شئ
ترتبط به وتتعلق.
ومن نفس هذا البيان يظهر لنا: أن الموجود الخارجي إذا لم يكن في ذاته
تعلقيا وارتباطيا لا يشمله مبدأ العلية، بداهة أنه لا واقع للمعلول وراء ارتباطه
بالعلة ذاتا، فما لم يكن مرتبطا بشئ كذلك لا يعقل أن يكون ذلك الشئ مبدأ له
وعلة، ومن هنا لا يكون كل مرتبط بشئ معلولا له.
فبالنتيجة: أن الموجود الخارجي لا يخلو: إما أن يكون ممكن الوجود وهو
عين التعلق والارتباط. أو يكون واجب الوجود وهو الغنى بالذات، ولا ثالث
لهما. وعلى أساس ذلك أن تلك الأشياء كما تفتقر في حدوثها إلى إفاضة المبدأ
كذلك تفتقر في بقائها الذي هو الحدوث في الشوط الثاني، ولابد في بقائها
واستمرارها من استمرار إفاضة الوجود من المبدأ عليها، فلو انقطعت الإفاضة

(1) راجع ص 77.
88

عليها في آن ماتت تلك الأشياء فيه حتما وانعدمت، بداهة استحالة بقاء ما هو
عين التعلق والارتباط بدون ما يتعلق به ويرتبط. ونظيرها: وجود النور داخل
الزجاج بواسطة القوة والطاقة الكهربائية التي تصل إليه بالأسلاك والتيارات من
مركز توليدها، ولا يمكن استغناء وجود النور بقاء عن وجود هذه الطاقة،
فاستمرار وجوده فيه باستمرار وصول تلك الطاقة إليه آنا بعد آن، ولو انعدمت
تلك الطاقة عنه في آن انعدم النور فيه فورا.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة الدقيقة، وهي: أن الوجود الممكن
بشتى ألوانه وأشكاله وجود تعلقي وارتباطي، فالتعلق والارتباط مقوم لوجوده
وكيانه. وعلى أساس تلك النتيجة فالإنسان يفتقر كل آن في حفظ كيانه ووجوده
وقدرته إلى الإفاضة من المبدأ عليه، ولو انقطعت إفاضة الوجود منه مات، كما لو
انقطعت إفاضة القدرة عنه عجز.
وقد يناقش في هذه النتيجة بأنها مخالفة لظواهر الأشياء الكونية، فإنها باقية
بعد انتفاء علتها، ولو كان وجود المعلول وجودا تعلقيا ارتباطيا لم يعقل بقاؤه بعد
انتفاء علته.
والجواب عن هذه المناقشة قد تقدم بصورة مفصلة عند نقد نظرية المعتزلة (1)،
وأثبتنا هناك: أن المناقش بما أنه لم يصل إلى تحليل مبدأ العلية لتلك الظواهر
حدوثا وبقاء وقع في هذا الخطا والاشتباه فلاحظ.
لا بأس أن نشير في ختام هذا الشوط إلى نقطتين:
الأولى: أن مرد حديثنا عن أن الأشياء الخارجية بكافة أنواعها أشياء تعلقية
وارتباطية تتعلق بالمبدأ الأعلى وترتبط به ليس إلى نفي العلية بين تلك الأشياء،
بل مرده إلى أن تلك الأشياء بعللها ومعاليلها تتصاعد إلى سبب أعمق وتنتهي إلى
مبدء أعلى ما وراء حدودها.

(1) راجع تفصيل نقد نظرية المعتزلة في ص 79.
89

والسبب في ذلك: أن تلك الأشياء بكافة سلاسلها التصاعدية وحلقاتها
الطولية والعرضية خاضعة لمبدأ العلية، ولا يمكن افتراض شئ بينها متحرر عن
هذا المبدأ ليكون هو السبب الأول لها.
فإذا لابد من انتهاء السلسلة جميعا في نهاية المطاف إلى علة غنية بذاتها
لتقطع السلسلة بها وتضع لها بداية أزلية. مثلا: بقاء ظواهر الأشياء استند إلى بقاء
عللها، وهي الخاصية الموجودة في موادها من ناحية، والقوة الجاذبية التي تفرض
المحافظة عليها من ناحية أخرى، وترتبط تلك الظواهر بهما ارتباطا ذاتيا، فلا
يعقل بقاؤها على وضعها بدونهما. ثم ننقل الكلام إلى عللها وهي تواجه نفس
مسألة الافتقار إلى مبدأ العلية... وهكذا إلى أن تصل الحلقات إلى السبب الأعلى
الغني بالذات المتحرر من مبدأ العلية.
الثانية: أن ارتباط المعلول بالعلة الطبيعية يفترق عن ارتباط المعلول بالعلة
الفاعلية في نقطة، ويشترك معه في نقطة أخرى.
أما نقطة الافتراق: فهي أن المعلول في العلل الطبيعية يرتبط بذات العلة
وينبثق من صميم كيانها ووجودها، ومن هنا قلنا: إن تأثير العلة في المعلول يقوم
على ضوء قانون التناسب. وأما المعلول في الفواعل الإرادية فلا يرتبط بذات
الفاعل والعلة، ولا ينبثق من صميم وجودها، ومن هنا لا يقوم تأثيره فيه على
أساس مسألة التناسب. نعم، يرتبط المعلول فيها بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته
ارتباطا ذاتيا، يعني: يستحيل انفكاكه عنها حدوثا وبقاء، ومتى تحققت المشيئة
تحقق الفعل، ومتى انعدمت انعدم (1).
وعلى ذلك فمرد ارتباط الأشياء الكونية بالمبدأ الأزلي وتعلقها به ذاتا إلى
ارتباط تلك الأشياء بمشيئته وإعمال قدرته، وأنها خاضعة لها خضوعا ذاتيا
وتتعلق بها حدوثا وبقاء، فمتى تحققت المشيئة الإلهية بإيجاد شئ وجد، ومتى

(1) قد تقدم في ص 56 - 57 فراجع.
90

انعدمت انعدم، فلا يعقل بقاؤه مع انعدامها، ولا تتعلق بالذات الأزلية، ولا تنبثق من
صميم كيانها ووجودها، كما عليه الفلاسفة.
ومن هنا قد استطعنا أن نضع الحجر الأساس للفرق بين نظريتنا
ونظرية الفلاسفة. فبناء على نظريتنا ارتباط تلك الأشياء بكافة حلقاتها بمشيئته
تعالى وإعمال سلطنته وقدرته. وبناء على نظرية الفلاسفة ارتباطها في واقع كيانها
بذاته الأزلية، وتنبثق من صميم وجودها. وقد تقدم عرض هذه الناحية ونقدها في
ضمن البحوث السابقة بشكل موسع (1).
وأما نقطة الاشتراك: فهي أن المعلول كما لا واقع له ما وراء ارتباطه بالعلة
وتعلقه بها تعلقا في جوهر ذاته وكيان وجوده - لما مضى: من أن مطلق الارتباط
القائم بين شيئين لا يشكل علاقة العلية بينهما - فكذلك الفعل لا واقع موضوعي له
ما وراء ارتباطه بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته وتعلقه بها تعلقا في واقع ذاته
وكيانه، ويدور وجوده مدارها حدوثا وبقاء. فمتى شاء إيجاده وجد، ومتى لم يشأ
لم يوجد (2).
فالنتيجة: أن المعلول الطبيعي والفعل الاختياري يشتركان في أن وجودهما
عين الارتباط والتعلق، لكن الأول تعلق بذات العلة، والثاني بمشيئة الفاعل، لا
بذاته، رغم أن صدور الأول يقوم على أساس قانون التناسب ومبدأ الحتم
والوجوب، وصدور الثاني يقوم على أساس الاختيار. وقد تقدم درس هذه
النواحي بصورة موسعة في ضمن البحوث السالفة (3).
قد انتهينا في نهاية المطاف إلى هذه النتيجة، وهي: أن للفعل الصادر عن العبد
نسبتين واقعيتين:
إحداهما: نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره عنه باختياره وإعمال
قدرته.

(1) راجع تفصيله في ص 51 - 68.
(2) تقدم في ص 88 - 90 فراجع.
(3) راجع التفصيل في ص 55 - 58.
91

وثانيتهما: نسبته إلى الله تعالى باعتبار أنه معطي الحياة والقدرة له في كل آن
وبصورة مستمرة حتى في آن اشتغاله بالعمل. وتلك النتيجة هي المطابقة للواقع
الموضوعي والمنطق العقلي، ولا مناص عنها. ومردها إلى أن مشيئة العبد تتفرع
على مشيئة الله سبحانه وتعالى، وإعمال سلطنته. وقد أشار إلى هذه الناحية في
عدة من الآيات الكريمة:
منها: قوله تعالى: * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) * (1) حيث قد أثبت - عز
وجل - أنه لا مشيئة للعباد إلا بمشيئة الله تعالى، ومدلول ذلك - كما مضى في
ضمن البحوث السابقة - أن مشيئة الله تعالى لم تتعلق بأفعال العباد، وإنما تتعلق
بمبادئها: كالحياة والقدرة وما شاكلهما، وبطبيعة الحال أن المشيئة للعبد إنما
تتصور في فرض وجود تلك المبادئ بمشيئة الله سبحانه. وأما في فرض عدمها
بعدم مشيئة الباري - عز وجل - فلا تتصور، لأنها لا يمكن أن توجد بدون وجود
ما تتفرع عليه. فالآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى.
ومنها: قوله تعالى: * (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء
الله) * (2)، حيث قد عرفت أن العبد لا يكون فاعلا لفعل إلا أن يشاء الله تعالى حياته
وقدرته ونحوهما مما يتوقف عليه فعله خارجا، وبدون ذلك لا يعقل كونه فاعلا
له، وعليه فمن الطبيعي أن فعله في الغد يتوقف على تعلق مشيئة الله تعالى بحياته
وقدرته فيه، وإلا استحال صدوره منه، فالآية تشير إلى هذا المعنى.
ويحتمل أن يكون المراد من الآية معنى آخر، وهو: أنكم لا تقولون لشئ
سنفعل كذا وكذا غدا إلا أن يشاء الله خلافه فتكون جملة " إلا أن يشاء الله " مقولة
القول، ويعبر عن هذا المعنى في اللغة الفارسية (أگر خدا بگذارد)، ومرجع هذا
المعنى إلى استقلال العبد وتفويضه في فعله إذا لم يشأ الله خلافه، ولذا منعت الآية
المباركة عن ذلك بقوله: " ولا تقولن لشئ... الخ "، ولعل هذا المعنى أظهر من

(1) الإنسان: 30.
(2) الكهف: 24.
92

المعنى الأول كما لا يخفى.
ومنها: قوله تعالى: * (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله) * (1)،
حيث قد ظهر مما تقدم (2): أن الآية الكريمة لا تدل على الجبر، بل تدل على واقع
الأمر بين الأمرين، بتقريب: أن المشيئة الإلهية لو لم تتعلق بإفاضة الحياة للإنسان
والقدرة له فلا يملك الإنسان لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا يقدر على شئ، بداهة أنه
لا حياة له - عندئذ - ولا قدرة كي يكون مالكا وقادرا، فملكه النفع أو الضر لنفسه
يتوقف على تعلق مشيئته تعالى بحياته وقدرته آنا فآنا، ويدور مداره حدوثا
وبقاء، وبدونه فلا ملك له أصلا ولا سلطان.
ومنها: قوله تعالى: * (يضل من يشاء ويهدي من يشاء) * (3)، حيث قد أسندت
الآية الكريمة الضلالة والهداية إلى الله سبحانه وتعالى، مع أنهما من أفعال العباد.
وسره ما ذكرناه: من أن أفعال العباد وإن لم تقع تحت مشيئة الباري - عز
وجل - مباشرة إلا أن مبادئ تلك الأفعال بيد مشيئته تعالى وتحت إرادته (4)، وقد
تقدم: أن هذه الجهة كافية لصحة إسناد هذه الأفعال إليه تعالى حقيقة من دون
عناية ومجاز (5).
فالنتيجة: أن هذه الآيات وأمثالها تطابق نظرية الأمر بين الأمرين ولا
تخالفها.
وتوهم: أن أمثال تلك الآيات تدل على نظرية الجبر خاطئ جدا، فإن هذا
التوهم قد نشأ من عدم فهم معنى نظرية الأمر بين الأمرين فهما صحيحا كاملا
ومطابقا للواقع الموضوعي. وأما بناء على ما فسرنا به هذه النظرية فلا يبقى مجال
لمثل هذا التخيل والتوهم أبدا.
ثم إنه لا بأس بالإشارة في نهاية المطاف إلى نقطتين:
الأولى: أن الفخر الرازي (6) قد أورد شبهة على ضوء الهيئة القديمة،

(1) يونس: 49.
(2) قد تقدم آنفا فلاحظ.
(3) النحل: 93، وفاطر: 8.
(4 و 5) راجع ص 86 - 88.
(6) انظر التفسير الكبير: ج 4 ص 184 في الآية: 164 من سورة البقرة.
93

وحاصلها: هو أن الله تعالى خلق الكائنات على ترتيب خاص وحلقات تصاعدية
مخصوصة، وهي: أنه تعالى خلق الكرة الأرضية وجعلها نقطة الدائرة ومركزا لها،
ثم كرة الماء، ثم كرة الهواء، ثم كرة النار. ثم الفلك الأول... وهكذا إلى أن ينتهي
إلى الفلك التاسع وهو فلك الأفلاك المسمى بالفلك الأطلس، وأما ما وراءه فلا
خلأ ولا ملأ، ولا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. ثم إنه تعالى جعل لكل من تلك
الكرات والأفلاك حركة خاصة من القسرية والطبيعية، فجعل حركة الشمس
- مثلا - من المشرق إلى المغرب، ولم يجعلها من الشمال إلى الجنوب أو من
المغرب إلى المشرق...، وهكذا.
وبعد ذلك قال: إن للسائل أن يسأل عن أن الله تعالى لما لم يجعل العالم على
شكل آخر وترتيب ثان بأن يجعل حركة الشمس - مثلا - من المغرب إلى
المشرق...، وهكذا، وبأي مرجح جعل العالم على الشكل الحالي دون غيره فيلزم
الترجيح من دون مرجح، وهو محال.
وحكى صدر المتألهين هذه الشبهة عنه في مشاعره (1)، وأجاب عنها بعدة
وجوه.
ونقل شيخنا الأستاذ (2) (قدس سره): أن صدر المتألهين قد تعرض لهذه الشبهة في
شرح أصول الكافي (3)، ولكن لم يأت بالجواب عنها إلا باللعن والشتم، واعترف
بأنه أتى بشبهة لا جواب لها.
وغير خفي أن إيراد الفخر هذه الشبهة على ضوء الهيئة القديمة لا من جهة ابتناء
الشبهة عليها، بل من ناحية أن أفكارهم عن العالم في ذلك العصر وتصورهم عنه
كانت قائمة على أساس تلك الهيئة، وإلا فالشبهة غير مختصة بها، بل تجئ على
ضوء الأفكار الجديدة عن العالم في العصر الحاضر أيضا، حيث إن للسائل أن يسأل

(1) انظر شرح المشاعر: مبحث الخاتمة ص 289.
(2) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 92.
(3) شرح أصول الكافي: ج 1 ص 267 كتاب العقل والجهل.
94

عن أن الله تعالى لماذا جعل حركة الأرض حول الشمس دون العكس؟ وهكذا.
ولنأخذ بالنقد في هذه الشبهة على ضوء كلتا النظريتين، يعني: نظريتنا ونظرية
الفلاسفة.
أما على نظريتنا: فلأنها ساقطة جدا، ولا واقع موضوعي لها أصلا. والسبب
في ذلك: هو أن الفعل الاختياري إنما يفتقر في وجوده إلى إعمال قدرة الفاعل
واختياره، فمتى أعمل قدرته نحو إيجاده وجد، وإلا فلا، سواء أكان هناك مرجح
خارجي يقتضي وجوده أم لم يكن، وهذا بخلاف المعلول فإن صدوره عن العلة
إنما هو في إطار قانون التناسب، ويستحيل صدوره في خارج هذا الإطار. هذا
من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد ذكرنا في بحث الوضع: أن الترجيح بلا مرجح لم يكن
قبيحا فضلا عن كونه مستحيلا (1)، وذلك كما إذا تعلق الغرض بصرف وجود
الطبيعي في الخارج وافترضنا أن أفراده كانت متساوية الإقدام بالإضافة إليه
فعندئذ اختيار أي فرد منها دون آخر لم يكن قبيحا فضلا عن كونه محالا.
نعم، اختيار فعل من دون تعلق غرض به لا بشخصه ولا بنوعه لغو وقبيح، لا
أنه محال.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أن المشيئة الإلهية حيث تعلقت
بخلق العالم وإيجاده فاختياره تعالى هذا الشكل الخاص له والترتيب المخصوص
المشتمل على الأنظمة الخاصة المعينة من بين الأشكال المتعددة المفترض
تساويها لا يكون قبيحا فضلا عن كونه محالا. على أن الترجيح بلا مرجح لو كان
قبيحا لقلنا - بطبيعة الحال - بوجود المرجح في اختياره، وإلا استحال صدوره من
الحكيم تعالى، بداهة أنه ليس بإمكاننا نفي وجود المرجح فيه ودعوى تساويه
مع بقية الأفراد والأشكال. وكيف كان فالشبهة واهية جدا.

(1) راجع الجزء الأول من هذا الكتاب: ص 38 من الطبعة الجديدة.
95

وأما على نظرية الفلاسفة: فالأمر أيضا كذلك. والوجه فيه: أن صدور المعلول
عن العلة وإن كان يحتاج إلى وجود مرجح إلا أن المرجح عبارة عن وجود
التناسب بينهما، وبدونه يستحيل صدوره منها. وعلى هذا الأساس - لا محالة -
يكون وجود العالم بهذا الشكل والترتيب الخاص معلولا لعلة مناسبة له، وإلا
استحال وجوده كذلك.
وبكلمة أخرى: قد تقدم أن تأثير العلة في المعلول على ضوء قانون التناسب
بينهما (1)، وعليه فالتناسب الموجود بين العالم وعلته لا يخلو: من أن يكون
موجودا بين وجوده بهذا الشكل ووجود علته، أو يكون موجودا بين وجوده
بشكل آخر ووجود علته، ولا ثالث لهما.
فعلى الأول يجب وجوده بالشكل الحالي، ويستحيل وجوده بشكل آخر.
وعلى الثاني عكس ذلك، وحيث إن العالم قد وجد بهذا الشكل فنستكشف
عن وجود المرجح فيه لا في غيره.
الثانية: قد عرفت أن للفعل الصادر من العبد إسنادين حقيقيين:
أحدهما: إلى فاعله مباشرة.
وثانيهما: إلى معطي مقدماته ومبادئه التي يتوقف الفعل عليها، وهو الله
سبحانه وتعالى (2).
ولكن قد يكون إسناده إلى الله تعالى أولى - في نظر العرف - من إسناده إلى
العبد. وقد يكون بالعكس.
ولتوضيح ذلك نأخذ بمثال، وهو: أن من هيأ جميع مقدمات سفر شخص إلى
زيارة بيت الله الحرام - مثلا - من الزاد والراحلة ونحوهما وسعى له في إنجاز تمام
مهماته وقد أنجزها حتى أحضر له سيارة خاصة أو طائرة فلم يبق إلا أن يركب
فيها ويذهب بها إلى الحج فعندئذ إذا ركب فيها وذهب وأدى تمام المناسك

(1) راجع ص 57 - 58.
(2) قد تقدم في ص 86 - 87 فراجع.
96

فالعرف يرى أولوية إسناد هذا العمل إلى من هيأ له المقدمات دون فاعله. وأما لو
استغل هذا الشخص الطائرة وذهب بها إلى مكان لا يرضي الله ورسوله به وعمل
ما عمل هناك فالفعل في نظر العرف مستند إلى فاعله مباشرة، دون من هيأ
المقدمات له.
وكذلك الحال في أفعال العباد، فإن كافة مبادئها من الحياة والقدرة ونحوهما
تحت مشيئته تعالى وإرادته كما عرفت (1) سابقا. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الله تعالى قد بين طريق الحق والباطل، والهداية
والضلال، والسعادة والشقاوة، وما يترتب عليهما من دخول الجنة والنار بإرسال
الرسل وإنزال الكتب.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أن الله تعالى يعطي تلك المبادئ
والمقدمات لهم ليصرفوها في سبل الخير وطرق الهداية والسعادة ويرتكبوا بها
الأفعال الحسنة. لا في سبل الشر وطرق الضلالة والشقاوة، وعندئذ بطبيعة الحال
الأفعال الصادرة عنهم إن كانت حسنة ومصداقا لسبل الخير وطرق الهداية لكان
استنادها في نظر العرف إلى الله تعالى أولى من استنادها إليهم. وإن كانت قبيحة
ومصداقا لسبل الشر وطرق الضلالة لكان استنادها إليهم أولى من استنادها إليه
سبحانه وتعالى وإن كان لا فرق بينهما في نظر العقل.
وعلى هذا نحمل ما ورد في بعض الروايات بهذا المضمون " أني أولى
بحسناتك من نفسك، وأنت أولى بسيئاتك مني " (2). فإن النظر فيه إلى ما ذكرناه
من التفاوت في نظر العرف دون النظر الدقي العقلي، وهذا لا ينافي ما حققناه (3)
من صحة استناد العمل إلى الله تعالى والى فاعله المباشر حقيقة.

(1) قد تقدم في ص 86 - 87 فراجع.
(2) انظر أصول الكافي: ج 1 ص 160 ح 12 ب 30 كتاب التوحيد.
(3) قد تقدم في ص 86 - 87 فراجع.
97

(6)
نظرية العلماء
" مسألة العقاب "
لا إشكال في صحة عقاب العبد وحسنه على مخالفة المولى على ضوء
نظريتي الإمامية والمعتزلة، حيث إن العقاب على ضوئهما عقاب على أمر
اختياري، ولا يكون عقابا على أمر خارج عن الاختيار ليكون قبيحا، ومن
الطبيعي أن العقل يستقل بحسن العقاب على أمر اختياري، وقد تقدم أن العبد
مختار في فعله في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع (1).
وأما على نظرية الأشاعرة فيشكل عقاب العبيد على أفعالهم، وكذلك على
نظرية الفلاسفة، ضرورة أن العقاب على ضوء كلتا النظريتين عقاب على الأمر
الخارج عن الاختيار. ومن الطبيعي أن العقل قد استقل بقبح العقاب على ما هو
الخارج عن الاختيار، بل - عندئذ - لا فائدة لبعث الرسل وإنزال الكتب أصلا،
حيث إن الكل بقضاء الله وقدره فما تعلق قضاء الله بوجوده وجب، وما تعلق قضاء
الله بعدمه امتنع، فإذا ما فائدة الأمر والنهي؟ ومن هنا قد تصدوا للجواب عن ذلك
بوجوه:
الأول: ما عن صدر المتألهين وإليك نصه: (أما الأمر والنهي فوقوعهما أيضا
من القضاء والقدر، وأما الثواب والعقاب فهما من لوازم الأفعال الواقعة بالقضاء،
فإن الأغذية الرديئة كما أنها أسباب للأمراض الجسمانية كذلك العقائد الفاسدة
والأعمال الباطلة أسباب للأمراض النفسانية، وكذلك في جانب الثواب) (2).
وهذا الجواب غير مفيد، والسبب في ذلك:
أولا: أن الثواب والعقاب ليسا من لوازم أفعال العباد التي لا تنفك عنها، بل
هما فعلان اختياريان للمولى، وإلا فلا معنى للشفاعة والغفران اللذان قد ثبتا بنص

(1) راجع ص 91.
(2) انظر الأسفار: فصل 12 من الموقف الرابع ج 6 ص 386.
98

من الكتاب والسنة.
وثانيا: أن أفعال العباد إذا كانت واقعة بقضاء الله تعالى فبطبيعة الحال هي
خارجة عن اختيارهم. ومن هنا قد صرح بأن ما تعلق به قضاء الله وجب ولا يعقل
تخلفه عنه. وعلى هذا فما فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب والأمر والنهي؟
وبكلمة أخرى: بهذا الجواب وإن كان تدفع مسألة قبح العقاب على أمر خارج
عن الاختيار - حيث إن تلك المسألة تقوم على أساس أن العقاب فعل اختياري
للمولى، فعندئذ لا محالة يكون قبيحا. وأما لو كان من لوازم الأفعال القبيحة
والعقائد الفاسدة فلا يعقل قبحه - إلا أنه لا يعالج مشكلة لزوم لغوية بعث الرسل
وإنزال الكتب.
الثاني: ما عن أبي الحسن البصري (1) رئيس الأشاعرة والمجبرة: من أن
الثواب والعقاب ليسا على فعل العبد الصادر عنه في الخارج ليقال: إنه خارج عن
اختياره ولا يستحق العقاب عليه، بل إنما هما على اكتساب العبد وكسبه بمقتضى
الآية الكريمة * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع
الحساب) * (2).
وهذا الجواب لا يرجع إلى معنى محصل أصلا، وذلك لأنه إن أراد بالكسب
والاكتساب كون العبد محلا للفعل كالجسم الذي يكون محلا للسواد - مثلا - تارة
وللبياض أخرى فيرده: أنه لا يعالج مشكلة العقاب على أمر غير اختياري،
ضرورة أن كونه محلا له ككون الجسم محلا للسواد أو البياض أمر خارج عن
اختياره فلا يعقل عقابه عليه.
هذا، مضافا إلى اختلاف الفعل في الخارج فلا يكون على نسبة واحدة، حيث
قد يكون قيامه بالفاعل قيام صدور وإيجاد، وقد يكون قيامه به قيام الحال

(1) نسبه إليه المحقق نصير الدين الطوسي في " قواعد العقائد "، والعلامة الحلي في " كشف
الفوائد في شرح قواعد العقائد "، راجع مجموعة الرسائل: ص 60 - 61 في مذهب
الأشاعرة في الأفعال.
(2) غافر: 17.
99

بالمحل. وهذا الجواب لو تم فإنما يتم في خصوص ما كان قيام الفعل به قيام
الحال بالمحل لا مطلقا.
وإن أراد بهما الفعل الصادر من العبد باختياره وإعمال قدرته فهو يناقض
التزامه بالجبر، وأن العبد لا اختيار له.
وإن أراد بهما شيئا آخر يغاير الفعل الخارجي فهو مضافا إلى أنه خلاف
الوجدان - ضرورة أنه ليس هنا شئ آخر يصدر عن العبد خارجا ما عدا فعله -
ننقل الكلام فيه ونقول: إنه لا يخلو من: أن يكون صدوره منه باختياره، أو لا
يكون باختياره.
فعلى الأول فلا موجب للتفرقة بينه وبين الفعل والالتزام بأنه اختياري دونه،
وذلك لأن مقتضى الأدلة المتقدمة: أنه لا اختيار للعبد، وهو بمنزلة الآلة، فكل ما
يصدر عنه في الخارج يصدر في الحقيقة بإرادة الله تعالى ومشيئته، سواء سمي
فعلا أم كسبا، وعليه فكما أن الالتزام بكون الفعل اختياريا يناقض مذهبه فكذلك
الحال في الكسب، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.
وعلى الثاني فما هو المصحح للعقاب إذا كان الكسب كالفعل يصدر بغير
اختيار العبد؟
ومن ضوء هذا البيان يظهر: أنه لا وجه للاستشهاد على ذلك بالآية الكريمة،
لوضوح أن المراد من الكسب فيها هو العمل الخارجي، لا شئ آخر في مقابله.
ومن هنا قد رتب سبحانه وتعالى في كثير من الآيات الجزاء والعقاب على العمل.
الثالث: ما عن الباقلاني: من أن الثواب والعقاب إنما هما على عنوان
الإطاعة والمعصية، بدعوى: أن الفعل الخارجي وإن كان يصدر عن العبد بغير
اختياره إلا أن جعله معنونا بعنوان الإطاعة والمعصية بيده واختياره، فإذا العقاب
عليها ليس عقابا على أمر غير اختياري (1).

(1) نسبه إليه المحقق نصير الدين الطوسي في قواعد العقائد، والعلامة الحلي في كشف الفوائد،
راجع مجموعة الرسائل: مذهب الأشاعرة في الأفعال ص 61.
100

وغير خفي أن الإطاعة والمعصية لا تخلوان من أن تكونا عنوانين انتزاعيين
من مطابقة الفعل المأتي به في الخارج للمأمور به ومخالفته له، أو تكونا أمرين
متأصلين في الخارج.
فعلى الأول: فلا مناص من الالتزام بعدم كونهما اختياريين، بداهة أنهما
تابعان لمنشأ انتزاعهما، وحيث فرض عدم اختياريته فبطبيعة الحال يكونان
خارجين عن الاختيار، فإذا عاد المحذور.
وعلى الثاني: فيرد عليه:
أولا: أنه خلاف الوجدان والضرورة، بداهة أنا لا نعقل شيئا آخر في
الخارج في مقابل الفعل الصادر عن العبد المنتزع منه تارة عنوان الإطاعة،
واخرى عنوان المعصية.
وثانيا: أنا ننقل الكلام إليهما ونقول: إنهما لا يخلوان من أن يصدرا عن العبد
بالاختيار، أو يصدرا قهرا وبغير اختيار.
فعلى الأول يلزمهم أن يعترفوا بعدم الجبر واختيارية الأفعال، ضرورة عدم
الفرق بين فعل وآخر في ذلك، فلو أمكن صدور فعل عنه " بالاختيار " لأمكن
صدور غيره أيضا كذلك، فإن الملاك فيه واحد.
وعلى الثاني يعود المحذور.
الرابع: أن الأشاعرة قد أنكرت التحسين والتقبيح العقليين، وقالوا: إن القبيح
ما قبحه الشارع. والحسن ما حسنه الشارع، ومع قطع النظر عن حكمه بذلك لا
يدرك العقل حسن الأشياء ولا قبحها في نفسه (1).
وقد أقاموا على هذا الأساس دعويين:
الأولى: لا يتصور صدور الظلم من الله سبحانه وتعالى، والسبب في ذلك: أن
الظلم عبارة عن التصرف في ملك الغير بدون إذنه، والمفروض أن العالم بعرضه
العريض من العلوي والسفلي والدنيوي والأخروي ملك لله سبحانه وتحت سلطانه

(1) مجموعة الرسائل: ص 61 مذهب الأشاعرة في الأفعال.
101

وتصرفه، ولا سلطان لغيره فيه، ولا شريك له في ملكه، ومن الطبيعي أن أي
تصرف صدر عنه تعالى كان في ملكه فلا يكون مصداقا للظلم.
وعلى هذا فلا محذور لعقابه تعالى العبيد على أفعاله غير الاختيارية، بل ولا
ظلم لو عاقب الله سبحانه وتعالى نبيا من أنبيائه وأدخله النار، وأثاب شقيا من
الأشقياء وأدخله الجنة، حيث إن له أن يتصرف في ملكه ما شاء، ولا يسأل عما
يفعل وهم يسألون عما يفعلون.
فالنتيجة: أن انتفاء الظلم في أفعاله تعالى بانتفاء موضوعه. وعلى هذا المعنى
نحمل الآيات النافية للظلم عن ساحته تعالى وتقدس، كقوله: * (وما ربك بظلام
للعبيد) * (1)، ونحوه، يعني: أن سلب الظلم عنه لأجل عدم موضوعه واستحالة
تحققه، لا لأجل قبحه.
ومن ضوء هذا البيان يظهر وجه عدم اتصاف أفعال العباد بالظلم، حيث إنها
أفعال لله تعالى حقيقة وتصدر عنه واقعا، ولا شأن للعباد بالإضافة إليها في مقابل
شأنه تعالى، ولا إرادة لهم في مقابل إرادته.
الثانية: أن الله سبحانه وتعالى هو الحاكم على الإطلاق، فلا يتصور حاكم
فوقه، وعليه فلا يعقل أن يكون محكوما بحكم عبيده، ولا معنى لعدم تجويز الظلم
عليه بحكم العقل، فإن مرده إلى تعيين الوظيفة له تعالى، وهو غير معقول.
ولنأخذ بالنقد على كلتا الدعويين:
أما الدعوى الأولى: فهي ساقطة جدا، والسبب في ذلك: أن قضيتي قبح الظلم
وحسن العدل من القضايا الأولية التي يدركهما العقل البشري في ذاته، ولا يتوقف
إدراكه لهما على وجود شرع وشريعة، وتكونان من القضايا التي هي قياساتها
معها، ولا يتمكن أحد ولن يتمكن من إنكارهما، لا في أفعال الباري عز وجل، ولا
في أفعال عباده.

(1) فصلت: 46.
102

وأما ما ذكره الأشاعرة في وجه عدم اتصاف أفعاله تعالى بالظلم فهو خاطئ،
وذلك لأن حقيقة الظلم هي الاعوجاج في الطريق والخروج منه يمنة ويسرة،
وعدم الاستقامة في العمل، وهو المعبر عنه بجعل الشئ في غير موضعه. كما أن
حقيقة العدل: عبارة عن الاستواء والاستقامة في جادة الشرع، وعدم الخروج منها
يمنة تارة ويسرة أخرى، وهو المعبر عنه بوضع كل شئ في موضعه. وبطبيعة
الحال أن صدق الظلم بهذا التفسير لا يتوقف على كون التصرف تصرفا في ملك
الغير وسلطانه. ومن هنا لو قصر أحد في حفظ نفسه يقال: إنه ظلم نفسه، مع أن
نفسه غير مملوكة لغيره، كما أنه لو وضع ماله في غير موضعه عد ذلك ظلما منه.
وعلى ضوء هذا التفسير لو أثاب المولى عبده العاصي وعاقب عبده المطيع
عد ذلك منه ظلما ووضعا لهما في غير محلهما وإن كان التصرف تصرفا في ملكه
وسلطانه.
وعلى الجملة: كما أن العقل يدرك أن مؤاخذة المولى عبده على العمل الصادر
عنه قهرا وبغير اختيار ظلم منه ووضع في غير موضعه وإن كان الملك ملك نفسه
والتصرف تصرفا في سلطانه كذلك يدرك أن مؤاخذة المطيع وإثابة العاصي ظلم.
فالنتيجة: أن الظلم لا ينحصر بالتصرف في ملك غيره.
نعم، عنوان الغصب لا يتحقق في فعله تعالى، حيث إنه عبارة عن التصرف في
ملك الغير من دون إذنه ورضاه، وقد عرفت أن العالم وما فيه ملك له تعالى.
ونزيد على هذا: أن إنكار التحسين والتقبيح العقليين يستلزم سد باب إثبات
النبوة وهدم أساس الشرائع والأديان.
والوجه في ذلك: هو أن إثبات النبوة يرتكز على إدراك العقل قبح إعطاء
المعجزة بيد الكاذب في دعوى النبوة، وإذا افترضنا أن العقل لا يدرك قبح ذلك،
وأنه لا مانع في نظره من أن الله سبحانه وتعالى يعطي المعجزة بيد الكاذب فإذا ما
هو الدليل القاطع على كونه نبيا؟ وما هو الدافع لاحتمال كونه كاذبا في دعوته؟
ومن الطبيعي أنه لا دافع له ولا مبرر إلا إدراك العقل قبح ذلك.
103

ومن ذلك يظهر: أن الأشاعرة لا يتمكنون ولن يتمكنوا من إثبات مسألة النبوة
على ضوء مذهبهم.
هذا، مضافا إلى أن عقاب المطيع لو كان جائزا ولم يكن قبيحا من الله سبحانه
لزم كون إرسال الرسل وإنزال الكتب لغوا، فإنهما لدعوة الناس إلى الإطاعة
والثواب وتبعيدهم عن المعصية والعقاب، وإذا افترضنا أن كلا من المطيع والعاصي
يحتمل العقاب على فعله كما يحتمل الثواب عليه فلا داعي له إلى الإطاعة، لجواز
أن يثيب سبحانه وتعالى العاصي ويعاقب المطيع.
ودعوى: أن عادة الله تعالى قد جرت على إظهار المعجزة بيد الصادق دون
الكاذب خاطئة جدا.
أما أولا: فلأنه لا طريق لنا إلى إثبات هذه الدعوى إلا من طريق إدراك
العقل، وذلك لأنها ليست من الأمور المحسوسة القابلة للإدراك بإحدى القوى
الظاهرة، ولكن إذا عزلنا العقل عن حكمه وأنه لا يدرك الحسن والقبح فما هو
المبرر لها والحاكم بها؟ وكيف يمكن تصديقها والعلم بثبوتها له تعالى؟
وأما ثانيا: فلأن إثبات هذه العادة له تعالى تتوقف على تصديق نبوة الأنبياء
السابقين الذين أظهروا المعجزة وجاؤا بها. وأما من أنكر نبوتهم أو أظهر الشك
فيها فكيف يمكن حصول العلم له بثبوت هذه العادة؟
وبكلمة أخرى: العادة إنما تحصل بالتكرار وتعاقب الوجود، وعليه فننقل
الكلام إلى أول نبي يدعي النبوة ويظهر المعجزة فكيف يمكن تصديقه في دعواه؟
وما هو الطريق لذلك والدافع لاحتمال كونه كاذبا في دعوته بعد عدم إدراك العقل
قبح إظهار المعجزة بيد الكاذب من ناحية، وعدم ثبوت العادة المفروضة من ناحية
أخرى؟
وقد تحصل من ذلك: أنه لا طريق إلى إثبات نبوة من يدعيها إلا إدراك العقل
قبح إظهاره تعالى المعجزة بيد الكاذب، ولولاه لا نسد باب إثبات النبوة.
وأما ثالثا: فلأنا لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن عادة الله تعالى قد جرت على
104

ذلك ولكن ما هو المانع من تغيير هذه العادة؟ وما هو الدافع لهذا الاحتمال؟ ومن
الطبيعي أنه لا دافع له إلا إدراك العقل قبح ذلك، وإذا افترضنا أن العقل لا يدرك
قبحه ولا مانع عنده من هذا التغيير فإذا ما هو الدافع له؟
ومن ضوء هذا البيان يظهر بطلان دعوى جريان عادته تعالى على مؤاخذة
العاصي وإثابة المطيع أيضا بعين ما قدمناه (1)، فلا نعيد.
وتوهم أن إثابة المطيع ومؤاخذة العاصي مستندة إلى وعده تعالى ووعيده في
كتابه الكريم من الحسنات والسيئات، والدخول في الجنة والنار، والحور
والقصور، والويل والعذاب وما شاكل ذلك من ألوان الثواب والعقاب خاطئ جدا.
والسبب في ذلك: أنه لا يمكن الوثوق بوعده تعالى ووعيده بعد الالتزام بعدم
إدراك العقل قبح الكذب وخلف الوعد عليه سبحانه.
فالنتيجة: أن في عزل العقل عن إدراك الحسن والقبح وتجويز ارتكاب الظلم
على الله تعالى القضاء الحاسم على أساس كافة الشرائع والأديان.
وأما الدعوى الثانية: فلأنها نشأت من الخلط بين حكم العقل العملي وحكم
العقل النظري، وذلك لأن الله تعالى لا يعقل أن يكون محكوما بحكم العقل العملي،
وهو حكم العقلاء باستحقاقه تعالى المدح تارة والذم أخرى على الفعل الصادر
عنه في الخارج، بداهة أنه لا يتصور أن يحكم عليه سبحانه عبيده.
وأما العقل النظري فهو كما يدرك وجوده تعالى ووحدانيته وقدرته وعلمه
وحكمته التي هي من لوازم علمه وقدرته كذلك يدرك قبح ارتكابه سبحانه الظلم
واستحالة صدوره منه، كيف؟ حيث إنه مناف لحكمته، ومن الطبيعي أن ما ينافي
لها يستحيل صدوره عن الحكيم تعالى.
والسبب في ذلك: أن صدور الظلم من شخص معلول لأحد أمور: الجهل،
التشفي، العجز، الخوف، وجميع ذلك مستحيل في حقه تعالى.

(1) قد مر آنفا فلاحظ.
105

وكيف كان، فإدراك العقل استحالة صدور الظلم عنه سبحانه وقبحه من
القضايا الأولية التي هي قياساتها معها. ومن هنا لولا إدراك العقل قبح الظلم
لانحلت كافة الأنظمة البشرية المادية والمعنوية.
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن أفعال الله تعالى لا تتصف بالقبح وأن كل ما
يصدر عنه سبحانه حسن إلا أنه لا ينبغي الشك في أن العقلاء يعاقبون عبيدهم
على مخالفتهم ويثيبون على إطاعتهم، كما أنهم يمدحون الفاعل على فعل
ويذمونه على فعل آخر... وهكذا. ولو كانت الأفعال الصادرة منهم غير اختيارية
- كما هو مختار الأشاعرة ومذهب الفلاسفة - فلا معنى لاستحقاقهم المدح
والثواب عليها تارة والذم والعقاب أخرى، ومن هنا لا يستحقون ذلك على الفعل
الصادر منهم بغير اختيار، وأنهم يفرقون بين الأفعال الاختيارية وغيرها، فلو
كانت الأفعال بشتى أنواعها وأشكالها غير اختيارية فما هو سبب هذه التفرقة
وحكمهم باستحقاق المدح أو الذم في بعضها دون بعضها الآخر؟ ومن الطبيعي أن
كل ذلك يكشف بصورة قاطعة عن بطلان نظرية الجبر وصحة نظرية الاختيار.
الخامس: ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)، واليك نصه: (العقاب إنما
بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة عن شقاوتهما
الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما، فإن " السعيد سعيد في بطن امه، والشقي شقي في
بطن امه "، و " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " كما في الخبر، والذاتي لا
يعلل، فانقطع سؤال: أنه لم جعل السعيد سعيدا والشقي شقيا؟ فإن السعيد سعيد
بنفسه والشقي شقي كذلك، وإنما أوجدهما الله تعالى). (قلم اينجا رسيد
سربشكست) (1).
وملخص كلامه (قدس سره): هو أن العقاب ليس من معاقب خارجي حتى يلزم
المحذور المتقدم، بل هو من لوازم الأعمال السيئة التي لا تنفك عنها، فإن نسبة
العمل إلى العقاب كنسبة الثمر إلى البذر. ومن الطبيعي أن البذر إذا كان صحيحا كان

(1) كفاية الأصول: ص 89.
106

نتاجه صحيحا، وإذا كان فاسدا كان نتاجه فاسدا. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن تلك الأعمال تنتهي بالأخرة إلى الشقاوة التي هي
ذاتية للإنسان والذاتي لا يعلل.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنه لا إشكال لا من جانب العقاب
حيث إنه من لوازم الأعمال وآثارها، ولا من جانب تلك الأعمال حيث إنها
تنتهي في نهاية المطاف إلى الذات.
ولنأخذ بالمناقشة على هذه النظرية:
أولا: أنها مخالفة صريحة لنصوص الكتاب والسنة، حيث إن لازمها عدم
إمكان العفو بالشفاعة ونحوه، مع أنهما قد نصتا على ذلك، وأن العقاب بيده تعالى
وله أن يعاقب وله أن يعفو، فهو فعل اختياري له سبحانه.
وعلى الجملة: فلا ينبغي الشك في بطلان هذه النظرية على ضوء الكتاب
والسنة.
وثانيا: أنها لا تحل مشكلة العقاب على أمر غير اختياري، فتبقى تلك
المشكلة على حالها، بل هي تؤكدها كما هو واضح.
نعم، لو كان مراده (قدس سره) من تبعية العقاب للكفر والعصيان التبعية على نحو
الاقتضاء فلا إشكال فيها من الناحية الأولى، ولا تكون مخالفة للكتاب والسنة،
فيبقى الإشكال فيها من الناحية الثانية، وهي: أن الأعمال إذا كانت غير اختيارية
فكيف يعقل العقاب عليها؟ (1).
107



(1) كفاية الأصول: ص 89.
(2) راجع ص 51 - 54.
108



(1) راجع نقد نظرية الأشاعرة في ص 43 - 75. (2) راجع ص 92 - 93.
(3) بحار الأنوار: كتاب الصلاة ج 86 ص 71 ح 5، وص 268 ح 38، و ج 87 ص 69 ح 18
وص 99 ح 17.
109



(1) البحار: ج 5 ص 153 ح 1 كتاب العدل باب السعادة والشقاوة.
(2) الكافي: ج 8 ص 177 ح 197 ط دار الكتب.
(3) البحار: ج 5 ص 157 ح 10.
(4) راجع ص 71 - 72.
110

السادس: أن شيخنا المحقق (قدس سره) قد أجاب عن هذه المسألة بجوابين:
الأول: أن العقوبة والمثوبة ليستا من معاقب ومثيب خارجي، بل هما من
تبعات الأفعال ولوازم الأعمال، ونتائج الملكات الرذيلة، وآثار الملكات
الفاضلة، ومثل تلك العقوبة على النفس لخطيئتها: كالمرض العارض على البدن
لنهمه، والمرض الروحاني: كالمرض الجسماني، والأدوية العقلائية كالأدوية
الجسمانية. ولا استحالة في استلزام الملكات النفسانية الرذيلة للآلام الجسمانية
والروحانية في تلك النشأة، أي: النشأة الأخروية. كما أنها تستلزم في هذه النشأة
الدنيوية، ضرورة أن تصور المنافرات كما يوجب الآلام النفسانية كذلك يوجب
111

الآلام الجسمانية، فإذا لا مانع من حدوث منافرات روحانية وجسمانية بواسطة
الملكات الخبيثة النفسانية.
فالنتيجة: أن العقاب ليس من معاقب خارجي حتى يقال: كيف يمكن صدور
العقاب من الحكيم المختار على ما لا يكون بالأخرة بالاختيار وفي الآيات
والروايات تصريحات وتلويحات إلى ذلك؟ فقد تكرر في القرآن الكريم * (إنما
تجزون ما كنتم تعملون) * (1)، وقوله (عليه السلام): " إنما هي أعمالكم ترد إليكم " (2).
الثاني: أن المثوبة والعقوبة من مثيب ومعاقب خارجي كما دل على ذلك ظاهر
الكتاب والسنة، وتصحيحهما بعد صحة التكليف بذلك المقدار من الاختيار في
غاية السهولة، إذ كما أن المولى العرفي يؤاخذ عبده على مخالفة أمره كذلك المولى
الحقيقي، لوضوح أن الفعل لو كان بمجرد استناده إلى الواجب تعالى غير اختياري
وغير مصحح للمؤاخذة لم تصح مؤاخذة المولى العرفي أيضا، وإذا كان في حد
ذاته قابلا للمؤاخذة عليه فكون المؤاخذة ممن انتهت إليه سلسلة الإرادة والاختيار
لا يوجب انقلاب الفعل عما هو عليه من القابلية للمؤاخذة ممن خولف أمره ونهيه.
وقد أجاب عن ذلك بجواب آخر، وهو: أن الحكم باستحقاق العقاب ليس من
أجل حكم العقلاء به حتى يرد علينا إشكال انتهاء إلى ما لا بالاختيار، بل نقول:
بأن الفعل الناشئ عن هذا المقدار من الاختيار مادة لصورة أخروية، والتعبير
بالاستحقاق بملاحظة أن المادة حيث كانت مستعدة فهي مستحقة لإفاضة الصورة
من واهب الصور. ومنه تعرف أن نسبة التعذيب والإدخال في النار إليه تعالى
بملاحظة أن إفاضة تلك الصورة المؤلمة المحرقة التي تطلع على الأفئدة منه تعالى
بتوسط ملائكة العذاب، فلا ينافي القول باللزوم، مع ظهور الآيات والروايات في
العقوبة من معاقب خارجي (3).

(1) الطور: 16.
(2) بحار الأنوار: ج 3 ص 90 كتاب التوحيد ب 4 خبر توحيد المفضل.
(3) نهاية الدراية: ج 1 ص 177. وط. آل البيت ص 2990.
112

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره) من الأجوبة:
أما الأول: فيرد عليه ما أوردناه على الجواب الأول حرفا بحرف فلا نعيد.
وأما الاستشهاد على ذلك بالآيات والروايات فغريب جدا، لما سبق من أن
الآيات والروايات قد نصتا على خلاف ذلك.
وأما قوله تعالى: * (إنما تجزون ما كنتم تعملون) * فلا يكون مشعرا بذلك
فضلا عن الدلالة، ضرورة أن مدلوله جزاء الناس بسبب الأعمال الصادرة عنهم
في الخارج، وأما كونه من آثارها ولوازمها التي لا تتخلف عنها فلا يدل عليه
بوجه أصلا.
وأما قوله (عليه السلام): " إنما هي أعمالكم ترد إليكم " (1) فظاهر في تجسم الأعمال،
ولا يدل على أن العقاب ليس من معاقب خارجي، بداهة أنه لا تنافي بين الالتزام
بتجسم الأعمال في الآخرة وكونه بيد الله تعالى وتحت اختياره.
وأما الثاني: فيرد عليه ما تقدم في ضمن البحوث السابقة: من أن مجرد كون
الفعل مسبوقا بالإرادة لا يصحح مناط اختياريته رغم أن الإرادة بكافة
مبادئها غير اختيارية من ناحية، وكونها علة تامة من ناحية أخرى، ومنتهية (2)
الإرادة الأزلية من ناحية ثالثة (3)، بداهة أن الفعل والحال هذه كيف يعقل كونه
اختياريا؟ وعلى هذا الضوء فلا يمكن القول باستحقاق العقاب عليه، لاستقلال
العقل بقبح العقاب على الفعل الخارج عن الاختيار، فإذا هذا الجواب لا يجدي
في دفع المحذور المزبور.
وأما الثالث: فهو مبتن على تجسم الأعمال، وهو وإن كان غير بعيد نظرا إلى
ما يظهر من بعض الآيات والروايات (4) إلا أن مرده ليس إلى أن تلك الأعمال مادة
لصورة أخروية مفاضة من واهب الصور على شكل اللزوم بحيث يستحيل تخلفها
عنها، بداهة أن التجسم بهذا المعنى مخالف صريح الكتاب والسنة، حيث إنهما قد

(1) تقدمت الإشارة إليه آنفا فراجع.
(2) كذا والظاهر سقوط كلمة إلى.
(3) راجع الإيراد في ص 51 - 57.
(4) انظر أصول الكافي: ج 3 ص 190 ح 8، وص 191 ح 10 و 12 كتاب الإيمان والكفر.
113

نصا على أن العقاب بيده تعالى، وله أن يعاقب وله أن يعفو.
وعلى الجملة: فالمجيب بهذا الجواب وإن كان يدفع مسألة قبح العقاب على
الأمر الخارج عن الاختيار - حيث إن العقاب على أساس ذلك صورة أخروية
للأعمال الخارجية اللازمة لها، الخارجة عن اختيار المعاقب الخارجي فلا يتصف
بالقبح - إلا أنه لا يعالج مشكلة لزوم لغوية بعث الرسل وإنزال الكتب.
وقد تحصل من جميع ما ذكرناه في نهاية المطاف: أن الالتزام باستحقاق
العقاب من معاقب خارجي وحسنه لا يمكن إلا على ضوء نظريتي الإمامية
والمعتزلة. وأما على ضوء نظريتي الأشاعرة والفلاسفة فلا يمكن حل هذه
المشكلة إلا بوجه غير ملائم لأساس الأديان والشرائع.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بعدة نتائج:
الأولى: أن إرادته تعالى عبارة عن المشيئة وإعمال القدرة والسلطنة، وهي
فعله سبحانه وتعالى. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الشوق المؤكد لا يعقل أن يكون إرادة له تعالى.
ومن ناحية ثالثة: أن إرادته سبحانه ليست من الصفات العليا الذاتية.
ومن ناحية رابعة: أن الكتاب والسنة ينصان على أن إرادته تعالى فعله.
ومن ناحية خامسة: أنه لا وجه لحمل الكتاب والسنة على بيان الإرادة
الفعلية دون الذاتية كما عن الفلاسفة وجماعة من الأصوليين، وذلك:
أولا: لعدم الدليل على كون إرادته تعالى ذاتية، بل قد تقدم عدم تعقل معنى
صحيح لذلك.
وثانيا: أن في نفس الروايات ما يدل على نفي الإرادة الذاتية.
الثانية: أن تفسير الإرادة بالعلم بالنظام الكامل التام من ناحية - كما عن
المحقق صاحب الكفاية (1) (قدس سره) - وبالرضا والابتهاج من ناحية أخرى - كما عن
شيخنا المحقق (2) (قدس سره) - تفسير خاطئ لا واقع موضوعي له.

(1) كفاية الأصول: ص 88.
(2) نهاية الدراية: ج 1 ص 164.
114

الثالثة: أن تقسيم المشيئة إلى مشيئة ذاتية - وهي عين ذاته تعالى - والى
مشيئة فعلية - وهي الوجود الإطلاقي المنبسط كما عن الفلاسفة وشيخنا
المحقق (1) (قدس سره) - قد تقدم (2) نقده بشكل موسع، وقلنا هناك: إن هذا التقسيم يقوم
على أساس أن تكون نسبة الأشياء إلى ذاته الأزلية نسبة المعلول إلى العلة التامة
من كافة الجهات والنواحي، لا نسبة الفعل إلى الفاعل المختار. وقد سبق نقد هذا
الأساس بصورة موضوعية، وأقمنا البرهان على أنه لا واقع له في أفعاله تعالى.
الرابعة: أن الأشاعرة قد استدلوا على الجبر بعدة وجوه. وقد تقدم المناقشة
في تمام تلك الوجوه، وبينا عدم دلالة شئ منها على ذلك (3).
الخامسة: أن ما نسب إلى أبي الحسن الأشعري: من أن عادة الله تعالى قد جرت
على أن يوجد في العبد فعله مقارنا لإيجاد القدرة والاختيار فيه فيكون فعل العبد
مخلوقا له تعالى إبداعا وإحداثا قد تقدم نقده بشكل موسع، وقلنا هناك: إنه لا
يرجع إلى معنى صحيح، لا في المعاليل الطبيعية، ولا في الأفعال الاختيارية (4).
السادسة: المعروف بين الفلاسفة قديما وحديثا أن الأفعال الاختيارية بشتى
أنواعها مسبوقة بالإرادة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: أنها إذا بلغت حدها
التام تكون علة تامة لها. وتبعهم على ذلك جماعة من الأصوليين. وقد تقدم
المناقشة في ذلك بصورة مفصلة، وأقمنا البرهان مضافا إلى الوجدان: أن الإرادة
لا تعقل أن تكون علة تامة للفعل. هذا من جانب. ومن جانب آخر: قد أثبتنا أن
الأفعال الاختيارية بكافة أنواعها مسبوقة بإعمال القدرة والسلطنة (5).
السابعة: أن قاعدة " أن الشئ ما لم يجب لم يوجد " تختص بالمعاليل
الطبيعية فلا تعم الأفعال الاختيارية، وذلك لما بيناه هناك: من أن تلك القاعدة
تقوم على أساس مسألة التناسب (6) التي هي الحجر الأساسي لمبدأ تأثير العلة

(1) المصدر السابق: ص 170.
(2) راجع ص 37 - 41.
(3) راجع مناقشة مسألة الجبر في ص 42.
(4) راجع ص 48 - 50.
(5) راجع تفصيلها في ص 50 - 54.
(6) تقدم توضيح القاعدة في ص 55 فراجع.
115

الطبيعية في معلولها، ولا مجال لها في إطار سلسلة الأفعال الاختيارية، وقد ذكرنا
الفرق الأساسي بين زاوية الأفعال الاختيارية وزاوية المعاليل الطبيعية في ضمن
البحوث السالفة.
الثامنة: أن الأفعال الاختيارية تصدر عن الإنسان بالاختيار وإعمال القدرة،
وأما الاختيار فهو غير مسبوق باختيار آخر، بل يصدر عن النفس بالذات، أي: بلا
واسطة.
التاسعة: أن شيخنا المحقق (قدس سره) قد ناقش في الاختيار بعدة مناقشات، وقد
تعرضنا لتلك المناقشات واحدة بعد أخرى مع نقدها بصورة موسعة (1).
العاشرة: أن أفعال العباد لا يمكن أن تقع تحت إرادة الله تعالى ومشيئته
مباشرة، لوجهين قد تقدما منا، وإنما الواقع تحت إرادته سبحانه مبادئ تلك
الأفعال (2).
الحادية عشرة: أن علمه تعالى بوقوع أفعال العباد في الخارج لا يوجب
الجبر والاضطرار، بداهة أن حقيقة العلم انكشاف الأشياء على ما هي عليه ولا
يكون من مبادئ وقوعها. ومن هنا ذكرنا: أن ما أفاده صدر المتألهين: من أن علمه
سبحانه سبب لوجوب وقوعها في الخارج وإلا لكان علمه جهلا وهو محال
خاطئ جدا، ولا واقع موضوعي له أصلا (3).
الثانية عشرة: أن ما ذهب إليه الفلاسفة: من أن الذات الأزلية علة تامة للأشياء
وأنها بكافة أنواعها تصدر عنها على ضوء مبدأ التناسب خاطئ جدا ولا واقع له.
ومن هنا قد ناقشنا فيه بعدة مناقشات (4).
الثالثة عشرة: أن المعتزلة قد استدلوا على إثبات نظريتهم (التفويض)
باستغناء البقاء، أي: بقاء الممكن عن الحاجة إلى المؤثر، بدعوى: أن سر حاجة
الممكن وفقره إلى العلة إنما هو حدوثه، وبعده فلا يحتاج إليها. وقد تقدم نقد هذه

(1) قد تقدم في ص 60 - 69 فراجع.
(2) راجع ص 70.
(3) تقدم في ص 71 فراجع.
(4) راجع المناقشة في ص 72 - 73.
116

النقطة بشكل موسع في الأفعال الاختيارية والمعاليل الطبيعية معا، وقد أثبتنا أن
سر حاجة الممكن وفقره الذاتي إلى العلة إنما هو إمكانه، لا حدوثه (1).
الرابعة عشرة: أن الصحيح المطابق للوجدان والواقع الموضوعي: هو نظرية
الأمر بين الأمرين في أفعال العباد، التي قد اختارت الطائفة الإمامية تلك النظرية
بعد رفضها نظريتي الأشاعرة والمعتزلة فيها. وقد دلت على صحة تلك النظرية
الروايات الكثيرة التي تبلغ حد التواتر من ناحية، وعلى بطلان نظريتي الأشاعرة
والمعتزلة من ناحية أخرى، هذا مضافا إلى البراهين العقلية التي تقدمت (2).
الخامسة عشرة: أن لأفعال العباد نسبتين حقيقيتين: إحداهما إلى فاعلها
بالمباشرة. وثانيتهما إلى الله تعالى، باعتبار أنه سبحانه معطي مقدماتها ومبادئها
آنا بعد آن بحيث لو انقطع الإعطاء في آن انتفت المقدمات.
السادسة عشرة: يمتاز ارتباط المعلول بالعلة الطبيعية عن ارتباط الفعل
بالفاعل المختار في نقطة، ويشترك معه في نقطة أخرى.
أما نقطة الامتياز: فهي أن المعلول في العلل الطبيعية يرتبط بذات العلة،
والمعلول في الفواعل الإرادية يرتبط بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته.
وأما نقطة الاشتراك: فهي أن المعلول كما لا واقع موضوعي له ما وراء
ارتباطه بذات العلة ويستحيل تخلفه عنها كذلك الفعل لا واقع له ما وراء ارتباطه
بمشيئة الفاعل واختياره، ويستحيل تخلفه عنها.
السابعة عشرة: أن الآيات الكريمة كقوله تعالى: * (وما تشاؤون إلا أن يشاء
الله) * (3) وما شاكله تدلنا على نظرية الأمر بين الأمرين، وتصدق تلك النظرية، ولا
تدل على نظرية الجبر، ولا على التفويض.
الثامنة عشرة: أن ما أورده الفخر الرازي من الشبهة على خلقه تعالى العالم
بالترتيب الموجود والشكل الحالي وعدم خلقه بترتيب آخر وشكل ثان قد تقدم

(1) راجع ص 76 - 77.
(2) راجع ص 70 و 97.
(3) الإنسان: 30.
117

نقده بشكل موسع على ضوء كلتا النظريتين، يعني: نظرية الفلاسفة ونظرية
الاختيار (1).
التاسعة عشرة: لا إشكال في صحة استحقاق العبيد للعقاب على مخالفة
المولى واستقلال العقل بذلك على ضوء كل من نظريتي: الإمامية والمعتزلة، وإنما
الإشكال في صحة استحقاقهم له على ضوء نظرية الأشاعرة.
وقد تقدم الإشكال في ذلك على ضوء استقلال العقل بقبح العقاب على الأمر
الخارج عن الاختيار (2).
العشرون: قد أجيب عن ذلك الإشكال بعدة أجوبة، وقد ناقشنا (3) في جميع
تلك الأجوبة، وقلنا: إن شيئا منها لا يعالج المشكلة، فلا يمكن حل هذه المشكلة
بصورة صحيحة وبشكل واقعي موضوعي إلا على ضوء نظرية الإمامية.
صيغة الأمر
وأما المقام الثاني (4): هيئة " إفعل " وما شاكلها من الهيئات فالكلام فيه يقع
من جهات:
الأولى: قد ذكر لصيغة الأمر عدة معان: الطلب، التهديد، الإنذار، الاحتقار،
الإهانة، الترجي، وغير ذلك.
ولكن ذكر صاحب الكفاية (قدس سره): أن هذه المعاني ليست من معاني الصيغة،
وأنها لم تستعمل فيها، وإنما استعملت في إنشاء الطلب فحسب، وقد أفاد في وجه
ذلك ما إليك نصه:
(ضرورة أن الصيغة ما استعملت في واحد منها، بل لم تستعمل إلا في إنشاء
الطلب، إلا أن الداعي إلى ذلك كما يكون تارة هو البعث والتحريك نحو المطلوب
الواقعي يكون أخرى أحد هذه الأمور. وقصارى ما يمكن أن يدعى: أن تكون

(1) راجع ص 94 - 96.
(2) راجع ص 98 - 114.
(3) انظر المناقشة في ص 98 - 114.
(4) تقدم المقام الأول في أول بحث الأوامر.
118

الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك، لا بداع آخر
منها، فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة، وإنشاؤه بها تهديدا مجازا، وهذا غير
كونها مستعملة في التهديد وغيره.
ثم ذكر بقوله: ولا يخفى أن ما ذكرناه في صيغة الأمر جار في سائر الصيغ
الإنشائية، فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام بصيغها
تارة هو ثبوت هذه الصفات حقيقة يكون الداعي غيرها أخرى، فلا وجه للالتزام
بانسلاخ صيغها عنها واستعمالها في غيرها إذا وقعت في كلامه تعالى، لاستحالة
مثل هذه المعاني في حقه تبارك وتعالى مما لازمه العجز أو الجهل، وأنه لا وجه
له، فإن المستحيل إنما هو الحقيقي منها، لا الإنشائي الإيقاعي الذي يكون بمجرد
قصد حصوله بالصيغة كما عرفت، ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها
الايقاعية الإنشائية أيضا، لا لإظهار ثبوتها حقيقة، بل لأمر آخر حسب ما يقتضيه
الحال من إظهار المحبة أو الإنكار أو التقرير إلى غير ذلك. ومنه ظهر أن ما ذكر من
المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضا) (1).
ملخص ما أفاده (قدس سره): هو أن صيغة الأمر موضوعة لمعنى واحد وهو الطلب
الإنشائي، وتستعمل فيه دائما. نعم، يختلف الداعي إلى إنشائه، فقد يكون هو
الطلب الحقيقي، وقد يكون التهديد، وقد يكون الاحتقار، وقد يكون أمرا آخر،
فبالأخرة يكون المورد من اشتباه الداعي بالمعنى. ثم قال: إن الأمر في سائر
الصيغ الإنشائية أيضا كذلك.
ولنأخذ بالمناقشة عليه، وهي: أن ما أفاده (قدس سره) يرتكز على نظرية المشهور في
مسألة الإنشاء، وهي إيجاد المعنى باللفظ في مقابل الإخبار، إذ على ضوء هذه
النظرية يمكن دعوى: أن صيغة الأمر موضوعة للدلالة على إيجاد الطلب
وتستعمل فيه دائما ولكن الداعي إلى إيجاده يختلف باختلاف الموارد
وخصوصيات المقامات.

(1) كفاية الأصول: ص 91.
119

ولكن قد ذكرنا في مبحث الإنشاء: أن هذه النظرية ساقطة فلا واقع
موضوعي لها، وقلنا: إن اللفظ لا يعقل أن يكون موجدا للمعنى، لا حقيقة ولا
اعتبارا (1).
ومن ذلك فسرنا حقيقة الإنشاء هناك بتفسير آخر، وحاصله: هو أن الإنشاء
عبارة عن اعتبار الأمر النفساني وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما
شاكل ذلك.
وعلى ضوء هذا التفسير لا مانع من الالتزام بتعدد المعنى لصيغة الأمر.
بيان ذلك: أن الصيغة على هذا موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري
النفساني في الخارج، ومن الطبيعي أن ذلك يختلف باختلاف الموارد ويتعدد
بتعدد المعاني، ففي كل مورد تستعمل الصيغة في معنى يختلف عن استعمالها في
معنى آخر في المورد الثاني ويغايره...، وهكذا.
فإن المتكلم تارة يقصد بها إبراز ما في نفسه من اعتبار المادة على ذمة
المخاطب.
واخرى إبراز ما في نفسه من التهديد.
وثالثة إبراز ما في نفسه من السخرية أو التعجيز أو ما شاكل ذلك. فالصيغة
على الأول مصداق للطلب والبعث الاعتباريين. وعلى الثاني مصداق للتهديد
كذلك. وعلى الثالث مصداق للسخرية، وهكذا. ومن الواضح أنها في كل مورد
من تلك الموارد تبرز معنى يباين لما تبرز في المورد الثاني ويغايره.
ثم بعد أن كانت الصيغة تستعمل في معان متعددة - كما عرفت - فهل هي
موضوعة بإزائها على نحو الاشتراك اللفظي، أو موضوعة لواحد منها ويكون
استعمالها في غيره مجازا؟ وجهان، الظاهر هو الثاني، وذلك لأن المتبادر من
الصيغة عند إطلاقها هو إبراز اعتبار الفعل على ذمة المكلف في الخارج. وأما إرادة
إبراز التهديد منها أو السخرية أو الاستهزاء أو نحو ذلك فتحتاج إلى نصب قرينة،

(1) قد تقدم في الجزء الأول من هذا الكتاب: ص 99 ط جديد فراجع.
120

وبدونها لا دلالة لها على ذلك. ومن الطبيعي أن ذلك علامة كونها موضوعة بإزاء
المعنى الأول، دون غيره من المعاني.
الجهة الثانية: لا ينبغي الشك في أن الأوامر الصادرة من الموالي منها أوامر
الكتاب والسنة على نحوين:
أحدهما: ما يراد منها اللزوم والحتم على نحو يمنع العبد عن مخالفتها.
وثانيهما: ما يراد منها البعث المقرون بالترخيص على نحو يجوز مخالفتها
وعدم مانع عنها، ويسمى الأول بالوجوب، والثاني بالندب.
وعلى هذا، فإن قامت قرينة حالية أو كلامية على تعيين أحدهما لزم اتباعها،
وإن لم تقم قرينة على ذلك فهل الصيغة بنفسها ظاهرة في المعنى الأول بحيث
تحتاج إرادة المعنى الثاني منها إلى قرينة تدل عليها، أو ظاهرة في المعنى الثاني
وتحتاج إرادة المعنى الأول إلى قرينة، أو في الجامع بينهما وتحتاج إرادة كل
منهما إلى قرينة، أو فيهما على نحو الاشتراك اللفظي؟ وجوه وأقوال:
قد اختار المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) القول الأول بدعوى: أن صيغة الأمر
حقيقة في الوجوب ومجاز في غيره. واستدل على ذلك بأن المتبادر منها عرفا
عند إطلاقها وتجردها عن القرينة المقالية والحالية هو الوجوب، ومن الطبيعي أن
التبادر المستند إلى نفس اللفظ علامة الحقيقة، فلو كانت حقيقة في الندب أو
مشتركة لفظية أو معنوية لم يتبادر الوجوب منها.
ثم أيد ذلك بقيام السيرة العقلائية على ذم الموالي عبيدهم عند مخالفتهم
لامتثال أوامرهم، وعدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب، مع
الاعتراف بعدم دلالتها عليه بحال أو مقال.
ثم أورد على نفسه بكثرة استعمال الصيغة في الندب، وهي مانعة عن ظهورها
في الوجوب وتبادره منها، لوضوح أنها لو لم تكن موجبة لظهورها فيه فلا شبهة
في أنها مانعة عن انفهام الوجوب منها، فإذا لا يمكن حملها عليه عند إطلاقها
مجردة عن القرينة.
121

وأجاب عن ذلك أولا: بأن استعمالها في الندب لا يزيد على استعمالها في
الوجوب لتكون كثرة الاستعمال فيه مانعة عن ظهورها في الوجوب.
وثانيا: أن كثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازي مع القرينة لا تمنع عن
حمله على المعنى الحقيقي عند إطلاقه مجردا عنها، وما نحن فيه كذلك، فإن كثرة
استعمال الصيغة في الندب مع القرينة لا تمنع عن حملها على الوجوب إذا كانت
خالية عنها.
ثم استشهد على ذلك بكثرة استعمال العام في الخاص، حتى قيل: " ما من
عام إلا وقد خص "، ومع هذه الكثرة لا ينثلم ظهور العام في العموم إذا ورد في
الكتاب والسنة ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخاص (1).
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره):
أما ما ذكره: من أن المتبادر من الصيغة عرفا الوجوب فيمكن نقده: بأنه إنما
يكون علامة للحقيقة إذا كان مستندا إلى حاق اللفظ ونفسه، ضرورة أن مجرد
انفهام المعنى من اللفظ لا يكون علامة لكونه حقيقة فيه.
وفيما نحن فيه المتبادر لدى العرف من الصيغة وإن كان هو الوجوب إلا أنا
لا نعلم استناده إلى حاق اللفظ، لاحتمال أن يكون ذلك من جهة الإطلاق
ومقدمات الحكمة كما اختاره بعض الأعاظم (2).
ويحتمل أن يكون ذلك من جهة حكم العقل كما اخترناه (3). ومن الطبيعي أن
التبادر مع هذا الاحتمال لا يكون دليلا على الحقيقة.
ومن هنا يظهر الكلام فيما ذكره من التأييد بقيام السيرة العقلائية على الذم
عند المخالفة، فإنه وإن كان مسلما إلا أنه لا يدل على كون الوجوب مدلولا
وضعيا للصيغة ومتبادرا منها عرفا، بل لعله لحكم العقل بذلك، أو للإطلاق
ومقدمات الحكمة.

(1) انظر كفاية الأصول: ص 92.
(2) انظر نهاية الأفكار: ج 1 ص 162.
(3) تقدم في ص 11، وسيأتي تفصيله في ص 128 - 129.
122

وعلى الجملة: فقيام السيرة إنما يدل على كون الوجوب مستفادا منها، وأما
كون ذلك بالوضع، أو بالإطلاق، أو من ناحية حكم العقل فلا يدل على شئ منها.
وأما ما ذكره (قدس سره): من أن استعمال الصيغة في الندب أكثر من استعمالها في
الوجوب فهو غير بعيد.
وأما ما أفاده (قدس سره): من أن كثرة الاستعمال في المعنى المجازي إذا كانت مع
القرينة لا تمنع عن الحمل على الحقيقة إذا تجرد الكلام عنها وإن كان متينا جدا
بحسب الكبرى إلا أن استشهاده (قدس سره) على تلك الكبرى بالعام والخاص في غير
محله، وذلك لأن كثرة الاستعمال في المقام إذا افترضنا أنها مانعة عن الحمل على
الحقيقة، إلا أنها لا تمنع في العام والخاص، وذلك لأن لصيغ العموم أوضاعا
متعددة حسب تعدد تلك الصيغ، وعليه فلابد من ملاحظة كثرة الاستعمال في كل
صيغة على حدة وبنفسها. ومن الطبيعي أن كثرة الاستعمال في الخاص في إحدى
هذه الصيغ لا تمنع عن حمل الصيغة الأخرى على العموم، مثلا: كثرة استعمال لفظة
" الكل " في الخاص لا تمنع عن ظهور الجمع المحلى باللام في العموم...، وهكذا.
وبكلمة أخرى: أن كثرة استعمال العام في الخاص تمتاز عن كثرة استعمال
صيغة الأمر في الندب بنقطة، وهي: أن القضية الأولى تنحل بانحلال صيغ العموم
وأدواته، فيكون لكل صيغة منها وضع مستقل غير مربوط بوضع صيغة أخرى منها،
ولذلك لابد من ملاحظة الكثرة في كل واحدة منها بنفسها مع قطع النظر عن
الأخرى، وهي تمنع عن الحمل على الحقيقة فيها دون غيرها.
وهذا بخلاف صيغة الأمر، حيث إن لها وضعا واحدا، فبطبيعة الحال كثرة
استعمالها في الندب تمنع عن حملها على الوجوب بناء على الفرضية المتقدمة.
هذا، مضافا إلى أن ذلك ينافي ما التزمه (قدس سره) في مبحث العموم والخصوص (1):
من أن التخصيص لا يوجب التجوز في العام واستعماله في الخاص، بل هو دائما

(1) انظر كفاية الأصول: ص 255.
123

استعمل في معناه العام، سواء أورد عليه التخصيص أم لا، على تفصيل يأتي في
محله إن شاء الله تعالى (1).
وذهب إلى القول الثاني بعض الأعاظم (2) (قدس سرهم)، وأفاد: أن الصيغة وإن لم تدل
على الوجوب بالوضع ولكنها تدل عليه بالإطلاق ومقدمات الحكمة.
بيان ذلك: أن الإرادة المتعلقة بفعل الغير تختلف شدة وضعفا حسب اختلاف
المصالح والأغراض الداعية إلى ذلك. فمرة تكون الإرادة شديدة وأكيدة بحيث لا
يريد المولى تخلف إرادته عن المراد، ولا يريد تخلف العبد عن الإطاعة
والامتثال. واخرى تكون ضعيفة على نحو لا يمنع المولى العبد من التخلف، ولا
يكون العبد ملزما بالفعل، بل له أن يشاء الفعل، وله أن يشاء الترك.
فعلى الأول يطلب المولى الفعل على سبيل الحتم والإلزام، ويعبر عنه
بالوجوب، فيكون الوجوب في واقعه الموضوعي طابعا مثاليا للإرادة الشديدة
الأكيدة ومرآة لها، فهي روح الوجوب وواقعه الموضوعي.
وعلى الثاني يطلب ذلك طلبا ضعيفا على سبيل الندب وعدم الحتم، ويعبر
عنه بالاستحباب، فيكون الاستحباب مثالا موضوعيا لتلك المرتبة من الإرادة،
وهي روحه وواقعه الموضوعي. وهذا الاختلاف في الإرادة أمر وجداني، حيث
إننا نرى بالوجدان أن إرادة العطشان - مثلا - بإتيان الماء البارد أشد وآكد من
إرادته بإتيان الفاكهة - مثلا - بعد الغذاء. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن شدة الإرادة ليست بأمر زائد على الإرادة، بل هي عين
تلك المرتبة في الخارج ونفسها، فما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز، نظير
السواد والبياض الشديدين، حيث إن ما به الاشتراك فيهما عين ما به الامتياز.
ومن ناحية ثالثة: أن صفة الضعف في الإرادة حد عدمي، وعليه فبطبيعة الحال

(1) سيأتي في الجزء الخامس من هذا الكتاب في بداية المبحث الأول من بحث العام
والخاص فانتظر.
(2) منهم: المحقق العراقي في نهاية الأفكار: ج 1 ص 162.
124

تكون تلك الصفة أمرا زائدا عليها، وتحتاج في بيانها إلى مؤنة زائدة في مقام
الإثبات.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي أن المولى إذا أمر بشئ وكان في مقام
البيان ولم ينصب قرينة على إرادة الجامع بين الإرادة الشديدة والضعيفة فقضية
الإطلاق وعدم نصب قرينة على إرادة المرتبة الضعيفة هي حمل الأمر على بيان المرتبة
الشديدة، حيث قد عرفت أن بيانها لا يحتاج إلى مؤنة زائدة دون بيان المرتبة
الضعيفة، وبذلك نثبت إرادة الوجوب الذي هو طابع مثالي لتلك المرتبة من الإرادة.
وقد تحصل من ذلك أمران:
الأول: أن الوجوب ليس بمدلول وضعي للصيغة، وإنما هو مستفاد من
الإطلاق ومقدمات الحكمة.
الثاني: أن مدلولها الوضعي إنما هو الطلب الجامع فلا تدل بالدلالة الوضعية إلا
عليه.
ولنأخذ بالمناقشة عليه من وجوه:
الأول: أن ما أفاده (قدس سره) من اختلاف الإرادة باختلاف الأوامر وجوبا وندبا لا
يتم في الأوامر الشرعية، وإنما يتم في الأوامر العرفية. فلنا دعويان:
الأولى: عدم تمامية ما أفاده (قدس سره) في الأوامر الشرعية.
الثانية: تماميته في الأوامر العرفية.
أما الدعوى الأولى: فلأن الإرادة التكوينية التي هي عبارة عن الشوق
النفساني المحرك للإنسان نحو المراد إنما يعقل تعلقها بفعل الغير إذا كانت فيه
مصلحة عائدة إلى ذات المريد أو إلى إحدى قواه، ولا يعقل تعلقها بما لا تعود
مصلحته إليه، بداهة أن الشوق النفساني إلى شئ بنفسه لا يعقل إلا عن فائدة
عائدة إلى الفاعل، وذلك غير متحقق في الأحكام الشرعية، فإن مصالح متعلقاتها
تعود إلى المكلفين دون الشارع، نظير أوامر الطبيب حيث إن مصالح متعلقاتها
تعود إلى المرضى دونه.
125

ومن الطبيعي أن اختلاف أوامره إلزاما وندبا لا ينشأ عن اختلاف إرادته شدة
وضعفا، لما عرفت من عدم تعلقها بما يعود نفعه إلى غيره دونه، إلا أن يكون ملائما
لإحدى قواه، فعندئذ يكون منشأ لحدوث الشوق في نفسه، ولكنه خلاف الفرض.
وأضف إلى ذلك: أن الإرادة بمعنى " الشوق النفساني " لا تعقل في ذاته
سبحانه وتعالى، والإرادة بمعنى " المشيئة " لا تعقل أن تتعلق بفعل الغير وإن
افترض أن نفعه يعود إليه.
وبكلمة أخرى: أن ملاك شدة الإرادة وضعفها تزايد المصلحة في الفعل وعدم
تزايدها، وحيث إن تلك المصلحة بشتى مراتبها من القوية والضعيفة تعود إلى
العباد دون المولى، لاستغنائه عنها تمام الاستغناء، فلا يعقل أن تكون منشأ
لحدوث الإرادة في نفس المولى فضلا عن أن يكون اختلافها منشأ لاختلافها
شدة وضعفا.
على أن اختلاف تلك المصلحة العائدة إلى العباد لا يعقل أن يكون سببا
لاختلاف إرادة المولى كذلك، نظير إرادة الطبيب، حيث إنها لا تعقل أن تختلف
شدة وضعفا باختلاف المصلحة التي تعود إلى المريض، فتأمل.
وعلى هذا الضوء فلا يكون إطلاق الصيغة بمعونة مقدمات الحكمة قرينة على
إرادة الوجوب.
وأما الدعوى الثانية: فحيث إن مصالح متعلقات الأوامر العرفية تعود إلى
المولى دون العبيد فبطبيعة الحال تكون سببا لحدوث الإرادة في نفسه. وبما أن
تلك المصالح تختلف شدة وضعفا فلا محالة تكون منشأ لاختلاف إرادته كذلك.
فالنتيجة: أن ما أفاده هذا القائل لو تم فإنما يتم في الأوامر العرفية دون
الأوامر الشرعية.
الثاني: لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن مرد اختلاف الوجوب والندب إلى
اختلاف الإرادة شدة وضعفا إلا أن دعوى: كون الإرادة الشديدة لا تزيد على
الإرادة بشئ فهي إرادة صرفة، دون الإرادة الضعيفة، فإنها لمكان ضعفها زائدة
126

على الإرادة وهي صفة ضعفها، فإنها حد عدمي خاطئة جدا، وذلك لأن الإرادة
بشتى ألوانها وأشكالها محدودة بحد، من دون فرق في ذلك بين الإرادة الشديدة
والضعيفة، كيف، فإنهما مرتبتان متضادتان من الإرادة؟ وعليه، فبطبيعة الحال
يكون لكل منهما حد خاص.
وإن شئت فقل: إن الإرادة التي هي واقع الوجوب وروحه من الأمور
الممكنة، ومن البديهي أن كل ممكن محدود بحد خاص، غاية الأمر يزيد الوجوب
على الندب بشدة الإرادة.
وعلى هذا الضوء فكما لا يمكن التمسك بإطلاق الصيغة لإثبات الندب
فكذلك لا يمكن التمسك بإطلاقها لإثبات الوجوب، بل لابد من التوقف، لفرض
احتياج كل منهما إلى بيان زائد.
الثالث: لو تنزلنا عن ذلك أيضا وسلمنا أن الإرادة الشديدة غير محدودة بحد
بخلاف الإرادة الضعيفة إلا أنه مع ذلك لا يمكن التمسك بإطلاق الصيغة والحمل
على الوجوب. والسبب في ذلك: أن بساطة الإرادة الشديدة وتركب الإرادة
الضعيفة إنما هما بالنظر الدقي العقلي، وليستا من المتفاهم العرفي. ومن الطبيعي أن
الإطلاق إنما يعين ما هو المتفاهم عرفا دون غيره، وحيث إن بساطة تلك المرتبة
وعدم وجود حد لها، وتركب هذه المرتبة ووجود حد لها أمران خارجان عن
الفهم العرفي، فلا يمكن حمل الإطلاق على بيان المرتبة الأولى دون الثانية.
ونظير ذلك: ما إذا أطلق المتكلم كلمة " الوجود " ولم يبين ما يدل على إرادة
سائر الموجودات أفهل يمكن حمل إطلاق كلامه على إرادة واجب الوجود نظرا
إلى عدم تحديده بحد وتحديد غيره من الموجودات به؟ كلا!! والسر فيه: ما
عرفت (1) من أن المعنى المذكور خارج عن المتفاهم العرفي.
والتحقيق في المقام أن يقال: إن تفسير صيغة الأمر مرة بالطلب، ومرة أخرى
بالبعث والتحريك، ومرة ثالثة بالإرادة لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنى محصل،

(1) قد تقدم آنفا فلاحظ.
127

ضرورة أن هذه مجرد ألفاظ لا تتعدى عن مرحلة التعبير واللفظ، وليس لها واقع
موضوعي أصلا. والسبب في ذلك: ما حققناه في بحث الإنشاء من أنه: عبارة عن
اعتبار الأمر النفساني، وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكله (1).
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنا قد ذكرنا في بحث الوضع: أن حقيقته عبارة عن تعهد
الواضع والتزامه النفساني بأنه متى ما أراد معنى خاصا يبرزه بلفظ مخصوص (2).
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي ضرورة وضع صيغة الأمر أو ما
شاكلها للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج، لا للطلب
والتصدي، ولا للبعث والتحريك، ولا للإرادة.
نعم، إن صيغة الأمر مصداق للبعث والتحريك، لا أنهما معناها، كما أنها
مصداق للطلب والتصدي. وأما الإرادة فلا يعقل أن تكون معناها، وذلك لاستحالة
تعلق الإرادة بمعنى الاختيار وإعمال القدرة بفعل الغير، وكذا الإرادة بمعنى الشوق
النفساني المحرك للإنسان نحو المراد فيما لا تعود مصلحته إليه. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنا قد ذكرنا في محله: أنه لا معنى للإرادة التشريعية في
مقابل الإرادة التكوينية، ولا نعقل لها معنى محصلا ما عدا الأمر الصادر عن
المولى (3).
فالنتيجة على ضوئهما: هي أنه لا معنى لتفسير الأمر بالإرادة. ومن جميع
ذلك يظهر: أن تفسير النهي بالكراهة أيضا خاطئ.
وبكلمة أخرى: أننا إذا حللنا الأمر المتعلق بشئ تحليلا موضوعيا فلا نعقل
فيه ما عدا شيئين:
الأول: اعتبار الشارع ذلك الشئ في ذمة المكلف من جهة اشتماله على
مصلحة ملزمة أو غيرها.

(1) راجع ج 1، بحث الإنشاء والإخبار، الكلام في المقام الثاني ص 99.
(2) تقدم في ج 1 ص 52 فراجع.
(3) سيأتي في ص 183، فانتظر.
128

الثاني: إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز كصيغة الأمر أو ما
شاكلها، فالصيغة أو ما شاكلها وضعت للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري
النفساني، لا للبعث والتحريك، ولا للطلب.
نعم، قد عرفت أن الصيغة مصداق للبعث والطلب ونحو تصد إلى الفعل (1)،
حيث إن البعث والطلب قد يكونان خارجيين وقد يكونان اعتباريين، فصيغة
الأمر أو ما شابهها مصداق للبعث والطلب الاعتباري، لا الخارجي، ضرورة أنها
تصد في اعتبار الشارع إلى إيجاد المادة في الخارج وبعث نحوه، لا تكوينا
وخارجا، كما هو ظاهر.
ونتيجة ما ذكرناه أمران:
الأول: أن صيغة الأمر أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر
الاعتباري النفساني، وهو اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف، ولا تدل على
أمر آخر ما عدا ذلك.
الثاني: أنها مصداق للطلب والبعث، لا أنهما معناها.
ومن ذلك يظهر: أن الصيغة كما لا تدل على الطلب والبعث كذلك لا تدل على
الحتم والوجوب.
نعم، يحكم العقل بالوجوب بمقتضى قانون العبودية والمولوية فيما إذا لم
ينصب قرينة على الترخيص.
أو فقل: إن الصيغة - كما عرفت - موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري
في الخارج، ولا تدل على ما عدا ذلك، إلا أن العقل يحكم بأن وظيفة العبودية
والمولوية تقتضي لزوم المبادرة والقيام على العبد نحو امتثال ما أمره به المولى
واعتبره على ذمته، وعدم الأمن من العقوبة لدى المخالفة إلا إذا أقام المولى قرينة
على الترخيص وجواز الترك، وعندئذ لا مانع من تركه، حيث إنه مع وجود هذه

(1) تقدم آنفا فلاحظ.
129

القرينة مأمون من العقاب، وينتزع العقل من ذلك الندب، كما ينتزع في الصورة
الأولى الوجوب.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي: أن الحاكم بالوجوب إنما
هو العقل دون الصيغة، لا وضعا ولا إطلاقا. هذا من ناحية:
ومن ناحية أخرى: أنه لا فرق بينه وبين الندب في مقام الإثبات إلا في
الترخيص في الترك وعدمه. نعم، فرق بينهما في مقام الثبوت والواقع على أساس
نظرية تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.
ومن ناحية ثالثة: أنه لا بأس بتفسير الأمر بالوجوب بمعنى الثبوت باعتبار
دلالته على ثبوت الفعل على ذمة المكلف، بل هو معناه لغة وعرفا، غاية الأمر
الثبوت مرة تكويني خارجي، ومرة أخرى ثبوت تشريعي، فصيغة الأمر أو ما
شاكلها موضوعة للدلالة على الثبوت التشريعي وإبرازه.
الجهة الثالثة: وهي الجمل الفعلية التي استعملت في مقام الإنشاء دون
الإخبار، ككلمة " أعاد " و " يعيد " أو ما شاكلها فهل لها دلالة على الوجوب أم لا؟
وليعلم: أن استعمال الجمل المضارعية في مقام الإنشاء كثير في الروايات،
وأما استعمال الجمل الماضوية في مقام الإنشاء فلم نجد إلا فيما إذا وقعت جزاء
لشرط، كقوله (عليه السلام): " من تكلم في صلاته أعاد " (1) ونحوه.
وكيف كان، فإذا استعملت الجمل الفعلية في مقام الإنشاء فهل تدل على
الوجوب أم لا؟ وجهان:
ذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) إلى الأول، وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك
لفظه: (الظاهر الأول (الوجوب)، بل يكون أظهر من الصيغة، ولكنه لا يخفى أنه
ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام - أي: الطلب - مستعملة في غير
معناها، بل تكون مستعملة فيه، إلا أنه ليس بداعي الإعلام، بل بداعي البعث بنحو

(1) وسائل الشيعة: ج 7 ص 281 ب 25 من أبواب قواطع الصلاة ح 2، وفيه: " ومن تكلم في
صلاته متعمدا فعليه إعادة الصلاة... ".
130

آكد، حيث إنه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه إظهارا بأنه لا يرضى إلا
بوقوعه، فيكون آكد في البعث من الصيغة، كما هو الحال في الصيغ الإنشائية، على
ما عرفت من أنها أبدا تستعمل في معانيها الايقاعية، لكن بدواع اخر كما مر.
لا يقال: كيف؟ ويلزم الكذب كثيرا، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في
الخارج تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علوا كبيرا.
فإنه يقال: إنما يلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الإخبار والإعلام، لا لداعي
البعث، كيف؟ وإلا يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل " زيد كثير الرماد " أو
" مهزول الفصيل " لا يكون كذبا إذا قيل كناية عن جوده ولو لم يكن له رماد
وفصيل أصلا، وإنما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد، فيكون الطلب بالخبر في مقام
التأكيد أبلغ، فإنه مقال بمقتضى الحال. هذا، مع أنه إذا أتى بها في مقام البيان
فمقدمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب، فإن تلك النكتة إن لم تكن
موجبة لظهورها فيه فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو
بصدده، فإن شدة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب موجبة لتعين إرادته إذا كان
بصدد البيان مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره، فافهم) (1).
نلخص ما أفاده (قدس سره) في عدة نقاط:
الأولى: أن دلالة الجمل الفعلية التي تستعمل في مقام الإنشاء على الوجوب
أقوى وآكد من دلالة الصيغة عليه، نظرا إلى أنها تدل على وقوع المطلوب في
الخارج في مقام الطلب، ومن الطبيعي أن مرد ذلك إلى إظهار الأمر بأنه لا يرضى
بتركه وعدم وقوعه أبدا. وبطبيعة الحال أن هذه النكتة تناسب مع إطار الوجوب
والحتم وهي تؤكده، وحيث إن تلك النكتة منتفية في الصيغة فلأجل ذلك تكون
دلالتها على الوجوب أقوى من دلالتها عليه.
وإن شئت قلت: إن الجمل الفعلية في هذا المقام قد استعملت في معناها، لا

(1) كفاية الأصول: ص 92 - 93.
131

أنها لم تستعمل فيه، ولكن الداعي على هذا الاستعمال لم يكن هو الإخبار
والإعلام، بل هو البعث والطلب، نظير سائر الصيغ الإنشائية حيث قد يكون
الداعي على استعمالها في معانيها الايقاعية أمرا آخر.
الثانية: أنها لا تتصف بالكذب عند عدم وقوع المطلوب في الخارج، وذلك
لأن اتصافها به إنما يلزم فيما إذا كان استعمالها في معناها بداعي الإخبار
والحكاية، وأما إذا كان بداعي الإنشاء والطلب فلا يعقل اتصافها به، ضرورة أنه
لا واقع للإنشاء كي يعقل اتصافها به.
الثالثة: أن الجملة الفعلية لو لم تكن ظاهرة في الوجوب فلا إشكال في تعينه
من بين سائر المحتملات بواسطة مقدمات الحكمة.
والسبب في ذلك: هو أن النكتة المتقدمة حيث كانت شديدة المناسبة مع
الوجوب فهي قرينة على إرادته وتعيينه عند عدم قيام البيان على خلافه، وهذا
بخلاف غير الوجوب فإن إرادته من الإطلاق تحتاج إلى مؤنة زائدة.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فهي خاطئة على ضوء كلتا النظريتين في باب الإنشاء،
يعني: نظريتنا ونظرية المشهور.
أما على ضوء نظريتنا فواضح، والسبب في ذلك: ما حققناه في بابه: من أن
حقيقة الإنشاء وواقعه الموضوعي بحسب التحليل العلمي: عبارة عن اعتبار الشارع
الفعل على ذمة المكلف، وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكل
ذلك، فالجملة الإنشائية موضوعة للدلالة على ذلك فحسب (1). هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنا قد حققنا هناك: أن الجملة الخبرية موضوعة للدلالة
على قصد الحكاية والإخبار عن الواقع نفيا أو إثباتا (2).

(1) قد تقدم في الجزء الأول من هذا الكتاب: ص 99 فراجع.
(2) تقدم في الجزء الأول: بحث الإنشاء والإخبار ص 96 فراجع.
132

ومن ناحية ثالثة: أن المستعمل فيه والموضوع له في الجمل المزبورة إذا
استعملت في مقام الإنشاء يباين المستعمل فيه والموضوع له في تلك الجمل إذا
استعملت في مقام الإخبار، فإن المستعمل فيه على الأول هو إبراز الأمر
الاعتباري النفساني في الخارج، وعلى الثاني قصد الحكاية والإخبار عن الواقع.
فالنتيجة على ضوئها: هي عدم الفرق في الدلالة على الوجوب بين تلك
الجمل وبين صيغة الأمر، لفرض أن كلتيهما قد استعملتا في معنى واحد، وهو إبراز
الأمر الاعتباري النفساني في الخارج. هذا من جانب.
ومن جانب آخر: انتفاء النكتة المتقدمة، فإنها تقوم على أساس استعمال
الجمل الفعلية في معناها الخبري ولكن بداعي الطلب والبعث.
وقد تحصل من ذلك: أنه لا فرق بين الجمل الفعلية التي تستعمل في مقام
الإنشاء وبين صيغة الأمر أصلا، فكما أن الصيغة لا تدل على الوجوب، ولا على
الطلب ولا على البعث والتحريك، ولا على الإرادة، وإنما هي تدل على إبراز
اعتبار شئ على ذمة المكلف فكذلك الجمل الفعلية. وكما أن الوجوب مستفاد من
الصيغة بحكم العقل بمقتضى قانون العبودية والرقية كذلك الحال في الجمل الفعلية
حرفا بحرف. فما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): من أن دلالتها على الوجوب
آكد من دلالة الصيغة عليه لا واقع موضوعي له.
وأما على نظرية المشهور فالأمر أيضا كذلك. والوجه فيه واضح، وهو: أن ما
تستعمل فيه تلك الجمل في مقام الإنشاء غير ما تستعمل فيه في مقام الإخبار، فلا
يكون المستعمل فيه في كلا الموردين واحدا، ضرورة أنها على الأول قد
استعملت في الطلب وتدل عليه، وعلى الثاني في ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها.
ومن الطبيعي أننا لا نعني بالمستعمل فيه والمدلول إلا ما يفهم من اللفظ عرفا
ويدل عليه في مقام الإثبات.
وعلى الجملة: فلا ينبغي الشك في أن المتفاهم العرفي من الجملة الفعلية التي
تستعمل في مقام الإنشاء غير ما هو المتفاهم العرفي منها إذا استعملت في مقام
الإخبار.
133

مثلا: المستفاد عرفا من مثل قوله (عليه السلام): " يعيد الصلاة " أو " يتوضأ " أو
" يغتسل للجمعة والجنابة " أو ما شاكل ذلك على الأول ليس إلا الطلب والوجوب.
كما أن المستفاد منها على الثاني ليس إلا ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها،
فإذا كيف يمكن القول بأنها تستعمل في كلا المقامين في معنى واحد؟ هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن هذه الجمل على ضوء هذه النظرية لا تدل على
الوجوب أصلا فضلا عن كون دلالتها عليه آكد من دلالة الصيغة.
والسبب في ذلك: هو أنها حيث لم تستعمل في معناها الحقيقي بداعي
الحكاية عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها فقد أصبحت جميع الدواعي محتملة
في نفسها، فكما يحتمل استعمالها في الوجوب والحتم والطلب والبعث فكذلك
يحتمل استعمالها في التهديد أو السخرية أو ما شاكل ذلك. ومن الطبيعي أن إرادة
كل ذلك تفتقر إلى قرينة معينة، ومع انتفائها يتعين التوقف والحكم بإجمالها.
ومن هنا أنكر جماعة منهم: صاحب المستند (1) (قدس سره) في عدة مواضع من كلامه
دلالة الجملة الخبرية على الوجوب.
وقد تحصل من ذلك: أن نظرية المشهور تشترك مع نظريتنا في نقطة وتفترق
في نقطة أخرى.
أما نقطة الاشتراك: فهي أن هذه الجمل على أساس كلتا النظريتين تستعمل
في مقام الإنشاء في معنى هو غير المعنى الذي تستعمل فيه في مقام الإخبار، فلا
فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.
وأما نقطة الافتراق: فهي أن تلك الجمل تدل على الوجوب بحكم العقل على
أساس نظريتنا، ولا تدل عليه على أساس نظرية المشهور.

(1) منها ما في مستند الشيعة في أحكام الشريعة: ج 1 ص 14 في منزوحات البئر قال (قدس سره): (إن
أكثر أخبار النزح إنما ورد بلفظ الإخبار وإفادته للوجوب حيث يستعمل في الإنشاء، سيما
في عرف الشارع ممنوع). وهو ظاهر ما قاله في ص 29 بالنسبة إلى رواية يونس، فراجع.
134

وأما ما أفاده (قدس سره) من النكتة فهو إنما يتم على أساس أن تكون الجملة
مستعملة في معناها، لكن بداعي الطلب والبعث، لا بداعي الإخبار والحكاية،
وحيث قد عرفت أنها لم تستعمل فيه، بل استعملت في معنى آخر - وهو الوجوب
أو البعث والطلب - فلا موضوع لها عندئذ أصلا (1).
هذا، مضافا إلى أنه لا يتم على ضوء الأساس المذكور أيضا، وذلك لأن
النكتة المذكورة لو كانت مقتضية لحمل الجمل الخبرية على إرادة الوجوب وتعيينه
لكانت مقتضية لحمل الجمل الخبرية الاسمية كزيد قائم، والجمل الماضوية في
غير الجمل الشرطية على الوجوب أيضا إذا كانتا مستعملتين في مقام الإنشاء، مع
أن استعمالهما في ذلك المقام لعله من الأغلاط الفاحشة، ولذا لم نجد أحدا ادعى
ذلك، لا في اللغة العربية ولا في غيرها.
وبكلمة أخرى: أن المصحح لاستعمال الجمل الخبرية الفعلية في معناها
بداعي الطلب والبعث إن كان تلك النكتة فالمفروض أنها مشتركة بين كافة الجمل
الخبرية من الاسمية والفعلية، فلا خصوصية من هذه الناحية للجمل الفعلية، فإذا ما
هو النكتة لعدم جواز استعمالها في مقام الإنشاء دونها؟ وإن كان من جهة أن هذا
الاستعمال استعمالا في معناها الموضوع له والمستعمل فيه، غاية الأمر الداعي له
قد يكون الإعلام والإخبار، وقد يكون الطلب والبعث فلا تحتاج صحة مثل هذا
الاستعمال إلى مصحح خارجي، فإن كانت النكتة هذا لجرى ذلك في بقية
الجملات الخبرية أيضا حرفا بحرف، مع أنك قد عرفت عدم صحة استعمالها في
مقام الطلب والإنشاء.
ومن ذلك يعلم: أن المصحح للاستعمال المزبور خصوصية أخرى غير تلك
النكتة، وهي موجودة في خصوص الجمل الفعلية من المضارع والماضي إذا وقع
جزءا في الجملة الشرطية، ولم تكن موجودة في غيرها، ولذا صح استعمالها في

(1) قد تقدم في ص 133 فراجع.
135

مقام الطلب دون غيرها حتى مجازا، فضلا عن أن يكون الاستعمال حقيقيا.
فالنتيجة عدة أمور:
الأول: أن النكتة المذكورة لم تكن مصححة لاستعمال الجمل الفعلية في مقام
الإنشاء والطلب.
الثاني: أنها في مقام الطلب والبعث لم تستعمل في معناها الموضوع له على
رغم اختلاف الداعي كما عرفت (1).
الثالث: أن المصحح له خصوصية أخرى ونكتة ثانية، دون ما ذكره من النكتة.
وأما النقطة الثانية: فهي في غاية الصحة والمتانة، ضرورة أن الجملة الفعلية
إذا استعملت في مقام الإنشاء لم يعقل اتصافها بالكذب، من دون فرق في ذلك بين
نظريتنا ونظريته (قدس سره).
وأما النقطة الثالثة: فقد تبين خطؤها في ضمن البحوث السالفة بوضوح فلا
حاجة إلى الإعادة.
ثم إن الثمرة تظهر بين النظريتين في مثل قوله (عليه السلام): " اغتسل للجمعة
والجنابة " (2) مع العلم بعدم وجوب غسل الجمعة، وذلك:
أما بناء على نظريتنا من أن الدال على الوجوب العقل دون الصيغة فالأمر
ظاهر، فإن الصيغة إنما تدل على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج، ولا
تدل على ما عدا ذلك، وهو معنى حقيقي لها، غاية الأمر حيث قام دليل من
الخارج على جواز ترك غسل الجمعة والترخيص فيه فالعقل لا يلزم العبد بإتيانه
وامتثاله خاصة، ولكنه يلزمه بالإضافة إلى امتثال غسل الجنابة بمقتضى قانون
العبودية والمولوية حيث لم تقم قرينة على جواز تركه. ومن الطبيعي أن كلما لم
تقم قرينة على جواز تركه فالعقل يستقل بلزوم إتيانه قضاء لرسم العبودية، وأداء
لحق المولوية.

(1) مر ذكره آنفا فلاحظ.
(2) لم نعثر عليه في المتون الروائية، والظاهر أنه بعنوان المثال وجار في الألسن، لا أنه رواية.
136

وأما بناء على نظرية المشهور فالصيغة في أمثال المقام لم تستعمل في معناها
الحقيقي وهو الوجوب يقينا، لفرض أن غسل الجمعة غير واجب، وعليه فلا مناص
من الالتزام بأن يكون المستعمل فيه مطلق الطلب الجامع بين الوجوب والندب،
فتحتاج إرادة كل منهما إلى قرينة معينة، ومع عدمها لابد من التوقف.
وعلى الجملة: فالصيغة أو ما شاكلها في أمثال المقام استعملت في معناها
الحقيقي على ضوء نظريتنا من دون حاجة إلى عناية زائدة، ولم تستعمل فيه على
ضوء نظرية المشهور.
[التعبدي والتوصلي]
الجهة الرابعة: يقع الكلام في الواجب التوصلي والتعبدي، وقبل بيانهما نقدم
مقدمة، وهي: أن الواجب التوصلي يطلق على معنيين:
الأول: ما لا يعتبر فيه قصد القربة، وذلك: كغسل الميت وكفنه ودفنه وما شاكل
ذلك، حيث إنها واجبات في الشريعة الإسلامية، ولا يعتبر في صحتها قصد القربة
والإتيان بها مضافا إلى الله سبحانه وتعالى، فلو أتى بها بدون ذلك سقطت عن ذمته.
نعم، استحقاق الثواب عليها يرتكز على الإتيان بها بقصد القربة، وبدونه لا يستحق
وإن حصل الإجزاء، ولا ينافي ذلك اعتبار أمور أخر في صحتها، مثلا: يعتبر في
صحة غسله أن يكون الغاسل بالغا، وأن يكون مماثلا، ولو كان غيره بطل إلا في
موارد خاصة، وأن يكون الماء مباحا، وأن تكون الأغسال الثلاثة مترتبة، وغير ذلك.
وفي مقابله ما يعتبر فيه قصد القربة، وهو المعبر عنه بالواجب التعبدي، فلو
أتى به بدون ذلك لم يسقط عنه، وكان كمن لم يأت به أصلا.
الثاني: ما لا تعتبر فيه المباشرة من المكلف، بل يسقط عن ذمته بفعل الغير،
سواء أكان بالتبرع أم بالاستنابة، بل ربما لا يعتبر في سقوطه الالتفات والاختيار،
بل ولا إتيانه في ضمن فرد سائغ، فلو تحقق من دون التفات وبغير اختيار، أو في
ضمن فرد محرم كفى.
وإن شئت قلت: إن الواجب التوصلي: مرة يطلق ويراد به ما لا تعتبر فيه
137

المباشرة من المكلف.
ومرة أخرى يطلق ويراد به ما لا يعتبر فيه الالتفات والاختيار.
ومرة ثالثة يطلق ويراد به ما لا يعتبر فيه أن يكون في ضمن فرد سائغ.
ويقابل القسم الأول ما تعتبر فيه المباشرة. والقسم الثاني ما يعتبر فيه
الالتفات والاختيار. والقسم الثالث ما يعتبر فيه أن يكون في ضمن فرد سائغ، فلو
أتى به في ضمن فرد محرم لم يسقط.
ثم إن القسم الأول من الواجب التوصلي بالمعنى الثاني قد يجتمع مع الواجب
التعبدي بالمعنى الأول - وهو ما يعتبر فيه قصد القربة - في عدة موارد:
منها: الزكاة، فإنها رغم كونها واجبة تعبدية يعتبر فيها قصد القربة والامتثال
تسقط عن ذمة المكلف بفعل الغير، سواء أكان بالاستنابة أم كان بالتبرع إذا كان مع
الإذن، وأما لو كان بدونه فالسقوط لا يخلو عن إشكال وإن نسب إلى جماعة (1).
ومنها: الصلوات الواجبة على ولي الميت، فإنها تسقط عن ذمته بإتيان غيره،
كان بالاستنابة أم كان بالتبرع رغم كونها واجبات تعبدية.
ومنها: صلاة الميت، فإنها تسقط عن ذمة المكلف بفعل الصبي المميز، نائبا
كان أم متبرعا، كما ذهب إليه جماعة منهم: السيد (قدس سره) في العروة (2)، وقرره على
ذلك أصحاب الحواشي.
ومنها: الحج، فإنه واجب على المستطيع ولم يسقط بعجزه عن القيام بأعماله:
إما من ناحية ابتلائه بمرض لا يرجى زواله، وإما من ناحية كهولته وشيخوخته،
ولكن مع ذلك يسقط عنه بقيام غيره به رغم كونه واجبا تعبديا، ومنها غير ذلك.
فالنتيجة: هي أنه لا ملازمة بين كون الواجب تعبديا وعدم سقوطه بفعل
الغير، فإن هذه الواجبات بأجمعها واجبات تعبدية فمع ذلك تسقط بفعل الغير.
ومن هنا يظهر: أن النسبة بين هذا القسم من الواجب التوصلي وبين الواجب

(1) منهم: السيد الطباطبائي اليزدي في العروة الوثقى: الفصل (2) المسألة (5) من زكاة الفطرة.
(2) انظر العروة الوثقى: في الصلاة على الميت، المسألة (2) ج 1 ص 420.
138

التعبدي بالمعنى الأول عموم وخصوص من وجه، حيث ينفرد الأول عن الثاني
بمثل تطهير الثياب من الخبث وما شاكله، فإنه يسقط عن المكلف بقيام غيره به،
ولا يعتبر فيه قصد القربة. وينفرد الثاني عن الأول بمثل الصلوات اليومية، وصيام
شهر رمضان وما شاكلهما، فإنها واجبات تعبدية لا تسقط عن المكلف بقيام غيره
بها. ويلتقيان في الموارد المتقدمة.
كما أن النسبة بينه وبين الواجب التوصلي بالمعنى الأول عموم وخصوص من
وجه، حيث يمتاز الأول عن الثاني بمثل وجوب رد السلام، فإنه واجب توصلي
لا يعتبر فيه قصد القربة، ولكن يعتبر فيه قيد المباشرة من نفس المسلم عليه،
ولا يسقط بقيام غيره به.
ومن هذا القبيل: وجوب تحنيط الميت، حيث قد ذكرنا في بحث الفقه: أنه
لا يسقط عن البالغ بقيام الصبي المميز به (1).
ويمتاز الثاني عن الأول بالموارد المتقدمة، حيث إنها واجبات تعبدية يعتبر
فيها قصد القربة، ومع ذلك تسقط بفعل الغير. ويلتقيان في موارد كثيرة: كوجوب
إزالة النجاسة وما شاكلها، فإنها واجبة توصلية بالمعنى الأول والثاني فلا يعتبر
فيها قصد القربة، وتسقط بقيام الغير بها كالصبي ونحوه، كما تسقط فيما إذا تحققت
بغير التفات واختيار، بل ولو في ضمن فرد محرم.
وأما النسبة بين الواجب التعبدي بالمعنى الأول والواجب التعبدي بالمعنى
الثاني أيضا عموم من وجه، حيث يفترق الأول عن الثاني بالواجبات التعبدية التي
لا يعتبر فيها قيد المباشرة من نفس المكلف، كالأمثلة التي تقدمت فإنها واجبات
تعبدية بالمعنى الأول دون المعنى الثاني. ويفترق الثاني عن الأول بمثل وجوب
رد السلام ونحوه، فإنه واجب تعبدي بالمعنى الثاني، حيث يعتبر فيه قيد المباشرة
دون المعنى الأول، حيث لا يعتبر فيه قصد القربة. ويلتقيان في كثير من الموارد
كالصلوات اليومية ونحوها.

(1) انظر التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 8 ص 437 (م 2).
139

وبعد ذلك نقول: لا كلام ولا إشكال فيما إذا علم كون الواجب توصليا أو
تعبديا بالمعنى الأول، أو الثاني، وإنما الكلام والإشكال فيما إذا شك في كون
الواجب توصليا أو تعبديا فالكلام فيه: تارة يقع في الشك في التوصلي والتعبدي
بالمعنى الثاني. وتارة أخرى يقع في الشك فيه بالمعنى الأول. فهنا مقامان:
أما الكلام في المقام الأول فيقع في مسائل ثلاث:
الأولى: ما إذا ورد خطاب من المولى متوجها إلى شخص أو جماعة وشككنا
في سقوطه بفعل الغير فقد نسب إلى المشهور: أن مقتضى الإطلاق سقوطه وكونه
واجبا توصليا، من دون فرق في ذلك بين كون فعل الغير بالتسبيب، أو بالتبرع، أو
بغير ذلك.
وقد أطال شيخنا الأستاذ (قدس سره) الكلام في بيانهما (1)، ولكنا لا نحتاج إلى نقله،
بل هو لا يخلو عن تطويل زائد وبلا أثر، حيث نبين الآن - إن شاء الله تعالى - أن
مقتضى الإطلاق لو كان هو عكس ما نسب إلى المشهور، وأنه لا يسقط بفعل
غيره، بلا فرق بين كونه بالتسبيب أو بالتبرع. والسبب في ذلك: أن التكليف هنا
بحسب مقام الثبوت يتصور على أحد أشكال:
الأول: أن يكون متعلقه الجامع بين فعل المكلف نفسه وفعل غيره، فيكون
مرده إلى كون الواجب أحد فعلين على سبيل التخيير.
وفيه: أن هذا الوجه غير معقول، وذلك لأن فعل الغير خارج عن اختيار
المكلف وإرادته فلا يعقل تعلق التكليف بالجامع بينه وبين فعل نفسه.
وبكلمة أخرى: أن الإطلاق بهذا الشكل في مقام الثبوت والواقع غير معقول،
لفرض أنه يبتنى على أساس إمكان تعلق التكليف بفعل الغير، وهو مستحيل، فإذا
بطبيعة الحال يختص التكليف بفعل المكلف نفسه فلا يعقل إطلاقه.
أو فقل: إن الإهمال في الواقع غير معقول، فيدور الأمر بين الإطلاق - وهو
تعلق التكليف بالجامع - والتقييد وهو تعلق التكليف بحصة خاصة، وحيث إن

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 139 - 143.
140

الأول لا يعقل تعين الثاني.
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا إمكانه بحسب مقام الثبوت إلا أن الإطلاق في
مقام الإثبات لا يعينه، وذلك لأن أمر التكليف عندئذ يدور بين التعيين والتخيير.
ومن الواضح أن مقتضى الإطلاق هو التعيين، لأن التخيير في المقام الراجع إلى
جعل فعل الغير عدلا لفعل المكلف نفسه يحتاج إلى عناية زائدة وقرينة خارجة
فلا يمكن إرادته من الإطلاق.
الثاني: أن يكون متعلقه الجامع بين فعل المكلف نفسه وبين استنابته لغيره،
ونتيجة ذلك: هي التخيير بين قيام نفس المكلف به وبين الاستنابة لآخر، وهو في
نفسه وإن كان أمرا معقولا - ولا بأس بالإطلاق من هذه الناحية وشموله لصورة
الاستنابة - إلا أنه خاطئ من جهتين اخريين:
الأولى: أن لازم ذلك الإطلاق كون الاستنابة في نفسها مسقطة للتكليف، وهو
خلاف المفروض، بداهة أن المسقط له إنما هو الإتيان الخارجي، فلا يعقل أن تكون
الاستنابة مسقطة، وإلا لكفى مجرد إجازة الغير في ذلك، وهو كما ترى، وعليه فلا
يمكن كونها عدلا وطرفا للتكليف حتى يعقل تعلقه بالجامع بينها وبين غيرها.
الثانية: لو تنزلنا عن ذلك وأغمضنا النظر عن هذا إلا أن الأمر هنا يدور بين
التعيين والتخيير. وقد عرفت أن قضية الإطلاق في مقام الإثبات إذا كان المتكلم
في مقام البيان ولم ينصب قرينة هي التعيين دون التخيير، حيث إن بيانه يحتاج إلى
مؤنة زائدة كالعطف بكلمة " أو "، والإطلاق غير واف له، ونتيجة ذلك: عدم سقوطه
عن ذمة المكلف بقيام غيره به (1).
الثالث: أن يقال: إن أمر التكليف في المقام يدور بين كونه مشروطا بعدم قيام
غير المكلف به، وبين كونه مطلقا، أي: سواء أقام غيره به أم لم يقم فهو لا يسقط عنه.
ويمتاز هذا الوجه عن الوجهين الأولين بنقطة واحدة، وهي: أن في الوجهين

(1) قد مر ذكره آنفا فلاحظ.
141

الأولين يدور أمر الواجب بين كونه تعيينيا أو تخييريا، ولا صلة لهما بالوجوب.
وفي هذا الوجه يدور أمر الوجوب بين كونه مطلقا أو مشروطا، ولا صلة له
بالواجب.
ثم إن هذا الوجه وإن كان بحسب الواقع أمرا معقولا ومحتملا ولا محذور فيه
أصلا إلا أن الإطلاق في مقام الإثبات يقتضي عدم الاشتراط، وأنه لا يسقط عن
ذمة المكلف بقيام غيره به. ومن الطبيعي أن الإطلاق في هذا المقام يكشف عن
الإطلاق في ذاك المقام بقانون التبعية.
ومن هنا ذكرنا في بحث الفقه في مسألة تحنيط الميت: أن مقتضى إطلاق
خطابه المتوجه إلى البالغين هو عدم سقوطه بفعل غيرهم وإن كانوا مميزين (1).
وقد تحصل من ذلك: أن مقتضى إطلاق كل خطاب متوجه إلى شخص خاص
أو صنف: هو عدم سقوطه عنه بقيام غيره به، فالسقوط يحتاج إلى دليل.
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه تظهر: أن ما هو المعقول والمحتمل بحسب
الواقع من الوجوه المذكورة هو الوجه الأخير، أعني: الشك في الإطلاق
والاشتراط، دون الوجه الأول والثاني، كما عرفت (2). وعندئذ فلا مناص من إرجاع
الشك في أمثال المسألة إلى ذلك بعد افتراض عدم معقولية الوجه الأول والثاني.
وعلى هذا فلو شككنا في سقوط الواجب عن ولي الميت - مثلا - بفعل غيره
تبرعا أو استنابة فبطبيعة الحال يرجع الشك في هذا إلى الشك في الإطلاق
والاشتراط. وسيأتي في ضمن البحوث الآتية بشكل موسع: أن مقتضى إطلاق
الخطاب عدم الاشتراط، كما أشرنا إليه آنفا أيضا (3).
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي: أن مقتضى الأصل اللفظي في
المسألة عدم التوصلية. هذا إذا كان في البين إطلاق. وأما إذا لم يكن فالأصل
العملي يقتضي الاشتغال، وذلك لأن المقام - على ما عرفت - داخل في كبرى

(1) انظر التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 8 ص 438 (م 2).
(2) قد تقدم آنفا فلاحظ.
(3) سيأتي تفصيله في ص 199 فانتظر.
142

مسألة دوران الأمر بين الإطلاق والاشتراط. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد ذكرنا في محله: أن فعلية التكليف إنما هي بفعلية
شرائطه، فما لم يحرز المكلف فعلية تلك الشرائط لم يحرز كون التكليف فعليا
عليه (1).
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أن الشك في إطلاق التكليف
واشتراطه قد يكون مع عدم إحراز فعلية التكليف، وذلك كما إذا لم يكن ما يحتمل
شرطيته متحققا من الأول، ففي مثل ذلك بطبيعة الحال يرجع الشك فيه إلى الشك
في أصل توجه التكليف، كما إذا احتمل اختصاص وجوب إزالة النجاسة عن
المسجد - مثلا - بالرجل دون المرأة أو بالحر دون العبد، فلا محالة يتردد العبد
ويشك في أصل توجه التكليف إليه، وكذلك المرأة، وهو مورد لأصالة البراءة.
وقد يكون مع إحراز فعلية التكليف، وذلك كما إذا كان ما يحتمل شرطيته
متحققا من الابتداء ثم ارتفع وزال ولأجله شك المكلف في بقاء التكليف الفعلي
وارتفاعه. ومن الواضح أنه مورد لقاعدة الاشتغال دون البراءة. ولا يختص هذا
بمورد دون مورد آخر، بل يعم كافة الموارد التي شك فيها ببقاء التكليف بعد اليقين
بثبوته واشتغال ذمة المكلف به.
ومقامنا من هذا القبيل، فإن الولي - مثلا - يعلم باشتغال ذمته بتكليف الميت
ابتداء، ولكنه شاك في سقوطه عن ذمته بفعل غيره، وقد عرفت أن المرجع في ذلك
هو الاشتغال وعدم السقوط (2).
وبكلمة أخرى: أن التكليف إذا توجه إلى شخص وصار فعليا في حقه
فسقوطه عنه يحتاج إلى العلم بما يكون مسقطا له، فكلما شك في كون شئ
مسقطا له سواء كان ذلك فعل الغير أو شيئا آخر فمقتضى القاعدة عدم السقوط
وبقاؤه في ذمته.

(1) سيأتي بيانه في ص 317 فانتظر.
(2) مر ذكره آنفا فلاحظ.
143

ومن هذا القبيل: ما إذا سلم شخص على أحد فرد السلام شخص ثالث
فبطبيعة الحال يشك المسلم عليه في بقاء التكليف عليه - وهو وجوب رد السلام -
بعد أن علم باشتغال ذمته به. ومنشأ هذا الشك: هو الشك في اشتراط هذا التكليف
بعدم قيام الغير به وعدم اشتراطه. فعلى الأول يسقط بفعله دون الثاني. ومن
الطبيعي أن مرد هذا الشك إلى الشك في السقوط، وهو مورد لقاعدة الاشتغال دون
البراءة.
والسر في ذلك: ما ذكرناه في مبحث البراءة والاشتغال: من أن أدلة البراءة لا
تشمل أمثال المقام، فتختص بما إذا كان الشك في أصل ثبوت التكليف. وأما إذا
كان أصل ثبوته معلوما والشك إنما كان في سقوطه - كما في ما نحن فيه - فهو
خارج عن موردها (1).
ومن هنا ذكرنا: أن المكلف لو شك في سقوط التكليف عن ذمته من جهة
الشك في القدرة واحتمال العجز عن القيام به بعد فرض وصوله إليه وتنجزه - كما
إذا شك في وجوب أداء الدين عليه بعد اشتغال ذمته به من جهة عدم إحراز تمكنه
مع فرض مطالبة الدائن - فالمرجع في مثل ذلك بطبيعة الحال هو أصالة الاشتغال،
ووجوب الفحص عليه عن قدرته وتمكنه، ولا يمكنه التمسك بأصالة البراءة (2).
هذا بناء على نظريتنا من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.
وأما بناء على جريانه فيها فلا تصل النوبة إلى أصالة الاشتغال، بل المرجع هو
استصحاب بقاء التكليف وعدم سقوطه في أمثال المقام، وإن كانت النتيجة تلك
النتيجة فلا فرق بينهما بحسبها.
نعم، بناء على جريان الاستصحاب فعدم جريان البراءة في المقام أوضح كما
لا يخفى.
الثانية: ما إذا شك في سقوط واجب عن ذمة المكلف فيما لو صدر منه بغير
اختيار وإرادة فهل مقتضى الإطلاق عدم السقوط إذا كان، أو لا؟ وجهان:

(1) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 249.
(2) المصدر السابق: ص 400.
144

ربما قيل بالوجه الأول، بدعوى: أن الفعل عند الإطلاق ينصرف إلى حصة
خاصة وهي الحصة المقدورة، فالسقوط بغيرها يحتاج إلى دليل، وإلا فالإطلاق
يقتضي عدمه.
ولكن هذه الدعوى خاطئة ولا واقع موضوعي لها. والسبب في ذلك: أن منشأ
هذا الانصراف لا يخلو من أن يكون مواد الأفعال، أو هيئاتها.
أما المواد فقد ذكرنا في بحث المشتق بشكل موسع: أنها موضوعة للطبيعة
المهملة العارية عن كافة الخصوصيات، وهي مشتركة بين الحصص الاختيارية
وغيرها، مثلا: مادة " ضرب " وهي " ض ر ب " موضوعة لطبيعي الحدث الصادق
على ما يصدر بالاختيار وبغيره من دون عناية...، وهكذا (1).
نعم، وضع بعض المواد لخصوص الحصة الاختيارية، وذلك كالتعظيم
والتجليل، والسخرية، والهتك، وما شاكل ذلك.
وأما الهيئات فأيضا كذلك، يعني: أنها موضوعة لمعنى جامع بين المواد
بشتى أشكالها وأنواعها، أي: سواء كانت تلك المواد من قبيل الصفات - كمادة
علم، وكرم، وأبيض وأسود، وأحمر، وما شاكل ذلك - أو من قبيل الأفعال. وهي قد
تكون اختيارية كما في مثل قولنا: " ضرب زيد "، و " قام عمرو " وما شاكلهما.
وقد تكون غير اختيارية كما في مثل قولنا: " تحقق موت زيد "، و " أسرع
النبض "، و " جرى الدم في العروق "، ونحو ذلك.
فالنتيجة: أنه لا أساس لأخذ الاختيار في الأفعال، لا مادة ولا هيئة.
ولكن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد ادعى في المقام: أن صيغة الأمر أو ما شاكلها
ظاهرة في الاختيار، لا من ناحية دعوى الانصراف فإنها ممنوعة، بل لخصوصية
فيها. واستدل على ذلك بوجهين:
الأول: أن الغرض من الأمر الصادر عن المولى إلى العبد هو بعثه وإيجاد

(1) راجع الجزء الأول من هذا الكتاب: ص 253 - 255.
145

الداعي له لتحريك عضلاته نحو إيجاد المأمور به. ومن الطبيعي أن هذا يستلزم
كون المتعلق مقدورا له، وإلا لكان طلبه لغوا محضا، لعدم ترتب الغرض المذكور
عليه، وصدور اللغو من المولى الحكيم مستحيل.
وعلى هذا فبطبيعة الحال يكون المطلوب في باب الأوامر حصة خاصة من
الفعل وهي الحصة المقدورة، وتلك الحصة هي الواجبة على المكلف دون غيرها،
ولا يسقط الواجب عنه إلا بإتيان تلك الحصة.
وعليه فإذا شككنا في سقوط واجب بمجرد تحققه في الخارج ولو بلا اختيار
ولا إرادة فمقتضى إطلاق الأمر عدم سقوطه، لأن إجزاء غير الواجب عن الواجب
يحتاج إلى دليل.
فالنتيجة: أنا لا نقول بأن الاختيار جزء مدلول المادة أو الهيئة، أو إنها عند
الإطلاق منصرفة إلى هذا، وذلك لأن هذه الدعوى ساقطة لا واقع لها أصلا. بل
نقول: إنه كان من خصوصيات الطلب والبعث المستفاد من الصيغة أو شاكلها ومن
شؤونه، فإذا تمتاز صيغة الأمر أو ما شابهها عن بقية الأفعال في هذه النقطة
والخصوصية.
الثاني: أنه لا يكفي في صحة الواجب حسنه الفعلي واشتماله على مصلحة
ملزمة، بل يعتبر فيها زائدا على ذلك الحسن الفاعلي، بمعنى: أن يكون صدور
الفعل على وجه حسن (1).
ومن هنا التزم (قدس سره) ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة حتى على القول بالجواز،
نظرا إلى أن صدور الصلاة في تلك الدار ليس وجه حسن يستحق أن يمدح عليه
وإن كانت الصلاة في نفسها حسنة، وحيث إن الفعل الصادر من المكلف بلا اختيار
وإرادة لا يتصف بالحسن الفاعلي فلا يعقل أن يكون من أفراد الواجب، وعليه
فسقوط الواجب به يحتاج إلى دليل، وإلا فمقتضى الأصل عدم سقوطه (2).
فالنتيجة على ضوء هذين الوجهين: هي أن مقتضى إطلاق الأمر عدم سقوط

(1) فوائد الأصول: ج 1 ص 143 و 443.
(2) فوائد الأصول: ج 1 ص 143 و 443.
146

الواجب بما إذا صدر بغير إرادة واختيار. فالسقوط يحتاج إلى دليل. هذا إذا كان
هنا إطلاق، وإلا فالأصل العملي أيضا يقتضي ذلك.
ولنأخذ بالمناقشة في هذين الوجهين:
أما الوجه الأول فهو مورد للمؤاخذة من جهتين:
الأولى: أن اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنما هو بحكم العقل، لا بمقتضى
الخطاب كما فصلنا الحديث من هذه الناحية في بحث الضد (1)، فلا نعيد.
الثانية: أن اعتبار القدرة فيه سواء كان بحكم العقل أو بمقتضى الخطاب ليس
إلا من ناحية أن التكليف بغير المقدور لغو. ومن الطبيعي أن ذلك لا يقتضي إلا
استحالة تعلق التكليف بغير المقدور خاصة. وأما تعلقه بخصوص الحصة المقدورة
فحسب فلا، ضرورة أن غاية ما يقتضي ذلك كون متعلقه مقدورا، ومن المعلوم أن
الجامع بين المقدور وغيره مقدور فلا مانع من تعلقه به.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون اعتبار القدرة بحكم العقل أو بمقتضى
الخطاب. أما على الأول فواضح. وأما على الثاني فأيضا كذلك، ضرورة أن الطلب
المتعلق بشئ لا يقتضي أزيد من كون ذلك الشئ مقدورا.
وبكلمة أخرى: أن المصلحة في الواقع لا تخلو من أن تقوم بخصوص الحصة
المقدورة، أو تقوم بالجامع بينها وبين غير المقدورة. فعلى الأول لا معنى لاعتبار
الجامع. وعلى الثاني لا مناص من اعتباره، ولا يكون لغوا بعد إمكان تحقق تلك
الحصة في الخارج.
فالنتيجة: أن استحالة تعلق الطلب بالجامع واعتباره إنما تقوم على أساس
أحد أمرين:
الأول: أن لا يكون للجامع ملاك يدعو المولى إلى اعتباره.
الثاني: أن تكون الحصة غير المقدورة مستحيلة الوقوع في الخارج. وأما في
غير هذين الموردين فلا مانع من اعتباره على ذمة المكلف أصلا.

(1) سوف يأتي تفصيله في الجزء الثالث من هذا الكتاب في الكلام عن ثمرة مسألة الضد، فانتظر.
147

ولا تقاس هذه المسألة بالمسألة الأولى، حيث قلنا (1) في تلك المسألة بعدم
إمكان تعلق التكليف بالجامع بين فعل المكلف نفسه وبين فعل غيره.
والوجه في ذلك: هو أن اعتبار ذلك الجامع في ذمة المكلف لا يرجع بالتحليل
العلمي إلى معنى محصل، بداهة أنه لا معنى لاعتبار فعل غير المكلف في ذمته.
وهذا بخلاف مسألتنا هذه، فإن اعتبار فعل المكلف على ذمته الجامع بين المقدورة
وغيرها بمكان من الإمكان بلا لزوم أي محذور كما عرفت (2). هذا بحسب مقام
الثبوت.
وأما بحسب مقام الإثبات فإن كان هناك إطلاق كشف ذلك عن الإطلاق في
مقام الثبوت، يعني: أن الواجب هو الجامع دون خصوص حصة خاصة، فعندئذ إن
كان المولى في مقام البيان ولم يقم قرينة على التقييد تعين التمسك بالإطلاق
لإثبات صحة الفعل لو جئ به في ضمن حصة غير مقدورة.
فالنتيجة: أنه لا مانع من التمسك بالإطلاق في هذه المسألة إن كان، ومقتضاه
سقوط الواجب عن المكلف إذا تحقق في الخارج ولو بلا إرادة واختيار.
وهذا بخلاف المسألة الأولى، حيث إن الإطلاق فيها غير ممكن في مقام
الثبوت فلا إطلاق في مقام الإثبات ليتمسك به. ومن ثمة قلنا بالاشتغال هناك
وعدم السقوط. هذا بناء على نظريتنا: من أن التقابل بين الإطلاق والتقييد من
تقابل التضاد، فاستحالة التقييد تستلزم ضرورة الإطلاق لا استحالته، كما سيأتي
بيانه في ضمن البحوث الآتية (3) إن شاء الله تعالى.
وأما بناء على نظرية شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أن التقابل بينهما من تقابل العدم
والملكة فإذا أمكن أحدهما أمكن الآخر، وإذا استحال استحال (4) فلا يعقل

(1) تقدم التفصيل في المسألة الأولى ص 140 فراجع.
(2) مر ذكره آنفا فلاحظ.
(3) سيأتي لاحقا ضمن نتائج البحوث في ص 172 فانتظر.
(4) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 146.
148

الإطلاق في المقام حتى يمكن التمسك به، وذلك لاستحالة التقييد هنا، أي: تقييد
الواجب في الواقع بخصوص الحصة غير المقدورة، فإذا استحال استحال
الإطلاق.
وقد تحصل من ذلك: نقطة الامتياز بين نظريتنا ونظرية شيخنا الأستاذ (قدس سره) في
المسألة، وهي: إمكان التمسك بالإطلاق على الأول، وعدم إمكانه على الثاني.
هذا إذا كان إطلاق.
وأما إذا لم يكن فالأصل العملي يقتضي البراءة، وذلك لأن تعلق الوجوب
بالجامع معلوم، وإنما الشك في تعلقه بخصوص الحصة المقدورة. ومن الطبيعي أن
المرجع في ذلك هو أصالة البراءة عن وجوب خصوص تلك الحصة، وعليه فلو
تحقق الواجب في ضمن فرد غير مقدور سقط.
وأما الوجه الثاني فترد عليه المناقشة من جهتين:
الأولى: بأن اعتبار الحسن الفاعلي في الواجب زائدا على الحسن الفعلي
والملاك القائم فيه لا دليل عليه أصلا، والدليل إنما قام على اعتبار الحسن الفعلي،
وهو المصلحة القائمة في الفعل التي تدعو المولى إلى إيجابه.
الثانية: أننا لو اعتبرنا الحسن الفاعلي في الواجب إضافة إلى الحسن الفعلي
لزم من ذلك محذور آخر، لا إثبات ما هو المقصود هنا، وذلك المحذور هو عدم
كفاية الإتيان بالواجب عندئذ عن إرادة واختيار أيضا في سقوطه، بل لابد من
الإتيان به بقصد القربة، بداهة أن الحسن الفاعلي لا يتحقق بدونه. ومن الطبيعي أن
الالتزام بهذا المعنى يستلزم إنكار الواجبات التوصلية، وانحصارها بالواجبات
التعبدية، وذلك لأن كل واجب عندئذ يفتقر إلى الحسن الفاعلي ولا يصح بدونه،
والمفروض أنه يحتاج إلى قصد القربة، وهذا لا يتمشى مع تقسيمه (قدس سره) - في بداية
البحث - الواجب إلى تعبدي وتوصلي (1).

(1) فوائد الأصول: ج 1 ص 137 - 138. وقد مر ذكره سابقا فراجع.
149

فالنتيجة: أن اعتبار الحسن الفاعلي في الواجب رغم أنه لا دليل عليه
يستلزم محذورا لا يمكن أن يلتزم به أحد، حتى هو (قدس سره)، فإذا لا مناص من الالتزام
بعدم اعتباره وكفاية الحسن الفعلي.
نعم، هنا شئ آخر، وهو: أن لا يكون مصداق الواجب قبيحا كما إذا أتى به
في ضمن فرد محرم، وذلك لأن الحرام لا يعقل أن يقع مصداقا للواجب.
وقد تحصل من ذلك عدة أمور:
الأول: خطأ الوجوه المتقدمة التي أقيمت لإثبات كون الواجب هو خصوص
الحصة الاختيارية.
الثاني: إمكان كون الواجب في الواقع هو الجامع بين الحصة المقدورة
وغيرها.
الثالث: أن المولى إذا كان في مقام البيان فلا مانع من التمسك بالإطلاق، وإن
لم يكن فالمرجع هو أصالة البراءة. وبهذين الوجهين - يعني: الوجه الثاني
والثالث - تمتاز هذه المسألة عن المسألة الأولى.
الثالثة: ما إذا شك في سقوط واجب في ضمن فرد محرم، وهذا يتصور على
نحوين:
الأول: أن يكون المأتي به في الخارج مصداقا للحرام حقيقة: كغسل الثوب
المتنجس بالماء المغصوب أو نحوه.
الثاني: أن لا يكون المأتي به مصداقا له كذلك، بل يكون ملازما له وجودا،
وذلك كالصلاة في الأرض المغصوبة أو نحوها بناء على جواز اجتماع الأمر
والنهي، وعدم اتحاد المأمور به مع المنهي عنه في مورد الاجتماع والتصادق.
أما الكلام في القسم الأول: فتارة نعلم بأن الإتيان بالواجب في ضمن فرد
محرم مسقط له، وسقوطه من ناحية سقوط موضوعه وعدم تعقل بقائه حتى يؤتى
به ثانيا في ضمن فرد غير محرم، وذلك كإزالة النجاسة عن المسجد - مثلا - فإنها
تسقط عن المكلف، ولو كانت بالماء المغصوب فلا يبقى موضوع لها. وكغسل
150

الثوب المتنجس بالماء المغصوب حيث يسقط عن ذمته بانتفاء موضوعه وحصول
غرضه وما شاكل ذلك. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن مرد سقوط الواجب في ضمن الفرد المحرم ليس إلى
أن الواجب هو الجامع بينهما، بل مرده إلى حصول الغرض به الداعي إلى إيجابه،
حيث إنه مترتب على مطلق وجوده ولو كان في ضمن فرد محرم، وعدم موضوع
لإتيانه ثانيا في ضمن فرد آخر، لا أن الواجب هو الجامع.
وتارة أخرى نشك في أنه يسقط لو جئ به في ضمن فرد محرم أو لا،
وذلك: كغسل الميت، وتحنيطه، وتكفينه، ودفنه، وما شاكل ذلك فلو غسل الميت
بالماء المغصوب، أو دفن في أرض مغصوبة، أو حنط بالحنوط المغصوب، أو غير
ذلك وشككنا في سقوط التكليف بذلك وعدم سقوطه.
فنقول: لا إشكال ولا شبهة في أن مقتضى إطلاق الواجب عدم السقوط، بداهة
أن الفرد المحرم لا يعقل أن يكون مصداقا للواجب، لاستحالة انطباق ما هو
محبوب للمولى على ما هو مبغوض له، فعدم السقوط من هذه الناحية، لا من
ناحية استحالة اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد، وذلك لأن هذه الناحية تقوم
على أساس أن الأمر يسري من الجامع إلى أفراده، ولكنه خاطئ لا واقع
موضوعي له، وذلك لما ذكرناه غير مرة: من أن متعلق الأمر هو الطبيعي الجامع،
ولا يسري الأمر منه إلى شئ من أفراده العرضية والطولية (1). هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: بعدما عرفت استحالة انطباق الواجب على الفرد المحرم
فبطبيعة الحال يتقيد الواجب بغيره (2).
وعلى ضوء هذا البيان فإذا شككنا في سقوط الواجب في ضمن فرد محرم
فلا محالة يرجع إلى الشك في الإطلاق والاشتراط، بمعنى: أن وجوبه مطلق فلا
يسقط عن ذمته بإتيانه في ضمن فرد محرم أو مشروط بعدم إتيانه في ضمنه. وقد

(1) سوف يأتي تفصيله في بداية الجزء الرابع من هذا الكتاب في بحث الأوامر ضمن أمر
الآمر، فانتظر.
(2) مر ذكره آنفا فلاحظ.
151

تقدم أن مقتضى الإطلاق عدم الاشتراط إن كان، وإلا فالمرجع هو الأصل
العملي (1)، وهو في المقام أصالة البراءة، وذلك لأن المسألة على هذا الضوء تكون
من صغريات كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، وقد اخترنا في تلك
المسألة القول بجريان البراءة فيها عقلا وشرعا (2).
هذا بناء على نظريتنا من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية،
وإلا فلا مانع من الرجوع إليه، ويأتي بيانه (3) في مورده إن شاء الله تعالى.
وأما الكلام في القسم الثاني: فلا ينبغي الشك في سقوط الواجب به إذا كان
توصليا، لأن المفروض أنه فرد حقيقي للواجب، غاية الأمر أن وجوده في
الخارج ملازم لوجود الحرام. ومن الطبيعي أن هذا لا يمنع من انطباق الواجب
عليه.
وأما إذا كان تعبديا فالظاهر أن الأمر أيضا كذلك. والسبب في هذا: هو أن
المعتبر في صحة العبادة الإتيان بها بكافة أجزائها وشرائطها مع قصد القربة، ولا
دليل على اعتبار شئ زائد على ذلك، ومن المعلوم أن مجرد مقارنتها خارجا
وملازمتها كذلك لوجود الحرام لا يمنع عن صحتها وقصد القربة بها، فإن المانع منه
ما إذا كانت العبادة محرمة، لا في مثل المقام.
ومن هنا قلنا بصحة العبادة في مورد الاجتماع بناء على القول بالجواز (4)،
حيث إن ما ينطبق عليه الواجب غير ما هو الحرام، فلا يتحدان خارجا كي يكون
مانعا عن الانطباق وقصد التقرب، بل يمكن الحكم بالصحة فيه حتى على القول
باعتبار الحسن الفاعلي، وذلك لأن صدور العبادة بما هي عبادة حسن منه، وإنما
القبيح صدور الحرام. ومن الواضح أن قبح هذا لا يرتبط بحسن ذاك، فهما فعلان

(1) راجع الوجه الثالث ص 141 - 142.
(2) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 427 و 437.
(3) المصدر السابق: ص 443.
(4) يأتي بيانه في الجزء الرابع في بداية ثمرة مسألة اجتماع الأمر والنهي، فانتظر.
152

صادران من الفاعل، غاية الأمر كان صدور أحدهما منه حسنا، وصدور الآخر
قبيحا.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي: أن الواجب التوصلي على
أنواع:
منها: ما يسقط عن ذمة المكلف بصرف وجوده في الخارج، سواء أكان بفعل
نفسه أم كان بفعل غيره، وسواء أكان في ضمن فرد مباح أم كان في ضمن فرد
محرم.
ومنها: ما لا يسقط إلا بفعل المكلف نفسه.
ومنها: ما لا يسقط إلا في ضمن فرد مباح فلا يسقط في ضمن فرد حرام.
نعم، يشترك الجميع في نقطة واحدة، وهي: عدم اعتبار قصد القربة في
صحتها.
ومن هنا يظهر: أنه لا أصل لما اشتهر في الألسنة: من أن الواجب التوصلي ما
يسقط عن المكلف ويحصل الغرض منه بمجرد وجوده وتحققه في الخارج. هذا
آخر ما أوردناه في المقام الأول.
وأما الكلام في المقام الثاني: فلا شبهة في أن الواجب في الشريعة المقدسة
بل في كافة الشرائع على نوعين: تعبدي، وتوصلي.
والأول ما يتوقف حصول الغرض منه على قصد التقرب، وذلك كالصلاة
والصوم والحج والزكاة والخمس وما شاكل ذلك.
والثاني ما لا يتوقف حصوله على ذلك كما عرفت، ومنه وجوب الوفاء
بالدين، ورد السلام، ونفقة الزوجة، وهذا القسم هو الكثير في الشريعة المقدسة،
وجعله من الشارع رغم أنه لا يعتبر فيه قصد التقرب إنما هو لأجل حفظ النظام
وإبقاء النوع، ولولاه لاختلت نظم الحياة المادية والمعنوية.
وبعد ذلك نقول: مرة يعلم المكلف بأن هذا الواجب توصلي وذاك تعبدي، ولا
كلام فيه. ومرة أخرى لا يعلم به ويشك، والكلام في المقام إنما هو في ذلك، وهو
153

يقع في موردين:
الأول: في مقتضى الأصل اللفظي من عموم أو إطلاق.
الثاني: في مقتضى الأصل العملي.
أما الكلام في المورد الأول: فالمشهور بين الأصحاب قديما وحديثا: هو
أنه لا إطلاق في المقام حتى يمكن التمسك به لإثبات كون الواجب توصليا،
ولكن هذه الدعوى منهم ترتكز على أمرين:
الأول: دعوى استحالة تقييد الواجب بقصد القربة وعدم إمكانه.
الثاني: دعوى: أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق فينبغي لنا التكلم
عندئذ في هاتين الدعويين:
أما الدعوى الأولى: فقد ذكروا في وجه استحالة التقييد وجوها:
أحسنها: ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أن كل قيد في القضايا الحقيقية إذا
اخذ مفروض الوجود في الخارج، سواء أكان اختياريا أم كان غير اختياري
يستحيل تعلق التكليف به (1).
والسبب في ذلك: أن القضايا الحقيقية ترجع إلى قضايا شرطية مقدمها وجود
الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له، مثلا قولنا: " المستطيع يجب عليه الحج "
قضية حقيقية ترجع إلى قضية شرطية، وهي قولنا: " إذا وجد في الخارج شخص
وصدق عليه أنه مستطيع وجب عليه الحج "، فيكون وجوب الحج مشروطا
بوجود الاستطاعة في الخارج، فتدور فعليته مدار فعليتها، لاستحالة فعلية الحكم
بدون فعلية موضوعه. وعليه فلا يمكن أن يقع مثل هذا القيد موردا للتكليف،
بداهة أن المشروط لا يقتضي وجود شرطه. ولا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك
القيد اختياريا أو غير اختياري.
والأول: كالعقد، والعهد، والنذر، والاستطاعة، وما شاكل ذلك، فإن مثل قوله

(1) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 146 - 148. راجع أجود التقريرات ج 1 ص 105 - 108.
154

تعالى: * (أوفوا بالعقود) * (1) أو نحوه يرجع إلى أنه إذا فرض وجود عقد في الخارج
يجب الوفاء به، لا أنه يجب على المكلف إيجاد عقد في الخارج والوفاء به.
والثاني: كالوقت، والبلوغ، والعقل، حيث إنها خارجة عن اختيار المكلف فلا
تكون مقدورة له، ومن الطبيعي أن مثل هذه القيود إذا أخذت في مقام الجعل فلا
محالة أخذت مفروضة الوجود في الخارج، يعني: أن المولى فرض وجودها أولا
ثم جعل الحكم عليها، ومرد ذلك إلى أنه متى تحقق وقت الزوال - مثلا - فالصلاة
واجبة، ومتى تحقق البلوغ في مادة المكلف فالتكليف فعلي في حقه...، وهكذا.
وليس معنى " إذا زالت الشمس فصل " وجوب الصلاة ووجوب تحصيل الوقت،
حيث إنه تكليف بغير مقدور، بل معناه ما ذكرناه، فإن ما هو مقدور للمكلف هو
ذات الصلاة وإيقاعها في الوقت عند تحققه. وأما تحصيل نفس الوقت فهو غير
مقدور له فلا يعقل تعلق التكليف به.
وقد تحصل من ذلك: أن كل قيد إذا اخذ في مقام الجعل مفروض الوجود فلا
يعقل تعلق التكليف به، سواء أكان اختياريا أم لم يكن، غاية الأمر أن القيد إذا كان
غير اختياري فلابد من أخذه مفروض الوجود، ولا يعقل أخذه في متعلق التكليف
بغير ذلك.
ومقامنا من هذا القبيل، فإن قصد الأمر إذا اخذ في متعلقه فلا محالة يكون
الأمر موضوعا للتكليف ومفروض الوجود في مقام الإنشاء، لما عرفت من أن كل
قيد إذا اخذ متعلقا لمتعلق التكليف فبطبيعة الحال كان وجود التكليف مشروطا
بفرض وجوده فرضا مطابقا للواقع الموضوعي (2)، وحيث إن متعلق المتعلق - فيما
نحن فيه - هو نفس الأمر فيكون وجوده مشروطا بفرض وجود نفسه فرضا مطابقا
للخارج، فيلزم عندئذ كون الأمر مفروض الوجود قبل وجود نفسه، وهذا خلف،
ضرورة أن مالا يوجد إلا بنفس إنشائه كيف يعقل أخذه مفروض الوجود في

(1) المائدة: 1.
(2) مر ذكره آنفا فلاحظ.
155

موضوع نفسه؟ فإن مرجعه إلى اتحاد الحكم والموضوع.
وإن شئت قلت: إن أخذ قصد الأمر في متعلقه يستلزم بطبيعة الحال أخذ الأمر
مفروض الوجود، لكونه خارجا عن الاختيار، وعليه فيلزم محذور الدور، وذلك
لأن فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه، وحيث إن الموضوع على الفرض
هو نفس الأمر وهو متعلق لمتعلقه فبطبيعة الحال تتوقف فعليته على فعلية نفسه،
وهو محال.
فالنتيجة: أن أخذ داعي الأمر في متعلقه - كالصلاة مثلا - يستلزم اتحاد الحكم
والموضوع في مقام الجعل، وتوقف الشئ على نفسه في مقام الفعلية، وكلاهما
مستحيل.
وقد خفي على بعض الأساطين، حيث قد أورد على شيخنا الأستاذ (قدس سره) بما
حاصله: هو أن ما يؤخذ مفروض الوجود في مقام الجعل إنما هو موضوعات
التكاليف وقيودها، لا قيود الواجب، لوضوح أن قيود الواجب كالطهارة في الصلاة
- مثلا - واستقبال القبلة وما شاكلهما يجب تحصيلها على المكلف، وذلك لأن الأمر
المتعلق بالصلاة قد تعلق بها مقيدة بهذه القيود، فكما يجب على المكلف تحصيل
أجزائها يجب عليه تحصيل قيودها وشرائطها أيضا. وهذا بخلاف موضوعات
التكاليف، حيث إنها قد أخذت مفروضة الوجود في الخارج فلا يجب على
المكلف تحصيلها ولو كانت اختيارية، كالاستطاعة بالإضافة إلى وجوب الحج،
وما شاكلها (1).
وبعد ذلك قال: إن قصد الأمر ليس من قيود الموضوع حتى يؤخذ مفروض
الوجود خارجا، بل هو قيد الواجب وكان المكلف قادرا عليه فعندئذ حاله حال
بقية قيود الواجب، كالطهارة ونحوها فيجب تحصيله، ولا معنى لأخذه مفروض
الوجود.

(1) الظاهر أن المراد من هذا البعض هو المحقق الآغا ضياء الدين العراقي، راجع مقالات
الأصول: ص 76.
156

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره):
أما ما أفاده من حيث الكبرى: من أن قيود الواجب يجب تحصيلها دون قيود
الموضوع ففي غاية الصحة والمتانة، إلا أن المناقشة في كلامه إنما هي في تطبيق
تلك الكبرى على ما نحن فيه، وذلك لأن المحقق النائيني (قدس سره) لم يدع أن قصد الأمر
من قيود الموضوع، وأنه لابد من أخذه مفروض الوجود في مقام الجعل حتى يرد
عليه الإشكال المزبور، بل إنما يدعي ذلك بالإضافة إلى نفس الأمر المتعلق
للقصد، والمفروض أن الأمر خارج عن اختيار المكلف، حيث إنه فعل اختياري
للمولى، له أن يأمر بشئ، وله أن لا يأمر. وقد تقدم أن ما هو خارج عن الاختيار
لا يعقل أن يؤخذ قيدا للواجب، لاستلزامه التكليف بغير المقدور، فلو اخذ فلابد
من أخذه مفروض الوجود. فإذا عاد المحذور المتقدم.
وقد تحصل من ذلك: أن الإشكال يقوم على أساس أن يكون قصد الأمر
مأخوذا مفروض الوجود، ولكن عرفت أنه لا واقع موضوعي له.
فالصحيح في الجواب أن يقال: إن لزوم أخذ القيد مفروض الوجود في القضية
في مقام الإنشاء إنما يقوم على أساس أحد أمرين:
الأول: الظهور العرفي كما في قوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * (1) فإن المستفاد
منه عرفا هو لزوم الوفاء بالعقد على تقدير تحققه ووجوده في الخارج رغم كون
العقد مقدورا للمكلف. ومن هذا القبيل: وجوب الوفاء بالنذر والشرط والعهد
واليمين، ووجوب الإنفاق على الزوجة، وما شاكل ذلك، حيث إن القيود المأخوذة
في موضوعات هذه الأحكام رغم كونها اختيارية أخذت مفروضة الوجود في
مقام جعلها بمقتضى المتفاهم العرفي، فإن العرف يفهم أن النذر الذي هو موضوع
لوجوب الوفاء قد اخذ مفروض الوجود فلا يجب تحصيله، وهكذا الحال في
غيره، وهذا هو الغالب في القضايا الحقيقية.

(1) المائدة: 1.
157

الثاني: الحكم العقلي، ومن الطبيعي أن العقل إنما يحكم فيما إذا كان القيد
خارجا عن الاختيار، حيث إن عدم أخذه مفروض الوجود يستلزم التكليف
بالمحال كما في مثل قوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق
الليل) * (1)، فإن دخول الوقت حيث إنه خارج عن قدرة المكلف واختياره لا
مناص من أخذه مفروض الوجود في مقام الإنشاء والخطاب، وإلا لزم التكليف
بغير المقدور، وهو مستحيل.
فالنتيجة: أن أخذ القيد مفروض الوجود في مرحلة الجعل والإنشاء إنما يقوم
على أساس أحد هذين الأمرين، فلا ثالث لهما. وأما في غير هذين الموردين فلا
موجب لأخذه مفروض الوجود أصلا، ولا دليل على أن التكليف لا يكون فعليا
إلا بعد فرض وجوده في الخارج.
ومن هنا قد التزمنا بفعلية الخطابات التحريمية قبل وجودات موضوعاتها
بتمام القيود والشرائط فيما إذا كان المكلف قادرا على إيجادها، مثلا: التحريم
الوارد على شرب الخمر فعلي وإن لم يوجد الخمر في الخارج إذا كان المكلف
قادرا على إيجاده بإيجاد مقدماته، فلا تتوقف فعليته على وجود موضوعه.
والسر في ذلك: ما عرفت (2) من أن الموجب لأخذ القيد مفروض الوجود: إما
الظهور العرفي، أو الحكم العقلي، وكلاهما منتف في أمثال المقام.
أما الأول: فلأن العرف لا يفهم من مثل " لا تشرب الخمر " أن الخمر اخذ
مفروض الوجود في الخطاب بحيث تتوقف فعلية حرمة شربه على وجوده في
الخارج، فلا حرمة قبل وجوده، بل المتفاهم العرفي من أمثال هذه القضايا هو
فعلية حرمة الشرب مطلقا وإن لم يكن الخمر موجودا إذا كان المكلف قادرا على
إيجاده بما له من المقدمات، وهذا بخلاف المتفاهم العرفي من مثل قوله تعالى:
* (أوفوا بالعقود) * كما عرفت (3).

(1) الإسراء: 78.
(2) تقدم آنفا فلاحظ.
(3) تقدم آنفا فلاحظ.
158

وأما الثاني: فلأن المفروض تمكن المكلف من إيجاده، وفي مثله لا يحكم
العقل بأخذه مفروض الوجود.
فالنتيجة: أن المناط في فعلية الخطابات التحريمية إنما هو فعلية قدرة
المكلف على متعلقاتها إيجادا وتركا، ولو بالقدرة على موضوعاتها كذلك، فمن
كان متمكنا من شرب الخمر ولو بإيجاده كانت حرمته فعلية في حقه. ومن كان
متمكنا من تنجيس المسجد - مثلا - ولو بإيجاد النجاسة كانت حرمته كذلك فلا
تتوقف على وجود موضوعه في الخارج. ومن هنا لا ترجع تلك القضايا في أمثال
هذه الموارد إلى قضايا شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له،
حيث إن ترتب الأحكام فيها على موضوعاتها ليس كترتب الجزاء على الشرط.
وعلى ذلك تترتب ثمرة مهمة في عدة موارد وفروع، وستأتي الإشارة إلى
بعضها في ضمن البحوث الآتية (1).
وبعد ذلك نقول: إن القيد فيما نحن فيه - وهو نفس الأمر - وإن كان خارجا
عن الاختيار إلا أن مجرد ذلك لا يوجب أخذه مفروض الوجود، لما عرفت من
الملاك الموجب لأخذ قيد كذلك: إما الظهور العرفي أو الحكم العقلي (2)، وعندئذ
فهل نرى أن الملاك لأخذه كذلك موجود هنا أم لا؟ والتحقيق عدم وجوده.
أما الظهور العرفي فواضح، حيث لا موضوع له فيما نحن فيه، فإن الكلام هنا
إنما هو في إمكان أخذ قصد الأمر في متعلقه بدون أخذه مفروض الوجود وعدم
إمكانه، ومن الطبيعي أنه لا صلة للعرف بهذه الناحية.
وأما الحكم العقلي فأيضا كذلك، فلأن ملاكه: هو أن القيد لو لم يؤخذ مفروض
الوجود في مقام الإنشاء لزم التكليف بما لا يطاق، ومن المعلوم أنه لا يلزم من
عدم أخذ الأمر مفروض الوجود ذلك. والسبب فيه: أن الأمر الذي هو متعلق

(1) منها ما سوف يأتي في الجزء الرابع من هذا الكتاب بداية مبحث أمر الآمر مع انتفاء شرطه
ضمن الكلام في المرتبة الثانية وهي شرائط المجعول، فانتظر.
(2) قد مر ذكره في ص 157 فراجع.
159

للداعي والقصد يتحقق بمجرد جعله وإنشائه. ومن الطبيعي أن الأمر إذا تحقق
ووجد أمكن للمكلف الإتيان بالمأمور به بقصد هذا الأمر وبداعيه، ولا حاجة بعد
ذلك إلى أخذه مفروض الوجود في مقام الإنشاء.
وبكلمة واضحة: أن الأمر وإن كان خارجا عن قدرة المكلف واختياره. حيث
إنه فعل اختياري للمولى، كما أنه لا يمكن للمكلف الإتيان بشئ بقصده بدون
فرض تحققه ووجوده إلا أن كل ذلك لا يستدعي أخذه مفروض الوجود.
والوجه في ذلك: هو أن المعتبر في صحة التكاليف إنما هو قدرة المكلف على
الإتيان بمتعلقاتها بكافة الأجزاء والشرائط في مرحلة الامتثال وإن كان عاجزا
وغير قادر في مرحلة الجعل. وعلى هذا الضوء فالمكلف وإن لم يكن قادرا على
الإتيان بالصلاة - مثلا - بداعي أمرها وبقصده قبل إنشائه وجعله، ولكنه قادر على
الإتيان بها كذلك بعد جعله وإنشائه، وقد عرفت (1) كفاية ذلك، وعدم المقتضي
لاعتبار القدرة من حين الجعل. وعليه فلا مانع من تعلق التكليف بالصلاة مع قصد
أمرها، لفرض تمكن المكلف من الإتيان بها كذلك في مقام الامتثال. فإذا لا ملزم
لأخذه مفروض الوجود، فإن الملزم لأخذه كذلك هو لزوم التكليف بالمحال وهو
غير لازم في المقام.
ومن هنا يظهر: أن الأمر يمتاز عن بقية القيود غير الاختيارية في نقطة، وهي:
أنه يوجد بنفس الإنشاء والجعل دون غيره، ولأجله لا موجب لأخذه مفروض
الوجود.
فالنتيجة: هي أنه لا يلزم من أخذ قصد الأمر في متعلقه شئ من المحذورين
السابقين، حيث إن كليهما يرتكز على نقطة واحدة، وهي: أخذ الأمر مفروض
الوجود في مقام الإنشاء. وبانتفاء تلك النقطة انتفي المحذوران.
والوجه الثاني: ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) أيضا: من أن قصد الأمر والامتثال

(1) تقدم آنفا فلاحظ.
160

لو كان مأخوذا في متعلق نفسه لزم تقدم الشئ على نفسه، وهو مستحيل، وذلك
لأن القصد المزبور متأخر رتبة عن إتيان تمام أجزاء المأمور به وقيوده، حيث إن
قصد الأمر إنما يكون بهما، وبما أننا فرضنا من جملة تلك الأجزاء والقيود نفس
ذلك القصد الذي هو عبارة عن دعوة شخص ذاك الأمر فلابد وأن يكون المكلف
في مقام امتثاله قاصدا للامتثال قبل قصد امتثاله، فيلزم تقدم الشئ على نفسه.
وإن شئت قلت: إن معنى قصد الامتثال: هو الإتيان بالمأمور به بتمام أجزائه
وشرائطه الذي تعلق التكليف به كذلك بقصد امتثال أمره، فلو اخذ قصد الامتثال
متعلقا للتكليف لزم تقدمه على نفسه، فإنه باعتبار أخذه في متعلق التكليف لابد أن
يكون في مرتبة سابقة، وهي مرتبة الأجزاء، وباعتبار أنه لابد من الإتيان بتمام
الأجزاء والشرائط بقصد الامتثال لابد أن يكون في مرتبة متأخرة عنها، وهذا
معنى تقدم الشئ على نفسه (1).
الوجه الثالث: ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)، واليك نصه:
(إن التقرب المعتبر في التعبدي إن كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان
بالواجب بداعي أمره كان مما يعتبر في الطاعة عقلا، لا مما اخذ في نفس العبادة
شرعا، وذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلا من قبل الأمر بشئ في متعلق
ذاك مطلقا شرطا أو شطرا، فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر لا يكاد يمكن
إتيانها بقصد امتثال أمرها.
وتوهم إمكان تعلق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر وإمكان الإتيان بها بهذا
الداعي ضرورة إمكان تصور الأمر بها مقيدة، والتمكن من إتيانها كذلك بعد تعلق
الأمر بها، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الأمر إنما هو في حال
الامتثال لا حال الأمر واضح الفساد، ضرورة أنه وإن كان تصورها كذلك بمكان
من الإمكان إلا أنه لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها، لعدم الأمر بها، فإن
الأمر حسب الفرض تعلق بها مقيدة بداعي الأمر، ولا يكاد يدعو الأمر إلا إلى ما

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 149.
161

تعلق به، لا إلى غيره.
إن قلت: نعم، ولكن نفس الصلاة أيضا صارت مأمورة بها بالأمر بها مقيدة.
قلت: كلا، لأن ذات المقيد لا تكون مأمورة بها، فإن الجزء التحليلي لا يتصف
بالوجوب أصلا، فإنه ليس إلا وجود واحد واجب بالوجوب النفسي كما ربما
يأتي في باب المقدمة.
إن قلت: نعم، لكنه إذا اخذ قصد الامتثال شرطا، وأما إذا اخذ شطرا فلا محالة
نفس الفعل الذي تعلق الوجوب به مع هذا القصد يكون متعلقا للوجوب، إذ
المركب ليس إلا نفس الأجزاء بالأسر، ويكون تعلقه بكل بعين تعلقه بالكل،
ويصح أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب، ضرورة صحة الإتيان بأجزاء الواجب
بداعي وجوبه.
قلت: مع امتناع اعتباره كذلك، فإنه يوجب تعلق الوجوب بأمر غير اختياري،
فإن الفعل وإن كان بالإرادة اختياريا إلا أن إرادته حيث لا تكون بإرادة أخرى
- وإلا لتسلسلت - ليست باختيارية كما لا يخفى، إنما يصح الإتيان بجزء الواجب
بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي، ولا يكاد يمكن الإتيان بالمركب من
قصد الامتثال بداعي امتثال أمره) (1).
ملخص ما أفاده (قدس سره): أن قصد الأمر حيث إنه يكون متفرعا على الأمر
ومتأخرا عنه رتبة فلا يعقل أخذه في متعلقه لاستلزامه تقدم الشئ على نفسه،
وذلك لأن أخذه في متعلقه مع فرض كونه ناشئا عن حكمه معناه تقدمه على نفسه،
وهو مستحيل، فإذا لا يمكن أخذه فيه شرعا، بل لابد أن يكون اعتباره في
العبادات بحكم العقل.
الوجه الرابع: ما ذكره شيخنا المحقق (قدس سره): من أن لازم تقييد المأمور به
بداعي الأمر هو محذور لزوم عدمه من وجوده، وذلك لأن أخذ الإتيان بداعي

(1) كفاية الأصول: ص 95.
162

الأمر في متعلق الأمر يقتضي اختصاص ما عداه بالأمر، لما سمعت: من أن الأمر
لا يدعو إلا إلى ما تعلق به، وهو مساوق لعدم أخذه فيه، إذ لا معنى لأخذه فيه إلا
تعلق الأمر بالمجموع من الصلاة والإتيان بداعي الأمر فيلزم من أخذه فيه عدم
أخذه فيه، وما يلزم من وجوده عدمه محال (1).
الوجه الخامس: ما ذكره (قدس سره) أيضا، واليك نصه: (إن الأجزاء بالأسر ليس لها
إلا أمر واحد، ولا لأمر واحد إلا دعوة واحدة، فلا يكون الأمر داعيا إلى الجزء إلا
بعين دعوته إلى الكل، وحيث إن جعل الأمر داعيا إلى الصلاة مأخوذ في متعلق
الأمر في عرض الصلاة فجعل الأمر المتعلق بالمجموع داعيا إلى الصلاة بجعل
الأمر بالمجموع داعيا إلى المجموع، لتتحقق الدعوة إلى الصلاة في ضمن الدعوة
إلى المجموع، مع أن من المجموع الدعوة إلى الصلاة في ضمن الدعوة إلى
المجموع، فيلزم دعوة الأمر إلى جعل نفسه داعيا ضمنا إلى الصلاة، ومحركية
الأمر لمحركية نفسه إلى الصلاة عين عليته لعلية نفسه، ولا فرق بين علية الشئ
لنفسه وعليته لعليته) (2).
توضيحه: هو أن الأمر المتعلق بالمركب حيث إنه واحد فبطبيعة الحال كانت
له دعوة واحدة، فليست دعوته إلى الإتيان بكل جزء إلا في ضمن دعوته إلى
الكل لا على نحو الاستقلال، وعلى هذا فإذا افترضنا أن دعوة الأمر قد أخذت في
متعلق نفسه - يعني: أن المتعلق مركب من أمرين: الفعل الخارجي كالصلاة مثلا،
ودعوة أمرها - فلا محالة الأمر المتعلق بالمجموع يدعو إلى كل جزء في ضمن
دعوته إلى المجموع. مثلا: دعوته إلى الصلاة في ضمن دعوته إلى المجموع وكذا
دعوته إلى الجزء الآخر، وبما أن الجزء الآخر هو دعوة شخص ذلك الأمر فيلزم
من ذلك دعوة الأمر إلى دعوة نفسه إلى الصلاة ضمنا، أي: في ضمن الدعوة إلى
المجموع، وهذا معنى داعوية الأمر لداعوية نفسه المساوق لعلية التي لعلية نفسه.

(1) نهاية الدراية: ج 1 ص 196 و 199.
(2) نهاية الدراية: ج 1 ص 196 و 199.
163

ولكن تندفع تلك الوجوه بأجمعها ببيان نكتة واحدة. وتفصيل ذلك قد تقدم
في صدر المبحث: أن الواجب على قسمين: تعبدي وهو ما يعتبر فيه قصد القربة
فلا يصح بدونه. وتوصلي وهو ما لا يعتبر فيه قصد القربة فيصح بدونه (1). هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى: يمكن تصوير الواجب التعبدي على أنحاء:
الأول: أن يكون تعبديا بكافة أجزائه وشرائطه.
الثاني: أن يكون تعبديا بأجزائه مع بعض شرائطه.
الثالث: أن يكون تعبديا ببعض أجزائه دون بعضها الآخر.
أما النحو الأول: فالظاهر أنه لا مصداق له خارجا، ولا يتعدى عن مرحلة
التصور إلى الواقع الموضوعي.
وأما النحو الثاني: فهو واقع كثيرا في الخارج، حيث إن أغلب العبادات
الواقعة في الشريعة المقدسة الإسلامية من هذا النحو، منها: الصلاة مثلا، فإن
أجزاءها بأجمعها أجزاء عبادية. وأما شرائطها فجملة كثيرة منها: غير عبادية،
وذلك كطهارة البدن والثياب واستقبال القبلة وما شاكل ذلك، فإنها رغم كونها
شرائط للصلاة تكون توصلية وتسقط عن المكلف بدون قصد التقرب.
نعم، الطهارات الثلاث خاصة تعبدية فلا تصح بدونه.
وأضف إلى ذلك: أن تقييد الصلاة بتلك القيود أيضا لا يكون عباديا، فلو صلى
المكلف غافلا عن طهارة ثوبه أو بدنه ثم انكشف كونه طاهرا صحت صلاته، مع
أن المكلف غير قاصد للتقيد فضلا عن قصد التقرب به، فلو كان أمرا عباديا لوقع
فاسدا، لانتفاء القربة به، بل الأمر في التقيد بالطهارات الثلاث أيضا كذلك. ومن
هنا لو صلى غافلا عن الطهارة الحدثية ثم بان أنه كان واجدا لها صحت صلاته،
مع أنه غير قاصد لتقيدها بها فضلا عن إتيانه بقصد القربة، هذا ظاهر.

(1) راجع ص 153.
164

وأما النحو الثالث: وهو ما يكون بعض أجزائه تعبديا وبعضها الآخر توصليا
فهو أمر ممكن في نفسه ولا مانع منه، إلا أنا لم نجد لذلك مصداقا في الواجبات
التعبدية الأولية: كالصلاة والصوم وما شاكلها حيث إنها واجبات تعبدية بكافة
أجزائها.
ولكن يمكن فرض وجوده في الواجبات العرضية، وذلك كما إذا افترضنا أن
واحدا - مثلا - نذر بصيغة شرعية الصلاة مع إعطاء درهم لفقير على نحو العموم
المجموعي بحيث يكون المجموع بما هو المجموع واجبا، وكان كل منهما جزء
الواجب فعندئذ بطبيعة الحال يكون مثل هذا الواجب مركبا من جزءين: أحدهما
تعبدي وهو الصلاة. وثانيهما توصلي وهو إعطاء الدرهم. وكذلك يمكن وجوب
مثل هذا المركب بعهد أو يمين أو شرط في ضمن عقد أو نحو ذلك.
فالنتيجة: أنه لا مانع من الالتزام بهذا القسم من الواجب التعبدي إذا ساعدنا
الدليل عليه. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الأمر المتعلق بالمركب من عدة أمور فبطبيعة الحال
ينحل بحسب التحليل إلى الأمر بأجزائه وينبسط على المجموع، فيكون كل جزء
منه متعلقا لأمر ضمني ومأمورا به بذلك الأمر الضمني. مثلا: الأمر المتعلق بالصلاة
ينحل بحسب الواقع إلى الأمر بكل جزء منها، ويكون لكل منها حصة منه المعبر
عنها بالأمر الضمني، ومرد ذلك إلى انحلال الأمر الاستقلالي إلى عدة أوامر ضمنية
حسب تعدد الأجزاء.
ولكن هذا الأمر الضمني الثابت للأجزاء لم يثبت لها على نحو الإطلاق، مثلا:
الأمر الضمني المتعلق بالتكبيرة لم يتعلق بها على نحو الإطلاق، بل تعلق بحصة
خاصة منها، وهي ما كانت مسبوقة بالقراءة، وكذا الأمر الضمني المتعلق بالقراءة
فإنه إنما تعلق بحصة خاصة منها، وهي ما كانت مسبوقة بالركوع وملحوقة
بالتكبيرة، وكذلك الحال في الركوع والسجود ونحوهما.
وعلى ضوء ذلك يترتب أن المكلف لا يتمكن من الإتيان بالتكبيرة - مثلا -
165

بقصد أمرها بدون قصد الإتيان بالأجزاء الباقية، كما لا يتمكن من الإتيان بركعة
- مثلا - بدون قصد الإتيان ببقية الركعات.
وإن شئت قلت: إن الأمر الضمني المتعلق بالأجزاء يتشعب من الأمر بالكل،
وليس أمرا مستقلا في مقابله، ولذا لا يعقل بقاؤه مع انتفائه. ومن المعلوم أن الأمر
المتعلق بالكل يدعو المكلف إلى الإتيان بجميع الأجزاء، لا إلى الإتيان بجزء منها
مطلقا ولو لم يأت بالأجزاء الباقية. هذا إذا كان الواجب مركبا من جزءين أو أزيد
وكان كل جزء أجنبيا عن غيره وجودا وفي عرض الآخر.
وأما إذا كان الواجب مركبا من الفعل الخارجي وقصد أمره الضمني
كالتكبيرة، مثلا: إذا افترضنا أن الشارع أمر بها مع قصد أمرها الضمني فلا إشكال
في تحقق الواجب بكلا جزءيه وسقوط أمره إذا أتى المكلف به بقصد أمره كذلك.
أما الفعل الخارجي فواضح، لفرض أن المكلف أتى به بقصد الامتثال.
وأما قصد الأمر فأيضا كذلك، لأن تحققه وسقوط أمره لا يحتاج إلى قصد
امتثاله، لفرض أنه توصلي.
وبكلمة أخرى: أن الواجب في مثل الفرض مركب من جزء خارجي وجزء
ذهني وهو قصد الأمر. وقد تقدم أن الأمر المتعلق بالمركب ينحل إلى الأمر بكل
جزء جزء منه، وعليه فكل من الجزء الخارجي والجزء الذهني متعلق للأمر
الضمني (1)، غايته أن الأمر الضمني المتعلق بالجزء الخارجي تعبدي فيحتاج
سقوطه إلى قصد امتثاله. والأمر الضمني المتعلق بالجزء الذهني توصلي فلا يحتاج
سقوطه إلى قصد امتثاله. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد سبق أنه لا محذور في أن يكون الواجب مركبا من
جزء تعبدي وجزء توصلي (2).
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنه لا مانع من أن يكون مثل
الصلاة أو ما شاكلها مركبا من هذه الأجزاء الخارجية مع قصد أمرها الضمني.

(1) قد تقدم آنفا فراجع.
(2) قد تقدم آنفا فراجع.
166

وعليه فبطبيعة الحال الأمر المتعلق بها ينحل إلى الأمر بتلك الأجزاء وبقصد أمرها
كذلك، فيكون كل منها متعلقا لأمر ضمني، فعندئذ إذا أتى المكلف بها بقصد أمرها
الضمني فقد تحقق الواجب وسقط. وقد عرفت أن الأمر الضمني المتعلق بقصد
الأمر توصلي فلا يتوقف سقوطه على الإتيان به بقصد امتثال أمره (1).
ومن هنا يفترق هذا الجزء - وهو قصد الأمر - عن غيره من الأجزاء الخارجية،
فإن قصد الأمر الضمني في المقام محقق لتمامية المركب فلا حالة منتظرة له بعد
ذلك، وهذا بخلاف غيره من الأجزاء الخارجية، فإنه لا يمكن الإتيان بجزء بقصد
أمره إلا مع قصد الإتيان ببقية أجزاء المركب أيضا بداعي امتثال أمره. مثلا: لا
يمكن الإتيان بالتكبيرة بقصد أمرها إلا مع قصد الإتيان ببقية أجزاء الصلاة أيضا
بداعي امتثال أمرها، وإلا لكان الإتيان بها كذلك تشريعا محرما، لفرض عدم الأمر
بها إلا مرتبطة ببقية الأجزاء ثبوتا وسقوطا.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة، وهي: أن توهم استحالة أخذ قصد الأمر في
متعلقه يقوم على أساس أحد أمرين:
الأول: أخذ الأمر مفروض الوجود في مقام الجعل والإنشاء، ولكن قد تقدم
نقده بشكل موسع (2).
الثاني: أن يكون المأخوذ في متعلقه قصد الأمر الاستقلالي، بمعنى: أن يكون
الواجب مركبا من الفعل الخارجي وقصد الأمر كذلك، وهذا غير معقول، وذلك لأن
الفعل الخارجي مع فرض كونه جزء الواجب لا يعقل له الأمر الاستقلالي ليكون
الأمر متعلقا به مع قصد ذاك الأمر له، ضرورة أن الأمر المتعلق به في هذا الفرض لا
يمكن إلا الأمر الضمني، ففرض الأمر الاستقلالي له خلف، يعني: يلزم من فرض
تركب الواجب عدمه.
ولكن قد عرفت مما ذكرناه أنه لا واقع موضوعي لهذا التوهم أصلا، حيث إن

(1) تقدم في ص 160 فراجع.
(2) راجع تفصيله في ص 159 - 160.
167

المأخوذ في متعلقه على ما بيناه: هو قصد الأمر الضمني المتعلق به (1)، ولا مانع من
أن يكون الواجب مركبا منهما.
غاية ما يمكن أن يقال: إن لازم ذلك هو أن يكون أحد الأمرين الضمنيين
متأخرا عن الآخر رتبة. فإن الأمر الضمني المتعلق بالفعل المزبور مقدم رتبة عن
الأمر الضمني المتعلق بقصده، وهذا لا محذور فيه أصلا بعد القول بالانحلال.
وعلى ضوء هذا الأساس يظهر اندفاع جميع الوجوه المتقدمة:
أما الوجه الأول: فهو يبتنى على أن يكون المأخوذ في متعلق الأمر هو قصد
الأمر الاستقلالي، وأما إذا كان المأخوذ فيه هو قصد الأمر الضمني - كما هو
الصحيح - فلا يلزم المحذور المزبور، وذلك لأن قصد الأمر الضمني في كل جزء
إنما هو متأخر عن هذا الجزء لا عن جميع الأجزاء والشرائط. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد تقدم في مبحث الصحيح والأعم: أنه لا مانع من أن
يكون الواجب مركبا من جزءين طوليين، ومن لحاظهما شيئا واحدا وجعلهما
متعلقا لأمر واحد (2)، وما نحن فيه من هذا القبيل.
فالنتيجة: أن هذا الوجه ساقط على ضوء ما قدمناه.
وأما الوجه الثاني: فهو أيضا يقوم على أساس أن يكون المأخوذ في متعلق
الأمر كالصلاة - مثلا - هو قصد الأمر النفسي الاستقلالي، فعندئذ لا يتمكن المكلف
من الإتيان بها واجدة لتمام الأجزاء والشرائط، منها: قصد الأمر الاستقلالي إلا
تشريعا حيث لا أمر بها كذلك، لفرض أنها جزء الواجب، والأمر المتعلق بالجزء
لا يعقل أن يكون أمرا استقلاليا، وإلا لزم الخلف، بل لابد أن يكون أمرا ضمنيا.
وأما إذا افترضنا أن المأخوذ فيه هو قصد الأمر الضمني فلا يلزم ذلك
المحذور، لتمكن المكلف وقتئذ من الإتيان بالصلاة مع قصد أمرها الضمني،
وبذلك يتحقق المركب بكلا جزءيه.

(1) تقدم آنفا فلاحظ.
(2) راجع الجزء الأول من هذا الكتاب ص 156 - 157.
168

وبكلمة أخرى: أن المكلف وإن لم يتمكن من الإتيان بها بداعي أمرها قبل
إنشائه وفي ظرفه إلا أنه متمكن منه كذلك في ظرف الامتثال. وقد أشرنا: أن
المعتبر في باب التكاليف إنما هو القدرة على امتثالها في هذا الظرف دون ظرف
الإنشاء، فلو افترضنا أن المكلف غير متمكن في ظرف الإنشاء ولكنه متمكن في
ظرف الامتثال صح تكليفه (1).
فالنتيجة: أن التشريع يقوم على أساس أن يكون المأخوذ في المتعلق هو
داعوية الأمر النفسي الاستقلالي. وعدم القدرة يقوم على أساس أن يكون المعتبر
هو القدرة على متعلقات الأحكام من حين الأمر. وقد عرفت أنه لا واقع
موضوعي لكلا الأمرين (2)، فإذا لا يلزم من أخذه في المتعلق من المحذورين
المزبورين كما هو واضح.
وأما الوجه الثالث: فلأنه أيضا مبتن على أن يكون المأخوذ في المتعلق هو
قصد الأمر النفسي الاستقلالي، فعندئذ بطبيعة الحال يلزم من فرض وجوده عدمه،
وذلك لأن معنى أخذ داعوية الأمر بالصلاة في متعلقه: هو أن الصلاة جزء
الواجب، فإذا كانت جزء الواجب فلا محالة الأمر المتعلق بها ضمني لا استقلالي،
فإذن يلزم من وجوده عدمه، وهو محال. ولكن قد عرفت أن المأخوذ فيه إنما هو
قصد الأمر الضمني (3)، وعليه فلا موضوع لهذا الوجه كما هو واضح.
وأما الوجه الرابع: فلأنه يقوم على أساس أن يكون ما اخذ داعويته في متعلق
الأمر كالصلاة - مثلا - عين ما يدعو إليه، فعندئذ بطبيعة الحال يلزم داعوية الأمر
لداعوية نفسه.
ولكن قد ظهر من ضوء ما حققناه: أن الأمر ليس كذلك، فإن المأخوذ في
المتعلق إنما هو داعوية الأمر الضمني، وما يدعو إلى داعويته إنما هو أمر ضمني
آخر. ومن الطبيعي أنه لا مانع من أن يكون أحد أمرين متعلقا لأمر آخر ويدعو

(1) قد تقدم في ص 160 فراجع.
(2) قد تقدم في ص 160 و 167 فراجع.
(3) تقدم في ص 164 فراجع.
169

إلى داعويته، بداهة أنه لا يلزم من ذلك داعوية الأمر لداعوية نفسه.
بيان ذلك: أن الأمر المتعلق بالصلاة - مثلا - مع داعوية أمرها الضمني بطبيعة
الحال ينحل ذلك الأمر إلى أمرين ضمنيين: أحدهما متعلق بذات الصلاة، والآخر
متعلق بداعوية هذا الأمر، يعني: الأمر المتعلق بذات الصلاة، ولا محذور في أن
يكون الأمر الضمني يدعو إلى داعوية الأمر الضمني الآخر. كما أنه لا مانع من أن
يكون الأمر النفسي الاستقلالي يدعو إلى داعوية الأمر النفسي الآخر كذلك. نعم،
لو كان المأخوذ فيه الأمر النفسي الاستقلالي لزم داعوية الأمر لداعوية نفسه.
قد انتهينا في نهاية المطاف إلى هذه النتيجة، وهي: أنه لا محذور في أخذ
داعوية الأمر الضمني في متعلق الأمر النفسي الاستقلالي:
لا من ناحية التشريع، لابتنائه على عدم الأمر بذات الفعل الخارجي كالصلاة
مثلا، ولكن قد عرفت خلافه، وأن الأمر الاستقلالي بها وإن كان منتفيا إلا أن الأمر
الضمني موجود (1).
ولا من ناحية عدم القدرة، لابتنائه على اعتبار القدرة على متعلقات التكاليف
من حين الأمر، وقد عرفت نقده (2).
ولا من ناحية الخلف، لابتنائه على أن يكون المأخوذ فيه داعوية الأمر
الاستقلالي، ولكن قد سبق خلافه (3).
ولا من ناحية داعوية الأمر لداعوية نفسه، لابتنائه على أن يكون الأمر
المتعلق بالصلاة مع داعوية أمرها عين ذلك الأمر، ولكن قد مر خلافه (4)، وأن
الأمر المتعلق بالمجموع حيث إنه ينحل إلى أمرين ضمنيين فلا مانع من أن يكون
أحد الأمرين متعلقا للآخر، ولا يلزم من ذلك المحذور المذكور.
وإن شئت قلت: إن هذا المركب يمتاز عن بقية المركبات في نقطتين:
الأولى: أن الإتيان بجزء في بقية المركبات لا يمكن بداعي أمره الضمني إلا

(1) مر ذكره في ص 168 فراجع.
(2) قد تقدم في ص 160 و 169 فراجع.
(3) قد تقدم في ص 160 و 169 فراجع.
(4) تقدم آنفا فلاحظ.
170

في ضمن الإتيان بالمجموع، وإلا لكان تشريعا محرما. وأما الإتيان به في هذا
المركب بقصد أمره الضمني فلا مانع منه، بل هو موجب لسقوط الأمر عنه، لفرض
أن المركب تحقق به بكلا جزءيه، ولا يتوقف تحقق جزئه الآخر - وهو قصد
الأمر - إلى قصد امتثال أمره، لما عرفت من أن الأمر المتعلق به توصلي ولا معنى
لكونه تعبديا (1).
الثانية: أن الأوامر الضمنية في بقية المركبات أوامر عرضية فلا يكون شئ
منها في طول الآخر. وأما في هذا المركب فهي أوامر طولية، فإن الأمر الضمني
المتعلق بذات الصلاة - مثلا - في مرتبة متقدمة بالإضافة إلى الأمر الضمني المتعلق
به، وهو في طوله وفي مرتبة متأخرة عنه، ولذا جعله داعيا إلى الصلاة.
وقد تحصل من جميع ما ذكرناه: أنه لا مانع من أخذ قصد الأمر في متعلقه
في مقام الثبوت. وأما في مقام الإثبات فإن كان هنا دليل يدلنا على أخذه فيه فهو،
وإلا فمقتضى الإطلاق عدم أخذه، وكون الواجب توصليا.
فالنتيجة في نهاية الشوط: عدم تمامية الدعوى الأولى، وهي: استحالة تقييد
الواجب بقصد أمره.
وأما الدعوى الثانية - وهي أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق (2) -
فالكلام فيها يقع في موردين:
الأول: أن التقابل بين الإطلاق والتقييد هل هو من تقابل العدم والملكة، أو
من تقابل التضاد؟
الثاني: على فرض أن التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة فهل استحالة
التقييد تستلزم استحالة الإطلاق أم لا؟
أما المورد الأول: فقد اختار شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن التقابل بينهما تقابل العدم
والملكة، وفرع على ذلك أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق (3)،

(1) قد مر ذكره في ص 166 فراجع.
(2) قد مرت الدعوى الأولى في ص 154.
(3) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 146.
171

وبالعكس، ومن هنا فرق (قدس سره) بين الحالات والانقسامات الأولية التي تعرض على
الموضوع أو المتعلق، وبين الحالات والانقسامات الثانوية التي تعرض عليه
بملاحظة تعلق الحكم به.
وقال: إن الإطلاق والتقييد إنما يتصوران بالإضافة إلى الانقسامات والقيود
الأولية، ولا يتصوران بالإضافة إلى الانقسامات والقيود الثانوية، حيث إن التقييد
بها مستحيل، فإذا استحال التقييد استحال الإطلاق أيضا، ومن تلك القيود الثانوية
قصد الأمر، وحيث إن تقييد الواجب به مستحيل فإطلاقه كذلك.
ولكن الصحيح: هو التفصيل بين مقامي الإثبات والثبوت.
أما في مقام الإثبات: فلا ينبغي الشك في أن التقابل بينهما من تقابل العدم
والملكة وذلك لأن الإطلاق في هذا المقام: عبارة عن عدم التقييد بالإضافة إلى ما
هو قابل له، كما إذا فرض أن المتكلم في مقام البيان وهو متمكن من الإتيان بالقيد
ومع ذلك لم يأت به فعندئذ تحقق إطلاق لكلامه، ومن الطبيعي أن مرد هذا
الإطلاق ليس إلا إلى عدم بيان المتكلم القيد، فالإطلاق في هذا المقام ليس أمرا
وجوديا، بل هو أمر عدمي. وهذا بخلاف التقييد فإنه أمر وجودي وعبارة عن
خصوصية زائدة في الموضوع أو المتعلق.
وعلى الجملة: فالمتكلم إذا كان في مقام البيان فإن نصب قرينة على اعتبار
خصوصية زائدة فيه فلا إطلاق لكلامه من هذه الناحية. وإن لم ينصب قرينة على
اعتبارها فله إطلاق، ولا مانع من التمسك به، ومنه يستكشف الإطلاق في مقام
الثبوت. ومن الواضح أن الإطلاق بهذا المعنى أمر عدمي، كما أن التقييد المقابل له
أمر وجودي.
فالنتيجة: أن استحالة التقييد في هذا المقام تستلزم استحالة الإطلاق،
وبالعكس.
وأما في مقام الثبوت فالصحيح: أن المقابلة بينهما مقابلة الضدين لا العدم
والملكة، وذلك لأن الإطلاق في هذا المقام: عبارة عن رفض القيود
172

والخصوصيات، ولحاظ عدم دخل شئ منها في الموضوع أو المتعلق، والتقييد:
عبارة عن لحاظ دخل خصوصية من الخصوصيات في الموضوع أو المتعلق. ومن
الطبيعي أن كلا من الإطلاق والتقييد بهذا المعنى أمر وجودي.
بيان ذلك: أن الخصوصيات والانقسامات الطارئة على الموضوع أو المتعلق
سواء كانت تلك الخصوصيات من الخصوصيات النوعية أو الصنفية أو الشخصية
فلا تخلو: من أن يكون لها دخل في الحكم والغرض، أو لا يكون لها دخل فيه
أصلا، ولا ثالث لهما.
فعلى الأول بطبيعة الحال يتصور المولى الموضوع أو المتعلق مع تلك
الخصوصية التي لها دخل فيه، وهذا هو معنى التقييد.
وعلى الثاني فلا محالة يتصور الموضوع أو المتعلق مع لحاظ عدم خصوصية
من هذه الخصوصيات ورفضها تماما، وهذا هو معنى الإطلاق. ومن الطبيعي أن
النسبة بين اللحاظ الأول واللحاظ الثاني نسبة التضاد، فلا يمكن اجتماعهما في
شئ واحد من جهة واحدة.
وإن شئت فقل: إن الغرض لا يخلو: من أن يقوم بالطبيعي الجامع بين كافة
خصوصياته، أو يقوم بحصة خاصة منه، ولا ثالث بينهما.
فعلى الأول لابد من لحاظه على نحو الإطلاق والسريان، رافضا عنه جميع
القيود والخصوصيات الطارئة عليه أثناء وجوده وتخصصه.
وعلى الثاني لابد من لحاظ تلك الحصة الخاصة، ولا يعقل لهما ثالث، فإن
مرد الثالث - وهو لحاظه بلا رفض الخصوصيات وبلا لحاظ خصوصية خاصة -
إلى الإهمال في الواقعيات، ومن الطبيعي أن الإهمال فيها من المولى الملتفت
مستحيل، وعليه فالموضوع أو المتعلق في الواقع: إما مطلق أو مقيد. هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الإطلاق والتقييد على ضوء هذا البيان أمران
وجوديان، فإذا بطبيعة الحال كانت العلاقة بينهما علاقة الضدين.
173

وأما المورد الثاني: وهو ما إذا سلمنا أن المقابلة بين الإطلاق والتقييد مقابلة
العدم والملكة لا الضدين، وافترضنا أن التقييد في محل الكلام مستحيل لتمامية
الوجوه المتقدمة أو بعضها فهل تستلزم استحالة التقييد استحالة الإطلاق أم لا؟
قولان:
قد اختار شيخنا الأستاذ (قدس سره) القول الأول، بدعوى: أن لازم كون التقابل بين
الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة اعتبار كون المورد قابلا للتقييد، فما لم يكن
قابلا له لم يكن قابلا للإطلاق أيضا (1).
ولكن الصحيح: هو أن استحالة التقييد بشئ في مرحلة الثبوت تستلزم
ضرورة الإطلاق فيها، أو ضرورة التقييد بخلافه. فلنا دعويان:
الأولى: بطلان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره).
الثانية: صحة ما قلناه.
أما الدعوى الأولى: فهي خاطئة نقضا وحلا.
أما نقضا فبعدة موارد:
منها: أن الإنسان جاهل بحقيقة ذات الواجب تعالى، ولا يتمكن من الإحاطة
بكنه ذاته سبحانه حتى نبينا محمد (صلى الله عليه وآله)، وذلك لاستحالة إحاطة الممكن بالواجب،
فإذا كان علم الإنسان بذاته تعالى مستحيلا لكان جهله بها ضروريا، مع أن التقابل
بين الجهل والعلم من تقابل العدم والملكة، فلو كانت استحالة أحدهما تستلزم
استحالة الآخر لزم استحالة الجهل في مفروض المقام، مع أنه ضروري وجدانا.
ومنها: أن الإنسان يستحيل أن يكون قادرا على الطيران في السماء، مع أن
عجزه عنه ضروري وليس بمستحيل، فلو كانت استحالة أحد المتقابلين بتقابل
العدم والملكة تستلزم استحالة الآخر لكانت استحالة القدرة في مفروض المثال
تستلزم استحالة العجز، مع أن الأمر ليس كذلك.
ومنها: أن كل أحد يستطيع - مثلا - حفظ صفحة أو أكثر من أي كتاب شاء

(1) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 146.
174

وأراد، ولكنه لا يستطيع حفظ جميع الكتب بشتى أنواعها وفنونها، بل لا يستطيع
حفظ مجلدات البحار - مثلا - أجمع، وهذا لا يستلزم خروجه عن القابلية بتاتا،
وأنه لا يستطيع حفظ صفحة واحدة أيضا، ببيان: أن استحالة أحد المتقابلين
بتقابل العدم والملكة تستلزم استحالة الآخر، بداهة أن استطاعته لحفظ صفحة
واحدة ضرورية.
وأما حلا فلأن قابلية المحل المعتبرة في التقابل المذكور لا يلزم أن تكون
شخصية في جزئيات مواردها، بل يجوز أن تكون صنفية أو نوعية أو جنسية.
ومن هنا ذكر الفلاسفة: أن القابلية المعتبرة بين الأعدام والملكات ليست
القابلية الشخصية بخصوصها في كل مورد، بل الأعم منها ومن القابلية الصنفية
والنوعية والجنسية حسب اختلاف الموارد والمقامات، فلا يعتبر في صدق العدم
المقابل للملكة على مورد أن يكون ذلك المورد بخصوصه قابلا للاتصاف
بالوجود، أي: الملكة، بل كما يكفي ذلك يكفي في صدقه عليه أن يكون صنف هذا
الفرد أو نوعه أو جنسه قابلا للاتصاف بالوجود وإن لم يكن شخص هذا الفرد قابلا
للاتصاف به (1).
ويتضح ذلك ببيان الأمثلة المتقدمة، فإن الانسان قابل للاتصاف بالعلم
والمعرفة، ولكن قد يستحيل اتصافه به في خصوص مورد لأجل خصوصية فيه،
وذلك كالعلم بذات الواجب تعالى حيث يستحيل اتصاف الإنسان به، مع أن صدق
العدم - وهو الجهل - عليه ضروري، ومن الطبيعي أن هذا ليس إلا من ناحية أن
القابلية المعتبرة في الأعدام والملكات ليست خصوص القابلية الشخصية.
وكذلك الحال في المثال الثاني، فإن اتصاف الإنسان بالعجز عن الطيران إلى
السماء بلحاظ قابليته في نفسه للاتصاف بالقدرة، لا بلحاظ إمكان اتصافه بها في
خصوص هذا المورد، وقد عرفت أنه يكفي في صدق العدم القابلية النوعية (2)،

(1) انظر الأسفار: ج 7 ص 116 في أصناف التقابل.
(2) مر ذكره آنفا فلاحظ.
175

وهي موجودة في مفروض المثال.
وهكذا الحال في المثال الثالث، فإن استطاعة كل أحد لحفظ صفحة أو أكثر
وعدم استطاعته لحفظ جميع مجلدات البحار - مثلا - لا يوجب خروجه عن
القابلية النوعية أو الجنسية.
وقد تحصل من ذلك بوضوح: أنه لا يعتبر في صدق العدم المقابل للملكة
على مورد قابلية ذلك المورد بشخصه للاتصاف بتلك الملكة، بل يكفي في ذلك
قابلية صنفه أو نوعه أو جنسه للاتصاف بها.
فالنتيجة: أنه لا ملازمة بين الأعدام والملكات في الإمكان والاستحالة.
ولعل ما أوقعه شيخنا الأستاذ (قدس سره) في هذا الوهم ما هو المشهور في الألسنة:
من اعتبار قابلية المحل للوجود في التقابل المزبور. ومن هنا لا يصح إطلاق
العمى على الجدار مثلا، لعدم كونه قابلا للاتصاف بالبصر. وكذا لا يصح إطلاق
الجاهل أو العاجز عليه، لعدم القابلية الشخصية في تمام جزئيات مواردها، ولكن
قد عرفت خلافه. وأما عدم صحة الإطلاق في هذه الأمثلة فمن ناحية فقدان
القابلية بتمام أشكالها.
وأما الدعوى الثانية - وهي أن استحالة التقييد تستلزم ضرورة الإطلاق أو
ضرورة التقييد بخلافه - فلأن الإهمال في الواقعيات مستحيل، وذلك لأن الغرض
الداعي إلى جعل الحكم واعتباره لا يخلو: من أن يقوم بالطبيعي الجامع بين
خصوصياته من دون مدخلية شئ منها فيه، أو يقوم بحصة خاصة منه، ولا ثالث
لهما.
فعلى الأول: لا محالة يلاحظه المولى في مقام جعل الحكم واعتباره على
نحو الإطلاق.
وعلى الثاني: لا محالة يلاحظ تلك الحصة الخاصة منه فحسب. وعلى كلا
التقديرين فالاهمال في الواقع غير معقول، فالحكم على الأول مطلق، وعلى
الثاني مقيد. ولا فرق في ذلك بين الانقسامات الأولية والثانوية، بداهة أن المولى
176

الملتفت إلى انقسام الصلاة مع قصد الأمر وبدونه خارجا وفي الواقع بطبيعة الحال:
إما أن يعتبرها في ذمة المكلف على نحو الإطلاق، أو يعتبرها مقيدة بقصد الأمر،
أو مقيدة بعدم قصده، ولا يتصور رابع، لأن مرد الرابع إلى الإهمال بالإضافة إلى
هذه الخصوصيات، وهو غير معقول، كيف؟ حيث إن مرجعه إلى عدم علم المولى
بمتعلق حكمه أو موضوعه من حيث السعة والضيق وتردده في ذلك، ومن الطبيعي
أن تردده فيه يستلزم تردده في نفس حكمه وهو من الحاكم غير معقول، وعندئذ
إذا افترضنا استحالة تقييدها بقصد الأمر فبطبيعة الحال تعين أحد الأمرين
الآخرين، هما: الإطلاق أو التقييد بخلافه. وإذا فرضنا أن التقييد بخلافه أيضا
مستحيل - كما هو كذلك - حيث إن الغرض من الأمر هو كونه داعيا فلا معنى لتقييد
المأمور به بعدم كونه داعيا فلا محالة يتعين الإطلاق.
وعلى الجملة: فلازم ما أفاده (قدس سره): من أن استحالة التقييد في مورد تستلزم
استحالة الإطلاق فيه إهمال الواقع، وأنه لا يكون مقيدا به ولا يكون مطلقا، وقد
عرفت (1) أن مرجع هذا إلى عدم علم الحاكم بحدود موضوع حكمه أو متعلقه من
حيث السعة والضيق، وهو غير معقول.
وعليه حيث استحال تقييد المأمور به كالصلاة - مثلا - بقصد الأمر على
مختاره (قدس سره) للوجوه المتقدمة من ناحية، واستحال تقييده بعدم قصده من ناحية
أخرى، حيث إنه على خلاف الغرض من الأمر فالإطلاق ضروري، يعني: أن
المأمور به هو الطبيعي الجامع بلا دخل لقصد الأمر فيه وجودا وعدما. ولا فرق في
ذلك بين قيود الموضوع وقيود المتعلق. وكذا لا فرق بين القيودات الأولية
والقيودات الثانوية، ضرورة أن الإهمال كما لا يعقل بالإضافة إلى القيودات
الأولية كذلك لا يعقل بالإضافة إلى القيودات الثانوية، فإن الحكم المجعول من
قبل المولى الملتفت إلى تلك القيودات لا يخلو: من أن يكون مطلقا بإطلاق
موضوعه أو متعلقه بالإضافة إليها، يعني: لا دخل لشئ منها فيه، أو يكون مقيدا

(1) قد تقدم آنفا فلاحظ.
177

بها، ولا ثالث في البين. وعليه فإذا افترضنا استحالة التقييد بقيد فلا محالة أحد
الأمرين ضروري: إما الإطلاق، أو التقييد بغيره، لاستحالة الإهمال في الواقع.
والى ذلك أشار شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) بقوله: من أنه إذا استحال
التقييد وجب الإطلاق (1).
نعم، الإهمال في مقام الإثبات والدلالة أمر معقول، وذلك لأن المولى إذا كان
في مقام البيان: فإن نصب قرينة على التقييد دل كلامه على ذلك، وإن لم ينصب
قرينة على ذلك دل على الإطلاق. وأما إذا لم يكن في مقام البيان وكان في مقام
الإهمال والإجمال: إما لأجل مصلحة فيه، أو لوجود مانع لم يدل كلامه لا على
الإطلاق ولا على التقييد، وأصبح مهملا فلا يمكن التمسك به.
ولعل من هذا القبيل قوله تعالى: * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصلاة) * (2)، فإن الآية الكريمة تشير إلى وجوب القصر عند
تحقق الضرب في الأرض، ولكنها أهملت التعرض لمقدار الضرب وتحديده
بحدوده الخاصة، فتكون مهملة من هذه الناحية فلا يمكن التمسك بإطلاقها.
وأمثلة ذلك كثيرة في الآيات والروايات، إلا أن الإطلاق والتقييد في مقام
الإثبات خارج عن محل البحث هنا، حيث إنه في الإطلاق والتقييد في مرحلة
الثبوت والواقع كما عرفت (3).
وقد تحصل من ذلك عدة نقاط:
الأولى: أن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل الضدين، لا العدم والملكة كما

(1) في المطارح: ص 49 في مبحث التعبدي والتوصلي كما صرح به في الأجود: ج 1
ص 112 حيث قال في الأمر الثالث: (اختلفت كلمات الأصحاب في مقتضى الأصل
اللفظي، فاختار جماعة - ومنهم المحقق الأنصاري (قدس سره) - أصالة التوصلية). ثم قال: (واستدل
العلامة الأنصاري (قدس سره) على مختاره بعدم إمكان التقييد فيثبت الإطلاق، وبمثل هذا استدل
على شمول الخطاب للجاهلين وعدم اختصاصه بالعالمين، وعلى عموم وجوب المقدمة
لغير الموصلة).
(2) النساء: 101.
(3) تقدمت الإشارة إليه من المصنف في ص 172 فراجع.
178

اختاره شيخنا الأستاذ (قدس سره).
الثانية: أننا لو افترضنا أن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة لا التضاد إلا أن
ما أفاده (قدس سره): من أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق خاطئ، وذلك لأنها
تقوم على أساس اعتبار القابلية الشخصية في العدم والملكة، ولكن قد عرفت أن
القابلية المعتبرة أعم من أن تكون شخصية أو صنفية أو نوعية أو جنسية (1).
الثالثة: أن استحالة التقييد بشئ تستلزم ضرورة الإطلاق أو التقييد بغيره،
لاستحالة الإهمال في الواقع. هذا تمام الكلام في إمكان أخذ قصد الأمر في
متعلقه وعدم إمكانه.
يبقى الكلام في بقية الدواعي القربية: كقصد المحبوبية، أو قصد المصلحة، أو
الإتيان بالعبادة بداعي أن الله سبحانه وتعالى أهلا لها، أو غير ذلك فهل يمكن
اعتبار تلك الدواعي في متعلق الأمر أم لا؟ وعلى تقدير الإمكان فهل يجوز
التمسك بالإطلاق لإثبات عدم اعتبارها أو لا يجوز؟
فالبحث هنا يقع في مقامين:
الأول: في إمكان أخذها في متعلق الأمر وعدم إمكانه.
الثاني: في جواز التمسك بالإطلاق وعدم جوازه.
أما المقام الأول: فذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) إلى أن أخذ تلك
الدواعي في متعلق الأمر وإن كان بمكان من الإمكان إلا أنا نعلم قطعا بعدم
أخذها في العبادات، وذلك لأن تلك الدواعي لو كانت مأخوذة في متعلق الأمر لم
تصح العبادة بدون قصدها وإن كان قاصدا لامتثال الأمر، مع أنه لا شبهة في
صحتها إذا اتي بها بداعي أمرها من دون الالتفات إلى أحد هذه الدواعي فضلا عن
قصدها، وهذا كاشف قطعي عن عدم اعتبارها (2).
فالنتيجة: أن الدواعي القربية بكافة أصنافها لم تؤخذ في متعلق الأمر، غاية

(1) تقدم في ص 175 فراجع.
(2) انظر كفاية الأصول: ص 97.
179

الأمر عدم أخذ بعضها من ناحية الاستحالة، وبعضها الآخر من ناحية وجود القطع
الخارجي.
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره)، وذلك لأن ما ذكره من صحة العبادة مع قصد
أمرها وبدون قصد تلك الدواعي لا يكشف إلا عن عدم اعتبارها بالخصوص.
وأما اعتبار الجامع بين الجميع وهو إضافة العمل إليه تعالى فهو بمكان من
الإمكان. ولا دليل فيما ذكره (قدس سره) على عدم اعتباره، فلعل صحة العبادة المأتي بها
بداعي أمرها إنما هي من ناحية تحقق الجامع القربى به.
وبكلمة واضحة: أننا لو افترضنا أن تقييد العبادة بقصد الأمر مستحيل،
وافترضنا أيضا اليقين الخارجي بعدم تقييدها ببقية الدواعي القربية أيضا ولكنه لا
مانع من تقييدها بالجامع لا من الناحية الأولى، لما عرفت من أن الجامع بين
المقدور وغير المقدور مقدور، ولا مانع من تعلق التكليف به (1).
وعليه فعدم إمكان تقييد العبادة بخصوص قصد الأمر لا يستلزم عدم إمكان
تقييدها بالجامع بينه وبين غيره من الدواعي، لعدم الملازمة بينهما أصلا.
ولا من الناحية الثانية، لعدم القطع الخارجي بعدم اعتباره أيضا. فإذا لا مانع
من أخذ الجامع القربى بين هذه الدواعي في العبادة.
وتوهم: أن لازم ذلك هو أن يكون الإتيان بذات الصلاة - مثلا - بداعي أمرها
تشريعا ومحرما، لفرض أن الأمر قد تعلق بها مع قصد ذلك الجامع ولا يتعلق بذات
الصلاة وحدها، مع أنه لا شبهة في صحة الإتيان بها بداعي أمرها، ومن الطبيعي أن
ذلك يكشف عن تعلق الأمر بذاتها لا بها مع قصد التقرب، وعليه فكيف يحتمل
أخذ الجامع القربى؟ فيها خاطئ جدا، لما تقدم بشكل موسع في ضمن البحوث
السابقة: من أن الإتيان بالعبادة بداعي أمرها لا يستدعي تعلق الأمر النفسي
الاستقلالي بذاتها، بل يمكن الإتيان بها بداعي أمرها الضمني (2)، والمفروض أن
الأمر الضمني موجود، فإذا لا تشريع في البين أصلا.

(1) سبق ذكره في ص 147 فراجع.
(2) راجع ص 167 وما بعدها.
180

ولشيخنا الأستاذ (قدس سره) في المقام كلام، وهو: أن الدواعي القربية حيث كانت
بأجمعها في عرض واحد وأن الجامع بين الجميع هو كون العمل لله تعالى كما
يستفاد من قوله (عليه السلام): " وكان عمله بنية صالحة يقصد بها ربه " (1) فلا يمكن أخذها
في المأمور به، وذلك لأن الداعي أيا منها فرض فهو في مرتبة سابقة على الإرادة
المحركة للعمل، فإذا كان كذلك استحال كونه في عرض العمل الصادر عن الإرادة
التكوينية، فإن المفروض سبقه على الإرادة حيث إن الإرادة تنبعث منه، والعمل
متأخر عن الإرادة على الفرض، فإذا لم يمكن وقوع الداعي في حيز الإرادة
التكوينية فلا يمكن وقوعه في حيز الإرادة التشريعية أيضا، بداهة أن متعلق
الإرادة التشريعية هو بعينه ما يوجده العبد في الخارج وتنطق به إرادته التكوينية،
فلو لم يمكن تعلق الإرادة التكوينية بشئ لم يمكن تعلق الإرادة التشريعية به
أيضا (2).
أو فقل: إن الداعي حيث كان علة لحدوث الإرادة التكوينية في نفس المكلف
كان مقدما عليها رتبة وهي متأخرة عنه كذلك، فلو افترضنا أن الإرادة تتعلق به
لزم كونها مقدمة عليه رتبة، ومرد هذا إلى تقدم الشئ على نفسه وهو محال، فإذا
لم يمكن أخذ كل واحد من تلك الدواعي في المأمور به لم يمكن أخذ الجامع بينها
فيه بعين البيان المذكور.
ولنأخذ بالمناقشة عليه: أولا بالنقض، وثانيا بالحل.
أما الأول: فلو تم ما أفاده (قدس سره) من عدم إمكان تعلق الإرادة التشريعية
والتكوينية بداع من الدواعي القربية لكان ذلك موجبا لعدم إمكان تعلقهما به بمتمم
الجعل، وبالأمر الثاني أيضا، مع أنه (قدس سره) قد التزم بإمكان أخذه بالأمر الثاني.
والسبب في ذلك: هو ما عرفت (3) من أن الداعي عبارة عما تنبعث الإرادة منه
في نفس المكلف للقيام بالعمل، وعليه فبطبيعة الحال تكون الإرادة متأخرة عنه،

(1) لم نعثر عليه في المتون الروائية.
(2) أجود التقريرات ج 1 ص 109.
(3) مر ذكره آنفا فلاحظ.
181

فإذا كيف يعقل أن تتعلق الإرادة به كما تتعلق بالفعل الخارجي؟ ومن الواضح أنه
لا فرق في استحالة أخذه في متعلق الإرادة بين أن يكون بالأمر الأول أو بالأمر
الثاني.
وأما الثاني: فلأن ما أفاده (قدس سره) إنما يتم في الإرادة الشخصية حيث إنها لا يعقل
أن تتعلق بما تنبعث منه، بداهة استحالة تعلق الإرادة الناشئة عن داع بذلك الداعي،
لتأخرها عنه رتبة فكيف تتقدم عليه كذلك؟
أو فقل: إن هذه الإرادة معلولة لذلك الداعي فكيف يعقل أن تتقدم عليه
وتتعلق به؟
وأما تعلق فرد آخر من الإرادة به غير الفرد الناشئ منه فلا استحالة فيه أصلا،
وما نحن فيه من هذا القبيل، وذلك لأن الواجب فيه مركب على الفرض من فعل
خارجي كالصلاة مثلا، وفعل نفساني كأحد الدواعي القربية، حيث إنه فعل
اختياري للنفس يصدر عنها باختيارها وإرادتها وبلا واسطة إحدى قواها كقصد
الإقامة وما شاكله. وقد تقدم تفصيل ذلك بصورة موسعة في ضمن البحوث
السابقة (1). هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد ذكرنا سابقا بشكل مفصل: أن الملاك في كون الفعل
اختياريا ما كان مسبوقا بإعمال القدرة والاختيار، سواء أكان من الأفعال
الخارجية أم كان من الأفعال النفسانية (2).
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أن الاختيار المتعلق بالفعل
الخارجي كالصلاة - مثلا - غير الاختيار المتعلق بالفعل النفساني، فإن تعدد الفعل
- بطبيعة الحال - يستلزم تعدد الاختيار وإعمال القدرة فلا يعقل تعلق اختيار
واحد بهما معا، فإذا لا يلزم المحذور المتقدم، حيث إن الاختيار المتعلق بالفعل
الخارجي هو الناشئ عن الفعل النفساني، يعني: أحد الدواعي القربية، والاختيار
المتعلق به غير ذلك الاختيار ولم ينشأ منه.

(1) راجع ص 166.
(2) قد تقدم في ص 58 - 59 فراجع.
182

وأما ما أفاده (قدس سره): من أن الإرادة التشريعية تتعلق بما يوجده العبد وتتعلق به
إرادته التكوينية فيرد عليه ما ذكرناه سابقا: من أنه لا معنى للإرادة التشريعية في
مقابل الإرادة التكوينية، إلا أن يكون المراد من الإرادة التشريعية الأمر الصادر
عن المولى المتعلق بفعل المكلف (1)، ولكن على هذا الفرض فالإرادة التشريعية
في المقام واحدة دون الإرادة التكوينية، وذلك لأن وحدة الإرادة التشريعية
وتعددها تتبع وحدة الغرض وتعدده، وحيث إن الغرض في المقام واحد قائم
بالمجموع المركب منهما، لفرض كون الواجب ارتباطيا فبطبيعة الحال الإرادة
التشريعية المتعلقة به أيضا واحدة.
وقد تحصل من ذلك: أنه لا مانع من أخذ الجامع بين جميع الدواعي القربية
في متعلق الأمر وإن قلنا باستحالة أخذ خصوص قصد الأمر فيه. كما أنه لا مانع
من أخذ بقية الدواعي القربية فيه.
قد يقال كما قيل: إذا افترض استحالة أخذ قصد الأمر في متعلقه من ناحية
واليقين بعدم أخذ غيره من الدواعي القربية فيه من ناحية أخرى فبطبيعة الحال
كان عدم أخذ الجامع بين جميع هذه الدواعي أيضا متيقنا، لفرض أنه لا يعم
غيرها (2).
وإن شئت فقل: إن أخذ خصوص قصد الأمر في متعلقه حيث إنه مستحيل فلا
معنى لأخذ الجامع بينه وبين غيره من الدواعي القربية فيه، وعندئذ فلو كان الجامع
مأخوذا فلابد أن يكون الجامع بين بقية الدواعي، وهو غير مأخوذ قطعا، وإلا لم
تكن العبادة صحيحة بدون أحد تلك الدواعي وإن كانت مع قصد الأمر.
والجواب عنه يظهر مما حققناه سابقا، وحاصله: هو أن الإطلاق عبارة عن
رفض القيود وملاحظة عدم دخل شئ من الخصوصيات فيه من الخصوصيات

(1) راجع تفصيله في ص 128 - 129.
(2) القائل هو المحقق العراقي في نهاية الأفكار: ج 1 ص 188 مع اختلاف يسير.
183

النوعية أو الصنفية أو الشخصية، وليس عبارة عن الجمع بين القيود
والخصوصيات (1). وعلى هذا فلا مانع من أخذ الجامع بين جميع هذه الدواعي
القربية في العبادات. ولا يستلزم عدم اعتبار كل واحد من تلك الدواعي فيها عدم
أخذ الجامع، وذلك لأن معنى أخذ الجامع ليس أخذ خصوص قصد الأمر وقصد
المحبوبية وقصد الملاك ونحو ذلك من الدواعي في المتعلق ليلزم المحذور السابق
- لما عرفت من أنه يقوم على أساس أن يكون معنى الإطلاق هو الجمع بين القيود
ولحاظ دخل الجميع فيه، ولكن قد عرفت خطأ هذا التفسير - بل معناه: لحاظ عدم
دخل شئ منها فيه. ومن الطبيعي أنه لا محذور في ذلك، فإن المحذور إنما هو
في أخذ خصوص قصد الأمر، لا في عدم أخذه، وهكذا...
ومن هنا قلنا: إنه لو أمكن للمكلف إيجاد المطلق المعرى عنه جميع
الخصوصيات فقد حصل الغرض وامتثل الأمر. مثلا: ففي مثل قولنا: " أعتق رقبة "
الذي لاحظ المولى طبيعي الرقبة، من دون ملاحظة خصوصية من الخصوصيات
فيها لو تمكن المكلف من إيجاد عتق الرقبة خاليا عن تمام الخصوصيات لامتثل الأمر.
فالنتيجة لحد الآن قد أصبحت: أنه لا مانع من أخذ خصوص قصد الأمر في
المتعلق. وعلى تقدير تسليم المانع منه فلا مانع من أخذ الجامع القربى فيه، بداهة
أن ما ذكر من المحاذير لا يلزم شئ منها على تقدير أخذه. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الدواعي القربية بكافة أصنافها في عرض واحد فليس
واحد منها في طول الآخر، فإن المعتبر في العبادة هو الإتيان بها بقصد التقرب إلى
المولى، وهو يتحقق بإضافة الفعل إليه حيث لا واقع له ما عدا ذلك، ومن المعلوم
أن الإضافة جامعة بين جميع أنحاء قصد القربة.
ومن ذلك يظهر: أن كل واحد من الدواعي القربية غير مأخوذ في متعلق
الأمر، والمأخوذ إنما هو الجامع بين الجميع. ومن ثمة لو أتى المكلف بالعبادة بأي

(1) قد تقدم ضمن نتائج البحوث في ص 172 فراجع.
184

داع من تلك الدواعي لكانت صحيحة، ولا خصوصية لواحد منها بالإضافة إلى
الآخر أصلا.
ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن أخذ الجامع القربى في متعلق الأمر أيضا
مستحيل ولكن للمولى التوصل إلى غرضه في الواجبات العبادية بأخذ ما يلازم
قصد الأمر فيها.
بيان ذلك: أن كل عمل صادر عن الفاعل المختار لابد أن يكون صدوره عن
داع من الدواعي التي تدعو المكلف نحو العمل وتبعث نحوه، ومن الواضح أن
الداعي لا يخلو: من أن يكون داعيا نفسانيا، أو يكون داعيا إلهيا، فلا ثالث لهما،
وعليه فلو أخذ المولى في متعلق أمره عدم إتيانه بداع نفساني فقد وصل به إلى
غرضه، حيث إن هذا العنوان العدمي ملازم لإتيان الفعل المأمور به مضافا به إلى
المولى.
مثلا: لو أمر بالصلاة مقيدة بعدم إتيانها بداع من الدواعي النفسانية فقد أخذ
في متعلق أمره عنوانا عدميا ملازما لإتيان الصلاة بداع إلهي، وبهذه الطريقة
يتمكن المولى أن يتوصل إلى غرضه.
ولكن قد أورد عليه شيخنا الأستاذ (قدس سره): بأنه لو فرض محالا انفكاك العمل
العبادي المعنون بالعنوان المذكور عن الدواعي الإلهية وبالعكس لزم كون العبادة
صحيحة على الأول وباطلة على الثاني، وهذا مما لا يعقل أن يلتزم به فقيه قطعا،
بداهة صحة العبادة مع قصد القربة وإن لم يتحقق العنوان المزبور، وعدم تعقل
صحتها بدونه وإن تحقق ذلك العنوان (1).
وغير خفي أن غرض المولى من أخذ ذلك العنوان الملازم في العبادات إنما
هو التوصل به إلى غرضه خارجا، وحيث إن عدم الإتيان بالعبادة بداع نفساني في
الخارج ملازم للإتيان بها بداع إلهي ولا ينفك أحدهما عن الآخر خارجا فلا مانع
من اعتباره فيها توصلا إلى مقصوده.

(1) أجود التقريرات: ج 1 ص 111.
185

وأما فرض الانفكاك محالا فلا أثر له أصلا، حيث إنه لا يخرج عن مجرد
الفرض من دون واقع موضوعي له، والأثر إنما هو للانفكاك خارجا وهو غير
متحقق.
ولو تنزلنا عن ذلك أيضا وسلمنا بأن التقييد كما لا يمكن بداعي الأمر ولا
بالجامع بينه وبين غيره كذلك لا يمكن بما يكون ملازما له، ولكن مع ذلك يمكن
للمولى التوصل إلى مقصوده إذا تعلق بالعمل مع قصد القربة بالإخبار عن ذلك
بجملة خبرية بعد الأمر به أولا، كقوله: " تجب الصلاة مع قصد القربة، وأن غرضي
لا يحصل من الأمر المتعلق بها إلا بإتيانها بداعي الأمر " أو نحو ذلك. إلى هنا قد
عرفت حال المانع عن أخذه في متعلقه بالأمر الأول.
ولكن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد اختار طريقا آخر لتوصل المولى إلى غرضه في
العبادات بعد اعترافه بعدم إمكان أخذه فيها بالأمر الأول، وهو الأمر بها ثانيا
بداعي أمرها الأول، ويسمى الأمر الثاني ب‍ " متمم الجعل " (1).
بيان ذلك: أننا إذا افترضنا أن غرض المولى مترتب على الصلاة بداعي
القربة فإذا أراد المولى استيفاء غرضه وحيث لا يمكن له ذلك إلا بأمرين: أمر
متعلق بذات الصلاة، وأمر آخر متعلق بإتيانها بقصد القربة فلابد له من ذلك، ولا
يمكن الاكتفاء بأمر واحد وإيكال الجزء الآخر - وهو قصد القربة - إلى حكم
العقل، ضرورة أن شأن العقل إدراك الواقع على ما هو عليه، وأن هذا الشئ مما
جعله الشارع جزءا أو شرطا أم لم يجعله، وليس له الجعل والتشريع في قبال
الشارع، وعليه فكلما تعلق به غرض المولى فلابد أن يكون اعتباره من قبله، فإذا
لم يمكن ذلك بالأمر الأول فبالأمر الثاني، وقصد القربة من هذا القبيل فلا فرق بينه
وبين غيره من الأجزاء والشرائط إلا في هذه النقطة، وهي: عدم إمكان اعتباره إلا
بالأمر الثاني المتمم للجعل الأول، فلذا يكون الأمران بحكم أمر واحد.

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 161 - 162.
186

فالنتيجة: أن متعلق الأمر الأول مهمل فلا إطلاق له ولا تقييد، فعندئذ إن دل
دليل من الخارج على اعتبار قصد القربة فيه كالأمر الثاني أفاد نتيجة التقييد، وإن
دل دليل على أن الجعل لا يحتاج إلى متمم أفاد نتيجة الإطلاق، ولا فرق في ذلك
بين متعلق الحكم وموضوعه.
وقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): بأن أخذ قصد القربة في متعلق
الأمر كما لا يمكن بالأمر الأول كذلك لا يمكن بالأمر الثاني أيضا، وذلك مضافا
إلى القطع بأنه ليس في العبادات إلا أمر واحد: أن التكليف إن سقط بإتيان
المأمور به بالأمر الأول فلا يبقى مجال للأمر الثاني، لانتفائه بانتفاء موضوعه، فلا
يتمكن المولى أن يتوصل إلى غرضه بهذه الطريقة. وإن لم يسقط - عندئذ - فبطبيعة
الحال ليس الوجه لعدم سقوطه إلا عدم حصول غرضه بذلك من أمره، وبدونه لا
يعقل سقوطه، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى تعدد الأمر، لاستقلال
العقل بلزوم تحصيل غرضه وهو لا يمكن إلا بإتيان العمل مع قصد القربة (1).
والجواب عنه: أننا نلتزم بعدم سقوط الأمر الأول إذا أتى المكلف به من دون
قصد القربة مع وجود الأمر الثاني من المولى بإتيانه بداعي الأمر الأول، وبسقوطه
بإتيانه كذلك مع فرض عدم وجود الأمر الثاني به. فإذا لا يكون الأمر الثاني لغوا،
وذلك لأن المولى إذا أمر ثانيا بإتيان شئ بداعي أمره الأول كشف ذلك عن أن
الغرض منه خاص وهو لا يحصل إلا بإتيانه بداعي القربة، ويعبر عن ذلك ب‍ " نتيجة
التقييد ". وإذا لم يأمر ثانيا بإتيانه كذلك كشف ذلك عن أن المأمور به بالأمر الأول
واف بالغرض، وأنه يحصل بتحققه في الخارج ولو كان غير مقرون بقصد القربة.
الذي يرد على ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) ما تقدم منا في ضمن البحوث
السالفة: من أن الإهمال في الواقعيات غير معقول، فالحكم المجعول من المولى
لا يخلو: من أن يكون مطلقا في الواقع، أو مقيدا، ولا يعقل لهما ثالث (2). ولكن

(1) راجع كفاية الأصول: ص 96 - 97.
(2) راجع مناقشة الدعوى الثانية في ص 176.
187

لو تنزلنا عن جميع ما ذكرناه سابقا وسلمنا أن استحالة التقييد تستلزم استحالة
الإطلاق فلا مناص من الالتزام بمقالته (قدس سره)، وأن الحكم بالجعل الأول مهمل، فلابد
من نتيجة التقييد، أو نتيجة الإطلاق.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي: أنه لا مانع من أخذ قصد
الأمر في متعلقه، وعلى تقدير تسليم استحالته فلا مانع من أخذ الجامع بينه وبين
بقية الدواعي فيه. كما أنه لا مانع من أخذ بقية الدواعي، وعلى تقدير تسليم
استحالته أيضا فلا مانع من أخذ العنوان الملازم لعنوان قصد الأمر في متعلقه،
وعلى تقدير تسليم استحالته أيضا فلا مانع من بيان ذلك بجملة خبرية، أو بالأمر
الثاني.
وعلى ضوء هذا الأساس لو شككنا في اعتبار قصد القربة في عمل فلا مانع
من التمسك بالإطلاق لنفي اعتباره، وذلك لأنه لو كان معتبرا ودخيلا في الغرض
لكان على المولى البيان ولو بجملة خبرية أو بالأمر الثاني، فإذا لم يبين علم بعدم
اعتباره.
فالنتيجة: أن مقتضى الإطلاق وكون المولى في مقام البيان: هو أن الواجب
توصلي، فالتعبدية تحتاج إلى دليل وبيان.
ولكن ذهب جماعة (1) إلى أن مقتضى الأصل اللفظي عند الشك في تعبدية
واجب وتوصليته هو كونه تعبديا، فالتوصلية تحتاج إلى دليل وبيان زائد،
واستدلوا على ذلك بعدة وجوه:
الأول: لا شبهة في أن الغرض من الأمر هو إيجاد الداعي للمكلف نحو الفعل

(1) منهم: كاشف الغطاء في كشفه: المبحث الثاني في النية ص 55، ومنهم: صاحب المدارك في
المدارك: ج 1 ص 184، ومنهم: السيوري في التنقيح الرائع: ج 1 ص 74، وهو ظاهر
الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان: ج 1 ص 97.
وقال الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة في نية الوضوء: ص 79: وقد اشتهر الاستدلال
بقوله تعالى.... إلى آخر كلامه.
188

أو الترك، حيث إنه فعل اختياري للمولى. ومن الطبيعي أن الفعل الاختياري لا
يصدر عن الفاعل المختار إلا بداع من الدواعي، والداعي من الأمر إنما هو
تحريك المكلف نحو الفعل المأمور به وبعثه إليه بإيجاد الداعي في نفسه ليصدر
الفعل عنه خارجا.
أو فقل: إن المكلف قبل ورود الأمر من المولى بشئ كان مخيرا بين فعله
وتركه، فلا داعي له لا إلى هذا ولا إلى ذاك. وإذا ورد الأمر من المولى به متوجها
إليه صار داعيا له إلى فعله، حيث إن الغرض منه ذلك، أي: كونه داعيا، وعليه فإن
أتى المكلف به بداعي أمره فقد حصل الغرض منه وسقط الأمر، وإلا فلا، فإذا كان
الأمر كذلك فبطبيعة الحال يستقل العقل بلزوم الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر
تحصيلا للغرض، وهذا معنى أن الأصل في كل واجب ثبت في الشريعة المقدسة
هو كونه تعبديا إلا أن يقوم دليل من الخارج على توصليته.
ولنأخذ بالنقد عليه:
أما أولا: فلأن الغرض من الأمر يستحيل أن يكون داعويته إلى إيجاد المأمور
به في الخارج ومحركيته نحوه، ضرورة أن ما هو غرض منه لابد أن يكون مترتبا
عليه دائما في الخارج ولا يتخلف عنه. ومن الطبيعي أن وجود المأمور به في
الخارج فضلا عن كون الأمر داعيا إليه ربما يكون وربما لا يكون، وعليه فكيف
يمكن أن يقال: إن الغرض من الأمر إنما هو جعل الداعي إلى المأمور به؟ فإذا لا
مناص من القول بكون الغرض من الأمر هو إمكان داعويته نحو الفعل المأمور به
على تقدير وصوله إلى المكلف وعلمه به، وهذا لا يتخلف عن طبيعي الأمر، فلا
معنى عندئذ لوجوب تحصيله على المكلف. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن هذا الغرض مشترك فيه بين الواجبات التعبدية
والتوصلية فلا فرق بينهما من هذه الناحية، وأجنبي عن التعبدية بالمعنى المبحوث
عنه في المقام.
وأما ثانيا: فلو سلمنا أن غرض المولى من أمره ذلك إلا أنه لا يجب على
189

العبد تحصيله، ضرورة أن الواجب عليه بحكم العقل إنما هو تحصيل غرضه
المترتب على وجود المأمور به في الخارج دون غرضه المترتب على أمره على
أنه طريق محض إلى ما هو الغرض من المأمور به فلا موضوعية له في مقابله
أصلا كي يجب تحصيله. وقد عرفت أن العقل إنما يحكم بوجوب الإتيان بالمأمور
به خارجا وإطاعة ما تعلق به الأمر، وتحصيل غرضه دون غيره. وعلى هذا حيث
إن المأمور به مطلق وغير مقيد بداعي القربة فلا يحكم العقل إلا بوجوب إتيانه
كذلك.
وأضف إليه: أن هذا الغرض لا يكون نقطة امتياز بين التعبديات والتوصليات،
لاشتراكهما فيه، وعدم الفرق بينهما في ذلك أصلا.
فالنتيجة: أن هذا الغرض أجنبي عن اعتبار قصد القربة في متعلق الأمر. فإذا
لا يبقى مجال للاستدلال بهذا الوجه على أصالة التعبدية.
والحاصل: أن هذا الوجه خاطئ بحسب الصغرى والكبرى، فلا واقع
موضوعي له.
الثاني: بعدة من الروايات: منها: قوله (صلى الله عليه وآله): " إنما الأعمال بالنيات " (1)،
وقوله (صلى الله عليه وآله): " لكل امرئ ما نوى " (2) ببيان: أن كل عمل إذا خلا عن نية التقرب
فلا عمل ولا أثر له، إلا أن يقوم دليل من الخارج على وجود أثر له. وعليه
فمقتضى هذه الرواية: هو أن كل عمل ورد الأمر به في الشريعة المقدسة لزم
الإتيان به بنية التقرب إلا ما قام الدليل على عدم اعتباره، وهذا معنى أصالة
التعبدية في الواجبات.
ولنأخذ بالمناقشة عليه، وهي: أن هذه الروايات لا تدل بوجه على اعتبار نية
القربة في كل فعل من الأفعال الواجبة في الشريعة المقدسة إلا ما قام الدليل على
عدم اعتباره، وذلك لأن مفادها: هو أن الغاية القصوى من الأعمال الواجبة لا

(1) وسائل الشيعة: ج 1 ص 34 ب 5 من أبواب مقدمة العبادات ح 10 ط المطبعة الإسلامية.
(2) وسائل الشيعة: ج 1 ص 34 ب 5 من أبواب مقدمة العبادات ح 10 ط المطبعة الإسلامية.
190

تترتب عليها إلا مع النيات الحسنة لا بدونها، فإذا أتى المكلف بعمل فإن قصد به
وجه الله تعالى تترتب عليه المثوبة، وإن لم يقصد به وجه الله سبحانه بل قصد به
أمرا دنيويا ترتب عليه ذلك الأمر الدنيوي دون الثواب. ولا يكون مفادها فساد
العمل وعدم سقوط الأمر، فلو جاء المكلف بدفن الميت - مثلا - فإن أراد به وجه
الله تعالى أثيب عليه، وإلا فلا وإن سقط الأمر عنه بذلك وفرغت ذمته.
وقد صرح بذلك في بعض هذه الروايات، كقوله (عليه السلام): " إن المجاهد إن جاهد
لله تعالى فالعمل له تعالى، وإن جاهد لطلب المال والدنيا فله ما نوى " (1). واليه
أشار أيضا قوله تعالى: * (من يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة
نؤته منها) * (2).
والحاصل: أن الروايات ناظرة إلى أنه يصل لكل عامل من الأجر حسب ما
نواه من الدنيوي أو الأخروي.
وبكلمة أخرى: الكلام تارة يقع في ترتب الثواب على الواجب وعدم ترتبه
عليه، واخرى يقع في صحته وفساده. وهذه الروايات ناظرة إلى المورد الأول،
وأن ترتب الثواب على الأعمال الواجبة منوط بإتيانها لوجه الله تعالى، بداهة أنه
لو لم يأت بها بهذا الوجه فلا معنى لاستحقاقه الثواب، وليس لها نظر إلى المورد
الثاني أصلا. وكلامنا في المقام إنما هو في هذا المورد، وأن قصد القربة هل هو
معتبر في صحة كل واجب إلا ما خرج بالدليل أم لا؟ وتلك الروايات لا تدل على
ذلك.
هذا، مضافا إلى أنها لو كانت ظاهرة في ذلك فلابد من رفع اليد عن ظهورها
وحملها على ما ذكرناه، وذلك للزوم تخصيص الأكثر وهو مستهجن، حيث إن أكثر
الواجبات في الشريعة الإسلامية واجبات توصلية لا يعتبر فيها قصد القربة،
فالواجبات التعبدية قليلة جدا بالإضافة إليها. ومن الواضح أن تخصيص الأكثر

(1) انظر الهامش السابق، والحديث منقول بالمعنى.
(2) آل عمران: 145.
191

مستهجن فلا يمكن ارتكابه.
فالنتيجة: أن هذه الروايات ولو بضمائم خارجية ناظرة إلى أن الغاية القصوى
من الواجبات الآلهية - وهو وصول الإنسان إلى درجة راقية من الكمالات
واستحقاقه لدخول الجنة والحور العين وما شاكل ذلك - لا تترتب إلا بإتيانها
خالصا لوجه الله تعالى، وليست ناظرة إلى اعتبارها في الصحة وعدم استحقاق
العقاب.
الثالث: بقوله سبحانه وتعالى: * (وما امروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له
الدين) * (1) ببيان أن الآية الكريمة واضحة الدلالة على حصر الأوامر الصادرة عنه
سبحانه تعالى بالأوامر العبادية، وتدل على لزوم الإتيان بمتعلقاتها عبادة
وخالصة وهي نية القربة.
أو فقل: إن الآية تدل على حصر الواجبات الإلهية بالعبادات، وعليه فإن قام
دليل خاص على كون الواجب توصليا فهو، وإلا فالمتبع هو عموم الآية، وهذا
معنى كون الأصل في الواجبات التعبدية، فالتوصلية تحتاج إلى دليل.
وفيه: أن الاستدلال بظاهر هذه الآية الكريمة وإن كان أولى من الاستدلال
بالروايات المتقدمة إلا أنه لا يمكن الالتزام بهذا الظاهر، وذلك من ناحية وجود
قرينة داخلية وخارجية.
أما القرينة الداخلية فهي ورودها في سياق قوله تعالى: * (لم يكن الذين كفروا
من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) * (2)، حيث يستفاد من
هذا: أن الله عز وجل في مقام حصر العبادة بعبادة الله تعالى، وليس في مقام حصر
أن كل أمر ورد في الشريعة المقدسة عبادي إلا فيما قام الدليل على الخلاف،
فالآية في مقام تعيين المعبود وقصر العبادة عليه - ردا على الكفار والمشركين
الذين عبدوا الأصنام والأوثان وغير ذلك حيث لا سلطان ولا بينة لهم على ذلك،
فلو طلب منهم البينة فقالوا: " إنا وجدنا آباءنا على ذلك " - لا في مقام بيان حال

(1) البينة: 5 و 1.
(2) البينة: 5 و 1.
192

الأوامر وأنها عبادية.
فالنتيجة: أن الآية المباركة بقرينة صدرها في مقام حصر العبادة بعبادته
تعالى، لا بصدد حصر الواجبات بالواجبات العبادية. فحاصل معنى الآية: هو أن
الله تعالى إذا أمر بعبادة أمر بعبادة له لا لغيره، وهذا المعنى أجنبي عن المدعى.
وأما القرينة الخارجية: فهي لزوم تخصيص الأكثر، حيث إن أغلب الواجبات
في الشريعة المقدسة توصلية، والواجبات التعبدية قليلة جدا بالنسبة إليها، وحيث
إن تخصيص الأكثر مستهجن فهو قرينة على عدم إرادة ما هو ظاهرها.
وقد تحصل من جميع ما ذكرناه: أن مقتضى الأصل اللفظي في موارد الشك
في التعبدية والتوصلية: هو التوصلية، فالتعبدية تحتاج إلى دليل خاص.
أما المقام الثاني فالكلام فيه يقع في مقتضى الأصل العملي عند الشك في
التعبدية والتوصلية إذا لم يكن أصل لفظي، وهو يختلف باختلاف الآراء
والنظريات في المسألة.
أما على نظريتنا من إمكان أخذ قصد الأمر في متعلقه فحال هذا القيد حال
سائر الأجزاء والشرائط. وقد ذكرنا في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر
الارتباطيين: أن المرجع عند الشك في اعتبار شئ في المأمور به جزءا أو شرطا
هو أصالة البراءة (1)، وما نحن فيه كذلك، حيث إنه من صغريات تلك الكبرى،
وعليه فإذا شك في تقييد واجب بقصد القربة لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة
عنه. فالأصل العملي على ضوء نظريتنا كالأصل اللفظي عند الشك في التعبدية
والتوصلية فلا فرق بينهما من هذه الناحية.
وكذلك الحال على نظرية شيخنا الأستاذ (قدس سره)، لوضوح أنه لا فرق في جريان
البراءة بين أن يكون مأخوذا في العبادات بالأمر الأول أو بالأمر الثاني، إذ على
كلا التقديرين فالشك في اعتباره يرجع إلى الشك في تقييد زائد. وبذلك يدخل

(1) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 441.
193

في كبرى تلك المسألة، ومختاره (قدس سره) فيها هو أصالة البراءة (1).
وأما على ضوء نظرية المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) فالمرجع هو قاعدة
الاشتغال (2) دون البراءة، والسبب في ذلك: هو أن أخذ قصد القربة في متعلق الأمر
شرعا حيث إنه لا يمكن لا بالأمر الأول ولا بالأمر الثاني فبطبيعة الحال يكون
اعتباره بحكم العقل من جهة دخله في غرض المولى، وعليه فمتى شك في تحققه
فالمرجع هو الاشتغال دون البراءة النقلية والعقلية.
ولا يخفى أن ما ذكره (قدس سره) هنا يشترك مع ما ذكره (قدس سره) في كبرى مسألة الأقل
والأكثر الارتباطيين (3) في نقطة، ويفترق عنه في نقطه أخرى.
أما نقطة الاشتراك: فهي أن العقل كما يستقل بوجوب تحصيل الغرض هناك
عند الشك في حصوله كذلك يستقل بوجوب تحصيله هنا. ومن ثمة قد التزم (قدس سره)
هناك بعدم جريان البراءة العقلية كما في المقام.
فالنتيجة: أن حكمه (قدس سره) بلزوم تحصيل الغرض هنا يقوم على أساس ما بنى
عليه في تلك المسألة من استقلال العقل بذلك عند الشك في حصوله.
وأما نقطة الافتراق: فهي أنه (قدس سره) قد التزم بجريان البراءة الشرعية هناك ولم
يلتزم بجريانها في المقام.
والوجه في ذلك: هو أن المكلف عند الشك في اعتبار شئ في العبادة
كالصلاة - مثلا - كما يعلم إجمالا بوجود تكليف مردد بين تعلقه بالأقل أو بالأكثر
كذلك يعلم إجمالا بوجود غرض مردد بين تعلقه بهذا أو ذاك، وحيث إن هذا العلم
الإجمالي لا ينحل إلى علم تفصيلي وشك بدوي فبطبيعة الحال مقتضاه وجوب
الاحتياط وهو الإتيان بالأكثر، ومعه لا تجري أصالة البراءة العقلية. وأما البراءة
الشرعية فلا مانع من جريانها، وذلك لأن مقتضى أدلة البراءة الشرعية هو رفع
الشك عن التقييد الزائد المشكوك فيه، فلو شككنا في جزئية السورة - مثلا -

(1) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 169.
(2) انظر كفاية الأصول: ص 98.
(3) انظر كفاية الأصول: ص 413 - 416.
194

للصلاة فلا مانع من الرجوع إليها لرفع جزئيتها، وإذا ضممنا ذلك إلى ما علمناه
إجمالا من الأجزاء والشرائط ثبت الإطلاق ظاهرا، وهو وجوب الأقل.
والسر في جريان البراءة الشرعية هناك وعدم جريانها هنا واضح، وهو: أن
البراءة الشرعية إنما تجري فيما يكون قابلا للوضع والرفع شرعا. وأما ما لا يكون
كذلك فلا تجري فيه. وحيث إن الأجزاء والشرائط قابلتان للجعل فلا مانع من
جريان البراءة الشرعية فيهما عند الشك في اعتبارهما، وهذا بخلاف قصد القربة
حيث إن جعله شرعا غير ممكن لا جزءا ولا شرطا، لا بالأمر الأول ولا بالأمر
الثاني، فبطبيعة الحال لا تجري البراءة فيه عند الشك في اعتباره ودخله في
الغرض.
فما ذكره (قدس سره) من التفرقة بين مسألتنا هذه ومسألة الأقل والأكثر الارتباطيين
متين على ضوء نظريته (قدس سره) فيهما. وأما إذا منعنا عنها في كلتا المسألتين أو في
إحداهما لم يتم ما أفاده (قدس سره)، وحيث إنها ممنوعة وخاطئة في كلتا المسألتين فلا
مناص من الالتزام بعدم التفرقة بينهما.
أما في هذه المسألة فلما عرفت من أنه لا مانع من أخذ قصد القربة في متعلق
الأمر، فحاله حال بقية الأجزاء والشرائط من هذه الناحية (1).
وأما في تلك المسألة فلما حققناه هناك: من أنه على فرض تسليم حكم
العقل بالاشتغال فيها والإتيان بالأكثر فلا مجال لجريان البراءة الشرعية أيضا.
والسبب في ذلك: هو أنها لا تثبت ترتب الغرض على الأقل إلا على القول
بالأصل المثبت، حيث إن لازم نفي الوجوب عن الأكثر هو وجوب الأقل ووفاؤه
بالغرض، ومن المعلوم أن أصالة البراءة لا تثبت هذا اللازم (2).
نعم، لو كان الدليل على نفي وجوب الأكثر هو الأمارة ثبت وجوب الأقل
ووفاؤه بالغرض باعتبار أن لوازمها حجة.

(1) قد تقدم في ص 154 - 171 فراجع.
(2) راجع مصباح الأصول: ج 2 ص 439 - 441.
195

وإن شئت فقل: إن هناك علمين اجماليين: أحدهما متعلق بالتكليف، والآخر
متعلق بالغرض، وجريان البراءة عن التكليف الزائد المشكوك لا يثبت ترتب
الغرض على الأقل بناء على ما هو الصحيح من عدم حجية الأصل المثبت، وبدونه
لا أثر لها. ومن هنا قلنا في تلك المسألة بالملازمة بين البراءة الشرعية والعقلية في
الجريان وعدمه، فلا وجه للتفكيك بينهما أصلا (1).
وحيث قد اخترنا هناك جريان البراءة شرعا وعقلا فلا مانع من الالتزام
بجريان البراءة العقلية هنا دون الشرعية، بناء على ضوء نظريته (قدس سره) من استحالة
أخذ قصد الأمر في متعلقه، وذلك لأن الواجب بحكم العقل إنما هو تحصيل
الغرض الواصل إلى المكلف لا مطلقا، ومن الطبيعي أن المقدار الواصل منه هو
ترتبه على الأقل دون الزائد على هذا المقدار، فإذا بطبيعة الحال كان العقاب على
تركه عقابا بلا بيان، وهو قبيح بحكم العقل.
فالنتيجة: أنه لا وجه للتفرقة بين المسألتين في البراءة والاحتياط أصلا.
والتحقيق في المقام أن يقال: إنه لا مانع من جريان أصالة البراءة العقلية
والشرعية في كلتا المسألتين، وذلك لما فصلناه هناك بشكل موسع (2)، وملخصه:
هو أن الغرض لا يزيد على أصل التكليف، فكما أن التكليف ما لم يصل إلى
المكلف لا يحكم العقل بتنجزه ووجوب موافقته وقبح مخالفته وغير ذلك فكذلك
الغرض فإنه ما لم يصل إليه لا يحكم العقل بوجوب تحصيله واستحقاق العقاب
على مخالفته، بداهة أن العقل إنما يستقل بلزوم تحصيله بالمقدار الواصل إلى
المكلف الثابت بالدليل. وأما الزائد عليه فلا يحكم بوجوب تحصيله، لأن تركه
غير مستند إلى العبد ليصح عقابه عليه، بل هو مستند إلى المولى، فإذا العقاب على
تركه عقاب من دون بيان وهو قبيح عقلا.
وإن شئت قلت: إن منشأ حكم العقل بوجوب تحصيل الغرض إنما هو إدراكه

(1) راجع مصباح الأصول: ج 2 ص 439 - 441.
(2) راجع مصباح الأصول: ج 2 ص 437.
196

استحقاق العقاب على ترك تحصيله. ومن الطبيعي أن إدراكه هذا إنما هو في مورد
قيام البيان عليه. وأما فيما لم يقم لم يدركه، بل يدرك قبحه، لأنه من العقاب بلا
بيان، وعليه فلا مانع من جريان البراءة العقلية في موارد الشك في الغرض وعدم
وصوله إلى المكلف. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد ذكرنا هناك: أن التفكيك بين أجزاء مركب واحد
كالصلاة - مثلا - بحسب الحكم لا يمكن، لا في مرحلة الثبوت ولا في مرحلة
السقوط، بداهة أنه لا معنى لأن يكون بعض أجزائه واجبا دون الباقي، كما أنه لا
معنى لسقوط التكليف عن بعضها دون بعضها الآخر (1).
والسر في ذلك: هو أن التكليف المتعلق بالمجموع المركب حيث إنه تكليف
واحد فلا يعقل التفكيك فيه بحسب أجزائه، وهذا معنى ارتباطية أجزاء الواجب
الواحد. ولكن مع ذلك قد ذكرنا في محله: أنه لا مانع من التفكيك بينها في مرحلة
التنجيز (2).
والوجه فيه: هو أن التنجيز متفرع على وصول التكليف، وعليه فبطبيعة الحال
قد تنجز التكليف بالمقدار الواصل إلى المكلف دون الزائد عليه، وبما أن فيما نحن
فيه التكليف المتعلق بالمركب كالصلاة - مثلا - قد وصل بالإضافة إلى عدة من
أجزائه: كالتكبيرة والقراءة والركوع والسجود والتشهد والتسليمة فلا محالة تنجز
بالإضافة إليها فلا يجوز له تركها، وأما بالإضافة إلى جزئية السورة - مثلا - حيث
إنه لم يصل فلا يكون منجزا ولو كانت جزئيتها ثابتة في الواقع، فإذا لا عقاب
على تركها، لأنه من العقاب بلا بيان، وهذا هو معنى التفكيك بينها بحسب مرتبة
التنجز.
وعلى الجملة: فلا واقع لتنجز التكليف ما عدا إدراك العقل استحقاق العقوبة
على مخالفته واستحقاق المثوبة على موافقته، وحيث إنه فرع وصوله إلى المكلف
فلا مانع من التفكيك فيه بحسبه وإن لم يمكن بحسب الواقع.

(1) مصباح الأصول: ص 431.
(2) المصدر السابق: ج 2 ص 439.
197

مثلا: التكليف المتعلق بالصلاة المشتملة على الأجزاء المزبورة قد وصل إلى
المكلف وعلم به فلا يجوز له بحكم العقل مخالفته. وأما التكليف المتعلق بها
المشتملة على السورة زائدا عليها حيث إنه لم يصل فلا يحكم العقل بعدم جواز
مخالفته.
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه: هي أنه لا مانع من جريان البراءة العقلية
والشرعية في كلتا المسألتين على أساس نظريتنا في هذه المسألة، وهي: إمكان
أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، وأن حاله من هذه الناحية حال بقية الأجزاء
والشرائط فلا تفرقة بينهما أصلا، بل على هذا تكون مسألتنا هذه من صغريات
تلك المسألة.
ومن ذلك يظهر: أنه لا مانع من جريان البراءة العقلية هنا على مسلكه (قدس سره)
أيضا، وذلك للملازمة بين وصول التكليف ووصول الغرض، وبالعكس. وحيث إن
التكليف لم يصل إلا بالمقدار المتعلق بالأقل دون الزائد عليه فكذلك الغرض،
فإذا لا مانع من الرجوع إلى حكم العقل بقبح العقاب على تركه، أي: ترك قصد
القربة.
ودعوى: أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تجري في المقام، لعدم إمكان
البيان من قبل الشارع خاطئة جدا، وذلك لأن البيان بمعنى أخذ قصد القربة في
متعلق الأمر وإن كان لا يمكن على مذهبه. وأما البيان بمعنى أنه دخيل في غرضه
ولو بجملة خبرية من دون أخذه في متعلق أمره فهو بمكان من الإمكان.
وعليه فنقول: لو كان قصد القربة دخيلا في غرض المولى فعليه بيانه، وحيث
إنه لم يبين مع أنه كان في مقام بيان تمام ما له دخل في غرضه علم من ذلك عدم
دخله فيه، فإذا بطبيعة الحال كان العقاب على تركه من العقاب بلا بيان.
نعم، تفترق هذه المسألة عن تلك المسألة على مسلكه (قدس سره) في نقطة واحدة،
وهي: جريان البراءة الشرعية هناك وعدم جريانها هنا، باعتبار أن قصد القربة غير
مجعول شرعا فليس حاله من هذه الناحية حال بقية الأجزاء والشرائط. ومن
198

المعلوم أن البراءة الشرعية لا تجري إلا فيما هو مجعول من قبل الشارع.
وقد استطعنا أن نخرج في نهاية المطاف بهذه النتيجة، وهي: أن مقتضى
الأصل اللفظي والعملي في المسألة هو التوصلية، فالتعبدية تحتاج إلى دليل. هذا
آخر ما أردنا بيانه في التعبدي والتوصلي.
النفسي والغيري
إذا علم بوجوب شئ وتردد أمره بين الوجوب النفسي والغيري، أو بين
التعييني والتخييري، أو بين العيني والكفائي فما هو مقتضى الأصل والقاعدة في
ذلك؟ فهنا مسائل ثلاث:
أما المسألة الأولى - وهي ما إذا دار أمر الوجوب بين النفسي والغيري -
فالكلام فيها يقع في موردين:
الأول: في الأصل اللفظي.
والثاني: في الأصل العملي.
أما المورد الأول: فلا ينبغي الشك في أن مقتضى الأصل اللفظي كعموم أو
إطلاق هو النفسي، وذلك لأن بيان وجوب الغيري يحتاج إلى مؤنة زائدة باعتبار
أنه قيد للواجب النفسي. ومن الواضح أن الإطلاق لا يفي ببيان كونه قيدا له.
وعلى الجملة: فالتقييد يحتاج إلى مؤنة زائدة. مثلا: لو كان لقوله تعالى:
* (وأقيموا الصلاة) * (1) إطلاق فمقتضاه عدم تقييد الصلاة بالطهارة أو نحوها،
فالتقييد يحتاج إلى دليل ومؤنة زائدة، والإطلاق ينفيه، ولازم ذلك: هو أن وجوب
الطهارة المشكوك نفسي لا غيري، وكذا إذا أخذنا بإطلاق الأمر بالطهارة فإن
مقتضاه وجوبها مطلقا، أي: سواء أكانت الصلاة واجبة أم لا، فتقييد وجوبها
بوجوب الصلاة يحتاج إلى دليل.
وقد تحصل من ذلك: أنه يمكن إثبات نفسية الوجوب بطريقين:
الأول: الأخذ بإطلاق دليل الواجب النفسي كالصلاة - مثلا - ودفع كل ما

(1) البقرة: 43 و 83 و 110 و....
199

يحتمل أن يكون قيدا له، كالطهارة أو استقبال القبلة أو نحو ذلك، ولازم هذا: هو أن
الواجب المحتمل دخله فيه كالطهارة - مثلا - نفسي، وهذا اللازم حجة في باب
الأصول اللفظية.
الثاني: الأخذ بإطلاق دليل الواجب المشكوك في كونه نفسيا أو غيريا، وذلك
لأن وجوبه لو كان غيريا فهو مشروط بطبيعة الحال بوجوب واجب آخر نفسي،
وإن كان نفسيا فهو مطلق وغير مقيد به. وعليه فإذا شك في أنه نفسي أو غيري
فمقتضى إطلاق دليله وعدم تقييده بما إذا وجب شئ آخر هو الحكم بكونه نفسيا.
والفرق بين الإطلاقين: هو أن الأول تمسك بإطلاق المادة، والثاني تمسك
بإطلاق الهيئة، فإذا تم كلا الإطلاقين أو أحدهما كفى لإثبات كون الواجب نفسيا.
وأما المورد الثاني: فسيأتي الكلام فيه في بحث مقدمة الواجب - إن شاء الله
تعالى - بشكل موسع فلا حاجة إلى البحث عنه في المقام (1).
وأما المسألة الثانية - وهي ما إذا دار الأمر بين كون الواجب تعيينيا أو
تخييريا - فأيضا يقع الكلام فيها في مقامين:
الأول: في مقتضى الأصل اللفظي.
الثاني: في مقتضى الأصل العملي.
أما المقام الأول: فبيانه يحتاج إلى توضيح حول حقيقة الواجب التخييري.
فنقول: إن الأقوال فيه ثلاثة:
الأول: أن الواجب ما اختاره المكلف في مقام الامتثال، ففي موارد التخيير
بين القصر والتمام - مثلا - لو اختار المكلف القصر فهو الواجب عليه، ولو عكس
فبالعكس.
الثاني: أن يكون كل من الطرفين أو الأطراف واجبا تعيينيا ومتعلقا للإرادة،
ولكن يسقط وجوب كل منهما بفعل الآخر، فيكون مرد هذا القول إلى اشتراط
وجوب كل من الطرفين أو الأطراف بعدم الإتيان بالآخر.

(1) سيأتي تفصيله في ص 398 - 399 فانتظر.
200

الثالث: ما اخترناه من أن الواجب هو أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه،
وتطبيقه على كل منهما في الخارج بيد المكلف كما هو الحال في موارد الواجبات
التعيينية، غاية الأمر أن متعلق الوجوب في الواجبات التعيينية الطبيعة المتأصلة
والجامع الحقيقي، وفي الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة والجامع العنواني.
وقد ذكرنا في محله أنه لا مانع من تعلق الأمر به أصلا، بل تتعلق به الصفات
الحقيقية كالعلم والإرادة وما شاكلهما (1)، وذكرنا أنه لا واقع للمعلوم بالإجمال
في موارد العلم الإجمالي ما عدا عنوان أحدهما أو أحدها (2)، حتى في علم الله
تعالى، فإذا تعلقت به الصفات الحقيقية فما ظنك بالحكم الشرعي الذي هو أمر
اعتباري محض؟
وقد تقدم منا غير مرة: أن الأحكام الشرعية أمور اعتبارية، وليس لها واقع
موضوعي ما عدا اعتبار الشارع (3)، ومن المعلوم أن الأمر الاعتباري كما يصح
تعلقه بالجامع الذاتي كذلك يصح تعلقه بالجامع الانتزاعي، فلا مانع من اعتبار
الشارع أحد الفعلين أو الأفعال على ذمة المكلف. ونتيجة ذلك: هي أن بقاءه
مشروط بعدم تحقق شئ منهما، أو منها في الخارج.
وبعد ذلك نقول: إن مقتضى إطلاق الأمر المتعلق بشئ هو التعيين لا التخيير
على جميع الأقوال في المسألة.
أما على القول الأول فواضح، لفرض أن وجوب كل منهما مشروط باختيار
المكلف. ومن الطبيعي أن مقتضى الإطلاق عدمه، فالاشتراط يحتاج إلى دليل
زائد.
وأما على القول الثاني فالأمر أيضا كذلك، لفرض أن وجوب كل مشروط
بعدم الإتيان بالآخر، ومقتضى الإطلاق عدمه، وبه يثبت الوجوب التعييني.

(1) يأتي تفصيله في ج 4، أواسط بحث الواجب التخييري.
(2) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 76 في الامتثال الإجمالي.
(3) منها: ما سيأتي في ص 255، ومنها: ما في مصباح الأصول: ج 2 ص 108.
201

وأما على القول الثالث - كما هو المختار - فلأن مرجع الشك في التعيين
والتخيير فيه إلى الشك في متعلق التكليف من حيث السعة والضيق، يعني: أن
متعلقه هو الجامع أو خصوص ما تعلق به الأمر، كما إذا ورد الأمر - مثلا - بإطعام
ستين مسكينا وشككنا في أن وجوبه تعييني أو تخييري، يعني: أن الواجب هو
خصوص الإطعام أو الجامع بينه وبين صيام شهرين متتابعين، ففي مثل ذلك لا
مانع من الأخذ بإطلاقه لإثبات كون الواجب تعيينيا لا تخييريا، لأن بيانه يحتاج
إلى مؤنة زائدة، وهي ذكر العدل بالعطف بكلمة " أو "، وحيث لم يكن فيكشف عن
عدمه في الواقع، ضرورة أن الإطلاق في مقام الإثبات يكشف عن الإطلاق في
مقام الثبوت.
أو فقل: إن الواجب لو كان تخييريا فبقاء وجوبه مقيد بعدم الإتيان بفرد ما من
أفراده في الخارج، ومن المعلوم أن مقتضى الإطلاق عدم هذا التقييد، وأن
الواجب هو الفعل الخاص.
ويمكن أن يقرر هذا بوجه آخر، وهو: أن الأمر المتعلق بشئ خاص
كالإطعام - مثلا - فالظاهر هو أن للعنوان المذكور المتعلق به الأمر دخلا في
الحكم، فلو كان الواجب هو الجامع بينه وبين غيره ولم يكن للعنوان المزبور أي
دخل فيه فعليه البيان، وحيث لم يقم بيان عليه فمقتضى الإطلاق هو وجوبه
الخاص، دون الجامع بينه وبين غيره، وهذا هو معنى أن الإطلاق يقتضي التعيين.
وأما المقام الثاني: فالكلام فيه يقع في مبحث البراءة والاشتغال (1) إن شاء الله
تعالى، فلا حاجة إليه هنا.
وأما المسألة الثالثة - وهي ما إذا دار الأمر بين الواجب الكفائي والعيني -
فيقع الكلام فيها أيضا: تارة في مقتضى الأصل اللفظي. وتارة أخرى في مقتضى
الأصل العملي.

(1) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 450 في دوران الأمر بين التعيين والتخيير.
202

أما الكلام في المورد الأول فبيانه يحتاج إلى توضيح حول حقيقة الوجوب
الكفائي.
فنقول: إن ما قيل أو يمكن أن يقال في تصويره وجوه:
الأول: أن يقال: إن التكليف متوجه إلى واحد معين عند الله ولكنه يسقط عنه
بفعل غيره، لفرض أن الغرض واحد فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر.
الثاني: أن يقال: إن التكليف في الواجبات الكفائية متوجه إلى مجموع آحاد
المكلفين من حيث المجموع، بدعوى: أنه كما يمكن تعلق تكليف واحد شخصي
بالمركب من الأمور الوجودية والعدمية على نحو العموم المجموعي كالصلاة
- مثلا - إذا كان الغرض المترتب عليه واحدا شخصيا كذلك يمكن تعلقه بمجموع
الأشخاص على نحو العموم المجموعي.
الثالث: أن يقال: إن التكليف به متوجه إلى عموم المكلفين على نحو العموم
الاستغراقي فيكون واجبا على كل واحد منهم على نحو السريان، غاية الأمر أن
وجوبه على كل مشروط بترك الآخر.
الرابع: أن يكون التكليف متوجها إلى أحد المكلفين لا بعينه المعبر عنه بصرف
الوجود، وهذا الوجه هو الصحيح.
بيان ذلك ملخصا: هو أن غرض المولى كما يتعلق تارة بصرف وجود الطبيعة،
واخرى بمطلق وجودها كذلك يتعلق تارة بصدوره عن جميع المكلفين، واخرى
بصدوره عن صرف وجودهم.
فعلى الأول الواجب عيني فلا يسقط عن بعض بفعل بعض آخر.
وعلى الثاني فالواجب كفائي بمعنى: أنه واجب على أحد المكلفين لا بعينه
المنطبق على كل واحد منهم ويسقط بفعل بعض عن الباقي، وهذا واقع في العرف
والشرع.
أما في العرف: كما إذا أمر المولى أحد عبيده أو خدامه بفعل في الخارج من
دون أن يتعلق غرضه بصدوره من شخص خاص منهم، ولذا أي واحد منهم قام به
203

وأوجده في الخارج حصل الغرض وسقط الأمر لا محالة.
وأما في الشرع فأيضا كذلك: كما في أمره بدفن الميت أو كفنه أو نحو ذلك،
حيث إن غرضه لم يتعلق بصدوره عن خصوص واحد منهم، بل المطلوب وجوده
في الخارج من أي واحد منهم كان، وذلك لأن نسبة ذلك الغرض الوحداني إلى كل
واحد من أفراد المكلفين على السوية، فعندئذ تخصيص واحد معين منهم بتحصيل
ذلك الغرض خارجا بلا مخصص ومرجح، وتخصيص المجموع منهم على نحو
العموم المجموعي بتحصيل ذلك الغرض مع أنه بلا مقتض وموجب باطل
بالضرورة كما برهن في محله (1)، وتخصيص الجميع بذلك على نحو العموم
الاستغراقي أيضا بلا مقتض وسبب بعد افتراض أن الغرض واحد يحصل بفعل
بعض منهم، فإذا يتعين وجوبه على واحد منهم على نحو صرف الوجود.
وبعد ذلك نقول: إن مقتضى إطلاق الدليل هو الوجوب العيني على جميع هذه
الوجوه والاحتمالات.
أما على الوجه الأول فواضح، لأن سقوط التكليف عن شخص بفعل غيره
يحتاج إلى دليل، وإلا فمقتضى إطلاقه عدم سقوطه به.
أو فقل: إن مرد هذا إلى اشتراط التكليف بعدم قيام غيره بامتثاله، وهو خلاف
الإطلاق.
وأما على الوجه الثاني فمضافا إلى أنه في نفسه غير معقول فأيضا الأمر
كذلك، لأن مقتضى إطلاق الدليل هو أن كل واحد من أفراد المكلف موضوع
للتكليف، وجعل الموضوع له مجموع أفراده على نحو العموم المجموعي بحيث
يكون كل فرد من أفراده جزءه لاتمامه خلاف الإطلاق، وعند احتماله يدفع به.
وأما على الوجه الثالث فالأمر ظاهر، ضرورة أن قضية الإطلاق عدم
الاشتراط، فالاشتراط يحتاج إلى دليل خاص.

(1) سيأتي في الجزء الرابع من هذا الكتاب في نتيجة بحث الواجب الكفائي، فانتظر.
204

وأما على الوجه الرابع فأيضا الأمر كذلك، حيث إن حاله بعينه هو حال الوجه
الثالث في الوجوب التخييري، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا، غاية الأمر
أن الأول متعلق بالمأمور به، والثاني بالمكلفين.
وعلى الجملة: ففيما إذا ورد الأمر متوجها إلى شخص خاص أو صنف
مخصوص وشككنا في أنه كفائي أو عيني - يعني: أن موضوعه هو الجامع بينه
وبين غيره، أو خصوص هذا الفرد أو ذاك الصنف - فلا مانع من التمسك بالإطلاق
لإثبات كونه عينيا.
ويمكن أن يقرب هذا بوجه آخر، وهو: أن ظاهر الأمر المتوجه إلى شخص
خاص أو صنف مخصوص هو أن لخصوص عنوانه دخلا في الموضوع، ومتى لم
تكن قرينة على عدم دخله وأن الموضوع هو طبيعي المكلف فإطلاق الدليل
يقتضي دخله، ولازم ذلك هو كون الوجوب عينيا لا كفائيا.
وأما الكلام في المورد الثاني - وهو مقتضى الأصل العملي - فيقع في مبحث
البراءة والاشتغال (1). وسيجئ - إن شاء الله تعالى - أن مقتضى الأصل هناك
البراءة دون الاشتغال.
إلى هنا قد استطعنا أن نصل إلى هذه النتيجة، وهي: أن مقتضى الأصل اللفظي
في المسائل الثلاث هو كون الواجب نفسيا تعيينيا عينيا.
الأمر عقيب الحظر
إذا وقع الأمر عقيب الحظر أو توهمه فهل يدل على الوجوب كما نسب إلى
كثير من العامة (2)، أو على الإباحة كما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب، أو
هو تابع لما قبل النهي إن علق الأمر بزوال علة النهي لا مطلقا؟ وجوه، بل أقوال.
والتحقيق: هو أنه لا يدل على شئ من ذلك من دون فرق بين نظريتنا في
مفاد الصيغة وما شاكلها، ونظرية المشهور في ذلك.

(1) راجع مصباح الأصول: ج 2 ص 449.
(2) ذهب إليه الفخر الرازي في المحصول: ج 1 ص 236، والبيضاوي في منهاج الوصول: ص 76.
205

أما على ضوء نظريتنا فلأن العقل إنما يحكم بلزوم قيام المكلف بما أمر به
المولى بمقتضى قانون المولوية والعبودية إذا لم تقم قرينة على الترخيص وجواز
الترك، وحيث يحتمل أن يكون وقوع الصيغة أو ما شاكلها عقيب الحظر أو توهمه
قرينة على الترخيص فلا ظهور لها في الوجوب بحكم العقل.
وإن شئت قلت: إنها حيث كانت محفوفة بما يصلح للقرينية فلا ينعقد لها ظهور
فيه. إذا فحمل الصيغة أو ما شاكلها في هذا الحال على الوجوب يقوم على أساس
أمرين:
أحدهما: أن تكون الصيغة موضوعة للوجوب.
وثانيهما: أن تكون أصالة الحقيقة حجة من باب التعبد كما نسب إلى
السيد (1) (قدس سره)، وحيث إنه لا واقع موضوعي لكلا الأمرين على ضوء نظريتنا فلا
مقتضى لحملها على الوجوب أصلا. ومن هنا يظهر: أنه لا مقتضى لحملها عليه
على ضوء نظرية المشهور أيضا، فإن الصيغة أو ما شابهها على ضوء هذه النظرية
وإن كانت موضوعة للوجوب إلا أنه لا دليل على حجية أصالة الحقيقة من باب
التعبد، وإنما هي حجة من باب الظهور، ولا ظهور في المقام، لما عرفت من
احتفافها بما يصلح للقرينية (2).
ومن ذلك يظهر: أنه لا وجه لدعوى حملها على الإباحة (3)، أو تبعيتها لما قبل
النهي إن علق الأمر بزوال علة النهي (4)، وذلك لأن هذه الدعوى تقوم على أساس
أن يكون وقوعها عقيب الحظر أو توهمه قرينة عامة على إرادة أحدهما بحيث
تحتاج إرادة غيره إلى قرينة خاصة، إلا أن الأمر ليس كذلك، لاختلاف موارد
استعمالها فلا ظهور لها في شئ من المعاني المزبورة.

(1) انظر الذريعة إلى أصول الشريعة: ص 13.
(2) تقدم آنفا فلاحظ.
(3) كما هو مختار المشهور على ما حكاه في وقاية الأذهان: ص 195، وكفاية الأصول: ص 99.
(4) كما اختاره المحقق الأصفهاني في الفصول الغروية: ص 70.
206

فالنتيجة: أنها مجملة، فإرادة كل واحد من تلك المعاني تحتاج إلى قرينة.
المرة والتكرار
لا إشكال في انحلال الأحكام التحريمية بانحلال موضوعاتها، كما تنحل
بانحلال المكلفين خارجا، ضرورة أن المستفاد عرفا من مثل قضية " لا تشرب
الخمر " أو ما شاكلها انحلال الحرمة بانحلال وجود الخمر في الخارج وأنه متى
ما وجد فيه خمر كان محكوما بالحرمة، كما هو الحال في كافة القضايا الحقيقية.
وأما التكاليف الوجوبية فأيضا لا إشكال في انحلالها بانحلال المكلفين
وتعددها بتعددهم، بداهة أن المتفاهم العرفي من مثل قوله تعالى: * (ولله على
الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (1) أو ما شاكله هو تعدد وجوب الحج
بتعدد أفراد المستطيع خارجا.
وأما انحلالها بانحلال موضوعاتها فيختلف ذلك باختلاف الموارد، فتنحل في
بعض الموارد دون بعضها الآخر.
فمن الأول: قوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) * (2)،
وقوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (3) وما شاكلهما، حيث إن المتفاهم
العرفي منهما هو الانحلال وتعدد وجوب الصلاة، ووجوب الصوم عند تعدد
الدلوك والرؤية.
ومن الثاني: قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت...) * إلى آخره، حيث
إن المستفاد منه عرفا عدم انحلال وجوب الحج بتعدد الاستطاعة خارجا في كل
سنة، بل المستفاد منه: أن تحقق الاستطاعة لدى المكلف يقتضي وجوب الحج
عليه، فلو امتثل مرة واحدة كفى، ولا يلزمه التكرار بعد ذلك وإن تجددت
استطاعته مرة ثانية.
وبعد ذلك نقول: إن صيغة الأمر أو ما شاكلها لا تدل على التكرار ولا على

(1) آل عمران: 97.
(2) الإسراء: 78.
(3) البقرة: 185.
207

المرة في كلا الموردين، واستفادة الانحلال وعدمه إنما هي بسبب قرائن خارجية
وخصوصيات المورد لا من جهة دلالة الصيغة عليه وضعا.
وبكلمة أخرى: أن المرة والتكرار في الأفراد الطولية، والوحدة والتعدد في
الأفراد العرضية جميعا خارج عن إطار مدلول الصيغة مادة وهيئة. والوجه في هذا
واضح، وهو: أن الصيغة لو دلت على ذلك فبطبيعة الحال لا تخلو من أن تدل عليه
بمادتها، أو بهيئتها، ولا ثالث لهما، والمفروض أنها لا تدل بشئ منهما على ذلك.
أما من ناحية المادة فلفرض أنها موضوعة للدلالة على الطبيعة المهملة
المعراة عنها كافة الخصوصيات، منها: المرة والتكرار والوحدة والتعدد فلا تدل
على شئ منها.
وأما من ناحية الهيئة فقد تقدم في ضمن البحوث السالفة: أنها موضوعة
للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج (1)، فلا تدل على
خصوصية زائدة على ذلك، كالانحلال وعدمه أصلا.
فالنتيجة: أن هذا النزاع لا يقوم على أساس صحيح وواقع موضوعي، فعندئذ
إن قام دليل من الخارج على تقييد الطلب بإحدى الخصوصيات المذكورة فهو،
وإلا فالمرجع ما هو مقتضى الأصل اللفظي أو العملي.
أما الأصل اللفظي كأصالة الإطلاق أو العموم إذا كان فلا مانع من التمسك به
لإثبات الاكتفاء بالمرة الواحدة في الأفراد الطولية، وهذا لا من ناحية أخذها في
معنى هيئة الأمر أو مادته، لما عرفت من عدم دلالة الصيغة عليه بوجه (2)، بل من
ناحية أن متعلق الأمر هو صرف الطبيعة، وهو وإن كان كما يصدق بالمرة الواحدة
يصدق بالتكرار إلا أن الاكتفاء به في ضمن المرة الواحدة من جهة صدق الطبيعة
عليها خارجا، الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر، وعندئذ فلا يبقى مقتض
للتكرار أصلا.
كما أنه لا مانع من التمسك به لإثبات الاكتفاء بوجود واحد في الأفراد

(1) راجع تفصيله في ص 128.
(2) قد تقدم آنفا فلاحظ.
208

العرضية، وهذا لا من ناحية أخذ الوحدة في معنى الأمر، لما عرفت من عدم
أخذها فيه (1)، بل من ناحية صدق الطبيعة عليه خارجا، الموجب لحصول الغرض
وسقوط الأمر، فلا يبقى مقتض للتعدد.
وأما الأصل العملي في المقام: فهو أصالة البراءة عن اعتبار الأمر الزائد.
وعلى الجملة: أن ما هو ثابت على ذمة المكلف - ولا شك فيه أصلا - هو
اعتبار طبيعي الفعل. وأما الزائد عليه - وهو تقييده بالتكرار أو بعدمه في الأفراد
الطولية، أو تقييده بالتعدد أو بعدمه في الأفراد العرضية - فحيث لا دليل على
اعتباره فمقتضى الأصل هو البراءة عنه، فإذا جرت أصالة البراءة عن ذلك في كلا
الموردين ثبت الإطلاق ظاهرا ومعه يكتفى بطبيعة الحال بالمرة الواحدة، لصدق
الطبيعة عليها الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر، كما إذا أمر المولى عبده
بإعطاء درهم للفقير فأعطاه درهما واحدا يحصل به الامتثال، لصدق الطبيعي
عليه، وعدم الدليل على اعتبار أمر زائد، هذا لا إشكال فيه.
وإنما الإشكال والنزاع في إتيان المأمور به ثانيا بعد إتيانه أولا، ويسمى ذلك
ب‍ " الامتثال بعد الامتثال " فهل يمكن ذلك أم لا؟ فيه وجوه، ثالثها: التفصيل بين
بقاء الغرض الأقصى وعدمه، وقد اختار المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) هذا التفصيل،
وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك نصه:
(والتحقيق: أن قضية الإطلاق إنما هو جواز الإتيان بها مرة في ضمن فرد أو
أفراد فيكون إيجادها في ضمنها نحوا من الامتثال كايجادها في ضمن الواحد، لا
جواز الإتيان بها مرة أو مرات، فإنه مع الإتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال
ويسقط به الأمر فيما إذا كان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض الأقصى بحيث
يحصل بمجرده، فلا يبقى معه مجال لإتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر، أو بداعي أن
يكون الإتيانان امتثالا واحدا، لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها وسقوط
الغرض معها وسقوط الأمر بسقوطه فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا.

(1) قد تقدم آنفا فلاحظ.
209

وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض كما أمر بالماء ليشرب أو
يتوضأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان
فرد آخر أحسن منه، بل مطلقا كما كان له ذلك قبله على ما يأتي بيانه في
الإجزاء) (1).
والصحيح: هو عدم جواز الامتثال بعد الامتثال، وذلك لأن مقتضى تعلق الأمر
بالطبيعة بدون تقييدها بشئ كالتكرار أو نحوه حصول الامتثال بإيجادها في
ضمن فرد ما في الخارج، لفرض انطباقها عليه قهرا، ولا نعني بالامتثال إلا انطباق
الطبيعة المأمور بها على الفرد المأتي به في الخارج، ومعه لا محالة يحصل الغرض
ويسقط الأمر فلا يبقى مجال للامتثال مرة ثانية، لفرض سقوط الأمر بالامتثال
الأول وحصول الغرض به، فالإتيان بها بداعية ثانيا خلف.
ومن هنا سنذكر - إن شاء الله تعالى - في مبحث الإجزاء: أن الإتيان بالمأمور
به بجميع أجزائه وشرائطه علة تامة لحصول الغرض وسقوط الأمر، فعدم الإجزاء
غير معقول، بل لو لم يكن الامتثال الأول مسقطا للأمر وموجبا لحصول الغرض لم
يكن الامتثال الثاني أيضا كذلك، لفرض أنه مثله فلا تفاوت بينهما، على أنه لا
معنى لجواز الامتثال ثانيا بعد فرض بقاء الأمر والغرض (2).
وإن شئت قلت: إن لأمر واحد ليس إلا امتثالا واحدا، فعندئذ إن سقط الأمر
بالامتثال الأول لم يعقل امتثاله ثانيا، وإلا وجب ذلك، ضرورة أن حدوث الغرض
كما يوجب حدوث الأمر وبقاؤه يوجب بقاءه فجواز الامتثال بعد الامتثال عندئذ
لا يرجع إلى معنى معقول.
نعم، إذا أتى المكلف بما لا ينطبق عليه المأمور به خارجا وجب عليه الإتيان
به مرة ثانية، إلا أنه ليس امتثالا بعد الامتثال، لفرض أن الأول ليس امتثالا له.
ومن ضوء هذا البيان تظهر نقطة الخطأ في كلام صاحب الكفاية (قدس سره)، وهي:
الخلط بين الغرض المترتب على وجود المأمور به في الخارج من دون دخل

(1) كفاية الأصول: ص 102.
(2) سيأتي بيانه في ص 226 فانتظر.
210

شئ آخر فيه وبين غرض الآمر، كرفع العطش - مثلا - حيث إن حصوله يتوقف
على فعل نفسه وهو الشرب زائدا على الإتيان بالمأمور به، ومن الطبيعي أن
المكلف لا يكون مأمورا بإيجاده وامتثاله، لخروجه عن قدرته واختياره،
فالواجب على المكلف ليس إلا تمكين المولى من الشرب وتهيئة المقدمات له،
فإنه تحت اختياره وقدرته، وهو يحصل بصرف الامتثال الأول.
وكيف كان، فإن حصل الغرض من الامتثال الأول وسقط الأمر لم يعقل
الامتثال الثاني إلا تشريعا، وإن لم يحصل وجب ذلك ثانيا، وعلى كلا التقديرين
فلا معنى لجوازه أصلا.
نعم، قد يتوهم جواز ذلك في موردين:
أحدهما: في صلاة الآيات، حيث قد ورد (1) فيها: أن من صلى صلاة الآيات
فله أن يعيد صلاته مرة ثانية ما دامت الآية باقية، وهذا يدل على جواز الامتثال
مرة ثانية بعد الامتثال الأول.
وثانيهما: في الصلاة اليومية، حيث قد ورد فيها: أن من صلى فرادى وأقيمت
الجماعة فله أن يعيد صلاته مرة أخرى فيها (2)، وهذا أيضا يدل على جواز
الامتثال بعد الامتثال.
ولكن هذا التوهم خاطئ في كلا الموردين ولا واقع له.
أما في المورد الأول فهو لا يدل على أزيد من استحباب الإعادة مرة ثانية
بداعي الأمر الاستحبابي، بداهة أن الأمر الوجوبي قد سقط بالامتثال الأول فلا
تعقل الإعادة بداعية.
وبكلمة أخرى: أن صلاة الآيات متعلقة لأمرين: أحدهما أمر وجوبي،
والآخر أمر استحبابي، غاية الأمر أن الأول تعلق بصرف طبيعة الصلاة، والثاني

(1) وسائل الشيعة: ج 7 ص 498 ب 8.
(2) وسائل الشيعة: ج 8 ص 401 ب 54 طبع آل البيت (عليهم السلام). وستأتي الإشارة إليها أيضا في
ص 227 فراجع.
211

تعلق بها بعنوان الإعادة، ويستفاد الأمر الثاني من الروايات الواردة في المقام،
وعليه فالإعادة بداعي الأمر الاستحبابي لا بداعي الأمر الأول لتكون من
الامتثال بعد الامتثال، كيف؟ فلو كانت بداعي الأمر الأول لكانت بطبيعة الحال
واجبة، وعندئذ فلا معنى لجوازها.
فالنتيجة: أنه لا إشعار في الروايات على ذلك فما ظنك بالدلالة؟
وأما في المورد الثاني فأيضا كذلك، ضرورة أنه لا يستفاد منها إلا استحباب
الإعادة جماعة، فإذا تكون الإعادة بداعي الأمر الاستحبابي لا بداعي الأمر
الأول، وإلا لكانت واجبة، وهذا خلف.
نعم، هنا روايتان صحيحتان، ففي إحداهما أمر الإمام بجعل الصلاة المعادة
فريضة. وفي الأخرى بجعلها فريضة إن شاء (1). ولكن لابد من رفع اليد عن
ظهورهما أولا بقرينة عدم إمكان الامتثال ثانيا بعد الامتثال، وحملهما على جعلها
قضاء عما فات منه من الصلاة الواجبة ثانيا، أو على معنى آخر. وسيأتي تفصيل
ذلك في مبحث الإجزاء إن شاء الله تعالى (2).
الفور والتراخي
يقع الكلام فيهما تارة في مقام الثبوت، واخرى في مقام الإثبات.
أما المقام الأول فالواجب ينقسم إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: ما لا يكون مقيدا بالتقديم ولا بالتأخير من ناحية الزمان، بل
هو مطلق من كلتا الناحيتين. ومن هنا يكون المكلف مخيرا في امتثاله بين الزمن
الأول والزمن الثاني وهكذا، ويسمى هذا الصنف من الواجب ب‍ " الواجب
الموسع "، وذلك كالصلاة وما شاكلها. نعم، إذا لم يطمئن بإتيانه في الزمن الثاني
وجب عليه الإتيان في الزمن الأول، ولكن هذا أمر آخر أجنبي عما نحن بصدده.
الصنف الثاني: ما يكون مقيدا بالتأخير، فلو قدمه في أول أزمنة الإمكان لم

(1) راجع ص 228 - 229 من مبحث الإجزاء الآتي.
(2) راجع ص 228 - 229 من مبحث الإجزاء الآتي.
212

يصح، ويسمى هذا الصنف ب‍ " الواجب المضيق " كالصوم وما شابهه.
الصنف الثالث: ما يكون مقيدا بالتقديم، وهذا على قسمين:
الأول: أن يكون ذلك بنحو وحدة المطلوب.
الثاني: أن يكون بنحو تعدد المطلوب.
أما الأول فمرده إلى وجوب الإتيان به في أول أزمنة الإمكان فورا من
ناحية، والى سقوط الأمر عنه في الزمن الثاني من ناحية أخرى، وعليه فلو عصى
المكلف ولم يأت به في الزمن الأول سقط الأمر عنه، ولا أمر في الزمن الثاني، وقد
مثل لذلك برد السلام حيث إنه واجب على المسلم عليه في أول أزمنة الإمكان،
ولكن لو عصى ولم يأت به سقط الأمر عنه في الزمن الثاني.
وأما الثاني فهو أيضا على شكلين:
أحدهما: أن يكون المطلوب هو إتيانه في أول أزمنة الإمكان، وإلا ففي الزمن
الثاني، وهكذا فورا ففورا، فالتأخير فيه كما لا يوجب سقوط أصل الواجب كذلك
لا يوجب سقوط فوريته.
قيل: ومن هذا القبيل قضاء الفوائت، يعني: يجب على المكلف الإتيان بها
فورا ففورا (1).
وثانيهما: أن يكون المطلوب من الواجب وإن كان إتيانه في أول أزمنة
الإمكان فورا إلا أن المكلف إذا عصى وأخر عنه سقطت فوريته دون أصل
الطبيعة، فعندئذ لا يجب عليه الإتيان بها فورا ففورا، بل له أن يمتثل الطبيعة في أي
وقت وزمن شاء وأراد.
وعلى الجملة: فالمكلف إذا لم يأت به في أول الوقت وعصى جاز له التأخير
إلى آخر أزمنة الإمكان، ومن هذا القبيل صلاة الزلزلة فإنها واجبة على المكلف

(1) القائل بفورية قضاء الفوائت - على ما نقله الشيخ الأنصاري - هم: المفيد والسيدين
والحلبي والحلي وظاهر الشيخ والقديمين والفاضل الآبي، راجع المكاسب: ص 350 رسالة
المواسعة والمضايقة.
213

في أول أزمنة الإمكان فورا، ولكنه لو تركها فيه وعصى جاز له التأخير إلى ما دام
العمر موسعا.
وأما المقام الثاني - وهو مقام الإثبات - فالصيغة لا تدل على الفور ولا على
التراخي فضلا عن الدلالة على وحدة المطلوب أو تعدده. والسبب في ذلك: أن
الصيغة لو دلت على ذلك فبطبيعة الحال: إما أن تكون من ناحية المادة أو من ناحية
الهيئة، ومن الواضح أنها لا تدل عليه من كلتا الناحيتين.
أما من ناحية المادة فواضح، لما تقدم في ضمن البحوث السابقة: من أن
المادة موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن جميع الخصوصيات والعوارض، فلا
تدل إلا على إرادتها، فكل من الفور والتراخي وما شاكلهما خارج عن مدلولها (1).
وأما من ناحية الهيئة فأيضا كذلك، لما عرفت بشكل موسع من أنها وضعت
للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني على ذمة المكلف في الخارج، فلا
تدل على شئ من الخصوصيات المزبورة (2)، بل ولا إشعار فيها فما ظنك
بالدلالة؟ فثبوت كل واحدة من تلك الخصوصيات يحتاج إلى دليل خارجي، فإن
قام فهو، وإلا فاللازم هو الإتيان بالطبيعي المأمور به مخيرا عقلا بين الفور
والتراخي.
وعلى هذا فلو شككنا في اعتبار خصوصية زائدة كالفور أو التراخي أو نحو
ذلك فمقتضى الأصل اللفظي من عموم أو إطلاق إذا كان هو عدم اعتبارها وأن
الواجب هو الطبيعي المطلق، ولازم ذلك جواز التراخي، وقد عرفت (3) أنه لا فرق
في حجية الأصول اللفظية بين المثبت منها وغيره. هذا إذا كان في البين أصل
لفظي.
وأما إذا لم يكن كما إذا كان الدليل مجملا أو إجماعا فالمرجع هو الأصل
العملي، وهو في المقام أصالة البراءة للشك في اعتبار خصوصية زائدة كالفور أو

(1) راجع ص 208 في نتائج البحوث.
(2) راجع ص 208 في نتائج البحوث.
(3) تقدم في ص 128 - 129 و 199 فراجع.
214

التراخي، وحيث لا دليل عليه فأصالة البراءة تقتضي عدم اعتبارها، وبذلك يثبت
الإطلاق في مقام الظاهر.
فالنتيجة: أن الصيغة أو ما شاكلها لا تدل على الفور، ولا على التراخي فضلا
عن الدلالة على وحدة المطلوب أو تعدده، بل هي تدل على ثبوت الطبيعي الجامع
على ذمة المكلف. ولازم ذلك هو حكم العقل بالتخيير بين أفراده العرضية
والطولية. نعم، لو احتمل أن تأخيره موجب لفواته وجب عليه الإتيان به فورا
بحكم العقل.
قد يقال كما قيل: إن الصيغة وإن لم تدل على الفور وضعا إلا أنها تدل عليه
من جهة قرينة عامة خارجية، وهو قوله تعالى: * (سارعوا إلى مغفرة من
ربكم) * (1)، وقوله تعالى: * (واستبقوا الخيرات) * (2) ببيان: أن الله - عز وجل - أمر
عباده بالاستباق نحو الخير والمسارعة نحو المغفرة، ومن مصاديقهما فعل المأمور
به، فإذا يجب على المكلف الاستباق والمسارعة نحوه في أول أزمنة الإمكان،
وإلا ففي الزمن الثاني (3)... وهكذا، لفرض أنهما يقتضيان الفورية إلى الإتيان بما
يصدق عليه الخير والغفران في كل وقت وزمن، وعليه فلو عصى المكلف وأخر
عن أول أزمنة الإمكان وجب عليه ذلك في الزمن الثاني أو الثالث... وهكذا فورا
ففورا، إذ من الواضح عدم سقوط وجوب المسارعة والاستباق بالعصيان في
الزمن الأول، لفرض بقاء الموضوع والملاك، ونتيجة ذلك: هي لزوم الإتيان بكافة
الواجبات الشرعية فورا ففورا على نحو تعدد المطلوب.
ولنأخذ بالنقد عليه من عدة وجوه:
الأول: أن الآيتين الكريمتين أجنبيتان عن محل الكلام رأسا، ولا صلة لهما
بما نحن بصدده.

(1) آل عمران: 133.
(2) البقرة: 148.
(3) عده صاحب المعالم والسيد المرتضى (قدس سرهما) من أدلة القائلين بالفور، راجع معالم الأصول:
ص 49، والذريعة إلى أصول الشريعة: ج 1 ص 134. ط جامعة طهران.
215

أما آية الاستباق فلأن كلمة " واستبقوا " فيها من الاستباق بمعنى المسابقة
لغة، وعلى هذا فظاهر الآية المباركة هو وجوب المسابقة على العباد نحو
الخيرات، يعني: أن الواجب على كل واحد منهم أن يسابق الآخر فيها.
وإن شئت قلت: إن مدلول الآية الكريمة هو ما إذا كان العمل خيرا للجميع
وأمكن قيام كل واحد منهم به، ففي مثل ذلك أمر سبحانه وتعالى عباده بالمسابقة
نحوه، ومن الواضح أنه لا صلة لهذا المعنى بما نحن فيه أصلا، وذلك لأن الكلام
فيه إنما هو في وجوب المبادرة على المكلف نحو امتثال الأمر المتوجه إليه
خاصة على نحو الاستقلال مع قطع النظر عن الأمر المتوجه إلى غيره. وهذا
بخلاف ما في الآية، فإن وجوب الاستباق فيها إنما هو بالإضافة إلى الآخر لا
بالإضافة إلى الفعل، فإذا لا تدل الآية على وجوب الاستباق والمبادرة إلى الفعل
أصلا، ولا ملازمة بين الأمرين كما لا يخفى.
وأما آية المسارعة فالظاهر من المغفرة فيها هو نفس الغفران الإلهي، فالآية
- عندئذ - تدل على وجوب المسارعة نحوه بالتوبة والندامة التي هي واجبة بحكم
العقل، وليس المراد منها الأفعال الخارجية من الواجبات والمستحبات، فإذا الآية
ترشد إلى ما استقل به العقل، وهو وجوب التوبة، وأجنبية عما نحن بصدده.
الثاني: على تقدير تنزل عن ذلك وتسليم أن الآيتين ليستا أجنبيتين عن
محل الكلام إلا أن دلالتهما على ما نحن بصدده تقوم على أساس أن يكون الأمر
فيهما مولويا. وأما إذا كان إرشاديا - كما هو الظاهر منه بحسب المتفاهم العرفي -
فلا دلالة لهما عليه أصلا، وذلك لأن مفادهما على هذا الضوء هو الإرشاد إلى ما
استقل به العقل من حسن المسارعة والاستباق نحو الإتيان بالمأمور به وتفريغ
الذمة منه، وتابع له في الإلزام وعدمه فلا موضوعية له، ومن الواضح أن حكم
العقل بذلك يختلف في اللزوم وعدمه باختلاف موارده.
الثالث: على تقدير التنزل عن ذلك أيضا وتسليم أن الأمر فيهما مولوي إلا
أنه لا بد من حمله على الاستحباب، ولو حمل على ظاهره - وهو الوجوب - لزم
216

تخصيص الأكثر، وهو مستهجن.
والسبب في ذلك: هو أن المستحبات بشتى أنواعها وأشكالها مصداق للخير
وسبب للمغفرة، فلو حملنا الأمر فيهما على الوجوب لزم خروجها بأجمعها عن
إطلاقهما. هذا من ناحية:
ومن ناحية أخرى: أن الواجبات على أصناف عديدة:
أحدها: واجبات موسعة كالصلاة وما شاكلها، والمفروض عدم وجوب
الاستباق والمسارعة نحوها.
وثانيها: واجبات مضيقة كصوم شهر رمضان ونحوه، والمفروض عدم وجوب
الإتيان بها إلا في وقت خاص، لا في أول وقت الإمكان.
وثالثها: واجبات فورية على نحو تعدد المطلوب، فعلى ما ذكرنا من الحمل
لزم خروج الصنفين الأولين من الواجبات أيضا عن إطلاقهما، فيختص الإطلاق
بخصوص الصنف الثالث. ومن الطبيعي أن هذا من أظهر مصاديق تخصيص الأكثر.
فالنتيجة: أنه لا دليل على الفور لا من الداخل ولا من الخارج بحيث يحتاج
عدم إرادته إلى دليل خاص. وكذلك لا دليل على التراخي، وعندئذ ففي كل مورد
ثبت بدليل خاص الفور أو التراخي فهو، وإلا فمقتضى الأصل عدمه.
نتائج البحوث إلى هنا عدة نقاط:
الأولى: أن صيغة الأمر موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني
في الخارج، ولا تدل وضعا إلا على ذلك. وأما دلالتها على إبراز التهديد أو
التخيير أو نحو ذلك تحتاج إلى قرينة. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): من أن الصيغة تستعمل
دائما في معنى واحد والاختلاف إنما هو في الداعي قد تقدم نقده بشكل موسع (1).
الثانية: أن الوجوب مستفاد من الصيغة أو ما شاكلها بحكم العقل بمقتضى

(1) راجع ص 118 بداية بحث صيغة الأمر.
217

قانون العبودية والمولوية، لا بالدلالة الوضعية، ولا بالإطلاق ومقدمات الحكمة.
هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أن تفسير صيغة الأمر - مرة بالطلب، ومرة أخرى بالبعث
والتحريك، ومرة ثالثة بالإرادة - لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنى محصل.
الثالثة: ذكر صاحب الكفاية (قدس سره): أن دلالة الجمل الفعلية في مقام الإنشاء على
الوجوب أقوى وآكد من دلالة الصيغة عليه. ولكن قد تقدم نقده بصورة موسعة في
ضمن البحوث السابقة، وقلنا هناك: إنه لا فرق بمقتضى قانون العبودية والمولوية
بين الجمل الفعلية وصيغة الأمر في الدلالة على الوجوب، وما ذكره (قدس سره) من النكتة
لأقوائية دلالتها قد سبق منا عدم صلاحيتها لذلك (1).
الرابعة: أن الواجب التوصلي يطلق على معنيين:
أحدهما: ما لا يعتبر قصد القربة فيه.
وثانيهما: ما لا تعتبر المباشرة فيه من المكلف نفسه، بل يسقط عن ذمته بفعل
غيره، بل ربما لا يعتبر في سقوطه الالتفات والاختيار، بل ولا إتيانه في ضمن فرد
سائغ.
الخامسة: إذا شككنا في كون الواجب توصليا بالمعنى الثاني وعدمه فإن كان
الشك في اعتبار قيد المباشرة في سقوطه وعدم اعتباره فمقتضى الإطلاق اعتباره
وعدم سقوطه بفعل غيره. وأما إذا لم يكن إطلاق فمقتضى الأصل العملي هو
الاشتغال دون البراءة.
وأما إذا كان الشك في اعتبار الاختيار والالتفات في سقوطه وعدم اعتباره،
أو في اعتبار إتيانه في ضمن فرد سائغ فمقتضى الإطلاق عدم الاعتبار، فالاعتبار
يحتاج إلى دليل. هذا إذا كان في البين إطلاق. وأما إذا لم يكن فمقتضى الأصل
العملي هو البراءة.
السادسة: ما إذا شككنا في اعتبار قصد القربة في واجب وعدم اعتباره فهل

(1) راجع ص 132.
218

هنا إطلاق يمكن التمسك به لإثبات عدم اعتباره أم لا؟ المعروف والمشهور بين
الأصحاب: هو أنه لا إطلاق في المقام. وقد تقدم منا: أن هذه الدعوى ترتكز
على ركيزتين:
الأولى: استحالة تقييد الواجب بقصد القربة وعدم إمكانه.
الثانية: أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق. وذكروا في وجه الأول
وجوها، وقد ناقشنا في تمام تلك الوجوه واحدا بعد واحد، وأثبتنا عدم دلالة
شئ منها على الاستحالة. كما ناقشنا فيما ذكر في وجه الثاني وبينا خطأه، وأنه
لا واقع موضوعي له (1).
السابعة: أننا لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن أخذ قصد الأمر في متعلقه لا يمكن
بالأمر الأول إلا أنه لا مانع من أخذه فيه بالأمر الثاني، كما اختاره شيخنا
الأستاذ (2) (قدس سره). كما أنه لا مانع من أخذ ما يلازمه ولا ينفك عنه، وعلى تقدير
تسليم استحالة ذلك أيضا فلا مانع من بيان اعتباره ودخله في الغرض بجملة
خبرية. ومن هنا قلنا: إنه لا مانع عند الشك في ذلك من التمسك بالإطلاق إن
كان، وإلا فبأصالة البراءة.
الثامنة: أن التقابل بين الإطلاق والتقييد في مرحلة الثبوت من تقابل
الضدين، وفي مرحلة الإثبات من تقابل العدم والملكة.
التاسعة: أنه لا مانع من أخذ بقية الدواعي القربية في متعلق الأمر ولا يلزم
منه شئ من المحاذير التي توهم لزومها على تقدير أخذ قصد الأمر فيه. ولكن
منع شيخنا الأستاذ (قدس سره) عن أخذها بملاك آخر قد تقدم خطؤه بشكل موسع (3). هذا
من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) قد اعترف بأن أخذها في
المتعلق وإن كان ممكنا إلا أنه ادعى القطع بعدم وقوعه في الخارج. ولكن قد

(1) راجع بيانه في ص 154 - 179.
(2) قد تقدم في ص 160 فراجع.
(3) مر ذكره في ص 180 - 181 فراجع.
219

ذكرنا هناك خطأه (1)، وأنه لا يلزم من عدم أخذها خاصة عدم أخذ الجامع بينها
وبين قصد الأمر، فلاحظ.
العاشرة: قيل: إن مقتضى الأصل اللفظي عند الشك في تعبدية واجب
وتوصليته هو كونه واجبا تعبديا، واستدل على ذلك بعدة وجوه، ولكن قد تقدم (2)
منا المناقشة في تمام تلك الوجوه، وأنها لا تدل على ذلك، فالصحيح هو ما
ذكرنا: من أن مقتضى الأصل اللفظي عند الشك هو التوصلية.
الحادية عشرة: أن مقتضى الأصل العملي عند الشك يختلف باختلاف الآراء.
فعلى رأي صاحب الكفاية (قدس سره) الاشتغال، وعلى رأينا: البراءة شرعا وعقلا على
تفصيل تقدم (3).
الثانية عشرة: أن مقتضى إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا،
فإن إرادة كل من الوجوب الغيري والتخييري والكفائي تحتاج إلى قرينة زائدة،
فالإطلاق لا يكفي لبيانها.
الثالثة عشرة: أن الأمر الواقع عقيب الحظر أو توهمه لا يدل في نفسه لا على
الوجوب ولا على الإباحة، ولا على حكم ما قبل النهي، فإرادة كل ذلك منه
تحتاج إلى قرينة.
الرابعة عشرة: أن صيغة الأمر لا تدل على المرة، ولا على التكرار في الأفراد
الطولية، كما لا تدل على الوجود الواحد أو المتعدد في الأفراد العرضية، لا مادة
ولا هيئة، واستفادة كل ذلك تحتاج إلى قرينة خارجية.
الخامسة عشرة: أن الصيغة لم توضع للدلالة على الفور، ولا على التراخي، بل
هي موضوعة للدلالة على اعتبار المادة في ذمة المكلف، فاستفادة كل من الفور
والتراخي تحتاج إلى دليل خارجي، ولا دليل في المقام. وأما آيتي المسابقة
والمسارعة فلا تدلان على الفور أصلا كما تقدم (4).

(1) قد تقدم ذكره في ص 179 فراجع.
(2) راجع وجوه الاستدلال ونقدها ص 188.
(3) راجع ص 193 - 198. (4) راجع تفصيل المناقشة ص 212 - 216.
220

مبحث الإجزاء
إتيان المأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء أم لا؟
قبل الخوض في المقصود ينبغي لنا تقديم أمور:
الأول: أن هذه المسألة من المسائل العقلية كمسألة مقدمة الواجب ومسألة
الضد وما شاكلهما. والسبب في ذلك: هو أن الإجزاء الذي هو الجهة المبحوث عنها
في تلك المسألة إنما هو معلول للإتيان بالمأمور به خارجا وامتثاله، ولا صلة له
بعالم اللفظ أصلا.
وبكلمة أخرى: أن الضابط لامتياز مسألة عقلية عن مسألة لفظية إنما هو
بالحاكم بتلك المسألة، فإن كان عقلا فالمسألة عقلية، وإن كان لفظا فالمسألة لفظية،
وحيث إن الحاكم في هذه المسألة هو العقل فبطبيعة الحال تكون عقلية. وستأتي
الإشارة إلى هذه الناحية في ضمن البحوث الآتية إن شاء الله تعالى (1).
الثاني: ما هو المراد من كلمة " على وجهه " في العنوان؟
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ما هذا لفظه: (الظاهر أن المراد من وجهه في
العنوان هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا وعقلا، مثل: أن
يؤتى به بقصد التقرب في العبادات، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به

(1) سيأتي تفصيل المسألة في ص 226 فانتظر.
221

شرعا، فإنه عليه يكون " على وجهه " قيدا توضيحيا، وهو بعيد، مع أنه يلزم
خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على المختار - كما تقدم - من أن قصد
القربة من كيفيات الإطاعة عقلا، لا من قيود المأمور به شرعا. ولا الوجه المعتبر
عند بعض الأصحاب، فإنه - مع عدم اعتباره عند المعظم وعدم اعتباره عند من
اعتبره إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات - لا وجه لاختصاصه بالذكر
على تقدير الاعتبار، فلابد من إرادة ما يندرج فيه من المعنى، وهو ما ذكرناه كما
لا يخفى) (1).
وغير خفي أن ما أفاده إنما يقوم على أساس نظريته (قدس سره) من استحالة أخذ
قصد القربة قيدا في المأمور به شرعا، وإنما هو قيد فيه عقلا، إذ على هذا بطبيعة
الحال يكون قيد " على وجهه " احترازيا.
وأما بناء على نظريتنا من إمكان أخذه ابتداء في المأمور به، أو على نظرية
شيخنا الأستاذ (قدس سره) من إمكان أخذه بمتمم الجعل ولو بالأمر الثاني فلا محالة يكون
القيد توضيحيا لا تأسيسيا، حيث لا يفيد وجوده على هذا أزيد من الإتيان
بالمأمور به بتمام أجزائه وشرائطه، ولا يلزم من عدمه خروج التعبديات عن محل
النزاع.
ودعوى: أن ذكره إنما هو لإدخال قصد الوجه خاطئة جدا.
أما أولا: فلأنه لا دليل على اعتبار قصد الوجه.
وأما ثانيا: فلاختصاصه بالعبادات في صورة الإمكان، فلا معنى لجعله في
العنوان العام الشامل للتعبديات والتوصليات ولصورتي الإمكان وعدمه.
هذا، مضافا إلى أنه لا وجه لتخصيصه بالذكر من بين سائر الأجزاء
والشرائط، حيث إنه على تقدير اعتباره أحد تلك الأجزاء أو الشرائط.
الثالث: ما هو المراد من الاقتضاء؟
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ما هذا لفظه: (الظاهر أن المراد من الاقتضاء

(1) كفاية الأصول: ص 105.
222

هاهنا: الاقتضاء بنحو العلية والتأثير، لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى
الإتيان، لا إلى الصيغة.
إن قلت: هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره، وأما بالنسبة إلى أمر آخر
كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي
فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الإجزاء، أو بنحو آخر
لا يفيده.
قلت: نعم، لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم،
غايته: أن العمدة في سبب الاختلاف فيهما إنما هو الخلاف في دلالة دليلهما - هل
أنه على نحو يستقل العقل بأن الإتيان به موجب للإجزاء ويؤثر فيه؟ - وعدم
دلالته، ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا بخلافه في الإجزاء بالإضافة إلى أمره،
فإنه لا يكون إلا كبرويا لو كان هناك نزاع كما نقل عن بعض، فافهم) (1).
ما أفاده (قدس سره) متين جدا، والسبب في ذلك واضح، وهو: أن غرض المولى
متعلق بإتيان المأمور به بكافة أجزائه وشرائطه، فإذا أتى المكلف بالمأمور به
كذلك حصل الغرض منه لا محالة وسقط الأمر، ضرورة أنه لا يعقل بقاؤه مع
حصوله، كيف؟ حيث إن أمده بحصوله فإذا حصل انتهى الأمر بانتهاء أمده، وإلا
لزم الخلف، أو عدم إمكان الامتثال أبدا، وهذا هو المراد من الاقتضاء في عنوان
المسألة، لا العلة في الأمور التكوينية الخارجية كما هو واضح. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن عمدة النزاع في المسألة إنما هي في الصغرى، يعني في
دلالة أدلة الأمر الاضطراري أو الظاهري على ذلك وعدم دلالتها. ولكن بعد
إثبات الصغرى فالمراد من الاقتضاء فيهما هذا المعنى، فإذا لا فرق بين اقتضاء
الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الإجزاء عن أمره وبين اقتضاء الإتيان بالمأمور
به بالأمر الاضطراري أو الظاهري الإجزاء عنه، فهما بمعنى واحد وهو ما عرفت.

(1) كفاية الأصول: ص 105 - 106.
223

الرابع: في بيان المراد من الإجزاء، الظاهر أنه لم يثبت له معنى اصطلاحي
خاص في مقابل معناه اللغوي ليكون هذا المعنى الاصطلاحي هو المراد منه في
المقام، بل المراد منه هو معناه اللغوي، وهو الكفاية، غاية الأمر أن متعلقها يختلف
باختلاف الموارد، فقد يكون متعلقه القضاء، وقد يكون الإعادة، فإجزاء المأتي به
عن المأمور به هو كفايته عما أمر به إعادة وقضاء، أو قضاء فقط فيما إذا دل الدليل
على وجوب الإعادة دونه، وذلك كمن صلى في الثوب المتنجس نسيانا، حيث إنه
على المشهور إذا تذكر في الوقت وجبت الإعادة عليه، وإذا تذكر في خارج
الوقت لم يجب القضاء، وإن كان الأقوى عندنا وجوبه، أو المسافر الذي يتم في
السفر نسيانا، أو جهلا بالموضوع، حيث إنه إذا تذكر أو ارتفع جهله في الوقت
وجبت الإعادة عليه، وإن تذكر أو ارتفع في خارج الوقت لم يجب القضاء،
وهكذا، فإجزاء المأتي به عن المأمور به في أمثال الموارد هو كفايته عما أمر به
قضاء لا إعادة.
الخامس: قد يتوهم أنه لا فرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار
بدعوى: أن القول بالإجزاء موافق للقول بالمرة، والقول بعدم الإجزاء موافق للقول
بالتكرار، فإذا لا وجه لعقدهما مسألتين مستقلتين، بل ينبغي عقدهما مسألة واحدة.
كما أنه قد يتوهم عدم الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للأداء، باعتبار أن
القائل بالتبعية يلتزم ببقاء الأمر في خارج الوقت عند عدم امتثاله في الوقت، وهو
متحد في النتيجة مع القائل بعدم الإجزاء، وعليه فلا فرق بين مسألتنا هذه وتلك
المسألة. ولكن كلا التوهمين خاطئ جدا.
أما الأول: فلأن القول بالإجزاء وإن كان موافقا في النتيجة مع القول بالمرة،
كما أن القول بعدم الإجزاء موافق في النتيجة مع القول بالتكرار إلا أن مجرد ذلك
لا يوجب اتحاد المسألتين، وذلك لما تقدم (1) في ضمن البحوث السابقة: من أن

(1) لم نظفر على تصريح به في ما تقدم. نعم، سيأتي التصريح به في الجزء الرابع من هذا
الكتاب، في الوجه الثاني من الجهة الرابعة من جهات بحث اجتماع الأمر والنهي فراجع.
224

الضابط لامتياز مسألة عن مسألة أخرى إنما هو بالجهة المبحوث عنها في المسألة،
وحيث إن الجهة المبحوث عنها في مسألتنا هذه غير الجهة المبحوث عنها في تلك
المسألة فلا مناص من تعددهما، وذلك لأن الجهة المبحوث عنها في مسألة المرة
والتكرار إنما هي تعيين حدود المأمور به شرعا من حيث السعة والضيق، وأنه
الطبيعة المقيدة بالمرة أو التكرار، وفي هذه المسألة إنما هي إجزاء الإتيان
بالمأمور به عن الواقع عقلا، وعدم إجزائه بعد الفراغ عن تعيين حدوده شرعا.
وإن شئت قلت: إن البحث في المسألة الأولى بحث عن دلالة الصيغة أو ما
شاكلها على المرة أو التكرار، ولذا تكون من المباحث اللفظية. والبحث في هذه
المسألة بحث عن وجود ملازمة عقلية بين الإتيان بالمأمور به خارجا وبين
إجزائه. ومن هنا قلنا: إنها من المسائل العقلية.
وصفوة القول: إن الاشتراك في النتيجة لو كان موجبا لوحدة المسألتين أو
المسائل لكان اللازم أن يجعل المسائل الأصولية بشتى أشكالها وألوانها مسألة
واحدة، لاشتراك الجميع في نتيجة واحدة، وهي: القدرة على الاستنباط، وهذا كما
ترى.
وأما التوهم الثاني: فلأن مسألتنا هذه تختلف عن مسألة تبعية القضاء للأداء
موضوعا وجهة.
أما الأول: فلأن الموضوع في هذه المسألة هو الإتيان بالمأمور به، وأنه
يجزي عن الواقع أم لا؟ والموضوع في تلك المسألة هو عدم الإتيان بالمأمور به
في الوقت. ومن الطبيعي أنه لا جامع بين الوجود والعدم، وعليه فلا ربط بين
المسألتين في الموضوع أصلا.
وأما الثاني: فلأن الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة إنما هي وجود
الملازمة بين الإتيان بالمأمور به وإجزائه عن الواقع عقلا، وعدم وجودها. والجهة
المبحوث عنها في تلك المسألة إنما هي دلالة الأمر من جهة الإطلاق على تعدد
المطلوب وعدم دلالته عليه، فإذا لا ارتباط بينهما، لا في الموضوع، ولا في الجهة
225

المبحوث عنها.
وبعد ذلك نقول: إن الكلام يقع في مسائل ثلاث:
الأولى: أن إتيان المأمور به بكل أمر يقتضي الإجزاء عن أمره عقلا، سواء
كان ذلك الأمر أمرا واقعيا، أو اضطراريا، أو ظاهريا.
الثانية: أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري هل يوجب الإجزاء عن
الأمر الواقعي أم لا؟
الثالثة: أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري هل يوجب الإجزاء عنه إعادة
وقضاء، أو قضاء فحسب، أم لا؟
أما الكلام في المسألة الأولى: فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): أن إجزاء
الإتيان بكل مأمور به عن أمره عقلي، سواء كان أمرا واقعيا، أو اضطراريا، أو
ظاهريا، ضرورة أن العقل يستقل بعدم بقاء موضوع للتعبد ثانيا (1).
أقول: الأمر كما أفاده (قدس سره)، ومن هنا لا نزاع فيه، وإن نسب الخلاف إلى بعض
ولكنه على تقدير صحته لا يعتد به أصلا.
والوجه في ذلك: هو أن المكلف إذا جاء بالمأمور به وأتى به خارجا واجدا
لجميع الأجزاء والشرائط حصل الغرض منه لا محالة وسقط الأمر، وإلا لزم
الخلف، أو عدم إمكان الامتثال أبدا، أو بقاء الأمر بلا ملاك ومقتض، والجميع
محال.
أما الأول: فلأن لازم بقاء الأمر تعدد المطلوب، لا وحدته، وهو خلف.
وأما الثاني: فلأن الامتثال الثاني كالامتثال الأول، فإذا لم يكن الأول موجبا
لسقوط الأمر فالثاني مثله...، وهكذا.
وأما الثالث: فلأن الغرض إذا تحقق في الخارج ووجد كيف يعقل بقاء الأمر؟
ضرورة استحالة بقائه بلا مقتض وسبب.

(1) انظر كفاية الأصول: ص 107.
226

فالنتيجة: أن إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمره ضروري، من دون فرق في
ذلك بين المأمور به الواقعي والظاهري والاضطراري أصلا.
وعلى ضوء ما بيناه قد ظهر: أن الامتثال عقيب الامتثال غير معقول.
ولكن قد يتوهم جواز الامتثال بعد حصول الامتثال في موردين:
أحدهما: جواز إعادة من صلى فرادى جماعة، وقد دلت على ذلك عدة
روايات:
منها: صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: في الرجل يصلي
الصلاة وحده ثم يجد جماعة قال: " يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء " (1).
ومنها: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: " لا ينبغي للرجل
أن يدخل معهم في صلاتهم وهو لا ينويها صلاة، بل ينبغي له أن ينويها، وإن كان
قد صلى فإن له صلاة أخرى " (2) إلى غيرهما من الروايات الواردة في هذا الباب،
فهذه الروايات تدل على جواز الامتثال ثانيا بعد حصول الامتثال الأول، وهو
الإتيان بالصلاة فرادى، وهذا من الامتثال بعد الامتثال الذي قد قلنا باستحالته.
وثانيهما: جواز إعادة من صلى صلاة الآيات ثانيا، وقد دلت على ذلك
صحيحة معاوية بن عمار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " صلاة الكسوف إذا فرغت
قبل أن ينجلي فأعد " (3) وغيرها من الروايات الواردة في المقام، فإنها ظاهرة في
وجوب إعادتها ثانيا فضلا عن أصل مشروعيتها، وهذا معنى الامتثال بعد
الامتثال.
أقول: أما الجواب عن المورد الأول فالنصوص الواردة فيه على طائفتين:
إحداهما: ما وردت في إعادة الصلاة مع المخالفين:
منها: صحيحة عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " ما منكم أحد

(1) وسائل الشيعة: ج 8 ص 401 ب 54 من أبواب صلاة الجماعة ح 1، طبع آل البيت (ع).
(2) المصدر السابق: ح 2.
(3) الوسائل: ج 7 ص 498 ب 8 من أبواب صلاة الكسوف والآيات ح 1.
227

يصلي صلاة فريضة في وقتها ثم يصلي معهم صلاة تقية وهو متوضئ إلا كتب الله
له بها خمسا وعشرين درجة، فارغبوا في ذلك " (1).
ومنها: صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ما من عبد يصلي
في الوقت ويفرغ ثم يأتيهم ويصلي معهم وهو على وضوء إلا كتب الله له خمسا
وعشرين درجة " (2).
وغيرهما من الروايات الواردة في هذا المورد.
وهذه الطائفة لا تدل على مشروعية الامتثال بعد الامتثال أصلا. والسبب في
ذلك: أنها وردت في مقام التقية فتكون الإعادة لأجلها، ولولا التقية لم يكن لنا
دليل على جوازها ومشروعيتها.
وعلى الجملة: فالروايات الدالة على جواز الإعادة تقية لا تدل على جواز
الامتثال بعد الامتثال، فهذه الطائفة أجنبية عن محل الكلام ولا صلة لها بما نحن
بصدده.
وثانيتهما: ما دلت على إعادة الصلاة جماعة، منها: الصحيحتان المتقدمتان (3)،
ولكنهما أيضا لا تدلان على مشروعية الامتثال ثانيا، بداهة أن الامتثال الأول
- وهو الإتيان بالمأمور به بجميع أجزائه وشرائطه - مسقط لأمره ويكون علة له،
وإلا فلا يعقل سقوطه.
بل مفاد تلك الروايات استحباب الإعادة جماعة بداعي الأمر الاستحبابي، لا
بداعي الأمر الأول المستفاد من نفس تلك الروايات، أو بداعي الأمر الوجوبي
قضاء لا أداء، وعليه تدل صحيحة هشام بن سالم: " يصلي معهم ويجعلها الفريضة
إن شاء " (4)، وصحيحة حفص بن البختري: " يصلي معهم ويجعلها الفريضة " (5)

(1) الوسائل: ج 8 ص 302 ب 6 من أبواب صلاة الجماعة ح 1.
(2) المصدر السابق: ح 2.
(3) أي: صحيحة هشام بن سالم وصحيحة زرارة وقد مر ذكرهما في الصفحة السابقة.
(4) تقدمت الإشارة إليها في الصفحة السابقة فراجع.
(5) وسائل الشيعة: ج 8 ص 403 ب 54 من أبواب صلاة الجماعة ح 11.
228

بقرينة قوله (عليه السلام) في صحيحة إسحاق بن عمار: " صل واجعلها لما فات " (1).
وبتعبير آخر: أن المستفاد من تلك الطائفة من الروايات: هو أن إعادة الصلاة
جماعة بعد الإتيان بها فرادى أمر مستحب، فيكون الإتيان بها بقصد ذلك الأمر
الاستحبابي. نعم، من كان في ذمته قضاء فله أن يجعلها لما فات.
فالنتيجة: أنها أجنبية عن الدلالة على جواز الامتثال بعد الامتثال بالكلية،
فضلا عن الدلالة على أن سقوط الأمر الأول مراعى بعدم تعقب الامتثال الآخر
جماعة.
وأما ما ورد من الرواية: من أن الله تعالى اختار أحبهما إليه (2) فيرده: ضعف
السند فلا يمكن الاعتماد عليه، وعلى تقدير تسليم سنده فهو لا يدل على جواز
تبديل الامتثال بالامتثال الآخر، وكون سقوط الأمر مراعى بعدم تعقب الأفضل،
وذلك لأن معناه - والله العالم - هو: أن الله تعالى يعطي ثواب الجماعة فإنها عنده
تعالى أحب من الصلاة فرادى، وهذا تفضل منه تعالى، ولا سيما إذا قلنا بأن أصل
الثواب من باب التفضل، لا من باب الاستحقاق، وكيف ما كان، فهذه الرواية
ساقطة كغيرها من الروايات، فلا وجه لإطالة الكلام فيها كما عن شيخنا
المحقق (3) (قدس سره)، مع أن ما أفاده (قدس سره) في تفسير هذه الرواية خارج عن الفهم العرفي،
وراجع إلى الدقة الفلسفية كما لا يخفى.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر فساد ما احتمله شيخ الطائفة (قدس سره) في التهذيب،
واليك نصه: والمعنى في هذا الحديث (قوله (عليه السلام): يصلي معهم ويجعلها الفريضة
إن شاء): أن من صلى ولم يفرغ (4) من صلاته ووجد جماعة فليجعلها نافلة ثم
يصلي في جماعة، وليس ذلك لمن فرغ من صلاته بنية الفرض، لأن من صلى
الفرض بنية الفرض فلا يمكن أن يجعلها غير فرض (5). وأيده الوحيد (6) (قدس سره) بقوله:

(1) المصدر السابق: ص 404 ب 55 ح 1.
(2) المصدر السابق: ص 403 ب 54 ح 10.
(3) نهاية الدراية: ج 1 ص 230.
(4) في التهذيب زيادة: بعد.
(5) تهذيب الأحكام: ج 3 ص 50 ح 176 في أحكام الجماعة.
(6) حاشية المدارك: ص 254 بحث صلاة الجماعة ط - الحجرية.
229

بأنه ظاهر صيغة المضارع.
وذلك لأن ما أفاده (قدس سره) خلاف ظاهر الحديث، بل خلاف صريحه، فإنه نص
من جهة العطف بكلمة " ثم " في أن وجدانه الجماعة بعد الفراغ عن الصلاة فرادى،
لا في أثنائها. وبذلك ظهر أنه لا وجه لتأييد الوحيد (قدس سره) بأنه ظاهر صيغة
المضارع، فإنها وإن كانت ظاهرة في الفعلية إلا أن العطف بكلمة " ثم " يدل على
أن وجدانه الجماعة كان متأخرا زمانا عن إتيانه بالصلاة فرادى.
وأما الجواب عن المورد الثاني فالصحيح: هو أنه لابد من رفع اليد عن ظهور
تلك الروايات في وجوب الإعادة وحملها على الاستحباب، وذلك لاستقلال
العقل بسقوط الأمر بالامتثال الأول، فلا يعقل أن تكون الإعادة بداعي ذلك الأمر
كما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة أيضا (1).
فالنتيجة قد تحققت لحد الآن في عدة خطوط:
الأول: أن مسألة الإجزاء مسألة أصولية عقلية، وليست من المسائل اللفظية.
الثاني: أن الإتيان بكل مأمور به مسقط لأمره، وهذا ليس من محل الكلام في
شئ، وإنما الكلام في سقوط الأمر الواقعي بإتيان المأمور به بالأمر الاضطراري
أو الظاهري.
الثالث: أن الروايات الدالة على جواز الإعادة على اختلافها لا تدل على
الامتثال بعد الامتثال.
وأما الكلام في المسألة الثانية - وهي: أن الإتيان بالمأمور به بالأمر
الاضطراري هل هو مجز عن الواقع أم لا؟ - فيقع في مقامين:
الأول: فيما إذا ارتفع العذر في الوقت.
الثاني: فيما إذا ارتفع في خارج الوقت.
أما الكلام في المقام الأول فليعلم: أن محل النزاع في الإجزاء وعدمه في هذا
المقام إنما هو فيما إذا كان المأتي به في أول الوقت مأمورا به بالأمر الواقعي

(1) قد تقدم في ص 209 وص 225 فراجع.
230

الاضطراري، وذلك كما إذا كان الموضوع للأمر الاضطراري وجود العذر، وإن
كان غير المستوعب لتمام الوقت ففي مثله يقع الكلام في أن الإتيان به هل هو مجز
عن الواقع أو أنه غير مجز؟
وأما إذا كان الموضوع له العذر المستوعب لتمام الوقت فلا مجال للنزاع هنا
أصلا، وذلك لعدم الأمر - حينئذ - واقعا ليقال: إن امتثاله مجز عن الواقع أم لا؟
وذلك كما لو اعتقد المكلف استيعاب العذر في تمام الوقت فصلى في أول الوقت
ثم انكشف الخلاف وظهر أن العذر لم يكن مستوعبا ففي مثل ذلك لا أمر واقعا ولا
ظاهرا ليقال: إن امتثاله مجز عن الواقع أم لا؟
وأما إذا قامت الحجة على الاستيعاب وصلى في أول الوقت ثم انكشف
الخلاف فهو داخل في المسألة الثالثة، وهي: إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر
الظاهري عن الواقع، وعدم إجزائه عنه، وخارج عن مسألتنا هذه.
وإن شئت فقل: إن محل البحث في هذه المسألة: هو ما إذا كان الموضوع للأمر
الواقعي الاضطراري وجود العذر في زمان الإتيان بالواجب، لا العذر المستوعب
لجميع الوقت، وإلا فلا يجوز البدار حقيقة، فإن جوازه - حينئذ - مستند إلى أحد
أمرين: إما إلى القطع باستيعاب العذر، أو إلى قيام أمارة كالبينة أو نحوها على
الاستيعاب، ومع انكشاف الخلاف في هاتين الصورتين ينكشف أنه لا أمر
اضطراري واقعا ليقع البحث في إجزائه عن الواقع وعدمه.
نعم، في الصورة الثانية الأمر الظاهري موجود، ومن هنا قلنا بدخول هذه
الصورة في المسألة الآتية. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن محل الكلام في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر
الاضطراري عن الواقع وعدمه فيما إذا كان الأمر الاضطراري ناشئا عن مصلحة
الواقع. وأما إذا كان ناشئا عن مصلحة أخرى أجنبية عن مصلحة الواقع فهو خارج
عن محل الكلام، وذلك كالأمر في موارد التقية حيث إنه نشأ من المصلحة الكامنة
في نفس الاتقاء، وهو حفظ النفس أو العرض أو المال، ومن الطبيعي أن تلك
231

المصلحة أجنبية عن مصلحة الواقع، وعليه فلا مقتضى للإجزاء فيها من هذه
الناحية.
نعم، قد قلنا بالإجزاء في تلك الموارد من ناحية أخرى، وهي: وجود دليل
خاص على ذلك كما ذكرناه في محله (1).
وبعد ذلك نقول: قد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ما هذا لفظه: (تحقيق
الكلام فيه يستدعي التكلم فيه: تارة في بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر
الاضطراري من الأنحاء، وبيان ما هو قضية كل منها من الإجزاء وعدمه. واخرى
في تعيين ما وقع عليه. فاعلم: أنه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري في حال
الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافيا بتمام المصحلة وكافيا
في ما هو المهم والغرض. ويمكن أن لا يكون وافيا به كذلك، بل يبقى منه شئ
أمكن استيفاؤه، أولا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه، أو يكون بمقدار
يستحب. ولا يخفى أنه إن كان وافيا به فيجزئ، فلا يبقى مجال أصلا للتدارك، لا
قضاء ولا إعادة. وكذا لو لم يكن وافيا ولكن لا يمكن تداركه، ولا يكاد يسوغ له
البدار في هذه الصورة إلا لمصلحة كانت فيه، لما فيه من نقض الغرض وتفويت
مقدار من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الأهم، فافهم.
لا يقال عليه: فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار، لإمكان استيفاء الغرض
بالقضاء.
فإنه يقال: هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت. وأما تسويغ البدار أو
إيجاب الانتظار في الصورة الأولى فيدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار
مطلقا، أو بشرط الانتظار، أو مع اليأس عن طرو الاختيار ذا مصلحة ووافيا
بالغرض، وإن لم يكن وافيا وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقا ولو
بالقضاء خارج الوقت فإن كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزئ، فلابد من

(1) قد تقدم ذكره في ص 227 فراجع.
232

إيجاب الإعادة أو القضاء، وإلا فيجزئ، ولا مانع عن البدار في الصورتين، غاية
الأمر يتخير في الصورة الأولى بين البدار والإتيان بعملين: العمل الاضطراري في
هذا الحال، والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار، أو الانتظار والاقتصار بإتيان
ما هو تكليف المختار. وفي الصورة الثانية يتعين عليه البدار (1)، ويستحب إعادته
بعد طرو الاختيار. هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الأنحاء) (2).
ملخص ما أفاده (قدس سره) بحسب مقام الثبوت أربع صور:
الأولى: أن يكون المأمور به بالأمر الاضطراري الواقعي مشتملا على تمام
مصلحة الواقع.
الثانية: أن يكون مشتملا على بعضها مع عدم إمكان استيفاء الباقي.
الثالثة: هذه الصورة مع إمكان تدارك الباقي، ولكنه ليس بحد يلزم استيفاؤه.
الرابعة: أن يكون الباقي واجب الاستيفاء والتدارك.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه الصور:
أما الصورة الأولى: فلا إشكال في الإجزاء عن الواقع وجواز البدار حقيقة
وواقعا، لعدم الفرق حينئذ بين الفرد الاضطراري والفرد الاختياري في الوفاء
بالملاك والغرض أصلا.
وأما الصورة الثانية: فالصحيح فيها هو القول بالإجزاء، وذلك لعدم إمكان
تدارك الباقي من مصلحة الواقع. نعم، لا يجوز البدار حينئذ، ولكن لابد من فرض
ذلك فيما إذا كان الملاك في المأمور به بالأمر الاضطراري. وأما إذا كان في أمر
آخر فهو خارج عن مفروض الكلام.
كما أن جواز البدار واقعا أو عدم جوازه كذلك إنما هو بالإضافة إلى وفاء
المأمور به الاضطراري بملاك الواقع أو عدم وفائه. وأما افتراض جوازه بملاك
آخر أجنبي عن ملاك الواقع فهو فرض لا صلة له بمحل الكلام.

(1) في بعض النسخ: " يجزئ البدار ".
(2) كفاية الأصول: ص 108 - 109.
233

ومن ذلك يظهر: أن ما فرضه (قدس سره) من وجود مصلحة في نفس البدار - ولأجل
تلك المصلحة جاز - في غير محله.
وأما الصورة الثالثة: فأيضا لا مناص من القول بالإجزاء فيها، وذلك لعدم كون
الباقي من الملاك ملزما ليجب تداركه. هذا كله مما لا كلام ولا إشكال فيه.
وإنما الكلام والإشكال في الصورة الرابعة، فقد ذكر (قدس سره): أن المكلف مخير
فيها بين البدار في أول الوقت والإتيان بعملين: العمل الاضطراري في هذا الحال،
يعني: حال الاضطرار، والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار، وبين الانتظار
والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار.
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) من التخيير في هذه الصورة غير معقول، وذلك
لأنه من التخيير بين الأقل والأكثر الاستقلاليين. وقد حققنا في محله (1) أن
التخيير بينهما مستحيل إلا إذا رجع إلى التخيير بين المتباينين.
وتفصيل ذلك: هو أن مرد جواز البدار واقعا إلى أن الفرد المضطر إليه مأمور به
بالأمر الاضطراري الواقعي حقيقة وواف بتمام مصلحة الواقع، وإلا فلا يجوز
البدار كذلك قطعا. ومرد التخيير المزبور إلى عدم كون الفرد المضطر إليه مأمورا به
كذلك وعدم كونه وافيا بتمام المصلحة، وذلك لأن الشارع إذا لم يكتف بالعمل
الناقص في أول الوقت وأوجب على المكلف الإتيان بالعمل التام الاختياري بعد
رفع الاضطرار والعذر، سواء أكان المكلف آتيا بالعمل الاضطراري الناقص في
أول الوقت أم لم يأت به فبطبيعة الحال لا معنى لإيجابه العمل الاضطراري
الناقص وإلزام المكلف بإتيانه ولو على نحو التخيير، فإنه بلا ملاك يقتضيه.
وبكلمة أخرى: أن الصورة الأولى والثانية والثالثة في كلامه (قدس سره) وإن كانت من
الصور المعقولة بحسب مقام الثبوت إلا أن الصورة الأخيرة - وهي الصورة الرابعة -

(1) سيأتي في الجزء الرابع من هذا الكتاب، مبحث الوجوب التخييري، في مناقشة النقطة
الأولى مما أفاده المحقق النائيني.
234

غير معقولة، إذ بعد فرض أن الشارع لم يرفع اليد عن الواقع وأوجب على المكلف
الإتيان به على كل من تقديري الإتيان بالعمل الاضطراري الناقص في أول
الوقت وعدم الإتيان به فعندئذ بطبيعة الحال لا معنى لإيجابه الفرد الناقص، حيث
إنه لا يترتب على وجوبه أثر، بل لازم ذلك وجوبه على تقدير المبادرة، وعدمه
على تقدير عدمها. وأيضا لازم ذلك كونه مصداقا للواجب على تقدير الإتيان به،
وعدم كونه كذلك على تقدير عدم الإتيان به، والسر في كل ذلك: ما ذكرناه من أن
التخيير المذكور غير معقول.
فالنتيجة على ضوء ما بيناه: أن الواجب هو الطبيعي الجامع بين المبدأ
والمنتهى. والمفروض في المسألة هو تمكن المكلف من الإتيان بالطبيعي المزبور
في وقته من جهة تمكنه على إيجاد بعض أفراده في الخارج، ومعه لا مقتضى
لإيجاب الشارع الفرد الناقص الذي لا يفي بملاك الواقع.
وإن شئت قلت: إن المكلف إذا كان قادرا على الإتيان بالصلاة مع الطهارة
المائية - مثلا - في الوقت لم تصل النوبة إلى الصلاة مع الطهارة الترابية، لفرض أن
الأمر الاضطراري في طول الأمر الاختياري، ومع تمكن المكلف من امتثال الأمر
الاختياري لا موضوع للأمر الاضطراري، ولازم ذلك عدم جواز البدار هنا واقعا.
كما أن جوازه كذلك ملازم للإجزاء في الوقت وخارجه.
فما أفاده (قدس سره) من الجمع بين جواز البدار واقعا وعدم الإجزاء عن الواقع جمع
بين المتناقضين ثبوتا، وهو مستحيل، فإذا لا تصل النوبة إلى البحث عنه في مقام
الإثبات.
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا إمكان الجمع بينهما في مرحلة الثبوت يقع الكلام
فيه عندئذ في مرحلة الإثبات والدلالة، يعني: هل لأدلة الأمر الاضطراري إطلاق
يتمسك به في المقام أم لا؟
ذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) إلى أن لها إطلاقا، واليك نص ما أفاده:
(وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا
235

صعيدا طيبا) * (1)، وقوله (عليه السلام): " التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين " (2) هو
الإجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء، ولابد في إيجاب الإتيان به ثانيا من
دلالة دليل بالخصوص.
وبالجملة: فالمتبع هو الإطلاق لو كان، وإلا فالأصل، وهو يقتضي البراءة من
إيجاب الإعادة، لكونه شكا في أصل التكليف. وكذا عن إيجاب القضاء بطريق
أولى. نعم، لو دل دليله على أن سببه فوت الواقع ولو لم يكن هو فريضة كان القضاء
واجبا عليه، لتحقق سببه وإن أتى بالغرض ولكنه مجرد الفرض) (3).
نتيجة ما أفاده (قدس سره): هي جواز البدار مع تمكن المكلف من الإتيان بالفعل
الاختياري التام، وعدم وجوب الإعادة عليه بعد ارتفاع العذر في أثناء الوقت،
وذلك من جهة إطلاق الدليل، ومع عدمه أصالة البراءة عن وجوبها.
وقد اختار هذا القول في خصوص الطهارة الترابية جماعة، منهم: السيد
الطباطبائي (قدس سره) في العروة (4).
والصحيح في المقام أن يقال: إنه لا إطلاق لأدلة مشروعية التيمم بالقياس
إلى من يتمكن من الإتيان بالعمل الاختياري في الوقت، بداهة أن وجوب التيمم
وظيفة المضطر ولا يكون مثله مضطرا، لفرض تمكنه من الصلاة مع الطهارة المائية
في الوقت، ومجرد عدم تمكنه منها في جزء منه لا يوجب كونه مكلفا بالتكليف
الاضطراري ما لم يستوعب تمام الوقت.
وقد ذكرنا في بحث الفقه (5): أن موضوع وجوب التيمم هو عدم التمكن من
استعمال الماء عقلا أو شرعا في مجموع الوقت بمقتضى الآية الكريمة وما شاكلها،

(1) النساء: 43.
(2) وسائل الشيعة: ج 2 ص 381 ب 21 من أبواب التيمم ح 1، وفيه: " أن التيمم أحد
الطهورين ".
(3) كفاية الأصول: ص 109.
(4) انظر العروة الوثقى: ج 1 ص 500 في أحكام التيمم (م 3) طبع المكتبة العلمية.
(5) التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 10 ص 208 في أحكام التيمم (م 3).
236

فلو افترضنا عدم استيعاب العذر لمجموع الوقت وارتفاعه في الأثناء لم يكن
المكلف مأمورا بالتيمم، لعدم تحقق موضوعه.
وبكلمة أخرى: أن الواجب على المكلف هو طبيعي الصلاة - مثلا - على نحو
صرف الوجود كما هو الحال في جميع التكاليف الإيجابية، وعليه فطر والاضطرار
على فرد من ذلك الطبيعي لا يوجب ارتفاع الحكم منه، وذلك لأن ما طرأ عليه
الاضطرار - وهو الفرد - لا حكم له على الفرض، وما هو متعلق الحكم - وهو
الطبيعي الجامع - لم يطرأ عليه الاضطرار كما هو المفروض، فإذا لا مقتضى
لوجوب التيمم أصلا.
فالنتيجة: أن حال الأفراد الطولية كحال الأفراد العرضية من هذه الناحية،
فكما أن طرو الاضطرار إلى بعض الأفراد العرضية لا يوجب سقوط التكليف عن
الطبيعي الجامع بينها فكذلك طروه على بعض الأفراد الطولية، فلا فرق بينهما من
هذه الناحية أصلا.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة: أنه لا إطلاق لأدلة الأمر الاضطراري في
محل الكلام.
ومن ضوء هذا البيان يظهر: أنه لا يجوز التمسك بأصالة البراءة أيضا، وذلك
لأن رفع الاضطرار في أثناء الوقت - كما هو المفروض في المقام - كاشف عن عدم
تعلق الأمر واقعا بالفعل الاضطراري ليكون الإتيان به مجزيا عن الواقع، بل من
الأول كان متعلقا بالفعل الاختياري التام، والمفروض عدم امتثاله، فإذا لا نشك
في وجوب الإتيان به لنتمسك بأصالة البراءة عنه.
وعلى الجملة: فما أتى به المكلف في الخارج من الفعل الاضطراري لا أمر به
على الفرض، وما كان متعلقا للأمر لم يأت به، فإذا كيف يشك في وجوب
الإعادة؟
ومن ذلك تبين أنه لا يجوز البدار هنا واقعا، بداهة أن جوازه كذلك ملازم
للإجزاء. ومن الطبيعي أن الإجزاء لا يمكن إلا في فرض وجود الأمر بالفعل
237

الاضطراري واقعا.
نعم، قد ثبت جواز البدار في بعض الموارد بدليل خاص مع فرض تمكن
المكلف من الفعل الاختياري التام في الوقت.
منها: موارد التقية حيث يجوز البدار فيها واقعا، وإن علم المكلف بارتفاعها
في أثناء الوقت وتمكنه من العمل بلا تقية فيجوز له الوضوء تقية مع تمكنه منه
بدونها في آخر الوقت أو في مكان آخر...، وهكذا. ومن هنا لا تجب الإعادة بعد
ارتفاع العذر.
ومنها: ما إذا تيمم المكلف في آخر الوقت وصلى به صلاتي الظهرين ثم دخل
وقت المغرب وهو باق على تلك الطهارة جاز له أن يصلي به صلاتي المغرب
والعشاء واقعا...، وهكذا.
وقد تحصل من ذلك: أن في كل مورد ثبت جواز البدار واقعا بدليل خاص
نلتزم فيه بالإجزاء، وفي كل مورد لم يثبت جوازه بدليل كذلك فلا نقول به من جهة
الأدلة العامة.
فالنتيجة في نهاية المطاف: هي أنه لا وجه للقول بالإجزاء في هذه المسألة
أصلا.
ولكن مع ذلك ذهب شيخنا الأستاذ (قدس سره) إلى الإجزاء فيها، بدعوى: أن المكلف
لا يخلو من أن يكون متمكنا من الطهارة المائية في تمام الوقت أولا يكون كذلك،
أو يكون متمكنا منها في بعضه دون بعضه الآخر. فعلى الشقين الأولين لا إشكال
في التخيير العقلي بين الأفراد الطولية والعرضية. وعلى الأخير فبما أن ملاك
التخيير هو تساوي الأفراد في الغرض فلا يحكم العقل فيه بالتخيير بين الإتيان
بالفرد الناقص والإتيان بالفرد التام يقينا.
ولكن إذا ثبت جواز البدار مع اليأس فيما إذا فرض ارتفاع العذر في الأثناء
بعد الإتيان به والامتثال فلا يخلو من أن يكون جوازه حكما ظاهريا طريقيا،
أو حكما واقعيا.
238

فعلى الأول فيبتنى القول بالإجزاء على القول به في المسألة الآتية، وهي:
إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن الواقع بعد انكشاف الخلاف في
الوقت ولا يكون له مساس بمسألتنا هذه.
وعلى الثاني فلا مناص من الالتزام بالإجزاء، وذلك لقيام الضرورة
والإجماع القطعي على عدم وجوب ست صلوات على المكلف في يوم واحد،
وهو يكشف كشفا قطعيا عن أن الفعل الناقص في حال الاضطرار ولو مع فرض
عدم استيعاب العذر لمجموع الوقت واجد لتمام الملاك، فيكون في هذا الحال في
عرض الأفراد الواجدة واقعا. وعلى هذا فلا مناص من القول بالإجزاء، ضرورة
أن الإعادة بعد استيفاء الملاك بتمامه من الامتثال بعد الامتثال (1).
وفيه أولا: ما عرفت من عدم الدليل على جواز البدار في مفروض المسألة إلا
في بعض الموارد (2).
وثانيا: على تقدير تسليم ثبوته لا مناص من القول بالإجزاء، لما عرفت من
الملازمة بين جواز البدار واقعا والإجزاء (3).
وثالثا: على تقدير تسليم عدم الملازمة بينهما وأن الإجزاء يحتاج إلى دليل،
إلا أن ما أفاده من الدليل على الإجزاء - وهو قيام الإجماع والضرورة - خاص
بخصوص الصلاة ولا يعم غيرها من الواجبات، ولا دليل آخر على الإجزاء فيها،
حيث قد عرفت أنه لا إطلاق لدليل الأمر بالفعل الاضطراري في أمثال الموارد
التي يرتفع العذر في أثناء الوقت ليتمسك بإطلاقه (4).
وأما الأصل العملي فالظاهر أنه لا مانع من التمسك بأصالة البراءة عن
وجوب الإعادة في المقام. والسبب في ذلك: هو أن جواز البدار في مفروض
الكلام وإن لم يكن كاشفا عن أن العمل الناقص واجد لتمام ملاك الواقع كشفا
قطعيا إلا أن احتماله موجود. ومن الطبيعي أن مع هذا الاحتمال لا يمكن إحراز

(1) أجود التقريرات ج 1 ص 196.
(2) ص 234 وبعدها.
(3) ص 234 وبعدها.
(4) ص 234 وبعدها.
239

تعلق الأمر بالعمل الاختياري التام من الأول، وذلك لأن العمل الاضطراري
الناقص إن كان واجدا لتمام ملاكه فلا مقتضى للأمر به، وإلا فلا موجب لسقوطه،
وحيث إننا لا ندري بوفائه بملاكه وعدم وفائه به فبطبيعة الحال لا نحرز وجوبه
وتعلق الأمر به. ومن المعلوم أن مثل هذا مورد لأصالة البراءة.
وقد تحصل من ذلك: أن نتيجة أصالة البراءة هي الإجزاء وعدم وجوب
الإعادة.
وأما المسألة الثانية (1) - وهي ما إذا ارتفع العذر بعد خروج الوقت فهل يجزئ
الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن القضاء في خارج الوقت أم لا؟ - فقد اختار
شيخنا الأستاذ (قدس سره) الإجزاء، بدعوى: أن عدم الإجزاء في هذه الصورة غير معقول.
والوجه في ذلك: أن القيد المتعذر على المكلف في تمام الوقت لا يخلو من
أن يكون له دخل في ملاك الواجب مطلقا حتى حين التعذر، وعدم تمكن المكلف
من إتيانه كالطهور مثلا. وإما أن لا يكون له دخل كذلك، بل يختص دخله في
ملاكه بحالة التمكن منه دون التعذر، كالطهارة المائية مثلا.
فعلى الأول لا يمكن الأمر بفاقده في الوقت، لعدم الملاك له.
وعلى الثاني فالأمر بالفاقد له باق، لفرض اشتماله على المصلحة التامة،
وعدم دخل القيد المتعذر فيها حال التعذر.
وعلى الجملة: فبناء على دخل القيد مطلقا في ملاك الواجب ومصلحته فلا
يمكن الأمر بالأداء في الوقت، لا بالإضافة إلى المأمور به من جهة انتفاء القدرة
على امتثاله، ولا بالإضافة إلى الباقي من جهة عدم اشتماله على الملاك والمصلحة
التامة، إذا لابد من الأمر بالقضاء في خارج الوقت.
وبناء على عدم دخل القيد مطلقا في ملاكه فبطبيعة الحال يتعين الأمر بالفاقد
في الوقت، لاشتماله على الفرض على تمام الملاك والمصلحة، وعدم دخل القيد
المزبور فيه في هذا الحال، وعليه فلا أمر بالقضاء، لعدم ملاك له.

(1) كذا، والمناسب: وأما المقام الثاني.
240

فالجمع بين الأمر بالأداء في الوقت والأمر بالقضاء في خارج الوقت جمع
بين المتناقضين، ضرورة أن الأمر بالقضاء تابع لصدق فوت الفريضة، وإلا فلا
مقتضى له أصلا. ومن الطبيعي أن صدق فوت الفريضة يستلزم عدم الأمر بالفاقد
في الوقت ودخل القيد مطلقا في الملاك حتى حال التعذر. كما أن الأمر بالفاقد في
الوقت يستلزم عدم دخل القيد المذكور في الملاك مطلقا، وهو يستلزم عدم
وجوب القضاء في خارج الوقت، لفرض عدم صدق فوت الفريضة، إذا لا يمكن
الجمع بين الأمر بالفاقد في الوقت وإيجاب القضاء في خارج الوقت.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر: أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري في
الوقت مجز عن المأمور به بالأمر الواقعي الأولي في خارج الوقت، ولا يمكن
القول بعدم الإجزاء عنه، لما عرفت من أنه لا يمكن الجمع بين الأمر بإتيان الفاقد
في الوقت وإيجاب القضاء في خارج الوقت، وأن الجمع بينهما جمع بين
المتناقضين، وعليه فلا مناص من القول بالإجزاء هنا (1).
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) قابل للنقد والمؤاخذة بحسب مقام الثبوت، وإن
كان تاما بحسب مقام الإثبات فلنا دعويان:
الأولى: عدم تمامية ما أفاده (قدس سره) بحسب مرحلة الثبوت.
الثانية: تمامية ما أفاده (قدس سره) بحسب مرحلة الإثبات.
أما الدعوى الأولى فلإمكان أن يقول قائل: بأن الصلاة مع الطهارة المائية
- مثلا - مشتملة على مصلحتين ملزمتين، أو على مصلحة واحدة ذات مرتبتين:
شديدة وضعيفة، ومع تعذر القيد - وهو الطهارة المائية في المثال - يكون الفاقد
- وهو الصلاة مع الطهارة الترابية - مشتملا على إحدى المصلحتين الملزمتين، أو
على المصلحة الضعيفة، وحيث إنها ملزمة في نفسها فلذلك توجب الأمر بالفاقد
في الوقت لاستيفائها، ولئلا تفوت عن المكلف. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن المصلحة الثانية أو المرتبة الشديدة حيث إنها كانت
أيضا ملزمة وقابلة للاستيفاء والتدارك، والمفروض أنه لا يمكن تداركها في

(1) أجود التقريرات ج 1 ص 195.
241

الوقت فلا مناص من إيجاب القضاء في خارج الوقت لاستيفائها وتداركها.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أن الجمع بين الأمر بالفاقد في الوقت والقضاء في
خارج الوقت ليس جمعا بين المتناقضين. فما أفاده (قدس سره) من أن الجمع بينهما جمع
بين المتناقضين خاطئ جدا، ولا واقع موضوعي له أصلا.
نعم، لو كانت للصلاة مع الطهارة المائية - مثلا - مصلحة واحدة شخصية ليست
ذات مراتب تم ما أفاده (قدس سره) من عدم إمكان الجمع بين الأمر بالأداء في الوقت
والأمر بالقضاء في خارج الوقت، وذلك لما عرفت من أن القيد المتعذر إذا كان
دخيلا في ملاك الواجب مطلقا حتى حال التعذر فلا موجب للأمر بالفاقد في
الوقت، وإلا فلا مقتضى للأمر بالقضاء في خارج الوقت (1).
ولكن حيث أمكن اشتمال الواجب في حال الاختيار والتمكن على مصلحة
واحدة ذات مراتب أو على مصلحتين ملزمتين في مقام الثبوت فلا يتم ما أفاده (قدس سره).
وأما الدعوى الثانية فلأنه لا مانع من التمسك بإطلاق أدلة الأمر
الاضطراري لإثبات عدم وجوب القضاء في خارج الوقت، وذلك لأن المولى إذا
كان في مقام بيان تمام الوظيفة الفعلية للمكلف بهذه الأدلة ومع ذلك سكت عن
بيان وجوب القضاء عليه في خارج الوقت فبطبيعة الحال كان مقتضى إطلاقها
المقامي عدم وجوبه، وإلا كان عليه البيان.
وعلى الجملة: فلا قصور في أدلة الأوامر الاضطرارية كقوله تعالى: * (فلم
تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا.... إلى آخره) * (2)، وقوله (عليه السلام): " التراب أحد
الطهورين " (3) وقوله (صلى الله عليه وآله): " يكفيك عشر سنين " (4) وما شاكلهما [فإنها] غير

(1) قد تقدم في ص 240 فلاحظ.
(2) النساء: 43.
(3) وسائل الشيعة: ج 3 ص 381 ب 21 من أبواب التيمم ح 1 و ب 23 ص 386 ح 5، وفيه:
" فإن التيمم... ".
(4) وسائل الشيعة: ج 3 ص 368 ب 14 من أبواب التيمم ح 12 و ب 23 ص 386 ح 4، وفيه:
" يكفيك الصعيد.... ".
242

قاصرة عن إثبات وجوب الفعل الناقص على المكلف في الوقت، وعدم وجوب
القضاء عليه في خارج الوقت.
هذا إذا كان لها إطلاق. وأما مع عدمه فالمرجع هو الأصل العملي، وهو في
المقام أصالة البراءة عن وجوب القضاء للشك فيه وعدم الدليل عليه.
وإن شئت قلت: إن وجوب القضاء حيث كان بأمر جديد سواء أكان موضوعه
فوت الفريضة أم كان فوت الواقع بملاكه فلا علم لنا به في المقام.
أما على الأول فواضح، لفرض عدم فوات الفريضة من المكلف في الوقت.
وأما على الثاني فلاحتمال أن يكون المأمور به بالأمر الاضطراري مشتملا
على تمام ملاك الواقع فلا يفوت منه الواقع بملاكه. ومن الواضح أن وجوب القضاء
مع الشك فيه وعدم قيام دليل عليه مورد لأصالة البراءة، ولا خصوصية له من هذه
الناحية.
فنتيجة هذه المسألة: هي إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن
المأمور به بالأمر الواقعي، وعدم وجوب قضائه في خارج الوقت.
ثم إن الاضطرار قد يكون بغير اختيار المكلف، وقد يكون باختياره.
أما الأول: فقد تقدم حكمه بشكل موسع فلا نعيد (1).
وأما الثاني: وهو ما إذا كان الاضطرار باختياره كما إذا كان عنده ماء يكفي
لوضوئه أو غسله فأراقه فأصبح فاقدا للماء، أو كان عنده ثوب طاهر فأنجسه
وبذلك اضطر إلى الصلاة في ثوب نجس، أو كان متمكنا من الصلاة قائما فأعجز
نفسه عن القيام...، وهكذا فهل تشمل إطلاقات الأوامر الاضطرارية لهذه الموارد
أم لا؟ وجهان، والظاهر هو الثاني.
والسبب في ذلك: هو أن تلك الإطلاقات بمقتضى الظهور العرفي وارتكازهم
منصرفة عن الاضطرار الناشئ عن اختيار المكلف وإرادته، لوضوح أن مثل قوله
تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا... إلى آخره) * ظاهر بمقتضى

(1) تقدم في ص 230 فراجع.
243

المتفاهم العرفي فيما إذا كان عدم وجدان الماء، والاضطرار إلى التيمم بطبعه وبغير
اختيار المكلف، ومنصرفة عما إذا كان باختياره. وكذا قوله (عليه السلام): " إذا قوي
فليقم " (1) وما شاكل ذلك.
وعلى الجملة: فلا شبهة في أن الظاهر من تلك الأدلة بمقتضى الفهم العرفي هو
اختصاصها بخصوص الاضطرار الطارئ على المكلف بغير اختياره، فلا تشمل ما
كان طارئا بسوء اختياره.
وعلى هذا الضوء لا يجوز للمكلف تعجيز نفسه باختياره وإرادته، فلو كان
عنده ماء - مثلا - لم يجز إهراقه وتفويته إذا علم بعدم وجدانه الماء في مجموع
الوقت، ولو فعل ذلك استحق العقوبة على ترك الواجب الاختياري التام، أو على
تفويت الملاك الملزم في محله. ومن الواضح أن العقل لا يفرق في الحكم
باستحقاق العقاب بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه إذا
كان كذلك، فكما يحكم بقبح الأول واستحقاق العقوبة عليه فكذلك في الثاني. هذا
من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد اتضح مما ذكرناه: أنه لا أمر في موارد الاضطرار
الاختياري لنبحث عن أن امتثاله مجز عن الواقع أو لا؟ هذا حسب ما تقتضيه
القاعدة.
ولكن في باب الصلاة خاصة قد علمنا من الخارج عدم سقوطها من المكلف
بحال، فلو عجز نفسه باختياره عن الصلاة قائما، أو مع الطهارة المائية، أو في
ثوب طاهر وجبت الصلاة عليه قاعدا، أو مع الطهارة الترابية، أو في ثوب متنجس
وإن استحق العقاب على ترك ما هو وظيفة المختار، لأن الاضطرار إذا كان بسوء
الاختيار لم يمنع من العقاب.
فالنتيجة في نهاية المطاف: هي أن مقتضى القاعدة سقوط الأمر الأول عن

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ص 495 ب 6 من أبواب القيام ح 3.
244

المركب بسقوط جزئه أو قيده، وإثبات الأمر للفاقد يحتاج إلى دليل، والأدلة
الاضطرارية تختص بصورة الاضطرار غير الاختياري، ولا تشمل الاضطرار
الاختياري، وعندئذ ففي كل مورد من موارد الاضطرار الاختياري قام دليل
خاص على وجوب الإتيان بالفاقد - كما في باب الصلاة - فهو، وإلا فلا يجب.
هذا كله في غير موارد التقية.
وأما فيها فالظاهر عدم الفرق بين صورتي الاختيار وغيره، وذلك لإطلاق
أدلة التقية، ومقتضاه جواز الإتيان بالعمل تقية مع التمكن من الإتيان بدونها.
ومن هنا أفتى المشهور بأن من تمكن من الصلاة في موضع خال عن التقية لا
يجب عليه ذلك، بل يجوز له الإتيان بها مع العامة تقية (1)، وكذلك الحال في
الوضوء.
فالنتيجة: أن في موارد التقية يجوز للمكلف تعجيز نفسه باختياره عن الإتيان
بالعمل بدونها، كما يجوز له البدار إليها، ولا تجب الإعادة إذا ارتفعت في الأثناء،
ولا القضاء إذا ارتفعت في خارج الوقت. ولكن قد أشرنا في ضمن البحوث
السالفة أن موارد التقية خارجة عن محل الكلام في المقام (2).
إلى هنا قد انتهينا إلى عدة نتائج:
الأولى: أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري لا يجزئ عن الواقع إذا
ارتفع العذر في أثناء الوقت.
الثانية: أن الإتيان به مجز عنه إذا كان العذر مستوعبا لتمام الوقت.
الثالثة: أن إطلاقات الأوامر الاضطرارية لا تشمل الاضطرار الناشئ عن
اختيار المكلف وإرادته إلا في موارد التقية.
الرابعة: ثبوت الملازمة بين تعلق بالفعل الاضطراري واقعا وبين الإجزاء عن
الواقع.

(1) انظر المكاسب: ص 321 رسالة التقية، والتنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 4 ص 308.
(2) تقدم ذكرها في ص 237 - 238 فراجع.
245

أو فقل: ثبوت الملازمة بين جواز البدار واقعا والإجزاء. هذا بحسب نظريتنا
من وجود الملازمة بين تعلق الأمر بالفعل الاضطراري واقعا وبين الإجزاء عن
الواقع في مقام الثبوت، ومعه لا حاجة في الرجوع إلى أدلة أخرى لإثبات ذلك،
ولا تصل النوبة إلى البحث عن وجود هذه الأدلة في مقام الإثبات.
ولكن لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بمقالة صاحب الكفاية (قدس سره) فعندئذ بطبيعة الحال
نحتاج في إثبات ذلك إلى التماس دليل اجتهادي أو أصل عملي.
وأما الدليل الاجتهادي فصوره أربع:
الأولى: أن يكون كل من دليل الأمر الاضطراري ودليل اعتبار الجزئية أو
الشرطية مطلقا.
الثانية: أن يكون لدليل اعتبار الجزئية أو الشرطية إطلاق دون دليل الأمر
الاضطراري.
الثالثة: بعكس ذلك، بأن يكون لدليل الأمر الاضطراري إطلاق دون دليل
اعتبار الجزئية أو الشرطية.
الرابعة: أن لا يكون لشئ من الدليلين إطلاق.
أما الصورة الأولى: فلا ينبغي الشك في أن إطلاق دليل الأمر الاضطراري
يتقدم على إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية، وذلك لحكومته عليه. ومن
الطبيعي أن إطلاق دليل الحاكم يتقدم على إطلاق دليل المحكوم، كما هو الحال
في تقديم جميع الأدلة المتكفلة لإثبات الأحكام بالعناوين الثانوية كأدلة " لا
ضرر " و " لا حرج " وما شاكلهما على الأدلة المتكفلة لإثباتها بالعناوين الأولية.
وعلى ضوء ذلك فقضية إطلاق الأمر الاضطراري من ناحية، وتقديمه على
إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية من ناحية أخرى هي الإجزاء وعدم
وجوب الإعادة، حتى فيما إذا ارتفع الاضطرار في الوقت فضلا عن خارج
الوقت.
والسبب في ذلك: هو أن الإطلاق كاشف عن أن الفعل الاضطراري تمام
246

الوظيفة، وأنه واف بملاك الواقع، وإلا لكان عليه البيان، ولازمه - بطبيعة الحال -
عدم إعادة العمل حتى في الوقت فما ظنك بخارج الوقت؟
وأما الصورة الثانية: فمقتضى إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية هو عدم
سقوطهما في حال الاضطرار. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه لا إطلاق لدليل الأمر الاضطراري على الفرض.
فالنتيجة بطبيعة الحال: هي عدم الإجزاء، ووجوب الإعادة إذا عادت القدرة
للمكلف.
وأما الصورة الثالثة: فهي بعكس الصورة الثانية تماما، يعني: أن مقتضى
إطلاق دليل الأمر الاضطراري من ناحية، وعدم إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو
الشرطية من ناحية أخرى هو الإجزاء لا محالة، وعدم وجوب الإعادة عند إعادة
القدرة.
وأما الصورة الرابعة: فحيث إنه لا إطلاق لكل من الدليلين فالمرجع فيها هو
الأصول العملية، وقد اختلفت كلمات الأعلام فيها.
فذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) إلى أن الأصل هنا يقتضي البراءة عن
وجوب الإعادة، بتقريب أن الفعل الاضطراري حيث كان متعلقا للأمر واقعا ولذا
جاز البدار إليه والمفروض أن المكلف أتى به فعندئذ إذا ارتفع العذر في الوقت
وعادت القدرة - بطبيعة الحال - شك في أصل وجوب الإعادة، وهو مرجع لأصالة
البراءة، كما إذا شك في وجوب القضاء (1).
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) مبني على جواز البدار واقعا في مثل المقام،
فعندئذ لا مناص من القول بالإجزاء، لما تقدم من الملازمة بينه وبين وفاء المأمور
به بالأمر الاضطراري بتمام ملاك الواقع وإجزائه عنه (2)، وعليه فلو شك في
وجوب الإعادة بعد ارتفاع العذر طبعا يكون شكا في أصل التكليف، ومقتضى

(1) كفاية الأصول: ص 110.
(2) مر ذكره في ص 235 فراجع.
247

الأصل عدمه. إلا أنك قد عرفت في ضمن البحوث السابقة أنه لا دليل على
جواز البدار واقعا فيما إذا لم يكن العذر مستوعبا لمجموع الوقت كما هو
المفروض في المقام، وعليه فلا مناص من القول بعدم الإجزاء ووجوب الإعادة
بعد ارتفاع العذر (1).
وذهب بعض الأعاظم (قدس سرهم): إلى أن مقتضى الأصل هنا الاشتغال دون البراءة،
وقد قرب ذلك بوجهين:
الأول: أن الشك في وجوب الإعادة فيما إذا ارتفع العذر في الوقت نشأ من
الشك في القدرة على استيفاء المصلحة الباقية من العمل الاختياري، وهذا وإن
كان شكا في أصل التكليف ومقتضى الأصل فيه البراءة إلا أنه لما كان ناشئا من
الشك في القدرة فالمرجع فيه هو قاعدة الاشتغال، لما تقرر في محله (2) من أن
الشك في التكليف إذا كان ناشئا عن الشك في القدرة على الامتثال فهو مورد
لحكم العقل بالاشتغال دون البراءة كما لا يخفى.
الثاني: أن المقام داخل في كبرى مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير
ببيان: أنا نعلم إجمالا بأن الجامع بين الفعل الاضطراري والاختياري مشتمل
على مقدار من المصلحة، ولكنا نشك في أن المقدار الباقي من المصلحة الملزمة
أيضا قائم بالجامع لتكون نتيجته التخيير بين الإتيان بالفعل الاضطراري والإتيان
بالفعل الاختياري، ولازم ذلك هو إجزاء الإتيان بالفعل الاضطراري عن الواقع،
لأن المكلف مع الإتيان به قد امتثل الواجب في ضمن أحد فرديه وهو
الاضطراري، أو أنه قائم بخصوص الفرد الاختياري لتكون نتيجته التعيين،
ولازمه عدم إجزائه عنه، لفرض أنه غير واف بتمام مصلحته، فلابد عندئذ من
الإتيان به ثانيا، وحيث إننا لا نحرز هذا ولا ذاك بالخصوص فبطبيعة الحال نشك
في أن التكليف في المقام هل تعلق بالجامع أو بخصوص الفرد الاختياري؟ وهذا

(1) راجع ص 236.
(2) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 399.
248

معنى دوران الأمر بين التعيين والتخيير، والمرجع فيه التعيين بقاعدة الاشتغال.
ولنأخذ بالنقد على كلا الوجهين:
أما الوجه الأول: فلما حققناه في محله من أنه لا فرق في الرجوع إلى أصالة
البراءة في موارد الشك في التكليف بين أن يكون منشؤه الشك في القدرة، أو
الشك من جهة أخرى، كعدم النص، أو إجماله، أو تعارض النصين، أو نحو ذلك،
ضرورة عدم الفرق بينهما، ولا موجب لتقييد أصالة البراءة بغير المورد الأول، فإنه
بلا دليل ومقتض، وتمام الكلام في محله (1).
وأما الوجه الثاني: فلأن ما أفاده (قدس سره) من دوران الأمر في المقام بين التعيين
والتخيير وإن كان صحيحا إلا أن ما ذكره (قدس سره): من أن المرجع فيه قاعدة الاشتغال
خاطئ جدا ولا واقع موضوعي له، والسبب في ذلك: هو أننا قد حققنا في موطنه
أن المرجع في كافة موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو أصالة البراءة دون
قاعدة الاشتغال، إلا في موردين:
الأول: فيما إذا دار الأمر بينهما في الحجية، كما إذا دل دليل على وجوب
شئ والآخر على حرمته وفرضنا العلم الخارجي بحجية أحدهما في هذا الحال
فعندئذ إن كان الدليلان متساويين فالحجية تخييرية، وإن كان أحدهما محتمل
الرجحان بالإضافة إلى الآخر فهو الحجة دونه، وذلك لأنه إما بخصوصه حجة أو
هو أحد فردي الحجية، وهذا بخلاف الآخر، فإن احتمال أنه بخصوصه حجة دون
ذاك غير محتمل، فإذا لا محالة تكون حجيته مشكوكة. وقد ذكرنا في محله: أن
الشك في الحجية في مرحلة الإنشاء مساوق للقطع بعدمها في مرحلة الفعلية فلا
أثر له (2)، وهذا معنى حكم العقل بالتعيين في مثل هذا المورد.
الثاني: فيما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في موارد التزاحم والامتثال (3).
بيان ذلك: أن الحكمين في هذه الموارد إن كانا متساويين فالمكلف مخير بين

(1) نهاية الأفكار ج 1 ص 230.
(2) راجع مصباح الأصول: ج 2 ص 111 و 448 - 459 دوران الأمر بين التعيين والتخيير.
(3) راجع مصباح الأصول: ج 2 ص 111 و 448 - 459 دوران الأمر بين التعيين والتخيير.
249

امتثال هذا وذاك. وإن كان أحدهما محتمل الأهمية دون الآخر ففي مثله تعين
امتثاله بحكم العقل دون ذاك، وذلك بقانون أن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة
اليقينية، وحيث إن المكلف في مفروض الكلام يعلم باشتغال ذمته بالتكليف فلا بد
له من الخروج عن عهدته وتحصيل الأمن من العقوبة عليه، ومن الطبيعي أنه لا
يحصل له الأمن منها إلا بامتثال ما هو محتمل الأهمية دون غيره، بداهة أن وظيفته
في الواقع لا تخلو من أن تكون هي التخيير بينهما، أو التعيين والإتيان بخصوص
هذا، وعلى كلا التقديرين حيث إن امثتاله مؤمن دون امتثال غيره تعين بحكم العقل.
وأما في غير هذين الموردين فالمرجع هو أصالة البراءة، وذلك لأن تعلق
التكليف بالجامع معلوم، وتعلقه بالخصوصية الزائدة مشكوك فيه، ومقتضى الأصل
البراءة عنه، وهذا كما في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
وبعد ذلك نقول: إن دوران الأمر في المقام وإن كان بين التعيين والتخيير إلا
أنه حيث كان في مقام الجعل لا في مقام الفعلية والامتثال فبطبيعة الحال يدخل
في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، لفرض أن تعلق الأمر بالجامع بين
الفعل الاختياري والاضطراري معلوم، وتعلقه بخصوص الفعل الاختياري
مشكوك فيه، للشك في أن فيه ملاكا ملزما يخصة فمقتضى الأصل فيه البراءة.
وقد تحصل مما ذكرناه: أن الصحيح هو ما ذهب إليه المحقق صاحب
الكفاية (قدس سره): من أن الأصل يقتضي البراءة عن وجوب الإتيان بالفعل الاختياري (1).
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة، وهي: أن تعلق الأمر الاضطراري بالفعل
الناقص وجواز البدار إليه واقعا مع فرض تمكن المكلف من الإتيان بالفعل
الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار في أثناء الوقت يحتاج إلى دليل، وقد قام الدليل
على ذلك في خصوص موارد التقية وأن البدار فيها جائز كما أشرنا إليه سابقا.
وأما فيما عدا موارد التقية فقد أشرنا (2) إلى أن جماعة منهم: السيد (قدس سره) في

(1) كفاية الأصول: ص 110.
(2) تقدمت الإشارة إليه في ص 236 فراجع.
250

العروة قد اختاروا أن مقتضى إطلاق دليل وجوب التيمم هو جواز البدار إليه مع
احتمال ارتفاع العذر في الوقت، وتمكن المكلف من الإتيان بالصلاة مع الطهارة
المائية فيه.
ومن هنا قال (قدس سره) في المسألة الثالثة من أحكام التيمم: (الأقوى جواز التيمم
في سعة الوقت وإن احتمل ارتفاع العذر في آخره أو ظن به... إلى أن قال: فتجوز
المبادرة مع العلم بالبقاء، ويجب التأخير مع العلم بالارتفاع) (1).
هذا، وحري بنا أن نقول: إن ما ذكروه في مسألة التقية في غاية الصحة
والمتانة ولا مناص عن الالتزام به. وأما ما ذكروه في مسألة التيمم فلا يمكن
المساعدة عليه بوجه، والسبب في ذلك: ما تقدم من أنه لا إطلاق لأدلة وجوب
التيمم من الآية والروايات بالإضافة إلى الموارد التي لا يستوعب العذر فيها
مجموع الوقت، لفرض تمكن المكلف معه من الإتيان بالصلاة مع الطهارة المائية،
ومن الطبيعي أن النوبة لا تصل - عندئذ - إلى الصلاة مع الطهارة الترابية (2).
وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في ضمن البحوث السالفة بشكل أوسع، كما
وقد بينا في مبحث الفقه بصورة موسعة: أن ما ادعوه من جواز البدار خاطئ جدا
ولا واقع موضوعي له، وما يظهر من بعض الروايات جوازه قد تكلمنا فيه هناك
فلاحظ (3).
وأما الأدلة العامة فلا تدل على مشروعية العمل الناقص مع تمكن المكلف
من الإتيان بالعمل التام في الوقت.
أما حديث رفع الاضطرار والإكراه فقد ذكرنا في محله: أن مفاده نفي الحكم،
لا إثباته (4)، يعني: أن الوجوب المتعلق بالمركب عند اضطرار المكلف إلى

(1) راجع العروة الوثقى: ج 1 ص 500 (م 3) طبع المكتبة العلمية.
(2) راجع ص 236.
(3) انظر التنقيح في شرح العروة: ج 10 ص 207 - 218.
(4) راجع مصباح الأصول: ج 2 ص 267 - 269.
251

ترك جزء أو شرط منه يرتفع بمقتضى هذا الحديث. وأما الأجزاء الباقية التي
تمكن المكلف منها فالحديث لا يدل على وجوبها، مثلا: إذا اضطر إلى ترك
الطهارة المائية ارتفع عنه الوجوب المتعلق بالصلاة معها. وأما وجوب الإتيان
بالصلاة مع الطهارة الترابية فهو يحتاج إلى دليل خاص، وحديث الاضطرار لا
يدل على ذلك، وكذلك الحال في حديث النسيان وما شاكله.
وأضف إلى ذلك: أن حديث الاضطرار أو النسيان أو نحو ذلك إنما يكون
رافعا للتكليف إذا تعلق بترك الواجب في مجموع الوقت. وأما إذا تعلق بتركه في
بعض الوقت لا في مجموعه فلا أثر له، ولا يكون رافعا للتكليف، فإن ما تعلق به
الاضطرار أو النسيان أو نحو ذلك لا يكون مأمورا به، وما هو مأمور به - وهو
الطبيعي الجامع بين الأفراد الطولية والعرضية - لم يتعلق به فلا وجه لسقوط وجوبه.
ومن هنا يظهر حال مثل قوله (عليه السلام): " ما من شئ حرمه الله تعالى إلا وقد
أحله عند الضرورة " (1)، وذلك لوضوح أنه لا يدل إلا على جواز ارتكاب ما
تعلقت الضرورة به، وهو أجنبي عن المقام بالكلية.
وأما قاعدة " الميسور " أو ما شاكلها فمضافا إلى ما حققناه في محله من أنه
لا أصل لهذه القاعدة وأنها قاصرة سندا ودلالة (2) فهي أجنبية عن المورد ولا صلة
لها به أصلا، وذلك لعدم تحقق موضوعها، حيث إن المكلف على الفرض متمكن
من الإتيان بالواجب في ضمن فرد كامل في أثناء الوقت بعد ارتفاع العذر، ومن
المعلوم أنه مانع عن صدق عنوان المعسور عليه لتصل النوبة إلى ميسوره.
وعلى الجملة: فالواجب على المكلف - وهو طبيعي الصلاة مع الطهارة المائية
مثلا - في مجموع الوقت المحدد له، ومن الطبيعي أن تمكنه من الإتيان به في
ضمن فرد كامل يوجب عدم صدق المعسور في حقه، ليكون الفرد الاضطراري
- وهو الصلاة مع الطهارة الترابية - ميسورا.

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ص 282 ب 1 من أبواب القيام ح 6 و 7 باختلاف في اللفظ.
(2) مصباح الأصول: ج 2 ص 477 - 485.
252

فالنتيجة في نهاية المطاف: هي عدم قيام دليل على تعلق الأمر الاضطراري
بالعمل الناقص مع تمكن المكلف من الإتيان بالعمل التام في أثناء الوقت.
نعم، قد قام دليل خاص على ذلك في خصوص موارد التقية.
وأما الكلام في المسألة الثالثة - وهي إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر
الظاهري عن المأمور به بالأمر الواقعي وعدمه فيما إذا انكشف الخلاف بعلم
وجداني أو تعبدي - فقد اختلفت كلمات الأصحاب فيها على أقوال:
الأول: الإجزاء مطلقا.
الثاني: عدمه مطلقا.
الثالث: التفصيل بين ما إذا انكشف الخلاف بعلم وجداني، وما إذا انكشف
بعلم تعبدي فيجزئ على الثاني دون الأول.
الرابع: التفصيل بين القول بالسببية والقول بالطريقية، فعلى الأول لا مناص
من الإجزاء دون الثاني.
الخامس: التفصيل بين أقسام السببية بالالتزام بالإجزاء في بعضها، وبعدمه
في بعضها الآخر.
السادس: التفصيل بين الأمارات والأصول بالالتزام بعدم الإجزاء في موارد
الأمارات، والإجزاء في موارد الأصول، وقد اختار هذا التفصيل المحقق صاحب
الكفاية (قدس سره) (1).
ولكن ينبغي لنا عطف الكلام في هذا التفصيل قبل أن نحرر محل النزاع وبيان
ما هو الحق في المسألة من الأقوال.
فنقول: قد أفاد (قدس سره) في وجه ذلك ما إليك لفظه: (والتحقيق: أن ما كان منه
يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه، وكان بلسان تحقق ما هو
شرطه أو شطره كقاعدة الطهارة أو الحلية، بل واستصحابهما في وجه قوي ونحوها
بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية يجزئ، فإن دليله يكون حاكما على

(1) كفاية الأصول: ص 110 - 111.
253

دليل الاشتراط ومبينا لدائرة الشرط، وأنه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية،
فانكشاف الخلاف لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إليه
يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل، وهذا بخلاف ما كان بلسان أنه ما
هو الشرط واقعا كما هو لسان الأمارات فلا يجزئ، فإن دليل حجيته حيث كان
بلسان أنه واجد لما هو الشرط الواقعي فبارتفاع الجهل ينكشف أنه لم يكن
كذلك، بل كان لشرطه فاقدا) (1).
توضيح ما أفاده (قدس سره): هو أن الحكم الظاهري على قسمين:
أحدهما: حكم ظاهري مجعول في ظرف الشك، والجهل بالواقع حقيقة من
دون نظر إلى الواقع أصلا.
وثانيهما: حكم ظاهري مجعول أيضا في ظرف الشك في الواقع والجهل به إلا
أنه ناظر إلى الواقع وكاشف عنه.
والأول مفاد الأصول العملية، كقاعدة الطهارة والحلية والاستصحاب،
والثاني مفاد الأمارات.
أما الأول: فلأن المجعول في موارد تلك الأصول هو الحكم الظاهري في
ظرف الشك والجهل بالواقع بما هو جهل، ومن الطبيعي أن ذلك إنما يكون من دون
لحاظ نظرها إلى الواقع أصلا، ولذا اخذ الشك في موضوعه في لسانها. ومن هنا لا
يتصف بالصدق تارة وبالكذب تارة أخرى، ضرورة أن الحكم الظاهري المجعول
في مواردها - كالطهارة أو الحلية - موجود حقيقة قبل انكشاف الخلاف، وبعد
الانكشاف يرتفع من حينه لا من الأول، كارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه حتى
الاستصحاب بناء على نظريته (قدس سره)، وفي مثله لا يعقل الإتصاف بالصدق مرة
وبالكذب أخرى.
نعم، قد يكون الحكم مطابقا للحكم الواقعي، وقد يكون مخالفا له، ولكن هذا

(1) كفاية الأصول: ص 110 - 111.
254

أمر آخر أجنبي عن اتصافه بهما بالكلية كما هو واضح.
فالنتيجة على أساس ذلك: هي حكومة تلك الأصول على الأدلة الواقعية في
مرحلة الظاهر وتوجب توسعة دائرتها، حيث إن ما دل على شرطية الطهارة أو
الحلية للصلاة - مثلا - ظاهر في الطهارة أو الحلية الواقعية، ولكنها جعلت الشرط
أعم منها ومن الطهارة أو الحلية الظاهرية، فمقتضى هذه الحكومة: هو أن الطهارة
الظاهرية كالطهارة الواقعية فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا، فكما أن المكلف
إذا كان واجدا للطهارة الواقعية واجد للشرط حقيقة فكذلك إذا كان واجدا
للطهارة الظاهرية، فلو صلى معها ثم انكشف الخلاف لم ينكشف عن أن العمل
فاقد للشرط، بل هو واجد له حقيقة، والشئ لا ينقلب عما وقع عليه.
وبكلمة أخرى: أن الطهارة الظاهرية الثابتة بقاعدة الطهارة أو استصحابها،
وكذا الحلية الظاهرية الثابتة بقاعدتها أو استصحابها لا واقع موضوعي لها، ما عدا
الثبوت في ظرف الشك لكي تطابق الواقع مرة وتخالفه مرة أخرى. ومن المعلوم
أن ما لا واقع له لا يعقل اتصافه بالصدق والكذب، فإن معنى الصدق هو مطابقة
الشئ لواقعه الموضوعي، ومعنى الكذب عدم مطابقته له. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنها تحكم على الأدلة الواقعية وتجعل الشرط أعم منها
ومن الطهارة أو الحلية الظاهرية.
فالنتيجة على ضوء ذلك: هي أن الشرط إذا كان الأعم فلا يعقل فيه انكشاف
الخلاف وفقدان العمل له بعد ما كان واجدا له في ظرفه، غاية الأمر يرتفع بارتفاع
موضوعه وهو الشك، فهي أحكام ثابتة واقعا في مرحلة الظاهر ما دام الشك
والجهل بالواقع، فلو صلى المكلف مع ثوب طاهر ظاهرا أو في مكان مباح كذلك
ثم بان عدمها واقعا لم ينكشف أن الصلاة فاقدة للشرط في ظرفها، لفرض أن
الشرط أعم منها ومن الطهارة أو الحلية الظاهرية، والمفروض أنها واجدة لها في
ظرفها حقيقة، فلا يعقل انكشاف الخلاف بالإضافة إليها. نعم، هي فاقدة للطهارة أو
255

الحلية الواقعية، ولكن قد عرفت أن الشرط ليس خصوصها (1).
ومن هنا يظهر أن التعبير بانكشاف الخلاف في أمثال هذه الموارد إنما هو
بلحاظ الطهارة أو الحلية الواقعية.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة، وهي: أن عدم الإجزاء في موارد هذه
الأصول غير معقول فلا مناص من القول بالإجزاء.
وأما الثاني - وهو مفاد الأمارات - فلأن المجعول في مواردها إنما هو
حجيتها بلحاظ نظرها إلى الواقع وإثباتها له على ما هو عليه، من دون جعل شئ
آخر فيها في مقابل الواقع.
بيان ذلك: أما بناء على كون المجعول فيها هو الطريقية والكاشفية والعلم
التعبدي فواضح، وذلك لأن الأمارة على ضوء هذه النظرية إن كانت مطابقة للواقع
أثبتت الواقع فحسب، وإن كانت خاطئة وغير مطابقة له لم تؤد إلى حكم شرعي
أصلا، لا واقعي ولا ظاهري.
أما الأول فظاهر. وأما الثاني فلفرض عدم جعل حكم ظاهري في قبال
الحكم الواقعي في موردها، وإنما المجعول - كما عرفت - هو الطريقية والكاشفية
فحسب (2)، فإذا حالها حال القطع المخالف للواقع.
وأما بناء على نظريته (قدس سره) من أن المجعول فيها إنما هو المنجزية والمعذرية
فأيضا الأمر كذلك، لأنها على تقدير المطابقة تثبت الواقع إثباتا تنجزيا فحسب،
وعلى تقدير المخالفة فلا حكم في موردها، لا واقعا ولا ظاهرا.
أما الأول فواضح. وأما الثاني فلما عرفت من أن المجعول في مواردها إنما
هو المنجزية والمعذرية، دون شئ آخر.
وعلى الجملة: فحال الأمارات حال القطع من هذه الناحية فلا فرق بينهما
أصلا، فكما أنه لا حكم في موارد القطع المخالف للواقع لا واقعا ولا ظاهرا

(1) قد تقدم آنفا فلاحظ.
(2) قد تقدم آنفا فلاحظ.
256

فكذلك لا حكم في موارد الأمارات المخالفة له. ومن هنا تتصف الأمارات
بالصدق مرة وبالكذب مرة أخرى.
فالنتيجة في نهاية المطاف: هي أن في مقام الثبوت وإن كان لا فرق بين
الأمارات والأصول حيث إن كلتيهما وظائف مجعولة للجاهل بالواقع دون العالم
به إلا أنهما تفترقان في مرحلة الإثبات في نقطة واحدة، وهي: أن الشك قد اخذ
في موضع الأصول في لسان أدلتها، ومن هنا يكون الحكم المجعول في مواردها
في قبال الواقع من دون نظره إليه. وهذا بخلاف الأمارات فإن الشك لم يؤخذ
في موضوعها في لسان أدلتها، وأن لسانها - كما عرفت - لسان إثبات الواقع
والنظر إليه (1).
وعلى ضوء ذلك لا مناص من القول بعدم الإجزاء في موارد الأمارات عند
كشف الخلاف، لما عرفت من عدم الحكم في موارد مخالفتها للواقع، لا واقعا ولا
ظاهرا (2)، ومعه كيف يتصور الإجزاء فيها؟ ومن هنا اتفقت كلماتهم على عدم
الإجزاء في موارد القطع بالخلاف.
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) خاطئ نقضا وحلا.
أما الأول فلأن الالتزام بما أفاده (قدس سره) مما لا يمكن في غير باب الصلاة من
أبواب الواجبات كالعبادات والمعاملات. ومن هنا لو توضأ بماء قد حكم بطهارته
من جهة قاعدة الطهارة أو استصحابها ثم انكشف نجاسته لم يلتزم أحد من الفقهاء
والمجتهدين حتى هو (قدس سره) بالإجزاء فيه، وعدم وجوب إعادته.
وكذا لو غسل ثوبه أو بدنه في هذا الماء ثم انكشف نجاسته لم يحكم أحد
بطهارته...، وهكذا.
مع أن لازم ما أفاده (قدس سره) هو الحكم بصحة الوضوء في المثال الأول، وبطهارة
الثوب أو البدن في المثال الثاني، لفرض أن الشرط أعم من الطهارة الظاهرية

(1) مر ذكرهما آنفا فلاحظ.
(2) مر ذكرهما آنفا فلاحظ.
257

والواقعية، والمفروض وجود الطهارة الظاهرية هنا، ومن الطبيعي أن العمل إذا كان
واجدا للشرط في ظرفه حكم بصحته، ولا يتصور فيه كشف الخلاف كما عرفت،
وارتفاعه إنما هو بارتفاع موضوعه.
ومن هذا القبيل: ما إذا افترضنا أن زيدا كان يملك دارا - مثلا - ثم حصل لنا
الشك في بقاء ملكيته فأخذنا باستصحاب بقائها ثم اشتريناها منه، وبعد ذلك
انكشف الخلاف وبان أن زيدا لم يكن مالكا لها فمقتضى ما أفاده (قدس سره) هو الحكم
بصحة هذا الشراء، لفرض أن الاستصحاب حاكم على الدليل الواقعي، وأفاد
التوسعة في الشرط وجعله أعم من الملكية الواقعية والظاهرية، مع أنه لا يلتزم
ولن يلتزم بذلك أحد حتى هو (قدس سره).
فالنتيجة: أن ما أفاده (قدس سره) منقوض في غير باب الصلاة من أبواب العبادات
والمعاملات.
وأما الثاني - وهو جوابه حلا - فلأن قاعدتي الطهارة والحلية وإن كانتا
تفيدان جعل الحكم الظاهري في مورد الشك بالواقع والجهل به من دون نظر إليه
إلا أن ذلك مع المحافظة على الواقع بدون أن يوجب جعله في موردهما انقلابه
وتبديله أصلا.
والسبب في ذلك: ما حققناه في مورده: من أنه لا تنافي ولا تضاد بين
الأحكام في أنفسها، ضرورة أن المضادة إنما تكون بين الأمور التكوينية
الموجودة في الخارج. وأما الأمور الاعتبارية التي لا واقع موضوعي لها - ما عدا
اعتبار المعتبر - فلا تعقل المضادة والمنافاة بينها أصلا. وبما أن الأحكام الشرعية
أمور اعتبارية ولا واقع موضوعي لها في الخارج - ما عدا اعتبار الشارع إياها في
عالم الاعتبار - فلا تعقل المنافاة والمضادة بينها في أنفسها أصلا، بداهة أنه لا
تنافي بين اعتبار الوجوب في نفسه لفعل واعتبار الحرمة كذلك له، وإنما المضادة
والمنافاة بينها من إحدى ناحيتين:
258

الأولى: بحسب المبدأ - يعني: المصلحة والمفسدة - بناء على مسلك العدلية
من تبعية الأحكام لهما.
الثانية: بحسب المنتهى - يعني: مرحلة الامتثال - حيث لا يقدر المكلف على
امتثال الوجوب والحرمة المجعولين لفعل واحد في زمن واحد. كما أنه لا يمكن
اجتماعهما فيه بحسب المبدأ، فإن المصلحة الملزمة مضادة للمفسدة كذلك فلا
يعقل اجتماعهما في فعل واحد.
وعلى ضوء ذلك قد قلنا: إنه لا تنافي بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي
أصلا، لا في نفسه ولا من ناحية المبدأ، ولا من ناحية المنتهى (1).
أما الأول فلما عرفت من عدم التنافي بين الأحكام في أنفسها.
وأما الثاني فلأن الحكم الظاهري لم ينشأ عن المصلحة في متعلقه، وإنما نشأ
عن المصلحة في نفسه.
وأما الثالث فلأن الحكم الظاهري إنما هو وظيفة من لم يصل إليه الحكم
الواقعي، لا بعلم وجداني ولا بعلم تعبدي. وأما من وصل إليه الحكم الواقعي فلا
موضوع عندئذ للحكم الظاهري في مادته، فلا يجتمعان في مرحلة الامتثال لكي
تقع المنافاة بينهما في هذه المرحلة.
وعلى الجملة: ففي موارد وجود الحكم الظاهري لا يجب على المكلف
امتثال الحكم الواقعي، وفي موارد وجوب امتثاله لا حكم ظاهري في البين.
فالنتيجة: هي أنه لا تنافي بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي أصلا، وعليه
فالالتزام بوجود الحكم الظاهري في موارد قاعدة الطهارة والحلية لا ينافي
الالتزام بثبوت الحكم الواقعي في مواردهما أيضا، بل لا مناص من الالتزام بذلك
بعد بطلان التصويب والانقلاب بكافة أشكاله وألوانه كما حققناه في محله (2).
وعلى ضوء هذا الأساس فلو صلى المكلف مع طهارة البدن أو الثياب ظاهرا

(1) انظر مصباح الأصول ج 2 ص 108.
(2) المصدر السابق ص 95 - 97.
259

بمقتضى قاعدة الطهارة أو استصحابها وكان في الواقع نجسا فصلاته وإن كانت في
الظاهر محكومة بالصحة ويترتب عليها آثارها إلا أنها باطلة في الواقع، لوقوعها
في النجس، وعليه فإذا انكشف الخلاف انكشف أنها فاقدة للشرط من الأول،
وأنه لم يأت بالصلاة المأمور بها واقعا، وأن ما أتى به ليس مطابقا لها. فإذا بطبيعة
الحال تجب الإعادة أو القضاء، والإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري إنما يكون
عذرا له في تركها ما دام بقاء الجهل والشك، وأما إذا ارتفع وانكشف الحال لم يكن
معذورا في تركها.
فالأحكام الظاهرية في الحقيقة أحكام عذرية فحسب، وليست أحكاما
حقيقية في قبال الأحكام الواقعية، والمكلف مأمور بترتيب آثار الواقع عليها ما
دام الجهل، وإذا ارتفع ارتفع عذره، وبعده لا يكون معذورا في ترك الواقع،
وترتيب آثاره عليه من الأول.
وأما حديث حكومة تلك القواعد على الأدلة الواقعية - كما تقدم ذكره (1) - فلا
يجدي، والسبب في ذلك: هو أن هذه الحكومة حكومة ظاهرية موقتة بزمن الجهل
بالواقع والشك فيه، وليست بحكومة واقعية لكي توجب توسعة الواقع أو تضييقه.
ونتيجة هذه الحكومة بطبيعة الحال ترتيب آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف، فإذا
انكشف فلابد من العمل على طبق الواقع.
وبكلمة أخرى: أن الشرط هو الطهارة أو الحلية الواقعية فحسب بمقتضى
الأدلة الواقعية، وهذه القواعد والأصول إنما تثبت الطهارة أو الحلية في مواردها
عند الشك والجهل بها، والمكلف مأمور بترتيب آثار الواقع عليها ما دام هذا الشك
والجهل، فإذا ارتفع انكشف أن العمل فاقد له من الأول. وعليه فما أتى به غير
مأمور به واقعا. ومن الطبيعي أن إجزاء غير المأمور به عن المأمور يحتاج إلى
دليل خاص، وإلا فمقتضى القاعدة عدم إجزائه عنه.

(1) راجع ص 254 - 255.
260

أو فقل: إن في صورة مطابقة تلك القواعد للواقع فالشرط الواقعي موجود،
وصحة العمل مستندة إلى وجدانه، ولا أثر عندئذ لوجود الطهارة أو الحلية
الظاهرية. وأما في صورة مخالفتها للواقع فأثرها ليس إلا ترتيب آثار الواقع عليها
تعبدا في مرحلة الظاهر، لا البناء على أنها شرط حقيقة، كما أن الطهارة أو الحلية
الواقعية شرط كذلك، بداهة أن لسانها ليس إثبات أن الشرط أعم منها، بل لسانها
إثبات آثار الشرط ظاهرا في ظرف الشك والجهل، وعند ارتفاعه وانكشاف
الخلاف ظهر أن الشرط غير موجود.
ومن هنا يظهر أن هذه الحكومة إنما هي حكومة في طول الواقع وفي ظرف
الشك به، بالإضافة إلى ترتيب آثار الشرط الواقعي عليها في مرحلة الظاهر
فحسب، وليست بحكومة واقعية بالإضافة إلى توسعة دائرة الشرط وجعله الأعم
من الواقع والظاهر حقيقة.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة: وهي أن مقتضى القاعدة عند ارتفاع الجهل
وكشف الخلاف عدم الإجزاء، فالإجزاء يحتاج إلى دليل خاص، وقد ثبت ذلك
في خصوص باب الصلاة دون غيره من أبواب العبادات والمعاملات.
وقد تحصل من ذلك: أنه لا فرق بين هذه القواعد والأصول وبين الأمارات
فإنهما من واد واحد، فما أفاده (قدس سره) من التفصيل بينهما ساقط ولا أصل له كما
عرفت (1). هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: لا إشكال في أن الأمارات القائمة على الشبهات
الموضوعية - كالبينة واليد وما شاكلهما مما يجري في تنقيح الموضوع وإثباته -
خارجة عن محل البحث.
والسبب في ذلك: هو أن قيام تلك الأمارات على شئ لا يوجب قلب الواقع
عما هو عليه. والقائلون بالتصويب في الأحكام الشرعية لا يقولون به في

(1) مر ذكره في ص 258 فراجع.
261

الموضوعات الخارجية. وسيأتي - إن شاء الله تعالى - في ضمن البحوث الآتية أن
الإجزاء في موارد الأصول والأمارات غير معقول إلا بالالتزام بالتصويب فيها،
والتصويب في الأمارات الجارية في الشبهات الموضوعية غير معقول (1)، بداهة
أن البينة الشرعية إذا قامت على أن المائع الفلاني خمر - مثلا - لا توجب انقلاب
الواقع عما هو عليه من هذه الناحية، فلو كان في الواقع ماء لم تجعله خمرا،
وبالعكس، كما إذا قامت على أنه ماء وكان في الواقع خمرا لم تجعله ماء، أو إذا
قامت على أن المال الذي هو لزيد قد نقل منه بناقل شرعي إلى غيره ثم بعد ذلك
انكشف الخلاف وبان أنه لم ينتقل إلى غيره لم توجب انقلاب الواقع عما هو عليه
وتغيره، يعني: قلب ملكية زيد إلى غيره، أو إذا افترضنا أنها قامت على أن المائع
الفلاني ماء فتوضأ به ثم انكشف خلافه لم يكن مجزيا، لما عرفت من أنها لا
توجب انقلاب الواقع، ولا تجعل غير الماء ماء ليكون الوضوء المذكور مجزيا
عن الواقع (2).
ومن ناحية ثالثة: قد تسالموا على خروج موارد انكشف عدم الحكم
الظاهري فيها رأسا عن محل الكلام، وذلك كما لو استظهر المجتهد معنى من لفظ
وأفتى على طبقه استنادا إلى حجية الظهور، ثم بعد ذلك انكشف أنه لا ظهور له
في هذا المعنى المعين أصلا، بل هو مجرد وهم وخيال فلا واقع موضوعي له
فعندئذ لا ريب في عدم حجية هذا المعنى، لعدم اندراجه تحت أدلة حجية
الظهورات.
وكذا لو أفتى المجتهد على طبق رواية وقع في سلسلة سندها " ابن سنان "
بتخيل أنه " عبد الله بن سنان " الثقة ثم بان أنه " محمد بن سنان " الضعيف فإن
الاعتقاد الأول باطل، حيث إنه صرف وهم وخيال ولا واقع له.
فالنتيجة: أن كلما كان الاشتباه في التطبيق بتخيل أن اللفظ الفلاني ظاهر في
معنى ثم بان أنه غير ظاهر فيه من الأول وكان اعتقاد الظهور مجرد وهم بلا

(1) تأمل تفصيله في الصفحات اللاحقة.
(2) مر ذكره آنفا فلاحظ.
262

واقعية له، أو اعتقد أن الرواية الفلانية رواية ثقة بتخيل أن الواقع في سندها زرارة
ابن أعين - مثلا - ثم انكشف أنها رواية ضعيفة وأن الواقع في سندها ليس هو
زرارة بن أعين، بل شخص آخر لم يوثق، أو اعتقد أن الرواية الفلانية مسندة ثم
بان أنها مرسلة... وهكذا فهذه الموارد بكافة أشكالها خارجة عن محل النزاع،
وقد تسالموا على عدم الإجزاء فيها.
ومن ناحية رابعة: لا إشكال ولا خلاف أيضا بين الأصحاب في عدم الإجزاء
في موارد انكشاف الخلاف في الأحكام الظاهرية بالعلم الوجداني، بأن يعلم
المجتهد - مثلا - بمخالفة فتواه السابقة للواقع.
فالنتيجة على ضوء ما قدمناه في نهاية المطاف: هي ما يلي:
إن محل النزاع في مسألتنا هذه بين الأعلام والمحققين: هو ما إذا انكشف
الخلاف في موارد الحجج والأمارات والأصول العملية في الشبهات الحكمية
بقيام حجة معتبرة على الخلاف، وذلك كما إذا أفتى المجتهد بعدم جزئية شئ أو
شرطيته - مثلا - من جهة أصل عملي كالاستصحاب أو البراءة ثم بعد ذلك انكشف
الخلاف واطلع على دليل اجتهادي يدل على أنه جزء أو شرط، أو أفتى بذلك من
جهة أصل لفظي كالعموم أو الإطلاق أو نحو ذلك ثم بعده انكشف الخلاف واطلع
على وجود مخصص أو مقيد أو قرينة مجاز ففي هذه الموارد يقع الكلام في أن
الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري هل يجزئ عن المأمور به بالأمر الواقعي
إعادة أو قضاء، أو لا يجزئ؟ فيه وجوه وأقوال:
والصحيح: هو التفصيل بين نظرية الطريقية في باب الأمارات والحجج
ونظرية السببية.
فعلى ضوء النظرية الأولى مقتضى القاعدة عدم الإجزاء مطلقا، يعني: في
أبواب العبادات والمعاملات، وفي موارد الأصول والأمارات، إلا أن يقوم دليل
خاص على الإجزاء في مورد.
وعلى ضوء النظرية الثانية مقتضى القاعدة الإجزاء كذلك، إلا أن يقوم دليل
263

خاص على عدمه في مورد. فلنا دعويان:
الأولى: أن مقتضى القاعدة عدم الإجزاء بناء على نظرية الطريقية والكاشفية.
الثانية: أن مقتضى القاعدة الإجزاء بناء على نظرية السببية.
أما الدعوى الأولى فلأن الأمارات على ضوء هذه النظرية تكشف عن عدم
إتيان المكلف بالمأمور به الواقعي في هذه الشريعة، وأن ما أتى به ليس بمأمور به
كذلك، والمفروض أن الصحة إنما تنتزع من مطابقة المأتي به للمأمور به في
الخارج، الموجبة لسقوط الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه. كما أن الفساد
ينتزع من عدم مطابقته له المترتب عليه وجوب الإعادة والقضاء. ومن الطبيعي أن
إجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل، ولا دليل عليه، وهذا معنى
قولنا: إن مقتضى القاعدة هو عدم الإجزاء.
ولكن قد يقال (1): إن الإجزاء هو المطابق للقاعدة، واستدل عليه بأن انكشاف
الخلاف إذا كان بقيام حجة معتبرة - كما هو مفروض الكلام - فلا علم بكون الحجة
الأولى باطلة ومخالفة للواقع، كما هو الحال فيما إذا كان انكشاف الخلاف بعلم
وجداني، بل الحجة السابقة كاللاحقة من هذه الناحية، فكما يحتمل أن تكون الحجة
اللاحقة مطابقة للواقع فكذلك يحتمل أن تكون الحجة الأولى مطابقة له وإن كان
الواجب على من قامت عنده الحجة الثانية، وعلى مقلديه العمل باجتهاده الثاني
المستند إلى هذه الحجة الفعلية، دون اجتهاده السابق المستند إلى الحجة السابقة.
والسبب في ذلك: هو أن حجية السابقة إنما تسقط في ظرف وصول الحجة
اللاحقة، أما في ظرفها فهي باقية على حجيتها، بداهة أنه لا يعقل كشف الحجة
اللاحقة عن عدم حجية السابقة في ظرفها، لأن الشئ لا ينقلب عما وقع عليه،

(1) هو الظاهر من كلام صاحب العروة (قدس سره) في حاشيته على المكاسب، وإليك نص كلامه:
(وكذا لو كان رأيه عدم وجوب السورة فتبدل إلى الوجوب بعد مدة يكون عمله السابق
صحيحا، لأنه كان مطابقا للظن الذي هو حجة في ذلك الزمان كهذا الظن اللاحق). حاشية
المكاسب للسيد اليزدي: ص 93.
264

فإذا كانت السابقة متصفة بالحجية في ظرفها - كما هو المفروض - فكيف يعقل
كشف اللاحقة عن عدم حجيتها فيه؟ فالتبدل في الحجية من التبدل في الموضوع،
لا من كشف الخلاف وعدم الثبوت في الواقع، وعليه فلا وجه لبطلان الأعمال
الماضية المستندة إلى الحجة السابقة.
وبكلمة أخرى: أن الواقع كما هو مجهول له في ظرف اجتهاده الأول كذلك هو
مجهول في ظرف اجتهاده الثاني، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا، فقيام
الحجة الثانية على خلاف الأولى لا يعين بمؤداها الواقع الحقيقي لكي يستلزم
خطأ الأولى وعدم مطابقتها للواقع، بداهة أنه كما يحتمل خطأ الأولى وعدم
مطابقة مؤداها للواقع كذلك يحتمل خطأ الثانية وعدم مطابقة مؤداها له، فهما من
هذه الناحية على نسبة واحدة، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنا قد ذكرنا في غير مورد: أن الأثر إنما يترتب على
الحجية الفعلية الواصلة إلى المكلف صغرى وكبرى، وهو تنجيز الواقع عند
المصادفة، والتعذير عند الخطأ وصحة الإسناد والاستناد. وأما الحجية المجعولة
في مرحلة الإنشاء التي لم تصل إلى المكلف صغرى وكبرى فلا أثر لها أصلا. مثلا:
إذا علم بحجية البينة في الشريعة المقدسة وعلم بقيامها عل نجاسة شئ تترتب
عليها آثارها، وهي التنجيز والتعذير وصحة الإسناد والاستناد. وأما إذا علم
بحجيتها ولكن لم يعلم بقيامها على نجاسته في الخارج، أو علم بقيامها عليها
ولكنه لم يعلم بحجيتها في الشريعة المقدسة لم يترتب عليها تنجيز نجاسة ذلك
الموضوع الخارجي، بل تبقى مشكوكة فالمرجع فيها الأصول العملية من
الاستصحاب أو قاعدة الطهارة (1).
وعلى الجملة: فالحجية متقومة بالوصول، فإن وصلت إلى المكلف صغرى
وكبرى لم يبق موضوع للأصل العملي، وإن لم تصله ولو بإحدى مقدمتيها

(1) منها: ما سيأتي في الجزء الرابع من هذا الكتاب، أوائل بحث الواجب الكفائي في إيراد
الوجه الأول. ومنها: ما في مصباح الأصول: ج 2 ص 111 - 113 مبحث وقوع التعبد بالظن.
265

فالموضوع للأصل العملي موجود حقيقة، وهو الشك في الحكم الواقعي.
ومن ناحية ثالثة: أن انكشاف الخلاف في الحجية أمر غير معقول، والتبدل
فيها دائما يكون من التبدل في الموضوع وارتفاع الحكم بارتفاعه، لا عدم ثبوته
من الأول كما هو واضح.
وإن شئت قلت: إن المقام نظير النسخ في الأحكام الشرعية، فكما أن حقيقة
النسخ انتهاء الحكم بانتهاء أمده ومدة عمره وثبوت الحكم حقيقة قبل انتهائه
فكذلك حجية الأمارة الأولى، فإنها منتهية بانتهاء أمدها ومدة عمرها، وهو الظفر
بالحجة الثانية ووصولها، حيث إنها ثابتة حقيقة قبل ذلك. والسبب في ذلك: هو ما
عرفت من أن اتصاف الأمارة بالحجة متقومة بالوصول إلى المكلف بصغراها
وكبراها فمتى ما وصلت إليه كذلك اتصفت بالحجية، وإلا لم يعقل اتصافها بها (1).
وعلى هذا، فالحجة الثانية ما لم تصل إلى المكلف لا يعقل كونها مانعة عن
اتصاف الحجة السابقة بها، ولا توجب رفع اليد عنها أصلا، وذلك لفرض أنها قبل
وصولها لم تكن حجة لتكون مانعة عن حجيتها ورافعة لها، فإذا وصلت فبطبيعة
الحال كانت رافعة لحجيتها من حين الوصول، لفرض أن اتصافها بالحجية من هذا
الحين فلا يعقل أن تكون رافعة لها قبله، فإذا لا مانع من اتصافها بالحجية في وقتها
وقبل الظفر بحجية الحجة الثانية، ولا مزاحم لها في هذه الفترة من الزمن، ولا
موجب لرفع اليد عنها في تلك الفترة.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي أنه لا مناص من الالتزام بصحة الأعمال
الماضية المطابقة مع الحجة السابقة، ولا موجب لإعادتها أو قضائها في الوقت أو
خارجه، لفرض أنها صادرة عن المكلف على طبق الحجة في ظرفها واقعا، ومعه
لا مقتضى لبطلانها أصلا، ومن البديهي أن الشئ لا ينقلب عما وقع عليه.
ولنأخذ بالنقد عليه بيان ذلك: أن مقتضى الأمارة الثانية - سواء فيها القول
باتصافها بالحجة الفعلية من الأول، أو القول باتصافها بها كذلك من حين وصولها

(1) مر ذكره آنفا فلاحظ.
266

والظفر بها - هو عدم الإجزاء.
أما على التقدير الأول فواضح، حيث إنه بعد انكشاف الخلاف ظهر أن
الأمارة الثانية كانت حجة من الأول، والأمارة الأولى لم تكن حجة كذلك،
وصرف الاعتقاد بحجيتها من دون واقع موضوعي له لا أثر له أصلا. ونتيجة ذلك
بطبيعة الحال بطلان الأعمال الماضية ووجوب إعادتها أو قضائها، حيث إنها لم
تكن مطابقة للحجة في ظرف حدوثها، بل كانت مخالفة لها من ذلك الوقت على
الفرض، غاية الأمر أن المكلف جاهل بذلك، ومعه كيف يمكن القول بالإجزاء
وعدم وجوب الإعادة أو القضاء؟ ولكن هذا التقدير مجرد فرض لا واقع له، وذلك
لما عرفت من أن حجية الأمارة فعلا متقومة بالوصول، فلا يعقل اتصافها بها كذلك
من دون وصولها إلى المكلف صغرى وكبرى.
وإن شئت قلت: إن الحجية وإن كانت كغيرها من الأحكام الشرعية، فكما أن
لها مرتبتين: مرتبة الإنشاء، ومرتبة الفعلية فكذلك للحجية مرتبتين: مرتبة إنشائها
وهي جعلها على نحو القضية الحقيقية ولا أثر لها في هذه المرتبة، ومرتبة فعليتها:
وهي مرتبة ترتب الآثار عليها، ومن الطبيعي أن هذه المرتبة تتوقف على وصولها
إلى المكلف، حيث إن الآثار المرغوبة منها كالتنجيز والتعذير وصحة الإسناد
والاستناد لا تترتب عليها إلا بعد فعليتها ووصولها، ضرورة أنه لا معنى لحجية
شئ فعلا إلا ترتيب تلك الآثار عليه.
وأما على التقدير الثاني فلأن الصفة الحجية وإن كانت تحدث للأمارة
المتأخرة بعد الظفر بها ووصولها - ولا معنى لاتصافها بها قبل ذلك، ومن هنا
قلنا: إن انكشاف الخلاف في الحجية أمر غير معقول، والتبدل فيها إنما هو من
التبدل في الموضوع (1) - إلا أن مدلولها أمر سابق، حيث إنها تحكي عن ثبوت
مدلولها في الشريعة المقدسة من دون اختصاصه بزمن دون آخر، وبعصر دون

(1) قد تقدم القول في ص 264 فراجع.
267

عصر، وذلك كما إذا افترضنا أن المجتهد أفتى بطهارة شئ من جهة قاعدة الطهارة
ثم وجد ما يدل على نجاسته كالاستصحاب مثلا، كما إذا علم أن حالته السابقة هي
النجاسة فهذا لا يكشف عن عدم حجية القاعدة في ظرفها، وإنما يوجب سقوطها
من حين قيامه عليها، حيث إنه لا يكون حجة إلا بعد العلم بها فإن موضوعه - وهو
الشك في البقاء - لا يتحقق إلا من هذا الحين، فكيف يعقل أن يكون رافعا لحجية
القاعدة في وقتها وكاشفا عنه كذلك؟ نعم، مفاده أمر سابق، ولذا وجب ترتيب
الأثر عليه من السابق.
ومثله: ما إذا أفتى على طبق عموم بعد الفحص عن مخصصه وعدم الظفر به
فلا يكون الظفر به بعد ذلك كاشفا عن عدم حجية العام قبله، حيث إنه لا يكون
حجة إلا بعد وصوله لا مطلقا. نعم، مدلوله كان مطلقا وهو يحكي عن ثبوته في
الشريعة المقدسة كذلك. ومن الطبيعي أن مقتضى حجية ذلك ثبوت مدلوله من
الابتداء، ولازم هذا هو أن العمل المأتي به على طبق الحجة السابقة حيث كان
مخالفا لمدلولها باطل، لعدم كونه مطابقا لما هو المأمور به في الواقع، وهو مدلولها.
وكون الحجتان تشتركان في احتمال مخالفة مدلولهما للواقع لا يضر بذلك بعد
إلغاء هذا الاحتمال بحكم الشارع في الحجة الثانية حسب أدلة اعتبارها وعدم
إلغائها في الأولى، لفرض سقوطها عن الاعتبار بقاء، ومن الطبيعي أن صرف هذا
الاحتمال يكفي في الحكم بوجوب الإعادة أو القضاء، بداهة أنه لا مؤمن معه من
العقاب، فإن الحجة السابقة وإن كانت مؤمنة في ظرف حدوثها إلا أنها ليست
بمؤمنة في ظرف بقائها، لفرض سقوطها عن الحجية والاعتبار بقاء بعد الظفر
بالحجة الثانية وتقديمها عليها بأحد أشكال التقديم من الحكومة، أو الورود، أو
التخصيص، أو التقييد، أو غير ذلك، وعليه فلا مؤمن من العقاب على ترك الواقع،
ولأجل ذلك وجب - بحكم العقل - العمل على طبق الحجة الثانية وإعادة الأعمال
الماضية حتى يحصل الأمن.
وأما القضاء: فلأجل أن ما أتى به المكلف على طبق الحجة الأولى غير مطابق
268

للواقع بمقتضى الحجة الثانية، وعليه فلابد من الحكم ببطلانه، ومعه حيث يصدق
عنوان فوت الفريضة فبطبيعة الحال يجب القضاء بمقتضى ما دل على أن موضوعه
هو فوت الفريضة، فمتى تحقق تحقق وجوب القضاء.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة، وهي: أن مقتضى القاعدة عدم الإجزاء في
جميع موارد كشف الخلاف، وعدم مطابقة العمل المأتي به للواقع، سواء كانت من
موارد التبدل في الرأي أو من موارد الرجوع إلى مجتهد آخر، بلا فرق في ذلك
بين العبادات والمعاملات، والأحكام التكليفية والأحكام الوضعية، وموارد
الأصول والأمارات، وموارد كشف الخلاف بالعلم الوجداني وكشف الخلاف
بالعلم التعبدي إلا فيما قام دليل خاص على الإجزاء كما قام في خصوص الصلاة،
حيث دل حديث " لا تعاد " (1) على عدم وجوب الإعادة في غير الخمسة
المذكورة فيها، كما ستجئ الإشارة إلى ذلك من هذه الناحية إن شاء الله تعالى (2).
هذا كله بناء على حجية الأمارات على ضوء نظرية الطريقية والكاشفية.
وأما بناء على حجيتها على ضوء نظرية السببية والموضوعية فينبغي لنا
التكلم فيها في مقامين:
الأول: في بيان حقيقة السببية وأقسامها.
الثاني: في بيان ما يترتب على تلك الأقسام.
أما المقام الأول فالسببية على وجوه:
الأول: ما نسب (3) إلى الأشاعرة - وإن كانت النسبة غير ثابتة - من أن الله
تعالى لم يجعل حكما من الأحكام في الشريعة المقدسة قبل تأدية نظر المجتهد
إلى شئ، وإنما يدور جعله مدار تأدية نظرية المجتهد ورأيه، فكلما أدى إليه رأيه
من الوجوب أو الحرمة أو غير ذلك في مورد بسبب قيام أمارة أو أصل جعل

(1) انظر وسائل الشيعة: ج 6 ص 313 ب 10 من أبواب الركوع ح 5 ط آل البيت (عليهم السلام).
(2) سيأتي التفصيل في ص 293 - 294 فانتظر.
(3) ممن نسبه إليهم المحقق النائيني في فوائد الأصول: ج 3 ص 59 فراجع.
269

الشارع ذلك الحكم فيه، وإذا تبدل رأيه إلى رأي آخر كان من التبدل في الموضوع
وانقلاب الحكم بانقلابه، ولا يعقل فيه كشف الخلاف أصلا، كيف؟ حيث لا واقع ما
وراء رأيه.
وبكلمة أخرى: أن هذا القول يرتكز على أساس أنه لا مقتضى في الواقع من
المصالح أو المفاسد قبل قيام الأمارة وتأديتها إلى شئ ليكون منشأ لجعل الحكم
فيه، وإنما تحدث المصلحة أو المفسدة في فعل بسبب قيام أمارة على وجوبه أو
على حرمته، ولذا جعل الشارع الحكم على طبق ما أدت إليه.
فالنتيجة: أن مرد القول بهذه السببية إلى خلو صفحة الواقع عن الحكم قبل
تأدية الأمارة إليه وقيامها عليه، فلا يكون في حق الجاهل مع قطع النظر عنها
حكم أصلا.
الثاني: ما نسب إلى المعتزلة، وهو: أن يكون قيام الأمارة سببا لكون الحكم
الواقعي بالفعل هو المؤدي، وذلك لأن قيام الأمارة يوجب إحداث مصلحة
أو مفسدة في متعلقه، وحيث إن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في
متعلقاتها فبطبيعة الحال ينحصر الحكم الواقعي الفعلي فيه (1).
وبكلمة أخرى: أن المعتزلة قد اعترفت بثبوت الأحكام الواقعية في الشريعة
المقدسة المشترك فيها بين العالم والجاهل. ولكن على الرغم من ذلك تقول
بانحصار الأحكام الواقعية الفعلية في مؤديات الحجج والأمارات، ولا حكم في
غيرها إلا شأنا واقتضاء.
بيان ذلك: هو أن الأمارة القائمة على شئ لا تخلو من أن تكون مطابقة
للواقع، أو تكون مخالفة له. فعلى الأول فهي توجب فعلية الواقع فحسب. وعلى
الثاني فحيث إنها توجب إحداث مصلحة في المؤدى أقوى من مصلحة الواقع،
فهي بطبيعة الحال كما توجب اضمحلال مصلحة الواقع وجعلها بلا أثر كذلك
توجب جعل الحكم على طبقها.

(1) انظر الهامش السابق.
270

فالنتيجة: أنها توجب انقلاب الواقع وتغييره وجعل المؤدى على خلافه.
ثم إن السببية بهذا المعنى تمتاز عن السببية بالمعنى الأول في نقطة، وتشترك
معها في نقطة أخرى.
أما نقطة الامتياز: فهي أن الأولى تقوم على أساس اختصاص الأحكام
الواقعية بالعالمين بها، وعدم ثبوت الحكم في حق الجاهل، ولذا لا يتصور على
ضوئها الخطأ في آراء المجتهدين، حيث لا واقع ما عداها. والثانية تقوم على
أساس ثبوت الواقع المشترك بين العالم والجاهل، ولذا تختص سببيتها لجعل
المؤدى في صورة المخالفة فحسب.
وأما نقطة الاشتراك: فهي أنهما تشتركان في اختصاص الأحكام الواقعية
الفعلية بمؤديات الأمارات، فلا حكم واقعي فعلي في غيرها أصلا.
الثالث: ما نسب (1) إلى بعض الإمامية، وهو: أن يكون قيام الأمارة سببا
لإحداث المصلحة في السلوك على طبق الأمارة وتطبيق العمل على مؤداها، مع
بقاء الواقع على ما هو عليه من دون أن يوجب التغيير والانقلاب فيه أصلا، فلو
قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة - مثلا - وفرضنا أن
الواجب في الواقع هو صلاة الظهر لم توجب تغيير الواقع وانقلابه وجعل غير
الواجب واجبا، بل الواجب الواقعي باق على ما كان عليه رغم أن الأمارة قامت
على خلافه. كما أن صلاة الجمعة بقيت على ما كانت عليه من عدم الوجوب في
الواقع، فوجود الأمارة وعدمها بالإضافة إلى الواقع على نسبة واحدة.
نعم، هذه الأمارة سبب لحدوث مصلحة في السلوك على وفقها، وبها يتدارك
ما فات من مصلحة الواقع.
وعلى الجملة: فكما لا دخل للأمارة في جعل الأحكام فكذلك لا دخل لها
في فعليتها، فالأحكام الواقعية فعلية رغم قيام الأمارات على خلافها فلا تتغير به.
والسر في ذلك: هو أن قيام الأمارة لو كان موجبا لحدوث المصلحة في المودى

(1) نسبه المحقق النائيني إلى جماعة من العدلية، فانظر أجود التقريرات: ج 2 ص 67.
271

فبطبيعة الحال أوجب انقلاب الواقع.
وأما إذا لم يوجب حدوث مصلحة فيه - كما هو المفروض في المقام -
فاستحال أن يكون موجبا لانقلاب الواقع. وأما إيجابه حدوث مصلحة في
السلوك فهو غير مناف لمصلحة الواقع أصلا، وهذه المصلحة تختلف باختلاف
السلوك، كما أوضحناه في مبحث الظن (1).
وعلى ضوء هذا البيان تظهر نقطة الامتياز بين السببية بهذا المعنى والسببية
بالمعنيين الأولين كما لا يخفى.
وبعد ذلك نقول: أما على ضوء السببية بالمعنى الأول فلا مناص من القول
بالإجزاء، حيث لا واقع على الفرض ما عدا مؤدى الأمارة لنبحث عن أن الإتيان
به مجز عنه أولا، فلو تبدل رأي المجتهد إلى رأي آخر على خلاف الأول كان من
تبدل الموضوع، لا من انكشاف الخلاف، فالإتيان بما أدى إليه رأيه إتيان
بالمأمور به بالأمر الواقعي الأولي، لا أنه إتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري ليقع
البحث عن إجزائه عن الأول. إلا أن السببية بذلك المعنى غير معقولة في نفسها،
بداهة أن تصورها في نفسه كاف للتصديق ببطلانها، بلا حاجة إلى إقامة برهان
عليه من لزوم دور أو نحوه.
كيف؟ حيث إن هذا المعنى من السببية خلاف الضرورة من الشرع، ويكذبه
الكتاب والسنة، إذ لازمه بطلان بعث الرسل وإنزال الكتب على أنه لو لم يكن
حكم مجعول في الواقع قبل قيام الأمارة عليه فالأمارة تحكي عن أي شئ؟
وأنها تؤدي إلى أي حكم؟ وهل يعقل الكشف من دون مكشوف والحكاية من
دون محكي؟ فلو توقف ثبوته على قيام الأمارة عليه لزم الدور أو الخلف.
وأضف إلى ذلك: أن اختصاص الأحكام الشرعية بمن قامت عنده الأمارة
خلاف الضرورة والمتسالم عليه بين الأصحاب، وتكذبه الإطلاقات الأولية،

(1) راجع مصباح الأصول: ج 2 ص 96.
272

حيث إن مقتضاها ثبوت الأحكام الشرعية في الواقع مطلقا من دون فرق بين
العالم والجاهل.
وأما على ضوء السببية بالمعنى الثاني فالأمر أيضا كذلك، يعني: أنه لا مناص
من القول بالإجزاء، حيث إنه لا واقع على ضوئها أيضا في مقابل مؤدى الأمارة
ليقع البحث عن أن الإتيان به هل هو مجز عنه أم لا؟ بل الواقع هو مؤدى الأمارة،
فالإتيان به إتيان بالواقع. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن السببية بهذا المعنى وإن كانت أمرا معقولا بحسب مقام
الثبوت، ولا مانع في نفسه من الالتزام بانقلاب الواقع وتغييره بقيام الأمارة على
خلافه بأن يكون ثبوت الواقع مقيدا بعدم ذلك - نظير تقيد ثبوت الأحكام الواقعية
بغير موارد الاضطرار والضرر والحرج وما شاكلها - إلا أن الأدلة لا تساعد على
ذلك.
أما الإطلاقات الأولية فلأن مقتضاها ثبوت الأحكام الواقعية للعالم
والجاهل، ولا دليل على تقييدها بعدم قيام الأمارة على الخلاف كما قام الدليل
على تقييدها بغير موارد الضرر والحرج وما شاكلهما.
فالنتيجة: أن التقييد يحتاج إلى دليل، ولا دليل عليه.
وأما أدلة الاعتبار فلا تخلو من أن تكون هي السيرة العقلائية، أو تكون
غيرها من الآيات أو الروايات، فعلى كلا التقديرين لا يدل على سببية الأمارات.
أما على الأول فواضح، حيث إن سيرتهم قد جرت على العمل بها بملاك كونها
طريقا إلى الواقع وكاشفا عنه، وإنهم يعاملون معها معاملة العلم والقطع من جهة
كونها منجزة للواقع على تقدير الإصابة، ومعذرة على تقدير الخطأ. وهذا هو مرد
الطريقية والكاشفية، بداهة أنه ليس عند العقلاء طريق اعتبروه من باب السببية،
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الشارع قد أمضى تلك السيرة على ما هي عليه.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أن اعتبار الحجج والأمارات من باب الكاشفية
273

والطريقية، لا من باب السببية والموضوعية.
وأما على الثاني فأيضا كذلك، فإن الظاهر من الآيات والروايات هو إمضاء
ما هو حجة عند العقلاء، فلا تدلان على حجية شئ تأسيسا، ومن هنا لم نجد في
الشريعة المقدسة أن يحكم الشارع باعتبار أمارة تأسيسا. نعم، قد زاد الشارع في
بعض الموارد قيدا في اعتبارها، ولم يكن ذلك القيد معتبرا عند العقلاء.
وقد تحصل من ذلك: أن الحجية التأسيسية لم توجد في الشريعة المقدسة
ليتوهم أنها كانت من باب السببية، على أنه لا ملازمة بينها وبين السببية أصلا.
فالنتيجة لحد الآن قد أصبحت: أن السببية بهذا المعنى وإن كانت معقولة في
ذاتها ولا يترتب عليها المحاذير المترتبة على السببية بالمعنى الأول إلا أنها خلاف
الضرورة وإطلاقات الأدلة التي تقتضي عدم اختصاص مداليلها بالعالمين بها.
وما عن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره): من أنه قد تواترت الأخبار والآثار
على اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل (1) لعله أراد منها الروايات الدالة
على ثبوت الأحكام مطلقا، أو أراد أخبار الاحتياط والبراءة أو ما شاكلها مما
يدل بالالتزام على الاشتراك، وإلا فلم ترد رواية واحدة تدل على أن الأحكام
الواقعية مشتركة بين العالمين بها والجاهلين.
وأما السببية بالمعنى الثالث فالكلام يقع فيها من جهات ثلاث:
الأولى: أننا قد حققنا في محله: أنه لا ملزم للالتزام بهذه المصلحة التي
تسمى ب‍ " المصلحة السلوكية " لتصحيح اعتبار الأمارات وحجيتها، والسبب في
ذلك: هو أن اعتبار الأمارات من دون أن ترتب عليه مصلحة وإن كان لغوا فلا
يمكن صدوره من الشارع الحكيم، إلا أنه يكفي في ذلك ترتب المصلحة
التسهيلية عليه، حيث إن تحصيل العلم الوجداني بكل حكم شرعي لكل واحد من
المكلفين غير ممكن في زمان الحضور فضلا عن زماننا هذا، ولو أمكن هذا
فبطبيعة الحال كان حرجيا لعامة المكلفين في عصر الحضور، فما ظنك في هذا

(1) انظر فرائد الأصول: ج 1 ص 44.
274

العصر؟ ومن الواضح أن هذا مناف لكون الشريعة الإسلامية شريعة سهلة وسمحة (1).
وعلى هذا الضوء فلابد للشارع من نصب الطرق المؤدية غالبا إلى الأحكام
الواقعية وإن كان فيها ما يؤدى على خلاف الواقع أيضا.
وبكلمة أخرى: أن المصلحة التسهيلية بالإضافة إلى عامة المكلفين تقتضي
ذلك. نعم، من كان مباشرا للإمام (عليه السلام) كعائلته ومتعلقيه يمكن له تحصيل العلم في
كل مسألة بالسؤال عنه (عليه السلام). وكيف كان فمع وجود هذه المصلحة لا مقتضى
للالتزام بالمصلحة السلوكية أصلا.
الثانية: أننا قد أثبتنا في الجهة الأولى: أنه لا موجب ولا مقتضى للالتزام بها
أصلا، ولكنا نتكلم في هذه الجهة من ناحية أخرى، وهي: أن في الالتزام بها هل
هو محذور أو لا؟ فيه وجهان.
فذهب شيخنا العلامة الأنصاري (2) (قدس سره) وتبعه فيه شيخنا الأستاذ (3) (قدس سره) إلى
أنه لا محذور في الالتزام بها أصلا.
ولكن الصحيح: هو أنه لا يمكن الالتزام بها، وذلك لاستلزام القول بها
التصويب وتبدل الحكم الواقعي.
والسبب فيه: هو أننا إذا افترضنا قيام مصلحة في سلوك الأمارة التي توجب
تدارك مصلحة الواقع فالإيجاب الواقعي عندئذ تعيينا غير معقول، كما إذا افترضنا
أن القائم بمصلحة إيقاع صلاة الظهر - مثلا - في وقتها أمران:
أحدهما: الإتيان بها في الوقت.
الثاني: سلوك الأمارة الدالة على وجوب صلاة الجمعة في تمام الوقت من
دون كشف الخلاف فيه، فعندئذ امتنع للشارع الحكيم تخصيص الوجوب الواقعي
بخصوص صلاة الظهر، لقبح الترجيح من دون مرجح من ناحية، وعدم الموجب له
من ناحية أخرى بعد ما كان كل من الأمرين وافيا بغرض المولى، فعندئذ لا مناص

(1) مصباح الأصول ج 2 ص 98.
(2) فرائد الأصول: ج 1 ص 44 - 47.
(3) فوائد الأصول: ج 3 ص 95 - 97.
275

من الالتزام بكون الواجب الواقعي في حق من قامت عنده أمارة معتبرة على
وجوب صلاة الجمعة - مثلا - هو الجامع بينهما على نحو التخيير: إما الإتيان بصلاة
الظهر في وقتها، أو سلوك الأمارة المذكورة، ومعه كيف يعقل أن يكون الحكم
الواقعي مشتركا بين العالم والجاهل؟ فإنه بطبيعة الحال يكون تعيينيا في حق
العالم، وتخييريا في حق الجاهل. وهذا خلاف الضرورة والإجماع وإطلاقات
الأدلة التي مقتضاها عدم الفرق بينهما بالإضافة إلى الأحكام الواقعية.
فالنتيجة: أن مرد هذه السببية إلى السببية بالمعنى الثاني في انقلاب الواقع
وتبدله، فلا فرق بينهما من هذه الناحية.
الثالثة: أن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد ذكر: أن حال هذه السببية حال الطريقية في
عدم اقتضائها الإجزاء، فكما أن الإجزاء على ضوء القول بالطريقية يحتاج إلى
دليل - وإلا فمقتضى القاعدة عدمه - فكذلك على ضوء القول بهذه السببية (1).
توضيح ما أفاده (قدس سره): هو أن المصلحة القائمة بسلوك الأمارة تختلف باختلاف
السلوك، وهو الزمان الذي لم ينكشف الخلاف فيه، فإن كان السلوك بمقدار فضيلة
الوقت فكانت مصلحته - بطبيعة الحال - بمقدار يتدارك بها مصلحتها فحسب، لأن
فوتها مستند إليه دون الزائد. وأما مصلحة أصل الوقت فهي باقية فلابد من
استيفائها بالإعادة، وإن كان بمقدار تمام الوقت وكان انكشاف الخلاف في
خارجه فطبعا كانت مصلحته بمقدار يتدارك بها مصلحة تمام وقت الفائتة، وأما
مصلحة أصل العمل فهي باقية، فلابد من استيفائها بالقضاء في خارج الوقت.
ولنأخذ لتوضيح ذلك مثالا: وهو ما إذا افترضنا أن الواجب في الواقع هو
صلاة الظهر، ولكن الأمارة المعتبرة قامت على وجوب صلاة الجمعة في يومها،
والمكلف قد قام بالعمل على طبق هذه الأمارة وأتى بصلاة الجمعة ثم انكشف
الخلاف فعندئذ إن كان كشف الخلاف في ابتداء الوقت فالمتدارك هو خصوص

(1) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 255.
276

مصلحة وقت الفضيلة دون مصلحة نفس العمل في تمام الوقت، لفرض أن سلوكها
كان بهذا المقدار، فإذا لا محالة تجب الإعادة. وإن كان في خارج الوقت
فالمتدارك هو مصلحة الوقت خاصة دون المصلحة القائمة بذات العمل في الواقع،
ومن الطبيعي أنها تقتضي الإتيان به في خارج الوقت. وإن لم ينكشف الخلاف
إلى ما دام العمر فالمتدارك هو تمام مصلحة الواقع.
وقد تحصل من ضوء هذا البيان: أن الالتزام بالسببية بهذا الإطار لا يستلزم
التصويب في شئ، بل هي في طرف النقيض معه، حيث إن حالها حال الطريقية
في النتيجة - وهي عدم اقتضائها للإجزاء - فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره) بيان ذلك: هو أنا قد حققنا في مورده: أن
القول بأن القضاء تابع للأداء لا يمكن إتمامه بدليل، والسبب فيه: هو أن هذا القول
يقوم على أساس أن تكون للصلاة مصلحتان ملزمتان: إحداهما تقوم بذات
الصلاة، والاخرى تقوم بحصة خاصة منها، وهي: الصلاة في الوقت، وعلى هذا
فبطبيعة الحال يتعلق بها أمران: أحدهما: بطبيعي الصلاة على نحو الإطلاق،
والآخر: بحصة خاصة منها. ومن المعلوم أن سقوط الأمر الثاني بسقوط موضوعه
- كخروج الوقت - لا يستلزم سقوط الأمر الأول، لعدم الموجب له، فعندئذ إن
ترك المكلف الصلاة في الوقت عصيانا أو نسيانا وجب عليه الإتيان بها في
خارج الوقت، فإن سقوط الأمر المتعلق بالصلاة المقيدة في الوقت لا يستلزم
سقوط الأمر المتعلق بها على نحو الإطلاق، وهذا معنى القول بكون القضاء
تابعا للأداء (1).
فما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) إنما يتم على ضوء هذا القول، ولكنه خاطئ
جدا، ولا واقع موضوعي له أصلا، والسبب في ذلك: ما ذكرناه في الدورات
السابقة، وسنذكره إن شاء الله تعالى في هذه الدورة أيضا: من أن حال تقييد

(1) يأتي تفصيلة في الجزء الرابع من هذا الكتاب في بداية بحث الواجب الموسع والمضيق
فانتظر.
277

المأمور به كالصلاة - مثلا - بالوقت كحال تقييده بغيره من القيود، فكما أن المتفاهم
العرفي من تقييده بأمر زماني هو وحدة المطلوب لا تعدده، وأن المأمور به هو
الطبيعي المقيد بهذا القيد فكذلك المتفاهم العرفي من تقييده بوقت خاص فلا فرق
بينهما من هذه الناحية أصلا.
هذا في التقييد بالمتصل واضح كقوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى
غسق الليل) * (1) حيث لا يستفاد منه عرفا إلا أمر واحد متعلق بحصة خاصة من
الصلاة، وهي الصلاة في هذا الوقت الخاص، لفرض عدم انعقاد ظهور للمطلق في
الإطلاق.
وأما إذا كان التقييد بدليل منفصل فقد يتوهم تعدد المطلوب ببيان: أنه
لا يوجب انقلاب ظهور المطلق في الإطلاق إلى التقييد، غاية الأمر أنه يدل على
أنه مطلوب في الوقت أيضا. فالنتيجة: هي تعدد المطلوب، بمعنى: أن الفعل
مطلوب في الوقت لأجل دلالة هذه القرينة المنفصلة، ومطلوب في خارجه لأجل
إطلاق الدليل الأول.
ولكن هذا التوهم خاطئ جدا، وذلك لعدم الفرق في ذلك بين القرينة
المتصلة والقرينة المنفصلة، فكما أن القرينة المتصلة تدل على التقييد وعلى كون
مراد المولى هو المقيد بهذا الزمان الخاص فكذلك القرينة المنفصلة فإنها تدل على
تقييد إطلاق دليل المأمور به وكون المراد الجدي من الأول هو المقيد.
نعم، فرق بينهما من ناحية أخرى، وهي: أن القرينة المتصلة مانعة عن ظهور
الدليل في الإطلاق، ومعها لا ينعقد له ظهور، والقرينة المنفصلة مانعة عن حجية
ظهوره في الإطلاق دون أصله. ولكن من الواضح أن مجرد هذا لا يوجب
التفاوت بينهما في محل الكلام، ضرورة أنهما تشتركان في سقوط الإطلاق عن
الحجية والكاشفية عن المراد الجدي، وعدم إمكان التمسك به، غاية الأمر على

(1) الإسراء: 78.
278

الأول سقوطه عنها بسقوط موضوعها، وعلى الثاني سقوطه عنها - فحسب - من
دون سقوط موضوعها.
وقد تحصل من ذلك: أن دليل التقييد بمقتضى الفهم العرفي كاشف عن أن مراد
المولى من الأول كان هو المقيد، ولم يكن المطلق مرادا له أصلا، ولا فرق في ذلك
بين كون القيد زمانا أو زمانيا، ولولا ذلك - أي: كشف دليل التقييد بمقتضى الظهور
العرفي عما عرفت - لا نسد باب حمل المطلق على المقيد.
فالنتيجة على ضوء هذا البيان أمران:
الأول: أن القضاء يحتاج إلى أمر جديد، فلا أصل للقول بأنه تابع للأداء، فلو
ترك المكلف الصلاة في الوقت عصيانا أو نسيانا فالأمر بها في خارج الوقت
يحتاج إلى دليل.
الثاني: أن سلوك الأمارة في مجموع الوقت إذا كان وافيا بمصلحة الصلاة في
الوقت - كما هو مقتضى القول بالسببية بهذا المعنى - لا مناص من القول بالإجزاء،
وبذلك يفترق القول بهذه السببية عن القول بالطريقية، حيث إن مقتضى القاعدة
على القول بالطريقية هو عدم الإجزاء، ومقتضى القاعدة على القول بها هو
الإجزاء.
فالصحيح: أن السببية بهذا المعنى تشترك مع السببية بالمعنى الأول والثاني
في هذه النتيجة، لا مع الطريقية.
فما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أن حالها حال الطريقية من هذه الناحية
خاطئ جدا، ولا يمكن المساعدة عليه بوجه.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي: أن الأمارات على القول
بالسببية بتمام أشكالها تفيد الإجزاء، وعدم الإجزاء يحتاج إلى دليل. وعلى القول
بالطريقية لا تفيد الإجزاء، فالإجزاء يحتاج إلى دليل من دون فرق في ذلك بين
الأمارات والأصول العملية، ومن دون فرق فيه بين كون كشف الخلاف بالعلم
الوجداني والعلم التعبدي. وقد تقدم جميع ذلك في ضمن البحوث السالفة بشكل
279

موسع. هذا كله فيما إذا علم حال الأمارة من ناحية السببية أو الطريقية.
وأما إذا شك في ذلك ولم يعلم أن اعتبارها على نحو السببية حتى تفيد
الإجزاء، أو على نحو الطريقية حتى لا تفيده فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)
التفصيل بين الإعادة والقضاء، وإليك نص كلامه:
(وأما إذا شك ولم يحرز أنها على أي الوجهين فأصالة عدم الإتيان بما
يسقط معه التكليف مقتضية للإعادة في الوقت، واستصحاب عدم كون التكليف
بالواقع فعليا في الوقت لا يجدي، ولا يثبت كون ما أتى به مسقطا إلا على القول
بالأصل المثبت، وقد علم اشتغال ذمته بما يشك في فراغها عنه بذلك المأتي به.
وهذا بخلاف ما إذا علم أنه مأمور به واقعا ويشك في أنه يجزئ عما هو
المأمور به الواقعي الأولي، كما في الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية بناء على أن
تكون الحجية على نحو السببية فقضية الأصل فيها - كما أشرنا إليه - عدم وجوب
الإعادة للإتيان بما اشتغلت به الذمة يقينا، وأصالة عدم فعلية التكليف الواقعي بعد
رفع الاضطرار وكشف الخلاف.
وأما القضاء فلا يجب بناء على أنه فرض جديد وكان الفوت المعلق عليه
وجوبه لا يثبت بأصالة عدم الإتيان إلا على القول بالأصل المثبت، وإلا فهو
واجب، كما لا يخفى على المتأمل، فتأمل جيدا) (1).
وملخص ما أفاده (قدس سره) ما يلي: أما وجوب الإعادة فيما إذا انكشف الخلاف
في الوقت فلأجل أن الذمة قد اشتغلت بتكليف فعلي يقينا، ويشك في أن الاتيان
بمؤدى الأمارة يفيد الإجزاء عما اشتغلت به الذمة، أو لا يفيد؟ ومنشأ الشك هو
الشك في كيفية حجية الأمارة، وأنها هل تكون على نحو السببية أو على نحو
الطريقية؟ ومع هذا الشك تجري أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف
الواقعي، وهي مقتضية للإعادة، بل يكفي في وجوبها نفس الشك في الفراغ.
وأما القضاء فبما أنه بفرض جديد وقد اخذ في موضوعه عنوان الفوت وهو
في المقام غير محرز فلا يجب.

(1) كفاية الأصول: ص 111 - 112.
280

ولنأخذ بالنظر على ما أفاده (قدس سره):
أما ما أفاده بالنسبة إلى عدم وجوب القضاء فمتين جدا ولا مناص عنه.
وأما ما أفاده بالإضافة إلى وجوب الإعادة في الوقت فهو قابل للنقد
والمؤاخذة.
والسبب في ذلك: ما قدمناه (1) في ضمن البحوث السابقة: من أن
مقتضى القاعدة على القول بالسببية بالمعنى الأول والثاني هو الإجزاء، بل لا مناص
عنه، حيث إنه لا واقع على ضوء هذين القولين ما عدا مؤدى الأمارة، وكذا الحال
على القول بالسببية بالمعنى الثالث. وعلى القول بالطريقية هو عدم الإجزاء (2).
وعلى هذا الضوء فإذا شككنا في أن حجية الأمارة على نحو السببية
والموضوعية، أو على نحو الطريقية والكاشفية فبطبيعة الحال إذا عملنا بها وأتينا
بما أدت إليه ثم انكشف لنا بطلانها وعدم مطابقتها للواقع وإن كنا نشك في الإجزاء
وعدمه إلا أن المورد ليس من موارد التمسك بقاعدة الاشتغال، بل هو من موارد
التمسك بقاعدة البراءة.
والوجه فيه: هو أن حجية الأمارة إن كانت من باب السببية والموضوعية لم
تكن ذمة المكلف مشغولة بالواقع أصلا، وإنما تكون مشغولة بمؤداها فحسب،
حيث إنه الواقع فعلا وحقيقة فلا واقع غيره. وإن كانت من باب الطريقية والكاشفية
اشتغلت ذمته به، وبما أنه لا يدري أن حجيتها كانت على الشكل الأول أو كانت
على الشكل الثاني فبطبيعة الحال لا يعلم باشتغال ذمته بالواقع ليكون المقام من
موارد قاعدة الاشتغال، فإذا لا مناص من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب
الإعادة، حيث إنه شك في التكليف من دون العلم بالاشتغال به.
وبكلمة أخرى: أن الشك فيما نحن فيه وإن أوجب حدوث العلم الإجمالي
بوجود تكليف مردد بين تعلقه بالفعل الذي جئ به على طبق الأمارة السابقة
وبين تعلقه بالواقع الذي لم يؤت به على طبق الأمارة الثانية إلا أنه لا أثر لهذا

(1) ص 264 - 272.
(2) ص 264 - 272.
281

العلم الإجمالي، ولا يوجب الاحتياط والإتيان بالواقع على طبق الأمارة الثانية،
وذلك لأن هذا العلم حيث قد حدث بعد الإتيان بالعمل على طبق الأمارة الأولى
- كما هو المفروض - فلا أثر له بالإضافة إلى هذا الطرف، وعليه فلا مانع من
الرجوع إلى أصالة البراءة عن الطرف الآخر.
ومن هنا ذكرنا في محله: أن أحد طرفي العلم الإجمالي أو أطرافه إذا كان
فاقدا للأثر فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في الطرف الآخر، كما إذا افترضنا أن
المكلف علم بوجوب الصوم عليه في يوم الخميس - مثلا - من ناحية النذر أو
نحوه فأتى به في ذلك اليوم، ثم في يوم الجمعة تردد بين كون الصوم المزبور واجبا
عليه في يوم الخميس أو في هذا اليوم، وحيث لا أثر لأحد طرفي هذا العلم
الإجمالي - وهو كونه واجبا عليه في يوم الخميس لفرض أنه أتى به - فلا مانع
من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوبه في هذا اليوم (1).
وما نحن فيه من هذا القبيل بعينه، فإن المكلف إذا أتى بصلاة القصر - مثلا -
على طبق الأمارة الأولى ثم انكشف الخلاف في الوقت وعلم بأن الواجب في
الواقع هو الصلاة تماما فعندئذ وإن حدث للمكلف العلم الإجمالي بوجوب صلاة
مرددة بين القصر والتمام فإن الأمارة إن كانت حجيتها من باب السببية فالواجب
هو الصلاة قصرا، وإن كانت من باب الطريقية فالواجب هو الصلاة تماما، ولكن
حيث لا أثر لهذا العلم الإجمالي بالإضافة إلى أحد طرفيه - وهو وجوب الصلاة
قصرا - فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الصلاة تماما.
نعم، لو حدث هذا العلم الإجمالي قبل الإتيان بالقصر لكان المقام من موارد
قاعدة الاشتغال ووجوب الاحتياط بالجمع بين الصلاتين، إلا أن هذا الفرض
خارج عن مورد الكلام، كما أن فرض وجود علم إجمالي آخر بين وجوب
الصلاة تماما - مثلا - وبين وجوب شئ آخر خارج عنه.

(1) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 363، التنبيه الرابع.
282

إلى هنا قد استطعنا أن نصل إلى هذه النتيجة، وهي: أن مقتضى القاعدة عند
الشك في اعتبار أمارة وأنه على نحو السببية أو على نحو الطريقية هو الإجزاء
إعادة وقضاء فالتفصيل بينهما - كما عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) - خاطئ،
ولا واقع له أصلا.
لا بأس بالإشارة إلى عدة خطوط:
الأول: ما أفاده صاحب الكفاية (قدس سره) من أن محل النزاع في الإجزاء وعدمه
إنما هو في الأمارات القائمة على متعلقات الأحكام، كما لو قامت على عدم
شرطية شئ - مثلا - وكان في الواقع شرطا، أو قامت على عدم جزئية شئ
كالسورة - مثلا - وكان في الواقع جزءا، وهكذا من دون فرق في ذلك بين القول
بحجيتها من باب السببية والقول بحجيتها من باب الطريقية، غاية الأمر أنها تفيد
الإجزاء على الفرض الأول، ولا تفيده على الفرض الثاني.
وأما الأمارات القائمة على نفس الأحكام الإلهية - كما لو فرض قيامها على
وجوب صلاة الجمعة مثلا - فهي خارجة عن محل النزاع، ولا تفيد الإجزاء مطلقا
ولو على القول بالسببية (1).
والوجه في ذلك: هو أن قيامها عليه وإن أوجب حدوث مصلحة ملزمة فيها
على ضوء هذا القول إلا أن تلك المصلحة أجنبية عن مصلحة الواقع، ولا صلة لها
بها أصلا، وعليه فبطبيعة الحال لا يكون الإتيان بها مجزيا عن الواقع بعد فرض
بقائه على ما هو عليه من الملاك. نعم، في خصوص هذا المثال قد قام دليل من
الخارج على عدم وجوب كلتيهما في يوم واحد.
وأما في غير هذا المثال فلا مانع من الالتزام بتعدد الواجب عند قيام الأمارة
على وجوب شئ آخر غير ما هو واجب في الواقع، كما إذا افترضنا أن الواجب
في الواقع هو إكرام زيد العالم مثلا، ولكن الأمارة قامت على وجوب إعطاء درهم

(1) كفاية الأصول: ص 112.
283

لفقير جاهل، والمفروض أنه غير واجب، وحيث إنها توجب إحداث مصلحة فيه
فلا محالة يصير الإعطاء واجبا واقعا، ولكن من الواضح أن الإتيان به لا يجزئ
عن الواجب الواقعي، ولا يتدارك به مصلحته، بل هو باق على ما هو عليه من
الملاك الملزم. وعلى هذا لو انكشف الخلاف وجب الإتيان به لا محالة، سواء كان
في الوقت أو خارجه.
ولنأخذ بالمناقشة عليه بيان ذلك: أننا نتكلم في الأمارات القائمة على نفس
الأحكام الشرعية مرة على القول بحجيتها من باب الطريقية والكاشفية المحضة،
ومرة أخرى على القول بحجيتها من باب السببية والموضوعية، ونقول: إنه لا فرق
بين الأمارات القائمة على متعلقات التكاليف والقائمة على نفسها على كلا القولين.
أما على القول الأول: فلما عرفت من أن مقتضى القاعدة هو عدم الإجزاء،
من دون فرق بينهما في هذه النقطة أصلا (1).
وأما على القول الثاني: فأيضا لا فرق بينهما في الدلالة على الإجزاء. أما على
السببية بالمعنى الأول فواضح، حيث لا حكم على ضوئها في الواقع غير ما أدت
إليه الأمارة. وأما على السببية بالمعنى الثاني فالحكم في الواقع وإن كان مجعولا
إلا أن الأمارة توجب انقلابه وانحصاره في المؤدى لنظرها إليه.
وبكلمة أخرى: أن الأحكام الفعلية الواقعية على ضوء هذه النظرية منحصرة
في مؤديات الأمارات، فلا حكم واقعي فعلي في غيرها، وعليه فلا مقتضي
لوجوب الإعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف.
وعلى الجملة: فإذا افترضنا أن الأمارة قامت على وجوب صلاة الجمعة
- مثلا - أفادت أن الواجب الواقعي الفعلي هو صلاة الجمعة دون صلاة الظهر،
لفرض أنها ناظرة إلى الواقع وتفيد انحصاره، وفي مثله كيف يمكن دعوى عدم
الإجزاء؟ بداهة أنه لابد فيه من الالتزام باشتمال المؤدى على مصلحة ملزمة
وافية بمصلحة الواقع ومسانخة لها، إذ لو كان مشتملا على مصلحة أخرى غير

(1) مر ذكره في ص 264 - 272 فراجع.
284

مرتبطة بالواقع لزم الخلف، وهو عدم دلالة الأمارة على انحصار الواقع في
مؤداها، وعدم نظرها إليه، مع أن مثل هذا الكلام يجري في الأمارات القائمة على
متعلقات التكاليف أيضا.
نعم، لو قلنا بعدم نظر الأمارة القائمة على حكم شرعي إلى تعيين الواقع وبعدم
دلالتها على انحصاره، بل تدل على ثبوت ما أدت إليه - فحسب، كما في المثال
الذي ذكرناه - لتم ما أفاده (قدس سره)، إلا أنه مجرد فرض في الأمارات القائمة على
الأحكام الواقعية، ولا واقع موضوعي له أصلا.
الثاني: ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): من أن محل النزاع في هذه
المسألة: هو ما إذا كان الفعل متعلقا للأمر الاضطراري أو الظاهري حقيقة وواقعا،
وأما إذا لم يكن متعلقا للأمر أصلا لا واقعا ولا ظاهرا، بل كان مجرد تخيل وتوهم
بدون واقع له - كما في موارد الاعتقادات الخاطئة مثل: أن يعتقد الإنسان بكون
مائع مخصوص ماء ثم انكشف له خلافه وأنه لم يكن ماء، أو قطع بأنه متوضئ
ثم بان خلافه...، وهكذا - فهو خارج عن محل النزاع (1).
ومن هذا القبيل: تبدل رأي المجتهد في غالب الموارد، حيث يظهر له - مثلا -
ضعف سند الرواية بعد أن قطع بأن سندها صحيح...، وهكذا. وهذا الذي أفاده (قدس سره)
متين جدا ولا مناص عنه.
الثالث: أنه لا فرق فيما ذكرناه من عدم الإجزاء فيما إذا انكشفت مخالفة
الأمارة للواقع بين الأحكام الكلية والموضوعات الخارجية، وإن كان القول بعدم
الإجزاء في الأحكام الكلية أظهر من القول به في الموضوعات، وذلك لما عرفت
من استلزام القول بالإجزاء التصويب (2)، وقد تقدم أنه في الأحكام الكلية إما
محال أو باطل بالضرورة والإجماع، مضافا إلى أنه خلاف إطلاقات الأدلة (3).
وأما الموضوعات الخارجية فالتصويب في نفس تلك الموضوعات من

(1) كفاية الأصول: ص 112 - 113.
(2) راجع ص 272 من هذا المبحث.
(3) مر ذكره في ص 272 فراجع.
285

ناحية تعلق العلم بها أو الأمارة غير معقول، ومن ثمة لا قائل به فيها أصلا، بداهة
أن تعلق العلم بموضوع خارجي أو قيام الأمارة عليه لا يوجب تغييره وانقلابه
عما هو عليه.
وأما التصويب من جهة الحكم المتعلق بها فالظاهر أنه لا مانع منه في نفسه،
ولا دليل على بطلانه، فإن ما دل من الإجماع والضرورة على اشتراك العالم
والجاهل يختص بالأحكام الكلية، ولا يعم الموارد الجزئية.
وعلى هذا الضوء فيمكن دعوى: اختصاص الأحكام الشرعية بالعالمين
بالموضوعات الخارجية لا مطلقا، بأن يكون العلم بها مأخوذا في موضوعها، كما
نسب اختصاص الحكم بنجاسة البول بما إذا علم بوليته إلى بعض الأخباريين (1).
ومن هنا يمكن القول بالإجزاء في موارد مخالفة الأمارة للواقع في الشبهات
الموضوعية، لإمكان القول بالتصويب فيها، ولا يلزم فيه محذور مخالفة الإجماع
والضرورة كما يلزم من القول به في موارد مخالفة الأمارة للواقع في الشبهات
الحكمية، إلا أن القول بالتصويب فيها باطل، من ناحية مخالفته لظواهر الأدلة
الدالة على اعتبار الأمارات والطرق المثبتة للأحكام على موضوعاتها الخارجية،
حيث إن مقتضاها طريقية تلك الأمارات إلى الواقع وكاشفيتها عنه من دون دخل
لها فيه أصلا، كما هو الحال في الأمارات القائمة على الأحكام الكلية بلا فرق
بينهما من هذه الناحية أصلا.
وعلى الجملة: فقد تقدم في ضمن البحوث السالفة: أن الحجية التأسيسية غير
موجودة في الشريعة الإسلامية المقدسة، بل الحجج فيها بتمام أشكالها حجج
عقلائية، والشارع أمضى تلك الحجج، ومن الطبيعي أن أثر إمضائه ليس إلا ترتب
تنجيز الواقع عند الإصابة والتعذير عند الخطأ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون
الدليل على اعتبارها السيرة القطعية من العقلاء أو غيرها كما عرفت (2)، وعليه فلا

(1) هذا القول هو الظاهر من كلام صاحب الحدائق في الدرة النجفية: ص 5 - 6
وص 261 - 263 فراجع.
(2) تقدم في ص 273 - 274 فراجع.
286

يمكن الالتزام بالتصويب والسببية فيها.
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن حجية الأمارات الشرعية كانت تأسيسية
ابتدائية ولم تكن إمضائية ولكن مع ذلك لا يستلزم القول بها القول بالتصويب،
وذلك لأن غاية ما يترتب عليه هو جعل الأحكام الظاهرية في مؤدياتها، وقد
ذكرنا في محله بشكل موسع: أنها لا تنافي الأحكام الواقعية أصلا، ولا توجب
انقلابها بوجه، بدون فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية.
هذا من ناحية (1).
ومن ناحية أخرى: أن ظاهر إطلاق الأدلة الدالة على ثبوت الأحكام
للموضوعات الخارجية ثبوتها لها في نفسها من دون التقييد بالعلم بها، مثلا:
قوله (عليه السلام): " اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه " (2) يدل على نجاسة البول
مطلقا، أي: سواء أكان المكلف عالما بها أم لم يكن، غاية الأمر أنه في حال
الجهل بها يكون معذورا، لا أن البول لا يكون نجسا في الواقع.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهاتين النتيجتين:
الأولى: أن جعل الأحكام للموضوعات المعلومة في الخارج بالوجدان أو
بالتعبد وإن كان بمكان من الإمكان كجعل الحرمة للخمر المعلوم - مثلا - دون
الخمر الواقعي... وهكذا إلا أنه خلاف ظاهر إطلاق أدلتها من ناحية، وخلاف
ظاهر أدلة حجيتها من ناحية أخرى.
الثانية: بطلان توهم أن مقتضى أدلة حجيتها هو وجوب العمل على طبق
الأمارة في صورتي الإصابة والخطأ، ومن الطبيعي أن العمل بها إذا كان واجبا
على كلا التقديرين لزمه القول بالتصويب، ولكن القول به في الأحكام الكلية لا
يمكن من ناحية الإجماع والضرورة، وحيث لا إجماع ولا ضرورة في
الموضوعات الخارجية فلا بأس بالقول به فيها أصلا.

(1) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 108 - 111.
(2) وسائل الشيعة: ج 3 ص 405 ب 8 من أبواب النجاسات ح 2 و 3.
287

توضيح البطلان ما عرفت: من أن هذا القول يقوم على أساس أن يكون
المجعول في باب الأمارات بمقتضى أدلة حجيتها هو نفس المؤدى، وقد تقدم
بشكل موسع أنه لا عين ولا أثر له فيها أصلا (1).
فإذا لا موجب للقول بالإجزاء في الشبهات الموضوعية، فحالها من هذه
الناحية حال الشبهات الحكمية، على أن وجوب العمل على طبقها مطلقا لا
يستلزم التصويب كما لا يخفى.
الرابع: أنه لا فرق فيما ذكرناه من عدم الإجزاء على ضوء نظرية الطريقية
والكاشفية في باب الأمارات بين المجتهد والمقلد، فكما أن المجتهد إذا تبدل رأيه
واجتهاده برأي آخر واجتهاد ثان وجبت الإعادة عليه في الوقت والقضاء في
خارجه فكذلك المقلد إذا عدل عن مجتهد لأحد موجبات العدول إلى مجتهد آخر
وكان مخالفا له في الفتوى وجبت عليه إعادة الأعمال الماضية.
ودعوى: أن حجية فتاوى المجتهدين على المقلدين كانت من باب السببية
والموضوعية وهي تستلزم الإجزاء على الفرض خاطئة جدا، لوضوح أنه لا فرق
بينها وبين الأمارات القائمة عند المجتهدين، كيف؟ فإن عمدة الدليل على حجيتها
إنما هي السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم، وقد تقدم أن
القول بالسببية يقوم على أساس جعل المؤدى، ومن الطبيعي أنه ليس في السيرة
العقلائية لجعل المؤدى عين ولا أثر (2).
الخامس: أن ثبوت الحكم الظاهري عند شخص بواسطة قيام الأمارة عليه
هل هو نافذ في حق غيره؟ وذلك كما إذا قامت البينة عند إمام جماعة - مثلا - على
أن المائع الفلاني ماء فتوضأ به أو اغتسل، وقد علم غيره الخلاف وأنه ليس بماء
فهل يجوز لذلك الغير الاقتداء به؟ الظاهر عدم جوازه، بلا فرق فيه بين الشبهات
الحكمية والموضوعية.
والسبب في ذلك: هو أن نفوذ الحكم الظاهري الثابت لشخص في حق غيره

(1) تقدم في ص 285 فراجع.
(2) راجع ص 269 - 270.
288

الذي يرى خلافه يحتاج إلى دليل، ولا دليل عليه إلا في بعض الموارد الخاصة كما
سنشير إليه (1).
وعلى هذا الضوء: فلو رأى شخص - مثلا - وجوب الوضوء مع الجبيرة في
موارد كسر أحد أعضاء الوضوء أو جرحه وإن كان مكشوفا ولكن يرى الآخر
وجوب التيمم فيها، أو إذا رأى مشروعية الوضوء أو الغسل في موارد الضرر أو
الحرج أو العسر ولكن يرى الآخر عدم مشروعيته، أو إذا رأى كفاية غسل
المتنجس بالبول مرة واحدة ويرى غيره اعتبار التعدد فيه... وهكذا ففي جميع
هذه الموارد وما شاكلها لا يجوز للثاني الاقتداء بالأول، وليس له ترتيب آثار
الوضوء الصحيح على وضوئه، وترتيب آثار الطهارة على ثوبه المتنجس بالبول
المغسول بالماء مرة واحدة.
نعم، إذا كان العمل في الواقع صحيحا بمقتضى حديث " لا تعاد " صح الاقتداء
به، كما إذا افترضنا أن شخصا يرى عدم وجوب السورة - مثلا - في الصلاة
اجتهادا أو تقليدا فيصلي بدونها جاز لمن يرى وجوبها فيها الاقتداء به، لفرض أن
صلاته في الواقع صحيحة بمقتضى هذا الحديث، ولذا لا تجب الإعادة عليه عند
انكشاف الخلاف.
ولكن يستثنى من ذلك مسألتان: إحداهما: مسألة النكاح، والاخرى: مسألة
الطلاق.
أما المسألة الأولى فقد وجب على كل أحد ترتيب آثار النكاح الصحيح على
نكاح كل قوم وإن كان فاسدا في مذهبه، فلو رأى شخص صحة النكاح بالعقد
الفارسي وعقد على امرأة كذلك ويرى الآخر بطلانه واعتبار العربية فيها لزمه
ترتيب آثار الصحة على نكاحه وإن كان فاسدا في نظره، بأن يحكم بأنها زوجته،
وبعدم جواز العقد عليها وغير ذلك من الآثار المترتبة على الزواج الصحيح. ومن
هنا وجب ترتيب آثار النكاح الصحيح على نكاح كل ملة وإن كانوا كافرين.

(1) ستأتي الإشارة إليه في الصفحة اللاحقة فلاحظ.
289

وبذلك يظهر حال المسألة الثانية حرفا بحرف.
والدليل على هذا مضافا إلى إمكان استفادة ذلك من روايات الباب (1): السيرة
القطعية الجارية بين المسلمين من لدن زمن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلى زماننا هذا،
حيث إن كل طائفة منهم يرتبون آثار النكاح الصحيح على نكاح طائفة أخرى
منهم، وكذا الحال بالإضافة إلى الطلاق. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنهم يعاملون مع الملل الأخرى أيضا كذلك، يعني: أنهم
يرتبون آثار العقد الصحيح على نكاحهم، وآثار الطلاق الصحيح على طلاقهم،
فلو عقد كافر على امرأة عاملوا معها معاملة المرأة المزوجة ورتبوا عليها تمام
آثارها، ولو طلقها عاملوا معها معاملة المرأة المطلقة، ورتبوا عليها آثارها من
جواز تزويجها بعد انقضاء عدتها، ونحو ذلك.
قد يتوهم أن بابي الطهارة والنجاسة أيضا من هذا القبيل، أي: من قبيل
النكاح، بدعوى: أننا كثيرا ما نخالط أبناء العامة وغيرهم الذين لا يعتبرون في
زوال عين النجاسة ما نعتبره من الشرائط، بل نخالط من لا يبالي بالنجاسة أصلا
مع سكوت الأئمة (عليهم السلام) عن ذلك، ولم يرد منهم ما يدل على وجوب الاجتناب عن
هؤلاء، بل ورد منهم الأمر بمعاملتهم معاملة المتطهر. وهذا دليل على خروج بابي
الطهارة والنجاسة عن الحكم المتقدم، ونفوذ الحكم الظاهري الثابت لشخص في
حق الآخرين.
ولكن هذا التوهم خاطئ جدا، والسبب في ذلك: هو أن جواز المخالطة مع
هؤلاء الأشخاص المذكورين وعدم وجوب الاجتناب عنهم ليس من ناحية نفوذ
الحكم الظاهري لأحد في حق الآخرين، ضرورة أن عدم وجوب الاجتناب عمن
لا يبالي بالنجاسة - كالعصاة ونحوهم - ليس مبنيا على ذلك، لفرض عدم ثبوت
حكم ظاهري في حق مثله، وعليه فلابد أن يكون ذلك مبنيا على أحد أمور:
الأول: أن يكون ذلك مبتنيا على عدم نجاسة ملاقي المتنجس في غير

(1) وسائل الشيعة: ج 21 ص 199 ب 83 من أبواب نكاح العبيد والإماء، ط آل البيت (عليهم السلام).
290

المائعات، كما مال إليه المحقق الهمداني (قدس سره)، حيث قال: لو بنى على تنجيس
المتنجس مطلقا لزم تنجيس العالم كله، حيث إن النجاسة تسري دون الطهارة،
ولكن مع ذلك قال: إن مخالفة المشهور أشكل، فلاحظ (1).
الثاني: الاكتفاء بغيبة المسلم في الحكم بالطهارة، حيث إن الأصحاب قد
عدوها من المطهرات، وإن كان الاكتفاء بها في الحكم بالطهارة مطلقا لا يخلو عن
إشكال بل منع.
ومن هنا ذكرنا في محله: أن الحكم بالطهارة بها يبتنى على أمور:
1 - أن يكون المسلم بالغا أو مميزا، فلو كان صبيا غير مميز لم تترتب الطهارة
على غيابه.
2 - أن يكون المتنجس بدنه أو لباسه ونحو ذلك مما هو في حوزته، فلو كان
خارجا عن حوزته لم يحكم بطهارته.
3 - أن يحتمل تطهيره، فمع العلم بعدمه لا يحكم بطهارته.
4 - أن يكون عالما بنجاسته، فلو كان جاهلا بها لم يحكم بطهارته.
5 - أن يستعمله فيما هو مشروط بالطهارة كأن يصلي فيه أو يشرب في إنائه
الذي كان متنجسا...، وهكذا، ومع انتفاء أحد هذه الأمور لا يحكم بالطهارة على
تفصيل ذكرناه في بحث الفقه (2).
الثالث: أننا نعلم بطرو حالتين متعاقبتين عليه، فكما أننا نعلم بنجاسة يده
- مثلا - في زمان نعلم بطهارتها في زمان آخر ونشك في المتقدم والمتأخر ففي
مثل ذلك قد ذكرنا في محله: أن الاستصحاب لا يجري في شئ منهما،
للمعارضة (3)، فإذا المرجع هو قاعدة الطهارة.

(1) انظر مصباح الفقيه: كتاب الطهارة ص 579 مسألة تنجيس المتنجس.
(2) انظر التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 3 ص 271 في مطهرية غيبة المسلم، ط مطبعة
الآداب، النجف الأشرف.
(3) راجع مصباح الأصول: ج 3 ص 207 - 210.
291

وأما إذا لم يكن المورد من موارد تعاقب الحالتين فإن كانت الحالة السابقة
هي النجاسة فالمرجع هو استصحابها، وإن كانت الحالة السابقة هي الطهارة
فالمرجع هو استصحابها.
فالنتيجة: أن عدم وجوب الاجتناب في هذه الموارد يبتنى على أحد الأمور
المذكورة، فلا يقوم على أساس أن الحكم الظاهري الثابت في حق مسلم موضوع
لترتيب الآثار عليه واقعا في حق الآخرين.
السادس: أن المحقق النائيني (قدس سره) قد ادعى الإجماع على الإجزاء في
العبادات التي جاء المكلف بها على طبق الحجة الشرعية فلا تجب إعادتها في
الوقت، ولا قضاؤها في خارج الوقت.
وأما في الأحكام الوضعية فقد ذكر (قدس سره) أنها على قسمين:
أحدهما: ما كان الموضوع فيه باقيا إلى حين انكشاف الخلاف.
والثاني: غير باق إلى هذا الحين.
والأول: كما إذا عقد على امرأة بالعقد الفارسي، أو اشترى دارا - مثلا -
بالمعاطاة، أو ذبح ذبيحة بغير الحديد، أو ما شاكل ذلك ثم انكشف له الخلاف
اجتهادا أو تقليدا مع بقاء هذه الأمور.
والثاني: كما إذا اشترى طعاما بالمعاطاة التي يرى صحتها ثم انكشف له
الخلاف وبنى على بطلانها اجتهادا أو تقليدا مع تلف الطعام المنقول إليه، أو عقد
على امرأة بالعقد الفارسي ثم انكشف له الخلاف وبنى على بطلانه كذلك مع عدم
بقاء المرأة عنده.
وبعد ذلك قال (قدس سره): أما القسم الأول من الأحكام الوضعية فلا إجماع على
الإجزاء فيه، بل هو المتيقن خروجه عن معقده، ومن هنا لا نظن فقيها أن يفتي
بالإجزاء في هذا القسم.
وأما القسم الثاني فيشكل دخوله في معقده، ولا نحرز شموله له، وبدونه لا
292

يمكن الإفتاء بالإجزاء (1).
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره):
بيانه: أما ما ذكره من دعوى الإجماع على الإجزاء في العبادات ففي غاية
الإشكال، والسبب في ذلك: هو أن هذه المسألة - يعني: مسألة الإجزاء - ليست من
المسائل الأصولية المعنونة في كتب القدماء، بل هي من المسائل المستحدثة بين
المتأخرين، ومع هذا كيف يمكن لنا دعوى الإجماع فيها؟
وأضف إلى ذلك: أن جماعة كثيرة من الأصوليين ذهبوا إلى عدم الإجزاء فيها.
فالنتيجة: أن دعوى الإجماع على الإجزاء فيها خاطئة جدا. على أنه إجماع
منقول، وهو غير حجة كما قرر في محله (2).
وأما ما ذكره (قدس سره) بالإضافة إلى القسم الأول من الأحكام الوضعية فمتين جدا
وإن سلمنا الإجماع على الإجزاء في العبادات.
وأما ما ذكره (قدس سره) من التردد في القسم الثاني فلا وجه له، لوضوح أنه لا فرق
بين القسم الأول والثاني من هذه الناحية أصلا، غاية الأمر إذا لم يبق الموضوع
دفع إلى صاحبه بدله إذا كان له بدل، كما إذا اشترى مالا بالمعاطاة فتلف المال ثم
بنى على فسادها اجتهادا أو تقليدا ضمن بدله.
وعلى الجملة: فلا فرق بين القسمين في عدم الإجزاء أصلا.
إلى هنا قد استطعنا أن نصل إلى هذه النتيجة، وهي: أن مقتضى القاعدة عدم
الإجزاء مطلقا، فالإجزاء يحتاج إلى دليل، وما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من
الإجماع فهو غير تام كما عرفت (3).
نعم، قد ثبت الإجزاء في خصوص باب الصلاة بدليل خاص، وهو: حديث
" لا تعاد " فيما إذا كان المفقود جزءا أو شرطا غير ركن بناء على ضوء ما حققناه

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 259، وأجود التقريرات: ج 1 ص 206.
(2) راجع مصباح الأصول: ج 2 ص 134 - 138.
(3) انظر مستند العروة الوثقى: ج 6 ص 117 كتاب الصلاة (م 3).
293

في موطنه من عدم اختصاصه بالناسي، وشموله للجاهل القاصر أيضا. وعليه
فلو صلى بدون السورة - مثلا - معتقدا عدم وجوبها اجتهادا أو تقليدا ثم اعتقد
وجوبها كذلك لم تجب الإعادة عليه، لا في الوقت ولا في خارجه. وكذا لو صلى
بدون جلسة الاستراحة بانيا على عدم وجوبها في الصلاة ثم انكشف له الخلاف
وبنى على وجوبها فيها لم تجب الإعادة عليه..، وهكذا (1).
والحاصل: أن الصلاة إذا كانت فاقدة لجزء أو شرط ركني بطلت وتجب
إعادتها. وأما إذا كانت فاقدة لجزء أو شرط غير ركني لم تبطل، ولم تجب إعادتها،
لا في الوقت ولا في خارجه بمقتضى حديث " لا تعاد ".
وأما تكبيرة الإحرام فهي خارجة عن إطلاق هذا الحديث بمقتضى الروايات
الدالة على بطلان الصلاة بفقدانها ولو كان من جهة النسيان، وأما عدم ذكرها فيه
فلعله من ناحية عدم صدق الدخول في الصلاة بدونها.
فالنتيجة: هي أن مقتضى القاعدة الثانوية في خصوص باب الصلاة هو
الإجزاء دون غيره من أبواب العبادات والمعاملات، ومن هنا لو بنى أحد في باب
الصوم على عدم بطلانه بالارتماس فارتمس مدة من الزمن ثم انكشف له الخلاف
وبنى على كونه مبطلا وجب عليه قضاء تلك المدة.
نعم، لا تجب الكفارة عليه، لأنها مترتبة على الإفطار عالما عامدا، ومن هنا
قد قلنا بعدم وجوبها حتى على الجاهل المقصر (2).
قد استطعنا في نهاية الشوط أن نخرج في هذه المسألة بعدة نتائج:
الأولى: أن قيد " على وجهه " في عنوان المسألة على ضوء نظريتنا من إمكان
أخذ قصد القربة في متعلق الأمر توضيحي وليس باحترازي. نعم، هو كذلك على
نظرية المحقق صاحب الكفاية (قدس سره).
الثانية: أن المراد من الاقتضاء في عنوان النزاع ما يشبه العلة الحقيقية

(1) مستند العروة ج 6 ص 17 - 31.
(2) راجع مستند العروة: ج 1 ص 285 كتاب الصوم، فيما يوجب الكفارة.
294

التكوينية والتأثير الخارجي، ومن هنا نسب إلى الإتيان بالمأمور به، لا إلى الأمر.
كما أن المراد من كلمة " الإجزاء " هاهنا هو معناها اللغوي، أعني: الكفاية.
الثالثة: قد تقدم أن مسألتنا هذه تمتاز عن مسألة المرة والتكرار من ناحية،
وعن مسألة تبعية القضاء للأداء من ناحية أخرى فلا صلة لها بشئ من
المسألتين (1).
الرابعة: أن صاحب الكفاية (قدس سره) قد ذكر: أن المأمور به بالأمر الاضطراري لا
يخلو - بحسب مقام الثبوت - عن أربع صور، وقد تكلمنا في تلك الصور بشكل
موسع (2) في ضمن البحوث السابقة وناقشنا في بعضها.
الخامسة: ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره) أن عدم إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر
الاضطراري فيما إذا ارتفع العذر في خارج الوقت غير معقول في مرحلة الثبوت،
وقد تقدم نقده، وأنه لا مانع من الالتزام بعدم الإجزاء ثبوتا (3). نعم، لا مناص من
الالتزام بالإجزاء في مرحلة الإثبات من جهة الإطلاق.
السادسة: لا إشكال في جواز البدار في موارد التقية، وأما في غير مواردها
فالصحيح هو عدم جواز البدار فيها.
السابعة: أن أدلة الأوامر الاضطرارية لا تشمل الاضطرار المستند إلى الاختيار
إلا في موارد التقية، حيث لا فرق فيها بين ما كان الاضطرار باختيار أو بغيره.
الثامنة: أن ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من التفصيل بين موارد الأصول
وموارد الأمارات فالتزم بالإجزاء في الأولى وبعدمه في الثانية قد تقدم نقده بشكل
موسع في ضمن البحوث المتقدمة، وأنه لا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا (4).
التاسعة: أن مقتضى القاعدة على القول بالسببية بجميع أنواعها وأشكالها هو
الإجزاء، فعدمه يحتاج إلى دليل، ومقتضى القاعدة على القول بالطريقية هو عدم

(1) راجع تفصيله في ص 224 - 225.
(2) تقدم في ص 233 فراجع.
(3) راجع التفصيل في ص 253.
(4) راجع ص 240 - 241.
295

الإجزاء، فالإجزاء يحتاج إلى دليل. نعم، قد قام الدليل بالخصوص على الإجزاء
في خصوص باب الصلاة.
العاشرة: أن ثبوت الحكم الظاهري في حق شخص لا يكون نافذا في حق
آخر، ولا دليل على ذلك إلا في موردين: أحدهما مسألة النكاح، وثانيهما: مسألة
الطلاق كما عرفت (1). هذا آخر ما أوردناه في مبحث الإجزاء.

(1) مر ذكره في ص 289 فراجع.
296

مقدمة الواجب
يقع الكلام فيها عن عدة جهات:
الأولى: في بيان المراد من الوجوب المبحوث عنه في المقام. فنقول: لا يشك
أحد ولن يشك في أن المراد منه ليس هو الوجوب العقلي يعني: لا بدية الإتيان
بالمقدمة، بداهة أن العقل إذا أدرك توقف الواجب على مقدمته ورأى أن تركها
يؤدي إلى ترك الواجب الذي فيه احتمال العقاب استقل بلزوم إتيانها، امتثالا
لأمره تعالى، وقياما بوظيفة العبودية والرقية، وتحصيلا للأمن من العقوبة، فثبوت
الوجوب بهذا المعنى ضروري، فلا مجال للنزاع فيه أبدا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن المبحوث عنه هنا ليس هو الوجوب المجازي، بمعنى:
أن الوجوب النفسي المتعلق بذي المقدمة حقيقة وواقعا هل يصح إسناده إلى
مقدماته مجازا أم لا؟ ضرورة أنه لا شبهة في صحة هذا الإسناد المجازي أولا،
وعدم شأن الأصولي البحث عن ذلك ثانيا، وكون البحث عندئذ بحثا لغويا ثالثا.
ومن ناحية ثالثة: أن المراد منه ليس هو الوجوب الفعلي التفصيلي، بداهة أنه
يقتضي التفات الآمر دائما إلى تمام مقدمات الواجب حتى يقال: إنه متى أوجب
شيئا أوجب مقدماته فعلا، مع أن الآمر كثيرا ما لا يلتفت إلى نفس المقدمة فضلا
عن إيجابها.
فالصحيح أن يقال: إن المراد منه في المقام هو وجوب غيري تبعي، بمعنى: أن
297

الآمر لو كان ملتفتا إلى نفس المقدمة لأوجبها كما أوجب ذي المقدمة، ولا بأس بأن
يسمى هذا الوجوب ب‍ " الوجوب الارتكازي "، لارتكازه في ذهن كل آمر وحاكم.
وإن شئت قلت: إن النزاع في الحقيقة في ثبوت هذه الملازمة، يعني: الملازمة
بين إيجاب شئ وإيجاب مقدماته وعدم ثبوتها.
الثانية: أن هذه المسألة هل هي من المسائل الأصولية أو الفقهية أو الكلامية
أو المبادئ الأحكامية؟ ففيها وجوه، بل أقوال:
قيل: إنها من المسائل الفقهية، ويظهر ذلك من عبارة جملة من المتقدمين منهم:
صاحب المعالم (قدس سره)، حيث قد استدل على نفي وجوب المقدمة بانتفاء الدلالات
الثلاث (1).
ولكن هذا القول خاطئ جدا، فلا واقع موضوعي له أصلا، وذلك لما حققناه
في أول بحث الأصول: من أن البحث في هذه المسألة ليس عن وجوب المقدمة
ابتداء لتكون المسألة فقهية، بل البحث فيها إنما هو عن ثبوت الملازمة بين الأمر
بشئ والأمر بمقدمته وعدم ثبوتها، ومن الطبيعي أن البحث عن هذه الناحية ليس
بحثا فقهيا، ولا صلة له بأحوال فعل المكلف وعوارضه بلا واسطة (2). هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن البحث عن ثبوت الملازمة وعدمه في هذه المسألة يعم
الوجوب والاستحباب، فلا اختصاص له بالوجوب. وأما تخصيص العلماء محل
النزاع بالوجوب فلعله لأجل أهميته، وإلا فعلى القول بالملازمة لا فرق بينه وبين
الاستحباب أصلا.
وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن الأحكام الفقهية مجعولة للعناوين
الخاصة - كالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، وما شاكل ذلك، والمقدمة حيث إنها
تصدق في الخارج على العناوين المتعددة والحقائق المختلفة، وليست عنوانا لفعل

(1) معالم الأصول: ص 55.
(2) راجع ج 1 ص 19.
298

واحد فبطبيعة الحال لم يكن المجعول عليها من الأحكام الفقهية لتكون المسألة
فقهية (1) - خاطئ جدا.
والسبب في ذلك: هو أن الضابط في المسائل الفقهية: هو أنها مجعولة
للموضوعات والعناوين الخاصة، من دون فرق بين كونها منطبقة في الخارج على
حقيقة واحدة كالأمثلة المتقدمة، أو على حقائق متعددة: كعنوان النذر، والعهد،
واليمين، وإطاعة الوالد والزوج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما شابه
ذلك، حيث لا شبهة في أن الأحكام المجعولة لهذه العناوين من الأحكام الفقهية.
قيل: إنها من المسائل الكلامية، بدعوى: أن البحث عنها بحث عقلي فلا صلة
لها بعالم اللفظ أصلا (2).
وفيه: أن مجرد كون البحث عنها عقليا لا يوجب دخولها في المسائل
الكلامية، ضرورة أن المسائل الكلامية وإن كانت عقلية إلا أن كل مسألة عقلية
ليست منها، بل هي صنف خاص منها، وهي المسائل التي يبحث فيها عن أحوال
المبدأ والمعاد فحسب، ورجوع البحث عنها إلى البحث عن أحوالهما وإن كان
بمكان من الإمكان إلا أنه ليس من جهة اختصاص البحث عنها بذلك، بل من
ناحية قابلية المسألة في نفسها لذلك، وحيث إن انعقادها أصولية ممكن هنا فلا
موجب لتوهم كونها منها أصلا.
قيل: إنها من المبادئ الأحكامية (3).
ويدفعه: أن المبادئ لا تخلو من التصورية والتصديقية، ولا ثالث لهما،
والمبادئ التصورية: هي لحاظ ذات الموضوع والمحمول وذاتياتهما في كل علم،
ومن البديهي أن البحث عن مسألة مقدمة الواجب لا يرجع إلى ذلك. والمبادئ

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 213.
(2) لم نعثر على قائله.
(3) اختاره المحقق الأصفهاني في حاشيته هداية المسترشدين في شرح معالم الدين: ص 19
أآلهتنا 30، ونسب إلى الحاجبي والشيخ البهائي في نهاية الدراية: ج 1 ص 258.
299

التصديقية: هي المقدمات التي يتوقف عليها تشكيل القياس، ومنها: المسائل
الأصولية فإنها مبادئ تصديقية بالإضافة إلى المسائل الفقهية، لوقوعها في كبرى
قياساتها التي تستنتج منها تلك المسائل والأحكام، ولا نعقل المبادئ الأحكامية
في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية.
نعم، قد يكون الحكم موضوعا فيبحث عن حالاته وآثاره، إلا أنه في
الحقيقة داخل في المبادئ التصديقية، وليس شيئا آخر في مقابلها وهو ظاهر، كما
أن تصوره بذاته وذاتياته داخل في المبادئ التصورية.
على أن البحث في هذه المسألة ليس عن حالات الحكم وآثاره، بل هو عن
إدراك العقل الملازمة بين حكمين شرعيين: النفسي والغيري وعدمه.
وعلى هذا الضوء فإن أراد القائل بالمبادئ الأحكامية أنها من المبادئ
التصديقية لعلم الفقه فيرد عليه: أن جميع المسائل الأصولية بشتى أنواعها كذلك
فلا اختصاص لها بتلك المسألة. وإن أراد أنها من المبادئ التصديقية لعلم
الأصول فهو خاطئ جدا، لما سنشير إليه من أن هذه المسألة من المسائل
الأصولية التي تقع في طريق الاستنباط بلا توسط مسألة أصولية أخرى.
والصحيح: أنها من المسائل الأصولية العقلية، فلنا دعويان:
الأولى: أنها من المسائل الأصولية.
الثانية: أنها من المسائل العقلية.
أما الدعوى الأولى فلما حققناه في أول بحث الأصول من أن المسائل
الأصولية ترتكز على ركيزتين:
1 - أن تكون استفادة الأحكام الشرعية من الأدلة من باب الاستنباط، لا من
باب التطبيق.
2 - أن يكون وقوعها في طريق الحكم بنفسها من دون حاجة إلى ضم مسألة أصولية
أخرى. وقد تقدم الكلام حول هاتين الركيزتين بشكل موسع في أول بحث الأصول. (1)

(1) تقدم في ج 1 ص 11 في تعريف علم الأصول، فراجع.
300

وبما أن هاتين الركيزتين قد توفرتا في مسألتنا هذه فهي من المسائل الأصولية
لا محالة.
وأما الدعوى الثانية فلأن الحاكم بالملازمة بين إيجاب شئ وإيجاب مقدمته
إنما هو العقل، ولا صلة لها بدلالة اللفظ أبدا.
ومن ذلك يظهر: أن ما ظهر من صاحب المعالم (قدس سره) من كون هذه المسألة من
المسائل اللفظية - حيث قد استدل على عدم وجوب المقدمة بانتفاء الدلالات
الثلاث (1) - في غير محله. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الأصوليين قد قسموا الحكم العقلي إلى قسمين:
أحدهما: حكم عقلي مستقل: وهو التحسين والتقبيح العقليين.
وثانيهما: حكم عقلي غير مستقل، وهو مباحث الاستلزامات العقلية وإنما
سمي الأول بالمستقل والثاني بغير المستقل من ناحية أن استنتاج الحكم الشرعي
من الأول لا يتوقف على مقدمة خارجية، ومن الثاني يتوقف عليها كما فصلنا
الحديث من هذه الناحية في مبحث اجتماع الأمر والنهي (2)، ومسألتنا هذه من
القسم الثاني.
الثالثة: في تقسيمات المقدمة. فقد ذكروا للمقدمة تقسيمات متعددة:
الأول: تقسيمها باعتبار دخولها في المأمور به قيدا وتقيدا، وعدم دخولها فيه
كذلك إلى أصناف ثلاثة:
1 - المقدمة الداخلية، وهي أجزاء المأمور به التي هي داخلة في حقيقته تقيدا
وقيدا، فإن الجزء كما هو بنفسه دخيل في حقيقته ومقوم لواقعه الموضوعي كذلك
تقيده بسائر أجزائه...، وهكذا، مثلا: القراءة كما أنها بنفسها دخيلة في حقيقة
الصلاة كذلك تقيدها بكونها مسبوقة بالتكبيرة وملحوقة بالركوع دخيلة فيها.
2 - المقدمة الخارجية بالمعنى الأعم، وقد يطلق عليها " المقدمة الداخلية

(1) معالم الأصول: ص 55.
(2) سوف يأتي في الجزء الرابع ضمن القول الخامس في مسألة اجتماع الأمر والنهي، فانتظر.
301

بالمعنى الأعم " أيضا، وهي التي تكون خارجة عن المأمور به قيدا وداخلة فيه
تقيدا، وذلك كشرائط المأمور به مثل: طهارة البدن للصلاة، وطهارة الثوب،
واستقبال القبلة، والطهارة من الحدث، وما شاكل ذلك فإنها وإن كانت خارجة عن
ذات الصلاة وحقيقتها قيدا ولكنها داخلة فيها تقيدا، يعني: أن المأمور به هو حصة
خاصة من الصلاة، وهي الصلاة المتقيدة بتلك الشرائط لا مطلقا.
وإن شئت قلت: إن ما تعلق به الأمر إنما هو نفس أجزاء المأمور به مقيدة بعدة
شرائط وقيود وجودية أو عدمية، وأما نفس الشرائط والقيود فهي خارجة عن
متعلقه.
ومن هنا يظهر: أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن الأمر كما ينبسط على
الأجزاء كذلك ينبسط على القيود والشرائط فلا فرق بينهما من هذه الناحية (1)
خاطئ جدا، ولا واقع موضوعي له أبدا، لما عرفت من أن القيود بشتى ألوانها
خارجة عن المأمور به، والداخل فيه إنما هو التقيد بها، فلو كانت داخلة فيه لم
يكن فرق بينها وبين الأجزاء أصلا، مع أن الفرق بينهما من الواضحات، وإلا فما
هو الموجب لتسمية هذا بالقيد وذاك بالجزء.
3 - المقدمة الخارجية بالمعنى الأخص، وهي التي غير دخيلة في الواجب لا
قيدا ولا تقيدا، وإنما يتوقف وجوده في الخارج على وجودها كتوقف وجود
الصلاة خارجا على وجود مكان ما، وتوقف الكون في كربلاء - مثلا - على طي
المسافة... وهكذا.
وبعد ذلك نقول: لا إشكال في دخول الصنف الثاني من تلك الأصناف في
محل النزاع، وكذا الصنف الثالث. وإنما الإشكال والكلام في دخول الصنف الأول
وعدم دخوله، والكلام فيه يقع من جهات:
الأولى: في صلاحية الأجزاء للاتصاف بالمقدمية وعدمها.
الثانية: على تقدير صلاحيتها للاتصاف بها هل المقتضي لاتصافها بالوجوب

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 225 - 228.
302

الغيري موجود أم لا؟
الثالثة: على تقدير ثبوت المقتضي له هل هنا مانع عن اتصافها به أم لا؟
أما الجهة الأولى فقد يطلق المقدمة ويراد بها ما يكون وجوده في الخارج
غير وجود ذيها بأن يكون فيه وجودان: أحدهما للمقدمة، والآخر لذي المقدمة،
غاية الأمر أن وجود الثاني يتوقف على وجود الأول. وقد يطلق ويراد بها مطلق
ما يتوقف عليه وجود الشئ وإن لم يكن وجوده في الخارج غير وجود ذيه.
أما المقدمة بالإطلاق الأول فلا تصدق على الأجزاء، بداهة أن وجود
الأجزاء في الخارج ليس مغايرا لوجود الكل، بل وجوده فيه عين وجود أجزائه
بالأسر، فإنها إنما تغايره إذا لوحظت لا بشرط، وأما إذا لوحظت بشرط شئ فهي
عينه، حيث إنه هو الأجزاء الملحوظة كذلك. والسر فيه واضح، وهو: أن التركيب
بينها اعتباري فلا وجود له خارجا ما عدا وجود أجزائه فيه.
وإن شئت قلت: إن في الخارج وجودا واحدا، وذلك الوجود الواحد كما
يضاف إلى الكل فيكون وجودا له كذلك يضاف إلى الأجزاء، وليس فيه وجودان
أحدهما مقدمة للآخر.
وأما المقدمة بالإطلاق الثاني فتشمل الأجزاء أيضا، لوضوح أن وجود الكل
يتوقف على وجود أجزائه، وأما وجودها فلا يتوقف على وجوده، وذلك كالواحد
بالإضافة إلى الاثنين حيث إن وجود الاثنين يتوقف على وجود الواحد دون
العكس.
وعلى الجملة: فبما أن وجود الجزء يتقدم على وجود الكل طبعا فبطبيعة
الحال لا يعقل وجوده بدون وجوده دون العكس، وهذا معنى كونه مقدمة له.
فالنتيجة: أنه لا إشكال في صدق المقدمة بالإطلاق الثاني على الأجزاء.
وأما الجهة الثانية فقد أفاد المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في هامش الكفاية ما
حاصله: هو أنه لا مقتضى لاتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري أصلا. والسبب
303

في ذلك: هو أن ملاك الوجوب الغيري إنما هو فيما إذا كان وجود المقدمة غير
وجود ذيها في الخارج ليقع البحث عن أن إيجاب الشارع ذي المقدمة هل يستلزم
إيجابه مقدمته تبعا أم لا؟ وأما إذا كان وجودها عين وجود ذيها في الخارج
كالجزء بالإضافة إلى الكل فلا ملاك لاتصافها به، لوضوح أنها واجبة بعين
الوجوب المتعلق بالكل، وهو الوجوب النفسي، ومعه لا مقتضى لاتصافها به، بل
هو لغو محض (1).
وهذا الذي أفاده (قدس سره) في غاية الصحة والمتانة، بداهة أنه لا موضوع لحكم
العقل بالملازمة هنا بعد فرض أن الأجزاء نفس المركب في الخارج، وأحدهما
عين الآخر وجودا ووجوبا، ومعه كيف يعقل وجود الملاك للوجوب الغيري فيها؟
وأما الجهة الثالثة فقد ادعى صاحب الكفاية وجود المانع عن اتصاف
الأجزاء بالوجوب الغيري على فرض ثبوت المقتضي له، وهو لزوم اجتماع
المثلين (2)، وذلك لأن الأجزاء بشرط الاجتماع واجبة بوجوب نفسي، ومع ذلك لو
وجبت بوجوب غيري لزم اجتماع حكمين متماثلين في شئ واحد، وهو محال
حتى لو قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي في مورد التصادق والاجتماع. والسبب
فيه: هو أن القول بالجواز هناك يرتكز على كون الجهتين تقييديتين، وأما إذا كانتا
تعليليتين فلا يمكن القول به، وبما أن الجهة فيما نحن فيه تعليلية - وهي عنوان
المقدمة - ولم تكن تقييدية فلا يمكن القول بالاجتماع فيه.
ولنأخذ بالنقد عليه بيانه: أن ما أفاده (قدس سره) من المانع في فرض ثبوت المقتضي
لا يصلح أن يكون مانعا، والسبب في ذلك: هو أن اجتماع الحكمين المذكورين
في شئ واحد لا يؤدي إلى اجتماع المثلين، بل يؤدي إلى اندكاك أحدهما في
الآخر فيصيران حكما واحدا مؤكدا، كما هو الحال في كل واجب نفسي يتوقف
عليه واجب نفسي آخر، كصلاة الظهر بالإضافة إلى صلاة العصر حيث إنها واجبة
بحد ذاتها نفسا - أي: سواء أكان هناك واجب آخر أم لا - وواجبة بالإضافة إلى

(1) كفاية الأصول: ص 116 و 115.
(2) كفاية الأصول: ص 116 و 115.
304

صلاة العصر غيريا باعتبار توقفها عليها فهي ذات ملاكين، فإذا بطبيعة الحال يندك
أحدهما في الآخر ويتحصل من مجموعهما وجوب واحد أكيد متعلق بها.
وعلى الجملة: ففي كل مورد اجتمع فيه حكمان متماثلان - سواء أكانا من نوع
واحد أم من نوعين، وسواء أكان كلاهما معا إلزاميين أم كان أحدهما إلزاميا دون
الآخر - يندك أحدهما في الآخر، ولا يعقل بقاء كل واحد منهما بحده.
هذا، وقد اعترض على ذلك بعض الأعاظم (قدس سرهم)، وحاصله: هو أن الاندكاك
بين الحكمين المتماثلين إنما يتصور فيما إذا كانا في رتبة واحدة، وأما إذا كان
أحدهما في طول الآخر فلم يتصور الاندكاك بينهما، وما نحن فيه من قبيل الثاني،
وذلك لأن ملاك الوجوب الغيري في طول ملاك الوجوب النفسي (1).
وإن شئت قلت: إن الوجوب الغيري متأخر رتبة عن الوجوب النفسي، حيث
إنه مترشح عنه، وعليه فبطبيعة الحال اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري في رتبة
متأخرة عن اتصافها بالوجوب النفسي، ومعه كيف يعقل حصول الاندكاك بينهما؟
ولنأخذ بالنقد عليه، وهو: أن ما أفاده (قدس سره) مبتن على الخلط بين تقدم حكم
على حكم آخر زمانا وبين تقدمه عليه رتبة مع مقارنته له كذلك.
بيانه: أن الاندكاك بين الحكمين إنما لا يتصور فيما إذا كانا مختلفين زمانا بأن
يكون أحدهما في زمان والآخر في زمان آخر بحيث لا يجتمعان في زمان واحد
ففي مثل ذلك لا يعقل الاندكاك والتأكد. وأما إذا كانا مقارنين زمانا ومجتمعين فيه
وإن كانا مختلفين رتبة فلا مناص من الالتزام بالتأكد والاندكاك، بداهة أنه لا أثر
لاختلاف الرتب العقلية في الأحكام الشرعية، لعدم ثبوتها لها، وإنما هي ثابتة
للموجودات الزمانية. ومثال الاندكاك في التكوين والتشريع موجود.
أما في الأول فكما إذا افترضنا وجود ملاكين لاتصاف جسم بالبياض - مثلا -
وكان أحدهما في طول الآخر رتبة، كما إذا فرضنا أن اتصاف جسم ببياض سبب
لإيجاد بياض آخر فيه فالبياضان عندئذ وإن كانا مختلفين رتبة إلا أن اتحادهما

(1) منهم: المحقق العراقي في نهاية الأفكار: ج 1 ص 268.
305

زمنا يوجب اندكاك أحدهما في الآخر، ولا يعقل بقاء كل منهما فيه بحده واستقلاله.
وأما في الثاني كما لو نذر الصلاة في المسجد أو الجماعة أو نحو ذلك فإنه لا
شبهة في أن الوجوب الآتي من قبل النذر يندك في الوجوب أو الاستحباب
النفسي الثابت لها، مع أنه في رتبة متأخرة عنه لتأخر ملاكه - وهو رجحان
متعلقه - عن ملاك ذلك، والسبب فيه ليس إلا اجتماعهما في شئ واحد وزمن
واحد. ومن هنا ذكرنا في محله: أن الأمر النذري في عرض الأمر النفسي زمنا وإن
كان في طوله رتبة بملاك اعتبار الرجحان في متعلقه في مرتبة سابقة عليه (1).
فالنتيجة: أن الملاك المقتضي للاندكاك والتأكد هو تقارن الحكمين زمنا وإن
كانا مختلفين رتبة.
أضف إلى ذلك: أن الوجوب الغيري ليس معلولا للوجوب النفسي ومترشحا
منه، كما سيأتي تحقيقه في ضمن البحوث الآتية (2).
وقد ادعى بعض الأعاظم قدست أسرارهم ظهور الثمرة بين القول باتصاف
الأجزاء بالوجوب الغيري والقول بعدم اتصافها به في مسألة دوران الأمر بين
الأقل والأكثر الارتباطيين، بدعوى: أنه على القول الأول لا ينحل العلم
الإجمالي بوجوب أحدهما بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل، وذلك لأن مناط
الانحلال هو انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل على كل تقدير. وبما
أن في المقام لا ينطبق كذلك باعتبار أن المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي
والمعلوم بالتفصيل هو الجامع بين الوجوب الغيري والنفسي فلا انحلال في البين.
وعلى القول الثاني ينحل إلى العلم التفصيلي بوجوب نفسي متعلق بذات الأقل
- وهي المركب من تسعة أجزاء مثلا - والشك البدوي في اعتبار أمر زائد، وعندئذ
فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الزائد (3).

(1) سوف يأتي تفصيله في الجزء الرابع ضمن الدليل الأول من أدلة جواز الاجتماع.
(2) سيأتي في ص 396 فانتظر.
(3) منهم: المحقق العراقي في نهاية الأفكار: ج 1 ص 268.
306

وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) خاطئ جدا، والسبب في ذلك: هو أن انحلال العلم
الإجمالي وعدمه في تلك المسألة يرتكزان على نقطة أخرى، وهي: جريان أصالة
البراءة عن وجوب الزائد وعدم جريانها، ولا صلة لها باتصاف الأجزاء بالوجوب
الغيري وعدم اتصافها به.
وإن شئت قلت: إن الأمر بالمركب إذا لم يكن أمرا بالأجزاء فلا موجب
للانحلال، وإن كان الأمر به عين الأمر بالأجزاء - كما هو كذلك - تعين القول
بالانحلال بناء على ما حققناه في مورده من عدم المانع من جريان أصالة البراءة
عن وجوب الزائد (1)، وعلى كلا التقديرين لا فرق بين القول بوجوب الأجزاء
غيريا والقول بعدمه.
نتيجة ما ذكرناه إلى هنا: هي أن المقدمة الداخلية خارجة عن مورد البحث،
فالذي هو مورد للبحث والنزاع هو المقدمة الخارجية بكلا صنفيها.
الثاني: تقسيم المقدمة إلى مقدمة الوجوب تارة، ومقدمة الوجود أخرى،
ومقدمة العلم ثالثة، ومقدمة الصحة رابعة.
أما الأولى: فلا إشكال في خروجها عن محل البحث، وذلك لأنه لا وجوب
قبل وجودها حتى يجب تحصيلها، وبعد وجودها وجوبها تحصيل للحاصل،
وذلك كالاستطاعة التي هي شرط لوجوب الحج، فإنه لا وجوب له قبل وجودها،
وكالسفر الذي هو شرط لوجوب القصر في الصلاة والإفطار في الصيام، وفي
مقابله الحضر الذي هو شرط لوجوب التمام والصيام، ومن هنا لا شبهة في عدم
اتصاف هذه المقدمات والشرائط بالوجوب، لأنها أخذت مفروضة الوجود في
الخارج في مقام الجعل فلا يعقل إيجابها من هذه الناحية.
نعم، قد يجب الإتيان بها من ناحية أخرى، كما إذا نذر تحصيل الاستطاعة أو
السفر أو نحو ذلك فحينئذ يجب، ولكن ذلك أجنبي عما هو محل الكلام في المقام.
وأما مقدمة العلم كالصلاة إلى الجهات الأربع في مورد اشتباه القبلة لتحصيل

(1) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 426 - 441.
307

العلم بوقوعها إلى القبلة أو في غير ذلك من موارد العلم الإجمالي فهي أيضا لا
شبهة في خروجها عن مورد البحث، وذلك لأن الصلاة التي وقعت إلى القبلة في
المثال هي نفس الواجب وليست مقدمة له، وأما غيرها فهي مغايرة للواجب ولا
تكون مقدمة له، وإنما هي مقدمة لحصول العلم بالواجب وفراغ الذمة والأمن من
العقاب.
وأما مقدمة الوجود - وهي التي يتوقف وجود الواجب على وجودها خارجا
بحيث لولاها لما حصل الواجب نفسه - فهي تعود إلى المقدمة الخارجية بالمعنى
الأخص، وهي التي خارجة عن المأمور به قيدا وتقيدا.
وأما مقدمة الصحة - وهي التي تتوقف صحة الواجب عليها - فهي تعود إلى
المقدمة الخارجية بالمعنى الأعم، وهي التي خارجة عن المأمور به قيدا وداخلة
فيه تقيدا.
فالنتيجة: أنه لا بأس بهذا التقسيم. نعم، لا وقع لتقسيمها ثالثا إلى الشرعية
والعقلية والعادية، وذلك لأن الأولى بعينها هي المقدمة الخارجية بالمعنى الأعم،
وليست مقدمة أخرى في مقابلها. والثانية هي المقدمة الخارجية بالمعنى الأخص.
وأما الثالثة: فإن أريد منها ما جرت العادة على الإتيان بها من دون توقف
الواجب عليها خارجا فلا شبهة في خروجها عن مورد النزاع. وإن أريد منها ما
يستحيل وجود الواجب في الخارج بدونها عادة وإن لم يستحل عقلا، وذلك
كالكون على السطح مثلا حيث إنه بلا طي المسافة محال عقلي، لاستحالة الطفرة،
ولكنه بلا نصب السلم محال عادي، ضرورة إمكان الطيران ذاتا.
وبكلمة أخرى: تارة يكون الشئ ممتنعا ذاتا كاجتماع النقيضين، ووجود
الممكن بلا علة وما شاكل ذلك.
واخرى يكون ممتنعا وقوعا وإن كان في ذاته ممكن، وذلك ككون الإنسان
على السطح بدون طي المسافة فإنه ممتنع عقلا، حيث يلزم من فرض وقوعه في
الخارج محال وهو الطفرة.
308

وثالثة لا هذا ولا ذاك، بل هو ممتنع عادة، ككونه على السطح بلا نصب السلم
حيث لا يلزم من فرض وقوع الطيران أو القوة الخارقة للعادة له محال، لعدم
استحالتهما. وإنما يستحيل بلا نصب السلم بالقياس إلى عادم الجناح وعادم القوة
الخارقة.
فالنتيجة: أن المقدمة في الحقيقة هي الجامعة بين الطيران ونصب السلم،
وحيث إن الفرد الأول غير متحقق انحصر الجامع في الفرد الأخير، وهو نصب
السلم. فإذا ترجع المقدمة العادية على ضوء هذا التفسير إلى المقدمة العقلية، فلا
معنى لذكرها في قبالها.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة، وهي: أن الصحيح من هذه التقسيمات
للمقدمة هو التقسيم الأول والثاني، ولا وقع للتقسيم الثالث.
الشرط المتأخر
ينقسم الشرط إلى: الشرط المتأخر، والمتقدم، والمقارن.
وقد أشكل على الشرط المتأخر: بأن الشرط من أجزاء العلة التامة، ومن
البديهي أن العلة بكافة أجزائها تتقدم على المعلول رتبة وتعاصره زمنا، فلا يعقل
تأخر جزء من أجزائها عنه، ومعه كيف صار الشرط متأخرا عن المشروط؟
وربما يتوهم: أن الشرط ليس هو ذات الوجود الخارجي ليستحيل تأخره
عن المشروط، بل الشرط إنما هو وجوده المتأخر بوصف تأخره، فالعلة لم تتأخر
عن المعلول، بل المتأخر بوصف تأخره يكون علة تامة.
ويرده: أنه مجرد وهم، فلا واقع موضوعي له أصلا، وذلك لأن لازم هذا هو
أن يكون الشئ المعدوم بوصف أنه معدوم مؤثرا في وجود الشئ، لفرض أن
الشرط - كما عرفت - من أجزاء العلة التامة المؤثرة في الوجود، ومع عدمه فالعلة
التامة غير موجودة، ومعه كيف يعقل وجود المعلول؟
وعلى الجملة: فالشئ المتأخر لا يعقل أن يكون مؤثرا في المتقدم لا بوصف
كونه متأخرا ولا بوصف كونه معدوما، إذ على كلا التقديرين يلزم وجود المعلول
309

قبل وجود علته، وهو محال.
ثم إن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) لم يقتصر في الإشكال على الشرط
المتأخر، بل أورده على الشرط المتقدم أيضا، بدعوى: أن الشرط بما أنه من
أجزاء العلة التامة فلابد أن يكون مقارنا مع المشروط زمنا، فكما لا يعقل أن يكون
متأخرا عنه كذلك لا يعقل أن يكون متقدما عليه إذا لم يبق إلى عصر وجوده، أي:
وجود المشروط.
ومن هنا قال (قدس سره): إنه لا وجه لاختصاص الإشكال بخصوص الشرط المتأخر
كما اشتهر في الألسنة، بل يعم الشرط والمقتضي المتقدمين المتصرمين حين
وجود الأثر، كالعقد في الوصية والصرف والسلم، بل في كل عقد بالنسبة إلى غالب
أجزائه، لتصرمها حين تأثره، مع ضرورة اعتبار مقارنتها له زمانا (1).
ولنأخذ بالنقد عليه، وهو: أن ما جاء به المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من تعميم
الإشكال إلى الشرط المتقدم خاطئ جدا، فإن تقدم الشرط على المشروط في
التكوينيات غير عزيز فما ظنك في التشريعيات؟
والسبب في ذلك: هو أن مرد الشرط في طرف الفاعل إلى مصحح فاعليته،
كما أن مرده في طرف القابل إلى متمم قابليته. ومن الطبيعي أنه لا مانع من تقدم
مثله على المشروط زمانا.
وبكلمة أخرى: أن شأن الشرط إنما هو إعطاء استعداد التأثير للمقتضي في
مقتضاه، وليس شأنه التأثير الفعلي فيه حتى لا يمكن تقدمه عليه زمانا. ومن
البديهي أنه لا مانع من تقدم ما هو معد ومقرب للمعلول إلى حيث يمكن صدوره
عن العلة زمنا عليه، ولا تعتبر المقارنة في مثله.
نعم، الذي لا يمكن تقدمه على المعلول زمانا هو الجزء الأخير للعلة التامة،
وأما سائر أجزائها فلا مانع من ذلك أصلا.

(1) كفاية الأصول: ص 118.
310

ونأخذ لتوضيح ذلك مثالين:
أحدهما: أن غليان الماء خارجا يتوقف على إحراق النار وإيجاد الحرارة فيه
على التدريج إلى أن تبلغ درجة خاصة، فإذا وصلت إلى هذه الدرجة تحقق
الغليان، فالإحراق شرط له، وهو متقدم عليه زمانا.
ثانيهما: أن القتل يتوقف على فري الأوداج، ثم رفض العروق الدم الموجود
فيها إلى الخارج، ثم توقف القلب عن الحركة وبعده يتحقق القتل، ففري الأوداج
مع أنه شرط متقدم عليه.
فالنتيجة: أنه لا مانع من تقدم سائر أجزاء العلة التامة على المعلول زمانا،
فإن ما لا يمكن تقدمه عليه كذلك هو الجزء الأخير لها.
ومن هنا يظهر: أن التعاصر إنما هو بين العلة التامة ومعلولها، لا بين كل جزء
جزء منها وبينه، فإذا جاز تقدم الشرط على المشروط في التكوينيات جاز في
التشريعيات أيضا، بداهة أنه لا مانع من اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف
مشروطا بشئ متدرج الوجود خارجا على نحو يكون ثبوته في ذمته معاصرا
لجزئه الأخير بحيث يستحيل الانفكاك بينهما زمانا، أو يعتبر الوضع كالملكية
والزوجية وما شاكلهما كذلك، يعني: مشروطا بشئ متدرج الوجود كالعقد ونحوه.
وعلى الجملة: فلا مانع من تقدم الشرط على المشروط، سواء كان المشروط
حكما أو فعلا، وسواء كان الحكم وضعيا أو تكليفيا.
وأضف إلى ذلك: أن باب الأحكام الشرعية أجنبي عن باب العلة والمعلول
بالكلية، فلا صلة لأحدهما بالآخر أبدا كما سنشير إليه (1).
ثم إن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد خصص الإشكال المذكور بشرائط الحكم، وذهب
إلى عدم جريانه بالإضافة إلى شرائط المأمور به.
وقد أفاد في وجه ذلك ما حاصله: هو أن مرد شرطية شئ للمأمور به هو أن

(1) سيأتي بيانه في ص 318 فانتظر.
311

الشارع جعل متعلق أمره حصة خاصة منه، وهي الحصة المتقيدة به لا مطلقا، مثلا:
معنى كون الطهارة شرطا للصلاة: هو أن الأمر تعلق بحصة خاصة منها، وهي
الحصة المتقيدة بها لا مطلقا، فيكون القيد كالجزء، فكما أن الجزء متعلق للأمر
النفسي فكذلك القيد فلا فرق بينهما من هذه الناحية. هذا من جانب.
ومن جانب آخر: كما أنه لا مانع من تأخر بعض أجزاء الواجب عن بعضها
الآخر ولا محذور فيه أبدا، وأن الأمر تعلق بالمجموع من المتقدم والمتأخر ولا
يمكن امتثاله إلا بالإتيان بالجميع - كما هو الحال في أجزاء الصلاة - كذلك لا مانع
من تأخر بعض القيود عن الواجب فإن مرجعه إلى أن الواجب هو الحصة المتقيدة
به، فحاله حال الجزء الأخير من هذه الناحية، فكما أن الواجب لا يحصل في
الخارج إلا بحصول الجزء الأخير فكذلك لا يحصل إلا بحصول قيده المتأخر.
ومن هنا لو قلنا باشتراط صوم النهار بالغسل المتأخر - وهو الغسل في الليل -
فلا يمكن امتثاله بدونه، فإن الواجب هو حصة خاصة من الصوم، وهي الحصة
المتقيدة به. ومن الطبيعي أنه لا يمكن حصول المقيد في الخارج بدون حصول
قيده (1).
وإن شئت قلت: إن مقامنا هذا ليس مقام التأثير والتأثر، لما عرفت من أن مرد
كون شئ شرطا للمأمور به إلى كونه قيدا له، ومن الواضح أن قيد المأمور به قد
يكون مقارنا له، وقد يكون متقدما عليه، وقد يكون متأخرا عنه، فكما لا يمكن
حصول المأمور به بدون قيده المقارن أو المتقدم فكذلك لا يمكن حصوله بدون
قيده المتأخر، فحال القيد المتأخر كالغسل المزبور - مثلا - حال الجزء الأخير من
الواجب كالتسليم بالإضافة إلى الصلاة فإنهما مشتركان في نقطة واحدة، وهي
توقف امتثال الواجب عليهما.
ويرد عليه أولا: أن هذا مناقض لما أفاده (قدس سره) سابقا من الفرق بين المقدمات
الداخلية بالمعنى الأخص - وهي الأجزاء - والمقدمات الداخلية بالمعنى الأعم

(1) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 271 - 272.
312

وهي الشرائط، حيث قال بخروج الأولى عن محل النزاع، لعدم ملاك الوجوب
الغيري فيها دون الثانية (1).
ووجه المناقضة: هو أن الشرائط لو كانت متصفة بالوجوب النفسي فهي
كالأجزاء فلا مقتضى عندئذ لاتصافها بالوجوب الغيري.
وثانيا: ما أشرنا إليه في ضمن البحوث السابقة من أن الشرائط بأجمعها
خارجة عن المأمور به، والداخل فيه إنما هو تقيده بها (2)، فإذا كيف يعقل أن تكون
متعلقة للأمر النفسي كالأجزاء، مع أن بعضها غير اختياري كالقبلة أو ما شاكلها؟
وعلى الجملة: فالملاك في صحة التكليف: هو كون المقيد بما هو مقيد تحت
قدرة المكلف واختياره وإن كان القيد خارجا عنه.
فالنتيجة: أن إشكال تأخر الشرط في شرائط المأمور به لا يندفع بما ذكره (قدس سره).
والذي ينبغي أن يقال في المقام: هو أنه لا شأن للشرط هنا إلا كونه قيدا
للطبيعة المأمور بها، الموجب لتعنونها بعنوان خاص وتخصصها بالحصة
المخصوصة التي يقوم بها ملاك الأمر، فالمأمور به هو تلك الحصة من الكلي، من
دون دخل لذلك القيد في الملاك القائم بها أصلا.
ومن الطبيعي أنه لا فرق فيه بين كون ذلك القيد من الأمور المتقدمة أو
المقارنة، وبين كونه من الأمور المتأخرة بداهة.
كما أن تقييد الطبيعة المأمور به بالأمور المتقدمة كتقييد الصلاة - مثلا -
بالطهارة بناء على ما هو الصحيح من أنها عبارة عن الأفعال الخارجية أو بالأمور
المقارنة كتقييدها باستقبال القبلة وبالستر والقيام وما شابه ذلك يوجب تخصصها
بحصة خاصة بحيث لا يمكن الإتيان بتلك الحصة إلا مع هذه القيود، ومع انتفائها
تنتفي كذا تقييدها بالأمور المتأخرة يوجب تخصصها كذلك، بحيث لو لم يحصل
ذلك الأمر المتأخر في موطنه لانكشف عن عدم تحقق تلك الحصة، وذلك كالصوم
الواجب على المستحاضة بناء على كونه مشروطا بشرط متأخر وهو الغسل في

(1) راجع فوائد الأصول ج 1 ص 267 - 268.
(2) قد تقدم في ص 302 فراجع.
313

الليل اللاحق، فإن معنى كونه مشروطا به: هو أن الواجب عليها حصة خاصة من
الصوم، وهي الحصة المقيدة به بحيث يكون التقيد داخلا والقيد خارجا. ومن
الواضح أنه لا يمكن حصول تلك الحصة في الخارج بدون الإتيان به، فلو صامت
المستحاضة في النهار فإن أتت بالغسل في الليل لانكشف ذلك عن حصول تلك
الحصة من الصوم الواجبة عليها، وإن لم تأت به لانكشف عن عدم حصولها، وأن
ما أتت به هو حصة أخرى مبائنة للحصة المأمور بها.
وعلى الجملة: فباب الأحكام الشرعية باب الاعتبارات، وهو أجنبي عن
باب التأثير والتأثر، ولا صلة لأحد البابين بالآخر أبدا، فلا مانع من تقييد الشارع
متعلقها بأمر متأخر، كما أنه لا مانع من تقييدها بأمر مقارن أو متقدم، لما عرفت
من أن مرد تقييده بأمر متأخر هو أنه بوجوده المتأخر يكشف عن وجود الواجب
في ظرفه، كما أن عدم وجوده كذلك يكشف عن عدم تحققه فيه باعتبار أن تقيده
به كان جزءه.
فالنتيجة: أنه لا فرق بين القيد المقارن والمتقدم والمتأخر من هذه الناحية
أصلا، ولا وجه لتوهم استحالة القيد المتأخر إلا من ناحية إطلاق لفظ الشرط
عليه، زاعما أن المراد منه ما كان له دخل في تأثير المقتضي فيكون من أجزاء
العلة التامة، فلا يعقل تأخره عن وجود المعلول. ولكن قد تبين مما تقدم أن المراد
من الشرط هنا معنى آخر، وهو: ما يكون تقيده دخيلا في الواجب دون نفس
القيد، وعليه فبطبيعة الحال لا يضر تقدمه عليه وتأخره عنه خارجا.
ومن ذلك يظهر أن المغالطة في المقام إنما نشأت من الاشتراك اللفظي، حيث
قد اخذ الشرط في الصغرى - وهي قوله: هذا شرط - بمعنى، وفي الكبرى - وهي
قوله: كل شرط مقدم على المشروط - بمعنى آخر، فلم يتكرر الحد الوسط، وبدونه
فلا نتيجة.
وأما شرائط الحكم - سواء أكان حكما تكليفيا أم كان وضعيا - فقد ذكر
المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ما إليك نصه:
314

(والتحقيق في رفع هذا الإشكال أن يقال: إن الموارد التي توهم انخرام
القاعدة فيها لا يخلو: إما أن يكون المتقدم أو المتأخر شرطا للتكليف، أو الوضع،
أو المأمور به.
أما الأول فكون أحدهما شرطا له ليس إلا أن للحاظه دخلا في تكليف الآمر،
كالشرط المقارن بعينه، فكما أن اشتراطه بما يقارنه ليس إلا أن لتصوره دخلا في
أمره بحيث لولاه لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر كذلك المتقدم أو المتأخر.
وبالجملة: حيث كان الأمر من الأفعال الاختيارية كان من مبادئه - بما هو
كذلك - تصور الشئ بأطرافه ليرغب في طلبه، والأمر به بحيث لولاه لما رغب فيه
ولما أراده واختاره، فيسمى كل واحد من هذه الأطراف التي لتصورها دخل في
حصول الرغبة فيه وإرادته شرطا، لأجل دخل لحاظه في حصوله، كان مقارنا له
أو لم يكن كذلك، متقدما أو متأخرا، فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة
شرطا كان فيهما كذلك فلا إشكال.
وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقا ولو كان مقارنا، فإن دخل شئ في
الحكم به وصحة انتزاعه لدى الحاكم به ليس إلا ما كان بلحاظه يصح انتزاعه،
وبدونه لا يكاد يصح اختراعه عنده، فيكون دخل كل من المقارن وغيره بتصوره
ولحاظه وهو مقارن، فأين انخرام القاعدة العقلية في غير المقارن؟ فتأمل
تعرف) (1).
ملخص ما أفاده (قدس سره): هو أن الشرط في الحقيقية تصور الشئ ووجوده
الذهني دون وجوده الخارجي، وإطلاق الشرط عليه مبني على ضرب من
المسامحة باعتبار أنه طرف له، وعلى ضوء هذا الأساس لا فرق بين كون وجود
الشرط خارجا متأخرا عن المشروط، أو متقدما عليه، أو مقارنا له، إذ على جميع
هذه التقادير: الشرط واقعا والدخيل فيه حقيقة هو لحاظه ووجوده العلمي، وهو
معاصر له زمانا ومتقدم عليه رتبة.

(1) كفاية الأصول: ص 118 - 119.
315

وعلى الجملة: فالحكم بما أنه فعل اختياري للحاكم فلا يتوقف صدوره منه
إلا على تصوره بتمام أطرافه من المتقدمة والمقارنة واللاحقة، وهو الموجب
لحدوث الإرادة في نفسه نحو إيجاده كسائر الأفعال الاختيارية، فالشرط له
- حقيقة - إنما هو وجود تلك الأطراف في عالم التصور واللحاظ، دون وجودها
في عالم الخارج.
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) إنما يتم في موردين:
أحدهما: في القضايا الشخصية.
وثانيهما: في مرحلة الجعل والتشريع، ولا يتم فيما نحن فيه، فلنا دعاو ثلاث:
أما الدعوى الأولى: فلأن فعلية الأحكام المجعولة في القضايا الشخصية
مساوقة لجعلها غالبا فهما في آن واحد، والسبب في ذلك: أن الموضوع فيها هو
الشخص الخارجي، ومن الطبيعي أنه ليس لفعلية الحكم المجعول عليه حالة
منتظرة ما عدا جعله، فإن فعلية الحكم إنما هي بفعلية موضوعه، فإذا كان موضوعه
موجودا في الخارج - كما هو المفروض - كان فعليا لا محالة، فلا تتوقف فعلية
الحكم فيها على شئ آخر. ومن المعلوم أن ما هو دخيل في ذلك ومؤثر فيه إنما
هو إرادة المولى بمبادئها من التصور واللحاظ، فلا دخل لشئ من الوجودات
الخارجية فيه، فأمر المولى بإتيان الماء - مثلا - لا يتوقف على شئ سوى إرادته
واختياره كسائر أفعاله الاختيارية، والمفروض أن زمان الجعل فيه مساوق لزمان
فعلية المجعول فلا تتوقف على شئ آخر ما عداه.
فالنتيجة: أن في أمثال هذه الموارد لا يعقل أن يكون الشئ شرطا لفعلية
الحكم ومؤثرا فيها من دون دخله في جعله، بل الأمر بالعكس تماما، يعني: أن
الشرائط في أمثال تلك الموارد بأجمعها راجعة إلى شرائط الجعل، فليس شئ
منها راجعا إلى شرط المجعول، وقد عرفت أن شرائط الجعل عبارة عن علم الآمر
وتصوره الشئ بتمام أطرافه المتقدمة والمقارنة والمتأخرة، سواء أكان علمه
مطابقا للواقع أم لا.
316

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي: أن تمامية ما أفاده (قدس سره) في
تلك الموارد إنما هي من ناحية أن شرائط الحكم فيها ترجع إلى شرائط الجعل
فحسب، فلا معنى لكون شئ شرطا فيها للحكم.
وأما الدعوى الثانية: فقد ظهر حالها من ضوء ما بيناه في الدعوى الأولى،
وأن الجعل كسائر الأفعال الاختيارية فلا يتوقف على شئ ما عدا الاختيار
بمبادئه.
وأما الدعوى الثالثة: فلأن محل الكلام إنما هو في شرائط الحكم من التكليفي
أو الوضعي، لا في شرائط الجعل، فلا صلة لما أفاده (قدس سره) بما هو محل الكلام.
بيان ذلك: هو أن للأحكام المجعولة على نحو القضايا الحقيقية مرتبتين:
الأولى: مرتبة الجعل والإنشاء، فالحكم في هذه المرتبة لا يتوقف على وجود
شئ في الخارج، بل هو موجود بوجود إنشائي فحسب، وله بقاء واستمرار كذلك
ما لم ينسخ.
الثانية: مرتبة الفعلية، فالحكم في هذه المرتبة يتوقف على وجود موضوعه
بتمام قيوده خارجا، وذلك لاستحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه، ومحل
الكلام في المقام إنما هو في شرائط المجعول وهو الحكم الفعلي، لا في شرائط
الجعل حيث قد عرفت الكلام فيها، وإن الجعل بما أنه فعل اختياري للجاعل فلا
وعاء لشرائطه إلا النفس، ولا دخل للوجود الخارجي فيه أصلا.
وهذا بخلاف شرائط المجعول، فإنها حيث كانت عبارة عن القيود المأخوذة
في موضوعه في مقام الجعل فيستحيل تحققه وفعليته بدون تحققها وفعليتها،
وذلك كالاستطاعة - مثلا - التي أخذت في موضوع وجوب الحج، فإنها ما لم
تتحقق في الخارج لا يكون وجوب الحج فعليا، وكالعقد الذي اخذ في موضوع
الملكية أو الزوجية، فإنه ما لم يوجد خارجا لا تتحقق الملكية أو الزوجية.
وعلى الجملة: ففعلية الحكم تدور مدار فعلية موضوعه المأخوذ مفروض
الوجود في مرحلة الجعل. ومن هنا وقع الإشكال فيما إذا كان الشرط متأخرا
317

زمانا عن الحكم.
فالنتيجة لحد الآن أمران:
الأول: أن فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه المأخوذ مفروض الوجود
في ظرف التشريع.
الثاني: أن كلامه (قدس سره) مبني على الخلط بين شرائط الجعل وشرائط المجعول،
وقد مر أنه لا صلة لإحداهما بالأخرى أصلا.
وعلى ضوء هذه النتيجة قد التزم شيخنا الأستاذ (قدس سره) باستحالة الشرط المتأخر
بدعوى: أن الموضوع في القضايا الحقيقية قد اخذ مفروض الوجود بتمام شرائطه
وقيوده، ومن الطبيعي أن الموضوع ما لم يتحقق في الخارج كذلك يستحيل تحقق
الحكم، حيث إن نسبة الموضوع إلى الحكم كنسبة العلة التامة إلى معلولها، ففرض
فعلية الحكم قبل وجود موضوعه ولو من ناحية عدم وجود قيد من قيوده كفرض
وجود المعلول قبل وجود علته (1).
والسر فيه: هو أن القضايا الحقيقية بأجمعها ترجع في الحقيقة إلى قضايا
شرطية، مقدمها وجود الموضوع، وتاليها ثبوت المحمول له. ومن الطبيعي أنه لا
يمكن وجود التالي قبل وجود المقدم.
والذي ينبغي أن يقال في المقام: هو جواز الشرط المتأخر، ويقع الكلام فيه
في مقامين:
الأول: في مقام الثبوت.
والثاني: في مقام الإثبات.
أما المقام الأول: فقد ذكرنا غير مرة: أن الأحكام الشرعية بشتى أنواعها أمور
اعتبارية، فلا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار، ولا صلة لها
بالموجودات المتأصلة الخارجية أبدا (2).

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 277 - 278.
(2) منها: ما تقدم في ص 258 وص 314، وما في مصباح الأصول: ج 2 ص 108.
318

وبكلمة أخرى: أن الموجودات التكوينية المتأصلة خاضعة لعللها الطبيعية فلا
يتعلق بها جعل شرعي أصلا. وأما الموجودات الاعتبارية التي منها الأحكام
الشرعية فهي خاضعة لاعتبار المعتبر، وأمرها بيده وضعا ورفعا، ولا تخضع لشئ
من الموجودات التكوينية، وإلا لكانت تكوينية.
وعلى ضوء هذا البيان قد اتضح: أن موضوعات الأحكام الشرعية وإن كانت
من الأمور التكوينية إلا أنه لا تأثير لها فيها أبدا، لا تأثير العلة في المعلول، ولا
الشرط في المشروط، ولا السبب في المسبب، وإن اطلق عليها الشرط مرة،
والسبب مرة أخرى إلا أن ذلك مجرد اصطلاح من الأصحاب على تسمية
الموضوعات في الأحكام التكليفية بالشروط، وفي الأحكام الوضعية بالأسباب
مع عدم واقع موضوعي لها. فيقولون: إن البلوغ شرط لوجوب الصلاة مثلا،
والاستطاعة شرط لوجوب الحج، وبلوغ النصاب شرط لوجوب الزكاة... وهكذا،
والبيع سبب للملكية، والموت سبب لانتقال المال إلى الوارث، وملاقاة النجس مع
الرطوبة المسرية سبب لنجاسة الملاقي... وهكذا.
وقد قلنا في موطنه: إنه لم يظهر لنا وجه للتفرقة بين تسمية الأولى بالشروط
والثانية بالأسباب أصلا، بداهة أن كلتيهما موضوع للحكم، فلا فرق بين
الاستطاعة والبيع من هذه الناحية، فكما أن الشارع جعل وجوب الحج معلقا على
فرض وجود الاستطاعة في الخارج فكذلك جعل الملكية معلقة على فرض وجود
البيع فيه (1). هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن فعلية الأحكام وإن كانت دائرة مدار فعلية موضوعاتها
بتمام قيودها وشرائطها في الخارج إلا أن لازم ذلك ليس تقارنهما زمانا. والسبب
فيه: هو أن ذلك تابع لكيفية جعلها واعتبارها، فكما يمكن للشارع جعل حكم على
موضوع مقيد بقيد فرض وجوده مقارنا لفعلية الحكم يمكن له جعل حكم على

(1) سوف يأتي بيانه في الجزء الخامس في أواسط بحث " النهي في العبادات ".
319

موضوع مقيد بقيد فرض وجوده متقدما على فعلية الحكم مرة ومتأخرا عنها مرة
أخرى، فإن كل ذلك بمكان من الوضوح، بعد ما عرفت من أنه لا واقع للحكم
الشرعي ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار فإذا كان أمره بيده وضعا ورفعا سعة
وضيقا كان له جعله بأي شكل ونحو أراد وشاء، فلو كان جعله على الشكل الثالث
فبطبيعة الحال تتقدم فعلية الحكم على فعلية موضوعه، كما أنه لو كان على
الشكل الثاني تتأخر فعليته عن فعليته، وإلا لزم الخلف.
والسر فيه: أن المجعول في القضايا الحقيقية حصة خاصة من الحكم، وهي
الحصة المقيدة بقيد فرض وجوده في الخارج لا مطلقا، ومن الطبيعي أن هذا القيد
يختلف.
فمرة يكون قيدا لها بوجوده المتأخر مثل: أن يأمر المولى بإكرام زيد - مثلا -
فعلا بشرط مجئ عمرو غدا فإن المجعول فيه هو حصة خاصة من الوجوب، وهو
الحصة المقيدة بمجئ عمرو غدا، فإذا تحقق القيد في ظرفه كشف عن ثبوتها في
موطنها، وإلا كشف عن عدم ثبوتها فيه.
ومرة أخرى بوجوده المتقدم، كما لو أمر بإكرام زيد غدا بشرط مجئ عمرو
هذا اليوم.
ومرة ثالثة بوجوده المقارن، وذلك كقوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت
من استطاع إليه سبيلا) * (1).
وبكلمة أخرى: بعد ما كان جعل الأحكام الشرعية بيد الشارع سعة وضيقا
ورفعا ووضعا فكما أن له جعل الحكم معلقا على أمر مقارن كذلك له جعل الحكم
معلقا على أمر متقدم عليه أو متأخر عنه. ومن المعلوم أن المولى إذا جعل الحكم
معلقا بأمر متأخر عن وجوده فبطبيعة الحال تكون فعليته قبل وجود ذلك الأمر،
وإلا لكانت الفعلية على خلاف الإنشاء، وهو خلف كما عرفت.
ومثال ذلك في العرفيات: الحمامات المتعارفة في زماننا هذا، فإن صاحب

(1) آل عمران: 97.
320

الحمام يرضى في نفسه رضى فعليا بالاستحمام لكل شخص على شرط أن يدفع
بعد الاستحمام وحين الخروج مقدار الأجرة المقررة من قبله، فالرضي من المالك
فعلي والشرط متأخر.
ومن ضوء هذا البيان يظهر فساد ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره): من أن
الموضوع في القضايا الحقيقية بما أنه اخذ مفروض الوجود فيستحيل تحقق
الحكم وفعليته قبل فعلية موضوعه بقيوده (1).
توضيح الفساد: ما عرفت من أنه كما يمكن أخذ الموضوع مفروض الوجود
في ظرف مقارن للحكم أو متقدم عليه كذلك يمكن أخذه مفروض الوجود في
ظرف متأخر عنه، وعليه فلا محالة تتقدم فعلية الحكم على فعلية موضوعه (2).
فالنتيجة في نهاية المطاف: هي أن شرائط الحكم عبارة عن قيود الموضوع
المأخوذة مفروضة الوجود في الخارج، من دون فرق بين كونها مقارنة للحكم، أو
متقدمة عليه، أو متأخرة عنه، وليس لها أي دخل وتأثير في نفس الحكم أصلا.
ومن هنا قلنا: إن إطلاق الشروط والأسباب عليها مجرد اصطلاح بين الأصحاب
كما مر (3).
وأما المقام الثاني - وهو مقام الإثبات - فلا شبهة في أن الشرط المتأخر على
خلاف ظواهر الأدلة التي تتكفل جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقية، فإن

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 277.
(2) في أجود التقريرات ج 1 ص 133 قال (قدس سره): (التحقيق أن يقال: إن الفعل المقيد بقيد
اختياري أو غير اختياري على نحو يكون القيد خارجا والتقيد داخلا لا تكون القدرة عليه
متوقفة على أن يكون قيده أيضا مقدورا، فالتوجه إلى القبلة - مثلا - بما أنه حصة خاصة من
كلي التوجه ربما يكون مقدورا، مع أن قيده - وهو نفس وجود القبلة - خارج عن الاختيار.
ودعوى كون القبلة فيما أمر بالتوجه إليها شرطا للتكليف من دون تقيد متعلق التكليف بها
تستلزم جواز التوجه إلى غير القبلة في مقام الامتثال، وهو واضح البطلان، فلا مناص من
أخذ التقيد بها في المأمور به وتعلق الوجوب بالحصة الخاصة المقدورة للمكلف، ولو لم يكن
نفس القيد مقدورا فالميزان في جواز التكليف بالمقيد هو كون المقيد بما هو مقيد مقدورا،
سواء كان القيد مقدورا أو لم يكن).
(3) راجع ص 319.
321

الظاهر منها هو كون الشرط المأخوذ في موضوعاتها مقارنا للحكم، كقوله تعالى:
* (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) *، حيث إن المتفاهم العرفي
منه هو كون الاستطاعة خارجا مقارنا لوجوب الحج، فإرادة كون وجوبه سابقا
على وجودها في الخارج تحتاج إلى مؤنة زائدة.
فالنتيجة: أن الالتزام بوقوع الشرط المتأخر في مقام الإثبات يحتاج إلى
دليل، وبدونه فلا يمكن الالتزام به.
نعم، شرطية الإجازة بوجودها المتأخر في العقد الفضولي كالبيع والإجارة
والنكاح وما شاكل ذلك، وشرطية القدرة كذلك في الواجبات التدريجية - كالصلاة
والصوم ونحوهما - لا تحتاجان إلى دليل خاص، بل كانتا على طبق القاعدة.
أما الأولى: فلأجل أن العقد قبل تحقق الإجازة لم يكن منتسبا إلى المالك
حتى يكون مشمولا لعمومات الصحة وإطلاقاتها، فإنها تدل على صحة عقد
المالك وإمضائه، ولا معنى لدلالتها على نفوذه وصحته لغير المالك أصلا، فإذا
تعلقت الإجازة به انتسب إلى المالك من حين وقوعه وحكم بصحته من هذا الحين.
والسبب في ذلك: هو أن الإجازة من الأمور التعلقية، فكما يمكن تعلقها بأمر
مقارن لها أو متأخر عنها فكذلك يمكن تعلقها بأمر متقدم عليها. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن المالك بما أنه أجاز العقد السابق الصادر من الفضولي
فبطبيعة الحال قد أمضى الشارع ذلك العقد بمقتضى تلك العمومات والإطلاقات.
ومن ناحية ثالثة: أن ظرف الإجازة وإن كان متأخرا إلا أن متعلقها - وهو
العقد - أمر سابق.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي صحة العقد من حينه، وحصول الملكية
من هذا الحين، وهذا معنى كون الإجازة بوجودها المتأخر شرطا للملكية السابقة.
وبكلمة أخرى: أن اعتبار الشارع وإمضاءه وإن كان من الآن - أي: من حين
الإجازة - إلا أن الممضى هو العقد السابق، والمعتبر هو الملكية المتقدمة، أعني:
الملكية من حين العقد، والمفروض أن الإجازة شرط لها.
322

ونظير ذلك: ما إذا افترضنا قيام دليل على أن القبول المتأخر بزمن مؤثر في
صحة العقد من حين الإيجاب فإنه - عندئذ - لا مناص من الالتزام بحصول الملكية
من هذا الحين، وإن كان ظرف اعتبارها بمقتضى أدلة الإمضاء من حيث القبول إلا
أن ذلك مجرد افتراض فلا واقع موضوعي له، على أنه خلاف المرتكز في أذهان
العرف والعقلاء، وذلك بخلاف الإجازة اللاحقة، فإن كونها شرطا متأخرا كان على
طبق القاعدة وموافقا للارتكاز، فلا نحتاج إلى دليل.
ومن هنا قد التزمنا في مسألة الفضولي بالكشف الحقيقي بهذا المعنى، وقلنا
هناك: إن هذا لا يحتاج إلى دليل خاص (1).
كما أنا ذكرنا هناك: أنه لا تنافي بين اعتبار الشارع ملكية مال لشخص في
زمان وبين اعتباره ملكيته لآخر في ذلك الزمان بعينه إذا كان زمان الاعتبار
متعددا، فالعبرة في أمثال ذلك إنما هي بتعدد زماني الاعتبار وإن كان زمان
المعتبرين واحدا، لعدم التنافي بينهما ذاتا (2)، وذلك لما حققناه في موطنه: من أن
الأحكام الشرعية بأجمعها: التكليفية والوضعية أمور اعتبارية، فلا تنافي ولا تضاد
بينها في أنفسها أصلا، وإنما التنافي والتضاد بينها من ناحية أخرى على تفصيل
ذكرناه في محله (3).
وأما الثانية - وهي شرطية القدرة بوجودها المتأخر في الواجبات التدريجية -
فلأن فعلية وجوب كل جزء سابق منها مشروطة ببقاء شرائط التكليف من الحياة
والقدرة وما شاكلهما إلى زمان الإتيان بالجزء اللاحق. مثلا: فعلية وجوب
التكبيرة في الصلاة مشروطة ببقاء المكلف على شرائط التكليف إلى زمان الإتيان
بالتسليمة، لفرض أن وجوبها ارتباطي، فلا يعقل وجوب جزء بدون وجوب جزء
آخر، فلو جن في الأثناء أو عجز عن إتمامها كشف ذلك عن عدم وجوبها من الأول.

(1) انظر مصباح الفقاهة: ج 4 ص 141 - 143.
(2) انظر مصباح الفقاهة: ج 4 ص 141 - 143.
(3) راجع ص 258، ومصباح الأصول: ج 2 ص 108 بحث الجمع بين الحكم الظاهري
والواقعي.
323

وعلى الجملة: ففعلية وجوب الأجزاء السابقة كما تتوقف على وجود تلك
الشرائط في ظرفها كذلك تتوقف على بقائها إلى زمان الأجزاء اللاحقة، فالالتزام
بالشرط المتأخر في أمثال الموارد مما لا مناص منه، ولا يحتاج إلى دليل خاص،
فيكفي فيه نفس ما دل على اشتراط هذه الواجبات بتلك الشرائط.
لحد الآن قد استطعنا أن نخرج بهاتين النتيجتين:
الأولى: أنه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر في مرحلة الثبوت، ولا
محذور فيه أبدا.
الثانية: أن الالتزام بوقوعه في مرحلة الإثبات يحتاج إلى دليل خاص، وإلا
فمقتضى القاعدة عدمه. نعم، وقوعه في الموردين السابقين كان على طبق القاعدة.
الواجب المطلق والمشروط
غير خفي أن إطلاق المطلق والمشروط على الواجب بمالهما من المعنى
اللغوي. فالمطلق: عبارة عن المرسل وعدم التقييد بشئ، ومنه طلاق المرأة فإنه
بمعنى: إرسالها عن قيد الزوجية.
والمشروط: عبارة عن المقيد بقيد والمشدود به، ومنه وجوب الحج بالإضافة
إلى الاستطاعة فإنه مقيد بها ومربوط، ولا يكون مطلقا، وليس للأصوليين
اصطلاح خاص فيهما، بل هم يطلقون هذين اللفظين بمالهما من المعنى اللغوي،
كما ذكره المحقق صاحب الكفاية (1) (قدس سره).
ثم إنه قد يتصف بهما الوجوب، فيكون مطلقا تارة، ومشروطا أخرى، وذلك
كوجوب الحج فإنه مشروط بالإضافة إلى الاستطاعة ومطلق بالإضافة إلى الزوال
مثلا، وقد يتصف بهما الواجب كذلك، كالصلاة فإنها مقيدة بالطهارة ومطلقة
بالإضافة إلى الإحرام مثلا...، وهكذا. ومن هنا يظهر: أن إطلاقهما على الواجب
في المقام مبني على ضرب من المسامحة، وذلك لأن الكلام فيه إنما هو في إطلاق

(1) كفاية الأصول: ص 121.
324

الوجوب واشتراطه، لا الواجب.
وبكلمة أخرى: أن الكلام في المقام إنما هو في إطلاق الحكم واشتراطه،
سواء أكان الحكم تكليفيا أم وضعيا، وليس الكلام في إطلاق الواجب واشتراطه.
ثم إن الإطلاق والتقييد أمران إضافيان، فيمكن أن يكون شئ واحد بالإضافة
إلى شئ مطلقا وبالإضافة إلى آخر مقيدا، وذلك كوجوب الصلاة - مثلا - حيث إنه
مطلق بالإضافة إلى الطهارة ومقيد بالإضافة إلى الزوال...، وهكذا، ووجوب
الحج فإنه مطلق بالإضافة إلى الزوال ومقيد بالإضافة إلى الاستطاعة، ومن
الطبيعي أن هذا دليل ظاهر على أن الإطلاق والتقييد أمران إضافيان.
بقي الكلام في النزاع المعروف الواقع بين شيخنا الأنصاري (قدس سره) وغيره من
الأعلام، وهو: أن القيود المأخوذة في لسان الأدلة هل ترجع إلى مفاد الهيئة، أو
إلى نفس المادة؟ فنسب صاحب التقرير إلى الشيخ (قدس سره) رجوعها إلى المادة دون
مفاد الهيئة وإن كان ظاهر القضية الشرطية بحسب المتفاهم العرفي هو رجوعها إلى
مفاد الهيئة (1)، ضرورة أن المتفاهم عرفا من مثل قولنا: " إن جاءك زيد فأكرمه "
هو ترتب وجوب الإكرام على مجيئه وأنه قيد له دون الواجب، وكذا المتفاهم من
مثل قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (2).
ومن هنا اعترف الشيخ (قدس سره) بهذا الظهور، وقال: إن مقتضى القواعد العربية وإن
كان ذلك إلا أنه ادعى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة من ناحية، وادعى
لزوم رجوعه إلى نفس المادة لبا من ناحية أخرى، فهنا نقطتان من البحث:
الأولى: في دعوى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة.
الثانية: في دعوى لزوم رجوعه إلى المادة لبا.
أما النقطة الأولى: فالبحث فيها يعود إلى دعاوى ثلاث:
الأولى: ما نسب إلى الشيخ (قدس سره) في تقريره (3) كما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره)،

(1) انظر مطارح الأنظار: ص 45 - 53.
(2) آل عمران: 97.
(3) انظر مطارح الأنظار: ص 45 - 46.
325

وحاصله: هو أن مفاد الهيئة معنى حرفي، والمعنى الحرفي جزئي حقيقي، ومن
البديهي أن الجزئي غير قابل للتقييد، فإن ما هو قابل له هو المعنى الكلي حيث
يصدق على حصص متعددة، وأما المعنى الجزئي فلا يعقل فيه الإطلاق
والتقييد (1).
ولكنه يندفع أولا: بما حققناه في مبحث المعنى الحرفي من أن الحروف لم
توضع للمعاني الجزئية الحقيقية حتى لا تكون قابلة للتقييد، وإنما وضعت
للدلالة على تضييق المعاني الاسمية وتخصيصها بخصوصية ما (2)، ومن الواضح
أن المعنى الاسمي بعد تخصيصه وتضييقه أيضا قابل للانطباق على حصص وأفراد
كثيرة في الخارج، وذلك كما إذا كان أحد طرفي المعنى الحرفي كليا، أو كلاهما،
مثل قولنا: " سر من البصرة إلى الكوفة " فإن السير كما كان قبل التضييق كليا
قابلا للانطباق على كثيرين كذلك بعده، فعندئذ بطبيعة الحال يصير المعنى
الحرفي كليا بتبعه.
وثانيا: أن التقييد على قسمين:
الأول: التقييد بمعنى التضييق والتخصيص، وفي مقابله الإطلاق بمعنى التوسعة.
الثاني: بمعنى التعليق، وفي مقابله الإطلاق بمعنى التنجيز، وعليه فلو سلمنا أن
المعنى الحرفي جزئي حقيقي إلا أن الجزئي الحقيقي غير قابل للتقييد بالمعنى
الأول. وأما تقييده بالمعنى الثاني فهو بمكان من الوضوح، بداهة أنه لا مانع من
تعليق الطلب الجزئي المنشأ بالصيغة أو بغيرها على شئ، كما إذا علق وجوب
إكرام زيد - مثلا - على مجيئه حيث لا محذور فيه أبدا.
الثانية: ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أن المعنى الحرفي وإن كان كليا إلا أنه
ملحوظ باللحاظ الآلي، فلا يرد عليه الإطلاق والتقييد، لأنهما من شؤون المعاني
الملحوظة باللحاظ الاستقلالي، وبما أن معنى الهيئة معنى حرفي فلا يتصف

(1) كفاية الأصول: ص 122.
(2) قد تقدم في الجزء الأول من المحاضرات: ص 79 - 86 فراجع.
326

بالإطلاق حتى يصلح للتقييد، ولأجل ذلك امتنع رجوع القيد إلى مفاد الهيئة (1).
ويرد عليه أولا: ما حققناه في مبحث الحروف بشكل موسع: من أن ذلك - أي
المعنى الحرفي - ملحوظ باللحاظ الآلي، والمعنى الاسمي ملحوظ باللحاظ
الاستقلالي وإن كان كلاما مشهوريا بين الأصحاب إلا أنه لا يبتنى على أصل
صحيح. ومن ذلك ذكرنا هناك: أنه لا فرق بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي
من هذه الناحية أبدا، بل ربما يكون مورد الالتفات والتوجه استقلالا هو خصوص
المعنى الحرفي، وذلك كما إذا علمنا بورود زيد - مثلا - في بلد ونعلم أنه سكن في
مكان، ولكن لا نعلم المكان بخصوصه فنسأل عن تلك الخصوصية التي هي معنى
الحرف، أو إذا علمنا وجود زيد في الخارج وقيامه، ولكن لا نعلم خصوصية
مكانه أو زمانه فنسأل عن تلك الخصوصية...، وهكذا ففي أمثال هذه الأمثلة
المعنى الحرفي هو الملحوظ مستقلا والمورد للتوجه والالتفات كذلك. وقد تقدم
تفصيل ذلك (2) فلاحظ.
وثانيا: على تقدير تسليم أن المعنى الحرفي لابد أن يلحظ باللحاظ الآلي إلا
أنه إنما يمنع عن طرو التقييد عليه حين لحاظه كذلك. وأما إذا قيد المعنى أولا
بقيد ثم لوحظ المقيد آليا فلا محذور فيه أبدا، وعليه فلا مانع من ورود اللحاظ
الآلي على الطلب المقيد في رتبة سابقة عليه.
الثالثة: - وهي العمدة في المقام - أن رجوع القيد إلى مفاد الهيئة بما أنه
مستلزم لتفكيك الإنشاء عن المنشأ والإيجاب عن الوجوب الذي هو مساوق
لتفكيك الإيجاد عن الوجود فهو غير معقول، والسبب في ذلك: هو أنه لا ريب في
استحالة تفكيك الإيجاد عن الوجود في التكوينيات حيث إنهما واحد ذاتا
وحقيقة، والاختلاف بينهما إنما هو بالاعتبار فلا يعقل التفكيك بينهما، وكذا الحال
في التشريعيات، بداهة أنه لا فرق في استحالة التفكيك بين الإيجاد والوجود في
التشريع والتكوين.

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 181.
(2) راجع الجزء الأول من المحاضرات: ص 64 - 71 ضمن البحث في المعنى الحرفي.
327

وعلى الجملة: فإيجاب المولى ووجوبه إنما يتحققان بنفس إنشائه فلا فرق
بينهما إلا بالاعتبار، فبملاحظة فاعله إيجاب، وبملاحظة قابله وجوب، كما هو
الحال في الإيجاد والوجود التكوينيين. وعلى هذا الضوء فلا محالة يرجع القيد إلى
المادة دون الهيئة، وإلا لزم تحقق الإيجاب دون الوجوب، ولازم ذلك انفكاكه عنه،
لفرض عدم إنشاء آخر في البين، ومرده إلى تخلف الوجود عن الإيجاد، وهو مستحيل.
فالنتيجة: تعين رجوع القيد إلى المادة بعد استحالة رجوعه إلى الهيئة، لعدم
ثالث في البين.
وقد أجاب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) عن ذلك بما إليك نصه: (المنشأ إذا
كان هو الطلب على تقدير حصوله (الشرط) فلابد أن لا يكون قبل حصوله طلب
وبعث، وإلا لتخلف عن إنشائه وإنشاء أمر على تقدير، كالإخبار به بمكان من
الإمكان كما يشهد به الوجدان) (1).
وفيه: أن ما أفاده (قدس سره) مصادرة ظاهرة، وذلك لأن الكلام إنما هو في إمكان
هذا النحو من الإنشاء، وأنه كيف يمكن مع استلزامه تخلف الوجوب عن
الإيجاب وهو مساوق لتخلف الوجود عن الإيجاد؟
وبكلمة أخرى: أن محل الكلام هنا إنما هو في إمكان كون الإيجاد حاليا
والوجود استقباليا، وعدم إمكانه، فكيف يمكن أن يستدل على إمكانه بنفس ذلك؟
وهذا نظير ما تقدم في الجواب عن الشرط المتأخر: من أن الشرط بوصف كونه
متأخرا شرط، أو بوصف كونه معدوما كذلك فلو تقدم كان خلفا.
فالصحيح أن يقال: إنه لا مدفع لهذا الإشكال بناء على نظرية المشهور: من أن
الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ، ضرورة عدم إمكان تخلف الوجود عن
الإيجاد وأما بناء على نظريتنا: من أن الإنشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري
النفساني في الخارج بمبرز من قول أو فعل - كما حققناه في مبحث الإخبار
والإنشاء بشكل موسع (2) - يندفع الإشكال المذكور من أصله.

(1) كفاية الأصول: ص 123.
(2) راجع الجزء الأول من المحاضرات: ص 99.
328

والسبب في ذلك: هو أن المراد من الإيجاب سواء أكان إبراز الأمر
الاعتباري النفساني أم كان نفس ذلك الأمر الاعتباري فعلى كلا التقديرين لا يلزم
محذور من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة.
أما على الأول: فلأن كلا من الإبراز والمبرز والبروز فعلي فليس شئ منها
معلقا على أمر متأخر، وهذا ظاهر.
وأما على الثاني: فلأن الاعتبار بما أنه من الأمور النفسانية التعلقية - يعني:
ذات الإضافة، كالعلم والشوق وما شاكلهما من الصفات الحقيقية التي تكون
كذلك - فلا مانع من تعلقه بأمر متأخر، كما يتعلق بأمر حالي، نظير العلم فإنه كما
يتعلق بأمر حالي كذلك يتعلق بأمر استقبالي.
وعلى الجملة: فكما يمكن تأخر المعلوم عن العلم زمنا - كقيام زيد غدا، أو
سفره، أو نحو ذلك حيث إن العلم به حالي والمعلوم أمر استقبالي - فكذلك يمكن
تأخر المعتبر عن الاعتبار بأن يكون الاعتبار حاليا والمعتبر أمرا متأخرا، كاعتبار
وجوب الصوم على زيد غدا أو نحو ذلك، فالتفكيك إنما هو بين الاعتبار والمعتبر،
ولا محذور فيه أصلا، ولا يقاس ذلك بالتفكيك بين الإيجاد والوجود في
التكوينيات أصلا.
ومما يشهد لما ذكرناه: صحة الوصية التمليكية، فلو قال الموصي: " هذه الدار
لزيد بعد وفاتي " فلا شبهة في تحقق الملكية للموصى له بعد وفاته، مع أن الاعتبار
فعلي، ومن البديهي أن هذا ليس إلا من ناحية أن الموصي اعتبر فعلا الملكية
للموصى له في ظرف الوفاة. ومن هنا لم يستشكل أحد في صحة تلك الوصية،
حتى من القائلين برجوع القيد إلى المادة دون الهيئة.
وتوهم أن الملكية فعلية ولكن المملوك - وهو العين الخارجية - مقيدة بما بعد
الوفاة خاطئ جدا، فإنه يقوم على أساس قابلية تقيد الجواهر بالزمان، ومن
المعلوم أن الجواهر غير قابلة لذلك. نعم، يمكن هذا في الأعراض القائمة بها، كما
إذا اعتبر المالك ملكية المنفعة المتأخرة حالا.
329

وعلى الجملة: فالأعيان الخارجية التي هي من قبيل الجواهر غير قابلة
للتقدير بالزمن والتحديد به، فإن القابل للتقدير والتحديد به إنما هو المعنى
الحدثي، يعني الأعراض والأمور الاعتبارية، كالضرب والقيام وما شاكلهما.
ومن هنا قلنا: إن المنفعة قابلة للتقدير بالزمن كمنفعة شهر أو سنة أو نحو ذلك،
وعليه فلا مانع من اعتبار ملكية المنفعة المتأخرة من الآن بأن تكون الملكية فعلية
والمملوك أمرا متأخرا، بل هو واقع في باب الإجارة (1).
وأما النقطة الثانية: فقد استند الشيخ (قدس سره) في إثباتها بما حاصله: أن الإنسان إذا
توجه إلى شئ والتفت إليه فلا يخلو من أن يطلبه، أم لا، ولا ثالث في البين، ولا
كلام على الثاني.
وعلى الأول فأيضا لا يخلو: من أن الفائدة تقوم بطبيعي ذلك الشئ من دون
دخل خصوصية من الخصوصيات فيها، أو تقوم بحصة خاصة منه.
وعلى الأول: فبطبيعة الحال يطلبه المولى على إطلاقه وسعته. وعلى الثاني
يطلبه مقيدا بقيد خاص، لفرض عدم قيام المصلحة إلا بالحصة الخاصة - وهي
الحصة المقيدة بهذا القيد - لا بصرف وجوده على نحو السعة والإطلاق. وهذا القيد
مرة يكون اختياريا، ومرة أخرى غير اختياري.
وعلى الأول: تارة يكون موردا للطلب والبعث، وذلك كالطهارة - مثلا -
بالإضافة إلى الصلاة، وتارة أخرى لا يكون كذلك، بل اخذ مفروض الوجود،
وذلك كالاستطاعة بالإضافة إلى الحج، فإن المولى لم يرد الحج مطلقا من
المكلف، وإنما أراد حصة خاصة منه وهي الحج من المكلف المستطيع.
وعلى الثاني: فهو لا محالة أخذ مفروض الوجود في مقام الطلب والجعل،
لعدم صحة تعلق التكليف به، وذلك كزوال الشمس - مثلا - بالإضافة إلى وجوب
الصلاة، فإن المولى لم يطلب الصلاة على نحو الإطلاق، بل طلب حصة خاصة

(1) انظر مستند العروة الوثقى: ج 1 ص 32 كتاب الإجارة في شرائط العوضين.
330

منها، وهي الحصة الواقعة بعد زوال الشمس.
وعلى جميع التقادير: فالطلب فعلي ومطلق، والمطلوب مقيد، من دون فرق
بين كونه اختياريا أو غير اختياري (1).
فالنتيجة: أن ما ذكرناه من رجوع القيد بشتى ألوانه إلى المادة أمر وجداني
لا ريب ولا مناقشة فيه.
والجواب عنه: أنه (قدس سره) إن أراد من الطلب في كلامه الشوق النفساني فالأمر
وإن كان كما أفاده، حيث إن تحقق الشوق النفساني المؤكد تابع لتحقق مبادئه من
التصور والتصديق ونحوهما في أفق النفس، ولا يختلف باختلاف المشتاق إليه في
خارج أفقها من ناحية الإطلاق والتقييد تارة، ومن ناحية كون القيد اختياريا
وعدم كونه كذلك أخرى، ومن ناحية كون القيد أيضا موردا للشوق وعدم كونه
كذلك ثالثة، بل ربما يكون القيد مبغوضا في نفسه، ولكن المقيد به مورد للطلب
والشوق وذلك كالمرض - مثلا - فإنه رغم كونه مبغوضا للإنسان المريض فمع
ذلك يكون شرب الدواء النافع مطلوبا له وموردا لشوقه، إن أراد هذا فالأمر وإن
كان كذلك إلا أنه ليس من مقولة الحكم في شئ، بداهة أنه أمر تكويني نفساني
حاصل في أفق النفس من ملائمتها (النفس) لشئ أو ملائمة إحدى قواها له، فلا
صلة بينه وبين الحكم الشرعي أبدا. كيف؟ فإن الحكم الشرعي أمر اعتباري، فلا
واقع موضوعي له ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار، وهو أمر تكويني فله واقع
موضوعي، وحصوله تابع لمبادئه من إدراك أمر ملائم لإحدى القوى النفسانية.
وإن أراد من الطلب في كلامه (قدس سره) الإرادة بمعنى الاختيار فيرد عليه: أنه لا
يتعلق بفعل الغير حتى نبحث عن أن القيد راجع إليه أو إلى متعلقه، بل قد ذكرنا في
مبحث الطلب والإرادة (2): أنه لا يتعلق بفعل نفسه في ظرف متأخر فضلا عن فعل
الغير. والسبب في ذلك: ما تقدم (3) بشكل موسع من أن الإرادة بهذا المعنى إنما
تعقل في الأفعال المقدورة للإنسان التي يستطيع أن يعمل قدرته فيها، ومن

(1) إنتهى محصل كلام الشيخ (قدس سره)، انظر مطارح الأنظار ص 53 أآلهتنا 28.
(2) لم نجد تصريحا له به في ذلك المبحث. (3) راجع ص 71.
331

المعلوم أن ما هو خارج عن إطار قدرته فلا يمكن تعلقها به، وفعل الغير من هذا
القبيل، وكذا فعل الإنسان نفسه إذا كان متأخرا زمنا، وعليه فلا يمكن الالتزام
بتعلق هذه الإرادة بفعل الغير في مقام الطلب.
أو فقل: إن الآمر لا يخلو من أن يكون هو الله تعالى، أو غيره، فعلى كلا
التقديرين لا يمكن تعلقها به.
أما على الأول: وإن أمكن للباري - عز وجل - أن يوجد الفعل عن الغير لعموم
قدرته إلا أن ذلك ينافي اختيار العبد، بداهة أن الفعل عندئذ يوجد بإرادته تعالى
وإعمال قدرته فلا معنى حينئذ لتوجيه التكليف إليه.
وأما على الثاني: فمن جهة أن فعل الغير خارج عن قدرة الإنسان فلا معنى
لإعمال قدرته بالإضافة إليه. ومن هنا ذكرنا: أنه لا معنى لتقسيم الإرادة إلى:
التكوينية والتشريعية، بداهة أنا لا نعقل للإرادة التشريعية معنى في مقابل الإرادة
التكوينية. وقد سبق الإشارة إلى هذه النواحي بشكل مفصل فلاحظ.
وإن أراد بالطلب جعل الحكم واعتباره، أي: اعتبار شئ على ذمة المكلف،
حيث إن حقيقة الطلب - كما ذكرناه سابقا - هي التصدي نحو حصول الشئ في
الخارج (1)، وقد ذكرنا: أنه على نحوين: أحدهما: التصدي الخارجي، وثانيهما:
التصدي الاعتباري، والاعتبار المذكور المبرز في الخارج مصداق للثاني نظرا إلى
أن الشارع تصدى نحو حصول الفعل من الغير باعتباره على ذمته وإبرازه في
الخارج بمبرز كصيغة الأمر أو ما شاكلها (2) فإن أراد (قدس سره) به ذلك فهو وإن كان فعليا
دائما - سواء كان المعتبر أيضا كذلك، أو كان أمرا استقباليا - إلا أنه أجنبي عن
محل الكلام رأسا، فإن محل الكلام إنما هو في رجوع القيد إلى المعتبر، وعدم
رجوعه إليه، لا إلى الاعتبار نفسه، ضرورة أن الاعتبار والإبراز غير قابلين للتقييد
والتعليق أصلا.

(1) ص 12 و 8.
(2) ص 12 و 8.
332

وإن أراد بالطلب ما تعلق به الاعتبار - وهو المعتبر المعبر عنه بالوجوب تارة،
وبالالزام تارة أخرى - فصريح الوجدان شاهد على أنه قابل للتقيد، كما أنه قابل
للإطلاق، وأن الحال يختلف فيه باختلاف الموارد من هذه الناحية.
بيان ذلك: أن الفعل الذي هو متعلق للوجوب مرة يكون ذا ملاك ملزم فعلا،
فلا يتوقف اشتماله على الملاك المذكور واتصافه بالحسن على شئ من زمان أو
زماني، ففي مثل ذلك بطبيعة الحال الوجوب المتعلق به فعلي فلا حالة منتظرة له
أبدا وإن كان تحقق الفعل في الخارج وإيجاده فيه يتوقف على مقدمات، وذلك
كشرب الدواء - مثلا - للمريض فإنه ذو ملاك ملزم بالإضافة إليه فعلا وإن كان
تحققه في الخارج يتوقف على الإتيان بعدة مقدمات، وكالصلاة بعد دخول وقتها
فإنها واجدة للملاك الملزم بالفعل وإن كان الإتيان بها في الخارج يتوقف على
عدة أمور: كتطهير الثوب والبدن، والوضوء أو الغسل أو نحو ذلك.
وكذلك الحال فيما إذا كان الملاك فيه تاما، ولكن وجوده وتحققه في الخارج
يتوقف على مقدمات خارجة عن اختيار المكلف، وذلك كالمريض مثلا، حيث إن
ملاك شرب الدواء في حقه تام ولا حالة منتظرة له، ولكن تحصيله فعلا غير ممكن
لمانع خارجي من زمان أو زماني، ففي مثل ذلك لا مانع من كون الإيجاب حاليا
والواجب استقباليا.
ولعل من هذا القبيل: وجوب الصوم بعد دخول شهر رمضان بمقتضى الآية
الكريمة: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (1) فإن الظاهر منها هو أن وجوب
الصوم فعلي بعد دخول الشهر، وهذا لا يمكن إلا بالالتزام بتمامية ملاكه من الليل
بحيث لو تمكن المكلف من جر اليوم إلى الساعة لكان عليه أن يصوم، وكذا الحال
في وجوب الحج بعد حصول الاستطاعة، فإن الظاهر من قوله تعالى: * (ولله على
الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (2) هو أن وجوب الحج فعلي بعد فعلية
الاستطاعة وإن كان المكلف غير قادر على الإتيان به إلا بعد مجئ زمانه وهو

(1) البقرة: 175.
(2) آل عمران: 97.
333

يوم عرفة، وهذا لا ينافي كون الملاك فيه تاما من حين تحقق الاستطاعة بحيث لو
تمكن المكلف من جر يوم عرفة إلى الآن لكان عليه أن يحج.
وعلى الجملة: فالقيد في أمثال هذه الموارد يرجع إلى الواجب دون
الوجوب، فالوجوب حالي والواجب استقبالي.
فالنتيجة: أن الملاك إذا كان تاما فالوجوب فعلي، سواء أكان الواجب أيضا
كذلك أم كان استقباليا.
ومرة أخرى يكون ذا ملاك في ظرف متأخر لا فعلا، بمعنى: أن ملاكه لا يتم
إلا بعد مجئ زمان خاص، أو تحقق أمر زماني في ظرف متأخر، ففي مثل ذلك لا
يعقل أن يكون الوجوب المتعلق به فعليا، بل لا محالة يكون تقديريا، أي: معلقا
على فرض تحقق ما له دخل في الملاك، بداهة أن جعل الوجوب فعلا لما لا يكون
واجدا للملاك كذلك لغو محض فلا يمكن صدوره عن المولى الحكيم، إذ مرده إلى
عدم تبعية الحكم للملاك.
وعلى الجملة: مضافا إلى ذلك: الوجدان أصدق شاهد على عدم وجود البعث
الفعلي في أمثال هذه الموارد.
ولتوضيح ذلك نأخذ مثالا، وهو: أن المولى إذا التفت إلى الماء - مثلا - فقد
يكون عطشه فعلا، وعندئذ فبطبيعة الحال يأمر عبده بإحضار الماء، أي: يعتبر على
ذمته إحضاره كذلك، فيكون المعتبر كالاعتبار فعليا، وقد يكون عطشه فيما بعد
ففي مثله - لا محالة - يعتبر على ذمة عبده إحضار الماء في ظرف عطشه، لا قبل
ذلك، لعدم الملاك له، فالاعتبار فعلي، والمعتبر - وهو كون إحضار الماء على ذمة
العبد - أمر متأخر، حيث إنه على تقدير حصول العطش، والمفروض عدم حصوله
بعد، ومن الطبيعي أن في مثل ذلك لو رجع القيد إلى المادة وكان المعتبر كالاعتبار
فعليا لكان لغوا صرفا وبلا ملاك ومقتض، ومرجعه إلى عدم تبعية الحكم للملاك،
وهو خلف.
فالنتيجة: أن الحكم الشرعي يختلف باختلاف القيود الدخيلة في ملاكه، فقد
334

يكون فعليا لفعلية ما له دخل في ملاكه، وقد يكون معلقا على حصول ماله
دخل فيه.
وأضف إلى ذلك: ظهور القضايا الشرطية في أنفسها في ذلك، أي: رجوع القيد
إلى الهيئة دون المادة، وذلك لأنها لو لم تكن نصا في هذا فلا شبهة في أن المتفاهم
العرفي منها هو تعليق مفاد الجملة الجزائية على مفاد الجملة الشرطية، سواء أكانت
القضية إخبارية أم كانت إنشائية.
أما الأولى: فمثل قولنا: " إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود " فإنها تدل
على تعليق وجود النهار على طلوع الشمس.
وأما الثانية: فمثل قولنا: " إن جاءك زيد فأكرمه " فإنها تدل على تعليق
وجوب الإكرام على مجئ زيد، وحمله على كون الوجوب فعليا والقيد - وهو
المجئ - راجعا إلى المادة وهي الإكرام، خلاف الظاهر جدا فلا يمكن الالتزام به
بدون قرينة، بل يمكن دعوى: أن ذلك غلط، فإن أدوات الشرط لا تدل على تعليق
المعنى الأفرادي.
وكيف كان فالصحيح: هو ما ذهب إليه المشهور من رجوع القيد إلى الهيئة
دون المادة، فما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) من رجوع القيد إلى المادة
دون الهيئة خاطئ جدا.
هذا بناء على أن تكون الأحكام الشرعية تابعة للملاكات في أنفسها واضح،
حيث إن الملاك القائم في نفس الحكم قد يكون فعليا يدعو إلى جعله واعتباره
كذلك، وقد لا يكون فعليا، وإنما يحدث في ظرف متأخر فالمولى في مثله لا
محالة يعتبره معلقا على مجئ وقت اتصافه بالملاك.
وأما بناء على كونها تابعة للملاكات في متعلقاتها فالأمر أيضا كذلك، لا لما
ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): من أنه قد يكون المانع موجودا من الطلب
والبعث الفعلي فلابد من التعليق (1)، وذلك لأن عدم فعلية الأمر قد يكون من ناحية

(1) كفاية الأصول: ص 124.
335

عدم المقتضي، وذلك كالصلاة قبل دخول الوقت، والحج قبل الاستطاعة، والصوم
قبل دخول شهر رمضان، وما شاكل ذلك، فإن في أمثال هذه الموارد لا مقتضى
للأمر، فلو جعل فلابد من جعله معلقا على فرض تحقق المقتضي له في ظرفه، وإلا
كان لغوا.
نعم، قد يكون المقتضي موجودا ولكن لا يمكن الأمر فعلا من جهة وجود
المانع، ففي مثل ذلك لا بأس بجعله معلقا على ارتفاعه.
فالنتيجة: أن في موارد عدم المقتضي لا مانع من جعل الحكم معلقا على
فرض تحققه في موطنه، كما أنه لا مانع من جعله معلقا على فرض ارتفاع المانع
عند ثبوته، أي: المقتضي.
نعم، لو علم المولى أن المكلف لا يتمكن من الامتثال حين اتصاف الفعل
بالمصلحة لكان عليه الأمر من الآن ليتهيأ لامتثاله في ظرفه، وذلك كما إذا افترضنا
أن المولى يعلم من نفسه أنه سيعطش بعد ساعة - مثلا - وعلم أن عبده لا يتمكن
من إحضار الماء في ذلك الوقت لمانع من الموانع فإنه يجب عليه أن يأمره
بإحضاره فعلا قبل عروض العطش عليه، فيكون الوجوب حاليا والواجب
استقباليا، إلا أن هذه الصورة خارجة عن محل الكلام.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي: أن ما تقدم من الوجوه
الأربعة لا يتم شئ منها، فلا مانع من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة كما هو مقتضى
ظاهر الجملة الشرطية (1).
نعم، في خصوص الأحكام الوضعية قد تسالم الأصحاب على بطلان التعليق
فيها. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: تختلف نتيجة تلك الوجوه على تقدير تماميتها باختلافها،
فإن مقتضى الوجه الأول والثاني هو استحالة رجوع القيد إلى الحكم الشرعي

(1) راجع ص 325 - 330.
336

المستفاد من الهيئة فحسب، باعتبار أنه معنى حرفي، والمعنى الحرفي غير قابل
للتقييد: إما من ناحية أنه جزئي، أو من ناحية أنه ملحوظ بلحاظ آلي، ولا فرق
في ذلك بين كونه تكليفيا أو وضعيا، ولا يدلان على استحالة رجوع القيد إلى
الحكم الشرعي المستفاد من المادة أصلا، كما في مثل قوله: إذا زالت الشمس فقد
وجب الطهور والصلاة، أو قال أحد: إن مت فهذا ملك لك، وما شاكل ذلك.
ومقتضى الوجه الثالث هو استحالة رجوع القيد إلى الحكم مطلقا، سواء أكان
مستفادا من الهيئة أم من المادة، وسواء أكان حكما تكليفيا أم كان وضعيا، بداهة
أن انفكاك المنشأ عن الإنشاء لو كان محالا فهو في الجميع على نسبة واحدة.
ومقتضى الوجه الرابع وإن كان هو عدم الفرق بين كون الوجوب مستفادا من
الهيئة أو من المادة إلا أنه يختص بالحكم التكليفي، فلا يعم الحكم الوضعي كما
هو واضح.
ثم إنه نسب إلى شيخنا الأنصاري (قدس سره) في تقريراته مسألة ما إذا تردد أمر القيد
بين رجوعه إلى الهيئة ورجوعه إلى المادة، واستظهاره (قدس سره) رجوعه إلى المادة دون
الهيئة (1).
ولكن غير خفي أن هذا الكلام منه (قدس سره) يرتكز على أحد أمرين: إما على التنزل
عما أفاده (قدس سره) من استحالة رجوع القيد إلى الهيئة، إذ مع الاستحالة لا تصل النوبة
إلى التردد والاستظهار. وإما على كون الوجوب مستفادا من جملة اسمية، وعلى
هذا الفرض فإن علم من الخارج أن القيد راجع إلى المادة دون الهيئة وجب
تحصيله، لفرض فعلية وجوب المقيد، وإذا علم أنه راجع إلى الهيئة دون المادة لم
يجب تحصيله، لفرض عدم فعلية وجوبه، بل تتوقف فعليته على حصول القيد، وإن
لم يعلم ذلك وتردد أمره بين رجوعه إلى المادة ليكون الوجوب فعليا ورجوعه
إلى الهيئة حتى لا يكون فعليا فهو مورد للنزاع والكلام.

(1) انظر مطارح الأنظار: ص 49.
337

وبعد ذلك نقول: الكلام هنا يقع في مقامين:
الأول: في مقتضى الأصول اللفظية.
الثاني: في مقتضى الأصول العملية.
أما المقام الأول: فقد ذكر الشيخ (قدس سره) في مبحث التعادل والتراجيح: أنه إذا
دار الأمر بين العام الشمولي والإطلاق البدلي قدم العام الشمولي على الإطلاق
البدلي، وأفاد في وجه ذلك: أن دلالة العام على العموم تنجيزية فلا تتوقف على
أية مقدمة خارجية، وهذا بخلاف دلالة المطلق على الإطلاق فإنها تتوقف على
تمامية مقدمات الحكمة، ومنها: عدم البيان على خلافه. ومن الطبيعي أن عموم
العام يصلح أن يكون بيانا على ذلك، ومعه لا تتم المقدمات (1).
وعلى الجملة: فالمقتضي في طرف العام تام، وهو وضعه للدلالة على العموم،
وإنما الكلام في وجود المانع عنه، والمفروض عدمه. وأما في طرف المطلق
فالمقتضي غير تام، فإن تماميته تتوقف على تمامية مقدمات الحكمة، وهي لا تتم
هنا، فإن من جملتها: عدم البيان على خلافه، والعام بيان.
وهذا الذي أفاده (قدس سره) وإن كان متينا جدا إلا أنه خارج عن محل الكلام، فإن
محل الكلام إنما هو فيما إذا كان كل من الإطلاق البدلي والعموم الشمولي مستندا
إلى الإطلاق ومقدمات الحكمة، وفي مثل ذلك إذا دار الأمر بينهما هل هنا مرجح
لتقديم الإطلاق الشمولي على البدلي في مورد التعارض والاجتماع؟ فيه وجهان،
بل قولان.
فذهب الشيخ (قدس سره) إلى الأول، واستدل عليه بوجهين:
الوجه الأول: أن مفاد الهيئة إطلاق شمولي، فإن معناه ثبوت الوجوب على
كل تقدير، أي: تقديري حصول القيد، وعدم حصوله. ومفاد المادة إطلاق بدلي،
فإن معناه: طلب فرد ما من الطبيعة التي تعلق بها الوجوب على سبيل البدل. وعلى
ضوء هذا فإذا دار الأمر بين تقييد إطلاق الهيئة وتقييد إطلاق المادة تعين الثاني،

(1) انظر الرسائل ج 2 ص 792.
338

وذلك لأن رفع اليد عن الإطلاق البدلي أولى من رفع اليد عن الإطلاق الشمولي (1).
وغير خفي أن هذا الوجه ينحل إلى دعويين:
الأولى: دعوى كبروية، وهي تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي.
الثانية: دعوى أن مسألتنا هذه من صغريات تلك الكبرى الكلية.
وقد ناقش المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في الكبرى بعد تسليم أن المقام من
صغرياتها بما إليك لفظه: (فلأن مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليا بخلاف المادة
إلا أنه لا يوجب ترجيحه على إطلاقها، لأنه أيضا كان بالإطلاق ومقدمات
الحكمة، غاية الأمر أنها تارة تقتضي العموم الشمولي، واخرى البدلي، كما ربما
تقتضي التعيين أحيانا كما لا يخفى، وترجيح عموم العام على إطلاق المطلق إنما
هو لأجل كون دلالته بالوضع، لا لكونه شموليا بخلاف المطلق فإنه بالحكمة،
فيكون العام أظهر فيقدم عليه، فلو فرض أنهما في ذلك على العكس فكان عام
بالوضع دل على العموم البدلي، ومطلق بإطلاقه دل على الشمول لكان العام يقدم
بلا كلام) (2).
وهذا الذي أفاده (قدس سره) من منع الكبرى في غاية الصحة والمتانة، ولا مناص
عنه، ضرورة أن الملاك في الجمع الدلالي إنما هو بأقوائية الدلالة والظهور. ومن
الطبيعي أن ظهور المطلق في الإطلاق الشمولي ليس بأقوى من ظهوره في
الإطلاق البدلي، لفرض أن ظهور كل منهما مستند إلى تمامية مقدمات الحكمة،
وبدونها فلا مقتضي له.
نعم، لو كان ظهور أحدهما مستندا إلى الوضع والآخر إلى مقدمات الحكمة
قدم ما كان بالوضع على ما كان بالمقدمات كما عرفت.
وأما شيخنا الأستاذ (قدس سره) فقد اختار مقالة شيخنا الأنصاري (قدس سره): من تقديم
الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي، وخالف بذلك المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)،
واستدل على ذلك بأمور ثلاثة:

(1) انظر مطارح الأنظار: ص 49.
(2) كفاية الأصول: ص 134.
339

الأول: أن الإطلاق الشمولي: عبارة عن انحلال الحكم المعلق على الطبيعة
المأخوذة على نحو مطلق الوجود، فيتعدد الحكم بتعدد أفرادها في الخارج، أو
أحوالها، ويثبت لكل فرد منها حكم مستقل، وذلك مثل: " لا تكرم فاسقا " فإن
الفاسق لوحظ على نحو مطلق الوجود موضوعا لحرمة الإكرام، فطبعا تتعدد
الحرمة بتعدد وجوده خارجا، فيثبت لكل فرد منه حرمة مستقلة.
والإطلاق البدلي: عبارة عن حكم واحد مجعول للطبيعة على نحو صرف
الوجود القابل للانطباق على كل فرد من أفرادها على البدل.
وبكلمة أخرى: أن الحكم في الإطلاق الشمولي بما أنه مجعول على الطبيعة
الملحوظة على نحو مطلق الوجود فبطبيعة الحال ينحل بانحلالها ويتعدد بتعدد
أفرادها، وفي الإطلاق البدلي بما أنه مجعول على الطبيعة الملحوظة على نحو
صرف الوجود فلا محالة لا ينحل بانحلالها، ولا يتعدد بتعدد وجودها، بل هو
حكم واحد ثابت لفرد ما منها. ونتيجة ذلك: هي تخيير المكلف في تطبيق ذلك
على أي فرد منها شاء وأراد.
وعلى هذا الأساس فإذا دار الأمر بين رفع اليد عن الإطلاق البدلي والتحفظ
على الإطلاق الشمولي وبين العكس تعين الأول، والسبب فيه: هو أن رفع اليد عن
الإطلاق البدلي لا يوجب إلا تضييق سعة انطباقه على أفراده وتقييدها على بعضها
دون بعضها الآخر، من دون تصرف في الحكم الشرعي أصلا، وهذا بخلاف
التصرف في الإطلاق الشمولي فإنه يوجب رفع اليد عن الحكم في بعض أفراده،
ومن المعلوم أنه إذا دار الأمر بين التصرف في الحكم ورفع اليد عنه وبين رفع اليد
عن التوسعة مع المحافظة على الحكم تعين الثاني. وعلى هذا الضوء لو دار الأمر
بين رفع اليد عن إطلاق مثل: " أكرم عالما " وإطلاق مثل: " لا تكرم فاسقا " تعين
رفع اليد عن إطلاق الأول دون الثاني (1).
ولنأخذ بالنقد عليه:
أما أولا: فلأن ما ذكره (قدس سره) من الوجه لتقديم الإطلاق الشمولي على البدلي

(1) فوائد الأصول ج 1 ص 215.
340

لا يصلح لذلك، فإنه صرف استحسان عقلي فلا أثر له في أمثال المقام، ولا يكون
وجها عرفيا للجمع بينهما، فإن الملاك في الجمع العرفي إنما هو بأقوائية الدلالة
والظهور، وهي منتفية في المقام. والسبب فيه: أن ظهور كل منهما في الإطلاق بما
أنه مستند إلى مقدمات الحكمة فلا يكون أقوى من الآخر، وبدون ذلك فلا
موجب للتقديم أصلا.
وإن شئت قلت: إنه لا شبهة في حجية الإطلاق البدلي في نفسه، ولا يجوز رفع
اليد عنه بلا قيام دليل أقوى على خلافه، وحيث إن ظهور المطلق في الإطلاق
الشمولي ليس بأقوى من ظهوره في البدلي فلا مقتضى لتقديمه عليه أبدا.
وأما ثانيا: فلأن الإطلاق البدلي وإن كان مدلوله المطابقي ثبوت حكم واحد
لفرد ما من الطبيعة على سبيل البدل إلا أن مدلوله الالتزامي ثبوت أحكام
ترخيصية متعددة بتعدد أفرادها، فإطلاقه من هذه الناحية شمولي، فلا فرق بينه
وبين الإطلاق الشمولي من هذه الجهة، غاية الأمر أن شموله بالدلالة المطابقية،
وشمول ذاك بالدلالة الالتزامية.
وبكلمة أخرى: قد ذكرنا غير مرة: أن الإطلاق: عبارة عن رفض القيود وعدم
دخلها في الحكم، وعليه فإذا لم يقيد الشارع حكمه بفرد خاص من الطبيعة بل
جعل على نحو صرف الوجود فلا محالة يستلزم عقلا ثبوت الترخيص شرعا في
تطبيقها على أي فرد من أفرادها شاء المكلف. ومن هنا ذكرنا: أن ثبوت حكم
وجوبي بالإطلاق وعلى نحو صرف الوجود يستلزم عقلا ثبوت الترخيص في
التطبيق شرعا بالإضافة إلى تمام الأفراد (1).
وعلى ضوء هذا البيان فرفع اليد عن الإطلاق البدلي أيضا يستلزم رفع اليد
عن الحكم والتصرف فيه، لفرض أن إطلاقه إنما هو بدلي بالإضافة إلى الحكم
الوجوبي. وأما بالإضافة إلى الحكم الترخيصي فهو شمولي كالاطلاق الشمولي،

(1) تقدم آنفا فلاحظ.
341

فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا، فإذا لا وجه لترجيح أحدهما على الآخر،
ومجرد اختلافهما في نوع الدلالة لا يوجب الترجيح كما هو ظاهر.
الثاني: أن ثبوت الإطلاق في كل من الشمولي والبدلي وإن توقف على
مقدمات الحكمة إلا أن الإطلاق البدلي يزيد على الإطلاق الشمولي بمقدمة
واحدة، وتلك المقدمة هي إحراز تساوي أفراد الطبيعة في الوفاء بغرض المولى،
من دون تفاوت بينها في ذلك أصلا.
والسبب فيه: أن مقدمات الحكمة تختلف زيادة ونقيصة باختلاف الموارد،
ففي موارد إثبات الإطلاق الشمولي تكفي مقدمات ثلاث:
الأولى: ثبوت الحكم للطبيعة الجامعة دون حصة خاصة منها.
الثانية: كون المتكلم في مقام البيان.
الثالثة: عدم نصب قرينة على الخلاف.
فإذا تمت هذه المقدمات تم الإطلاق، ومقتضاه ثبوت الحكم لتمام أفرادها
على اختلافها ومراتب تفاوتها، وذلك كالنهي عن شرب الخمر - مثلا - فإنه
بمقتضى إطلاقه يدل على حرمة شرب كل فرد من أفراده الطولية والعرضية على
اختلافها وتفاوتها من ناحية الملاك شدة وضعفا. وكالنهي عن قتل النفس
المحترمة فإن قضية إطلاقه ثبوت الحرمة لقتل كل نفس محترمة مع تفاوتها من
حيث الملاك، لوضوح أن ملاك حرمة قتل نفس النبي أو الوصي أشد بمراتب من
ملاك حرمة قتل نفس غيره...، وهكذا. وكالنهي عن الكذب فإنه يدل على حرمة
تمام أفراده مع تفاوتها بتفاوت الملاك شدة وضعفا، فإن الكذب على الله أو رسوله
أشد من الكذب على غيره، وكالنهي عن الزنا فإن الزنا بالمحارم أشد من الزنا
بغيرها...، وهكذا.
فالنتيجة: أن مفاد الإطلاق الشمولي ثبوت الحكم لتمام الأفراد بشتى أشكالها
وألوانها على نسبة واحدة، ولا أثر لتفاوت الأفراد في الملاك شدة وضعفا من هذه
الناحية أصلا.
342

وهذا بخلاف الإطلاق البدلي فإن ثبوته يتوقف على مقدمة أخرى زائدا على
المقدمات المذكورة، وهي إحراز تساوي أفراده من الخارج في الوفاء بالغرض،
ومن الطبيعي أنه لا يمكن إحراز ذلك مع وجود العام الشمولي على خلافه، حيث
إنه يكون صالحا لبيان التعيين في بعض الأفراد وأشدية الملاك فيه، ومعه لا ينعقد
الإطلاق البدلي.
والجواب عنه: أن إحراز التساوي في الوفاء بالغرض ليس مقدمة رابعة في
قبال المقدمات الثلاث المتقدمة لكي يتوقف الإطلاق عليها، ضرورة أنه يتحقق
بنفس تلك المقدمات من دون حاجة إلى شئ آخر، ومن المعلوم أنه إذا تحقق
فهو بنفسه كاف لإثبات التساوي في ذلك بلا حاجة إلى دليل آخر.
وبكلمة أخرى: إذا كان الحكم ثابتا على الطبيعة على نحو صرف الوجود من
دون ملاحظة وجود خاص وكان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة على
الخلاف فبطبيعة الحال كان إطلاق كلامه قرينة على تساوي أفرادها في الوفاء
بالملاك والغرض، إذ لو كان بعض أفرادها أشد ملاكا من غيره ومشتملا على
خصوصية زائدة لكان على المولى البيان فمن عدم بيانه نستكشف عدم الفرق
وعدم التفاوت بينها في ذلك.
ومما يدلنا على هذا: أن المكلف لو شك في صلاحية فرد في الوفاء بغرض
المولى تمسك بالإطلاق لإثبات ذلك، فإذا الاطلاقان متكافئان ومتعارضان فلا
وجه لتقديم الشمولي على البدلي.
الثالث: أن حجية الإطلاق البدلي بالإضافة إلى جميع الأفراد تتوقف على
أن لا يكون هناك مانع عن انطباقه على بعضها دون بعضها الآخر، بداهة أنه لو
كان هناك مانع عن ذلك فلابد من رفع اليد عنه وتقييده بغيره. ومن المعلوم أن
الإطلاق الشمولي في مورد التصادق والاجتماع صالح لأن يكون مانعا منه، فلو
توقف عدم صلاحيته للمانعية على وجود الإطلاق البدلي وانطباقه على ذلك لزم
الدور.
343

فالنتيجة: أن المطلق الشمولي صالح لأن يكون مانعا عن المطلق البدلي في
مورد المعارضة والاجتماع، دون العكس.
والجواب عنه قد ظهر مما تقدم، وحاصله: هو أن ثبوت الإطلاق في كليهما
يتوقف على تمامية مقدمات الحكمة كما عرفت (1)، ولا مزية لأحدهما على الآخر
من هذه الناحية أصلا. هذا من جانب (2).
ومن جانب آخر: أن حجية إطلاق المطلق فعلا والتمسك به كذلك في مورد
تتوقف على عدم وجود معارض له، ولا فرق من هذه الناحية بين الإطلاق البدلي
والشمولي بداهة، كما أن حجية الأول في مورد تتوقف على عدم وجود مانع
ومعارض له كذلك حجية الثاني.
فما أفاده (قدس سره) من أن حجية الإطلاق البدلي تتوقف على عدم وجود مانع: إن
أراد به توقفها على مقدمة زائدة على مقدمات الحكمة فقد عرفت خطأها (3). وإن
أراد به توقفها على عدم وجود معارض فحجية الإطلاق الشمولي أيضا كذلك، فلا
فرق بينهما من هذه الناحية أبدا.
فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين: هي أن في مورد اجتماع الإطلاقين
وتصادقهما كما أن الشمولي صالح لأن يكون مانعا عن البدلي ومقيدا له بغير ذلك
المورد كذلك البدلي صالح لأن يكون مانعا عن الشمولي ومخصصا له، فلا ترجيح
لأحدهما على الآخر أصلا. ومن هنا يظهر: أن هذا الوجه في الحقيقة ليس وجها
آخر في قبال الوجه الثاني، بل هو تقريب له بعبارة أخرى.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة، وهي: أن الكبرى المتقدمة - أي: تقديم
الإطلاق الشمولي على البدلي - غير تامة، ولا دليل عليها.
ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا الكبرى المذكورة - وهي تقديم الإطلاق الشمولي
على البدلي - إلا أن المقام ليس من صغرياتها. والسبب في ذلك: هو أن تقديم
الإطلاق الشمولي على البدلي في مورد الاجتماع والتصادق إنما هو فيما إذا كان

(1) قد مر ذكره آنفا فلاحظ.
(2) قد مر ذكره آنفا فلاحظ.
(3) قد تقدم آنفا فلاحظ.
344

التنافي والتكاذب بينهما بالذات بحيث لا يمكن كشفهما معا عن مراد المولى في
مرحلة الإثبات، فعندئذ يمكن أن يقال بتقديمه عليه بأحد الوجوه المتقدمة.
وإن شئت قلت: إن التنافي بين الإطلاقين إذا كان بالذات في مقام الإثبات
فبطبيعة الحال يكشف عن التنافي بينهما في مقام الثبوت بقانون التبعية، وعليه
فلابد من تقديم ما هو الأقوى والأرجح على الآخر.
وهذا بخلاف محل الكلام هنا، فإنه لا تعارض ولا تكاذب بين الإطلاقين
بالذات أصلا، بداهة أنه لا مانع من أن يكون كل من الهيئة والمادة مطلقا من دون
أية منافاة بينهما، والمنافاة إنما جاءت من الخارج، وهو العلم الإجمالي برجوع
القيد إلى إحداهما، ومن الطبيعي أن هذا العلم الإجمالي لا يوجب تقديم ما هو
أقوى دلالة وظهورا على غيره كيف؟ حيث إن نسبته إلى كل واحدة منهما على حد
سواء، فلا توجب أقوائية إطلاق إحداهما التقدم على الأخرى كما هو واضح.
وبكلمة أخرى: أن العلم الإجمالي تعلق برجوع القيد إلى إحداهما، ومن
البديهي أن كون إطلاق الهيئة شموليا وإطلاق المادة بدليا لا يوجب ذلك رجوع
القيد إلى الثاني دون الأول، لأن إحدى الحيثيتين تباين الأخرى، فإن الجمع العرفي
بينهما بتقديم الشمولي على البدلي إنما هو فيما إذا كانت المعارضة بينهما ذاتا
وحقيقة، وأما إذا لم تكن كذلك - كما هو المفروض في المقام - فمجرد العلم الإجمالي
برجوع القيد من الخارج إلى أحدهما لا يوجب تعين رجوعه إلى البدلي، لعدم
الموجب لذلك أصلا، لا عرفا ولا عقلا، بل لو افترضنا حصول العلم الإجمالي
بعروض التقييد من الخارج لأحد دليلي الحاكم أو المحكوم لم توجب أقوائية
دليل الحاكم لإرجاع القيد إلى دليل المحكوم، وهذا لعله من الواضحات الأولية.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أنه حيث لا تنافي بين إطلاق الهيئة وإطلاق
المادة بالذات والحقيقة، بل هو من ناحية العلم الخارجي بعروض التقييد على
أحدهما فلا وجه لتقديم إطلاق الهيئة على المادة وإن فرض أنه بالوضع، فضلا
عما إذا كان بمقدمات الحكمة. وعليه فإذا كان التقييد المزبور بدليل متصل أوجب
العلم الإجمالي الإجمال وعدم انعقاد أصل الظهور، لفرض احتفاف الكلام بما
345

يصلح للقرينية، وإذا كان بدليل منفصل أوجب سقوط الإطلاقين عن الاعتبار.
وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه: أن ما أفاده (قدس سره) خاطئ صغرى وكبرى.
الوجه الثاني الذي أفاده (قدس سره) لإثبات ما يدعيه من رجوع القيد إلى المادة دون
الهيئة فحاصله: أن القيد لو عاد إلى الهيئة فهو كما يوجب رفع اليد عن إطلاقها
فكذلك يوجب رفع اليد عن إطلاق المادة (1)، بمعنى: أنها لا تقع على صفة
المطلوبية بدونه، لفرض عدم الوجوب قبل وجوده، ومعه لا تكون مصداقا
للواجب. مثلا: لو افترضنا أن وجوب إكرام زيد مقيد بمجيئه يوم الجمعة فهذا
بطبيعة الحال يستلزم تقييد الواجب أيضا وهو الاكرام، يعني: أنه يدل على أن
المطلوب ليس هو طبيعي الإكرام على الإطلاق، بل هو حصة خاصة منه، وهي
الحصة الواقعة في يوم الجمعة، مثلا: الاستطاعة قيد لوجوب الحج، وهي تدل على
تقييد الواجب أيضا، بمعنى: أنه ليس هو طبيعي الحج على نحو السعة والإطلاق،
بل هو حصة منه وهي الواقعة بعدها.
وهذا بخلاف ما إذا رجع القيد إلى المادة دون الهيئة فإنه لا يلزم منه رفع اليد
عن الإطلاق في طرف الهيئة أصلا. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه لا شبهة في أن في كل مورد إذا دار الأمر بين رفع اليد
عن إطلاق واحد ورفع اليد عن إطلاقين تعين رفع اليد عن الأول.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي تعين رجوع القيد إلى المادة
دون الهيئة.
ولكن ناقش في ذلك المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) فيما إذا كان التقييد بمتصل
دون ما إذا كان بمنفصل، يعني: أنه (قدس سره) سلم ما جاء الشيخ (قدس سره) به في الثاني دون
الأول، وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك نصه:
(وأما في الثاني: فلأن التقييد وإن كان خلاف الأصل إلا أن العمل الذي
يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة وانتفاء بعض مقدماته لا يكون على خلاف

(1) انظر مطارح الانظار الوجه الخامس من مسألة دوران الوجوب بين الإطلاق والاشتراط.
346

الأصل أصلا، إذ معه لا يكون هناك إطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة
مثل التقييد الذي يكون على خلاف الأصل.
وبالجملة: لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلا كونه خلاف الظهور المنعقد
للمطلق ببركة مقدمات الحكمة، ومع انتفاء المقدمات لا يكاد ينعقد له هناك ظهور
كان ذاك العمل المشارك مع التقييد في الأثر وبطلان العمل بإطلاق المطلق مشاركا
معه في خلاف الأصل أيضا.
وكأنه توهم أن إطلاق المطلق كعموم العام ثابت، ورفع اليد عن العمل به تارة
لأجل التقييد، واخرى بالعمل المبطل للعمل به، وهو فاسد، لأنه لا يكون إطلاق
إلا فيما جرت هناك المقدمات.
نعم، إذا كان التقييد بمنفصل ودار الأمر بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة كان
لهذا التوهم مجال، حيث انعقد للمطلق إطلاق وقد استقر له ظهور ولو بقرينة
الحكمة، فتأمل (1).
وأما شيخنا الأستاذ (قدس سره) فقد وافق شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في القرينة
المتصلة والمنفصلة. أما في المتصلة فقد ذكر (قدس سره): أن الواجب فيها إرجاع القيد إلى
نفس المادة لسببين:
الأول: أن رجوع القيد إلى المادة ولو كان ذلك في ضمن رجوعه إلى المادة
بما أنها منتسبة ومعروضة للنسبة الطلبية متيقن على كل حال وإنما الشك في
رجوعه إليها بعد الانتساب، وبما أنه يحتاج إلى بيان زائد من ذكر نفس القيد
فالشك فيه يدفع بالإطلاق.
ومن ذلك يظهر: أن ما نحن فيه ليس من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح كونه
قرينة، بداهة أنه إنما يكون كذلك فيما إذا لم يكن التقييد محتاجا إلى مؤنة أخرى
مدفوعة بالإطلاق، كما في موارد إجمال القيد مفهوما، وموارد تعقب الجمل
المتعددة بالاستثناء، ونحو ذلك.

(1) كفاية الأصول: ص 134 - 135.
347

وأما فيما نحن فيه فحيث إن القدر المتيقن موجود في البين، والمفروض أن
احتمال رجوع القيد إلى المادة المنتسبة مدفوع بالإطلاق فلا يمكن للمولى أن
يكتفي بما ذكره من القيد لو كان مراده تقييد المادة المنتسبة دون غيرها.
الثاني: أن القيد إذا كان راجعا إلى المادة بعد الانتساب فلابد أن يؤخذ
مفروض الوجود، كما هو شأن كل واجب مشروط بالإضافة إلى شرطه. وبما أن
أخذ القيد مفروض الوجود في مقام الجعل والاعتبار يحتاج إلى عناية زائدة على
ذكر ذات القيد، والمفروض عدمها فبطبيعة الحال احتمال أخذه كذلك يدفع
بإطلاق القيد، وأنه لم يلحظ كذلك.
ومن هنا يظهر الفرق بين هذا الوجه والوجه الأول، وهو: أن احتمال رجوع القيد
إلى مفاد الهيئة في الأول يدفع بإطلاق المادة المنتسبة، وفي الثاني بإطلاق القيد.
وأما في المنفصلة فلا يخلو الأمر: من أن تكون القرينة المزبورة لفظية، أو لبية،
أما إذا كانت لفظية فحالها حال المتصلة، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا، بل
الأمر فيها أوضح، لعدم جريان شبهة احتفاف الكلام بما يمكن أن يكون قرينة فيها،
لأن المفروض انعقاد الظهور. وأما إذا كانت لبية فيجري فيه الوجهان المذكوران،
لدفع الشك في رجوع القيد إلى المادة المنتسبة بإطلاق المادة أو إطلاق القيد.
وقد تحصل مما ذكرناه: أنه إذا شك في رجوع القيد إلى الواجب أو الوجوب
فالإطلاق يقتضي رجوعه إلى الواجب (1).
التحقيق في المقام أن يقال: إن القيد إذا كان قيدا للهيئة واقعا فمرده إلى أخذه
مفروض الوجود في مقام الجعل والاعتبار، من دون فرق في ذلك بين كون القيد
اختياريا أو غير اختياري. وإذا كان قيدا للمادة واقعا فمرده إلى اعتبار تقيد المادة
به في مقام الجعل والإنشاء، من دون فرق في ذلك أيضا بين كون القيد اختياريا أو
غير اختياري. غاية الأمر إذا كان غير اختياري فلابد من أخذه مفروض الوجود،
وذلك لما تقدم من أن كون القيد غير اختياري لا يستلزم كون الفعل المقيد به أيضا
كذلك، ضرورة أن القدرة عليه لا تتوقف على القدرة على قيده، فإن الصلاة

(1) انظر أجود التقريرات ج 1 ص 165 - 166.
348

المتقيدة إلى القبلة - مثلا - مقدورة، مع أن قيدها - وهو وجود القبلة - غير مقدور (1).
فالنتيجة: أن تقييد كل من الهيئة والمادة مشتمل على خصوصية مباينة لما
اشتمل عليه الآخر من الخصوصية، فإن تقييد الهيئة مستلزم لأخذ القيد مفروض
الوجود، وتقييد المادة مستلزم لكون التقيد به مطلوبا للمولى، وعلى ضوء هذا
الأساس فليس في البين قدر متيقن لنأخذ به وندفع الزائد بالإطلاق.
وبكلمة أخرى: قد سبق في ضمن البحوث السالفة (2): أن معنى الإطلاق هو
رفض القيود عن شئ وعدم ملاحظتها معه، لا وجودا ولا عدما، وعلى ذلك
فمعنى إطلاق الهيئة: عدم اقتران مفادها عند اعتباره بوجود قيد ولا بعدمه، وفي
مقابله تقييده بقيد فإن مرده إلى أن المجعول في طرفها هو حصة خاصة من
الوجوب، وهي الحصة المقيدة بهذا القيد، ومعنى إطلاق المادة: هو أن الواجب
ذات المادة من دون ملاحظة دخل قيد من القيود في مرتبة موضوعيتها للحكم،
وفي مقابله تقييدها بخصوصية ما، فإن مفاده: هو أن المولى جعل حصة خاصة
منها موضوعا للحكم ومتعلقا له، وهي الحصة المقيدة بهذه الخصوصية.
ومن هنا يظهر: أن النسبة بين تقييد المادة وتقييد الهيئة عموم من وجه،
فيمكن أن يكون شئ قيدا لمفاد الهيئة دون المادة، وذلك كما إذا افترضنا أن القيام
- مثلا - قيد لوجوب الصلاة دونها، فعندئذ جاز الإتيان بالصلاة جالسا بعد تحقق
القيام، بل لا مانع من تصريح المولى بذلك بقوله: إذا قمت فصل قاعدا.
وكالاستطاعة فإنها قيد لوجوب الحج دون الواجب. ومن هنا لو استطاع شخص
ووجب الحج عليه ولكنه بعد ذلك أزال الاستطاعة باختياره فحج متسكعا صح
حجه وبرئت ذمته، فلو كانت الاستطاعة قيدا لنفس الحج أيضا لم يصح جزما،
لفرض انتفاء قيده.

(1) قد صرح به في أجود التقريرات ضمن بحث الشرط المتأخر، ولم يصرح به هنا في هذا
الكتاب، ونقلناه في التعليق، راجع هامش الصفحة 321.
(2) وقد تقدمت في ص 172 وص 188 وص 341 فراجع.
349

ومن هذا القبيل: ما نسب إلى بعض (1): من أن السفر قيد للوجوب دون الواجب،
فلو كان المكلف مسافرا في أول الوقت ثم حضر وجب عليه القصر دون التمام.
فالنتيجة: أنه لا ملازمة بين كون شئ قيدا للوجوب وكونه قيدا للواجب أيضا.
وعلى الجملة: فقد يكون الشئ قيدا للهيئة دون المادة كما عرفت، وقد يكون
قيدا للمادة دون الهيئة، وذلك كاستقبال القبلة، وطهارة البدن واللباس، وما شاكل
ذلك، فإنها بأجمعها تكون قيدا للمادة - وهي الصلاة - دون وجوبها، وقد يكون
قيدا لهما معا، وذلك كالوقت الخاص بالإضافة إلى الصلاة مثلا، كزوال الشمس
وغروبها، وطلوع الفجر، فإن هذه الأوقات من ناحية كونها شرطا لصحة الصلاة
فهي قيد لها، ومن ناحية أنها ما لم تتحقق لا يكون الوجوب فعليا، فهي قيد له.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر: أن القيد المردد بين رجوعه إلى المادة أو
الهيئة إن كان متصلا فهو مانع عن أصل انعقاد الظهور، لفرض احتفاف الكلام بما
يصلح للقرينية، لوضوح أن القيد المزبور على أساس ما حققناه صالح لأن يكون
قرينة على تقييد كل منهما، ومعه لا ينعقد الظهور لهما جزما.
فما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن المقام غير داخل في كبرى احتفاف الكلام
بما يصلح للقرينية (2) يقوم على أساس ما ذكره من وجود القدر المتيقن في البين،
وهو تقييد المادة والرجوع في الزائد إلى الإطلاق، ولكن قد تقدم خطأ ذلك،
وعرفتم أن رجوع القيد إلى المادة يباين رجوعه إلى الهيئة فليس الأول متيقنا،
فإذا لا مناص من القول بالإجمال ودخول المقام في تلك الكبرى (3).
وأما ما أفاده (قدس سره) من أن رجوع القيد إلى المادة ولو كان ذلك في ضمن
رجوعه إلى المادة المنتسبة متيقن فهو خاطئ جدا، وذلك لأن المراد من المادة
المنتسبة هي المادة المتصفة بالوجوب، والمراد من تقييدها تقييد اتصافها به، ومن
الواضح أن هذا عبارة أخرى عن تقييد مفاد الهيئة فلا يكون في مقابله، ولا مغايرة

(1) قال في مستند العروة الوثقى: ج 8 ص 391: (ونسب الخلاف إلى جماعة، منهم: الصدوق
في المقنع، والعماني وبعض آخر، فذكروا: أن الاعتبار في القصر والتمام بحال الوجوب).
(2) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 217.
(3) مر ذكره آنفا فلاحظ.
350

بينهما إلا باللفظ، وقد سبق أن رجوع القيد إلى المادة يباين رجوعه إلى الهيئة،
فلا متيقن في البين (1).
وإن شئت فقل: إن المتيقن إنما هو رجوع القيد إلى ذات المادة الجامعة بين
رجوعه إليها قبل الانتساب، ورجوعه إليها بعد الانتساب. وأما رجوعه إليها قبل
الانتساب فهو كرجوعه إليها بعده مشكوك فيه، وليس شئ منهما معلوما.
فما أفاده (قدس سره) مبني على عدم تحليل معنى تقييد المادة في مقابل تقييد الهيئة
وما هو محل النزاع هنا. هذا في التقييد بالمتصل.
وأما إذا كان منفصلا فظهور كل منهما في الإطلاق وإن انعقد إلا أن العلم
الإجمالي بعروض التقييد على أحدهما أوجب سقوط كليهما عن الاعتبار فلا
يمكن التمسك بشئ منهما، وذلك لما عرفت من أن معنى تقييد المادة مطابقة هو
أن الواجب حصة خاصة منها في مقابل إطلاقها، ومعنى تقييد الهيئة كذلك هو أن
الوجوب حصة خاصة منه في مقابل إطلاقها، والمدلول الالتزامي للمعنى الأول
هو تعلق الوجوب بتقيد المادة به، والمدلول الالتزامي للثاني هو أخذه مفروض
الوجود (2). هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الحصتين المفروضتين متباينتان فتحتاج إرادة كل
منهما إلى مؤنة زائدة وعناية أكثر، وليست إحداهما متيقنة بالإضافة إلى الأخرى.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أن المكلف إذا علم بأن المولى أراد بدليل منفصل
إحدى الحصتين المزبورتين دون كلتيهما معا فبطبيعة الحال لا يمكن التمسك
بالإطلاق، لا لدفع كون الوجوب حصة خاصة، ولا لدفع كون الواجب كذلك. وكذا
لا يمكن التمسك به لا لنفي أخذ القيد مفروض الوجود، ولا لنفي وجوب التقيد به،
ضرورة أن العلم الإجمالي كما يوجب وقوع التكاذب والتنافي بين الإطلاقين من
الناحية الأولى كذلك يوجب التكاذب والتنافي بينهما من الناحية الثانية.
وبكلمة أخرى: أن التمسك بالإطلاق كما لا يمكن لنفي المدلول المطابقي

(1) قد تقدم في ص 349 فراجع.
(2) قد تقدم في ص 349 فراجع.
351

للتقييد كذلك لا يمكن لنفي مدلوله الالتزامي، وذلك لأن كلا منهما طرف للعلم
الإجمالي، من دون خصوصية في ذلك لأحدهما، وعليه فبطبيعة الحال يقع
التكاذب بين الإطلاقين بالإضافة إلى كل منهما.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة: وهي بطلان الدعاوى المتقدمة وعدم واقع
موضوعي لشئ منها، وأنها جميعا تقوم على أساس عدم تنقيح ما هو محل
النزاع في المقام.
بيان ذلك: أما ما ادعاه شيخنا الأنصاري (قدس سره) من استلزام تقييد الهيئة تقييد
المادة فهو مبتن على أساس تخيل أن المراد من تقييد المادة هو عدم وقوعها
على صفة المطلوبية إلا بعد تحقق قيد الهيئة. وقد تقدم أن هذا المعنى ليس المراد
من تقييدها، بل المراد منه معنى آخر (1) وقد سبق أنه لا ملازمة بينه وبين تقييد
الهيئة أصلا (2).
وأما ما ادعاه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في خصوص القرينة المنفصلة
فمبني على توهم أن تقييد الهيئة وإن لم يستلزم تقييد المادة إلا أنه يوجب بطلان
محل الإطلاق فيها، وهو كتقييدها في الأثر، ولكن قد ظهر مما ذكرناه خطأ هذا
التوهم، وأن تقييد الهيئة كما لا يستلزم تقييد المادة كذلك لا يوجب بطلان محل
الإطلاق فيها (3) وعليه فالعلم الإجمالي بوجود القرينة المنفصلة الدالة على تقييد
أحدهما لا محالة يوجب سقوط كلا الإطلاقين عن الاعتبار، بعد ما عرفت من
عدم مزية لأحدهما على الآخر.
وأما ما ادعاه شيخنا الأستاذ (قدس سره) فهو مبتن على أساس أن تقييد المادة متيقن،
وتقييد الهيئة يحتاج إلى خصوصية زائدة ومؤنة أكثر، ولكن قد تقدم فساد ذلك،
وأن تقييد كل منهما يحتاج إلى خصوصية مباينة لخصوصية الآخر، فليس في
البين قدر متيقن، ولا فرق في ذلك بين موارد القرينة المتصلة وموارد القرينة
المنفصلة (4).

(1) تقدم في ص 349 فراجع.
(2) تقدم في ص 349 فراجع.
(3) راجع ص 349.
(4) راجع ص 349.
352

نعم، فرق بينهما في نقطة أخرى، وهي: أن القرينة إذا كانت متصلة أوجبت
إجمالهما من الأول، وإذا كانت منفصلة أوجبت سقوط إطلاقهما عن الاعتبار.
وقد تحصل من ذلك: أن تقييد الهيئة لا يستلزم تقييد المادة بالمعنى الذي
ذكرناه: وهو كون التقيد تحت الطلب كغيره من الأجزاء. نعم، تقييدها وإن استلزم
تقييد المادة بمعنى آخر - وهو عدم وقوعها على صفة المطلوبية إلا بعد تحقق
قيدها - إلا أنه غير قابل للبحث، حيث إنه يترتب على تقييد الهيئة قهرا، ولا صلة
له بمحل البحث أصلا.
الواجب المعلق
قسم المحقق صاحب الفصول الواجب: إلى واجب مشروط - وهو ما يرجع
القيد فيه إلى مفاد الهيئة - ومطلق، وهو ما يرجع القيد فيه إلى مفاد المادة.
ثم قسم المطلق: إلى واجب منجز - وهو ما كان الواجب فيه كالوجوب
حاليا - ومعلق، وهو ما كان الوجوب فيه حاليا، والواجب استقباليا يعني: مقيدا
بزمن متأخر (1).
وإن شئت قلت: إن الواجب تارة مقيد بقيد متأخر خارج عن اختيار المكلف
من زمان أو زماني، وتارة أخرى غير مقيد بقيد كذلك. وعلى الأول فالوجوب
حالي والواجب استقبالي، وعلى الثاني فكلاهما حالي.
ويمتاز هذا التقسيم عن التقسيم الأول في نقطة واحدة، وهي: أن التقسيم
الأول بلحاظ الوجوب، وهذا التقسيم بلحاظ الواجب، وعليه فتوصيف الواجب
بالمطلق والمشروط توصيف بحال الغير.
وقد أنكر هذا التقسيم شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره)، وقال: بأنا لا نعقل
للواجب ما عدا المطلق والمشروط قسما ثالثا يكون هو المعلق (2).
ولكن غير خفي أن إنكاره (قدس سره) للواجب المعلق يرجع في الحقيقة إلى إنكاره
للواجب المشروط عند المشهور، دون الواجب المعلق عند صاحب الفصول (قدس سره)،

(1) الفصول الغروية: ص 79.
(2) انظر مطارح الأنظار: ص 51 - 52.
353

وذلك لأنه (قدس سره) حيث يرى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة وتعين رجوعه إلى
المادة فبطبيعة الحال الواجب المشروط عنده ما يكون الوجوب فيه حاليا،
والواجب استقباليا، وهو بعينه الواجب المعلق عند صاحب الفصول (قدس سره)، وعليه
فالنزاع بينهما لا يتجاوز عن حدود اللفظ فحسب.
وقد أشكل عليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بما إليك قوله: (نعم، يمكن أن
يقال: إنه لا وقع لهذا التقسيم، لأنه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط،
وخصوصية كونه حاليا أو استقباليا لا يوجبه ما لم يوجب الاختلاف في المهم،
وإلا لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيات، ولا اختلاف فيه، فإن ما رتبه عليه من
وجوب المقدمة فعلا - كما يأتي - إنما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليته، لا من
استقبالية الواجب) (1).
والظاهر أن التزام صاحب الفصول (قدس سره) بهذا التقسيم إنما هو للتفصي عن
الإشكال الذي اورد على وجوب الإتيان بالمقدمات قبل مجئ زمان الواجب،
كمقدمات الحج وما شاكلها، وسيأتي بيانه في ضمن البحوث الآتية وما عليه من
النقد إن شاء الله تعالى (2).
نعم، الذي يرد عليه: هو أن المعلق ليس قسما من الواجب المطلق في مقابل
المشروط، بل هو قسم منه، وذلك لما تقدم من أن وجوب كل واجب لا يخلو: من
أن يكون مشروطا بشئ من زمان أو زماني مقارن له أو متأخر عنه (3)، أو يكون
غير مشروط به كذلك، ولا ثالث لهما، لاستحالة ارتفاع النقيضين، وعلى الأول
فالواجب مشروط، وعلى الثاني مطلق، وعلى هذا فلابد من ملاحظة أن وجوب
الحج - مثلا - مشروط بيوم عرفة أو مطلق؟ لا شبهة في أن ذات الفعل - وهو الحج -
مقدور للمكلف فلا مانع من تعلق التكليف به، وكذا إيقاعه في زمان خاص " يوم
عرفة ". وأما نفس وجود الزمان فهو غير مقدور له فلا يمكن وقوعه تحت

(1) كفاية الأصول: ص 128. (2) سيأتي في ص 362 ضمن هذا البحث فانتظر.
(3) مر ذكره في ص 332 - 334 فراجع.
354

التكليف. وبما أن التكليف لم يتعلق بذات الفعل على الإطلاق وإنما تعلق بإيقاعه
في زمن خاص فعلم من ذلك أن للزمان دخلا في ملاكه، وإلا فلا مقتضى لأخذه
في موضوعه، وعليه فبطبيعة الحال يكون مشروطا به، غاية الأمر على نحو
الشرط المتأخر. ومن هنا إذا افترضنا عدم مجئ هذا الزمان الخاص وعدم تحققه
في الخارج من جهة قيام الساعة، أو افترضنا أن المكلف حين مجيئه خرج عن
قابلية التكليف بجنون أو نحوه كشف ذلك عن عدم وجوبه من الأول.
فالنتيجة: أن هذا قسم من الواجب المشروط بالشرط المتأخر، لا من الواجب
المطلق، فإن المشروط بالشرط المتأخر على نوعين: قد يكون متعلق الوجوب فيه
أمرا حاليا، وقد يكون أمرا استقباليا كالحج في يوم عرفة، وكلاهما مشروط، فما
سماه في الفصول بالمعلق هو بعينه هذا النوع الثاني من المشروط بالشرط
المتأخر، وعليه فجعله من المطلق خطأ محض، وقد ذكرنا: أنه لا بأس بالالتزام به
ثبوتا (1).
نعم، وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل. وقد أشرنا إلى أن ظاهر قوله تعالى:
* (ولله على الناس حج البيت... إلى آخره) * (2) وقوله عز وجل: * (فمن شهد منكم
الشهر.. إلى آخره) * (3) هو ذلك (4).
وقد تحصل من ذلك: أنه لا يرد على هذا التقسيم شئ عدا ما ذكرناه.
وكيف كان، فقد يقال كما قيل باستحالة هذا النوع من الواجب، واستدل على
ذلك بعدة وجوه:
الأول: ما حكاه المحقق صاحب الكفاية (5) (قدس سره) عن بعض معاصريه (6)،
وملخصه: أن الإرادة لا يمكن أن تتعلق بأمر متأخر، بلا فرق بين الإرادة التكوينية

(1) قد تقدم في ص 318 فراجع.
(2) آل عمران: 97.
(3) البقرة: 185.
(4) تقدمت الإشارة إليه في ص 333 فراجع.
(5) انظر كفاية الأصول: ص 128.
(6) هو المحقق الملا علي النهاوندي صاحب تشريح الأصول.
355

والتشريعية، إذ لا فرق بينهما إلا في أن الأولى تتعلق بفعل نفس المريد، والثانية
تتعلق بفعل غيره. ومن المعلوم أن الإيجاب والطلب بإزاء الإرادة المحركة
للعضلات نحو المراد، فكما أن الإرادة التكوينية لا تنفك عن المراد زمنا - حيث
إنها لا تنفك عن التحريك، وهو لا ينفك عن الحركة خارجا وإن تأخرت عنه
رتبة - فكذلك الإرادة التشريعية لا تنفك عن الإيجاب زمنا، وهو غير منفك عن
تحريك العبد في الخارج، ولازم ذلك استحالة تعلق الإيجاب بأمر استقبالي،
لاستلزامه انفكاك الإيجاب عن التحريك وهو مستحيل، وبما أن الالتزام بالواجب
المعلق يستلزم ذلك فلا محالة يكون محالا.
وأجاب صاحب الكفاية (قدس سره) عن ذلك بما هو لفظه: (قلت فيه: إن الإرادة
تتعلق بأمر متأخر استقبالي، كما تتعلق بأمر حالي، وهو أوضح من أن يخفى على
عاقل فضلا عن فاضل، ضرورة أن تحمل المشاق في تحصيل المقدمات فيما إذا
كان المقصود بعيدة المسافة وكثيرة المؤنة ليس إلا لأجل تعلق إرادته به، وكونه
مريدا له قاصدا إياه لا يكاد يحمله على التحمل إلا ذلك.
ولعل الذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الإرادة بالشوق المؤكد
المحرك للعضلات نحو المراد، وتوهم أن تحريكها نحو المتأخر مما لا يكاد. وقد
غفل عن أن كونه محركا نحوه يختلف حسب اختلافه في كونه مما لا مؤنة له
كحركة نفس العضلات، أو مما له مؤنة ومقدمات قليلة أو كثيرة، فحركة العضلات
تكون أعم من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدمة له، والجامع أن يكون نحو
المقصود، بل مرادهم من هذا الوصف في تعريف الإرادة بيان مرتبة الشوق الذي
يكون هو الإرادة وإن لم يكن هناك فعلا تحريك، لكون المراد وما اشتاق إليه
كمال الاشتياق أمرا استقباليا غير محتاج إلى تهيئة مؤنة أو تمهيد مقدمة، ضرورة
أن شوقه إليه ربما يكون أشد من الشوق المحرك فعلا نحو أمر حالي أو استقبالي
محتاج إلى ذلك.
هذا، مع أنه لا يكاد يتعلق البعث إلا بأمر متأخر عن زمان البعث، ضرورة أن
356

البعث إنما يكون لإحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به بأن يتصوره بما يترتب
عليه من المثوبة، وعلى تركه من العقوبة، ولا يكاد يكون هذا إلا بعد البعث بزمان
فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان، ولا يتفاوت طوله وقصره فيما
هو ملاك الاستحالة والإمكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب) (1).
وملخص ما أفاده (قدس سره) أمران:
الأول: أن الإرادة مرتبة خاصة من الشوق الحاصل في أفق النفس، وهي
المرتبة التي يكون من شأنها انبعاث القوة العاملة في العضلات لتحريكها نحو
المراد، غاية الأمر إذا كان أمرا حاليا فهي توجب تحريكها نحوه حالا، وإذا كان
أمرا استقباليا فإن كانت له مقدمة خارجية فكذلك، وإن لم تكن له مقدمة خارجية
غير مجئ زمانه لم توجب التحريك، مع أنه بهذه المرتبة الخاصة موجود في
عالم النفس، فأخذ الوصف المزبور في تعريف الإرادة إنما هو للإشارة إلى أنها
عبارة عن تلك المرتبة الخاصة وإن لم توجب التحريك فعلا من جهة عدم
الموضوع، لا من جهة قصور فيها، فإذا لا مانع من تعلق الإرادة بأمر متأخر كما
تتعلق بأمر حالي، وهذا لعله من الواضحات.
الثاني: أنه لا شبهة في انفكاك الوجوب عن متعلقه زمانا وتأخره عنه كذلك،
بداهة أن الغرض من البعث إنما هو إحداث الداعي للمكلف نحو الفعل، ومن
الواضح أن الداعي إلى إيجاده إنما يحصل بعد تصور الأمر وما يترتب عليه، وهذا
بطبيعة الحال يحتاج إلى زمان ما ولو كان في غاية القصر، فإذا جاز الانفكاك
بينهما في ذلك جاز في زمن طويل أيضا، لعدم الفرق بينهما فيما هو ملاك
الاستحالة والإمكان.
وينبغي لنا أن نتعرض لنقده على الشكل التالي: إن أريد بالإرادة الشوق
النفساني إلى شئ الحاصل في أفق النفس من ملائمتها له أو ملائمة إحدى قواها

(1) كفاية الأصول: ص 128 - 129.
357

- وهي التي توجب هيجانها وميلها إليه إلى أن يبلغ حد العزم والجزم - فقد تقدم
في ضمن البحوث السالفة: أن الشوق النفساني كما يتعلق بأمر حالي كذلك يتعلق
بأمر استقبالي، وهذا لا يحتاج إلى إقامة برهان، بل هو أمر وجداني ضروري يعلمه
كل ذي وجدان بمراجعة وجدانه، بل ولا مانع من تعلقه بالأمر الممتنع، كالجمع بين
الضدين، أو النقيضين، أو ما شاكل ذلك، فضلا عن الأمر الممكن المتأخر، كاشتياق
الإنسان إلى دخول الجنة والتلبس (1) بالملاذ الأخروية (2). هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد ذكرنا سابقا بشكل موسع: أن الإرادة بهذا المعنى مهما
بلغت ذروتها من القوة والشدة لا تكون علة تامة لتحريك العضلات نحو الفعل (3).
وإن أريد بها الاختيار وإعمال القدرة فقد سبق الكلام في ذلك بصورة موسعة
وأنها لا تتعلق بفعل الغير، بلا فرق بين اختياره - عز وجل - وإعمال قدرته
واختيار غيره (4).
نعم، له تعالى إيجاد الفعل عن الغير بإيجاد أسبابه، ولكنه أجنبي عن تعلق
مشيئته تعالى واختياره به مباشرة، بل قد عرفت أنها لا تتعلق بفعل الإنسان نفسه
إذا كان في زمن متأخر فضلا عن فعل غيره، ومن هنا لا يمكن تعلقها بالمركب من
أجزاء طولية زمنا وتدريجية وجودا دفعة واحدة إلا على نحو تدريجية أجزائه،
وذلك كالصلاة - مثلا - فإنه لا يمكن إعمال القدرة على القراءة قبل التكبيرة...،
وهكذا (5). هذا من جانب.
ومن جانب آخر: قد سبق منا، أيضا: أنه لا أصل للإرادة التشريعية في مقابل
الإرادة التكوينية، سواء كانت الإرادة بمعنى الشوق النفساني أو بمعنى الاختيار
وإعمال القدرة (6).
أما على الأول: فلأن الإرادة عبارة عن ذلك الشوق الحاصل في أفق النفس،

(1) كذا. والظاهر التلذذ.
(2) راجع ص 315 وص 329.
(3) قد تقدم في ص 53 فراجع.
(4) تقدم في ص 70 فراجع.
(5) راجع ص 332.
(6) قد تقدم في ص 128 فراجع.
358

ومن الطبيعي أنه لا يختلف باختلاف متعلقه، فقد يكون متعلقه أمرا تكوينيا، وقد
يكون أمرا تشريعيا، وقد يكون فعل الإنسان نفسه، وقد يكون فعل غيره، وتسمية
الأول بالإرادة التكوينية والثاني بالتشريعية لا تتعدى عن مجرد الاصطلاح بلا
واقع موضوعي لها أصلا.
وأما على الثاني فواضح، ضرورة أن إعمال القدرة لا يختلف باختلاف متعلقها،
فإن متعلقها سواء كان من التشريعيات أو التكوينيات فهو واحد حقيقة وذاتا.
فتحصل: أنا لا نعقل للإرادة التشريعية معنى محصلا في مقابل الإرادة
التكوينية.
نعم، قد يقال كما قيل: إن المراد منها: الطلب والبعث باعتبار أنه يدعو
المكلف إلى إيجاد الفعل في الخارج.
وفيه: أن تسمية ذلك بالإرادة التشريعية وإن كان لا بأس بها إلا أنه لا يمكن
ترتب أحكام الإرادة التكوينية عليه، بداهة أنه أمر اعتباري فلا واقع موضوعي
له ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار، فلا يقاس هذا بالإرادة والاختيار أصلا، ولا
جامع بينهما حتى يوجب تسرية حكم أحدهما إلى الآخر، فعدم تعلق الإرادة
بالأمر المتأخر زمنا لا يستلزم عدم تعلقه به أيضا. وقد تقدم أن ما اعتبره المولى
قد يكون متعلقه حاليا، وقد يكون استقباليا، وقد يكون كلاهما استقباليا، وذلك
كما إذا اعتبر شخص ملكية منفعة داره - مثلا - لآخر بعد شهر فإن المعتبر - وهو
الملكية - ومتعلقه - وهو المنفعة - كليهما استقبالي، والحالي إنما هو الاعتبار
فحسب، وهذا ربما يتفق وقوعه في باب الإجارة، وفي باب الوصية، كالوصية
بالملك بعد الموت. ومن الواضح أنه لا فرق في ذلك بين الأحكام التكليفية
والأحكام الوضعية (1).
وقد تحصل من ذلك: أن في تسرية أحكام الإرادة على الطلب والبعث مغالطة

(1) راجع ص 314 وص 319 - 320.
359

ظاهرة، ولا منشأ لها إلا الاشتراك في الاسم.
فقد انتهينا في نهاية الشوط إلى هذه النتيجة، وهي: أنه لا مانع من الالتزام
بالواجب المعلق بالمعنى الذي ذكرناه، وهو كون وجوبه مشروطا بشرط متأخر.
الثاني: ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أن القيود الراجعة إلى الحكم
المأخوذة في موضوعه بشتى ألوانها تؤخذ مفروضة الوجود في مقام الاعتبار
والجعل، فلا يجب على المكلف تحصيل شئ منها وإن كان مقدورا كالاستطاعة.
ومن الواضح أن فعلية الحكم في مثل ذلك إنما هي بفعلية تلك القيود، فلا تعقل
فعليته قبل فعليتها وتحققها في الخارج، وعلى هذا الأساس بنى على استحالة
الشرط المتأخر (1).
ولكن قد تقدم الكلام في مسألة الشرط المتأخر بصورة مفصلة في بيان ذلك
الأساس وما فيه من النقد والإشكال، فلا نعيد (2).
الثالث: ما قيل (3) كما في الكفاية: من أن التكليف مشروط بالقدرة، وعليه
فلابد أن يكون المكلف حين توجيه التكليف إليه قادرا، فلو التزمنا بالواجب
المعلق لزم عدم ذلك (4).
وجوابه واضح، وهو: أن القدرة المعتبرة في صحة التكاليف إنما هي قدرة
المكلف في ظرف العمل وإن لم يكن قادرا في ظرف التكليف.
ثم إن الذي دعا صاحب الفصول (قدس سره) إلى الالتزام بالواجب المعلق هو عدة
فوائد تترتب عليه:
منها: دفع الإشكال عن إيجاب مقدمات الحج قبل الموسم، حيث يلزم على
المكلف تهيئة لوازم السفر ووسائل النقل وما شاكل ذلك قبل مجئ زمان الواجب
وهو يوم عرفة، إذ لو لم نلتزم به لم يمكن الحكم بإيجابها قبل موسمه، كيف؟ حيث

(1) فوائد الأصول: ج 1 ص 277 - 278.
(2) راجع ص 320.
(3) ذكره صاحب الفصول إشكالا وجوابا في ص 79.
(4) كفاية الأصول: ص 130.
360

إن وجوب المقدمة معلول لإيجاب ذيها فلا يعقل وجود المعلول قبل وجود علته.
وعلى ضوء الالتزام بحالية الوجوب في أمثال هذا المورد يندفع الإشكال رأسا،
وذلك لأن فعلية وجوب المقدمة تتبع فعلية وجوب الواجب وإن لم يكن نفس
الواجب فعليا.
ومنها: دفع الإشكال عن وجوب الغسل على المكلف، كالجنب أو الحائض
ليلا لصوم غد، فإنه لولا الالتزام بحالية الوجوب في مثله كيف يمكن الالتزام
بوجوب الغسل في الليل، مع أن الصوم لا يجب إلا من حين طلوع الفجر؟
ومنها: دفع الإشكال عن وجوب التعلم قبل دخول وقت الواجب، كتعلم
أحكام الصلاة ونحوها قبل وقتها، فلولا وجوب تلك الصلوات قبل دخول أوقاتها
لم يكن تعلم أحكامها واجبا.
ومنها: دفع الإشكال عن وجوب إبقاء الاستطاعة بعد أشهر الحج.
ويمكن أن نأخذ بالمناقشة فيه، وهي: أن دفع الإشكال المزبور عن تلك
الموارد وما شاكلها لا يتوقف على الالتزام بالواجب التعليقي، إذ كما يمكن دفع
الإشكال به يمكن دفعه بالالتزام بوجوبها نفسيا، لكن لا لأجل مصلحة في نفسها،
بل لأجل مصلحة كامنة في غيرها، فيكون وجوبها للغير لا بالغير، إذا تكون هذه
المقدمات واجبة مع عدم وجوب ذيها فعلا.
ومع الإغماض عن ذلك يمكن دفعه بالالتزام بحكم العقل بلزوم الإتيان بها
بملاك إدراك العقل قبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه، حيث إنه لا يفرق في القبح
بين تفويت الملاك الملزم في موطنه ومخالفة التكليف الفعلي، فكما يحكم بقبح
الثاني يحكم بقبح الأول، وبما أنه يدرك أن الحج في ظرفه ذو ملاك ملزم - وأنه
لو لم يأت بمقدماته من الآن لفات منه ذلك الملاك - يستقل بلزوم إتيانها قبل أوانه
ولو بشهر أو أكثر أو أقل.
نعم، ظواهر الأدلة في مسألتي الحج والصوم تساعد ما التزم به في الفصول
من كون الوجوب حاليا والواجب استقباليا، فإن قوله تعالى: * (ولله على الناس
361

حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (1) ظاهر في فعلية وجوب الحج عند فعلية
الاستطاعة، كما أن قوله عز وجل: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (2) ظاهر في
فعلية وجوب الصوم عند شهود الشهر، والشهود كناية عن أحد أمرين: إما الحضور
في مقابل السفر، وإما رؤية الهلال، وعلى كلا التقديرين فالآية تدل على تحقق
وجوب الصوم عند تحقق الشهود.
نعم، ظواهر الأدلة في الصلوات الخمس لا تساعده، فإن قوله (عليه السلام): " إذا
زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة " (3) ظاهر في تحقق الوجوب بعد الزوال.
وكيف كان فقد ذكرنا: أن الشرط المتأخر وإن كان ممكنا في نفسه ولا مانع
من الالتزام به إلا أن وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل، ففي كل مورد دل الدليل
عليه فهو، وإلا فلا نقول به. نعم، لو قلنا باستحالته فلابد من رفع اليد عن ظواهر
تلك الأدلة.
وبكلمة أخرى: ينبغي لنا أن نتكلم حول هذه المسألة في مقامين:
الأول: على القول بإمكان الواجب التعليقي ووقوعه في الخارج.
الثاني: على القول باستحالته أو عدم وقوعه وإن قلنا بإمكانه.
أما المقام الأول: فلا إشكال في لزوم الإتيان بالمقدمات التي لو لم يأت بها
لفات الواجب عنه في ظرفه، من دون فرق فيه بين القول بوجوب المقدمة شرعا
والقول بعدم وجوبها كذلك. أما على الأول فواضح، وأما على الثاني فلاستقلال
العقل بذلك بعد إدراكه توقف الإتيان بالواجب عليها، حيث إن وجوبه فعلي على
الفرض. ومن المعلوم أن العقل يستقل في مثله بلزوم امتثاله، فلو توقف على
مقدمات حكم بلزوم الإتيان بها أيضا لأجل ذلك.
وعلى الجملة: فعلى ضوء هذا القول لا فرق بين المقدمات التي لابد من

(1) آل عمران: 97.
(2) البقرة: 185.
(3) وسائل الشيعة: ج 1 ص 373 ب 4 من أبواب الوضوء ح 1، وفيه " إذا دخل الوقت وجب
الطهور والصلاة ".
362

الإتيان بها قبل وقت الواجب، كمقدمات الحج، والغسل في الليل، وما شاكل ذلك،
وبين غيرها من المقدمات العامة فيما إذا علم المكلف بأنه لو لم يأت بها قبله
عجز عنها في وقته، فإنه كما يحكم بلزوم الإتيان بالأولى يحكم بلزوم الإتيان
بالثانية، ولا فرق بينهما من هذه الناحية.
واليه أشار ما في الكفاية: من أن الوجوب لو صار فعليا لوجب حفظ القدرة
على المقدمات في مورد يعلم المكلف أنه يعجز عن الإتيان بها في زمن
الواجب (1).
فالنتيجة: هي لزوم الإتيان بتمام مقدمات الواجب المعلق قبل زمانه، أو
التحفظ عليها إذا كانت حاصلة فيما إذا علم المكلف بعدم تمكنه منها في وقته.
نعم، المقدمات التي اعتبرت من قبلها القدرة الخاصة - وهي القدرة في ظرف
العمل - فلا يجب تحصيلها قبل مجئ وقته، بل يجوز تفويتها اختيارا، بل ولا مانع
منه في بعض الموارد بعد الوقت، وذلك كاجناب الرجل نفسه اختيارا بمواقعة أهله
بعد دخول وقت الصلاة وهو يعلم بعدم تمكنه من الطهارة المائية بعده فإنه يجوز
ذلك، حيث إن القدرة المعتبرة هنا قدرة خاصة، وهي القدرة على الصلاة مع
الطهارة المائية إذا لم يقدم على مواقعة أهله، وستجئ الإشارة إلى ذلك (2). وأما
إجناب نفسه بطريق آخر كالنوم أو نحوه في الوقت مع علمه بعدم التمكن من
الطهارة المائية فلا يجوز.
وعلى الجملة: فالواجبات في الشريعة الإسلامية المقدسة تختلف من هذه
الناحية، أي: من ناحية اعتبار القدرة فيها من قبل مقدماتها، فقد تكون قدرة
مطلقة، وقد تكون قدرة خاصة، فعلى الأول يجب الإتيان بها ولو قبل دخول وقتها
دون الثاني، هذا بحسب مقام الثبوت. وأما بحسب مقام الإثبات فالمتبع في ذلك
دلالة الدليل.
وأما المقام الثاني - وهو ما إذا افترضنا استحالة الواجب المعلق، أو قلنا
بإمكانه ولكن فرضنا عدم مساعدة الدليل على وقوعه، وذلك كوجوب تعلم

(1) كفاية الأصول: ص 131.
(2) سيأتي تفصيله في ص 373 فانتظر.
363

الصبيان أحكام الصلاة ونحوها قبل البلوغ، إذ لو قلنا بعدم وجوبه عليهم كما هو
الصحيح وستجئ الإشارة إليه (1) - فلازمه جواز تفويت الصلاة أول بلوغهم
مقدارا من الزمن يتمكنون من التعلم فيه، ولا يمكن الالتزام بوجوب التعلم من
ناحية سبق وجوب الصلاة أو نحوها على البلوغ وإن قلنا بإمكان الواجب المعلق،
وذلك لفرض عدم التكليف على الصبيان.
فالنتيجة: أن الإشكال في المقدمات المفوتة في أمثال هذه الموارد، وأنه
كيف يمكن الحكم بوجوبها مع عدم وجوب ذيها؟ وقبل التعرض لدفع الإشكال
وبيان الأقوال فيه ينبغي تقديم أمرين:
الأول: أن ما اشتهر بين الأصحاب: من " أن الامتناع بالاختيار لا ينافي
الاختيار عقابا وينافيه خطابا " في غاية الصحة والمتانة، فلو اضطر الإنسان نفسه
باختياره إلى ارتكاب محرم - كما لو دخل في الأرض المغصوبة، أو ألقى نفسه من
شاهق، أو ما شاكل ذلك - فعندئذ وإن كان التكليف عنه ساقطا لكونه لغوا صرفا
بعد فرض خروج الفعل عن اختياره، وأما عقابه فلا قبح فيه أصلا - وذلك لأن هذا
الاضطرار حيث إنه منته إلى الاختيار - فلا يحكم العقل بقبحه أبدا.
وناقش في هذه القاعدة طائفتان:
فعن أبي هاشم المعتزلي: أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا
وخطابا (2)، وكان للمولى في المثالين المذكورين أن ينهى عن التصرف في مال
الغير بدون إذنه، ويأمر بحفظ نفسه، بدعوى: أنه لا مانع من التكليف بغير المقدور إذا
كان مستندا إلى سوء اختياره. ويظهر اختيار هذا القول من المحقق القمي (3) (قدس سره) أيضا.
وفي مقابل هذا القول ادعى جماعة منافاته للاختيار عقابا وخطابا. أما
الخطاب فهو واضح، لأنه لغو صرف. وأما العقاب فلأنه عقاب على غير مقدور
وهو قبيح عقلا.

(1) سيأتي بيانه في ص 383 فانتظر.
(2) انظر قوانين الأصول: ج 1 ص 153.
(3) قوانين الأصول: ج 1 ص 153.
364

ولنأخذ بالنقد على كلا القولين:
أما القول الأول: فلأن الغرض من التكليف هو إحداث الداعي للمكلف
بالإضافة إلى المكلف به، وعليه فإن كان المكلف به مقدورا لم يكن التكليف به
لغوا، حيث إنه يمكن أن يصير داعيا إليه. وإن لم يكن مقدورا كان التكليف به لغوا
محضا، لعدم إمكان كونه داعيا. ومن الواضح أنه لا فرق في هذه النقطة بين أن
يكون مستند عدم القدرة سوء الاختيار أو غيره، بداهة أن عدم القدرة المسبب عن
سوء الاختيار لا يصحح تكليف المولى لغير القادر، وإلا لجاز للمولى أن يأمر
عبده بالجمع بين الضدين معلقا على أمر اختياري، كالصعود على السطح أو نحو
ذلك، وهو باطل قطعا حتى عند القائل بهذا القول.
وأما القول الثاني: فلأن الخطاب وإن كان لغوا - كما عرفت - إلا أنه لا مانع
من العقاب، وذلك لأن المكلف حيث كان متمكنا في بداية الأمر أن لا يجعل نفسه
مضطرا إلى ارتكاب الحرام ومع ذلك لو جعل نفسه كذلك بسوء اختياره وارتكب
الحرام حكم العقل باستحقاقه العقاب لا محالة، لأنه منته إلى اختياره، ومن الطبيعي
أن العقل لا يفرق في استحقاق العقاب على فعل الحرام بين كونه مقدور الترك بلا
واسطة، أو معها، وإنما يحكم بقبح استحقاقه على ما لا يكون مقدورا له أصلا.
فالنتيجة: أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا، وينافيه خطابا.
نعم، قد تستعمل هذه القاعدة في مقام نقد نظرية الجبر وعدم الاختيار للعبد،
ولكنه بمعنى آخر، والفرق بين المعنيين: هو أن المراد من الامتناع هنا الامتناع
الوقوعي، والمراد من الامتناع هناك هو الامتناع بالغير، وهو اختيار العبد وإرادته.
وقد تقدم الكلام فيها من هذه الناحية بشكل موسع عندما تعرضنا لنظرية الجبر
ونقدها (1).
الثاني: أنه لا فرق في حكم العقل باستحقاق العقاب بين مخالفة التكليف

(1) مر ذكره في ص 55 - 57 فراجع.
365

الإلزامي الفعلي، وبين تفويت حقيقة التكليف وروحه، وهو الملاك التام الملزم
الذي يدعو المولى إلى اعتبار الإيجاب تارة، والى جعل التحريم تارة أخرى، فإذا
أحرز العبد ذلك الملاك في فعل وإن علم بعدم التكليف به استحق العقاب على
تفويته، من دون فرق في ذلك بين أن يكون المانع من التكليف قصورا في ناحية
المولى نفسه - كما إذا كان غافلا أو نائما واتفق في هذا الحال غرق ولده أو حرقه
وكان عبده متمكنا من إنقاذه، فعندئذ لو خالف ولم ينقذه فلا شبهة في استحقاقه
العقاب - أو قصورا في ناحية العبد، كما إذا علم بأن الملاك تام في ظرفه، وأنه لو
لم يحفظ قدرته عليه لم يكن قابلا لتوجيه التكليف إليه، فعندئذ لو خالف وعجز
في ظرف التكليف عن امتثاله فعجزه هذا وإن كان مانعا عن توجه التكليف إليه
لعدم القدرة إلا أنه يستحق العقاب على تفويت الغرض الملزم فيه حيث كان
قادرا على حفظ قدرته واستيفائه.
فالنتيجة: أنه لا فرق عند العقل في الحكم باستحقاق العقاب بين مخالفة
التكليف الفعلي وبين تفويت الغرض الملزم فيما لا يمكن جعل التكليف على
طبقه.
وبعد ذلك نقول: الكلام هنا يقع في مقامين:
الأول: في غير التعلم من المقدمات.
الثاني: في التعلم.
أما المقام الأول: فالكلام فيه تارة يقع في مقام الثبوت، واخرى في مقام
الإثبات.
أما الكلام في مقام الثبوت فيتصور على وجوه:
الأول: أن يكون ملاك الواجب تاما، والقدرة المأخوذة فيه من قبل مقدماته
هي القدرة العقلية، وغير دخيلة في ملاكه، وذلك كحفظ بيضة الإسلام، أو حفظ
النفس المحترمة، أو ما شاكل ذلك إذا افترضنا أن المكلف علم بأنه لو تحفظ على
قدرته هذه، أو لو أوجد المقدمة الفلانية لتمكن من حفظ بيضة الإسلام أو النفس
366

المحترمة بعد شهر - مثلا - وإلا لم يقدر عليه ففي مثل ذلك بطبيعة الحال يستقل
العقل بوجوب التحفظ عليها، أو بلزوم الإتيان بها لئلا يفوته الملاك الملزم فيه في
ظرفه. وقد عرفت عدم الفرق في حكم العقل باستحقاق العقاب بين مخالفة الأمر
أو النهي الفعلي وتفويت الملاك الملزم (1).
وكذا الحال لو كان عدم فعلية التكليف من ناحية عدم دخول الوقت، أو عدم
حصول الشرط إذا افترضنا أن ملاك الواجب تام في ظرفه والقدرة فيه شرط عقلي
فلا دخل لها بملاكه أصلا، وذلك كما إذا فرض أن ملاك الحج - مثلا - تام في وقته
وقد أحرزه المكلف ولم يكن التكليف المتعلق به فعليا: إما من ناحية استحالة
الواجب التعليقي، أو من ناحية عدم مساعدة الدليل عليه ففي مثله لا محالة يحكم
العقل بوجوب الإتيان بتمام مقدماته التي لها دخل في تمكن المكلف من امتثاله
في ظرفه، وإلا لفاته الملاك الملزم باختياره، حيث إنه يعلم بأنه لو لم يأت بها لصار
عاجزا عن إتيان الواجب في وقته، وبما أن عجزه مستند إلى اختياره فيدخل في
كبرى القاعدة الآنفة الذكر " الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا " فعندئذ
يستحق العقاب على ذلك.
وإن شئت قلت: إن ترك المقدمة في أمثال المقام حيث إنه يؤدي إلى تعجيز
المولى عن تكليفه مع ثبوت المقتضي له فبطبيعة الحال يحكم العقل بعدم جوازه
وبقبح ذلك.
فالنتيجة: أن في كل مورد علم المكلف بتمامية ملاك الواجب في ظرفه، وعلم
بأنه لو ترك مقدمة من مقدماته قبل وقته أو شرطه لعجز عن إتيانه فيه فلا محالة
يحكم العقل بلزوم إتيانها لفاقدها في أول أزمنة الإمكان، لتحصيل القدرة على
الواجب، ووجوب حفظها لواجدها، لا من ناحية أن تركها يؤدي إلى ترك الواجب
الفعلي، لفرض أن الواجب ليس بفعلي، لا قبل الوقت - كما هو واضح - ولا بعده،
لعدم تمكنه وعجزه عن القيام به، بل من ناحية أنه يؤدي إلى تفويت الغرض

(1) سبق ذكره آنفا فلاحظ.
367

الملزم، وقد عرفت حكم العقل بقبحه واستحقاق العقاب عليه.
ثم إنه هل يمكن استكشاف الحكم الشرعي من هذا الحكم العقلي بوجوب
المقدمة بقاعدة الملازمة؟ فيه وجهان.
فقد أختار شيخنا الأستاذ (قدس سره) الوجه الأول، بدعوى: أن حكم العقل بذلك دليل
على جعل الشارع الإيجاب للمقدمة حفظا للغرض، فيكون ذلك الجعل متمما
للجعل الأول (1).
والصحيح هو الوجه الثاني، والسبب في ذلك: أن مثل هذا الحكم العقلي لا
يعقل أن يكون كاشفا عن جعل حكم شرعي مولوي في مورده، بداهة أنه لغو
صرف، فإن حكم العقل باستحقاق العقوبة على تقدير المخالفة وتفويت الغرض
يكفي في لزوم حركة العبد وانبعاثه نحو الإتيان بالمقدمات، كما هو الحال في
مطلق موارد حكمه بحسن الإطاعة وقبح المعصية.
نعم، الملازمة بين الحكمين في مقام الإثبات إنما تكون فيما إذا كان العقل
مدركا لملاك الحكم من المصلحة أو المفسدة غير المزاحمة، وأين ذلك من إدراكه
استحقاق العقاب كما في المقام؟
فما أفاده (قدس سره) خاطئ جدا، وعليه فلو ورد حكم من الشارع في أمثال هذا
المورد لكان إرشادا إلى حكم العقل لا محالة.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة، وهي: أن في أمثال هذه الموارد لا إشكال
في حكم العقل بوجوب الإتيان بالمقدمة قبل وجوب ذيها، وعلى ضوئها يندفع
الإشكال عن كثير من الموارد، منها: وجوب الإتيان بمقدمات الحج قبل وقته.
الثاني: ما إذا كانت القدرة فيه شرطا شرعيا ودخيلة في ملاكه، وهذا يتصور
على أقسام:
الأول: أن يكون الشرط هو القدرة المطلقة على سعتها.

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 202 - 203.
368

الثاني: أن يكون الشرط هو القدرة الخاصة، وهي القدرة بعد حصول شرط
خاص من شرائط الوجوب.
الثالث: أن يكون الشرط هو القدرة في وقت الواجب.
أما القسم الأول فحاله حال ما إذا كانت القدرة شرطا عقليا حرفا بحرف، إلا
في نقطة واحدة، وهي: أن القدرة إذا كانت شرطا عقليا لم يكن لها دخل في ملاك
الواجب، فإنه تام في كلتا الحالتين: التمكن وعدمه، وإذا كانت شرطا شرعيا كان
لها دخل في ملاكه، ولا ملاك له في حال عدم التمكن.
ولكن هذه النقطة غير فارقة فيما نحن فيه، وذلك لأن الشرط إذا كان القدرة
المطلقة - كما هو المفروض - وجب تحصيلها في أول أزمنة الإمكان وإن كان قبل
زمن الوجوب، وحرم عليه تفويتها إذا كانت موجودة، فإنه مع التمكن من إتيان
الواجب في ظرفه ولو بإعداد أول مقدماته قد تم ملاكه فلا يجوز تفويته، وقد
عرفت استقلال العقل بقبحه والعقاب عليه بقاعدة " أن الامتناع بالاختيار لا ينافي
الاختيار عقابا " (1).
فالنتيجة: أنه لا فرق بين هذا القسم والقسم السابق فيما هو المهم في
المقام أصلا.
وأما القسم الثاني فلا يجب فيه على المكلف تحصيل القدرة على الواجب من
قبل مقدماته قبل تحقق شرطه، بل يجوز له تفويتها إذا كانت حاصلة، وذلك
كمقدمات الحج - مثلا - فإنه لابد من أن يفرق بين حالتي حصول هذا الشرط
- وهو الاستطاعة - وعدمه.
فعلى الأول يستقل العقل بوجوب الإتيان بها ليتمكن من الإتيان بالواجب
في ظرفه، لفرض أن ملاكه قد تم فلا حالة منتظرة له، وعليه فلو ترك الإتيان بها
بسوء اختياره وأدى ذلك إلى ترك الواجب في وقته استحق العقاب، لا من ناحية

(1) تقدم في ص 366 فراجع.
369

أنه خالف التكليف الفعلي ليقال: إنه غير فعلي، بل من ناحية أنه فوت الملاك
الملزم. وقد تقدم أن العقل لا يفرق بينهما في استحقاق العقاب (1)، فإذا يدخل
المقام تحت قاعدة " الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ".
وعلى الثاني فلا يحكم العقل بوجوب الإتيان بها، بل لا مانع من تفويتها إذا
كانت حاصلة، لفرض أن ملاك الواجب غير تام، ومعه لا مقتضى للوجوب أصلا.
وإن شئت قلت: إن ترك هذه المقدمات وإن استلزم ترك الواجب في موطنه إلا
أنه لا قبح فيه، وذلك لأن القبيح أحد أمرين: إما مخالفة التكليف الفعلي والمفروض
عدمه، أو تفويت الغرض الملزم والفرض خلافه، فإذا ما هو الموجب لقبحه؟
فالنتيجة: أن القدرة المأخوذة في الواجب - وهو الحج - من قبل مقدماته
قدرة خاصة، وهي القدرة بعد حصول هذا الشرط - وهو الاستطاعة - اتفاقا، ولذا
لا يجب على المكلف تحصيله، بل يجوز له تفويته بالمنع من تحققه فيما إذا وجد
المقتضي له، كما إذا أراد شخص أن يهب مالا لآخر ليستطيع به فللآخر أن لا يقبل،
أو أراد أن يبذل له مبلغا يكفيه لحجه فالتمس منه أن لا يبذل له ذلك... وهكذا،
وعلى هذا الضوء فلا إشكال في وجوب الإتيان بمقدمات الحج بعد الاستطاعة
وقبل الموسم.
وأما القسم الثالث - وهو ما أخذت فيه حصة خاصة من القدرة وهي القدرة
في وقت الواجب - فلا يجب على المكلف تحصيل القدرة عليه من قبل مقدماته
قبل دخول وقته، بل يجوز له تفويتها إذا كانت موجودة، وذلك لأن الواجب لا
يكون ذا ملاك ملزم إلا بعد القدرة عليه في زمنه. وأما القدرة عليه قبله فوجودها
وعدمها بالإضافة إليه سيان، وذلك كالصلاة مع الطهارة المائية، حيث إن القدرة
المعتبرة فيها قدرة خاصة، وهي القدرة عليها بعد دخول وقتها، وأما قبله فلا يجب
على المكلف تحصيلها، بل ولا حفظها إذا كان واجدا لها، لفرض عدم دخلها في
ملاكها قبل الوقت أصلا، فإن تمكن منها بعده وجب عليه تحصيلها، وإلا فلا، بداهة

(1) راجع ص 367.
370

أن إيجاد الموضوع وإحداث الملاك في الفعل غير واجب على المكلف، بل يجوز
له تفويته بجعل نفسه محدثا باختياره أو بإهراق الماء عنده. ونظير ذلك السفر
بالإضافة إلى وجوب القصر في الصلاة، وقصد الإقامة بالإضافة إلى وجوب
التمام والصيام، حيث إنه لا ملاك لوجوب القصر قبل السفر، ولوجوب التمام قبل
قصد الإقامة، ومن الواضح أن في مثل ذلك لا يجب عليه إيجاد السفر، ولا قصد
الإقامة، إذ بتركهما لا يفوته شئ، لا تكليف ولا ملاك.
أما الأول فواضح. وأما الثاني فلأنه لا ملاك لوجوب القصر قبل تحقق
السفر، ولا لوجوب التمام والصيام قبل قصد الإقامة.
وشيخنا الأستاذ (قدس سره) ذهب إلى الفرق بين تفويت القدرة قبل الوقت بجعل نفسه
محدثا باختياره بجماع أو نحوه مع علمه بعدم تمكنه من الماء بعد الوقت، وتفويتها
بإهراق الماء، فاختار الجواز في الأول، وعدمه في الثاني، واستند في هذه التفرقة
إلى وجود رواية صحيحة (1).
ولكن قد ذكرنا في التعليقة: أن هذا غفلة منه (قدس سره)، حيث لم ترد في هذا
الموضوع أية رواية فضلا عن الرواية الصحيحة (2).
وقد تحصل من ذلك: أنه لا يجب حفظ القدرة قبل الوقت، ولا تحصيلها.
وأما بعد الوقت فهو واجب.
نعم، وردت رواية معتبرة (3) في جواز الجنابة مع الأهل - فحسب - بعد دخول
الوقت مع عدم وجود الماء الكافي عنده للاغتسال. ولكن لابد من الاقتصار على
مورد هذه الرواية، وهو الجماع مع الأهل، ولا يمكن التعدي عنه إلى غيره، فلا
يجوز إجناب نفسه بسبب آخر من احتلام أو نحوه.

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 153 - 154.
(2) المصدر السابق.
(3) وسائل الشيعة: ج 20 ص 109 ب 5 من أبواب مقدمات النكاح ح 1، طبع مؤسسة
آل البيت (عليهم السلام).
371

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة، وهي: أن التفصي عن الإشكال المزبور لا
يتوقف على الالتزام بالواجب التعليقي، بل يمكن التفصي عنه على ضوء الالتزام
بالقسم الأول من الواجب، والثاني والثالث.
هذا كله فيما إذا علم بدخل القدرة في ملاك الواجب في وقته، أو عدم دخلها
فيه كذلك.
وأما إذا شك ولم يحرز ذلك فهل يجب الإتيان بمقدماته قبل وقته فيما إذا علم
بعدم تمكنه منها فيه؟ فالظاهر عدم وجوبه، وذلك لما حققناه في بحث الترتب على
ما يأتي إن شاء الله تعالى: من أنه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام
الواقعية من الخارج، غاية الأمر أننا نستكشف تلك الملاكات من الأمر والنهي
المولويين، وعليه فبطبيعة الحال تكون سعة الملاك في مرحلة الإثبات بقدر سعة
الأمر دون الزائد، فلو لم يكن أمر في مورد أصلا، أو كان ولكنه سقط من ناحية
عجز المكلف عن الامتثال لم يكن لنا طريق إلى وجود الملاك فيه، لاحتمال أن
يكون سقوط الأمر لأجل انتفاء المقتضي له في هذا الحال، لا لوجود المانع مع
ثبوته (1). وقلنا هناك: إن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أنه يمكن إحراز الملاك
من التمسك بإطلاق المتعلق عند سقوط الأمر خاطئ جدا، ضرورة أن مجرد
إطلاق المتعلق لا يكون دليلا على وجود الملاك فيه كذلك على تفصيل يأتي في
محله إن شاء الله تعالى (2).
وبما أن فيما نحن فيه لم نحرز أن ترك المقدمة قبل الوقت مستلزم لتفويت
ملاك الواجب في ظرفه، لاحتمال أن القدرة من قبلها دخيلة في ملاكه في وقته،
وعليه فلو لم يأت بها قبل الوقت - والمفروض عدم تمكنه بعده - لم يحرز فوت
شئ منه، لا الأمر الفعلي ولا الملاك الملزم.
أما الأول فواضح. وأما الثاني فلاحتمال دخل القدرة الخاصة فيه: هذا من ناحية.

(1) سوف يأتي تفصيله في الجزء الثالث من المحاضرات ضمن بحث مسألة الضد، فانتظر.
(2) الهامش السابق نفسه.
372

ومن ناحية أخرى: قد تقدم أن ملاك حكم العقل بالقبح أمران: أحدهما:
تفويت التكليف الفعلي. وثانيهما: تفويت الملاك الملزم (1).
فالنتيجة على ضوئهما: هي أنه لا ملاك لحكم العقل بالقبح في المقام، لفرض
عدم إحرازه الملاك. ومن هذا القبيل: ما إذا علم شخص أنه إذا نام في الساعة
المتأخرة من الليل لفاتته صلاة الصبح، كما إذا لم يبق - فرضا - من الصبح إلا ساعة
واحدة - مثلا - فإنه يجوز له ذلك، لفرض أن الأمر غير موجود قبل الوقت. وأما
الملاك فغير محرز، لاحتمال دخل القدرة الخاصة فيه.
وأما الكلام في مقام الإثبات فقد ذكرنا غير مرة: أنه لا طريق لنا إلى ملاكات
الأحكام ما عدا نفس تلك الأحكام، إلا فيما قامت قرينة خارجية على ذلك (2)،
وعلى هذا الضوء فإن أحرزنا من الخارج اشتمال الواجب على ملاك ملزم في
ظرفه فبطبيعة الحال وجب الإتيان بمقدماته قبل وقته إذا علم بعدم تمكنه منها في
ظرفه، وإن لم نحرز ذلك من الخارج فإن كان وجوبه فعليا كشف عن أن ملاكه تام،
وإلا فلا طريق لنا إليه.
ومن هنا قلنا: إن الأمر إذا سقط في مورد لم يمكن إحراز الملاك فيه،
لاحتمال أن يكون سقوطه لأجل عدم المقتضي له، لا لأجل وجود المانع مع
ثبوته، وعلى هذا الأساس فلو أنكرنا الوجوب التعليقي وقلنا بعدم إمكان تقدم
زمان الوجوب على زمان الواجب لم يمكن إحراز ملاكه قبل وقته.
وبكلمة أخرى: أن التفصي عن الإشكال المتقدم وإن أمكن بحسب مقام
الثبوت بأحد الوجوه السالفة إلا أن إثبات تلك الوجوه جميعا بدليل مشكل جدا.
ودعوى: أن الظاهر من قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا) * (3) هو أن ملاك الحج تام في ظرفه بعد حصول الاستطاعة، كما أن
الظاهر من قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (4) هو أن الصوم تام

(1) راجع ص 367 - 368.
(2) منها: ما تقدم آنفا فلاحظ.
(3) آل عمران: 97.
(4) البقرة: 185.
373

الملاك بعد دخول الشهر فهي وإن كانت صحيحة إلا أنه من جهة ظهور الآية في
فعلية الوجوب بعد الاستطاعة. وكذا الآية الثانية. ومن المعلوم أنه يكشف عن
وجود ملاك ملزم فيه في وقته.
وأما لو رفعنا اليد عن هذا الظهور وقلنا بعدم فعلية وجوبه بعدها فلم يكن لنا
طريق إلى أن ملاكه تام في ظرفه، فعندئذ كيف يمكن الحكم بوجوب مقدماته قبل
زمانه؟
فالنتيجة: أن الإشكال إنما هو على ضوء نظرية القائلين باستحالة الواجب
التعليقي والشرط المتأخر. وأما على ضوء نظريتنا من إمكانه بل وقوعه خارجا
- كما في أمثال هذين الموردين - فلا إشكال من أصله.
وأما المقام الثاني - وهو التعلم - فقد ذكر جماعة منهم شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن
وجوب التعلم ليس بملاك وجوب بقية المقدمات المعدة التي يستلزم تركها ترك
الواجب بملاكه الملزم، وتفويتها تفويته كذلك، بل وجوبه بملاك آخر، وهو لزوم
دفع الضرر المحتمل (1).
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) لا يتم على إطلاقه، والسبب في ذلك: هو أن ترك
التعلم قبل وقت الواجب أو شرطه يقع على أنحاء:
الأول: أنه لا أثر لترك التعلم قبل الوقت، وذلك لتمكن المكلف من تعلم
الواجب بجميع أجزائه وشرائطه بعد دخول وقته أو حصول شرطه كالحج مثلا،
فإن باستطاعة العبد أن يتعلم أحكامه تدريجا اجتهادا أو تقليدا، من اليوم الذي
يجب عليه الإحرام إلى اليوم الذي ينتهي نسكه، ومن الطبيعي أن في مثله لا يجب
عليه التعلم قبل دخول الوقت، لعدم فوت شئ منه بعده. نعم، إذا جاء وقته لم يجز
له تركه، حيث إن فيه احتمال مخالفة التكليف الفعلي المنجز، وهو مساوق
لاحتمال العقاب، إذ لا مؤمن منه، فإن البراءة لا تجري قبل الفحص، ومعه - لا
محالة - يستقل العقل بوجوبه وعدم جواز تركه.

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 204 - 205.
374

الثاني: أن ترك التعلم قبل الوقت مؤثر في فقد تمييز الواجب عن غيره، يعني:
أن المكلف لا يتمكن معه من الامتثال العلمي التفصيلي بعد الوقت، ولكنه متمكن
من الامتثال العلمي الإجمالي، وذلك كما إذا تردد أمر الواجب بين المتباينين
كالقصر والإتمام، أو الظهر والجمعة، أو ما شاكل ذلك، فلو ترك المكلف التعلم قبل
الوقت لم يتمكن من تمييز الواجب عن غيره بعده، إما من ناحية عدم سعة الوقت
لذلك، أو من ناحية فقدان الوسيلة، ولكنه متمكن من إحراز امتثاله إجمالا بطريق
الاحتياط، وفي هذا القسم هل يجب التعلم؟ الظاهر عدم وجوبه، وذلك لما حققناه
في محله: من أن الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي وإن استلزم
التكرار (1).
الثالث: أن المكلف إذا ترك التعلم قبل الوقت فكما لا يكون متمكنا من
الامتثال العلمي التفصيلي بعد دخوله كذلك لا يكون متمكنا من الامتثال العلمي
الإجمالي. نعم، هو متمكن من الإتيان بذات الواجب، يعني: الامتثال الاحتمالي،
وذلك كما إذا افترضنا أن الوقت ضيق فلا يتمكن المكلف إلا من الإتيان بفعل
واحد: إما القصر أو التمام أو الظهر أو الجمعة.
وفي هذا القسم هل يجب التعلم قبل دخول الوقت؟ الظاهر وجوبه، وذلك لا
بملاك قاعدة " عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار "، إذ المفروض عدم
امتناع الواجب بترك التعلم، بل بملاك قاعدة " وجوب دفع الضرر المحتمل " حيث
إن في الاكتفاء بما يحتمل انطباق المأمور به عليه احتمال المخالفة للتكليف الفعلي
من دون مؤمن في البين فلا محالة يحتمل العقاب، ومعه يستقل العقل بوجوب
دفعه، وهو لا يمكن إلا بالتعلم قبل الوقت. ومنه يظهر أن ملاك حكم العقل هنا
ليس (2) احتمال تفويت الملاك الملزم في ظرفه. هذا كله فيما إذا ترك المكلف
التعلم قبل الوقت اختيارا ومتعمدا، أي: مع التفاته إلى أنه يؤدي إلى عدم إحراز
امتثال الواجب في ظرفه.

(1) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 77 - 84.
(2) كذا. والظاهر سقوط إلا.
375

وأما إذا كان معذورا في تركه قبله ثم بعد دخوله تردد أمره بين شيئين كالقصر
والإتمام - مثلا - لم يتنجز الواقع عليه على كل تقدير، إذ المفروض أنه لا يتمكن
من الجمع بينهما، بل يتنجز على تقدير دون آخر، وسمينا ذلك في بحث الاضطرار
إلى أحد أطراف العلم الإجمالي ب‍ " التوسط في التنجيز "، ومرده إلى وجوب
الإتيان بأحدهما لتمكن المكلف منه، سواء أكان موافقا للواقع أم كان مخالفا له،
غاية الأمر أن المكلف في صورة المخالفة معذور، وذلك كالصبي في أول بلوغه إذا
دار أمره بين شيئين كالظهر والجمعة - مثلا - ولا يتمكن من الجمع بينهما، ولا من
التعلم فعندئذ بطبيعة الحال الواجب عليه هو الإتيان بإحدهما ولا يكون معذورا
في تركه (1).
الرابع: أن ترك التعلم قبل الوقت موجب لترك الواجب في ظرفه: إما للغفلة
عن التكليف أصلا، أو لعدم التمكن من امتثاله. والأول كثيرا ما يتفق في
المعاملات، حيث إن المتعاملين من جهة ترك تعلم أحكام المعاملات لا يميزان
الصحيحة منها عن الفاسدة، فإذا أوقعا معاملة فاسدة في الخارج وتحقق النقل
والانتقال بنظرهما فبطبيعة الحال يتصرف كل منهما فيما انتقل إليه غافلا عن أنه
حرام. والثاني كثيرا ما يتفق في العبادات كالصلاة ونحوها، فإنها حيث كانت
مركبة من عدة أمور: التكبيرة والقراءة والركوع والسجود والتشهد والتسليمة ونحو
ذلك، ومشروطة بعدة شرائط: كطهارة البدن واللباس واستقبال القبلة وما شاكلها.
ومن الطبيعي أن تعلم الصلاة بتمام أجزائها وشرائطها يحتاج إلى مدة من الزمن،
ولا سيما لمن لم يحسن اللغة العربية. وفي هذا القسم يجب التعلم قبل الوقت،
وذلك لاستقلال العقل بذلك، وأنه لو لم يتعلم لفاته الغرض الملزم في ظرفه، ومعه
يستحق العقاب، لما عرفت من قاعدة " عدم منافاة الامتناع بالاختيار
للاختيار " (2). هذا كله فيما لم يكن الواجب مشروطا بقدرة خاصة شرعا من
ناحية التعلم والمعرفة.

(1) راجع مصباح الأصول: ج 2 ص 390.
(2) تقدم في ص 365 - 366 فراجع.
376

وأما إذا كان مشروطا بها كذلك لم يجب التعلم قبل دخول الوقت، لأنه لا
وجوب حتى يجب التعلم مقدمة لإتيان الواجب في ظرفه، ولا له ملاك ملزم كذلك
كي يستلزم ترك التعلم تفويته، لفرض أن ملاكه إنما يتم بالقدرة عليه في وقته من
قبل التعلم، ولا أثر لها فيه قبل دخوله أصلا. وعليه فلا وجوب، لا قبل دخول
الوقت أو حصول الشرط، ولا بعده.
أما الأول فواضح. وأما الثاني فلعدم تمكنه منه: إما من ناحية الغفلة، أو من
ناحية عدم القدرة على التعلم لضيق الوقت أو نحوه.
وعلى هذا الضوء فلا يمكن الالتزام بوجوب التعلم في هذه الصورة إلا بناء
على الالتزام بمقالة المحقق الأردبيلي (قدس سره)، وهو الوجوب النفسي للتهيؤ إلى الغير (1).
ثم إن هذا الوجوب بطبيعة الحال يختص بمن كان التكليف متوجها إليه لولا
عجزه من ناحية عدم التعلم، وأما بالإضافة إلى غيره فلا معنى للوجوب النفسي،
وذلك كالرجال بالإضافة إلى تعلم أحكام النساء فإنه لا يجب عليهم ذلك نفسا،
لعدم ملاكه وهو التهيؤ لامتثال التكليف الواقعي.
نعم، يجب كفاية تحصيل هذه الأحكام اجتهادا. ومن المعلوم أن هذا خارج
عن محل الكلام، هذا بحسب الكبرى.
وغير خفي أن هذه الكبرى وإن كانت ثابتة إلا أن المقام ليس من صغرياتها،
وذلك لأن مقتضى إطلاق الآيات والروايات الدالة على وجوب التعلم والسؤال
هو عدم أخذ القدرة الخاصة من قبله في الواجب، وأنه ليس للتعلم أي دخل في
صيرورة الواجب ذا ملاك ملزم، فإن إطلاق قوله (عليه السلام): " يؤتى بالعبد يوم القيامة
فيقال له: هلا عملت؟ فيقول: ما علمت، فيقال له: هلا تعلمت؟ " (2) يدل على ثبوت
الملاك للواجب في ظرفه، حتى بالإضافة إلى العاجز عنه من ناحية تركه التعلم.
فالنتيجة على ضوء ذلك: هي وجوب تعلم الأحكام على المكلف مطلقا، من

(1) انظر مجمع الفائدة والبرهان: ج 2 ص 110 مبحث مكان المصلي.
(2) راجع أمالي الطوسي: ج 1 ص 9.
377

دون فرق بين الأحكام المطلقة والمشروطة بالوقت أو بغيره، فلو تركه قبل الوقت
أو قبل حصول الشرط وأدى تركه إلى ترك الواجب في ظرفه استحق العقاب عليه
بقاعدة " أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار "، فالقدرة من قبله قدرة مطلقة.
وأما القدرة من قبل سائر المقدمات فهي في العموم والخصوص تابعة لأدلتها كما
تقدم (1). هذا فيما إذا علم المكلف أو اطمأن بالابتلاء بها، كأحكام الصلاة والصيام
والحج ونحوها.
وأما فيما إذا احتمل ذلك فهل يجب التعلم؟ المعروف والمشهور بين
الأصحاب هو وجوبه بعين الملاك المتقدم. ولكن قد يقال بعدم وجوبه بدعوى
التمسك باستصحاب عدم الابتلاء بالإضافة إلى الزمن المستقبل، حيث إن عدم
الابتلاء فعلا متيقن ويشك فيه فيما بعد، فيستصحب عدمه على عكس
الاستصحاب المتعارف.
وأورد على هذا بإيرادين:
الأول: أن دليل الاستصحاب قاصر عن شمول هذا النحو من الاستصحاب
المسمى ب‍ " الاستصحاب الاستقبالي "، فيختص بما إذا كان المتيقن سابقا
والمشكوك لاحقا.
الثاني: أن الاستصحاب إنما يجري فيما إذا كان المستصحب بنفسه أثرا
شرعيا أو ذا أثر شرعي. وأما إذا لم يكن هذا ولا ذاك لم يجر الاستصحاب والمقام
كذلك، فإن الأثر - وهو استقلال العقل بوجوب التعلم - إنما هو مترتب على مجرد
احتمال الابتلاء من جهة دفع الضرر المحتمل، لا على واقعه حتى يدفعه
باستصحاب عدمه.
وإن شئت قلت: إن الأثر في كل مورد إذا كان مترتبا على نفس الشك
والاحتمال دون الواقع فمتى شك فيه فالموضوع محرز بالوجدان، ومعه لا معنى
لورود التعبد بالواقع أصلا، لأنه لغو صرف، وما نحن فيه كذلك فإن الأثر فيه - كما

(1) تقدم في ص 375 فراجع.
378

عرفت - مترتب على نفس احتمال الابتلاء، والمفروض أنه محرز بالوجدان
فلابد من ترتيب أثره عليه. وأما الابتلاء الواقعي فبما أنه لا أثر له فلا يجري
استصحاب عدمه.
ولنأخذ بالنقد عليهما:
أما على الأول: فلأنه لا قصور في دليل الاستصحاب عن شمول هذا القسم،
وذلك لأن مفاد أدلة الاستصحاب هو عدم جواز رفع اليد عن اليقين بالشك، ولا
فرق في ذلك بين كون المتيقن بهذا اليقين سابقا والمشكوك فيه لاحقا كما هو
الغالب، أو بالعكس كما فيما نحن فيه.
فالنتيجة: أن مقتضى إطلاق دليل الاستصحاب عدم الفرق في جريانه بين
الأمور المتقدمة والمتأخرة، فكما يجري في الأولى كذلك في الثانية، فما عن
صاحب الجواهر (قدس سره) من الفرق بينهما (1) في غير محله.
وأما على الثاني: فلأنا قد ذكرنا في أول بحث البراءة (2)، وكذا في مبحث
الاستصحاب ضمن التعرض لقاعدة الفراغ (3): أن الحكم العقلي وإن كان غير قابل
للتخصيص إلا أنه قابل للتخصص والخروج الموضوعي، فإن لزوم دفع الضرر
المحتمل وقبح العقاب بلا بيان من القواعد التي قد استقل بها العقل، ومع ذلك
يتسبب المولى إلى رفعهما برفع موضوعهما بجعل الترخيص في مورد الأولى،
والبيان في مورد الثانية، وليس هذا من التخصيص في شئ، بل رفعهما برفع
موضوعهما وجدانا، فإن موضوع الأولى احتمال العقاب على فعل شئ أو ترك
آخر. ومن الطبيعي أن هذا الاحتمال يرتفع وجدانا بجعل الشارع الترخيص في
موردها. وموضوع الثانية عدم البيان. ومن المعلوم أنه يرتفع كذلك بجعل الشارع
البيان في موردها.
مثلا: العقل يستقل بلزوم تحصيل اليقين بالفراغ في موارد الشك في حصول

(1) جواهر الكلام: ج 2 ص 348 - 354.
(2) مصباح الأصول: ج 3 ص 283 - 288.
(3) لم يذكر في تقريرات درسه الشريف مصباح الأصول في هذا المبحث، وأشار إليه في بحث
التعارض، فراجع مصباح الأصول: ج 3 ص 348 - 350.
379

الامتثال بعد العلم بالتكليف، ومع ذلك قد جعل الشارع قاعدة الفراغ في تلك
الموارد، وهي رافعة وجدانا لموضوع ذلك الحكم العقلي، حيث إن موضوعه هو
احتمال العقاب من ناحية احتمال أن العمل المأتي به خارجا لم يكن مطابقا
للمأمور به، ومن المعلوم أنه لا احتمال له معها وإن فرضنا أن العمل مخالف للواقع.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن احتمال الابتلاء الذي هو موضوع للأثر وإن
كان محرزا بالوجدان إلا أن استصحاب عدم الابتلاء واقعا إذا جرى كان رافعا
للابتلاء الواقعي تعبدا، وبه يرتفع الموضوع، وهو احتمال الابتلاء، فيكون المكلف
ببركة الاستصحاب عالما بعدمه، وهذا ليس من التخصيص في الحكم العقلي
بشئ، بل ارتفاعه بارتفاع موضوعه.
وإن شئت قلت: إن موضوع حكم العقل هنا هو احتمال العقاب على مخالفة
الواقع، ومن الطبيعي أنه لا احتمال للعقاب بعد فرض التعبد الاستصحابي.
فالنتيجة: أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من عدم جريان الاستصحاب في
أمثال المقام (1) خاطئ جدا.
الصحيح في المقام أن يقال: إن المانع عن جريان الاستصحاب هنا أحد أمرين:
الأول: العلم الإجمالي بالابتلاء بقسم من الأحكام الشرعية في ظرفها، ومن
الواضح أن مثل هذا العلم الإجمالي مانع عن جريان الأصول النافية في أطرافه،
حيث إن جريانها في الجميع مستلزم للمخالفة القطعية العملية، وجريانها في
البعض دون الآخر مستلزم للترجيح من دون مرجح فلا محالة تسقط، فيستقل
العقل بوجوب التعلم والفحص.
الثاني: أن ما دل على وجوب التعلم والمعرفة من الآيات والروايات كقوله
تعالى: * (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * (2) وقوله (عليه السلام): " هلا تعلمت؟ " (3)
وما شاكل ذلك وارد في مورد هذا الاستصحاب، حيث إن في غالب الموارد لا

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 208.
(2) النحل: 43، والأنبياء 7.
(3) أمالي الطوسي: ج 1 ص 9.
380

يقطع الإنسان، بل ولا يطمئن بالابتلاء، فلو جرى الاستصحاب في هذه الموارد لم
يبق تحت هذه العمومات والمطلقات إلا موارد نادرة، وهذا مما لا يمكن الالتزام
به فإنه تقييد المطلق بالفرد النادر، ونظير ذلك: ما ذكرناه في بحث الاستصحاب في
وجه تقديم قاعدة الفراغ عليه (1).
ثم إن الظاهر اختصاص وجوب التعلم بالموارد التي يقع ابتلاء المكلف بها
عادة، وأما الموارد التي يقل الابتلاء بها - كبعض مسائل الشكوك والخلل وما
شاكله - مما يكون الابتلاء به نادرا جدا فلا يجب التعلم فيها، لا بحكم العقل ولا
بحكم الشرع.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي: أن تعلم الأحكام الشرعية
واجب مطلقا، أي: من دون فرق بين ما إذا علم المكلف الابتلاء بها أو اطمأن،
وبين ما إذا احتمل ذلك عادة. نعم، فيما لا يحتمل الابتلاء كذلك لا يجب.
ينبغي التنبيه على عدة نقاط:
الأولى: أن ما ذكرناه من وجوب التعلم قبل الوقت فيما إذا كان تركه موجبا
إما لتفويت الملاك الملزم في ظرفه، أو لفقد إحراز امتثال التكليف ولو إجمالا (2)
مختص بالبالغين. وأما الصبيان فلا يجب عليهم التعلم وإن علموا بفوات الواجب
في وقته أو إحرازه.
والسبب في ذلك: هو أن البالغ إذا ترك التعلم وفات الواجب منه في زمنه لم
يستحق العقاب على فوت الواجب، لفرض عدم قدرته عليه، وإنما استحق العقاب
على تفويت الملاك الملزم فيه من ناحية تفويت مقدمته اختيارا.
وقد تقدم: أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار (3)، ومن الطبيعي أن هذا
المعنى لا يتأتى في حق الصبي، وذلك لأن الشارع قد رفع القلم عنه، ومقتضاه: هو
أن تركه التعلم قبل البلوغ كلا ترك فلا يترتب عليه أي أثر، وبعد البلوغ لا يقدر

(1) راجع مصباح الأصول: ج 3 ص 265.
(2) تقدم ذكره في ص 377 فراجع.
(3) راجع ص 366 - 367.
381

على الواجب، فإذا لا يفوت منه شئ، لا الواجب الفعلي ولا الملاك الملزم حتى
يستحق العقاب.
وعلى الجملة: فالصبي لا يكون مشمولا لقاعدة " أن الامتناع بالاختيار لا
ينافي الاختيار "، وذلك لأن اختيار الصبي كلا اختيار بمقتضى رفع القلم عنه،
وعليه فلا يكون للواجب في ظرفه ملاك ملزم بالإضافة إليه.
نعم، يؤدب الصبي على ارتكاب بعض المعاصي، ويمرن على الصلاة والصيام
لسبع أو تسع، وهو أمر آخر فلا صلة له بما نحن فيه.
ومن ضوء هذا البيان يظهر: أن ما ذكره شيخنا الأستاذ من لزوم التعلم على
الصبي بدعوى: أن التمسك بحديث " رفع القلم " لرفع وجوب التعلم غير ممكن،
وذلك لأن وجوبه عقلي، وحديث " الرفع " لا يرفع الوجوب العقلي (1) خاطئ جدا.
والوجه في ذلك: هو أن حكم العقل في المقام وإن كان يعم الصبي وغيره إلا
أنه معلق على عدم ورود التعبد من الشارع على خلافه، ومعه لا محالة يرتفع
بارتفاع موضوعه، والمفروض أن التعبد الشرعي قد ورد على خلافه في خصوص
الصبي - وهو حديث رفع القلم - فإن مفاده: أن فعل الصبي كلا فعل فلا يترتب عليه
أي أثر من استحقاق عقاب أو نحوه، وعلى هذا فلا يعقل استحقاق الصبي العقاب
على تفويت الملاك بعد البلوغ استنادا إلى تركه التعلم قبله.
وإن شئت قلت: إن مقتضى حديث " رفع القلم " أو ما شاكله: هو أن ملاك
الواجب في ظرفه غير تام في حقه من ناحية التعلم والمعرفة لكي يكون تركه
موجبا لتفويته واستحقاق العقاب عليه، كما هو الحال أيضا بالإضافة إلى سائر
مقدمات الواجب.
الثانية: أن وجوب التعلم لا يخلو من أن يكون نفسيا، أو غيريا، أو إرشاديا،
أو طريقيا، فلا خامس في البين.

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 205 - 206.
382

أما النفسي: فهو وإن كان محتملا - وقد اختاره المحقق الأردبيلي (1) (قدس سره) - إلا
أنه خلاف ظواهر الآيات والروايات الدالة على ذلك كما عرفت.
وأما الوجوب الغيري فهو مبتن على أن يكون التعلم مقدمة لوجود الواجب
خارجا، وترك الحرام كذلك كبقية المقدمات الوجودية، ولكنه ليس كذلك،
ضرورة أن الإتيان بذات الواجب وترك نفس الحرام لا يتوقفان عليه.
نعم، يتوقف الإتيان بالواجب إذا كان مركبا على تعلم أجزائه وشرائطه، وذلك
كالصلاة وما شاكلها، إلا أن وجوبه لا يدور مدار القول بوجوب المقدمة، بل هو
ثابت بالآيات والروايات.
وأما الوجوب الإرشادي بأن يكون ما دل عليه من الكتاب والسنة إرشادا
إلى ما استقل به العقل من وجوب تعلم الأحكام، نظير ما ذكرناه في الآيات الناهية
عن العمل بغير العلم: من أن مفادها إرشاد إلى ما استقل به العقل، وهو عدم جواز
العمل بالظن. فيرد عليه: أنه لو كان وجوبه إرشاديا لم يكن مانع من جريان
البراءة الشرعية في الشبهات الحكمية قبل الفحص، وذلك لأن المقتضى له - وهو
إطلاق أدلتها - موجود على الفرض، وعمدة المانع عنه إنما هي وجود تلك الأدلة،
والمفروض أنها على هذا التفسير حالها حال حكم العقل فغير صالحة للمانعية،
فإن موضوعها يرتفع عند جريانها كحكم العقل، ومثلها كيف يصلح أن يكون مانعا؟
وعلى الجملة: فعلى ضوء هذا التفسير كما أن البراءة الشرعية تجري في
الشبهات الموضوعية قبل الفحص كذلك تجري في الشبهات الحكمية قبله، فلا
فرق بينهما عندئذ أصلا، فإن عمدة الدليل على تقييد إطلاق أدلتها في الشبهات
الحكمية بما بعد الفحص إنما هو تلك الأدلة، وإذا افترضنا أن مدلولها حكم
إرشادي فهي لا تصلح لذلك. نعم، لا تجري البراءة العقلية، لعدم إحراز موضوعها
قبل الفحص.
فالنتيجة: أنه يتعين الاحتمال الأخير، وهو كون وجوب التعلم وجوبا

(1) راجع مجمع الفائدة والبرهان: ج 2 ص 110.
383

طريقيا، ويترتب عليه تنجيز الواقع عند الإصابة، لأنه أثر الوجوب الطريقي، كما
هو شأن وجوب الاحتياط، ووجوب العمل بالأمارات وما شاكل ذلك، وعليه
فتكون هذه الأدلة مانعة عن جريان البراءة فيها قبل الفحص، وتوجب تقييد
إطلاق أدلتها بما بعده.
الثالثة: أن شيخنا الأستاذ (قدس سره) نقل عن بعض الرسائل العملية لشيخنا العلامة
الأنصاري (قدس سره): أنه حكم فيه بفسق تارك تعلم مسائل الشك والسهو فيما يبتلى به
عامة المكلفين، وقد تعجب (قدس سره) من ذلك، ونسب الاشتباه إلى من جمع فتاواه في
الرسالة، وعلله بأحد أمور:
الأول: أن هذا مبني على كون وجوب التعلم وجوبا نفسيا كما اختاره المحقق
الأردبيلي (قدس سره)، وعليه فلا محالة يكون تاركه فاسقا.
وفيه: أنه خلاف مبناه (قدس سره)، حيث إنه لم يلتزم بالوجوب النفسي.
الثاني: أنه مبني على حرمة التجري، وعليه فبطبيعة الحال يكون فاعله
فاسقا ويستحق العقاب.
وفيه: أنه أيضا خلاف ما بنى (قدس سره) عليه من عدم حرمة التجري، وأن قبحه
فاعلي لا فعلي، ومعه لا موجب لكون فاعله فاسقا ومستحقا للعقاب.
الثالث: أن يكون مستند ذلك الفرق بين مسائل الشك والسهو وبين غيرها من
المسائل بدعوى: أن العادة قد جرت على ابتلاء المكلفين بها لا محالة دون
غيرها، فلأجل ذلك يجب تعلمها ومعرفتها على كل أحد. ومن الطبيعي أن مخالفة
الواجب توجب الفسق.
وفيه: أنه أبعد هذه الفروض، لما عرفت من أن وجوب التعلم وجوب طريقي
فلا توجب مخالفته العقاب ما لم تؤد إلى مخالفة الواقع (1).

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 158 - 159.
384

والصحيح أن يقال: إن ما أفاده (قدس سره): من أن تارك التعلم محكوم بالفسق يقوم
على أساس أن التجري كاشف عن عدم وجود العدالة فيه، حيث إنها على
مسلكه (قدس سره): عبارة عن وجود ملكة نفسانية تبعث صاحبها على ملازمة التقوى،
يعني: الإتيان بالواجبات وترك المحرمات، ومن الطبيعي أنها لا تجتمع مع
التجري، وهو الإتيان بما يعتقد كونه مبغوضا وترك ما يعتقد كونه واجبا، وهذا لا
ينافي عدم استحقاقه العقاب، فإن ملاك الاستحقاق عنده ارتكاب المبغوض
الواقعي، أو ترك الواجب كذلك، وهو غير موجود في التجري.
فالنتيجة: أن المتجري فاسق وإن لم يستحق العقاب، فلا ملازمة بين الأمرين،
فما جاء به شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في غاية المتانة والصحة.
الرابعة: أن المقدمة التي يبحث عن وجوبها في المسألة لا يفرق فيها بين أن
تكون مقدمة لواجب مشروط، أو مطلق. والسبب في ذلك: هو أنه بناء على
الملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته لا يفرق الحال بين المطلق
والمشروط، غاية الأمر إذا كان الواجب مشروطا فوجوب مقدمته كذلك، فإنه في
الإطلاق والاشتراط تابع لوجوب ذيها، بداهة أن التفكيك بينهما في الإطلاق
والاشتراط ينافي ما افترضناه من الملازمة بين وجوبيهما.
ومن هنا يظهر: أنه لا وجه لما أفاده صاحب المعالم (قدس سره) من تخصيص محل
النزاع بمقدمات الواجب المطلق (1)، وكذا غيره.
ولعل مرادهم من الواجب المطلق: هو الواجب بالوجوب الفعلي، ومما يدلنا
على ذلك أنه لم يكن في الشريعة المقدسة واجب مطلق من جميع الجهات، بل
الواجبات بشتى أنواعها وأشكالها واجبات مشروطة، ولا أقل بالشرائط العامة،
غاية الأمر بعضها مشروط بالإضافة إلى شئ، ومطلق بالإضافة إلى آخر، وبعضها
الآخر بالعكس. مثلا: وجوب الحج مشروط بالإضافة إلى الاستطاعة، ومطلق
بالإضافة إلى الزوال، ووجوب الصلاة - مثلا - مطلق بالإضافة إلى الاستطاعة،

(1) راجع معالم الأصول: ص 53 - 54.
385

ومشروط بالإضافة إلى الزوال، ووجوب الزكاة مشروط بالإضافة إلى بلوغ المال
حد النصاب، ومطلق بالإضافة إلى غيره من الجهات...، وهكذا.
فالنتيجة: أن عدم وجود واجب مطلق في الشريعة المقدسة دليل على أن
مرادهم من الواجب المطلق الواجب الفعلي.
الخامسة: أن المقدمات الوجوبية التي أخذت مفروضة الوجود في مقام
الجعل والاعتبار - كالاستطاعة ونحوها - خارجة عن محل النزاع، ضرورة أنه لا
وجوب قبل وجودها، وبعده يكون وجوبها تحصيل الحاصل. نعم، يمكن وجوبها
بسبب آخر: كالنذر واليمين وما شاكلهما، مع قطع النظر عن وجوب ذيها.
السادسة: أنه لا إشكال في أن إطلاق لفظ الواجب على الواجب المطلق
حقيقة، وكذا إطلاقه على الواجب المشروط بلحاظ حصول شرطه. وإنما الكلام
والإشكال في إطلاقه على الواجب المشروط لا بهذا اللحاظ، فهل هو حقيقة أو
مجاز؟ فبناء على نظرية شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) من رجوع القيد إلى المادة
دون الهيئة حقيقة، وأما بناء على نظرية المشهور من رجوعه إلى الهيئة فمجاز
بعلاقة الأول أو المشارفة، لفرض عدم تحقق الوجوب، وقد ذكرنا في بحث
المشتق: أن إطلاقه على من لم يتلبس بالمبدأ فعلا مجاز بالاتفاق (1).
ثم إن استعمال الصيغة أو نحوها مما دل على الوجوب ككلمة " على " في مثل
قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (2) وما شاكلها
في المطلق والمشروط على نحو الحقيقة، وذلك لأن كلا من الإطلاق والاشتراط
خارج عن معناها الموضوع له، حيث إنه الطبيعي المهمل فيعرض عليه الإطلاق
مرة، والاشتراط مرة أخرى، والأول مستفاد من قرينة الحكمة، والثاني مستفاد
من ذكر المتكلم القيد في الكلام، وقد يستفاد من ناحية الانصراف، وتفصيل الكلام
في ذلك في مبحث المطلق والمقيد (3) إن شاء الله تعالى.

(1) تقدم في الجزء الأول من المحاضرات: في بداية بحث المشتق، فراجع.
(2) آل عمران: 97.
(3) سوف يأتي في الجزء الخامس من المحاضرات في أواخر بحث المطلق والمقيد.
386

نتائج البحوث المتقدمة عدة نقاط.
الأولى: أن المبحوث عنه في مسألة مقدمة الواجب إنما هو عن ثبوت
الملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته عقلا.
الثانية: أن المسألة من المسائل الأصولية العقلية.
الثالثة: أن المقدمات الداخلية بالمعنى الأخص - وهي أجزاء الواجب -
خارجة عن محل البحث، ولا مقتضى لاتصافها بالوجوب الغيري أصلا.
الرابعة: أن المراد من الشرط في محل الكلام - سواء كان شرطا للحكم أو
شرطا للمأمور به - أجنبي عن الشرط بمعنى ماله دخل في فعلية تأثير المقتضي
في المقتضى ويكون من أجزاء العلة التامة. وعلى ضوء هذا قد أجبنا عن الإشكال
على إمكان الشرط المتأخر وجوازه على تفصيل تقدم (1).
الخامسة: أن كلام المحقق صاحب الكفاية (2) (قدس سره) مبني على الخلط بين شرائط
الجعل وشرائط المجعول، والوجود الذهني إنما هو من شرائط الجعل دون الحكم
المجعول، والكلام إنما هو في شرائط المجعول.
السادسة: قد تقدم أن الشرط المتأخر بمكان من الإمكان. نعم، وقوعه في
الخارج يحتاج إلى دليل، إلا في موردين:
أحدهما: في العقد الفضولي، حيث إن شرطية الإجازة بوجودها المتأخر لا
يحتاج إلى دليل.
وثانيهما: في الواجبات التدريجية، فإن شرطية القدرة فيها على نحو الشرط
المتأخر لا يحتاج إلى مؤنة خاصة (3).
السابعة: أن ما ذهب إليه شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) من استحالة رجوع
القيد إلى الهيئة ولزوم رجوعه إلى المادة قد تقدم نقده بشكل موسع، وقلنا: إن
الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور: من أنه لا استحالة في ذلك أصلا، بل مقتضى

(1) راجع ص 31 - 324.
(2) كفاية الأصول: ص 118 - 119.
(3) راجع ص 318 - 324.
387

القواعد العربية وظهور القضية الشرطية هو رجوعه إلى الهيئة دون المادة (1).
الثامنة: أنه لا وجه لتقديم الإطلاق الشمولي على البدلي فيما إذا كان كلاهما
مستندا إلى مقدمات الحكمة. نعم، إذا كان أحدهما بالوضع دون الآخر تقدم ما
كان بالوضع على ما كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة، وعليه فلا وجه لتقديم
إطلاق الهيئة على إطلاق المادة كما عن الشيخ (رحمه الله).
التاسعة: أن تقييد كل من مفاد الهيئة والمادة مشتمل على خصوصية مباينة
لخصوصية الآخر، فلا يكون في البين قدر متيقن، وعليه فكما أن تقييد الهيئة لا
يستلزم تقييد المادة كذلك لا يوجب بطلان محل الإطلاق فيها، من دون فرق في
ذلك بين كون القرينة متصلة أو منفصلة، غاية الأمر إذا كانت القرينة متصلة فهي
مانعة عن انعقاد أصل الظهور في الإطلاق، وإذا كانت منفصلة فمانعة عن اعتباره
وحجيته.
وأما ما ورد في كلمات شيخنا الأنصاري والمحقق صاحب الكفاية وشيخنا
الأستاذ (قدس سرهم) من ترجيح تقييد الهيئة قد تقدم أنه نشأ من عدم تنقيح ما ينبغي أن
يكون محلا للنزاع في المقام (2).
العاشرة: أن الواجب المعلق قسم من الواجب المشروط بالشرط المتأخر، فلا
وجه لجعله قسما من الواجب المطلق كما عن الفصول. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه لا مانع من الالتزام بالواجب المعلق بالمعنى الذي
ذكرناه، ولا يرد عليه شئ مما اورد عليه.
ومن ناحية ثالثة: أن الذي دعا صاحب الفصول (قدس سره) إلى الالتزام بالواجب
المعلق هو التفصي به عن الإشكال الوارد في جملة من الموارد على وجوب
الإتيان بالمقدمة قبل إيجاب ذيها، ولكن قد تقدم أن دفع الإشكال لا يتوقف على
الالتزام به، بل يمكن دفعه بشكل آخر قد سبق تفصيله بصورة موسعة في ضمن

(1) ص 325 - 337.
(2) الفصول الغروية: 79.
388

البحوث السالفة (1).
الحادية عشرة: أن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن وجوب التعلم [ليس]
بملاك وجوب سائر المقدمات، بل هو بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل قد تقدم
أنه لا يتم على إطلاقه (2). هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن مقتضى إطلاق أدلة وجوب التعلم هو أن ملاك الواجب
تام في ظرفه من قبله، فلو ترك المكلف التعلم وأدى ذلك إلى ترك الواجب في
وقته استحق العقاب ولو كان غافلا حينه، ومن هنا قلنا بوجوبه مطلقا، من دون
فرق بين الواجبات المطلقة والمشروطة.
الثانية عشرة: أن وجوب التعلم مختص بالبالغين، فلا يجب على الصبيان قبل
بلوغهم، لعدم إحراز تمامية الملاك في حقهم، بل مقتضى حديث " رفع القلم "
عدمه. وما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من عدم إمكان التمسك به قد تقدم فساده (3).
الثالثة عشرة: أن وجوب التعلم وجوب طريقي يترتب عليه تنجيز الواقع
والعقاب على تركه على تقدير المصادفة، وليس وجوبه نفسيا كما عن المحقق
الأردبيلي (قدس سره)، ولا غيريا ولا إرشاديا على تفصيل تقدم (4).
الرابعة عشرة: أن ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره): من أن تارك التعلم فاسق
متين جدا، ولا وجه لتعجب شيخنا الأستاذ (قدس سره) من ذلك أصلا.
الواجب النفسي والغيري
قد عرف الواجب النفسي: بأنه ما وجب لا لأجل التوصل به إلى واجب
آخر. والواجب الغيري: بأنه ما وجب لأجل التوصل به إلى واجب آخر.
وقد اورد على تعريف الواجب النفسي: بأن لازم ذلك صيرورة جل
الواجبات لولا كلها غيرية، بداهة أنها إنما تجب لأجل مصالح وفوائد تترتب

(1) راجع ص 362 وما بعدها.
(2) راجع ص 376 - 383.
(3) راجع ص 383 - 384.
(4) راجع تفصيله في ص 384 - 385.
389

عليها، اللازمة تحصيلها بحيث لولاها لم تكن واجبة.
وعلى الجملة: فعلى ضوء هذا التعريف لا يكون واجب نفسي ما عدا معرفة
الباري عز وجل، حيث إنها غاية الغايات، فلا غاية فوقها، وأما غيرها من
الواجبات بشتى ألوانها وأشكالها واجبات لأجل التوصل إلى غايات مترتبة عليها
بناء على المسلك الصحيح، وهو مسلك العدلية.
وأجيب عنه كما حكي في الكفاية: بأن تلك الغايات المترتبة عليها خارجة
عن الاختيار فلا تتعلق القدرة بها، وعليه فلا يعقل وجوبها وتعلق الخطاب بها (1).
وأورد عليه صاحب الكفاية (قدس سره): بأنها وإن كانت في حد أنفسها وبلا واسطة
خارجة عن إطار القدرة إلا أنها مع الواسطة مقدورة لدخول أسبابها تحت القدرة.
ومن الطبيعي أن القدرة على السبب قدرة على المسبب، وإلا لم يصح وقوع مثل
التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق... إلى غير ذلك من المسببات موردا
لحكم من الأحكام التكليفية الشرعية كما هو واضح (2).
هذا، وقد أجاب (قدس سره) عن الإشكال المزبور بوجه آخر، وإليك نصه: (فالأولى
أن يقال: إن الأثر المترتب عليه وإن كان لازما إلا أن ذا الأثر لما كان معنونا
بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله، بل ويذم تاركه صار متعلقا للإيجاب بما
هو كذلك، ولا ينافيه كونه مقدمة لأمر مطلوب واقعا، بخلاف الواجب الغيري
لتمحض وجوبه في أنه لكونه مقدمة لواجب نفسي، وهذا أيضا لا ينافي أن يكون
معنونا بعنوان حسن في نفسه، إلا أنه لا دخل له في إيجابه الغيري، ولعله مراد من
فسرهما بما أمر به لنفسه، وما أمر به لأجل غيره فلا يتوجه عليه بأن جل
الواجبات - لولا الكل - يلزم أن يكون من الواجبات الغيرية، فإن المطلوب
النفسي قل ما يوجد في الأوامر، فإن جلها مطلوبات لأجل الغايات التي هي
خارجة عن حقيقتها) (3).
وملخص ما أفاده (قدس سره): هو أن ملاك الواجب النفسي ما كان وجوبه لأجل

(1) كفاية الأصول: ص 135.
(2) كفاية الأصول: ص 135.
(3) المصدر السابق: ص 136.
390

حسنه في حد ذاته، سواء أكان مع ذلك مقدمة لواجب آخر أم لم يكن. وملاك
الواجب الغيري ما كان وجوبه لأجل حسن غيره، سواء أكان في نفسه أيضا حسنا
كالطهارات الثلاث أم لم يكن.
ويرد عليه أولا: ما أورده المحقق النائيني (قدس سره): من أن حسن الأفعال الواجبة
المقتضي لإيجابها إن كان ناشئا من مقدميتها لما يترتب عليه من المصالح والفوائد
اللازمة فالإشكال باق على حاله. وإن كان ثابتا في حد ذاتها مع قطع النظر عما
يترتب عليها فلازم ذلك أن لا يكون شئ من الواجبات النفسية متمحضا في
الوجوب النفسي، وذلك لاشتمالها على ملاكين: النفسي وهو حسنها ذاتا، الغيري
وهو كونها مقدمة لواجب آخر، نظير صلاة الظهر، حيث إنها واجبة لنفسها ومقدمة
لواجب آخر وهو صلاة العصر وصلاة المغرب، فإنها مع كونها واجبة لنفسها مقدمة
لصلاة العشاء أيضا. وأفعال الحج فإن المتقدم منها واجب لنفسه ومقدمة
للمتأخر (1).
فالنتيجة: أنه لا وقع لهذا التقسيم أصلا على ضوء ما أفاده (قدس سره).
وثانيا: أن دعوى الحسن الذاتي في جميع الواجبات النفسية دعوى جزافية
ولا واقع موضوعي لها أصلا، والسبب في ذلك: هو أن جل الواجبات النفسية لم
تكن حسنة بذاتها وفي نفسها: كالصوم والحج والزكاة والخمس وما شاكل ذلك،
فإن ترك الأكل والشرب - مثلا - في نهار شهر رمضان ليس في نفسه حسنا، بداهة
أنه لا فرق بينه فيه وبين الأكل والشرب في غيره ذاتا، مع قطع النظر عن الأمر،
وكذا الحال في مناسك الحج. نعم، الأمر المتعلق بها يكشف عن وجود مصلحة
ملزمة فيها، إلا أنها أجنبية عن حسنها الذاتي.
نعم، بعض الواجبات حسن ذاتا: كالسجود والركوع وما شاكلهما، مع قطع
النظر عن تعلق الأمر به.
وأما الحسن العقلي فهو أجنبي عن حسن الفعل ذاتا، حيث إنه من باب حسن

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 167 - 168.
391

الإطاعة، فيعرض عليه بعد الأمر به باعتبار أن إتيانه يكون إطاعة للمولى.
ومنع شيخنا الأستاذ (قدس سره) عن تعلق الأمر بمثل هذه الغايات والمسببات.
بيان ذلك: أنه (قدس سره) قسم الغايات إلى أصناف ثلاثة:
الأول: ما يترتب على الفعل الخارجي من دون توسط أمر اختياري أو غير
اختياري بينه وبين ذلك الفعل، وذلك كالزوجية المترتبة على العقد، والطهارة
المترتبة على الغسل، والقتل المترتب على ضرب أو نحوه، وما شاكل ذلك، فإذا
كانت الغاية من هذا القبيل فلا مانع من تعلق التكليف بها، لأنها مقدورة بواسطة
القدرة على سببها.
الثاني: ما يترتب على الفعل الخارجي بتوسط أمر اختياري خاصة، وذلك
كالصعود على السطح، وطبخ اللحم، وما شاكلهما، حيث إن وجود كل منها في
الخارج يتوقف على عدة من المقدمات الاختيارية، وفي هذا الصنف أيضا لا مانع
من تعلق التكليف بنفس الغاية والغرض بملاك أن الواسطة مقدورة.
الثالث: ما يترتب على الفعل الخارجي بتوسط أمر خارج عن اختيار
الإنسان، فتكون نسبة الفعل إليه نسبة المعد إلى المعد له، لا نسبة السبب إلى
المسبب والعلة إلى المعلول، وذلك كحصول الثمر من الزرع فإنه يتوقف - زائدا
على زرع الحب في الأرض وجعل الأرض صالحة لذلك وسقيها - على مقدمات
أخرى خارجة عن اختيار الإنسان، فالمقدمات الاختيارية مقدمات إعدادية
فحسب، ومثل ذلك شرب الدواء للمريض، فإن تحسن حاله يتوقف على مقدمة
أخرى خارجة عن اختياره، وفي هذا الصنف لا يمكن تعلق التكليف بالغاية
القصوى والغرض الأقصى لخروجها عن الاختيار.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن نسبة الأفعال الواجبة بالإضافة إلى ما يترتب
عليها من المصالح والفوائد نسبة المعد إلى المعد له حيث تتوسط بينهما أمور
خارجة عن اختيار المكلف، وعليه فلا يمكن تعلق التكليف بتلك المصالح
392

والغايات، لفرض خروجها عن إطار القدرة (1).
ولنأخذ بالنقد عليه: وذلك لأن ما أفاده (قدس سره) بالإضافة إلى الغرض الأقصى
والغاية القصوى وإن كان صحيحا ولا مناص عنه - لوضوح أن الأفعال الواجبة
بالنسبة إليها من قبيل العلل المعدة إلى المعد لها، لفرض أنها خارجة عن اختيار
المكلف وقدرته، مثلا: النهي عن الفحشاء الذي هو الغاية القصوى من الصلاة فلا
يترتب عليها ترتب المعلول على العلة التامة، بل ترتبه عليها متوقف على مقدمة
أخرى خارجة عن اختيار المكلف وإطار قدرته - إلا أنه لا يتم بالإضافة إلى
الغرض القريب وهو حيثية الإعداد للوصول إلى الغرض الأقصى، حيث إنه لا
يتخلف عنها فيكون ترتبه عليها من ترتب المعلول على العلة التامة وللسبب على
المسبب، وبما أن السبب مقدور للمكلف فلا مانع من تعلق التكليف بالمسبب،
فيكون المقام نظير الأمر بزرع الحب في الأرض، فإن الغرض الأقصى منه - وهو
حصول النتاج - وإن كان خارجا عن اختيار المكلف إلا أن الغرض المترتب على
الزرع من غير تخلف - وهو إعداد المحل للإنتاج - مقدور له بالقدرة على سببه لا
محالة. هذا من ناحية:
ومن ناحية أخرى: بما أن هذا الغرض المترتب على تلك الأفعال ترتب
المسبب على السبب لزومي على الفرض فبطبيعة الحال يتعين تعلق التكليف به،
لكونه مقدورا من جهة القدرة على سببه، وعلى ذلك يبقى إشكال دخول
الواجبات النفسية في تعريف الواجب الغيري بحاله.
فالصحيح في المقام أن يقال: أما بناء على نظرية صاحب المعالم (قدس سره) من أن
الأمر بالمسبب عين الأمر بالسبب فيكون جميع الأفعال واجبا بالوجوب النفسي،
فليس هنا واجب آخر ليكون وجوبها لأجل ذلك الواجب، لفرض أن الأمر بالغاية
عين الأمر بتلك الأفعال (2)، إلا أن هذه النظرية خاطئة جدا ولا واقع موضوعي
لها أصلا.

(1) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 167.
(2) انظر معالم الأصول: ص 45.
393

وأما بناء على نظرية المشهور - كما هو الحق، وهي: أن حال السبب حال بقية
المقدمات فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا - فلأن المصالح والغايات المترتبة
على الواجبات ليست قابلة لتعلق التكليف بها، فإن تعلق التكليف بشئ يرتكز
على أمرين:
الأول: أن يكون مقدورا للمكلف.
الثاني: أن يكون أمرا عرفيا وقابلا لأن يقع في حيز التكليف بحسب أنظار
العرف، وتلك المصالح والأغراض وإن كانت مقدورة له للقدرة على أسبابها إلا
أنها ليست مما يفهمه العرف العام، لأنها من الأمور المجهولة عندهم وخارجة
عن أذهان عامة الناس، فلا يحسن توجيه التكليف إليها، ضرورة أن العرف لا
يرى حسنا في توجه التكليف بالانتهاء عن الفحشاء أو بإعداد النفس للانتهاء عن
كل أمر فاحش.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أنه لا مناص من الالتزام بتعلق الوجوب
النفسي بنفس الأفعال دون الغايات المترتبة عليها، فإذا يصدق عليها أنها واجبة
لا لأجل واجب آخر، وعليه فلا إشكال.
نعم، تلك الغايات داعية للمولى على إنشاء وجوب تلك الأفعال واعتبارها
على ذمة المكلف.
ثم إنه قد يتوهم أن هنا قسما آخر من الواجب لا يكون نفسيا ولا غيريا،
وذلك كالمقدمات المفوتة مثل: غسل الجنب ليلا لصوم غد، وركوب الدابة ونحوه
للإتيان بالحج في وقته بناء على استحالة الواجب التعليقي.
أما أنه ليس بواجب غيري فلأن الواجب الغيري على مسلك المشهور ما كان
وجوبه معلولا لوجوب واجب نفسي ومترشح منه، فلا يعقل وجوبه قبل إيجابه.
وأما أنه ليس بواجب نفسي فلان الواجب النفسي ما يستوجب تركه العقاب،
والمفروض أن ترك هذا الواجب لا يستوجب العقاب عليه، وإنما يستحق المكلف
على ترك ذي المقدمة.
وأما بناء على ما هو الصحيح - من أن وجوب المقدمة إنما نشأ من ملاك
394

الواجب النفسي لا من وجوبه نفسه فإنه واجب غيري، وذلك لأن ما هو المشهور
من أن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها ومترشح منه خاطئ جدا ولا واقع
موضوعي له أصلا، بداهة أن وجوبها على القول به كوجوب ذيها فعل اختياري
للمولى وصادر عنه بالإرادة والاختيار، فلا معنى لكونه معلولا ومترشحا منه -
فإنه واجب غيري، فإن المولى الملتفت إذا توجه إلى شئ ورأى فيه مصلحة
ملزمة فبطبيعة الحال اشتاق إليه، فعندئذ لو كانت له مقدمة بحيث لا يمكن الإتيان
به في ظرفه بدون الإتيان بها فلا محالة اشتاق إليها بتبع اشتياقه إلى ذيها، فهذا
الشوق الناشئ من وجود الملاك الملزم الكامن في ذيها هو المنشأ لوجوبها
الغيري. هذا كله فيما إذا علم أنه واجب نفسي أو غيري.
وأما إذا شك في ذلك فهل الأصل اللفظي أو العملي يقتضي أحدهما خاصة؟
والبحث فيه يقع في مقامين:
الأول: في الأصل اللفظي.
الثاني: في الأصل العملي.
أما المقام الأول: فمقتضى إطلاق الدليل هو الوجوب النفسي، وهذا بناء على
نظرية المشهور واضح، وذلك لأن تقييد وجوب شئ بما إذا وجب غيره يحتاج
إلى مؤنة زائدة، فلو كان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة على التقييد كان
مقتضى إطلاق كلامه هو الحكم بكون الوجوب نفسيا، يعني: أنه واجب، سواء
أكان هناك واجب آخر أم لا.
وأما بناء على نظرية الشيخ (قدس سره) من استحالة رجوع القيد إلى الهيئة ولزوم
رجوعه إلى المادة فيمكن تقريب التمسك بالإطلاق بوجهين:
الأول: فيما إذا كان الوجوب مستفادا من الجملة الاسمية، كقوله (عليه السلام): " غسل
الجمعة فريضة من فرائض الله " (1) وما شاكل ذلك، وفي مثله لا مانع من التمسك

(1) لم نعثر عليه في المتون الروائية، والموجود فيها: " غسل الجنابة فريضة من فرائض الله "
فانظر مستدرك الوسائل: ج 1 ص 446 ب 1 من أبواب الجنابة ح 1، وهو المطابق لما في
تقرير آخر لدرسه قرره السيد بحر العلوم في مصابيح الأصول: ج 1 ص 352. والظاهر أنه
اشتباه من النساخ وسهو القلم.
395

بإطلاق هذه الجملة لإثبات كون الوجوب نفسيا، إذ لو كان غيريا لكان على
المولى نصب قرينة على ذلك، وحيث إنه لم ينصب مع كونه في مقام البيان
فالإطلاق يقتضي عدمه.
الثاني: التمسك بإطلاق دليل الواجب، كدليل الصلاة أو نحوها لدفع ما يحتمل
أن يكون قيدا له.
بيان ذلك: أن المولى إذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينة على تقييد
الواجب بقيد ففي مثله إذا شك في تقييده بشئ، كما إذا شك في تقييد الصلاة
- مثلا - بالوضوء فلا مانع من التمسك بإطلاق قوله: " صل " لإثبات عدم تقييدها
به، ولازم ذلك هو عدم كون الوضوء واجبا غيريا. وقد ذكرنا في محله (1): أن
الأصول اللفظية تثبت لوازمها.
فالنتيجة: أنه على ضوء كلتا النظريتين لا مانع من التمسك بالإطلاق لإثبات
كون الواجب نفسيا.
نعم، تفترق نظرية المشهور عن نظرية الشيخ (قدس سره) في كيفية التمسك به كما
عرفت. ومن هنا لم ينسب إلى الشيخ (رحمه الله) إنكار الواجب الغيري على ما نعلم.
وأما المقام الثاني - وهو التمسك بالأصول العملية عند عدم وجود الأصول
اللفظية - فالكلام فيه يقع من وجوه:
الأول: ما إذا علم المكلف بوجوب شئ إجمالا في الشريعة المقدسة وتردد
بين كونه واجبا نفسيا أو غيريا، وهو يعلم بأنه لو كان واجبا غيريا ومقدمة
لواجب آخر لم يكن ذلك الواجب فعليا، وذلك كما إذا علمت الحائض بوجوب
الوضوء عليها وترددت بين كون وجوبه نفسيا أو غيريا، وهي تعلم بأنه لو كان
واجبا غيريا ومقدمة للصلاة لم تكن الصلاة واجبة عليها فعلا، وفي مثل هذا

(1) انظر مصباح الأصول: ج 3 ص 151 - 155، وتقدم في ص 195 فراجع.
396

الفرض لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عقلا ونقلا.
بيان ذلك: هو أن المكلف لا يعلم بوجوب فعلي على كل تقدير، فإنه على
تقدير وجوبه نفسيا وإن كان فعليا، إلا أنه على تقدير وجوبه الغيري فلا يكون
بفعلي، لعدم فعلية وجوب ذيه، ومعه لا محالة يشك في الوجوب الفعلي، ومن
الطبيعي أن المرجع في مثله هو البراءة الشرعية والعقلية.
وهذا هو مراد المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من الرجوع إلى البراءة فيه (1)، لا
الوجه الثاني الآتي كما نسب إليه شيخنا الأستاذ (2) (قدس سره).
الثاني: ما إذا علم المكلف بوجوب شئ فعلا وتردد بين أن يكون نفسيا أو
غيريا، وهو يعلم أنه لو كان غيريا ومقدمة لواجب آخر فوجوب ذلك الواجب
فعلي يتوقف حصوله على تحقق ذلك الشئ في الخارج، ومثاله: هو ما إذا علم
المكلف - مثلا - بتحقق النذر منه ولكن تردد متعلقه بين الوضوء والصلاة، فإن كان
الأول فالوضوء واجب نفسا، وإن كان الثاني فإنه واجب غيرا ففي مثل ذلك يعلم
المكلف بوجوب الوضوء على كل تقدير، ولا يمكن له الرجوع إلى البراءة عن
وجوبه، لفرض علمه التفصيلي به، ولا أثر لشكه في النفسي والغيري أصلا.
وإنما الكلام في جواز الرجوع إلى البراءة عن وجوب الصلاة وعدم جوازه.
الصحيح: هو الأول، والسبب في ذلك: هو أن المكلف وإن علم إجمالا
بوجوب نفسي مردد بين تعلقه بالصلاة أو الوضوء إلا أن العلم الإجمالي إنما يكون
مؤثرا فيما إذا تعارضت الأصول في أطرافه، وأما إذا لم تتعارض فيها فلا أثر له.
وبما أن أصالة البراءة في المقام لا تجري بالإضافة إلى وجوب الوضوء، لفرض
العلم التفصيلي به واستحقاق العقاب على تركه على كلا التقديرين - أي: سواء
أكان وجوبه نفسيا أم كان غيريا - فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن
وجوب الصلاة، للشك فيه وعدم قيام حجة عليه، ومعه لا محالة يكون العقاب
على تركها عقابا بلا بيان وحجة.

(1) انظر كفاية الأصول: ص 138.
(2) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 171.
397

وبكلمة واضحة: أن الانحلال الحقيقي في المقام وإن كان غير موجود إلا أن
الانحلال الحكمي موجود، كما هو الحال في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،
ولكن الانحلال الحكمي في مسألتنا هذه لا بملاك الانحلال الحكمي هناك.
بيان ذلك: أما في تلك المسألة فقد ذكرنا فيها: أن العلم الإجمالي قد تعلق
بالماهية المرددة بين لا بشرط وبشرط لا، وهذا العلم الإجمالي غير قابل
للانحلال حقيقة من هذه الناحية، حيث إن تعلقه بالماهية المزبورة مقوم له فكيف
يعقل أن يكون موجبا لانحلاله؟ ولكن حيث إن الأصل لا يجري في أحد طرفي
هذا العلم - وهو الإطلاق - فلا مانع من جريانه في طرفه الآخر وهو التقييد، ومعه
لا أثر لهذا العلم الإجمالي (1)، وهذا هو معنى انحلاله هناك حكما، ومرد هذا
الانحلال إلى التفكيك بين أجزاء الواجب الواحد في مرحلة التنجيز بعد عدم
إمكان التفكيك بينها في مرحلتي السقوط والثبوت أصلا.
وأما في مسألتنا هذه فبما أن المكلف يعلم بوجوب الوضوء تفصيلا وإن لم
يعلم أنه لنفسه أو لغيره فلا يمكن له الرجوع إلى البراءة عنه، لعلمه باستحقاق
العقاب على تركه على كلا التقديرين. وأما وجوب الصلاة فبما أنه لا يعلم به فلا
مانع من الرجوع إلى البراءة عنه، الشرعية والعقلية، لعدم قيام بيان عليه، ومعه
لا محالة يكون العقاب على تركها عقابا من دون بيان، ولا تعارض أصالة البراءة
عنه أصالة البراءة عن وجوب الوضوء نفسيا حيث إنه مشكوك فيه، وذلك لما
عرفت من عدم جريانها في طرف الوضوء من ناحية العلم بوجوبه على كل تقدير،
واستحقاق العقاب على تركه كذلك (2)، فإذا لا مانع من جريانها في طرف الصلاة
بناء على ما حققناه: من أن تنجيز العلم الإجمالي يرتكز على تعارض الأصول
في أطرافه، ومع عدمه فلا أثر له، وبما أن في المقام لا تعارض بين الأصلين
فلا يكون منجزا (3).

(1) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 439 - 441.
(2) قد تقدم آنفا فلاحظ.
(3) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 430.
398

وقد تحصل من ذلك: أن العلم الإجمالي بوجوب نفسي مردد بين تعلقه
بالوضوء أو الصلاة وإن لم ينحل حقيقة، إلا أنه ينحل حكما من ناحية عدم
جريان الأصل في أحد طرفيه. هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أن ملاك عدم جريانه فيه هو كونه معلوم الوجوب على كل
تقدير، وبهذه النقطة يمتاز ما نحن فيه عن مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، حيث
إن هناك عدم جريان الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي من ناحية عدم الأثر،
لا من ناحية كون التكليف به معلوما.
ونتيجة ذلك: هي التفكيك في حكم واحد في مرحلة التنجيز كوجوب الصلاة
في المقام، حيث إنه منجز من ناحية وجوب الوضوء، لما عرفت (1) من استحقاق
العقاب على تركها المستند إلى ترك الوضوء، وغير منجز من ناحية أخرى، لما مر
من وجود المؤمن من غير تلك الناحية.
الثالث: ما إذا علم المكلف بوجوب كل من الفعلين في الخارج وشك في أن
وجود أحدهما مقيد بوجود الآخر، مع علمه بتماثل وجوبيهما من حيث الإطلاق
والاشتراط من بقية الجهات - أي: أنهما متساويان إطلاقا وتقييدا، كوجوب
الوضوء والصلاة مثلا - ففي مثل ذلك قد أفاد شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن الشك حيث إنه
متمحض في تقييد ما علم كونه واجبا نفسيا كالصلاة بالواجب الآخر - وهو
الوضوء في مفروض المثال - فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عن ذلك التقييد،
وذلك لفرض أن وجوب الصلاة معلوم، وكذا وجوب الوضوء، والشك إنما هو في
خصوص تقييد الصلاة بالوضوء، ومن الطبيعي أن مقتضى أصالة البراءة عدمه (2).
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) غير تام، وذلك لأن أصالة البراءة عن التقييد
المذكور معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء بوجوب نفسي، وذلك لأن
القدر المعلوم لنا تفصيلا إنما هو أصل تعلق الوجوب بالوضوء بوجوب جامع بين

(1) قد تقدم آنفا فلاحظ.
(2) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 221، وأجود التقريرات: ج 1 ص 170.
399

النفسي والغيري، وأما خصوصية كونه نفسيا أو غيريا فهي مشكوكة، وبما أن العلم
الإجمالي بإحدى الخصوصيتين موجود فهو مانع عن جريان أصالة البراءة عن
كلتيهما، فإذا لا محالة يكون المرجع هو قاعدة الاحتياط.
وإن شئت قلت: إن وجوب الوضوء غيريا - أي: كونه قيدا للصلاة - وإن كان
مشكوكا فيه في نفسه ولا مانع من جريان الأصل فيه في ذاته إلا أن وجوبه نفسيا
أيضا كذلك، وعليه فلا مانع من جريان الأصل فيه أيضا في ذاته، وبما أنه لا
يمكن جريان كلا الأصلين معا لاستلزامه المخالفة القطعية العملية فبطبيعة الحال
المرجع هو قاعدة الاحتياط، وهو الإتيان بالوضوء أولا ثم الإتيان بالصلاة، ومرد
هذا - بحسب النتيجة - إلى أن وجوب الوضوء غيري لا نفسي.
الرابع: ما إذا علم المكلف بوجوب كل من الفعلين وشك في تقييد أحدهما
بالآخر، مع عدم العلم بالتماثل بينهما من حيث الإطلاق والاشتراط - وذلك كما
إذا علم باشتراط الصلاة بالوقت وشك في اشتراط الوضوء به من ناحية الشك في
أن وجوبه نفسي أو غيري فعلى الأول لا يكون مشروطا به، وعلى الثاني
فمشروط، لتبعية الوجوب الغيري للنفسي في الإطلاق والاشتراط - ففي هذه
الصورة الشك يكون من عدة جهات، وقد أفاد شيخنا الأستاذ (قدس سره) بجريان البراءة
من جميع تلك الجهات:
الأولى: الشك في تقييد الصلاة بالوضوء وهو مجرى للبراءة، فالنتيجة: هي
صحة الصلاة بدون الوضوء.
الثانية: الشك في وجوب الوضوء قبل الوقت الذي هو شرط لوجوب الصلاة،
وهو أيضا مرجع للبراءة، فالنتيجة من هذه الجهة: نتيجة الغيرية من ناحية عدم
ثبوت وجوب الوضوء قبل الوقت في مفروض المثال.
الثالثة: الشك في وجوب الوضوء بعد الوقت بالإضافة إلى من أتى به قبله،
ومرجع هذا الشك إلى أن وجوب الوضوء بعد الوقت مطلق أو مشروط بما إذا لم
400

يؤت به قبله؟ وبما أن وجوبه مشكوك فيه بالإضافة إلى من أتى به قبله فلا مانع
من الرجوع إلى البراءة عنه (1).
فالنتيجة: هي أن المكلف مخير بين الإتيان بالوضوء قبل الوقت وبعده، قبل
الصلاة وبعدها.
ولنأخذ بالنظر في هذه الجهات، بيان ذلك: أن وجوب الوضوء في مفروض
المثال المردد بين النفسي والغيري إذا كان نفسيا فلا يخلو من أن يكون مقيدا
بإيقاعه قبل الوقت، أو يكون مطلقا. وأما وجوبه الغيري فهو مقيد بما بعد الوقت
على كل تقدير.
وعلى الأول فلا يمكن جريان البراءة عن تقييد الصلاة بالوضوء، لمعارضته
بجريانها عن وجوبه النفسي قبل الوقت، وذلك للعلم الإجمالي بأنه إما واجب
نفسي أو واجب غيري، وجريان البراءة عن كليهما مستلزم للمخالفة القطعية العملية.
وقد ذكرنا في محله: أنه لا فرق في تنجيز العلم الإجمالي وسقوط الأصول
عن أطرافه بين أن تكون أطرافه من الدفعيات أو التدريجيات (2)، وعلى ذلك
فلابد من الاحتياط والإتيان بالوضوء قبل الوقت، فإن بقي إلى ما بعده أجزأ عن
الوضوء بعده ولا يجب عليه الإتيان به ثانيا، وإلا وجب عليه ذلك بمقتضى حكم
العقل بالاحتياط.
فالنتيجة: هي نتيجة الحكم بالوجوب النفسي والغيري معا من باب الاحتياط.
وعلى الثاني: فلا معنى لإجراء البراءة عن وجوب الوضوء قبل الوقت، وذلك
لعدم احتمال تقيده به. وقد ذكرنا غير مرة: أن مفاد أصالة البراءة رفع الضيق عن
المكلف، لا رفع السعة والإطلاق (3)، وأما بعد الوقت فيحكم العقل بوجوب الوضوء،
وذلك للعلم الإجمالي بوجوبه إما نفسيا أو غيريا، ولا يمكن إجراء البراءة عنهما

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 170 - 171.
(2) راجع مصباح الأصول: ج 2 ص 368 - 372.
(3) منها ما في مصباح الأصول: ج 2 ص 430 فراجع.
401

معا، ومعه يؤثر العلم الإجمالي فيجب الاحتياط.
نعم، لو شككنا في وجوب إعادة الوضوء بعد الوقت على تقدير كونه غيريا
أمكن رفعه بأصالة البراءة، وذلك لأن تقييد الوضوء بوقوعه بما بعد الوقت على
تقدير كون وجوبه غيريا بما أنه مجهول فلا مانع من إجراء البراءة عنه، وذلك لأن
وجوبه إن كان نفسيا فهو غير مقيد بذلك كما هو واضح، وإن كان غيريا فالمقدار
المعلوم إنما هو تقيد الصلاة به. وأما تقيدها به بخصوصية أن يؤتى به بعد الوقت
فهو مجهول فيدفع بالبراءة.
وقد تحصل من ذلك: أن ما أفاده (قدس سره) من الرجوع إلى أصالة البراءة في
الجهات المزبورة لا يتم إلا في الجهة الأخيرة خاصة.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي: أن المرجع في جميع الصور
المتقدمة هو قاعدة الاحتياط دون قاعدة البراءة، إلا في خصوص الصورة الأولى.
آثار الواجب النفسي والغيري
لا إشكال في أن ترك الواجب النفسي يوجب استحقاق العقاب والذم، حيث
إنه تمرد وطغيان على المولى، وخروج عن رسم العبودية والرقية.
كما أنه لا إشكال في أن ترك الواجب الغيري لا يوجب استحقاق العقاب
عليه. نعم، إن تركه حيث يستلزم ترك الواجب النفسي فالعقاب عليه لا على تركه
" الواجب الغيري ".
كما أنه لا إشكال في ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي، وإنما
الإشكال والكلام في موردين:
الأول: في وجه ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي هل هو
بالاستحقاق أو بالتفضل؟
الثاني: في ترتب الثواب على الواجب الغيري.
أما المورد الأول: ففيه خلاف، فذهب معظم الفقهاء والمتكلمين (1) إلى أنه

(1) انظر كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص 433 (م 5) في الثواب والعقاب وظاهره
اتفاق الإمامية على ذلك.
402

بالاستحقاق. وذهب جماعة منهم: المفيد (قدس سره) إلى أنه بالتفضل بدعوى: أن العبد
ليس أجيرا في عمله للمولى ليستحق الثواب عليه، وإنما جرى ومشى على طبق
وظيفته ومقتضى عبوديته ورقيته، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتفضل عليه
بإعطاء الثواب والأجر (1).
والصحيح في المقام أن يقال: إن أراد القائلون بالاستحقاق أن العبد بعد قيامه
بامتثال الواجب وإظهار العبودية والرقية يستحق على المولى الثواب - كاستحقاق
الأجير للأجرة على المستأجر بحيث لو لم يقم المولى بإعطاء الثواب له لكان ذلك
ظلما منه - فهو مقطوع البطلان، بداهة أن إطاعة العبد لأوامر مولاه ونواهيه جرى
منه على وفق وظيفته ورسم عبوديته ورقيته، ولازمة بحكم العقل المستقل، ولا
صلة لذلك بباب الإجارة أبدا، كيف؟ فإن مصالح أفعاله ومفاسدها تعودان إليه لا
إلى المولى.
ومن ذلك يظهر حال التوبة، فإن ما ورد من " أن التائب عن ذنبه كمن لا ذنب
له " (2) ليس معنى هذا أن التائب يستحق الغفران على المولى كاستحقاق الأجير
للأجرة بإتيان العمل المستأجر عليه، لوضوح أن التوبة مقتضى وظيفة العبودية،
ومن هنا يستقل العقل بها، حيث إن حقيقتها رجوع العبد إلى الله تعالى، وخروجه
عن التمرد والعصيان، ودخوله في الإطاعة والإحسان.
وإن أرادوا بذلك أن العبد بقيامه بامتثال أوامر المولى ونواهيه يصير أهلا
لذلك فلو تفضل المولى بإعطاء الثواب له كان في محله ومورده فهو متين جدا ولا
مناص عنه، والظاهر بل المقطوع به أنهم أرادوا بالاستحقاق هذا المعنى. وعلى
هذا الضوء فقد أصبح النزاع المزبور لفظيا كما لا يخفى.

(1) راجع أوائل المقالات للشيخ المفيد: ص 111، ضمن القول في نعيم الجنة أهو تفضل أم
ثواب؟ طبع المؤتمر العالمي.
(2) انظر أصول الكافي: ج 2 ص 435 ح 1، كتاب الإيمان والكفر.
403

وأما المورد الثاني - وهو ترتب الثواب على الواجب الغيري -: فلا ريب في
عدم استحقاقه الثواب على امتثاله بمعناه الأول وإن قلنا به فرضا في الواجب
النفسي، وهذا واضح. وأما الاستحقاق بمعناه الثاني فالظاهر أنه لا شبهة فيه إذا
أتى به بقصد الامتثال والتوصل.
والسبب في ذلك: هو أن الملاك فيه كون العبد بصدد الإطاعة والانقياد والعمل
بوظيفة العبودية والرقية ليصبح أهلا لذلك، ومن المعلوم أنه بإتيانه المقدمة بداعي
التوصل والامتثال قد أصبح أهلا له، بل الأمر كذلك ولو لم نقل بوجوبها، ضرورة
أن الإتيان بها بهذا الداعي مصداق لإظهار العبودية والإخلاص والانقياد
والإطاعة. نعم، لو جاء بها بدون قصد التوصل والامتثال فقد فاته الثواب، حيث
إنه لم يصر بذلك أهلا له ليكون في محله، ولم يستحق شيئا. كما أنه لو أتى
بالواجب النفسي التوصلي بدون ذلك لم يترتب الثواب عليه وإن سقط الأمر.
وعلى ضوء ذلك هل يستحق العبد على الإتيان بالمقدمة وذيها ثوابين أو
ثوابا واحدا؟ وجهان، بل قولان.
فذهب صاحب الكفاية (1) وشيخنا الأستاذ (2) (قدس سرهما) إلى الثاني، بدعوى: أن الأمر
الغيري بما هو أمر غيري لا واقع موضوعي له إلا كونه واقعا في طريق التوصل إلى
الواجب النفسي فلا إطاعة له إلا مع قصد الأمر النفسي، وحينئذ فالآتي بالواجب
الغيري إن قصد به التوصل إلى الواجب النفسي فهو شارع في امتثال الأمر النفسي،
فيثاب على إطاعته، وإلا فلا.
ولكن الصحيح: هو القول الأول، وذلك لما عرفت من أن ملاك ترتب الثواب
على امتثال الواجب الغيري هو أنه بنفسه مصداق للانقياد والتعظيم، وإظهار لمقام
العبودية، مع قطع النظر عن إتيانه بالواجب النفسي، ولذا لو جاء بالمقدمة بقصد
التوصل ثم لم يتمكن من الإتيان بذيلها لمانع من الموانع استحق الثواب عليها بلا

(1) انظر كفاية الأصول: ص 138 - 139.
(2) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 225 - 226، وأجود التقريرات: ج 1 ص 174.
404

إشكال، وهذا دليل على أن الإتيان بها بنفسه منشأ للثواب وموجب له.
ثم إنه قد يشكل في الطهارات الثلاث من وجهين:
الأول: أنه لا شبهة في استحقاق الآتي بها الثواب، مع أن الأمر المتعلق بها
غيري ولا يترتب على امتثاله ثواب، كما أنه لا عقاب على تركه. والجواب عنه
قد ظهر مما تقدم (1).
الثاني: أنه لا ريب في عبادية الطهارات الثلاث ولزوم الإتيان بها بقصد
التقرب، وإلا لم تقع صحيحة. ومن هنا لا يكون حالها حال بقية المقدمات في كون
مطلق وجودها في الخارج مقدمة، وإنما الإشكال والكلام في منشأ عباديتها، ولا
يمكن أن يكون منشؤها الأوامر الغيرية المتعلقة بها، ضرورة أن تلك الأوامر أوامر
توصلية لا تقتضي عبادية متعلقاتها.
أضف إلى ذلك: أن الأمر الغيري إنما يتعلق بما يتوقف عليه الواجب،
والمفروض أن الطهارات الثلاث بعنوان كونها عبادة كذلك، وعليه فالأمر الغيري
المتعلق بها بطبيعة الحال يتعلق بعنوان أنها عبادة، ومعه كيف يعقل أن يكون منشأ
لعباديتها؟
وأجاب عن هذا الوجه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): بأن منشأ عباديتها إنما
هو الأمر النفسي الاستحبابي المتعلق بذواتها، فإذا لا إشكال من هذه الناحية (2).
ولكن أورد عليه شيخنا الأستاذ (قدس سره) بوجوه:
الأول: أن ما أفاده صاحب الكفاية (قدس سره) لو تم فإنما يتم في خصوص الوضوء
والغسل حيث ثبت استحبابهما شرعا، وأما التيمم فلا دليل على استحبابه في
نفسه، فإذا يبقى الإشكال بالإضافة إليه بحاله (3).
وفيه: أنه يمكن استفادة استحباب التيمم من قوله (عليه السلام): " التراب أحد
الطهورين " (4) بضميمة ما دل من الإطلاقات على استحباب الطهور في نفسه.

(1) مر ذكره آنفا فلاحظ.
(2) كفاية الأصول: ص 139 - 140.
(3) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 175.
(4) وسائل الشيعة: ج 2 ص 381 ب 21 من أبواب التيمم ح 1، وفيه: " فإن التيمم أحد الطهورين ".
405

فالنتيجة: أن التيمم بما أنه طهور فهو مستحب بمقتضى تلك الإطلاقات.
الثاني: أن الطهارات الثلاث بما أنها مقدمة متصفة بالوجوب الغيري فعلا
ومعه لا يمكن بقاء الأمر النفسي المتعلق بها بحاله لوجود المضادة بينهما فلابد
عندئذ من الالتزام باندكاكه في ضمن الوجوب، فإذا كيف يمكن أن يكون منشأ
لعباديتها؟
وفيه: أن حال هذا المورد حال غيره من موارد الاستحباب التي عرض عليها
الوجوب من ناحية نذر أو شبهه، فكما أن في تلك الموارد يندك الأمر الاستحبابي
في ضمن الأمر الوجوبي فيتحصل من ذلك أمر واحد وجوبي مؤكد، ويكون ذلك
الأمر الواحد أمرا عباديا، لأن كلا منهما يكتسب من الآخر صفة بعد عدم إمكان
بقاء كل منهما بحده الخاص، على أنه يكفي في عباديتها محبوبيتها في أنفسها
وإن لم يبق أمرها الاستحبابي بإطاره الخاص.
أضف إلى ذلك: أنه لا اندكاك ولا تبدل في البين على ضوء نظريتنا: من أنه
لا فرق بين الوجوب والاستحباب إلا في جواز الترك وعدم جوازه، وعليه فعند
عروض الوجوب يتبدل الجواز بعدمه.
وإن شئت قلت: إن الأمر الغيري إن تعلق بها بداعي أمرها الاستحبابي كان
متعلق أحدهما غير ما تعلق به الآخر، وإن تعلق بذواتها فعندئذ وإن كان متعلقهما
واحدا إلا أنك عرفت أنه لا تنافي بينهما، ولا يوجب زوال الاستحباب بالمرة.
الثالث: أن الأمر النفسي الاستحبابي المتعلق بها كثيرا ما يكون مغفولا عنه،
ولا سيما للعامي، بل ربما يكون الشخص معتقدا عدمه باجتهاد أو تقليد أو نحو
ذلك، ومع هذا يكون الإتيان بها بداعي التوصل بأمرها الغيري صحيحا، فلو كان
منشأ عباديتها ذلك الأمر النفسي لم تقع صحيحة (1).
وقد أجاب في الكفاية عن هذا الإشكال: بأن الأمر الغيري لا يدعو إلا إلى

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 175.
406

ما هو المقدمة، والمفروض في المقام أن ما هو المقدمة عبارة عن الطهارات
الثلاث المأمور بها بالأمر النفسي، فيكون قصد امتثال هذا الأمر النفسي حاصلا
ضمنا عند قصد امتثال الأمر الغيري وإن لم يلتفت المكلف إلى هذا الأمر تفصيلا
فضلا عن قصده (1).
وفيه: أن ما أفاده (قدس سره) من الجواب غير تام، والسبب في ذلك: هو أن قصد
الأمر النفسي لو كان مقوما للمقدمية لم يعقل تحققها مع الغفلة عنه رأسا، مع أنه لا
شبهة في تحقق الطهارات الثلاث مع القطع بعدم الأمر النفسي لها، على أن لازم
ذلك هو الحكم بصحة صلاة الظهر إذا أتى المكلف بها بقصد أمرها الغيري، ومقدمة
لصلاة العصر مع الغفلة عن وجوبها في نفسه، وهو ضروري الفساد.
فالنتيجة: أنه لا يمكن التفصي عن هذا الإشكال بناء على حصر عبادية
الطهارات الثلاث بأوامرها النفسية، بل إن لازم ذلك هو بطلان صلاة من يعتقد
بعدم استحباب الوضوء في نفسه، فإنه إذا كان معتقدا بعدم استحبابه امتنع قصد
امتثاله ولو ضمنا وارتكازا، وبدونه يقع الوضوء باطلا فتبطل الصلاة، وهذا مما لا
يمكن الالتزام به.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قدس سره) أجاب (2) عن أصل الإشكال. وحاصل ما أفاده (قدس سره):
هو أنه لا وجه لحصر منشأ عبادية الطهارات الثلاث في الأمر الغيري والأمر
النفسي الاستحبابي ليرد الإشكال على كل منهما، بل هناك منشأ ثالث وهو
الموجب لعباديتها.
بيان ذلك: أن الأمر النفسي المتعلق بالصلاة - مثلا - كما ينحل إلى أجزائها
فيتعلق بكل جزء منها أمر نفسي ضمني - وهو الموجب لعباديته - فلا يسقط إلا
بقصد التقرب به فكذلك ينحل إلى شرائطها وقيودها، فيتعلق بكل شرط منها أمر
نفسي ضمني، وهو الموجب لعباديته.
فالنتيجة: أن الموجب للعبادية في الأجزاء والشرائط واحد.

(1) كفاية الأصول: ص 140.
(2) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 228.
407

ثم أورد على نفسه: بأن لازم ذلك هو القول بعبادية الشرائط مطلقا، من دون
فرق بين الطهارات الثلاث وغيرها، لفرض أن الأمر النفسي تعلق بالجميع على
نحو واحد، فإذا ما هو الفارق بينها وبين غيرها من الشرائط؟
وأجاب عن ذلك: بأن الفارق بينهما هو أن الغرض من الطهارات الثلاث
- وهو رفع الحدث - لا يحصل إلا إذا أتى المكلف بها بقصد القربة دون غيرها من
الشرائط، ولا مانع من اختلاف الشرائط في هذه الناحية، بل لا مانع من اختلاف
الأجزاء كذلك في مرحلة الثبوت وإن لم يتفق ذلك في مرحلة الإثبات (1).
ولنأخذ بالنقد عليه، وهو ما ذكرناه في أول بحث مقدمة الواجب، وحاصله:
هو أن الأمر النفسي المتعلق بالصلاة - مثلا - إنما تعلق بأجزائها وتقيدها بشرائطها،
وأما نفس الشرائط والقيود فهي خارجة عن متعلق الأمر، وإلا لم يبق فرق بين
الجزء والشرط أصلا (2).
وعلى الجملة: فلا شبهة في أن الشرائط خارجة عن متعلق الأمر، ولذا قد
يكون الشرط غير اختياري، على أنها لو كانت داخلة في متعلقه فكيف تتصف
بالوجوب الغيري؟ وقد تقدم أنه لا مقتضى لاتصاف المقدمات الداخلية
بالوجوب الغيري.
فما أفاده (قدس سره) من التحقيق خاطئ جدا، ولا واقع موضوعي له أصلا.
والصحيح في المقام أن يقال: إن منشأ عبادية الطهارات الثلاث أحد أمرين
على سبيل منع الخلو:
أحدهما: قصد امتثال الأمر النفسي المتعلق بها مع غفلة المكلف عن كونها
مقدمة لواجب، أو مع بنائه على عدم الإتيان به، كاغتسال الجنب - مثلا - مع غفلته
عن إتيان الصلاة بعده، أو قاصد بعدم الإتيان بها، وهذا يتوقف على وجود الأمر
النفسي، وقد عرفت أنه موجود (3).

(1) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 228.
(2) قد تقدم في ص 302 فراجع.
(3) قد تقدم آنفا فلاحظ.
408

وثانيهما: قصد التوصل بها إلى الواجب فإنه أيضا موجب لوقوع المقدمة
عبادة ولو لم نقل بوجوبها شرعا، لما عرفت في بحث التعبدي والتوصلي من أنه
يكفي في تحقق قصد القربة إتيان الفعل مضافا به إلى المولى وإن لم يكن أمر في
البين (1). وعليه فالآتي بالطهارات الثلاث بقصد التوصل بها إلى الصلاة أو نحوها
فقد أوجد المقدمة في الخارج وإن لم يكن ملتفتا إلى الأمر النفسي المتعلق بها
وقاصدا لامتثاله. كما أن الآتي بها بقصد أمرها النفسي موجد للمقدمة وإن لم يكن
ملتفتا إلى المقدمية.
وقد تحصل من ذلك: أن لزوم الإتيان بالطهارات الثلاث عبادة لم ينشأ من
ناحية أمرها الغيري، بل من ناحية كون المقدمة عبادة، سواء فيه القول بوجوب
المقدمة أو القول بعدم وجوبها.
وبكلمة أخرى: أن مقدمية الطهارات الثلاث تنحل إلى ذوات الأفعال وقصد
التقرب بها، فإذا جاء المكلف بالأفعال في الخارج ولم يقصد بها التقرب إلى
المولى فلم يوجد المقدمة خارجا، فلا تصح عندئذ العبادة المشروطة بها. وأما إذا
قصد بها التقرب - سواء كان من ناحية قصد الأمر النفسي المتعلق بها، أو من ناحية
قصد التوصل بها إلى الواجب - فالمقدمة قد وجدت في الخارج، ومعه تصح
العبادة المشروطة بها، ولا يفرق في ذلك بين القول بوجوب المقدمة والقول بعدمه.
فالنتيجة: أن الأمر الغيري لا يعقل أن يكون منشأ لعباديتها.
وقد ظهر مما ذكرناه أمران:
الأول: أنه لا إشكال في صحة الإتيان بالوضوء والغسل بداعي أمرهما
النفسي ومحبوبيتهما كذلك، أو بداعي التوصل إلى الواجب النفسي قبل الوقت، لما
عرفت من أن إتيانهما كذلك لا يتوقف على عروض الوجوب الغيري عليهما (2).
كما أنه لا إشكال في الاكتفاء بهما بعد دخول الوقت، لفرض أن المقدمة - وهي

(1) تقدم في ص 179 - 180 فراجع.
(2) قد تقدم آنفا فلاحظ.
409

الوضوء والغسل العباديان - قد تحققت. وكذا لا إشكال في صحة التيمم بداعي
أمره النفسي قبل دخول الوقت والاكتفاء به بعده إذا بقي موضوعه وهو عدم
وجدان الماء. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه لا شبهة في صحة الإتيان بها - أي: الطهارات الثلاث -
بقصد التوصل إلى الواجب بعد الوقت، وإنما الكلام في صحة الإتيان بها بعده بقصد
أمرها الاستحبابي، لما قد يتوهم من اتصافها بالوجوب الغيري بعد دخول الوقت،
ولازمه اندكاك الأمر الاستحبابي النفسي في ضمن الأمر الوجوبي الغيري وعدم
بقائه حتى يكون داعيا للإتيان بها.
وأجاب عن ذلك السيد الطباطبائي (قدس سره) في عروته: بأنه لا مانع من اجتماع
الوجوب الغيري والاستحباب النفسي في شئ واحد من جهتين بناء على ما
اختاره (قدس سره) من جواز اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد من جهتين (1)، وبما أن
في المقام الجهة متعددة فإن جهة الوجوب الغيري - وهي المقدمية - غير جهة
الاستحباب النفسي وهي ذوات الأفعال، وعليه فلا مانع من اجتماعهما، ولا
يوجب ذلك اندكاك الاستحباب في الوجوب.
وغير خفي أن تعدد الجهة إنما يجدي في جواز اجتماع الأمر والنهي إذا كانت
الجهة تقييدية، وأما إذا كانت تعليلية كما في المقام فلا أثر لتعددها أصلا.
والصحيح في الجواب: هو ما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة: من أن
عروض الوجوب الغيري على ما كان مستحبا في نفسه بناء على نظريتنا لا يوجب
اندكاك الاستحباب وتبدله بالوجوب، بل هو باق على محبوبيته وملاكه الكامنين
في الفعل، وإنما يرفع حده وهو الترخيص في الترك، وعليه فإذا أتى المكلف بها
بداعي المحبوبية فقد تحققت العبادة (2).

(1) انظر العروة الوثقى: ج 1 فصل في الوضوءات المستحبة (مسألة 6).
(2) وفي تعليقته الشريفة هنا على الأجود مزيد فائدة واليك نصه:
(اندكاك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي عند عروض الوجوب على ما كان مستحبا في
نفسه مبني على أن يكون التمايز بينهما في الاختلاف في المرتبة بعد اشتراكهما في جامع
الطلب. وأما بناء على ما تقدم من كون التمايز ناشئا من الاختلاف في الملاك المستلزم
للترخيص في الترك تارة، ولعدم الترخيص فيه أخرى من دون أن الطلب في أحدهما أضعف
من الآخر فلا تبدل في المرتبة أيضا ليندك أحدهما في الآخر. نعم، عند عروض الوجوب
لحدوث الملاك الملزم بعدما لم يكن يتبدل الترخيص في الترك بعدم الترخيص فيه، لكنه
أجنبي عن التبدل في نفس الحكم واندكاك الاستحباب في ضمن الوجوب). أجود
التقريرات: ج 1 ص 177.
410

الثاني: أن المكلف إذا جاء بالطهارات الثلاث بداعي التوصل إلى الواجب
النفسي وكان غافلا عن محبوبيتها النفسية ثم بدا له في الإتيان بذلك الواجب فهل
تقع الطهارات عندئذ عبادة؟
فقد ظهر مما ذكرنا: أن ذلك لا يكون مانعا عن وقوعها عبادة. أما بناء على
وجوب المقدمة مطلقا فواضح، وأما بناء على عدم وجوبها كذلك كما هو المختار،
أو بناء على وجوب خصوص المقدمة الموصلة فهي وإن لم تتصف بالوجوب
الغيري إلا أنك عرفت أن وقوعها عبادة لا يتوقف على وجوبها الغيري، حيث
يكفي في ذلك الإتيان بها بداعي التوصل أو بداعي الأمر الاستحبابي النفسي (1)،
والمفروض في المقام: هو أن المكلف قد أتى بها بداعي التوصل.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أن منشأ عبادية الطهارات الثلاث أحد أمرين
على سبيل منع الخلو:
1 - قصد امتثال الأمر الاستحبابي النفسي.
2 - قصد التوصل بها إلى الواجب النفسي، ولا صلة للأمر الغيري بعباديتها أصلا.
الأقوال حول وجوب المقدمة
لا شبهة في تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط بناء
على ثبوت الملازمة بينهما، فلو كان وجوب ذيها مطلقا لكان وجوب مقدمته أيضا
كذلك، وإن كان مشروطا كان وجوبها كذلك. هذا من ناحية.

(1) تقدم في ص 407 فلاحظ.
411

ومن ناحية أخرى: أنه بناء على الملازمة المزبورة هل الواجب مطلق
المقدمة، أو خصوص حصة خاصة منها؟
وعلى الثاني اختلفوا في اعتبار الخصوصية فيها على أقوال:
أحدها: ما عن صاحب المعالم (قدس سره) من اشتراط وجوب المقدمة بالعزم
والإرادة على إتيان ذيها (1).
وثانيها: ما نسب إلى شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) من: أن الواجب هو المقدمة
التي قصد بها التوصل إلى الواجب، والفرق بين هذا القول والقول الأول في نقطة
واحدة، وهي: أن القصد على القول الأول قيد للوجوب، وعلى هذا القول قيد
للواجب (2).
وثالثها: ما عن صاحب الفصول من أن الواجب هو خصوص المقدمة
الموصلة دون غيرها (3). وبعد ذلك نتكلم حول تلك الأقوال وبيان ما فيها من النقد
والإشكال.
أما القول الأول: فهو خاطئ جدا، ولا يرجع إلى معنى محصل أصلا، وذلك
لأن لازم هذا القول أحد محذورين: إما التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب
ذيها، وهو خلف بناء على الملازمة كما هو المفروض. وإما لزوم كون وجوب ذي
المقدمة تابعا لإرادة المكلف ودائرا مدار اختياره وعزمه، وهو محال، بداهة أن
لازم ذلك عدم الوجوب عند عدم الإرادة.
وأما القول الثاني: فقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بما حاصله: هو
أن ملاك وجوب المقدمة بناء على حكم العقل بالملازمة بينه وبين وجوب ذيها هو
توقف الواجب النفسي عليها، وتمكن المكلف من الإتيان بها على إتيان ذيها.
ومن المعلوم أن هذا الملاك مشترك فيه بين المقدمات بشتى أشكالها، بلا
اختصاص له بحصة خاصة منها دون حصة أخرى. ومن هنا لو جاء المكلف
بالمقدمة بدون قصد التوصل بها لكان مجزيا إذا لم تكن عبادة، وهذا دليل قطعي

(1) انظر معالم الأصول: ص 71.
(2) راجع مطارح الأنظار: ص 72.
(3) انظر الفصول الغروية: ص 81 - 86.
412

على عدم أخذ قصد التوصل قيدا لها، وإلا لم يكن الإتيان بها مجردا عنه كافيا (1).
وإن شئت قلت: إن ملاك وجوب المقدمة لو كان قائما في حصة خاصة منها
- وهي الحصة المقيدة بقصد التوصل - فبطبيعة الحال لم يحصل الغرض منها بدون
ذلك، مع أنه لا شبهة في حصوله بدونه إذا لم تكن المقدمة عبادة.
فالنتيجة: أنه لا وجه لتخصيص الوجوب بخصوص تلك الحصة. نعم، قصد
التوصل إنما يعتبر في حصول الامتثال وترتب الثواب، لا في حصول أصل الغرض.
وقد يوجه مراد الشيخ (قدس سره) بما ملخصه: أن الواجب إنما هو الفعل بعنوان
المقدمة، لا ذات الفعل فحسب، وعليه فلابد في الإتيان بها من لحاظ هذا العنوان
وقصده، وإلا لم يأت بالواجب. وبما أن قصد التوصل إلى الواجب عين عنوان
المقدمية فبطبيعة الحال لزم قصده.
نعم، إن الإتيان بالأفعال الخارجية وحدها مجردة عن قصد التوصل وإن كان
مسقطا للغرض المطلوب إلا أنه لا يكون إتيانا للواجب ومصداقا له، حيث قد
عرفت أن الواجب هو ما كان معنونا بعنوان المقدمة، وهو عين قصد التوصل. وأما
سقوط الواجب بغيره فهو يتفق كثيرا ما في الواجبات التوصلية.
وأورد على هذا التوجيه المحقق صاحب الكفاية (2) وشيخنا الأستاذ (3) (قدس سرهما):
بأن عنوان المقدمة من الجهات التعليلية لوجوب المقدمة، لا من الجهات التقييدية
له، بداهة أن الواجب إنما هو ذات المقدمة التي هي مقدمة بالحمل الشائع، وأما
عنوانها فهو من الجهات الباعثة على وجوبها، كالمصالح والمفاسد الكامنة في
متعلقات الأحكام.
نعم، لو تم التوجيه المزبور لكان لما أفاده (قدس سره) وجه، بل لا مناص عنه، نظير ما
إذا افترضنا أن الشارع أوجب القيام - مثلا - بعنوان التعظيم فلا محالة إذا أتى به
بدون قصد هذا العنوان لم يأت بما هو مصداق للقيام الواجب.

(1) كفاية الأصول: ص 143.
(2) انظر كفاية الأصول: ص 141 - 142.
(3) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 288.
413

وقد تصدى شيخنا المحقق (قدس سره) إلى توجيه مراد الشيخ (قدس سره) ببيان أمرين:
الأول: أن الجهات التقييدية إنما تمتاز عن الجهات التعليلية في الأحكام
الشرعية، فإن العناوين المأخوذة في متعلقاتها كعنوان الصلاة والصوم ونحوهما
من الجهات التقييدية، ومن هنا يعتبر الإتيان بها بقصد العناوين المزبورة، وإلا لم
يؤت بما هو مصداق للواجب. وأما الملاكات الكامنة في متعلقاتها فهي جهات
تعليلية.
فالنتيجة: أن الجهات التعليلية في الأحكام الشرعية غير الجهات التقييدية.
وأما في الأحكام العقلية فالجهات التعليلية فيها راجعة إلى الجهات التقييدية، وأن
الأغراض في الأحكام العقلية عناوين لموضوعاتها، ولا يفرق في ذلك بين
الأحكام النظرية والأحكام العملية.
أما الأولى: فلأن حكم العقل باستحالة شئ بسبب استلزامه الدور أو
التسلسل حكم باستحالة الدور أو التسلسل بالذات، وحكمه باستحالة اجتماع
الأمر والنهي - مثلا - من ناحية استلزامه اجتماع الضدين حكم باستحالة اجتماع
الضدين كذلك...، وهكذا، فتكون الجهة التعليلية فيها بعينها هي الموضوع لحكم
العقل.
وأما الثانية: فلأن حكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب - مثلا - حكم
بحسب الواقع والحقيقة بحسن التأديب، كما أن حكمه بقبح الضرب للإيذاء حكم
في الواقع بقبح الإيذاء...، وهكذا، فتكون الجهة التعليلية فيها بعينها هي الجهة
التقييدية والموضوع للحكم.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أنه لا فرق بين الجهات التعليلية والجهات
التقييدية في الأحكام العقلية أصلا. وعلى هذا الضوء فبما أن مطلوبية المقدمة
ليست لذاتها، بل لحيثية مقدميتها والتوصل بها فالمطلوب الجدي والموضوع
الحقيقي للحكم العقلي إنما هو نفس التوصل، لما عرفت من أن الجهة التعليلية في
الحكم العقلي ترجع إلى الجهة التقييدية.
414

الثاني: أن متعلقات التكاليف سواء أكانت تعبدية أم كانت توصلية لا تقع
على صفة الوجوب ومصداقا للواجب بما هو واجب إلا إذا أتى به عن قصد وعمد
حتى في التوصليات.
والسبب في ذلك: أن التكليف تعبديا كان أو توصليا لا يتعلق إلا بالفعل
الاختياري، فالغسل الصادر بلا اختيار وإن كان مطابقا لذات الواجب ومحصلا
لغرضه إلا أنه لا يقع مصداقا للواجب بما هو واجب، بل يستحيل أن يتعلق
الوجوب بمثله فكيف يكون مصداقا له؟
وعلى ذلك فالواجب بحكم العقل بما أنه عنوان المقدمة لا ذاتها فمن الطبيعي
أن المكلف إذا أتى بها بداعي المقدمية والتوصل فقد تحقق ما هو مصداق للواجب
خارجا بما هو واجب، وإن لم يأت بها كذلك لم يتحقق ما هو مصداق للواجب
كذلك وإن تحقق ما هو محصل لغرضه (1).
فالنتيجة على ضوء هذين الأمرين: أن الواجب هو المقدمة بعنوان التوصل، لا
ذاتها، فإذا تم ما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره).
ولنأخذ بالنقد على كلا الأمرين:
أما الأمر الأول فلأن ما أفاده (قدس سره) من أن الجهات التعليلية في الأحكام العقلية
ترجع إلى الجهات التقييدية وإن كان في نهاية الصحة والمتانة إلا أنه أجنبي عن
محل الكلام في المقام، وذلك لما تقدم في أول البحث من أن وجوب المقدمة عقلا
بمعنى اللابدية خارج عن مورد النزاع، وغير قابل للإنكار، وإنما النزاع في
وجوبها شرعا الكاشف عنه العقل (2)، وكم فرق بين الحكم الشرعي الذي كشف
عنه العقل والحكم العقلي! وقد عرفت أن الجهات التعليلية في الأحكام الشرعية لا
ترجع إلى الجهات التقييدية (3)، فما أفاده (قدس سره) لا ينطبق على محل النزاع.

(1) راجع نهاية الدراية: ج 1 ص 347.
(2) راجع ص 297 - 298.
(3) تقدم آنفا فلاحظ.
415

وأما الأمر الثاني فلأن ما أفاده (قدس سره) إنما يتم فيما إذا كانت القدرة مأخوذة
شرعا في المأمور به، وواردة في لسان الخطاب به، وذلك كآية " الحج " (1) بناء
على تفسير الاستطاعة بالقدرة كما قيل، وآية " التيمم " (2) بناء على أن يكون المراد
من الوجدان فيها القدرة على الاستعمال شرعا، لا عدم الوجود بقرينة ذكر
المريض فيها.
والسبب في هذا: هو أنه لا يمكن كشف الملاك في أمثال هذه الموارد إلا في
خصوص الحصة المقدورة، وأما الحصة الخارجة عن القدرة فلا طريق لنا إلى
إحراز الملاك فيها أصلا.
فالنتيجة: أن في كل مورد كانت القدرة مأخوذة فيه شرعا فالواجب فيه
بطبيعة الحال هو خصوص الحصة المقدورة دون غيرها، ودون الجامع بينها وبين
غيرها. وأما إذا كانت معتبرة فيه عقلا فلا يتم.
والوجه في ذلك: هو أن المكلف مرة يكون عاجزا عن إتيان تمام أفراد
الواجب في الخارج وظرف الامتثال، فعندئذ بطبيعة الحال يسقط عنه التكليف ولا
يعقل بقاؤه. ومرة أخرى يكون عاجزا عن امتثال بعض أفراده دون بعضها الآخر
كالصلاة - مثلا - حيث إن المكلف يتمكن من امتثالها في ضمن بعض أفرادها
العرضية والطولية، ولا يتمكن من امتثالها في ضمن بعضها الآخر كذلك، ففي مثل
ذلك لا موجب لتخصيص التكليف بخصوص الحصة المقدورة، بل لا مانع من
تعلقه بالجامع بينها وبين الحصة غير المقدورة. وقد تقدم أن الجامع بين المقدور
وغيره مقدور، ضرورة أنه يكفي في القدرة عليه القدرة على امتثال فرد منه (3).
وعلى هذا فبما أن اعتبار القدرة في إيجاب المقدمة إنما هو بحكم العقل
فلا محالة لا يختص وجوبها بخصوص ما يصدر من المكلف عن إرادة واختيار،
بل يعمه وغيره، فإذا كان الواجب هو الطبيعي الجامع كان الإتيان به لا بقصد

(1) آل عمران: 97.
(2) المائدة: 6، والنساء: 43.
(3) راجع ص 146 - 147.
416

التوصل مصداقا له، وعليه فلا موجب لتخصيصه بخصوص الحصة المقدورة، فما
أفاده (قدس سره) من المقدمتين غير تام أصلا كما هو ظاهر.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قدس سره) ادعى أنه يظهر من تقريرات بحث شيخنا العلامة
الأنصاري (قدس سره) أن مراده من اعتبار قصد التوصل إنما هو اعتباره في مقام الامتثال
دون أخذه قيدا في المقدمة، وعليه فمن جاء بالمقدمة بقصد التوصل فقد امتثل
الواجب، وإلا فلا (1).
وفيه: أن هذه الدعوى لو تمت لكان لما أفاده وجه صحيح، ضرورة أن الثواب
لا يترتب على الإتيان بالمقدمة مطلقا، وإنما يترتب فيما إذا جاء المكلف بها بقصد
التوصل والامتثال.
وذكر (قدس سره) مرة ثانية أن مراد الشيخ (قدس سره) من اعتبار قصد التوصل إنما هو اعتباره
في مقام المزاحمة، كما إذا كانت المقدمة محرمة.
ونقل (قدس سره): أن شيخه العلامة السيد محمد الأصفهاني (قدس سره) كان جازما بأن مراد
الشيخ من اعتبار قصد التوصل هو ذلك، ولكن كان شيخنا الأستاذ (قدس سره) مترددا بأن
هذا كان استنباطا منه، أو أنه حكاه عن أستاذه السيد الشيرازي (قدس سره) (2).
وكيف كان فحاصل هذا الوجه: هو أنه لو توقف واجب نفسي كإنقاذ الغريق
- مثلا - على مقدمة محرمة بنفسها كالتصرف في مال الغير أو نحوه فبطبيعة الحال
تقع المزاحمة بين الوجوب الغيري والحرمة النفسية، وعليه فإن جاء المكلف
بالمقدمة قاصدا بها التوصل إلى الواجب النفسي ارتفعت الحرمة عنها، وذلك لأن
إنقاذ النفس المحترمة من الهلاك أهم من التصرف في مال الغير فلا محالة يوجب
سقوط الحرمة عنه، وأما إن جاء بها لا بقصد التوصل بل بقصد التنزه أو ما شاكله
فلا موجب لسقوط الحرمة عنه أبدا.
وغير خفي أن المزاحمة في الحقيقة إنما هي بين الحرمة النفسية الثابتة

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 288، وأجود التقريرات: ج 1 ص 234.
(2) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 289، وأجود التقريرات: ج 1 ص 235.
417

للمقدمة وبين الوجوب النفسي الثابت لذيها وإن لم نقل بوجوب المقدمة أصلا،
فالتزاحم في المثال المزبور إنما هو بين وجوب إنقاذ الغريق وحرمة التصرف في
الأرض المغصوبة، سواء أكانت المقدمة واجبة أم لا.
وبكلمة أخرى: أن التزاحم المذكور لا يتوقف على القول بوجوب المقدمة،
فإنه سواء قلنا بوجوبها مطلقا أو خصوص الموصلة منها أو ما يقصد به التوصل
إلى الواجب أم لم نقل به أصلا على الاختلاف في المسألة فالتزاحم بينهما موجود.
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الواجب في المقام بما أنه أهم من الحرام فبطبيعة
الحال ترتفع حرمته، فالسلوك في الأرض المغصوبة عندئذ إذا وقع في طريق
الإنقاذ لا يكون محرما، بداهة أنه لا يعقل بقاؤه على حرمته مع توقف الواجب
الأهم عليه، ولا فرق في ارتفاع الحرمة عنه، أي: عن خصوص هذه الحصة من
السلوك بين أن يكون الآتي به قاصدا التوصل به إلى الواجب المذكور أم لا، غاية
الأمر إذا لم يكن قاصدا به التوصل كان متجريا، وأما إذا لم يقع السلوك في طريق
الإنقاذ فتبقى حرمته على حالها، ضرورة أنه لا موجب ولا مقتضى لارتفاعها
أصلا، فإن المقتضي لذلك إنما هو توقف الواجب الأهم عليه، والمفروض أنه
ليس هذه الحصة من السلوك مما يتوقف عليه الواجب المزبور كي ترتفع حرمته.
نعم، لو قصد المكلف به التوصل إلى الواجب ولكنه لمانع لم يترتب عليه في
الخارج كان عندئذ معذورا فلا يستحق العقاب عليه.
نعم، بناء على القول بوجوبها تقع المعارضة بينه وبين حرمتها، وذلك لما
عرفت من أن عنوان المقدمة عنوان تعليلي فلا يكون موضوعا لحكم، وعليه
فبطبيعة الحال يرد الوجوب والحرمة على موضوع واحد ويتعلقان بشئ فارد (1).
وعلى هذا الضوء فإن قلنا بوجوب خصوص المقدمة الموصلة سقطت الحرمة
عنها فحسب، فإذا نتيجة القول بالتعارض والتزاحم واحدة، وهي سقوط الحرمة

(1) تقدم في ص 417 فراجع.
418

عن خصوص السلوك الواقع في سلسلة علة الإنقاذ لا مطلقا.
وإن قلنا بوجوب المقدمة التي قصد بها التوصل إلى الواجب فالساقط إنما هو
الحرمة عنها فحسب، سواء أكانت موصلة أم لم تكن.
وإن قلنا بوجوب المقدمة مطلقا فالساقط إنما هو الحرمة عنها كذلك.
وعلى ضوء ذلك تظهر الثمرة بين هذين القولين وبين القول بعدم الوجوب
أصلا كما هو الصحيح، فإنه على هذا القول - أي القول بعدم الوجوب - فالساقط
إنما هو حرمة خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها.
وعلى القول الأول فالساقط إنما هو حرمة خصوص المقدمة التي قصد بها
التوصل إلى الواجب.
وعلى القول الثاني فالساقط إنما هو حرمة مطلق المقدمة، وهذه ثمرة مهمة.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قدس سره) ذكر: أن المقرر رتب على اعتبار قصد التوصل
فروعا يبعد كونها من العلامة الأنصاري (قدس سره).
منها: عدم صحة صلاة من كانت وظيفته الصلاة إلى الجهات الأربع إذا لم
يكن من قصده الصلاة إلى جميعها، حيث إن الإتيان بها إلى تلك الجهات من باب
المقدمة وقد اعتبر فيها قصد التوصل، فالإتيان بصلاة إلى جهة منها بدونه لا محالة
تقع فاسدة وإن كانت مطابقة للواقع، لفرض عدم إتيانه بما هو مقدمة وواجب عليه،
إذا لا مناص من الإعادة، ومن هذا القبيل كل مورد كان الاحتياط فيه مستلزما
للتكرار، كالصلاة في ثوبين مشتبهين أو نحو ذلك إذا أتى بصلاة واحدة من دون
قصده الإتيان بالجميع (1).
وفيه: أن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من الاستبعاد في محله، والسبب في ذلك
واضح: هو أن وجوب الصلاة إلى الجهات الأربع أو ما شاكل ذلك إنما هو من باب
المقدمة العلمية، وقد تقدم أن وجوبها لا يقوم على أساس القول بوجوب المقدمة

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 287، وأجود التقريرات: ج 1 ص 234.
419

وعدمه، فإن الحاكم بوجوبها إنما هو العقل بملاك دفع الضرر المحتمل (1).
وأما محل النزاع في اعتبار قصد التوصل وعدم اعتباره فإنما هو في المقدمة
الوجودية، ولا صلة لإحدى المقدمتين بالأخرى أصلا، كيف؟ فإن ما كان من
الصلوات إلى الجهات الأربع مطابقا للواقع كان هو نفس الواجب، لا أنه مقدمة له،
وما لم يكن مطابقا له فهو أجنبي عنه، فلا يكون هنا شئ مقدمة لوجود الواجب
أصلا.
نعم، ذكر شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في أواخر رسالة بحث البراءة ما
ملخصه: هل الإطاعة الاحتمالية في طول الإطاعة العلمية ولو إجمالا، أو في
عرضها؟
فإن قلنا بالأول كان ما جاء به من الامتثال الاحتمالي فاسدا وإن كان مطابقا
للواقع، وذلك لاستقلال العقل الحاكم في هذا الباب بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي
مع التمكن من الامتثال العلمي ولو كان إجماليا.
وإن قلنا بالثاني كان ما جاء به صحيحا، لفرض تحقق الواجب في الخارج
وقد قصد التقرب به احتمالا وهو يكفي في العبادة (2).
وهذا الذي ذكره (قدس سره) هناك أيضا أجنبي عن القول باعتبار قصد التوصل في
المقدمة وعدم اعتباره، فإن كفاية الامتثال الاحتمالي مع التمكن من الامتثال
العلمي وعدم كفايته معه يقومان على أساس آخر لا صلة له بما يقوم به هذان
القولان، فيمكن القول بالكفاية هناك على كلا القولين هنا، ويمكن القول بعدم
الكفاية هناك كذلك على تفصيل في محله (3).
فالنتيجة: أنه لا صلة لأحد البابين بالآخر أصلا كما هو واضح.
ومنها: عدم جواز الإتيان بالغايات المشروطة بالطهارة إذا لم يكن المتوضئ

(1) راجع ص 307 - 308.
(2) صرح به الشيخ في دليل الانسداد، المقدمة الرابعة، فانظر فرائد الأصول: ج 1 ص 209.
وأما في بحث البراءة والاشتغال فقد أشار إليه في ج 2 ص 457.
(3) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 81 - 85 وص 362.
420

قاصدا به تلك الغايات، بل أتى بغاية أخرى، فلو توضأ لغاية خاصة كقراءة القرآن
- مثلا - لم يجز له الدخول في الصلاة بذلك الوضوء...، وهكذا.
ثم إنه (قدس سره) أشكل على ذلك: بأن هذا لا يتم في الوضوء، حيث إنه حقيقة
واحدة وماهية فاردة، فإذا جاء به بأية غاية مشروعة لترتبت عليه الطهارة، ومعه
يصح الإتيان بكل ما هو مشروط بها، فإذا لا تكون لاعتبار قصد التوصل إلى غاية
خاصة ثمرة في الوضوء.
نعم، يتم ذلك في باب الأغسال حيث إنها حقائق متباينة وماهيات متعددة
وإن اشتركت في اسم واحد، وعليه فلو اغتسل لغاية خاصة فلا يجوز له الدخول
إلى غاية أخرى، فثمرة اعتبار قصد التوصل تظهر هنا (1).
وأورد عليه شيخنا الأستاذ (قدس سره): بأن ما أفاده بالإضافة إلى الوضوء وإن كان
متينا جدا فلا مناص عنه إلا أن ما أفاده بالإضافة إلى الأغسال من الغرائب، فإن
الاختلاف في أن الأغسال حقيقة واحدة أو حقائق متعددة إنما هو باعتبار اختلاف
أسبابها، كالجنابة والحيض والنفاس ونحو ذلك، لا باعتبار غاياتها المترتبة عليها،
ضرورة أنه لم يحتمله أحد فضلا عن القول بأن الأغسال حقائق متعددة باعتبار
تعدد غاياتها، فهي من ناحية الغايات لا فرق بينها وبين الوضوء أصلا (2).
فالنتيجة: أن ما استبعده شيخنا الأستاذ (قدس سره) في محله.
وأما القول الثالث - وهو قول صاحب الفصول (قدس سره): من أن الواجب هو حصة
خاصة من المقدمة، وهي الحصة الموصلة، أي: الواقعة في سلسلة علة وجود ذيها
دون غيرها من الحصص - فقد نوقش فيه عدة مناقشات:
الأولى: ما عن شيخنا الأستاذ من أن تخصيص الوجوب بخصوص هذه
الحصة يستلزم أحد محذورين: إما الدور، أو التسلسل، وكلاهما محال.
أما الأول: فلأن مرد هذا القول إلى كون الواجب النفسي مقدمة للمقدمة،

(1) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 234.
(2) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 234.
421

لفرض أن ترتب وجوده عليها قد اعتبر قيدا لها، وعلى هذا يلزم كون وجوب
الواجب النفسي ناشئا من وجوب المقدمة وهو يستلزم الدور، فإن وجوب المقدمة
على الفرض إنما نشأ من وجوب ذي المقدمة، فلو نشأ وجوبه من وجوبها لدار.
وأما الثاني: فلأن الواجب لو كان خصوص المقدمة الموصلة فبطبيعة الحال
كانت ذات المقدمة من مقدمات تحققها في الخارج، نظرا إلى أن ذاتها مقومة لها
ومقدمة لوجودها، فعندئذ إن كان الواجب هو ذات المقدمة على الإطلاق لزم
خلاف ما التزم به (قدس سره) من اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة. وإن كان هو
الذات المقيدة بالإيصال إليها ننقل الكلام إلى ذات هذا المقيد بالإيصال..، وهكذا
فيذهب إلى ما لا نهاية له (1).
فالنتيجة: أنه لا يمكن القول بأن الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة.
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره).
أما الدور فيرد عليه: أن الوجوب النفسي المتعلق بذي المقدمة غير ناش من
وجوب المقدمة كي يتوقف اتصافه به على وجوبها.
نعم، الواجب النفسي على هذا بما أنه مقدمة للواجب الغيري بما هو كذلك
فبطبيعة الحال يعرض عليه الوجوب الغيري على نحو الترتب الطبعي، بمعنى: أن
الواجب أولا هو ذو المقدمة بوجوب نفسي، ثم مقدمته بوجوب غيري، ثم أيضا
ذو المقدمة لكن بوجوب غيري، وعليه فلا يلزم الدور من اختصاص الوجوب
بخصوص المقدمة الموصلة، وإنما يلزم اجتماع الوجوب النفسي والغيري في
شئ واحد وهو ذو المقدمة، وهذا مما لا محذور فيه أصلا، حيث إن مرده إلى
اندكاك أحدهما في الآخر وصيرورتهما حكما واحدا آكد.
وأما التسلسل فيرد عليه: أن ذات المقيد وإن كانت مقومة له إلا أن نسبته إليه
ليست نسبة المقدمة إلى ذيها لننقل الكلام إليه ونقول إنها واجبة مطلقا أو مقيدة
بالإيصال، وحيث إن الأول خلاف الفرض فالثاني يستلزم الذهاب إلى ما لا نهاية

(1) المصدر السابق ج 1 ص 237 - 238.
422

له، بل نسبته إليه نسبة الجزء إلى المركب، إذ على هذا القول المقدمة تكون مركبة
من جزءين: أحدهما: ذات المقيد، والآخر: تقيدها بقيد، وهو وجود الواجب في
الخارج، كما هو الحال في كل واجب مقيد بقيد، سواء أكان وجوبه نفسيا أم كان
غيريا، وعلى هذا فلا يبقى موضوع للقول بأن ذات المقيد هل هي واجبة مطلقا أو
مقيدة بالإيصال؟ هذا كله على تقدير تسليم كون الواجب النفسي قيدا للواجب
الغيري.
والتحقيق في المقام أن يقال: إن الالتزام بوجوب المقدمة الموصلة لا
يستدعي اعتبار الواجب النفسي قيدا للواجب الغيري أصلا، والسبب في ذلك: هو
أن الغرض من التقييد بالإيصال إنما هو الإشارة إلى أن الواجب إنما هو حصة
خاصة من المقدمة، وهي الحصة الواقعة في سلسلة العلة التامة لوجود الواجب
النفسي دون مطلق المقدمة.
وبكلمة أخرى: أن المقدمات الواقعة في الخارج على نحوين:
أحدهما: ما كان وجوده في الخارج ملازما لوجود الواجب فيه، وهو ما يقع
في سلسلة علة وجوده.
وثانيهما: ما كان وجوده مفارقا لوجوده فيه، وهو ما لا يقع في سلسلتها.
فالقائل بوجوب المقدمة الموصلة إنما يدعي وجوب خصوص القسم الأول منهما
دون القسم الثاني، وعليه فلا يلزم من الالتزام بهذا القول كون الواجب النفسي قيدا
للواجب الغيري، فإذا لا موضوع لإشكال الدور أو التسلسل أصلا. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن قضية الارتكاز والوجدان تقتضي وجوب خصوص
هذا القسم الملازم لوجود الواجب في الخارج، بداهة أن من اشتاق إلى شراء
اللحم - مثلا - فلا محالة يحصل له الشوق إلى صرف مال واقع في سلسلة مبادئ
وجوده لا مطلقا، ولذا لو فرض أن عبده صرف المال في جهة أخرى لا في طريق
امتثال أمره بشراء اللحم لم يعد ممتثلا للأمر الغيري، بل يعاقبه على صرف المال
في تلك الجهة، إلا إذا كان معتقدا بأن صرفه في هذا الطريق يؤدي إلى امتثال
423

الواجب في الخارج، ولكنه في الواقع غير مؤد إليه.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنه على القول بوجوب المقدمة لا
مناص من الالتزام بهذا القول.
الثانية: ما عن المحقق صاحب الكفاية (1)، وشيخنا الأستاذ (2) (قدس سرهما)، وملخصه:
هو أن ملاك الوجوب الغيري لو كان قائما بخصوص ما يترتب عليه الواجب
النفسي خارجا فلابد من القول باختصاص الوجوب بخصوص السبب دون غيره
كما عن صاحب المعالم (قدس سره)، وهذا مما لم يلتزم به صاحب الفصول (قدس سره).
وإن كان ملاكه مطلق التوقف والمقدمية فهو مشترك فيه بين تمام أقسام
المقدمات، وعندئذ فلا موجب للتخصيص بخصوصها.
وغير خفي أن ملاك الوجوب الغيري قائم بخصوص ما يكون توأما وملازما
لوجود الواجب في الخارج من ناحية وقوعه في سلسلة مبادئ وجوده بالفعل، لا
بمطلق المقدمة وإن لم تقع في سلسلتها، ولا بخصوص الأسباب التوليدية،
فالطهارة من الحدث أو الخبث - مثلا - إن وقعت في سلسلة مبادئ وجود الصلاة
في الخارج فهي واجبة، وإلا فلا، مع أنها ليست من الأسباب التوليدية بالإضافة
إلى الصلاة.
الثالثة: ما جاء به المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): من أن الغرض الداعي إلى
إيجاب المقدمة إنما هو تمكن المكلف من الإتيان بذيلها، نظرا إلى أنه لا يتمكن
من الإتيان به ابتداء بدون الإتيان بها، ومن المعلوم ترتب هذا الغرض على مطلق
المقدمة دون خصوص الموصلة منها (3).
والجواب عنه: أن هذا ليس الغرض من إيجاب المقدمة، ضرورة أن التمكن
من الإتيان بذيلها ليس من آثار الإتيان بها، بل هو من آثار التمكن من الإتيان

(1) انظر كفاية الأصول: ص 145 - 146.
(2) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 238 - 239.
(3) انظر كفاية الأصول: ص 145.
424

بالمقدمة، لوضوح أنه يكفي في التمكن من الإتيان بالواجب النفسي وامتثاله
التمكن من الإتيان بمقدمته، فإن المقدور بالواسطة مقدور.
أضف إلى ذلك: أن القدرة على الواجب لو كانت متوقفة على الإتيان بالمقدمة
لجاز للمكلف تفويت الواجب بترك مقدمته، بداهة أن القدرة ليست بواجبة
التحصيل.
فالنتيجة: أن ما أفاده (قدس سره) لا يمكن أن يكون غرضا لإيجابها، بل الغرض منه
ليس إلا إيصالها إلى الواجب، حيث إن الاشتياق إلى شئ لا ينفك عن الاشتياق
إلى ما يقع في سلسلة علة وجوده دون ما لا يقع في سلسلتها.
الرابعة: ما أورده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) أيضا، وحاصله: هو أن المكلف
إذا جاء بالمقدمة مع عدم الإتيان بذيلها - وهو الواجب النفسي - فلا يخلو الحال من
أن يلتزم بسقوط الأمر الغيري عنها، أو بعدم السقوط، ولا مجال للثاني، لأنه
موجب للتكرار.
وعلى الأول: فإما أن يكون السقوط للعصيان، أو لفقد الموضوع، أو لموافقة
الخطاب، والأول غير حاصل، لفرض الإتيان بالمقدمة، وكذا الثاني، فيتعين
الثالث، وهذا هو المطلوب، إذ لو كان الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة لم
يسقط الأمر الغيري، فالسقوط كاشف عن أن الواجب هو مطلق المقدمة ولو لم
توصل إلى ذيها (1).
والجواب عنه: أولا بالنقض بأجزاء الواجب المركب، كالصلاة - مثلا - فإن
المكلف إذا جاء بأول جزء منها ولم يأت ببقية الأجزاء فبطبيعة الحال يسأل عنه
أنه هل يلتزم بسقوط الأمر الضمني المتعلق به أولا يلتزم به؟
والثاني لا يمكن، لاستدعائه التكرار، وعلى الأول فالسقوط لا يخلو من أن
يكون بالعصيان، أو بانتفاء الموضوع، أو بالامتثال، ولا يمكن الالتزام بشئ منها،

(1) انظر كفاية الأصول: ص 145.
425

فإذا ما هو جوابه عن ذلك فهو جوابنا عن المسألة.
وثانيا: بالحل، وملخصه: هو ما عرفت من أن الواجب على هذا القول هو
حصة خاصة من المقدمة، وهي التي يكون وجودها توأما وملازما لوجود ذي
المقدمة في الخارج وواقعا في سلسلة العلة التامة لوجوده، فإذا كانت منفكة عن
ذلك ووقعت مجردة عن بقية أجزاء العلة التامة فبما أن الغرض الداعي إلى إيجابها
لم يترتب عليها عندئذ فلا محالة لا تقع في الخارج على صفة الوجوب، وعليه
فبطبيعة الحال يستند سقوط الأمر الغيري إلى العصيان أو نحوه، لا إلى الإتيان
بالمقدمة، لفرض أنه لم يأت بما هو الواجب منها (1).
فالنتيجة: أن وجود الواجب النفسي في الخارج كاشف عن تحقق المقدمة
فيه، وعدم وجوده كاشف عن عدم تحققها، كالشرط المتأخر.
ومن ذلك يظهر الحال في أجزاء الواجب النفسي، فإن كل واحد منها إنما يقع
على صفة الوجوب إذا وقع في الخارج منضما إلى بقية أجزائه. وأما إذا وقع منفكا
عنها فلا يقع على هذه الصفة، لفرض أنه ليس بجزء من الواجب.
أدلة صاحب الفصول
استدل صاحب الفصول (قدس سره) على إثبات نظريته بأمور:
الأول: أن الحاكم بالملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدماته إنما هو
العقل، ومن الطبيعي أنه لا يدرك أزيد من الملازمة بين طلب شئ وطلب
مقدماته التي في سلسلة علة وجود ذلك الشئ في الخارج بحيث يكون وجودها
فيه توأما وملازما لوجود الواجب. وأما ما لا يقع في سلسلة علته ويكون وجوده
خارجا مفارقا عن وجود الواجب فالعقل لا يدرك الملازمة بين إيجابه وإيجاب
ذلك أبدا (2).

(1) تقدم في ص 425 - 426 فراجع.
(2) راجع الفصول الغروية: ص 82.
426

وقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): بأن العقل لا يفرق في الحكم
بالملازمة بين الموصلة وغيرها، نظرا إلى أن ملاك حكمه بالملازمة إنما هو
حصول التمكن للمكلف من الإتيان بالواجب من قبل الإتيان بها، وهو مشترك فيه
على الفرض بين تمام أنواع المقدمة (1).
وجوابه قد ظهر مما تقدم، حيث بينا أن التمكن المزبور لا يصلح أن يكون
ملاكا للوجوب الغيري وداعيا له، لفرض أنه حاصل قبل الإتيان بالمقدمة.
الثاني: أن العقل لا يأبى عن تصريح الآمر بعدم إرادة غير المقدمة الموصلة،
ومن الطبيعي أن عدم إباء العقل عن ذلك وتجويزه دليل قطعي على وجوب
خصوص المقدمة الموصلة دون مطلق المقدمة، مثلا: يجوز للمولى أن يقول لعبده:
" أريد الحج وأريد المسير الذي يوصل إلى بيت الله الحرام، ولا أريد المسير الذي
لا يوصل "، ولا يسوغ له أن يقول: أريد الحج، ولا أريد جميع مقدماته الموصلة
وغيرها. كما لا يسوغ له التصريح بعدم إرادة خصوص الموصلة. ومن الواضح أن
ذلك كله آية اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة.
وناقش في ذلك صاحب الكفاية (قدس سره): بأنه ليس للمولى الحكيم غير المجازف
التصريح بذلك، بعد ما عرفت من أن الغرض مشترك بين الجميع، وهو التمكن (2).
وجوابه يظهر مما تقدم، وأن ما ذكره من الغرض لا يصلح أن يكون غرضا (3)
وعليه فلا بأس بهذا التصريح، بل الوجدان أصدق شاهد على جواز ذلك.
الثالث: أن الغرض من إيجاب المقدمة إنما هو إيصالها إلى الواجب ووقوعها
في سلسلة علة وجوده، وإلا فلا داعي للمولى في إيجاب المقدمة، فإذا بطبيعة
الحال يكون الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة، والوجدان شاهد صدق على
ذلك، فإن من أراد شيئا أراد مقدماته التي توصل إليه، وأما ما لا يوصل إليه فهو
غير مراد له، مثلا: من أراد الطبيب فبطبيعة الحال أراد مقدماته التي توصل إليه

(1) كفاية الأصول: ص 147 - 148.
(2) كفاية الأصول: ص 147 - 148.
(3) راجع ص 426 - 427.
427

دون ما لا يوصل...، وهكذا.
وقد ناقش فيه صاحب الكفاية (قدس سره) بما يرجع إلى وجهين:
أحدهما: إلى منع الصغرى.
وثانيهما: إلى منع الكبرى.
أما الأول فملخصه: هو أن الغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة إنما هو التمكن
من الإتيان بالواجب النفسي، لا ترتبه عليه خارجا، وهذا الغرض موجود في
الموصلة وغيرها فلا موجب لتخصيص الوجوب بخصوص الموصلة. وجوابه قد
تبين مما سبق (1) فلا نعيد.
وأما الثاني فحاصله: هو أن صريح الوجدان قاض بأن المقدمة التي أريدت
لأجل غاية من الغايات وتجردت عنها تقع على صفة الوجوب، وعلى هذا وإن
سلمنا أن الغاية لوجوب المقدمة إنما هي ترتب وجود ذيها عليها إلا أنه لا يكون
قيدا للواجب بحيث لو تجرد عنه لم يقع على صفة الوجوب (2).
وجوابه واضح: هو أن الشئ إذا وجب لغاية من الغايات فكيف يعقل تحقق
الوجوب بدون تحقق تلك الغاية؟ فإذا افترضنا أن الغاية من إيجاب المقدمة إنما
هي إيصالها إلى الواجب النفسي وترتبه عليها فعندئذ لو تجردت عنها ولم يترتب
الواجب عليها فكيف تقع على صفة الوجوب؟
ومن هنا قلنا: إن وجود الواجب في الخارج كاشف عن تحقق مقدمته
الواجبة، وعدم وجوده كاشف عن عدم تحققها، ونظير ذلك ما تقدم من أن المكلف
إذا أتى بجزء من الواجب وتجرد عن بقية أجزائه لم يقع على صفة الوجوب.
وعلى الجملة: فالغرض بما أنه قائم بخصوص المقدمة الموصلة دون غيرها
ودون الجامع بينهما فلا مقتضي لإيجاب غيرها ولو بإيجاب الجامع.

(1) راجع ص 426 - 427.
(2) كفاية الأصول: ص 149.
428

فالنتيجة: أن ما أفاده المحقق صاحب الفصول (قدس سره) متين جدا، ولا مناص عنه
لو قلنا بوجوب المقدمة.
قد يستدل على إيجاب خصوص المقدمة الموصلة بوجه آخر، وحاصله: هو
أنه يجوز للمولى أن ينهى عن المقدمات التي لا توصل إلى الواجب، ولا يستنكر
ذلك العقل، مع أنه يستحيل أن ينهى عن مطلق المقدمة أو عن خصوص الموصلة
منها. ومن الطبيعي أن هذه التفرقة آية عدم وجوب مطلق المقدمة، ووجوب
خصوص الموصلة، مثلا: لو أمر المولى عبده بشراء اللحم من السوق فليس له
المنع عن مطلق مقدمته أو عن خصوص الموصلة منها، ولكن له أن يمنع عن
المقدمة التي لا توصل إليه، وهذا الاستدلال منسوب إلى السيد الطباطبائي (1)
صاحب العروة (قدس سره).
وأجاب صاحب الكفاية (قدس سره) عن ذلك بوجهين:
الأول: أن هذا الدليل خارج عن مورد الكلام في المسألة، فإن محل الكلام
إنما هو في المقدمات المباحة في أنفسها، وأما إذا كان بعضها محرما فعدم اتصاف
المحرم بالوجوب الغيري إنما هو لوجود مانع، لا لأجل عدم المقتضي له، وعلى
هذا فنهي المولى عن المقدمات غير الموصلة لا يدل على أنه لا مقتضي لاتصافها
بالوجوب الغيري، إذ من المحتمل أن يكون عدم اتصافها في هذه الحالة لأجل
وجود المانع وهو نهي المولى، لا لعدم ثبوت المقتضي له.
وهذا الجواب متين جدا، حيث إن المقدمة إذا كانت محرمة فعدم اتصافها
بالوجوب الغيري لا يكشف عن عدم ثبوت المقتضي له.
الثاني: أنه لا يصح منع المولى عن المقدمة غير الموصلة، بل إنه غير معقول،

(1) ذكر هذا الوجه في الكفاية من غير نسبة، ونسبه في الأجود: ج 1 ص 238، وفي الفوائد
إلى صاحب الفصول، قال في الفوائد: (ثم إنه استدل صاحب الفصول أيضا على عدم المانع
من اعتبار خصوص المقدمة الموصلة بجواز منع المولى من غيرها). فوائد الأصول: ج 1
ص 292، ولم نظفر على من نسبه إلى السيد الطباطبائي (قدس سره).
429

والسبب في ذلك: هو أنه مستلزم إما لطلب الحاصل أو جواز تفويت الواجب مع
الاختيار، وكلاهما محال (1).
بيان ذلك: أما الأول: فلأن وجوب ذي المقدمة مشروط بالقدرة عليه، وهي
تتوقف على جواز مقدمته شرعا، وهو يتوقف على الإتيان بالواجب، لفرض أن
المقدمة غير الموصلة محرمة، ونتيجة ذلك: هي أن وجوب ذي المقدمة يتوقف
على الإتيان به.
وأما الثاني: فلما عرفت من أن جواز المقدمة مشروط بالإتيان بذيلها،
وإلا لكانت المقدمة محرمة، ومع حرمتها لا يكون الواجب مقدورا، ولازم
ذلك جواز ترك الواجب اختيارا وبلا عصيان ومخالفة، لفرض أن تحصيل القدرة
غير لازم.
وعلى الجملة: أن وجوب الواجب النفسي مشروط بالقدرة عليه، وهي
تتوقف على التمكن من المقدمة عقلا وشرعا، وبما أن التمكن منها شرعا في المقام
منوط بإتيان الواجب النفسي فمع عدمه لا يكون متمكنا منها، ومع عدم التمكن لا
بأس بترك الواجب اختيارا وعمدا.
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) مبني على الخلط بين كون الإيصال قيدا لجواز
المقدمة ووجوب ذيها، وبين كونه قيدا للواجب، فلو كان الإيصال من قبيل الأول
تم ما أفاده (قدس سره)، إلا أن الأمر ليس كذلك، فإنه قيد للواجب، وعلى هذا فلا يكون
جواز المقدمة مشروطا بالإيصال الخارجي ووجود الواجب النفسي، بل الجواز
تعلق بالمقدمة الموصلة، والمفروض تمكن المكلف منها، ومع هذا بطبيعة الحال لا
يجوز له ترك الواجب، فلو ترك استحق العقاب عليه، لفرض قدرته عليه فعلا من
ناحية قدرته على مقدمته الموصلة كذلك.
فالنتيجة: أن ما أفاده (قدس سره) خاطئ جدا.

(1) كفاية الأصول: ص 150.
430

ولشيخنا الأستاذ في المقام كلام: هو أنه (قدس سره) حيث رأى أن الوجدان
لا يساعد على وجوب المقدمة مطلقا - سواء أكانت موصلة أم لم تكن - من ناحية،
ورأى أنه لا يمكن الالتزام بوجوب خصوص الموصلة للمحاذير المتقدمة من
ناحية أخرى فقد اختار نظرية ثانية تبعا لنظرية المحقق صاحب الحاشية (1) (قدس سره)
وإن كان مخالفا له في بعض النقاط.
وملخص ما أفاده (قدس سره) في المقام: هو أن الواجب وإن كان هو خصوص
المقدمة في حال الإيصال لمساعدة الوجدان على ذلك بناء على ثبوت الملازمة
إلا أنه مع ذلك لم يؤخذ الإيصال قيدا لاتصاف المقدمة بالوجوب، لا بنحو يكون
قيدا للواجب، ولا للوجوب.
أما الأول: فلما عرفت من استلزامه الدور أو التسلسل (2).
وأما الثاني: فلاستلزامه التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها في
الإطلاق والاشتراط، لأن معنى ذلك: هو أن وجوب المقدمة مقيد بالإيصال دون
وجوب ذيها، وهو مستحيل على ضوء القول بالملازمة بينهما. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن امتناع تقييد الواجب أو وجوبه بالإيصال إلى الواجب
النفسي لا يستلزم أن يكون الواجب والوجوب مطلقين من هذه الجهة كما ذهب
إليه العلامة الأنصاري (قدس سره)، وذلك لما ذكرناه في بحث التعبدي والتوصلي: من أن
التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ثبوتا وإثباتا، فاستحالة التقييد
تستلزم استحالة الإطلاق، وبالعكس، وقد طبق (قدس سره) هذه الكبرى في عدة موارد:
منها: أن تقييد الأحكام الشرعية بخصوص العالمين بها مستحيل، فإطلاقها
كذلك. وبما أن الإهمال في الواقع غير معقول فيثبت الإطلاق بمتمم الجعل، ويعبر
عن ذلك ب‍ " نتيجة الإطلاق ".

(1) راجع هداية المسترشدين في شرح معالم الدين: ص 219، الأمر الرابع من خاتمة بحث
المقدمة.
(2) تقدم في ص 423 فراجع.
431

ومنها: أن تقييد متعلق الأمر الأول بقصد القربة مستحيل، فإطلاقه كذلك. وبما
أن إهمال الواقع الأول من الحاكم الملتفت غير معقول فيثبت التقييد بمتمم الجعل،
ويسمى ذلك ب‍ " نتيجة التقييد ".
ومنها: ما نحن فيه، حيث إن تقييد الواجب الغيري أو وجوبه بقيد الإيصال
مستحيل، فإطلاقه كذلك، وعليه فلابد من الالتزام بشق ثالث، وهو الالتزام
بوجوب المقدمة في حال الإيصال (1).
ومن ناحية ثالثة: أن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد خالف المحقق صاحب
الحاشية (قدس سره) في نقطة، وهي: أن المقدمة إذا كانت محرمة - كسلوك الأرض
المغصوبة لإنقاذ الغريق مثلا - فقد ادعى صاحب الحاشية (قدس سره): أن المقدمة المزبورة
إنما تتصف بالوجوب من ناحية إيصالها إلى الغريق، وتتصف بالحرمة على تقدير
عدم الإيصال إليه، وعصيان الأمر الوارد عليها وهو وجوب السلوك من حيث
الإنقاذ.
فالنتيجة: هي تعلق خطابين بموضوع واحد على نحو الترتب (2).
ولكن أورد عليه شيخنا الأستاذ (قدس سره): بأن اتصاف المقدمة المذكورة بالحرمة
من ناحية عصيان الأمر بالواجب النفسي، لا الأمر المتوجه إليها، فإن المزاحمة
إنما هي بين حرمتها ووجوب ذيها، فلا يعقل الترتب بين خطابين متعلقين
بموضوع واحد، ومن هنا اعتبر (قدس سره) الترتب بين خطابين متعلقين كل منهما
بموضوع، وتمام الكلام في محله (3).
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره) من عدة جهات:
الأولى: ما تقدم (4) من أن الالتزام بوجوب خصوص المقدمة لا يستلزم كون

(1) لم نقف على التصريح بها في هداية المسترشدين.
(2) لم نقف على التصريح بها في هداية المسترشدين.
(3) انظر فوائد الأصول ج 1 ص 296.
(4) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 296.
432

الواجب النفسي قيدا للواجب الغيري ليلزم محذور الدور أو التسلسل (1).
الثانية: أن ما أفاده (قدس سره) من أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق فقد
ذكرنا بصورة موسعة في بحث التعبدي والتوصلي: أن هذه الكبرى خاطئة جدا ولا
واقع موضوعي لها أصلا، وذكرنا هناك: أن استحالة التقييد بقيد في مقام الثبوت
تستلزم إما ضرورة الإطلاق أو ضرورة التقييد بخلافه (2). وعلى ضوء هذا
الأساس فحيث إن فيما نحن فيه تقييد الواجب الغيري بالإيصال مستحيل، وكذلك
تقييده بعدم الإيصال فالإطلاق عندئذ ضروري.
وعليه فالنتيجة: ثبوت ما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من وجوب
المقدمة مطلقا (3).
الثالثة: أن الترتب - كما ذكرناه في محله - وإن كان أمرا معقولا بل ولا مناص
عن الالتزام به (4) إلا أنه في المقام غير معقول، والسبب في ذلك: هو أن حرمة
المقدمة إذا كانت مشروطة بعصيان الأمر بذي المقدمة فبطبيعة الحال يكون
وجوبها مشروطا بعدم عصيانه وإطاعته، لاستحالة كون شئ واحد في زمان
واحد واجبا وحراما معا.
وإن شئت قلت: إنه لا يعقل أن يكون وجوبها مطلقا وثابتا على كل تقدير مع
كونها محرمة على تقدير عصيان الأمر بذي المقدمة، كيف؟ فإنه من اجتماع
الوجوب والحرمة الفعليين في شئ في زمن واحد، فإذا كان وجوب المقدمة
مشروطا بعدم عصيان وجوب الواجب النفسي فعندئذ لابد من النظر إلى أن
وجوب الواجب النفسي أيضا مشروط بعدم عصيانه وإطاعته أم لا؟
فعلى الأول يلزم طلب الحاصل، لأن مرد ذلك إلى أن وجوب الواجب
النفسي مشروط بإتيانه وإطاعته، وهو مستحيل.

(1) راجع ص 424 - 426.
(2) قد تقدم في ص 171 فراجع.
(3) انظر كفاية الأصول: ص 157.
(4) سوف يأتي في الجزء الثالث من المحاضرات ضمن بحث مسألة الضد، أدلة إمكان الترتب،
فانتظر.
433

وعلى الثاني يلزم التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها من حيث
الإطلاق والاشتراط، وهو غير ممكن على القول بالملازمة بينهما كما هو
المفروض.
فالنتيجة في نهاية المطاف: هي أن ما أفاده لا يمكن المساعدة عليه بوجه،
فالصحيح على القول بوجوب المقدمة: هو ما ذهب إليه صاحب الفصول (قدس سره)، ولا
يرد عليه شئ مما أورد كما عرفت (1).
ثمرة النزاع في المسألة
ذكر الأصحاب لها عدة ثمرات:
الأولى: صحة العبادة إذا كان تركها مقدمة لواجب أهم على القول بوجوب
المقدمة الموصلة، وفسادها على القول بوجوب مطلق المقدمة.
ولا يخفى أن هذه الثمرة ليست ثمرة لمسألة أصولية كما ذكرنا في محله: من
أن ثمرة المسألة الأصولية ما يترتب عليها بلا ضم مقدمة أخرى أصولية (2)، وهذه
الثمرة تتوقف على ضم مقدمتين اخريين:
الأولى: أن يكون ترك الضد مقدمة لفعل الضد الآخر.
الثانية: أن يكون النهي الغيري كالنهي النفسي في الدلالة على الفساد. هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن المقدمتين المذكورتين غير تامتين، كما حققنا ذلك في
مبحث الضد بشكل موسع (3) فلا نعيد.
ومن ناحية ثالثة: أنه على تقدير تسليم هاتين المقدمتين وتسليم وجوب

(1) تقدم في ص 424 - 425 فراجع.
(2) قد تقدم في الجزء الأول من المحاضرات: ص 15 فراجع.
(3) سوف يأتي في الجزء الثالث من المحاضرات ضمن بداية مسألة الضد وفي نهاية ثمرة
المسألة، فانتظر.
434

المقدمة هل تظهر الثمرة المزبورة بين القولين؟ ففيه وجهان، الصحيح هو الظهور.
بيان ذلك: هو أن ترك الصلاة إذا كان مقدمة لواجب أهم - كإزالة النجاسة عن
المسجد مثلا - فلا محالة كان ذلك الترك واجبا، فإذا صار الترك واجبا بطبيعة الحال
كان الفعل منهيا عنه، بناء على أن " الأمر بالشئ يقتضي النهي عن ضده العام "،
والنهي في العبادة يوجب الفساد. هذا بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة.
وأما بناء على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة فالصلاة في المثال
المزبور لا تقع فاسدة، وذلك لأن الواجب على ضوء هذا القول إنما هو الترك
الخاص وهو الترك الموصل، لا مطلق الترك، ومن الطبيعي أن نقيضه - وهو ترك
هذا الترك الخاص - ليس عين الصلاة في الخارج، بل هو مقارن لها، لتحققه في
ضمن الصلاة مرة، وفي ضمن الترك غير الموصل مرة أخرى. ومن المعلوم أن
الحرمة الثابتة لشئ لا تسري إلى ملازمه فضلا عن مقارنه اتفاقا، وعلى هذا فلا
تكون الصلاة منهيا عنها لتقع فاسدة.
وأورد على ذلك شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) على ما في تقريراته: من أن
هذه الثمرة ليست بتامة، والسبب في ذلك: هو أن الفعل على كلا القولين ليس نقيضا
للترك، لأن نقيض كل شئ رفعه، ونقيض الترك رفع الترك، وهو غير الفعل، غاية
الأمر على القول بوجوب مطلق المقدمة ينحصر مصداق النقيض في الفعل
فحسب، وعلى القول بوجوب خصوص الموصلة فله فردان في الخارج: أحدهما:
الفعل، والآخر: الترك غير الموصل، حيث إن نقيض الأخص أعم. ومن الواضح أن
حرمة النقيض كما تسري إلى فعل الصلاة على الأول كذلك تسري إليه على
الثاني، لفرض أن الفعل على كلا القولين ليس عين النقيض، بل هو فرده، وثبوت
الحرمة له من باب السراية، وبديهي أنه لا فرق في السراية بين انحصار فرده في
الفعل وعدم انحصاره فيه أبدا، فإذا تقع الصلاة على كلا القولين فاسدة فلا تظهر
الثمرة بينهما (1).

(1) انظر مطارح الأنظار: ص 78.
435

والجواب عنه أولا: أن الفعل لا يعقل أن يكون مصداقا للترك، لاستحالة كون
الوجود مصداقا للعدم، لتباينهما ذاتا، واستحالة صدق أحدهما على الآخر، كيف؟
فإن العدم لا تحقق له خارجا لينطبق على الوجود.
وعلى الجملة: فلا يعقل أن يكون العدم جامعا بين الوجود والعدم المحض،
وعلى هذا فلا يكون فعل الصلاة مصداقا للنقيض، بل هو مقارن له. وقد تقدم أن
حرمة شئ لا تسري إلى مقارنه (1).
وثانيا: ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (2) (قدس سره)، وقد بيناه مع زيادة توضيح في
مبحث الضد (3).
وملخصه: هو أن الفعل بنفسه نقيض للترك المطلق ورافع له، بداهة أن نقيض
الوجود هو العدم البديل له، ونقيض العدم هو الوجود كذلك، وهذا هو المراد من
جملة: " أن نقيض كل شئ رفعه "، وليس المراد منها أن نقيض الترك عدم الترك،
ونقيض عدم الترك عدم عدم الترك...، وهكذا إلى ما لا نهاية له، فإنه وإن عبر به إلا
أنه باعتبار انطباقه على الوجود خارجا، وكونه مرآة له، لا أنه بنفسه نقيض، وإلا
لزم أن لا يكون الوجود نقيضا للعدم، وهو كما ترى، ولأجل ذلك - أي: كون الوجود
نقيضا للعدم حقيقة وبالعكس - قد ثبت أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان.
وعلى ضوء هذا الأساس فعلى القول بوجوب المقدمة مطلقا حيث إن ترك
الصلاة في المثال المتقدم واجب فنقيضه - وهو وجود الصلاة - بطبيعة الحال يكون
منهيا عنه، وعليه فلا محالة تقع فاسدة.
وعلى القول بوجوب خصوص الموصلة بما أن الواجب هو الترك الموصل
- فحسب - فلا يكون فعل الصلاة نقيضا له، بل هو مقارن له. وقد تقدم أن الحكم
الثابت لشئ لا يسري إلى ملازمه فضلا عن مقارنه (4).

(1) تقدم آنفا فلاحظ.
(2) كفاية الأصول: ص 151.
(3) سوف يأتي في الجزء الثالث من المحاضرات ضمن بداية مسألة الضد فانتظر.
(4) راجع ص 437.
436

فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أن هذه الثمرة تامة وإن لم تكن ثمرة للمسألة
الأصولية على تقدير تسليم وجوب المقدمة من ناحية، وتسليم المقدمتين
المذكورتين من ناحية أخرى.
الثمرة الثانية: ما أفاده صاحب الكفاية (قدس سره): من أن نتيجة البحث عن ثبوت
الملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدماته: هي وجوب المقدمة شرعا بناء على
الثبوت بعد ضم هذه الكبرى إلى صغرياتها (1).
وفيه: أن هذه النتيجة وإن ترتبت على هذه المسألة بناء على ثبوت الملازمة
بينهما إلا أنها لا تصلح أن تكون ثمرة فقهية للمسألة الأصولية، وذلك لعدم ترتب
أثر عملي عليها أصلا بعد حكم العقل بلا بدية الإتيان بالمقدمة. ومن هنا سنقول:
إن حكم الشارع بوجوب المقدمة لغو محض.
الثمرة الثالثة: أن المقدمة إذا كانت عبادة فعلى القول بوجوبها أمكن الإتيان
بها بقصد التقرب. وأما على القول بعدم وجوبها فلا يمكن.
وفيه: أنه قد تقدم أن عبادية المقدمة لا تتوقف على وجوبها، فإن منشأها
- كما عرفت - أحد أمرين: إما الإتيان بها بقصد التوصل إلى الواجب النفسي
وامتثال أمره، وإما الإتيان بها بداعي أمرها النفسي المتعلق بها كما في الطهارات
الثلاث، فالوجوب الغيري لا يكون منشأ لعباديتها أصلا (2).
الثمرة الرابعة: بر النذر بالإتيان بالمقدمة على القول بوجوبها فيما إذا تعلق
بفعل واجب. وعدم حصول البر به على القول بعدم وجوبها.
وغير خفي أما أولا: أن مثل هذه الثمرة لا يوجب كون البحث عن وجوب
المقدمة بحثا أصوليا، وذلك لأن المسألة الأصولية هي ما تقع في طريق استنباط
الحكم الكلي الإلهي بعد ضم صغراها إليها بلا توسط مسألة أصولية أخرى،
كالقواعد التي يستنبط منها مثل: وجوب الوفاء بالنذر أو نحوه، وما نحن فيه ليس
من هذا القبيل، فإن المترتب على مسألتنا هذه إنما هو انطباق الحكم الشرعي

(1) كفاية الأصول: ص 153 - 154.
(2) مر تفصيله في ص 410 - 411 فراجع.
437

الكلي المعلوم المستنبط من دليله على الإتيان بالمقدمة، ومن الواضح أن المسألة
لا تكون بذلك أصولية.
وأما ثانيا: فلأنها لو تمت فإنما تتم على القول بوجوب مطلق المقدمة، وأما
بناء على القول بوجوب خصوص الموصلة فلا تظهر إلا إذا أتى بذي المقدمة
أيضا، وإلا لم يأت بالواجب، وعندئذ فلا تظهر الثمرة كما لا يخفى.
وأما ثالثا: فلأن الوفاء بالنذر تابع لقصد الناذر، فإن قصد من لفظ " الواجب "
خصوص الواجب النفسي لم يكف الإتيان بالمقدمة في الوفاء به ولو قلنا بوجوبها،
وإن قصد منه مطلق ما يلزم الإتيان به ولو عقلا كفى الإتيان بها وإن قلنا بعدم
وجوبها.
نعم، لو كان قصده الإتيان بالواجب الشرعي من دون نظر إلى كونه نفسيا أو
غيريا ولو من ناحية عدم الالتفات إلى ذلك ولم يكن في البين ما يوجب
الانصراف إلى الأول كفى الإتيان بالمقدمة على القول بوجوبها دون القول بعدم
وجوبها.
الثمرة الخامسة: هي أنه على القول بوجوب المقدمة لا يجوز أخذ الأجرة
عليها، لأنه من أخذ الأجرة على الواجبات، وعلى القول بعدم وجوبها
يجوز ذلك.
وفيه أولا: أننا قد حققنا في محله أن الوجوب بما هو وجوب لا يكون مانعا
من أخذ الأجرة على الواجب، سواء أكان وجوبه عينيا أم كان كفائيا، توصليا كان
أم عباديا، إلا إذا قام دليل على لزوم الإتيان به مجانا، كتغسيل الميت ودفنه ونحو
ذلك فعندئذ لا يجوز أخذ الأجرة عليه، وبما أنه لا دليل على لزوم الإتيان
بالمقدمة مجانا فلا مانع من أخذ الأجرة عليه وإن قلنا بوجوبها (1).
وثانيا: لو تنزلنا عن ذلك فلابد من التفصيل بين المقدمات العبادية

(1) راجع مصباح الفقاهة: ج 1 ص 468 - 473.
438

- كالطهارات الثلاث - وبين غيرها من المقدمات، فإنه لو كان هناك مانع من أخذ الأجرة
عليها إنما هو عباديتها، سواء أكانت واجبة أم لم تكن فلا دخل لوجوبها
بما هو وجوب في ذلك أبدا، بل ربما يكون الشئ غير واجب فمع ذلك لا يجوز
أخذ الأجرة عليه، كالأذان مثلا.
فالنتيجة: أنه لا ملازمة بين وجوب شئ وعدم جواز أخذ الأجرة عليه
أصلا، بل النسبة بينهما عموم من وجه.
ومن هنا يظهر: أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن جواز أخذ الأجرة على
المقدمة وعدم جوازه يدوران مدار جواز أخذها على ذي المقدمة وعدم جوازه (1)
خاطئ جدا، ضرورة أن المقدمة ليست تابعة لذيها من هذه الناحية، ولا دليل على
هذه التبعية، وإنما كانت تبعيتها في الوجوب فحسب، وبعد القول بوجوبها فهي
واجبة مستقلة، فجواز أخذ الأجرة عليها أو عدم جوازه يحتاج إلى دليل، ولا صلة
له بالجواز أو عدمه على الواجب النفسي أصلا.
على أن هذه الثمرة ليست ثمرة للمسألة الأصولية.
الثمرة السادسة: حصول الفسق بترك الواجب النفسي مع مقدماته الكثيرة
على القول بوجوبها، وعدم حصوله على القول بعدمه.
وفيه - مضافا إلى أنه لابد من فرض الكلام فيما إذا كان ترك الواجب النفسي
من الصغائر دون الكبائر، وإلا لكان تركه بنفسه موجبا لحصول الفسق من دون
حاجة ترك مقدماته - أن هذه الثمرة تبتنى على أمرين:
الأول: التفصيل بين المعاصي الكبيرة والصغيرة والالتزام بحصول الفسق في
الأولى، وعدم حصوله في الثانية إلا في فرض الإصرار عليها.
الثاني: أن يكون الإصرار عبارة عن ارتكاب معاص عديدة ولو في زمن
واحد ودفعة واحدة.

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 299.
439

ولكن للمناقشة في كلا الأمرين مجالا واسعا.
أما الأول: فلما ذكرناه في محله: من أنه لا أساس لهذا التفصيل أصلا، وأنه
لا فرق بين المعصية الكبيرة والصغيرة من هذه الناحية، فكما أن الأولى توجب
الفسق والخروج عن جادة الشرع يمينا وشمالا فكذلك الثانية.
وبكلمة أخرى: قد ذكرنا غير مرة: أن الفسق عبارة عن خروج الشخص عن
جادة الشرع يمينا وشمالا، ويقابله العدل فإنه عبارة عن الاستقامة في الجادة
وعدم الخروج عنها كذلك (1). ومن البديهي أن المعصية الصغيرة - كالكبيرة -
توجب الفسق والخروج عن الجادة، فإذا لا تترتب هذه الثمرة على القول بوجوب
المقدمة أصلا كما هو ظاهر.
وأما الثاني: فلأن الإصرار على المعصية عبارة - عرفا - عن ارتكابها مرة بعد
أخرى، وأما ارتكاب معاص عديدة مرة واحدة فلا يصدق عليه الإصرار يقينا،
بداهة أن من نظر إلى جماعة من النساء الأجنبيات دفعة واحدة وإن كان يرتكب
معاصي عديدة إلا أنه لا يصدق على ذلك الإصرار، وعليه فلا ثمرة.
ولو تنزلنا عن جميع ذلك فأيضا لا مجال لها، لما قد عرفت من أنه لا معصية
في ترك المقدمة بما هو مقدمة وإن قلنا بوجوبها حتى يحصل الإصرار على
المعصية، ضرورة أن المدار في حصول المعصية وهتك المولى إنما هو بمخالفة
الأمر النفسي، فلا أثر لمخالفة الأمر الغيري بما هو أمر غيري أصلا (2).
أضف إلى ما ذكرناه: أن هذه الثمرة على تقدير تسليمها لا تصلح أن تكون
ثمرة للمسألة الأصولية.
الثمرة السابعة: أن المقدمة إذا كانت محرمة فعلى القول بوجوبها يلزم اجتماع
الأمر والنهي دون القول بعدم الوجوب.

(1) راجع التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 1 ص 254 الاجتهاد والتقليد في تعريف العدالة.
(2) منها: ما تقدم في ص 404 - 405 فراجع.
440

وقد أورد المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) على هذه الثمرة بأمور ثلاثة:
الأول: أن مسألة اجتماع الأمر والنهي إنما هي ترتكز على ما إذا كان هناك
عنوانا تعلق بأحدهما الأمر وبالآخر النهي وقد اجتمعا في مورد واحد اتفاقا. وأما
إذا كان هناك عنوان واحد تعلق به كل من الأمر والنهي فهو خارج عن هذه
المسألة، وداخل في مسألة النهي عن العبادات والمعاملات، وما نحن فيه من قبيل
الثاني، فإن عنوان المقدمة عنوان تعليلي خارج عن متعلق الأمر، وعليه فبطبيعة
الحال تعلق كل من الأمر والنهي بشئ واحد، وهو ما كان مقدمة بالحمل
الشائع (1).
ويرده: أن عنوان المقدمة وإن كان عنوانا تعليليا وخارجا عن متعلق الأمر إلا
أن المأمور به هو الطبيعي الجامع بين هذا الفرد المحرم وغيره، وعليه فيكون
متعلق الأمر غير متعلق النهي، فإن متعلق الأمر هو طبيعي الوضوء أو الغسل مثلا،
أو طبيعي تطهير البدن أو اللباس، ومتعلق النهي حصة خاصة من هذا الطبيعي
بعنوان الغصب أو نحوه، وبما أن متعلق الأمر والنهي ينطبقان على هذه الحصة فهي
مجمع لهما وتكون من موارد الاجتماع.
الثاني: أنه لا يلزم في المقام اجتماع الوجوب والحرمة في شئ واحد،
وذلك لأن المقدمة لا تخلو من أن تكون منحصرة أو غير منحصرة.
فعلى الأول فإن كان ملاك الوجوب أقوى من ملاك الحرمة فلا حرمة في
البين، وإن كان العكس فبالعكس.
وعلى الثاني فلا محالة يختص الوجوب بغير المحرم من المقدمة، لوضوح
أن العقل لا يحكم بالملازمة إلا بين وجوب شئ ووجوب خصوص مقدماته
المباحة.
فالنتيجة: أن المقدمة لا تكون مجمعا للوجوب والحرمة.

(1) انظر كفاية الأصول: ص 155.
441

ويرده: أن الأمر وإن كان كذلك في صورة انحصار المقدمة بالمحرمة إلا أنه
لا يتم في صورة غير الانحصار.
والسبب فيه: هو أنه لا موجب لتخصيص الوجوب في هذه الصورة
بخصوص المقدمة المباحة بعد ما كانت المقدمة المحرمة مثلها في الواجدية
للملاك، وهو توقف الواجب عليها ووفاؤها بالغرض، ومجرد كون المقدمة
محرمة من ناحية انطباق عنوان المحرم عليها لا يخرجها عن واجديتها
للملاك، إذ كما أن اجتماع الواجب النفسي مع عنوان محرم لا ينافي وقوعه
على صفة المطلوبية بناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي، وعدم سراية
النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه متعلق الأمر كذلك اجتماع الواجب الغيري
- كالمسير إلى الحج مثلا مع عنوان محرم كالغصب - لا ينافي وقوعه على
صفة المطلوبية، ومن الواضح أنه لا فرق من هذه الناحية بين الواجب النفسي
والغيري.
الثالث: أن الغرض من المقدمة إنما هو التوصل بها إلى الواجب النفسي،
فإن كانت توصلية أمكن التوصل بها إلى الواجب النفسي وإن كانت محرمة،
سواء فيه القول بوجوب المقدمة والقول بعدمه، ضرورة أنه لا أثر له في
ذلك أبدا.
وإن كانت تعبدية - كالطهارات الثلاث - فعندئذ إن قلنا بجواز اجتماع
الأمر والنهي صحت العبادة في مورد الاجتماع، سواء قلنا بوجوب المقدمة أم لم
نقل.
وإن قلنا بامتناع الاجتماع وتقديم جانب النهي على جانب الأمر فلا مناص
عن الحكم بفسادها، من دون فرق أيضا بين القول بوجوب المقدمة والقول
بعدم وجوبها، فإذا لا ثمرة للقول بالوجوب من هذه الناحية (1).

(1) المصدر السابق.
442

الواجب الأصلي والتبعي
ذكر صاحب الكفاية في مبحث مقدمة الواجب أمورا أربعة:
الأول (1): أن مسألة مقدمة الواجب من المسائل الأصولية العقلية.
الثاني (2): تقسيم المقدمة: إلى الشرعية والعقلية والعادية من ناحية، والى
الداخلية والخارجية والمتقدمة والمتأخرة والمقارنة من ناحية أخرى.
الثالث (3): تقسيم الواجب إلى المشروط والمطلق تارة، والى المنجز والمعلق
تارة أخرى.
الرابع (4): بيان الملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته، والتعرض لما هو
الواجب من المقدمة.
وبعد الانتهاء من هذه الأمور الأربعة ذكر (5) انقسام الواجب إلى الأصلي
والتبعي، وكان المناسب عليه أن يدرج هذا التقسيم في الأمر الثالث، لأنه من
شؤون تقسيم الواجب، ولعل هذا كان غفلة منه (قدس سره) في مقام التأليف، أو كان
الاشتباه من الناسخ.
وكيف كان فالتعرض لهذا التقسيم هنا إنما هو تبعا للمحقق صاحب
الكفاية (قدس سره)، وإلا فهو عديم الفائدة والأثر.
فنقول: إن الأصالة والتبعية تلاحظان مرة بالإضافة إلى مقام الثبوت، ومرة
أخرى بالإضافة إلى مقام الإثبات.
أما على الأول: فالمراد بالأصلي: هو ما كان متعلقا للإرادة والطلب تفصيلا
وموردا لالتفات المولى كذلك.
والمراد بالتبعي: هو ما كان متعلقا لهما تبعا وارتكازا وموردا للالتفات كذلك.

(1) انظر كفاية الأصول: ص 114.
(2) المصدر السابق: ص 116.
(3) المصدر السابق: ص 121 و 127.
(4) المصدر السابق: ص 142.
(5) المصدر السابق: ص 152.
443

ومن هنا يظهر: أن هذا التقسيم لا يجري في الواجب النفسي، بداهة أنه لا يتصف
إلا بالأصالة، فلا يعقل أن تكون الإرادة المتعلقة به إرادة تبعية وارتكازية،
فالتقسيم خاص بالواجب الغيري.
وأما على الثاني: فالمراد بالأصلي: هو ما كان مقصودا بالإفهام من الخطاب
بحيث تكون دلالة الكلام عليه بالمطابقة، وبالتبعي: هو ما لم يكن كذلك، بل كانت
دلالة الكلام عليه بالتبعية والالتزام.
ولكن على هذا فالواجب لا ينحصر بهذين القسمين، بل هنا قسم ثالث، وهو:
ما لم يكن الواجب مقصودا بالإفهام من الخطاب أصلا، لا أصالة ولا تبعا، كما إذا
كان الواجب مدلولا لدليل لبي من إجماع أو نحوه، هذا إذا علم بالأصالة والتبعية.
وأما إذا شك في واجب أنه أصلي أو تبعي فحيث لا أثر لذلك فلا أصل في
المقام حتى يعين أحدهما، لا لفظا ولا عملا. نعم، لو كان لهما أثر عملي فمقتضى
الأصل هو كون الواجب تبعيا إذا كان عبارة عما لم تتعلق به الإرادة المستقلة، وأما
إذا كان عبارة عما تعلقت به الإرادة التبعية فلا يكون موافقا للأصل.
مقتضى الأصل في المسألة
والبحث فيه يقع في مقامين:
الأول: في مقتضى الأصل العملي.
الثاني: في مقتضى الأصل اللفظي.
أما المقام الأول: فقد أفاد المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) أنه لا أصل في
المسألة الأصولية يعين الملازمة عند الشك في ثبوتها أو عدمها، والسبب فيه: ما
ذكرناه من أن هذه الملازمات وإن لم تكن من سنخ الموجودات الخارجية من
الأعراض والجواهر إلا أنها أمور واقعية أزلية، كاستحالة اجتماع النقيضين
والضدين، والدور، والتسلسل، وما شاكل ذلك، حيث إنها لم تكن محدودة بحد
خاص، بل هي أمور أزلية ولها واقع موضوعي. وعلى هذا الضوء فإن كانت
444

الملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته ثابتة فهي من الأزل، وإن لم تكن
ثابتة فكذلك، ومن الطبيعي أن ذلك لن يدع مجالا للأصل في المقام.
وأما في المسألة الفرعية فقد أفاد (قدس سره): أنه لا مانع من الرجوع إلى أصالة عدم
وجوب المقدمة، بتقريب أنها قبل إيجاب الشارع الصلاة - مثلا - لم تكن واجبة،
لفرض عدم وجوب ذيها، وبعد إيجابها شك في وجوبها، ومعه لا مانع من الرجوع
إلى استصحاب عدم الوجوب أو أصالة البراءة عنه (1).
ولنأخذ بالنظر إلى ما أفاده (قدس سره):
أما ما أفاده بالإضافة إلى المسألة الأصولية: من أنه لا أصل فيها متين جدا،
ولا مناص عنه كما عرفت.
وأما ما أفاده بالإضافة إلى المسألة الفرعية من وجود الأصل فيها فإنه قابل
للمؤاخذة، وذلك لأن الأصل فيها لا يخلو من أن يكون البراءة، أو الاستصحاب،
والأولى لا تجري بكلا قسميها.
أما العقلية فلأنها واردة لنفي المؤاخذة والعقاب، والمفروض أنه لا عقاب
على ترك المقدمة وإن قلنا بوجوبها، والعقاب إنما هو على ترك الواجب النفسي.
وأما الشرعية فبما أنها وردت مورد الامتنان فيختص موردها بما إذا كانت
فيه كلفة على المكلف ليكون في رفعها بها امتنانا، والمفروض أنه لا كلفة في
وجوب المقدمة، حيث لا عقاب على تركها، على أن العقل يستقل بلزوم الإتيان
بها لتوقف الواجب عليها، سواء أقلنا بوجوبها أم لم نقل، فإذا أي أثر ومنة في رفع
الوجوب عنها بعد لا بدية الإتيان بها على كل تقدير؟
والثاني - وهو الاستصحاب - فأيضا لا يجري، لأن موضوعه وإن كان تاما إلا
أنه لا أثر له بعد استقلال العقل بلزوم الإتيان بها.

(1) كفاية الأصول: ص 155.
445

وعلى الجملة: فلا يترتب أي أثر على استصحاب عدم وجوبها بعد لا بدية
الإتيان بها على كل تقدير، ومعه لا معنى لجريانه.
نعم، لا مانع من الرجوع إلى الأصل من ناحية أخرى، وهي: ما ذكرناه سابقا
من الثمرة فيما إذا كانت المقدمة محرمة وقد توقف عليها واجب أهم فعندئذ لابد
من ملاحظة دليل حرمة المقدمة، فإن كان لدليلها إطلاق أو عموم لزم التمسك به
في غير مقدار الضرورة، وهو خصوص المقدمة الموصلة (1).
وإن شئت قلت: إن القدر المتيقن هو رفع اليد عن تحريم خصوص تلك
المقدمة، وأما غيرها فإن كان إطلاق في البين فلا مناص من التمسك به لإثبات
حرمتها، لعدم ضرورة تقتضي رفع اليد عنها، وإن لم يكن إطلاق فالمرجع هو أصل
البراءة عن حرمة المقدمة غير الموصلة، للشك فيها وعدم دليل عليها.
فالنتيجة: هي سقوط الحرمة عن المقدمة مطلقا، سواء أكانت موصلة أم لم
تكن أما عن الأولى فمن ناحية المزاحمة. وأما عن الثانية فمن ناحية أصالة
البراءة. هذا على القول بوجوب مطلق المقدمة.
وأما على القول بوجوب خصوص الموصلة أو خصوص ما قصد به التوصل
فالساقط إنما هو الحرمة عنه فحسب، دون غيره كما سبق.
وأما المقام الثاني: فقد استدل على وجوب المقدمة بأدلة ثلاث:
الأول: ما عن الأشاعرة، وملخصه: أن المولى إذا أوجب شيئا فلابد له من
إيجاب جميع مقدمات ذلك الشئ، وإلا - أي: وإن لم يوجب تلك المقدمات -
فجاز تركها، وهذا يستلزم أحد محذورين: إما أن يبقى وجوب ذي المقدمة بحاله
وهو محال، لأنه تكليف بما لا يطاق. أو لا يبقى وجوبه بحاله، بل يصير مشروطا
بحصول مقدمته، فيلزم عندئذ انقلاب الواجب المطلق إلى المشروط (2).

(1) تقدم في ص 419 - 420 فراجع.
(2) قال المحقق الأصفهاني في هداية المسترشدين ص 205 أآلهتنا 13: (قيل: وكأنها مأخوذة من
كلام أبي الحسن البصري).
446

وغير خفي أن عدم إيجاب الشارع المقدمة مع إيجابه ذيها لا يستلزم أحد
هذين المحذورين أبدا. والسبب في ذلك: ما تقدم من أنه يكفي في القدرة على
ذي المقدمة القدرة على مقدمته، فلا تتوقف على الإتيان بها خارجا، ولا على
وجوبها شرعا، بداهة أنه لا صلة لوجوب المقدمة بالقدرة على ذيها (1). هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الشارع وإن لم يوجب المقدمة إلا أن العقل يستقل بلا
بدية الإتيان بها بحيث لو لم يأت بها وأدى ذلك إلى ترك ذي المقدمة لكان عاصيا
بنظر العقل واستحق العقاب على مخالفته، لفرض أنه خالف تكليف المولى
باختياره.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنه لا يلزم من بقاء وجوب ذي
المقدمة بحاله تكليف بما لا يطاق، لما عرفت من أنه مقدور في هذا الحال، وعليه
فلا موجب للانقلاب أصلا.
والحاصل: أن ترخيص المولى بترك المقدمة معناه: أنه لا يعاقب عليه، لا
أنه لا يعاقب على ترك ذيها بعد تمكن المكلف من الإتيان بمقدماته.
الثاني: ما عن المحقق صاحب الكفاية (2) (قدس سره): من أن الأوامر الغيرية في
الشرعيات والعرفيات تدلنا على إيجاب المقدمة حين إرادة ذيها، مثل قوله تعالى:
* (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق... إلى آخره) * (3)،
وقوله (عليه السلام): " اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه " (4) وما شاكل ذلك، ومن
الواضح أنه لابد من أن يكون لهذه الأوامر ملاك، وهو لا يخلو من أن يكون غير
ملاك الواجب النفسي، أو يكون هو المقدمية.
فعلى الأول يلزم أن تكون تلك الأوامر أوامر نفسية، وهو خلاف الفرض،

(1) مر ذكره في ص 426 فراجع.
(2) كفاية الأصول: ص 156.
(3) المائدة: 6.
(4) وسائل الشيعة: ج 3 ص 405 ب 8 من أبواب النجاسات ح 2 و 3 طبع آل البيت (عليهم السلام).
447

فإذا يتعين الثاني. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه لا خصوصية لهذه الموارد التي وردت فيها تلك
الأوامر، فإذا بطبيعة الحال يتعدى منها إلى غيرها، والقول بوجوب المقدمة مطلقا.
ولنأخذ بالنقد عليه، وهو: أن الأوامر المزبورة مفادها إرشاد إلى شرطية شئ
دون الوجوب المولوي الغيري، ويدلنا على ذلك أمران:
الأول: أن المتفاهم العرفي من أمثال تلك الأوامر هو الإرشاد دون المولوية.
الثاني: ورود مثل هذه الأوامر في أجزاء العبادات، كالصلاة ونحوها
والمعاملات، ومن الطبيعي أن مفادها هو الإرشاد إلى الجزئية، لا الوجوب
المولوي الغيري، كيف؟ حيث قد تقدم أن الجزء لا يقبل الوجوب الغيري.
الثالث: ما جاء به المحقق صاحب الكفاية (1)، وشيخنا الأستاذ (2) (قدس سرهما): من أن
الوجدان أصدق شاهد على ذلك، فإن من اشتاق إلى شئ وأراده فبطبيعة الحال
إذا رجع إلى وجدانه والتفت إلى ما يتوقف عليه ذلك الشئ اشتاق إليه كاشتياقه
إلى نفس الواجب، ولا فرق من هذه الجهة بين الإرادة التكوينية والإرادة
التشريعية وإن كانتا مختلفتين من حيث المتعلق.
والجواب عنه: أنه إن أريد من الإرادة الشوق المؤكد الذي هو من الصفات
النفسانية الخارجة عن اختيار الإنسان وقدرته غالبا ففيه - مضافا إلى أن اشتياق
النفس إلى شئ البالغ حد الإرادة إنما يستلزم الاشتياق إلى خصوص مقدماته
الموصلة لو التفت إليها لا مطلقا - أن الإرادة بهذا المعنى ليست من مقولة الحكم في
شئ، ضرورة أن الحكم فعل اختياري للشارع وصادر عنه باختياره وإرادته.
وإن أريد منها الاختيار وإعمال القدرة نحو الفعل فهي بهذا المعنى، وإن كانت
من مقولة الأفعال إلا أن الإرادة التشريعية بهذا المعنى باطلة، وذلك لما تقدم بشكل
موسع من استحالة تعلق الإرادة بهذا المعنى، أي: إعمال القدرة بفعل الغير (3).

(1) انظر كفاية الأصول: ص 156.
(2) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 284 - 285.
(3) راجع تفصيله في ص 70 - 71.
448

وإن أريد منها الملازمة بين اعتبار شئ على ذمة المكلف وبين اعتبار
مقدماته على ذمته فالوجدان أصدق شاهد على عدمها، بداهة أن المولى قد لا
يكون ملتفتا إلى توقفه على مقدماته كي يعتبرها على ذمته، على أنه لا مقتضى
لذلك بعد استقلال العقل بلا بدية الإتيان بها، حيث إنه مع هذا لغو صرف.
وقد تحصل من جميع ما ذكرناه: أن الصحيح في المقام أن يقال: إنه لا دليل
على وجوب المقدمة وجوبا مولويا شرعيا، كيف؟ حيث إن العقل بعد أن رأى
توقف الواجب على مقدمته ورأى أن المكلف لا يستطيع على امتثال الواجب
النفسي إلا بعد الإتيان بها فبطبيعة الحال يحكم العقل بلزوم الإتيان بالمقدمة
توصلا إلى الإتيان بالواجب، ومع هذا لو أمر الشارع بها فلا محالة يكون إرشادا
إلى حكم العقل بذلك، لاستحالة كونه مولويا.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي عدم وجوب المقدمة بوجوب شرعي مولوي،
لا على نحو الإطلاق، ولا خصوص حصة خاصة منها.
مقدمة المستحب
ثم إننا لو بنينا على وجوب المقدمة شرعا من ناحية ثبوت الملازمة بين
وجوب شئ ووجوب مقدمته فهل تختص هذه الملازمة بخصوص ما إذا كان ذي
المقدمة واجبا، أم يعم المستحب أيضا؟ الظاهر هو الثاني بعين ما ذكرناه من
الملاك، لوجوبها في الواجب، وقد تقدم بشكل موسع (1).
مقدمة الحرام
ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن مقدمة الحرام تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: هو ما لا يتوسط بين المقدمة وذيها اختيار الفاعل وإرادته، فلو أتى
بالمقدمة فذو المقدمة يقع في الخارج قهرا عليه بحيث لا يتمكن من تركه، نظير

(1) تقدم بيانه في ص 434 - 411 فراجع.
449

العلة التامة ومعلولها، كما إذا علم المكلف بأنه لو دخل في المكان الفلاني لاضطر
إلى ارتكاب الحرام قهرا على نحو لا يقدر على التخلف عنه.
وفي هذا القسم حكم (قدس سره) بحرمة المقدمة حرمة نفسية لا غيرية، حيث إن
النهي الوارد على ذي المقدمة وارد عليها حقيقة فإنها هي المقدورة للمكلف دونه.
الثاني: هو ما يتوسط بين المقدمة وذيها اختيار الفاعل وإرادته، إلا أن المكلف
يقصد بإتيان المقدمة التوصل إلى الحرام، حيث إنه بعد إتيانه يقدر على ارتكابه.
وفي هذا القسم أيضا حكم (قدس سره) بالحرمة، ولكنه تردد بين الحرمة النفسية
والغيرية من ناحية تردده أن حرمتها تبتنى على حرمة التجري، أو على السراية
من ذي المقدمة.
الثالث: هو ما يتوسط بين المقدمة وذيها اختيار الفاعل وإرادته، إلا أن إتيان
المكلف بها ليس بداعي التوصل إلى الحرام، فإنه بعد الإتيان بها وإن تمكن من
ارتكابه ولكن لديه صارف عنه.
وفي هذا القسم حكم (قدس سره) بعدم الحرمة، إذ لا موجب لها، فإن الموجب
لاتصاف المقدمة بالحرمة أحد أمرين:
الأول: أن يكون إتيانها علة تامة للوقوع في الحرام.
الثاني: أن يكون الإتيان بها بقصد التوصل. وكلا الأمرين مفقود في المقام (1).
ولنأخذ بالنظر إلى هذه الأقسام:
أما القسم الأول: فتحريم المقدمة يتبع القول بوجوب مقدمة الواجب لوحدة
الملاك بينهما، وهو توقف امتثال التكليف عليها، غاية الأمر ففي مقدمة الواجب
يتوقف امتثال الواجب على الإتيان بها، وفي مقدمة الحرام يتوقف ترك الحرام
على تركها، وحيث إنا لا نقول بوجوب المقدمة فلا نقول بتحريمها.
وأما ما أفاده (قدس سره): من أن النهي في هذا القسم حقيقة تعلق بالمقدمة دون ذيها
نظرا إلى أنها مقدورة دونه فهو مناقض لما أفاده (قدس سره) في غير مورد: من أن

(1) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 246 - 248.
450

المقدور بالواسطة مقدور، فالمعلول وإن لم يكن مقدورا ابتداء إلا أنه مقدور
بواسطة القدرة على علته (1)، ومن الطبيعي أن هذا المقدار يكفي في تعلق النهي به
حقيقة، وعليه فلا مقتضى لحرمة المقدمة.
وأما القسم الثاني: فلأنه لا موجب لاتصاف المقدمة بالحرمة الغيرية وإن
قلنا بوجوب مقدمة الواجب، وذلك لعدم توقف الاجتناب عن الحرام على ترك
المقدمة، لفرض أن المكلف بعد الإتيان بها قادر على ترك الحرام، وهذا بخلاف
مقدمة الواجب فإن المكلف لا يقدر على الواجب عند ترك مقدمته.
وأما الحرمة النفسية: فهي على تقديرها ترتكز على حرمة التجري. ولكن قد
حققنا في محله أن التجري لا يكون حراما وإن استحق المتجري العقاب عليه. وقد
ذكرنا هناك: أنه لا ملازمة بين استحقاق المتجري العقاب وحرمة التجري شرعا (2).
نعم، يظهر من بعض الروايات أن هذه الحرمة من ناحية نية الحرام، وقد
تعرضنا لهذه الروايات وما دل على خلافها بشكل موسع في مبحث التجري (3)،
فلاحظ.
وأما القسم الثالث: فالأمر كما أفاده (قدس سره)، حيث إنه لا موجب لاتصاف
المقدمة بالحرمة أصلا، لعدم الملاك له، فإن ملاكه إنما هو توقف الامتثال عليها،
والمفروض أن ترك الحرام لا يتوقف على تركها.
فالنتيجة: أن مقدمة الحرام ليست بمحرمة إلا في صورة واحدة: (الصورة
الأولى) بناء على وجوب مقدمة الواجب شرعا، وبما أنه لم يثبت فلا حرمة أصلا.
ومن هنا يظهر حال مقدمة المكروه من دون حاجة إلى بيان.
هذا آخر ما أوردناه في هذا الجزء. وقد تم بعون الله تعالى وتوفيقه.
[ويتلوه الجزء الثالث - إن شاء الله تعالى - وأوله مسألة الضد]

(1) منها ما في فوائد الأصول: ج 1 ص 68.
(2) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 26.
(3) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 29.
451