الكتاب: زبدة الأصول
المؤلف: السيد محمد صادق الروحاني
الجزء: ٤
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ربيع الأول ١٤١٢
المطبعة: أمير
الناشر: مدرسة الإمام الصادق (ع)
ردمك:
ملاحظات:

زبدة الأصول
تأليف
المحقق الفذ آية الله العظمى
السيد محمد صادق الحسيني الروحاني
مد ظله
/ الجزء الرابع /
1

الكتاب: زبدة الأصول ج 4
المؤلف: السيد محمد صادق الحسيني الروحاني
نشر: مدرسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: أمير
الكمية: 1000 نسخه
السعر: 200 تومان
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل صلواته
وأكمل تحياته على أشرف بريته محمد وآله الطيبين
الطاهرين لا سيما الامام الثاني عشر بقية الله في ارضه
أرواح من سواه فداه واللعن على أعدائهم أجمعين
وبعد فهدا هو الجزء الرابع من كتابنا الأصول
وفقنا لطبعه، والمرجو من الله تعالى ان يمن على هذا
الضعيف بقبول هذه البضاعة المزجاة ويثبتها في
ديوان الحسنات لتكون ذخرا إلى يوم لا ينفع مال ولا
بنون الا من اتى الله بقلب سليم.
3

تعريف الاستصحاب
الفصل الرابع: في الاستصحاب، وتنقيح القول فيه يستدعى تقديم أمور.
الأول: في حقيقة الاستصحاب وقد نقل الشيخ الأعظم عن القوم في تعريف
الاستصحاب وجوها ثلاثة: 1 - ما عن المحقق القمي (ره) وهو كون حكم أو وصف يقيني
الحصول في الان السابق مشكوك البقاء في الان اللاحق 2 - ما عن المشهور بل نسبه
شارح الدروس إلى القوم وهو اثبات الحكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه 3 - ما
عن الفاضل التوني وشارح المختصر وهو ان الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه وكلما
كان كذلك فهو باق، ويستفاد من كلمات الشيخ (ره) انه يرى توافق التعاريف الثلاثة.
ويمكن توجيهه بما افاده بعض المحققين، من أن التعريف قد يكون بالعلة،
ويسمى بمبدأ البرهان كتعريف الغضب بإرادة الانتقام، وقد يكون بالمعلول، ويسمى
بنتيجة البرهان كتعريف الغضب بغليان دم القلب، وقد يكون بهما، ويمسي بالحد التام
الكامل، كتعريف الغضب بغليان الدم لإرادة الانتقام وتعريف الاستصحاب، بالأول من
قبيل مبدأ البرهان، وبالثاني من قبيل نتيجة البرهان، وبالثالث من قبيل الحد التام الكامل.
ولكن يرد عليها ان هذه هو الاستصحاب الذي يكون من الامارات، واما على
فرض القول به من باب الاخبار كما عليه المتأخرون فلا يتم هذه التعاريف كما هو واضح.
ولذلك أفاد المحقق الخراساني (ره) في الكفاية ان عبارتهم في تعريفه وان كان
شتى الا انها تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي
حكم شك في بقائه اما من جهة بناء العقلاء على ذلك في أحكامهم العرفية مطلقا أو
في الجملة تعبدا أو للظن به الناشئ عن ملاحظة ثبوته سابقا واما من جهة دلالة النص أو
دعوى الاجماع إلى أن قال، وتعريفه بما ينطبق على بعضها وان كان ربما يوهم ان لا يكون
5

هو الحكم بالبقاء بل ذاك الوجه الا انه حيث لم يكن بحد ولا برسم بل من قبيل شرح
الاسم كما هو الحال في التعريفات غالبا لم يكن له دلالة على أنه نفس الوجه بل للإشارة
إليه من هذا الوجه ولذا وقع للاشكال على ما ذكر في تعريف بعدم الطرد أو العكس فإنه
لم يكن به إذا لم يكن بالحد أو الرسم بأس انتهى.
وفى كلامه (قده) مواقع للنظر، الأول: ما افاده من أن حقيقة الاستصحاب على
جميع المباني والتعريفات شئ واحد، والكل تشير إليه.
فإنه يرد عليه ان الأنظار كما أشار إليه مختلفة في اعتبار الاستصحاب وحجيته،
فمنهم من يراه حجة لكونه امارة شرعية من جهة بناء العقلاء، وملاك اعتباره حينئذ
إفادته الظن النوعي كما في ساير الامارات الشرعية، ومنهم من يراه حجة للاذعان العقلي
الظني ببقاء الحكم وملاك اعتباره حينئذ الظن الشخصي ويكون حاله حال بعض الظنون
الخاصة كالظن بالقبلة، والظن في عدد الركعات، والظن الانسدادي على الكشف، واختار
المحققون من المتأخرين انه حجة لكونه أصلا عمليا من جهة دلالة النص أو الاجماع
عليه.
وعلى المسلكين الأولى يكون الاستصحاب مثبتا للحكم وطريقا إليه، وعلى
المسلك الأخير يكون وظيفة مجعولة مع عدم الطريق إلى الواقع، فلا يمكن فرض جامع
في البين.
وما افاده من أن المفهوم الواحد الذي يشير الكل إليه، هو الحكم ببقاء حكم أو
موضوع ذي حكم شك في بقائه، لا يتم، إذا الاستصحاب على تقدير الا مارية كاشف عن
الحكم وطريق إليه، فلا يمكن تعريفه بنفس الحكم، وعلى تقدير كونه أصلا عمليا، وان
كان عبارة عن نفس الحكم الا انه ليس هو الحكم ببقاء الحكم الواقع أو موضوعه.
الثاني: ما افاده من أن بناء العقلاء قد يكون تعبدا، فان التعبد في بنائهم غير معقول،
فان العقلاء ليسوا الا المكلفين فكيف يمكن ان يحكم المكلف على نفسه بشئ ولا يفهم
مناطه ويتعبد نفسه بذلك، وهذا من الوضوح بمكان.
الثالث: فيما افاده من أن عدم اطراد التعاريف أو عدم انعكاسها، لا يضر بعد ورودها
6

في مقام شرح الاسم.
فإنه يرد عليه: ان شرح اللفظ والتعريف على قسمين، شرح تام موجب لتمييز
المدلول عن جميع ما عداه، وشرح ناقص موجب لتمييزه عن بعض ما عداه، والذي لا يضر
عدم اطراده وانعكاسه انما هو الثاني، ومقصود الشارحين للعناوين هو الأول، فالاعتذار
عن عدم اطراد التعاريف تارة، وعدم انعكاسها أخرى بان تعاريفهم تعاريف لفظية وفى
مقام شرح الاسم، لا يقبل.
وأيضا يرد عليه (قده) ان ظاهره بل صريح كلامه في المقام وفى باب العام والخاص
وبحث مقدمة الواجب ان شرح الاسم يرادف التعريف اللفظي - وبعبارة أخرى - ان ما
يقال في جواب ما الشارحة ويعبر عنه بشرح الاسم يرادف التعريف اللفظي، وقد تبع في
ذلك الحكيم السبزواري (قده)، وأظن أن منشأه ما افاده الشيخ في النجاة من أن الوجود
لا يمكن ان يشرح بغير اسم، ومراده التعريف اللفظي المقابل للحقيقي أي ان صورته
تقوم في النفس بلا توسط شئ ولا يكون شئ محصلا لصورته حتى يكون تعريفا حقيقيا
له بل ما يعبر عنه فإنما هو تعريف بلفظ آخر كالترجمة.
والا فالذي صرح به، الشيخ في الإشارات، والمحقق الطوسي في شرحها،
والمحقق اللاهيجي في حاشيته على الشوارق، والمحقق الأصفهاني: ان التعريف اللفظي
يقابل التعريف الحقيقي والأول شان اللغوي والعرف، لا الحكيم، والثاني ينقسم إلى ما
يكون بحسب الحقيقة والمراد بها الماهية الموجودة، وما يكون بحسب الاسم وهو
ما يكون قبل معرفة وجود المسؤول عنه، وكل منهما ينقسم إلى الحد والرسم، وعلى
الجملة ان الحدود قبل الهليات البسيطة حدود اسمية وهي بأعيانها بعد الهليات تنقلب
حدودا حقيقية ولتمام الكلام محل آخر، فمطلب ما الشارحة وشرح الاسم من اقسام
التعريف الحقيقي ويقابل التعريف اللفظي فجعله عبارة عن التعريف اللفظي خلاف
الاصطلاح فلا تغفل.
ومما ذكرناه في الايراد الأول على صاحب الكفاية يظهر، ان تعريف الشيخ الأعظم
للاستصحاب بأنه ابقاء ما كان، والمراد بالابقاء الحكم بالبقاء.
7

غير تام، ولا يستقيم على شئ من المسالك في حجية الاستصحاب.
ويرد عليه مضافا إلى ذلك، ما ذكره المحقق الخراساني في التعليقة
والمحقق النائيني، بما حاصله ان قوام الاستصحاب على ما يستفاد من الاخبار باليقين
السابق والشك اللاحق وقد أخل في هذا التعريف بهما من دون دلالة عليه.
وتوجيه التعريف المزبور بنحو يندرج فيه القيدان، بان ذكر ما كان، مع كونه دخيلا
في مفهوم الابقاء، أريد به دخل الوجود السابق المعلوم فيه، كما أن تعليق الحكم على
الوصف، مشعر بالعلية، فلن لم يكن شاكا، لا يكون الابقاء مستندا إلى الكون السابق
فالقيدان مأخوذان في التعريف.
لا يكفي لان الاكتفاء في الحد بما له اشعار بالقيد المعتبر في المحدود بلا ظهور
ودلالة عرفية عليه لا يجوز في مقام التحديد، ولعله إلى ذلك نظر المحقق الخراساني في
التعليقة حيث أورد على تعريف الشيخ بايرادات وعد منها، الاقتصار على الاشعار في بيان
بعض ما يعتبر فيه كما اعتبر به (قده).
فالحق ان يقال، في تعريفه بناءا على ثبوته ببناء العقلاء، كون الشئ متيقنا سابقا
مشكوكا فيه لاحقا، لأنه الذي يفيد الظن بالحكم ويكون مثبتا له، فيكون على هذا أحسن
التعاريف ما عن المحقق القمي، وقد تقدم.
وبناءا على كونه بحكم العقل، هو الظن ببقاء حكم أو وصف كان يقيني الحصول
في الان السابق مشكوك البقاء في الان اللاحق.
وعلى فرض ثبوته بالاخبار فالأحسن ان يعرف بما هو المستفاد من الاخبار وهو الحكم ببقاء الاحراز السابق في ظرف الشك من حيث الجري العملي، وقد عرفه بذلك
المحقق النائيني (ره).
ويكون في التعريف إشارة إلى ما يميزه من ساير الأصول العملية بكونه محرزا،
دونها، والى ما يميزه عن الامارات، فان المجعول في الامارات هو الاحراز والقطع، وفيه
يكون المجعول هو الاحراز من حيث اثره الخاص، وهو الجري العملي على طبقه.
الامر الثاني: في صحة اطلاق الحجة على الاستصحاب وعدمها، وملخص القول
8

فيه، انه بناءا على كونه من الامارات يصح اطلاق الحجة عليه فإنه يكون حينئذ وسطا
لاثبات حكم المتعلق فيقال، ان صلاة الجمعة كانت واجبة سابقا، وشك في بقاء وجوبها،
وكلما كان كذلك فهو واجب ببناء العقلاء، فهي واجبة في ظرف الشك.
واما بناءا على كونه من الأصول العملية وعبارة عن الحكم الشارع بعدم نقض اليقين
بالشك، فلا يصح اطلاق الحجة عليه، لأنه حينئذ مدلول للدليل، ولا يكون حجة على
نفسه كساير الأحكام التكليفية.
وتصحيحه بما في تقريرات الأستاذ المحقق الكاظميني، بان حمل الحجة عليه من
قبيل حمل الحجة على المفهوم، بإرادة ثبوته وعدمه من حجيته وعدمها.
مخدوش، بأنه بما ان المفهوم على فرض ثبوته من مصاديق الحجة يصح التعبير
عن ثبوت الحجة وعدمه بالحجية وعدمها، وهذا بخلاف حكم الشارع ببقاء الاحراز
السابق، فإنه كساير الأحكام الشرعية، أجنبي عن الحجية بالمرة.
هل الاستصحاب مسألة أصولية أو قاعدة فقهية
الامر الثالث: في أن البحث عن حجية الاستصحاب، هل هو بحث عن مسألة
أصولية كما صرح به المحقق الخراساني في الكفاية، أم يكون بحثا عن قاعدة فقهية كما
يظهر من بعض كلمات الشيخ الأعظم، أو يفصل بين الاستصحاب الجاري في الشبهات
الحكمية، والاستصحاب الجاري في الشبهة الموضوعية، ففي الأول يكون الاستصحاب
مسألة أصولية، وفى الثاني يكون قاعدة فقهية كما اختاره المحقق النائيني (ره).
وقد استدل في الكفاية للأول، بأمرين، 1 - انه يبحث فيها لتمهيد قاعدة تقع في
طريق استنباط الاحكام الفرعية 2 - انه ربما لا يكون مجرى الاستصحاب الا حكما أصوليا
كالحجية مثلا.
ويرد على ما افاده أولا: انه مناقض لما ذكره في أول الكتاب، حيث إنه أضاف في
تعريف علم الأصول - قيد - أو التي ينتهى إليه في مقام العمل، وذكر في وجهه ان الأصول
9

العملية لا يقع شئ منها في طريق استنباط الحكم، ولولا هذا القيد لزم استطرادية البحث
فيها.
ويرد على ما افاده ثانيا، ما ذكره الشيخ الأعظم (ره) بقوله - نعم يندرج تحت هذه
القاعدة مسألة أصولية يجرى فيها الاستصحاب، كما تندرج المسألة الأصولية أحيانا تحت
أدلة نفي الحرج، كما ينفى وجوب الفحص عن المعارض حتى يقطع بعدمه بنفي الحرج.
والحق ان يقال انه لو بنينا على كونه من الامارات فكونه منها في غاية الوضوح،
حيث إنه يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي نظير خبر الواحد، مثلا يستنبط منه نجاسة
الماء المتغير الذي زال تغيره من قبل نفسه، والماء المتمم كرا بطاهر، ووجوب صلاة الجمعة
وما شاكل - وبعبارة أخرى - إذا جعلت نتيجة هذا البحث كبرى القياس تكون النتيجة حكما فرعيا كليا، ولا تكون بنفسها قابلة للالقاء إلى المكلفين.
وان اخذناه من الاخبار فان أضفنا في تعريف الأصول قيد أو التي ينتهى إليه في
مقام العمل، فكونه منها واضح أيضا، وان لم نضفه، فالظاهر كونه منها: فان المسألة
الأصولية هي التي تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية، أعم من الظاهرية والواقعية،
كانت بنفسها حكما غير قابل للالقاء إلى المقلدين، ويكون امر تطبيقه بيد المجتهد، أم لم
تكن حكما، والاستصحاب وان كان بنفسه حكما مجعولا، الا انه حكم لا يكون قابلا
للالقاء إلى المقلدين، ويستخرج منه حكم كلي غاية الامر حكما ظاهريا لا واقعيا،
بخلاف الامارات.
هذا كله في الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية، واما الجاري في
الشبهات الموضوعية، فهو قاعدة فقهية: فان المستخرج منه حكم جزئي متعلق بعمل
المكلف ونفس حجية الاستصحاب، قابل للالقاء إلى المقلدين وتطبيقه على موارده بيد
المقلد دون المجتهد ومن هنا نشأ اشكالان.
الأول: ان الموضوع للاستصحاب الجاري في الشبهة الحكمية، هو اليقين
والشك للمجتهد، وهو الموضوع لثبوت الحكم في حق المقلدين، وفى الشبهة
الموضوعية يكون الموضوع حال المقلد نفسه فكل من له يقين سابق، وشك لاحق
10

يجرى الاستصحاب في حقه، فيلزم استعمال اللفظ في معنيين واثبات معنيين بجملة واحدة
- وتصحيح - ذلك بان المجتهد نائب عن المقلدين، لا يكفي لعدم الدليل على هذه النيابة.
فالحق ان يقال انه في الموردين يجرى الاستصحاب بالنسبة إلى من له يقين
وشك، غاية الامر في الشبهة الحكمية من له اليقين والشك، هو المجتهد، فالمجتهد
يبقى الحكم المتيقن واثر بقائه له جواز افتائه به، وإذا انضم إلى ذلك ما دل على رجوع
الجاهل إلى العالم، يستنتج ان ما استصحبه المجتهد من الحكم، للمقلدين اتباعه والعمل
به، فلا تنقض لا يكون متوجها إلى المقلدين، حتى يقال ان موضوعه يقين وشك غير من
يكون الحكم متوجها إليه، ففي الموردين الحكم متوجه إلى من له يقين وشك فتدبر فإنه
دقيق.
الثاني: ان لا تنقض الذي هو مجعول واحد كيف يكون، تارة حكما فرعيا،
وأخرى حكما أصوليا، والجواب عنه انه كساير الاحكام والمجعولات الشرعية انما
يكون من قبيل القضية الحقيقية ويكون منحلا إلى احكام عديدة بعضها حكم أصولي
وبعضها حكم فرعى.
اعتبار اتحاد القضيتين
الامر الرابع: قال في الكفاية فقد ظهر مما ذكرنا في تعريفه اعتبار أمرين في مورده
القطع بثبوت شئ والشك في بقائه ولا يكاد يكون الشك في البقاء الا مع اتحاد القضية
المشكوكة والمتيقنة انتهى، والصحيح ان يقال ان النقض والابقاء حيث لا يصدقان الا مع
اتحاد القضية المتيقنة والمشكوك فيها، والا فمع التغاير لا يكون ابقاءا ولا نقضا كما
لا يخفى، فيستكشف من ذلك أن اللازم هو اليقين السابق والشك اللاحق.
واما ما افاده المحقق الخراساني فيرد عليه ان تعريف الاستصحاب بما ذكر،
لا يصلح دليلا لاعتبار ذلك فليكن التعريف غير تام.
ثم إن المحقق الخراساني أفاد ان الاتحاد لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية،
11

واما في الأحكام الشرعية، فقد أشكل عليه بأنه لا يكاد يشك في بقاء الحكم الا من جهة
الشك في بقاء موضوعه بسبب تغير بعض ما هو عليه مما احتمل دخله فيه حدوثا أو بقاءا
والا لا يتخلف، الحكم عن موضوعه.
أقول: يرد عليه ان ما افاده من أن الاتحاد لا غبار عليه في الموضوعات، لا يتم في
الموضوعات التي تنقص تارة وتبقى على التمام أخرى، كما في مقدار من الماء الذي
يكون كرا، فإنه ما دام لم ينقص منه شئ لا يشك في كريته وانما يشك فيها إذا اخذ
مقدار من الماء ومعه لا يكون الموضوع باقيا، فان الباقي بالدقة غير ما كان.
وربما يورد على المحقق الخراساني بايراد آخر وهو ان ما افاده من أنه لا يتصور
الشك في الحكم، الا مع الشك في موضوعه، ينافي ما بنى عليه من أن بعض القيود يكون
قيدا للحكم وليس من قيود الموضوع كما لو ورد أكرم العالم، إذا جاء، فان الشرط في
القضية، وهو المجئ قيد للحكم، دون الموضوع، وعلى هذا فإذا انتفى قيد من هذه
القيود يكون ثبوت الحكم مشكوكا فيه لاحتمال كونه قيدا للحدوث لا للبقاء، ومع ذلك
يكون الموضوع باقيا، فالشك في الحكم لا يلازم الشك في الموضوع.
وفيه: ان الموضوع في المقام غير الموضوع الاصطلاحي: فإنه لم يرد رواية ولا آية
دالة على لزوم بقاء الموضوع، بل الدليل كما تقدم دل على لزوم اتحاد القضيتين،
ولا يصدق ذلك الا مع اتحادهما حتى من ناحية قيود الحكم ان لم ترجع إلى قيود
الموضوع.
وقد يقال بان المراد بالاتحاد ان كان اتحاد الموضوعين حقيقة وطبيعة وان اختلفا
وجودا، فيلزم الالتزام بجريان الاستصحاب فيما إذا تيقن بترتب محمول على فرد، وشك
بعده في ثبوته لفرد آخر كما إذا علم بعدالة زيد، ثم شك في عدالة عمرو، وهو بين
الفساد، وان كان اتحادهما وجودا، فيلزم عدم جريان الاستصحاب في القضايا الطبيعية مع
عدم تحقق مصداق له في الخارج.
وفيه: انا نختار الشق الثاني ولكن نقول ان المراد ليس اتحادهما في الوجود
الخارجي الحقيقي، بل الأعم منه ومن الوجود الفرضي كما هو الشأن في جميع القضايا
12

الحقيقية.
والجواب عن أصل اشكال الاتحاد، انه ليس لنا دليل دال على لزوم بقاء الموضوع
، بل الدليل متضمن للنهي عن النقض، وفى صدق هذا المفهوم وتعينه يرجع إلى العرف، فلو
رأى العرف ان الحكم بطهارة ما كان نجسا وارتفع منه قيد، وشك في بقاء نجاسته،
نقضا، فالحكم بالنجاسة يكون موردا للاستصحاب مثلا الماء المتغير النجس الذي زال
تغيره من قبل نفسه يرى العرف ان الحكم بطهارته نقض لليقين السابق يجرى
الاستصحاب، ولو لم يصدق النقض لا يكون موردا له، وبالجملة، ليس في الدليل ما يدل
على لزوم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوك فيها، ولا على لزوم بقاء الموضوع، بل ليس
فيه الا، لا تنقض اليقين بالشك، وحيث إن النقض مفهوم عرفي معلوم عند العرف، فلا بد
في جريان الاستصحاب من رعاية صدق ذلك وقد يصدق مع فرض اخذ القيد المرتفع
عنوانا للموضوع، وقد لا يصدق مع اخذه قيد للحكم دون الموضوع.
الفرق بين الاستصحاب وقاعدة المقتضى والمانع
الخامس: لا اشكال في أن الاستصحاب يباين، لكل من قاعدة اليقين، وقاعدة
المقتضى والمانع، كما أن كلا من القاعدتين تباين الأخرى، ولا يكون جامع بين العنوانين
الثلاثة.
توضيح ذلك أنه بعد ما لا ريب في أن اليقين والشك متضادان لا يجتمعان في
محل واحد، فان حصلا معا.
فتارة يكون متعلق كل منهما غير متعلق الآخر كما إذا علم بعدالة زيد وشك في
اجتهاد عمرو مثلا، لا كلام في عدم ارتباطه بالمقام.
وأخرى يكون بينهما ارتباط بان كان متعلق اليقين جزء العلة لمتعلق الشك، كما لو
علم بوجود النار وشك في الحرقة لاحتمال الرطوبة، وهذا هو مورد قاعدة المقتضى
والمانع.
13

وثالثة: يكون المتعلقان متحدين ذاتا ومتغايرين زمانا كما إذا علم بحدوث شئ
وشك في بقائه، فان كان متعلق اليقين مقدما كما في المثال فهو مورد للاستصحاب
المعروف، وان كان متعلق الشك مقدما كما لو علم بظهور لفظ فعلا في معنى وشك في أنه
كان ظاهرا فيه في زمان الشارع أم لا؟ فهو مورد للاستصحاب القهقرى وسيأتي الكلام
فيه.
ورابعة: يكون المتعلقان متحدين زمانا وذاتا والتغاير انما يكون في زمان الوصفين،
فان كان زمان الشك مقدما كما لو شك في يوم الأربعاء في موت زيد وتيقن يوم الجمعة
بموته في يوم الأربعاء فهو مما لا كلام فيه ويجب العمل باليقين، وان انعكس كما لو علم
يوم الأربعاء بموت زيد وشك في يوم الجمعة في موته في ذلك اليوم لاحتمال كون
العلم السابق جهلا مركبا، فهو مورد لقاعدة اليقين.
إذا عرفت ما ذكرناه من الأمور فاعلم، انه يقع البحث، أولا: في أنه هل يكون
الاستصحاب حجة ويدل على ذلك دليل أم لا؟ وثانيا: في مقدار دلالة الدليل على فرض
وجوده، وفى ذيل ما استدل به لحجية الاستصحاب، نتعرض لقاعدتي اليقين، والمقتضى
والمانع، وكيف كان فقد استدل لحجية الاستصحاب بوجوه.
الدليل الأول من أدلة حجية الاستصحاب
الأول: استقرار بناء العقلاء من الانسان، بل ذوي الشعور من كافة أنواع الحيوان
على العمل على طبق الحالة السابقة، وحيث لم يردع عنه الشارع كان ماضيا.
وقد وقع الكلام في كل من الصغرى أي ثبوت بناء العقلاء، والكبرى وهي امضاء
الشارع إياه، فتنقيح القول بالبحث في مقامين.
اما المقام الأول: فقد أنكر المحقق الخراساني، ثبوته قال وفيه أولا منع استقرار
بنائهم على ذلك تعبدا، بل اما رجاءا واحتياطا، أو اطمينانا بالبقاء، أو ظنا ولو نوعا انتهى.
وأورد عليه المحقق النائيني، وحاصل ما افاده انه لا ريب في استقرار سيرة العقلاء
14

في محاوراتهم ومعاملاتهم ومراسلاتهم على البناء على بقاء الحالة السابقة، ولولا ذلك
لاختل النظام، ومن الواضح ان هذا البناء ليس من باب التعبد بالشك لعدم معقولية التعبد
من العقلاء، ولا، من باب الا مارية والكاشفية لعدم الكاشفية للشك، ولا، لأجل حصول
الاطمينان لفرض الشك، ولا لمحض الرجاء إذ ربما يترتب على عدم البقاء اغراض
مهمة، ولا، للغفلة لفرض الشك والالتفات، بل، يكون ذلك بالهام من الله تعالى حتى
لا يختل أمور معاشهم ومعادهم.
وفيه: ان المحقق الخراساني يدعى عدم ثبوت بناء العقلاء، على العمل على طبق
الحالة السابقة بهذا العنوان، وان بنائهم عليه في جملة من الموارد لجهات مختلفة، فقد
يكون، هو الرجاء والاحتياط، كمن يمشى إلى دار مديونه لمطالبة الدين، مع احتمال
خروجه عن الدار، وقد يكون لأجل حصول الاطمينان أو الظن، كمن يرسل مال تجارته
إلى طرفه الحي السوي القوى، وقد يكون للغفلة، وفى غير هذه الموارد، لم يثبت بناء من
العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة، ولا يدعى انه في جميع الموارد يكون العمل
على طبقها لاحد هذه الأمور، وعليه، فما افاده تام لا يرد عليه ما أورده المحقق النائيني (ره).
واما المقام الثاني: ففي الكفاية انكار امضاء الشارع إياه على فرض ثبوته، مستندا
إلى أنه يكفي في الردع عن مثله ما دل من الكتاب والسنة على النهى عن اتباع غير العلم،
وما دل على البراءة والاحتياط في الشبهات.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بان جميع موارد السيرة العقلائية خارجة عن العمل
بما وراء العلم بالتخصص فإنها لكونها حجة عقلائية تكون من افراد العلم فتكون خارجة
عن موضوع الآيات والروايات الناهية عن العمل بما وراء العلم.
أقول: يرد على المحقق الخراساني ان كلامه في المقام يهافت ما افاده في مبحث
الخبر الواحد من أن الأدلة الناهية عن العمل بما وراء العلم لا تشمل ما قامت السيرة
العقلائية على العمل به، الا على نحو دائر، ولذلك حكم بان السيرة على العمل بخبر
الواحد مخصصة لتلك الأدلة. نعم، ما افاده في الهامش هناك بان الردع عن العمل بالخبر
لم يكن في أول البعثة قطعا، ويشك بعد ذلك في الردع يستصحب عدم الردع، لا يجرى
15

في المقام لان الكلام في حجية الاستصحاب.
ويرد على ما افاده المحقق النائيني (ره)، انه لابد من التفصيل بين موارد السيرة
العقلائية الثابتة من جهة الطريقية والكاشفية، وبين الموارد الثابتة لجهة أخرى كما أفاد
في المقام انها ثابتة لحفظ النظام بالهام من الله تعالى، وفى المورد الأول كما في خبر
الواحد لا تصلح الآيات للردع عنها لما ذكرناه في مبحث خبر الواحد، وفى المورد الثاني
كما في المقام على فرض ثبوتها حيث إنها تكون لمصلحة حفظ النظام، لا للطريقية تصلح
الآيات والروايات للردع عنها، لفرض عدم كونها من افراد العلم لا حقيقة ولا تعبدا،
وتخصيص الآيات والروايات بها يتوقف على أن تكون السيرة ممضاة عند الشارع،
المتوقف ذلك على عدم الردع مع امكانه، واما عدمه مع عدم امكان الردع، فلا يكشف
عن الامضاء، وحيث يحتمل ان يكون زمان نزول الآيات أول أزمنة امكان الردع فلا
كاشف عن امضائها، شرعا فلا محالة لا تكون حجة لوجود ما يصلح للردع.
وبما ذكرناه يندفع ما ذكره المحقق الأصفهاني (ره) من أن السيرة لتقدمها وامضائها
شرعا قبل نزول الآيات تصلح لان تكون مخصصة لها، كما أنه في نظر العقلاء بما هم
منقادون للشرع، لا فرق في الردع بين العموم والخصوص فالآيات أيضا تصلح للرادعية
والناسخية لها، فيدور الامر بين ناسخية الآيات ومخصصية السيرة، وشيوع التخصيص
وندرة النسخ، يقوى جانب التخصيص.
وجه الاندفاع ان عدم الردع قبل نزول الآيات لا يكشف عن الامضاء، ولو سلم
كونه كاشفا عنه تكون السيرة خارجة عن موضوع الآيات، فلا يدور الامر بين التخصيص
والنسخ، فتأمل فان الثاني قابل للمناقشة.
هل الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق
الثاني: ان الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق.
أقول: منشأ هذا الظن أحد أمرين. اما، ان ارتكاز الثبوت في الذهن يرجح جانب
16

الوجود، أو ان تصفح الموجودات، يوجب ذلك فان الغالب فيما ثبت يدوم. والأول:
لا يوجب الظن بعد فرض احتياج الممكن في بقائه إلى العلة. والثاني: يرد عليه ان
الموجودات مختلفة من حيث الدوام، مثلا الانسان بحسب النوع في هذه الأزمنة يعيش
إلى سبعين أو ثمانين سنة، والحية تعيش على ما يقال إلى الف سنة الا ان تقتل، وبعض
الحيوانات يعيش إلى ثلاثة أيام، وهكذا.
نعم لا ننكر حصول الظن بالبقاء من جهة الغلبة بعد رعاية الصنف مثلا الغالب في
المتطهر في أول الصبح مع كونه سالما دوام طهارته بعد مدة ساعتين مثلا، والالتزام بحجية
الاستصحاب في خصوص هذا المورد مما لم يفت به أحد.
وما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) في وجه منع حصول الظن من الغلبة بأنه لا جامع
رابط بين الموجودات فان بقاء كل منها ببقاء علته الخاصة المفقودة في غيره.
يرد عليه: ان الاحتياج إلى الجامع الرابط انما هو في مورد الاستقراء التام، أو
الناقص، واما في مورد الغلبة فهي لا توجب الظن من جهة الحكم على الكلى كي يحتاج
إلى الجامع الرابط بل من جهة تردد امر المشكوك فيه، بين ان يكون من الافراد الغالبة أو
النادرة فيظن بالأول لتقويه بالغالب.
ثم انه على فرض حصول الظن لا دليل على حجيته بل قد مر في أوائل مبحث الظن
ان الأصل في الظن عدم الحجية فراجع.
الثالث: الاجماع عليه كما عن المبادي وغيرها.
وفيه: أولا، ان الاجماع غير متحقق فإنه من الأقوال القول بعدم حجيته مطلقا ومنها
حجيته في الموضوعات، دون الاحكام، ومنها عكس ذلك، ومنها حجيته في الاحكام
الجزئية، دون الكلية، ومنها عكس ذلك، إلى غير ذلك من الاختلافات. وثانيا: ان
مدرك المجمعين معلوم ومثل هذا الاجماع الذي يكون معلوم المدرك، أو محتمله،
ليس تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم (ع).
17

الاستدلال لحجية الاستدلال لحجية الاستصحاب بمضمرة زرارة
الرابع: وهو العمدة في الباب، الأخبار الكثيرة البالغة حد الاستفاضة، فمنها صحيح
زرارة، قال قلت له الرجل ينام وهو على وضوء أ يوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟
قال (ع): يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب
الوضوء، قلت: فان حرك على جنبه وهو لم يعلم به قال (ع): لا حتى يستيقن انه قد نام
حتى يجئ من ذلك امر بين والا فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين ابدا بالشك
وانما ينقضه بيقين آخر (1).
والكلام في هذا الخبر يقع في جهات الأولى: في سنده وقد أشكل عليه بأنه
مضمر، ولكن الظاهر أنه لا يضر بحجيته وذلك لوجوه 1 - ان الاضمار في الاخبار انما نشأ
من تقطيع الاخبار وتبويبها ولو لم يكن المروى عنه هو الإمام (ع) لما كان الأصحاب
يذكرونه في كتبهم على وجه الاستناد مع شدة مواظبتهم واحتياطهم، كانت الرواية من
قبيل الفتوى أو النقل 2 - ان المضمر في المقام هو زرارة وهو مع جلالة قدره وعلو شأنه
ومقامه لا يروى الا عن الإمام (ع) 3. ان جماعة منهم السيد الطباطبائي (قده) والأمين
الاسترآبادي ذكروا الخبر ورووه عن الإمام الباقر (ع).
الثانية: في فقه الحديث وشرح جملات الصحيح غير ما يتوقف عليه الاستدلال
، منها قوله (ينام وهو على وضوء (فقد أشكل عليه: بان (وهو على وضوء) حال للنائم مع أنه
لا يمكن اجتماع النوم والوضوء في زمان واحد - وبعبارة أخرى - يعتبر في الحال ان يكون
مقارنا مع ذي الحال وبديهي ان النوم والوضوء لا يمكن تقارنهما.
وأجيب عنه بأجوبة منها ما افاده المحقق الخراساني في تعليقته، وهو انه لا يعتبر
تقارنهما، بل يكفي مجرد اتصالهما اما مطلقا أو في خصوص أمثال المقام مما كان

1 - الوسائل باب 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث 1.
18

أحدهما سببا لارتفاع الآخر، حيث إن آخر زمان الوضوء متصل بالنوم.
وفيه: أولا، ان الاتصال الزماني في الأضداد لا يكفي، والشاهد عليه استهجان
استعمال قعد زيد هو قائم، أو نام وهو مستيقظ. وثانيا، انه لو كان السائل عالما بصدق
النوم واتصافه بكونه نائما كان مرجعه اطلاق أدلة ناقضية النوم، ولم يكن وجه للسؤال عن
الإمام (ع).
ومنها: ما افاده المحقق الأصفهاني (ره) وهو انه لا يعتبر في الحال الاجتماع مع ذيها
في زمان واحد، بل يكفي الاجتماع في متن الواقع، ولذا يصح ان يقال، أتهينني وقد
أكرمتك قبل ذلك بسنة.
وفيه: ان المقصود من هذه الجملة هو اثبات ان من يكون متصفا بأنه أكرمك، ولو
في الزمان السابق غير مستحق للإهانة، فالحال هو الاتصاف بهذه الصفة، ومعلوم انه
مقارن مع ذي الحال، وليس المراد عدم استحقاق المتلبس بالاكرام فعلا للإهانة، حتى
لا يكون مقارنا مع ذي الحال، وبالجملة، لا شبهة في اعتبار مقارنتهما وان ما ذكر من المثال
لا ينافي ذلك.
والحق ان يقال: ان النوم في هذه الجملة غير مستعمل في معناه الحقيقي، بل المراد
منه هو مقدمات النوم والاستعداد له واستعمل النوم فيه بعلاقة المشارفة، فالمعنى انه من
كان مشرفا على النوم وهو على وضوء، ولا يرد عليه محذور عدم مقارنتهما، هذا ملخص
الكلام في هذه الجملة من الجهة الأدبية.
واما مقصود السائل منها ومن جملة التي بعدها، أي - قوله - أيوجب الخفقة الخ
فيمكن ان يكون هو السؤال عن حكم الشبهة المفهومية بمعنى انه كان شاكا في سعة
مفهوم النوم وضيقه وانه هل يشمل الخفقة والخفقتين أم لا؟ ويمكن ان يكون السؤال
عن حكم الشبهة الحكمية بمعنى انه كان عالما بصدق النوم على تلك الحالة وكان شاكا
في ناقضيته بما له من المراتب، وعلى أي حال يكون المسؤول عنه هو الحكم الكلى،
فاجابه (ع) بان الخفقة والخفقتين لا توجب الوضوء وانما الناقض نوم القلب والاذن من
دون ان يتعرض لبيان مفهوم النوم.
19

ثم إن زرارة بعد ما صار عالما بحكم المسألة سئل عن حكم الشبهة الموضوعية
فقال وان حرك في جنبه شئ وهو لا يعلم، - وبعبارة أخرى - بعد ما عرف ان الناقض هو
نوم القلب والاذن سئل عن انه ان حرك في جنبه شئ وهو لم يتوجه فيحتمل ان يكون
النوم كان غالبا على جميع حواسه حتى القلب والاذن، ويحتمل كونه غالبا على خصوص
الاذن فاجابه (ع) بأنه لا يجب عليه الوضوء حتى يستيقن انه قد نام.
تعيين جزاء الشرط في الخبر
الجهة الثالثة: في تعيين الجزاء في قوله (ع) (والا فإنه على يقين من وضوئه
ولا ينقض اليقين ابدا بالشك) ونخبة القول في المقام ان محتملات ذلك خمسة.
1 - كون قوله (ع) فإنه على يقين من وضوئه بنفسه جزاءا، ولكن بعد تأويل الجملة الخبرية
إلى الانشائية، فيكون مفاده حينئذ الامر بكونه بانيا عملا على طبق اليقين السابق بالوضوء،
اختاره المحقق النائيني (ره)، وجعله المحقق الخراساني بعيدا إلى الغاية وحكم
الشيخ الأعظم (ره) بأنه تكلف.
2 - كونه بنفسه جزاءا من دون تأويل، وهذا الوجه هو الذي افاده
المحقق الخراساني في حاشيته انه لا يصح لاباء لفظه ومعناه وجعله المحقق الأصفهاني (ره)
أوجه الوجوه.
3 - ان يكون هو الجزاء مع كونه في مقام جعل اليقين.
4 - كونه توطئة للجزاء، ويكون الجزاء قوله ولا ينقض اليقين ابدا بالشك، وجعله
الشيخ (ره) محتملا في المقام.
5 - ما اختاره المحقق الخراساني وظاهر كلمات الشيخ (ره) انه أظهر، وهو كونه علة
للجزاء المحذوف أقيمت مقامه.
اما الاحتمال الأول، فهو وان كان لا تكلف فيه ولا بعد، لأنه كساير الموارد التي
تستعمل الجملة الخبرية الفعلية أو الاسمية، في الانشاء كقوله يعيد وقوله تعالى، ولله على
20

الناس حج البيت، وغيرهما مما هو كثير، بل قيل إنها أصرح في إفادة اللزوم بلحاظ ان
المولى لشدة طلبه للفعل جعل وقوعه من العبد مفروغا عنه، فاظهر شدة طلبه باظهار
وجود مطلوبه في الخارج.
الا انه: يدفعه أمران، الأول حمل الجملة الخبرية على الانشاء في نفسه خلاف
الظاهر، الثاني، ان لازمه كون قوله (ع) ولا ينقض الخ تأكيدا للامر بالكون على يقينه السابق.
واما الاحتمال الثاني فلا يمكن مساعدته بوجه لأنه لو كان في مقام الاخبار في
ظرف الشك يلزم الكذب، لأنه على الفرض شاك، ولو كان في مقام الاخبار عن اليقين
السابق لا يناسب مع جعله جزاءا لعدم ترتبه على الشرط، وهو الشك في النوم.
وما افاده المحقق الأصفهاني (ره) بان حديث ترتب الجزاء على الشرط شئ، توهمه
النحاة خلافا للمحققين منهم ولأهل الميزان، فإنهم مطبقون على أن الجزاء لا يجب ان
يكون مسببا عن الشرط ومترتبا عليه في الوجود، بل ربما يعكس الامر - كقولهم - ان كان
النهار موجودا فالشمس طالعة.
يرد عليه انه وان لم يعتبر الترتب لكن لا شبهة في اعتبار التلازم بينهما، وعدم
تخلف الجزاء عن الشرط، وفى الفرض بما ان اليقين بالوضوء سابقا متخلف عن عدم
اليقين بالنوم فلا يصح جعله جزاءا.
واما الاحتمال الثالث: فيرد عليه أولا ان الاستصحاب ليس من الامارات حتى
يكون المجعول فيه هو اليقين والطريقية. وثانيا، انه بعد اطلاق اليقين عليه، لا يناسب
اطلاق الشك بقوله ولا ينقض اليقين بالشك ابدا، لأنه فرضه غير شاك.
واما الاحتمال الرابع: وهو كونه توطئة للجزاء وهو لا ينقض الخ فهو حسن،
ويكون الكلام حينئذ في غاية الحسن واللطافة كما يقال إذا جاء زيد فحيث انه عالم
فأكرمه ويتحفظ على ظهور (ان) في العلية، ولكن الذي يبعده وجود كلمة (و) حيث إن
الجزاء لا بد وأن يكون غير مصدر بشئ أو يصدر بكلمة (فا) لتفيد الترتيب، واستعمال
الجزاء مصدرا بالواو غير صحيح - ودعوى - ان زيادة كلمة واو سهل، كما ترى.
فيتعين الاحتمال الخامس: وهو كونه علة للجزاء المحذوف أقيمت مقامه وكم له
21

من نظير، ولا محذور فيه، سوى ما افاده المحقق النائيني (ره) من لزوم التكرار في كلام
الإمام (ع) وهو مما لا يمكن الالتزام به: وذلك لان الحكم وهو عدم وجوب الوضوء عند
الشك في النوم صار معلوما من قوله (ع) - لا - في جواب السائل فان حرك الخ، فتكرار
ذلك بقوله والا فلا يجب عليه الوضوء يكون لغوا.
ولكنه يندفع بان التكرار انما يكون لغوا إذا لم يكن لفائدة، والا فلا محذور فيه،
وفى المقام انما ذكر ثانيا لأجل ان يذكر علته ويكون قانونا عاما في باب الوضوء خاصة،
أو في جميع الأبواب كما ستعرف انشاء الله تعالى - مع - ان هذا الاشكال يرد عليه (قده)
الملتزم بتأويل الجملة الخبرية إلى الانشائية، فان معنى الجملة حينئذ فليمض على يقينه
السابق ولا يتوضأ.
وبالجملة أحسن الاحتمالات هو ذلك، وقد ذكر الشيخ الأعظم (ره) له نظائر من
القرآن الكريم، مثل: وان تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، وان تكفروا فان الله غنى
عنكم، ومن كفر فان ربى غنى كريم، وان يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها
بكافرين إلى غير ذلك فتكون معنى الجملة حينئذ انه ان لم يتيقن انه قد نام فلا يجب عليه
الوضوء لأنه على يقين من وضوئه في السابق ولا ينقض اليقين بالشك.
تقريب الاستدلال بالمضمر على حجية الاستصحاب
الجهة الرابعة: في أنه، هل يدل على حجية الاستصحاب مطلقا، أو في خصوص
باب الوضوء، أم لا يدل عليها.
أقول: ان منشأ الخلاف، الخلاف في أمرين. أحدهما: ان المحمول في الصغرى أي
قوله، فإنه على يقين من وضوئه هل هو اليقين بالوضوء خاصة، أو مطلق اليقين؟ ثانيهما: ان
الألف واللام في الكبرى، وهي لا ينقض اليقين بالشك ابدا، هل هي للجنس، أو للعهد؟
ولو قيل بان المحمول في الصغرى اليقين بالوضوء والألف واللام تكون للعهد، لا محالة
يكون الخبر مختصا بباب الوضوء، ولو منع من أحد الامرين يفيد حجية الاستصحاب في
22

جميع الأبواب، واما احتمال عدم الدلالة فهو مندفع بما تقدم.
والمحقق الخراساني ذكر وجهين لكون المحمول مطلق اليقين.
الأول: ان الظاهر من التعليل كونه تعليلا بأمر ارتكازي لا تعبدي وهذا يلائم مع
العموم.
وفيه: ان حجية الاستصحاب لو كانت أمرا معلوما عند العرف كان هذا تاما، وحيث
انها لم تكن ثابتة، والا لما سئل زرارة عنها، فلا محالة تكون هذه الجملة في مقام التعبد
فكما يصح إرادة العموم منها يصح إرادة قانون عام في باب الوضوء منها.
الثاني: ان قوله (ع) من وضوئه في فإنه على يقين من وضوئه، لا يكون متعلقا باليقين،
بل متعلق بالظرف وهو الكون المقدر المعبر عنه عند أهل العربية بالظرف المستقر.
وأورد عليه المحقق العراقي (ره) بان الظاهر بقرينة اتصاله باليقين تعلقه به.
وفيه: ان الظاهر صحة ما ذكره المحقق الخراساني إذ اليقين لا يتعدى الا بالباء،
ولا يتعدى بمن، لا حظ موارد استعمال مشتقاته، فلا محالة يكون متعلقا بالظرف، وعليه
فبما ان اليقين في فرض الكلام لم يتعلق بالوضوء حتى يختص به وان كان في الواقع
واللب متعلقا به كما هو الشأن في جميع الصفات الحقيقية ذات الإضافة، فكون الألف
واللام للعهد لا يضر بالاستدلال به للعموم.
والظاهر كما افاده المحقق الخراساني (ره) كون الألف واللام للجنس لا للعهد: لأنه
ان قلنا بأنها دائما للجنس كما مر تحقيقه في محله فواضح، وما يرى من إرادة المعهود منها، انما
هي لأجل القرائن الخارجية، وفى المقام قوله فإنه على يقين من وضوئه لا يكون قرينة له
لأنه من قبيل المورد وهو لا يكون مقيدا، فان العرف يفهمون من الكبرى الكلية المذكورة
بعد الصغرى، الاطلاق، ويرون إرادة المقيد منها اخلالا بالغرض، وان قلنا، بان لها معان
لا شبهة في انصرافها عند الاطلاق إلى الجنس، والمورد كما، لا يصلح ان يكون مقيدا
للاطلاق، لا يصلح ان يصرف الانصراف الذي هو أقوى من الاطلاق.
فالمتحصل مما ذكرناه ان المحمول في الصغرى مطلق اليقين لا اليقين بالوضوء،
وان الألف واللام للجنس لا للعهد فيدل على حجية الاستصحاب في جميع الأبواب
23

ثم انه ينبغي التنبيه على أمور.
1 - ان المحقق الخراساني ذكر طريقين لاستفادة حجية الاستصحاب مطلقا من
الصحيح. أحدهما: كون المحمول في الصغرى مطلق اليقين وقد مر انه الصحيح. الثاني: ان
الألف واللام تكون للجنس، لا للعهد، وهو وان كان متينا في نفسه الا انه لا يلائم مع ما
افاده في مبحث المطلق والمقيد من أنه من مقدمات الحكمة عدم وجود القدر المتيقن في
مقام التخاطب ومع وجوده لا يتمسك بالاطلاق، فإنه على هذا في المقام القدر المتيقن
في مقام التخاطب موجود وهو اليقين والشك في خصوص باب الوضوء فإنه المذكور
في الصدر، ولكن نحن منعنا من ذلك ففي فسحة منه.
2 - ان المحقق النائيني (ره) ذكر وجوها اخر لاستفادة العموم.
منها: ان ذكر ما يكون من مقتضيات ذات الشئ ولوازمه وهو لا يوجد بدونه،
لا يوجب التقييد والمقام كذلك، فان اليقين من الصفات التي لا تتحقق الا مضافة إلى
شئ، لأنه امر إضافي قائم بالطرفين فلابد وان يتعلق بشئ فذكر من وضوئه انما هو
لذلك لا لخصوصية فيه، فان قيل لم ذكر الوضوء خاصة ولم يذكر غيره، قيل إن ذكره
بالخصوص من جهة كونه مورد السؤال.
ويرد عليه ان ذكر الوضوء يحتمل ان يكون ما ذكر، ويحتمل ان يكون لدخله في
الحكم، ومجرد احتمال ذلك لا يكفي في استكشاف الاطلاق، وبالجملة ان ما افاده
يكفي لاحتمال الاطلاق، لا لاثباته.
ومنها: مادة النقض فان المعتبر فيه الدوام والاستحكام الموجود في مطلق اليقين،
ومن الواضح انه لا يختلف من هذه الجهة بين تعلقه بالوضوء أو بأمر آخر، ويرده ما في
سابقه.
3 - ان المحقق اليزدي ذكر طريقا آخر لاستفادة العموم، وهو ان قوله من وضوئه
لمجرد كونه متعلقا لليقين في المورد لا لمدخليته في الحكم، لان المناسبات المقترنة
بالكلام كما قد توجب التقييد، وان لم يكن القيد مذكورا في الكلام كما في قوله، إذا بلغ
الماء قدر كر لا ينجسه شئ الظاهر من جهة فهم العرف المستند إلى المناسبة المقامية، انه
24

لم ينجسه شئ بالملاقاة كذلك قد توجب الغاء القيد المذكور في الكلام، كما في ما نحن
فيه، فان المناسب لعدم النقض هو جنس اليقين في قبال الشك.
وفيه: ان زيادة قيد، أو الغائه، لمناسبة الحكم والموضوع، تتوقف على استكشاف
ملاك الحكم، وحيث انه في المقام لم يستكشف ويحتمل اختصاصه بباب الوضوء، فلا
وجه لالغاء ما اخذ في لسان الدليل، ومجرد مناسبة مطلق اليقين مع النقض، لا يوجب
الالغاء بعد كونه ملايما، مع خصوص اليقين بالوضوء.
الاستدلال لحجية الاستصحاب بثاني صحاح زرارة
ومنها: صحيح آخر لزرارة، قلت له أصاب ثوبي دم رعاف، أو غيره، أو شئ من
المنى فعلمت اثره إلى أن أصب عليه الماء، فحضرت الصلاة، ونسيت ان بثوبي شيئا
وصليت ثم انى ذكرت بعد ذلك، قال (ع) تعيد الصلاة وتغسله قلت فان لم أكن رأيت
موضعه وعلمت انه اصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلما صليت وجدته قال (ع) تغسله وتعيد،
قلت فان ظننت انه اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا فصليت فيه فرأيت فيه،
قال (ع) تغسله ولا تعيد الصلاة قلت لم ذلك قال (ع) لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم
شككت فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا، قلت فانى قد علمت أنه اصابه ولم
أدر أين هو فاغسله قال (ع) تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون
على يقين من طهارتك قلت فهل على أن شككت انه اصابه شئ قال (ع) لا ولكنك انما
تريد ان تذهب بالشك الذي وقع من نفسك قلت إن رأيته في ثوبي وانا في الصلاة
قال (ع) تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته وان لم تشك ثم رأيته
رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدرى لعله شئ أوقع عليك
فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك (1).

1 - أورد صدر الحديث في 2 / 42 من أبواب النجاسات في الوسائل، وذيله في 1 / 41 منها
وغيره من الأبواب.
25

الكلام في هذا الصحيح يقع في مواضع. الأول: في فقه الحديث وما يستفاد منه
من الاحكام. الثاني: في دلالته على الاستصحاب. الثالث: في التعليل لعدم وجوب الإعادة
بالاستصحاب.
اما الأول: فالمستفاد منه احكام.
منها: بطلان الصلاة في صورة العلم بالنجاسة، ونسيانها.
ومنها: بطلانها مع العلم الاجمالي بالنجاسة، وعدم العلم بمحلها.
ومنها: انه لو شك في النجاسة وصلى ثم رأى في ثوبه النجاسة، لا تجب إعادة
الصلاة وقد تعجب زرارة من هذا الحكم لتخيله منافاته لما حكم به أولا من وجوب
الإعادة مع العلم بالنجاسة، ونسيانها وسئل عن علة هذا الحكم، فأجاب (ع) بأنه في صورة
عدم العلم بالنجاسة كان مقتضى الاستصحاب جواز الدخول في الصلاة، وعدم وجوب
اعادتها بخلاف الصورتين الأوليين.
ومنها: بطلان الصلاة في صورة النجاسة في أثناء الصلاة مع العلم بكونها من الأول،
والصحة مع احتمال ان تكون النجاسة قد وقعت في الأثناء.
وقد أشكل على الرواية بأنه في صورة الجهل بالنجاسة مع وقوع تمام الصلاة في
النجس حكم (ع) بالصحة، وفى تلك الصورة مع وقوع بعضها فيه حكم بالبطلان،
وقد يقال كما عن بعض الأفاضل ان المفروض في المسألة الأولى، انه تفحص ولم ير شيئا
- بخلاف المسألة الثانية - ولكن الفحص لا يصلح فارقا.
والأولى: ان يقال انه في المسألة الثانية المفروض وقوع بعض الأكوان الصلاتية مع
النجس المعلوم، وهو الموجب للبطلان، وهذا ليس في الأولى، لا يقال انه ان كان هذا
موجبا له لزم الحكم بالبطلان في الفرض الثاني في تلك المسألة، وهو ما لو رأى النجاسة
واحتمل وقوعها في الأثناء - فإنه يقال - انه خارج عن تحت ما دل على اعتبار عدم العلم
بالنجاسة في جميع الحالات والأكوان الصلاتية لهذا الخبر، ولخبرين آخرين، وعلى أي
تقدير هذا ليس اشكالا على الرواية، بل الأصحاب أيضا أفتوا بالفرق بين المسألتين.
واما الموضع الثاني: فمورد الاستدلال به، قوله (ع) فليس ينبغي لك ان تنقض
26

اليقين بالشك في الموردين، وتقريب الاستدلال به ما في سابقه.
ولكن قد يقال: فيه ان مفاده في المورد الأول قاعدة اليقين، فان الظاهر أن المراد
باليقين فيه اليقين الحاصل بالنظر والفحص بعده الزائل بالرؤية بعد الصلاة فمفاده حينئذ
قاعدة اليقين.
ويدفعه ان الظاهر منه سيما بعد عدم فرض اليقين بعد الفحص في السؤال، وعدم
الشك بعده هو اليقين قبل ظن الإصابة.
واما الموضع الثالث: ففي التعليل لعدم وجوب الإعادة بالاستصحاب، مع أنه
يصلح وجها لمشروعية الدخول في الصلاة لا لعدم وجوب الإعادة، فان الإعادة ليست
نقضا لاثر الطهارة المتيقنة بالشك، بل هو نقض لليقين باليقين.
وقد ذكر الأصحاب في توجيه التعليل وجوها، منها ما افاده المحقق الخراساني،
وحاصله ان الشرط لصحة الصلاة هو احراز الطهارة، لا نفسها، فيكون قضية استصحاب
الطهارة، عدم الإعادة، ولو انكشف وقوعها في النجاسة بعد الصلاة، لفرض كونه محرزا
للطهارة بالاستصحاب حال الصلاة.
وأورد عليه بايرادات، الأول: ما في الدرر وهو ان قوله وليس ينبغي ان تنقض
اليقين بالشك على ذلك لا ينتج عدم الإعادة الا بضميمة ما دل على كفاية نفس الاحراز
حين الصلاة، وهو خلاف ظاهر الرواية حيث إنها ظاهرة في أن قوله (ع) ليس الخ ينتج
بنفسه عدم الإعادة.
وفيه: انه يمكن ان يقال ان الشرطية للاحراز مجعولة بنفس قوله (ع) وليس الخ إذ
كما يمكن جعل الشرطية لشئ بالامر به، كذلك يصح جعلها له بلسان، ان الواجد له،
صحيح، كما في المقام فتعليل الصحة بالاحراز جعل لشرطيته.
الثاني: انه لو كان الاحراز شرطا لكان لازمه عدم صحة الصلاة مع الطهارة الثابتة
بقاعدة الطهارة، لعدم قيام الأصل مقام القطع الموضوعي.
وفيه: ان الشرط هو احراز الطهارة أعم من الواقعية والظاهرية ففي موارد القاعدة،
وان لم تكن الطهارة الواقعية محرزة، الا ان الطهارة الظاهرية محرزة.
27

الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني بقوله لا يقال على هذا لا مجال لاستصحاب
الطهارة فإنها ليست حكما ولا موضوعا لحكم، وأجاب عنه بجوابين
الأول: انها من قيود الموضوع والاستصحاب كما يجرى في تمام الموضوع
يجرى في جزئه.
وفيه: ان الطهارة ليست جزءا للموضوع على هذا المسلك، ولذا لو انكشف
الخلاف لا تبطل الصلاة، بل ما هو قيد الطهارة بوجودها الاعتقادي المقوم للاحراز
المنعدم جزما، بانعدام الاحراز.
الثاني: ان الطهارة شرط شرعي اقتضائي، ولا يرد عليه ما أورده المحقق العراقي،
بان مجرد الشرطية ما لم يبلغه الاستصحاب إلى مرتبة الفعلية لا يترتب عليه اثر عملي،
وبدونه لا يجرى الأصل لكونه أصلا عمليا: فإنه يمكن ان يقال ان المستصحب إذا كان
حكما أو موضوعا لحكم الطهارة، التي هو موضوع للشرطية الواقعية الاقتضائية لا يعتبر
فيه سوى ما يخرجه عن اللغوية، وفى المقام بما انه لو استصحب الطهارة يحرز الطهارة به
فيتحقق الشرط الفعلي فلا مانع من جريانه.
ولكن يرد على المحقق الخراساني ان لازم ذلك هو الالتزام بفساد صلاة من غفل
عن النجاسة وصلى لعدم احرازها، مع أن الصحة في الفرض مورد اتفاق الفتاوى
والنصوص، وأيضا لازمه فساد صلاة من تيقن بالنجاسة وصلى معها لبرد ونحوه، ثم
انكشف بعد الصلاة عدم تضرره بالبرد لو لم يلبس الثوب وطهارة ثوبه لعدم احراز
الطهارة مع أنه لا اشكال في عدم الإعادة.
ومن الوجوه انه يحسن التعليل له بملاحظة اقتضاء امتثال الامر الظاهري للاجزاء،
فيكون الصحيح من حيث ما فيه من التعليل دليلا على تلك القاعدة.
وأورد عليه الشيخ الأعظم بأنه خلاف الظاهر إذ العلة حينئذ، هو مجموع الصغرى،
وتلك الكبرى، لا هذه الصغرى بخصوصها فلا يصح التعليل بها.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بما حاصله ان العلة هي مجموع الكبرى والصغرى
أي كونه مستصحبا للطهارة المحقق للامر الظاهري بالصلاة في هذه الحال، والامر
28

الظاهري مقتض للاجزاء، وعليه فكما يصح التعليل بهما، يصح التعليل بإحداهما: وفى
الصحيح علل بالصغرى.
وفيه: ان اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ليس بمثابة يصح في مقام التعليل التعليل
بالصغرى، وفرض كون الكبرى مسلمة، وتصحيحه بارجاعه إلى أن الشرط هو الطهارة
أعم من الواقعية والمحرزة، من قبيل الأكل من القفاء وان كان في نفسه صحيحا: إذ لو
كان الشرط خصوص الطهارة الواقعية لا مناص عن البناء على البطلان لعدم الشرط،
والمشروط ينتفى بانتفاء شرطه، فالاجزاء بعد انكشاف الخلاف لا معنى له الا ذلك.
فما افاده المحقق النائيني (ره) من صحة التعليل على كل من المذهبين، لا يتم: فإنهما
مذهب واحد ذو تعبيرين لا مذهبين.
فالصحيح في مقام الجواب عن أصل الشبهة، اما الالتزام بكون الشرط أعم من
الطهارة الواقعية أو المحرزة، أو بالالتزام بان النجاسة التي لم يقم معذر شرعي كالأمارات،
والاستصحاب، واصل الطهارة، أو عقلي كالقطع، والغفلة على عدمها، مانعة، ولا يرد على
الثاني شئ سوى ان ظاهر الاخبار، منها هذا الصحيح وفتاوى العلماء شرطية الطهارة،
ولكنه يندفع بان الطهارة الخبثية ليست الا عدم النجاسة، والخلو عن القذارة الشرعية، فإذا
كانت النجاسة مانعة فعدمها شرط معتبر في الصلاة فيصح التعبير، بمانعية النجاسة، أو
اشتراط الطهارة.
هذا كله على فرض تسليم كون النجاسة المرئية بعد الصلاة هي النجاسة المظنونة
التي خفيت عليه قبل الصلاة، واما لو كانت النجاسة المرئية مما احتمل وقوعها بعد الصلاة
كما لعله الظاهر ولو بقرينة تغيير التعبير في كلام الراوي حيث إنه في الفرع السابق عليه،
يقول فلما صليت وجدته مع الضمير، وفى هذه الفقرة يقول فرأيت فيه، بدون الضمير، فلا
اشكال كي يحتاج إلى الجواب.
الاستدلال لحجية الاستصحاب بثالث صحاح زرارة
ومنها: صحيح ثالث لزرارة عن أحدهما (ع) في حديث قال (ع) إذا لم يدر في ثلاث
29

هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شئ عليه ولا ينقض اليقين
بالشك ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ولكنه ينقض الشك
باليقين ويتم على اليقين فيبنى عليه ولا يعتد بالشك في حال من الحالات (1) هذا الخبر من
حيث السند لا اشكال فيه.
واما من حيث الدلالة فقد وقع الكلام فيه في موردين الأول: في أصل دلالته على
الاستصحاب، الثاني: في اختصاص ذلك بباب وعمومه لجميع الأبواب.
اما الأول: فقد أورد على الاستدلال به للاستصحاب: بان لازمه لزوم الاتيان
بالركعة المشكوك فيها متصلة، وهذا ينافي مع مذهب الخاصة والنصوص، وقد ذكروا في
توجيه الخبر وجوها.
أحدها: ما افاده الشيخ الأعظم (ره)، وهو ان المراد باليقين فيه اليقين بتحصيل البراءة
من البناء على الأكثر، والآتيان بالركعة المشكوك فيها مفصولة، فيكون المراد انك
متمكن من تحصيل اليقين بالفراغ، فلا ينبغي لك البقاء على الشك به فصل مفصولة
لتحصيل القطع، واستشهد لكون هذا هو المراد من لا ينقض اليقين بالشك بأمرين: الأول
انه قد جرى اصطلاح الأئمة (ع) على التعبير عن الوظيفة المقررة للشاك في عدد الركعات،
من البناء على الأكثر، والآتيان بالمشكوك فيها مفصولة بذلك كقوله (ع) إذا شككت فابن
على اليقين: الثاني، انه لو حمل على إرادة الاستصحاب منه لزم حمله على التقية، أو البناء
على أن تطبيقه على المورد تقية وكلاهما خلاف الظاهر فلا مناص عن الحمل على ذلك.
وفيه: أولا، ان معنى لا تنقض ابقاء اليقين الموجود لا ايجاده، وما ذكره الشيخ (ره)
يرجع إلى ايجاب تحصيل اليقين، وبذلك ظهر ان ما قيل من أنه يدل على الاستصحاب
وقاعدة البناء على الأكثر وتطبيقه على المورد انما يكون بالاعتبار الثاني، غير تام: لعدم
امكان الجمع بينهما فان اليقين في الاستصحاب مفروض الوجود، وفى القاعدة يجب
تحصيله - مع - ان اسناد النقض إليه يوجب تخصيصه بخصوص الاستصحاب لعدم صحة

1 - الوسائل باب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث 3.
30

اسناد النقض مع إرادة طلب ايجاده والفعل الخاص يوجب تقييد المتعلق العام، وثانيا: ان
اليقين بالفراغ لم يذكر قبل حتى يكون إشارة إليه.
ثانيها: ما افاده المحقق الخراساني (ره) من أن المراد من اليقين اليقين بعدم الاتيان
والمراد من الشك الشك فيه، ولازمه حينئذ اتيان ركعة أخرى، ولكنه مطلق من حيث
كون الركعة متصلة أو مفصولة، ويقيد اطلاق الخبر بالاخبار الدالة على لزوم اتيانها
مفصولة.
وفيه: انه ان كانت صلاة الاحتياط صلاة مستقلة امر بها لتكون جابرة لمصلحة
الصلاة على تقدير نقصها ونافلة على تقدير التمامية، يكون استصحاب عدم اتيان الرابعة،
وترتب الامر بهذه الصلاة عليه، استصحابا لشئ، وتعبدا بشئ آخر، كاستصحاب عدالة
زيد للتعبد بعدالة عمرو، وان كانت صلاة الاحتياط جزءا على تقدير النقص، ولغوا، أو
نافلة على تقدير التمامية، وحيث إن الصلاة المأمور بها على فرض عدم الشك، هو الصلاة
مع تكبيرة واحدة وتسليمة كذلك، فاستصحاب بقاء الامر بمثل هذه الصلاة لاثبات الامر
بما يكون مشتملا على تسليمين وتكبيرتين يكون أيضا استصحابا لبقاء تكليف، لاثبات
تكليف آخر، إذ صيرورة شئ جزءا للمركب الاعتباري لواجب لا يمكن الا بتغيير امره
وتبدله.
وان شئت قلت إن الاستصحاب انما يجرى لترتيب آثار المتيقن في ظرف الشك،
واما ترتيب آثار نفس الشك فهو لا يكون مربوطا بالاستصحاب، وعليه ففي المقام ان
أريد استصحاب عدم اتيان الرابعة وترتيب اثار اليقين، بعدم اتيانها فهو يقتضى اتيانها
متصلة، وهو ينافي مذهب الخاصة، وان أريد ترتيب آثار الشك وهو البناء على الأكثر
واتيان ركعة منفصلة فهو غير مربوط بالاستصحاب.
ثالثها: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو ان مقتضى الاستصحاب ليس الا عدم
الاتيان بالرابعة واما ان تكليفه الاتيان بها موصولة أو مفصولة فالاستصحاب أجنبي عن
ذلك، نعم، الاتيان بالركعة منفصلة ينافي اطلاق الأدلة الأولية الدالة على لزوم الاتيان
بالركعات متصلة، فأدلة وجوب البناء على الأكثر غير منافية حتى لاطلاق دليل
31

الاستصحاب فلا وجه لرفع اليد عن ظهور القضية في الاستصحاب.
ولكن عرفت ان الاستصحاب انما يجرى لترتيب آثار المتيقن، دون الشك
فراجع.
رابعها: ان اتيان الركعة منفصلة مترتبة على شيئين، أحدهما: الشك بين الثلاث
والأربع، ثانيهما: عدم الاتيان بالرابعة، فالاستصحاب انما يجرى لتنقيح جزء الموضوع
وفيه: ان تمام الموضوع له هو الشك، وليس لعدم الاتيان بالرابعة دخل فيه، بل
لا يمكن دخله، فان احراز فعليته وتنجزه حينئذ يتوقف على احراز فعلية موضوعه،
ولا يعقل احراز فعلية هذا الجزء، إذ لو أحرز لا يبقى الشك.
خامسها: ما افاده المحقق الأصفهاني (ره) ويمكن استظهاره من الفصول أيضا، وهو
ان اليقين المحقق هنا هو اليقين بالثلاث، لا بشرط في قبال الثلاث بشرط لا الذي هو أحد
طرفي الشك، والثلاث بشرط شئ الذي هو الطرف الآخر، والاخذ بكل من طرفي
الشك فيه محذور النقص بلا جابر، أو الزيادة بلا تدارك بخلاف رعاية اليقين بالثلاث
لا بشرط، فإنها لا يمكن الا بالوجه الذي قرره الإمام (ع) من الاتمام على ما أحرز وإضافة
ركعة منفصلة، واما إضافة ركعة متصلة فإنها من مقتضيات اليقين بشرط لا والمفروض انه
لا بشرط.
وفيه: انه يعتبر في جريان الاستصحاب وحدة المشكوك فيه والمتيقن، وبهذا
التقريب المتيقن هو ثلاث ركعات والمشكوك فيها الركعة الرابعة
فالصحيح في المقام ان يقال انه (ع) في مقام بيان القاعدة الكلية وهي حجية
الاستصحاب ولكن تطبيقها على المورد انما يكون تقية، وهو وان كان خلاف الأصل،
ولكن لا مناص عنه كما عرفت، فان قيل فلم لا يحمل الخبر على التقية، أجبنا عنه ان:
الضرورات تتقدر بقدرها فبالمقدار الذي يرفع به الضرورة يرفع اليد عن القواعد
والأصول، وفى المقام يندفع الضرورة بالالتزام بكون التطبيق على المورد تقية، كما في
الخبر الوارد في افطاره (ع) يوم الشك لحكم الخليفة بكونه يوم العيد، معللا بان ذلك إلى
امام المسلمين ان أفطر أفطرنا وان صام صمنا.
32

فان قلت احتمال كون التطبيق تقية معارض باحتمال كون الكبرى صادرة تقية
للعلم باعمال تقية في البين، ومعه لا مورد لجريان أصالة الجهة في الكبرى، وعليه فلا
يمكن الاستدلال به.
قلت إن أصالة الجهة في التطبيق لا تجرى على أي حال، إذ لو كانت الكبرى صادرة
تقية لما ترتب اثر على جريانها في التطبيق، فتجري في الكبرى بلا معارض.
الاستدلال بما روى عن الخصال لحجية الاستصحاب
ومنها: ما رواه الشيخ الأعظم في الرسائل، قال: ومنها ما (1) عن الخصال بسنده عن
محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، من كان
على يقين فشك فليمض على يقينه فان الشك لا ينقض اليقين وفيه رواية أخرى عنه (ع)
من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه، فان اليقين لا يدفع بالشك وعدها
المجلسي في البحار في سلك الاخبار التي يستفاد منها القواعد الكلية انتهى.
وأورد على الاستدلال به بايرادين. الأول: انه ضعيف السند لقاسم بن يحيى.
وأجيب عنه بان العلامة ضعفه تبعا لابن الغضائري، والمعروف ان تضعيفه لا يقدح.
وفيه: ان هذا وحده لا يكفي بل لابد من اثبات وثاقته فغاية ما يثبت بما أفيد كونه
مجهول الحال: والحق ان يقال انه ثقة، لشهادة ابن قولويه، والصدوق بوثاقته إذ الأول
روى عنه في كامل الزيارات في ثواب زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد شهد بوثاقة
كل من وقع في اسناد كامل الزيارات، والثاني حكم بصحة ما رواه في زيارة الحسين (ع)
وفى طريقه إليه القاسم بن يحيى بل ذكر ان هذه الزيارة أصح الزيارات عنده رواية،
راجع الفقيه في زيارة قبر أبى عبد الله (ع) حديث 1614 و 1615 ولا يعارضها تضعيف
ابن الغضائري، لعدم ثبوت نسبة الكتاب إليه، ويؤيد وثاقته رواية الاجلاء من قبيل احمد

1 - الخصال حديث أربعمائة باب 10 من أبواب المائة فما فوق ص 619، الطبعة الحديثة.
33

ابن محمد بن عيسى سيما وكثرة رواياتهم عنه.
الثاني: انه صريح في اختلاف زمان الوصفين وسبق زمان اليقين على زمان الشك
وظاهر في اتحاد المتعلقين فيكون ظاهرا في قاعدة اليقين، فإنه في الاستصحاب لا يعتبر
سبق زمان اليقين بل لا يعتبر اختلاف زمان الشك واليقين بل المعتبر سبق زمان المتيقن.
وردوه بوجوه، منها ما في الكفاية قال ولعله بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين
وسرايته إلى الوصفين. لما بين اليقين والمتيقن من نحو من الاتحاد انتهى.
وفيه: ان المتحد مع اليقين هو المعلوم والمتيقن بالذات، وهي الماهية الموجودة
بالعلم وتكون في الذهن، واما الماهية الموجودة في الخارج أي المعلوم بالعرض، فهي غير
متحدة مع اليقين، والاختلاف في الاستصحاب انما يكون بحسب زمانها، بخلاف قاعدة اليقين
وبالجملة التغاير والاختلاف بحسب الزمان انما هو في المعلوم بالعرض، ومن الواضح انه
غير متحد مع اليقين والشك وما هو متحد معه انما هو المعلوم بالذات ولا تغاير
ولا اختلاف بالنسبة إليه.
ومنها: ما عن المحقق النائيني (ره) وهو ان صدر الخبر من جهة تضمنه سبق زمان
اليقين على زمان الشك، وان كان موجبا لقابلية حمله على قاعدة اليقين، الا انه قابل
للحمل على الاستصحاب لمكان كون الغالب في موارد الاستصحاب، هو سبق زمان
اليقين، ولكن ذيله ظاهر في الاستصحاب، فان قوله (ع) فليمض على يقينه ظاهر في المضي
على اليقين بعد فرض وجوده وانحفاظه في زمان العمل، وهذا لا ينطبق الا على
الاستصحاب، فان الذي يكون اليقين بالحدوث فيه محفوظا في زمان العمل هو
الاستصحاب، واما القاعدة، فاليقين فيها ينعدم ولذا تسمى بالشك الساري.
وفيه: ان اليقين في الموضعين لم يستعمل فيما هو موجود فعلا بل استعمل في
الصفة الموجودة قبلا المقتضية للجري العملي، فاطلاقه كان المورد من موارد،
الاستصحاب، أو قاعدة اليقين صحيح، ويكون استعمالا فيما وضع له ولا يكون استعمالا
في الصفة الموجودة في الحال حتى يقال في مورد القاعدة تكون الصفة منعدمة واستعمال
المشتق فيما انقضى عنه المبدأ لو صح لا ربط له بما هو من قبيل الجوامد كاليقين فتدبر.
34

ومنها: ما قيل إنه يمكن استظهاره من كلمات الشيخ الأعظم (ره) وهو ان اليقين من
جهة كون حقيقته المرآتية والطريقية فكلما اخذ في الموضوع يكون ظاهره، إرادة
المتيقن منه، مثلا، لو قال القائل كنت متيقنا أمس بعدالة زيد ظاهره إرادة أصل تحقق
العدالة وعليه فقوله (ع) من كان على يقين وان كان ظاهرا في بادي الامر في كون اليقين في
الزمان الماضي الا انما بملاحظة ما ذكرناه يكون ظاهرا في كون القيد للمتيقن لا اليقين
فينطبق على الاستصحاب.
وفيه: ان الظهور المدعى يتم في العلم لا في اليقين: توضيحه ان كلا منهما والقطع
عبارة عن الصورة الحاصلة من الشئ عند النفس، الا ان العلم يطلق باعتبار انكشاف
الشئ في قبال الجهل، والقطع يطلق باعتبار الجزم القاطع للتردد والحيرة، واليقين يطلق
باعتبار ان هذا الانكشاف له الثبات والدوام، بعد ما لم يكن بهذه المرتبة، ولعل السر في
عدم اطلاق القاطع والمتيقن عليه تعالى انه يستحيل في حقه الحيرة وعدم ثبات
الانكشاف، ويطلق عليه العالم لانكشاف الأشياء لديه، وعلى هذا لو اخذ العلم في المتعلق
يكون ظاهرا في الطريقية والمرآتية، وليس كذلك اليقين.
ولكن الظاهر أن نظر الشيخ الأعظم (ره) إلى أن منشأ اختصاص الرواية بالقاعدة،
أمران، أحدهما ظهور الكلام بقرينة كلمة (ف‍) في تأخر الشك عن اليقين، ثانيهما: ظهوره
من ناحية حذف المتعلق في وحدة متعلق اليقين والشك: فان هذين الامرين انما يكونان
في القاعدة دون الاستصحاب.
ويمكن ان يقال ان ذكر الكلمتين في الرواية ليس من جهة دخل ذلك في الحكم
بل لعله من جهة الغلبة حيث إن الغالب في موارد الاستصحاب تقدم اليقين على الشك،
واما وحدة المتعلقين فهي تبتنى على أن يكون زمان الماضي قيدا للمتيقن فإنه حينئذ يكون
المشكوك فيه نفس ما كان متيقنا وأما إذا كان قيدا لليقين كما هو الظاهر، فالمتيقن شئ
عار عن قيد الزمان فينطبق على الاستصحاب.
ويرد على ما ذكر أولا: ان ظاهر اخذ كل عنوان في الحكم، دخله فيه وحمله على
الغالب خلاف الظاهر لا يصار إليه بلا قرينة.
35

واما الثاني: فيرده ان ظهور الكلام في الاتحاد من ناحية زمان وان اخذ الزمان
المستفاد من كلمة كان قيدا لليقين لا ينكر.
فالحق ان يقال ان الصفات ذات الإضافة كاليقين والإرادة، وما شاكل، تكون
ظاهرة عند الاطلاق في اتحاد زمان الوصف والموصوف، مثلا لو قيل انى مشتاق إلى
الماء يكون ظاهرا في اشتياقه فعلا لا اشتياقه بالماء في الغد، ولو قيل، ان فلانا يريد الماء
ظاهر في أنه يريد الماء فعلا، وهكذا، ففي المقام قوله (ع) من كان على يقين، يكون ظاهرا
في أن المتيقن هو الامر السابق، وقوله (ع) واصابه شك ظاهر في أن المشكوك فيه لاحق
- وبعبارة أخرى: اختلاف زمان الوصفين يكون ظاهرا في اختلاف الموصوفين، وان
المتيقن يكون سابقا على المشكوك فيه، وهو لا ينطبق الا على الاستصحاب، مضافا إلى
شيوع التعبير عن الاستصحاب به.
الاستدلال بمكاتبة القاساني
ومنها: خبر الصفار عن علي بن محمد القاساني قال كتبت إليه وانا بالمدينة عن اليوم
الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب (ع) اليقين لا يدخل فيه الشك، صم
للرؤية وأفطر للرؤية (1).
وأورد عليه الشيخ الأعظم بان الخبر ضعيف السند للقاساني، وأجيب عنه، بان
القاساني وان ورد فيه قدح، الا انه ورد فيه المدح أيضا، وقد وثقه جماعة، فيتعارض
المادح والقادح فيرجع إلى التوثيق.
وفيه: ان من وثقه الجماعة هو القاشاني بالشين المعجمة، واما القاساني بالسين
المهملة، الذي هو في سند هذا الخبر، فقد ضعفوه ولم يوثقه أحد، وقد اشتبه الامر على
جماعة وتمام الكلام في محله.

1 - الوسائل باب 3 من أبواب احكام شهر رمضان، حديث 13، كتاب الصوم.
36

وكيف كان فتقريب الاستدلال به، ان تفريع تحديد كل من الصوم، والافطار على
رؤية هلالي رمضان، وشوال، لا يستقيم الا بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولا
بالشك أي مزاحما به، وقد جعله الشيخ أظهر ما في الباب من الاخبار في دلالته على
الاستصحاب.
وأورد عليه المحققان الخراساني، والنائيني، بان المراد باليقين فيه ليس هو اليقين
بان اليوم الماضي كان من شعبان، أو اليقين بعدم دخول رمضان، بل المراد باليقين فيه هو
اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه، ويدل الخبر على أنه لا بد في، وجوب الصوم، و
وجوب الافطار من اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه، وأين هذا من الاستصحاب.
وفيه: ان ما افاده لو تم فإنما هو في وجوب الصوم من باب اعتبار الجزم بالنية.،
واما بالنسبة إلى الافطار فلا يتم، الا مع إرادة اليقين بعدم دخول شوال أو بقاء رمضان
فينطبق على الاستصحاب، فما افاده الشيخ متين.
والاشكال في جريان الاستصحاب في المقام، بأنه لا يثبت به وقوع الصوم في شهر
رمضان أو ان هذا اليوم منه، هو الاشكال الساري في استصحاب الزمان وسيأتي الجواب
عنه في تنبيهات الاستصحاب.
الاستدلال باخبار الحل والطهارة
ومنها: اخبار الحل والطهارة، لاحظ موثق مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق (ع)
كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك الحديث (1)
وبمضمونه روايات كثيرة، وموثق مصدق بن صدقة عن عمار عن أبي عبد الله (ع) في حديث
قال كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك شئ (2)
وقريب منه غيره، والوجوه المحتملة في هذه النصوص ولعلها أقوال، سبعة.

1 - الوسائل باب 4 من أبواب ما يكتسب به حديث 4، كتاب التجارة.
2 - الوسائل باب 37 من أبواب النجاسات كتاب الطهارة.
37

أحدها: ان يكون صدر الاخبار متكفلا لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية
وبعنوان انه يشك في طهارتها أو حليتها، وتكون الغاية متكفلة لبيان استمرار الحكم
السابق إلى زمان العلم بالنجاسة أو الحرمة، فيكون مفاد الصدر بيان كل من الحكم الواقعي
وقاعدة الطهارة أو الحلية، ومفاد الغاية بيان قاعدة الاستصحاب، اختاره
المحقق الخراساني (ره) في تعليقته على رسائل الشيخ الأعظم.
ثانيها: ان يكون الصدر متكفلا لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية، والغاية متكفلة
لبيان قاعدة الاستصحاب اختاره المحقق الخراساني في الكفاية.
ثالثها: ان المستفاد منها خصوص قاعدة الطهارة والحلية نسب إلى المشهور.
رابعها: ان المستفاد منها قاعدة الطهارة أو الحلية، والاستصحاب نسب إلى صاحب
الفصول.
خامسها: انها صدرا وذيلا ليست متكفلة الا لبيان الاستصحاب خاصة اختاره
الشيخ الأعظم في بعض النصوص.
سادسها: ان الروايات صدرا وذيلا متكفلة لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية الا
ما أخرجه الدليل فيكون مفادها بيان الحكم الواقعي فقط، فيكون العلم بالنجاسة أو
الحرمة مأخوذا طريقا اختاره صاحب الحدائق (ره).
سابعها: ان صدرها متضمن لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية وبعنوان انه يشك
في طهارتها أو حليتها، والغاية غير متكفلة لبيان شئ آخر بل العلم بالنجاسة أو الحرمة
رافع لموضوع الحكم الظاهري، وطريق إلى ثبوت ضد الحكم المثبت بالصدر، فيكون
مفاد النصوص بيان الحكم الواقعي وقاعدة الطهارة أو الحلية.
اما الوجه الأول: فقد استدل له المحقق الخراساني (ره): بان المغيا مع قطع النظر عن
الغاية بعمومه الافرادي يدل على طهارة الأشياء أو حليتها بعناوينها الأولية فيكون دليلا
اجتهاديا على الحكم الواقعي، وباطلاقه الأحوالي الشامل لحال كون الشئ مشكوكا فيه
يدل على قاعدة الطهارة والحلية، فيما اشتبه طهارته وحليته، والغاية تدل على استمرار
الحكم الثابت في المغيا ظاهرا وهو الاستصحاب.
38

وقد أورد المحقق النائيني (ره) على استفادة الحكم الواقعي والقاعدة منها بوجوه:
1 - ان الطهارة التي تحمل على الشئ المشكوك فيه متأخرة عن الطهارة الثابتة له بعنوانه
الواقعي بمرتبتين لأنه لابد من فرض الطهارة للشئ والشك فيه ثم اثبات الطهارة
الظاهرية، فكيف يمكن الجمع بينهما في انشاء واحد.
وفيه: ان الطهارة ليست قسمين، بل هي شئ واحد، والفرق بين الظاهرية
والواقعية، انما هو من ناحية الموضوع، إذ الموضوع ان اخذ فيه الشك يعبر عنه بالطهارة
الظاهرية والا فبالواقعية.
2 - ان الغاية تمنع عن ارادتهما معا، فان الغاية بناءا على استفادة الحكم الواقعي
لا يكون بنفسها غاية بل بما انها كاشفة عن الواقع وهي القذارة الواقعية، وبناءا على
استفادة الحكم الظاهري يكون العلم بنفسه غاية لا بما هو كاشف واستعمال اللفظ فيهما
مستلزم للجمع بين الآلية والاستقلالية وأخذ الشئ الواحد موضوعا وطريقا.
وفيه: ان المحقق الخراساني يدعى ان الغاية انما تكون لبيان حكم آخر، وهو
استمرار ما ثبت لا لبيان الحد والغاية كي يرد عليه ما أفيد.
3 - وهو الحق وحاصله ان الشئ الذي هو موضوع وان كان يشمل المشكوك
فيه، ولكن لا بهذا العنوان وذلك لان معنى العموم والاطلاق رفض القيود لا الجمع بين
القيود، ومن الواضح دخل الشك في القاعدة بما هو شك فكيف يمكن الجمع بين عدم
دخالة القيد ودخالته.
واما استفادة الاستصحاب من الغاية، ففيها ان الظاهر من الغاية كونها حدا ونهاية
لما ثبت لا انشائا لحكم آخر غير ما أنشأ بالمغيا والظاهر من كلمة - إلى - وحتى، كونهما
لبيان الغاية والحد، لا لبيان استمرار ما ثبت، وعليه فإذا فرض كون الصدر في مقام جعل
الحكم الواقعي لا بد من اخذ العلم طريقا محضا، فيكون معنى حتى تعلم أنه قذر حتى
تتقذر بملاقاته مع القذارة نظير قوله تعالى (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض... الخ)
فتتمحض النصوص في إفادة الحكم الواقعي، وإذا كان المغيا في مقام جعل الحكم
الظاهري يكون العلم بنفسه غاية وتتمحض النصوص في جعل الطهارة أو الحلية الظاهرية،
39

- وبعبارة أخرى - ان قوله (ع) (حتى تعلم أنه قذر) وكذا قوله (ع) (حتى تعلم أنه حرام بعينه
اما ان يكون قيدا، للموضوع، أو يكون قيدا للمحمول، ومفاده على الأول جعل الحكم
الظاهري، وعلى الثاني جعل الحكم الواقعي، وعلى التقديرين لا يدل على الاستصحاب.
وبما ذكرناه ظهر ضعف القول الثاني، الذي اختاره المحقق الخراساني.
كما أنه ظهر ضعف ما نسب إلى صاحب الفصول، وهو كون الاخبار في مقام جعل
القاعدة والاستصحاب معا.
ويرد عليه مضافا إلى ما مر: انه لا يعقل الجمع بينهما، إذ الشك في الحكم الظاهري
لا يتصور، وهو اما مقطوع البقاء أو مقطوع الارتفاع، لان موضوعه الشك وهو حالة
نفسانية للانسان وهو على نفسه بصير، فاما ان يكون الشك باقيا فالحكم باق قطعا، وان لم
يكن باقيا يرتفع كذلك، فلا يتصور الشك فيه كي يستصحب، ونظير ذلك ما ذكروه من
عدم صحة جريان الاستصحاب في قاعدة الاشتغال.
كما أنه ظهر ضعف الأخير. فيدور الامر بين إرادة الاستصحاب منها، أو الحكم
الواقعي، أو القاعدة.
اما وجه استفادة الاستصحاب منها فامران. أحدهما: انها تدل على استمرار الطهارة
أو الحلية الثابتة إلى زمان العلم بالضد أو النقيض وقد مر ما فيه. وحاصله، ان ثبوت استمرار
امر غير ثبوته مستندا إلى ثبوته في الزمان السابق، والاستصحاب هو الثاني، ومفاد
النصوص هو الأول.
الثاني: ما افاده الشيخ الأعظم (ره) في الرسائل في خصوص الماء كله طاهر، من
جهة ان الماء طاهر بالأصالة، ونجاسته انما تكون لعارض خارجي، والخبر انما يدل على
استمرار الطهارة المفروض ثبوتها وليس الاستصحاب الا ذلك.
وفيه: ان غاية ما يلزم من مفروغية طهارة الماء، انما هو الحكم باستمرارها في
مورد الثبوت سابقا، وهذا ليس استصحابا، بل هو عبارة عن الحكم بالاستمرار استنادا إلى
ثبوته سابقا، وعلى الجملة ليس في شئ من الروايات الحكم باستمرار ما ثبت لثبوته سابقا
فليس مفادها الاستصحاب.
40

واما القول بكونها في مقام بيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية، فهو يستلزم
ارتكاب أحد خلافي الظاهر، اما الالتزام بدخل العلم في باب النجاسة والحرمة في
الموضوع، وهو على فرض معقوليته خلاف ظاهر جميع أدلة النجاسات والمحرمات، أو
الالتزام بعدم كون العلم بالنجاسة أو الحرمة المجعول غاية، بنفسه غاية، بل يكون طريقا
محضا إلى ثبوت النجاسة أو الحرمة نظير التبين المجعول غاية في قوله تعالى) (كلوا
واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) بناءا على كون المراد
بالتبين العلم والانكشاف، حيث إن تبين الفجر طريق إلى ثبوته الذي هو الموضوع لحرمة
الاكل بلا دخل للعلم بنفسه في الموضوع، وهو خلاف الظاهر.
فحينئذ يتعين حمل النصوص على انها في مقام جعل قاعدة الطهارة والحلية.
فالمتحصل مما ذكرناه، ان جملة من النصوص الصحيحة تدل على حجية
الاستصحاب وعمدتها صحاح زرارة.
جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستنبط من الحكم العقلي
ثم إن بعد ثبت دلالة الاخبار على حجية الاستصحاب، لا بد من البحث في دلالتها
من حيث شمولها لجميع الأقسام، وعدم شمولها لها، وقد كثرت الأقوال والتفاصيل
في المقام، وأطال الشيخ الأعظم البحث في التفاصيل المذكورة في الكلمات، الا ان جملة
منها لا تستحق البحث عنها، وجملة من التفاصيل لابد من التعرض لها لما فيها من الفائدة،
فتنقيح القول بالبحث في موارد.
الأول: ذهب الشيخ الأعظم إلى أنه لا يجرى الاستصحاب في الحكم الشرعي
الثابت بدليل عقلي، ومحصل ما افاده مبتنيا على ما هو المتفق عليه دليلا، وقولا، من
اعتبار، وجود الشك، وبقاء الموضوع، واتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوك
فيها في جريان الاستصحاب.
ان مدرك الحكم الشرعي، ان كان هو الدليل النقلي لو تبدل قيد من قيود
41

الموضوع، ربما يرى العرف اتحاد الموضوعين نظرا إلى أن القيد الزائل من حالات
الموضوع، لا من مقوماته كما في الماء المتغير إذا زال تغيره من قبل نفسه فان أهل العرف
يرون التغير واسطة لعروض النجاسة، على الماء نفسه، وهو باق بعد زوال التغير، وربما
يراه العرف تمام الموضوع، أو من مقوماته بحيث يرون الموجود مغايرا لما كان، كما في
الاقتداء بالعادل فإنه إذا زالت عدالته من جهة ان العرف يرون العدالة من مقومات
الموضوع، فالموجود وهو الفاسق غير ما كان، وهو العادل، فلا يجرى الاستصحاب،
وربما يشكون في ذلك، كما إذا كان الشخص في أول الوقت مسافرا ثم صار حاضرا، فإنه
يشك في كون السفر المأخوذ موضوعا لوجوب القصر من مقومات الموضوع أو من
حالاته، وفى مثل ذلك أيضا لا يجرى الاستصحاب، لان التمسك بدليله من قبيل
التمسك بالعام في الشبهة المصداقية هذا كله فيما إذا كان الدليل نقليا.
وأما إذا كان المدرك له هو الحكم العقلي فكل قيد اخذ في الموضوع يكون
مقوما، وهذا يظهر ببيان أمرين، الأول: ان العقل إذا استقل بحكم لا يعقل فيه الاهمال كما
هو الشأن في ساير الصفات والافعال النفسانية من قبيل الحب، فان رأى قيدا دخيلا في
حكمه واخذه في موضوعه، يكون ذلك من مقومات الموضوع عنده وبانتفائه ينتفى
الحكم العقلي قطعا، ولا يحتمل بقائه لعدم معقولية الترديد للحاكم في حكمه، الثاني:
ان الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي لتبعيته له يكون كل قيد من القيود
المأخوذة في الحكم العقلي، من مقومات موضوعه فإذا تبدل قيد يرتفع الحكم الشرعي
لتبدل الموضوع، وانعدامه فلا يجرى الاستصحاب.
وأورد عليه بايرادات الأول: ما عن العلمين الخراساني والنائيني (ره)، وهو ايراد على
الامر الثاني، وحاصله، ان الحكم العقلي ليس علة للحكم الشرعي، بل هو انما يكون كاشفا
عن الملاك الذي هو العلة لجعل الحكم الشرعي - وبعبارة أخرى - الملازمة انما تكون
في مقام الاثبات، دون مقام الثبوت، فإذا ارتفع قيد من قيود الحكم العقلي يرتفع حكم
العقل قطعا فينتفى الكاشف، ولكن من المحتمل بقاء المنكشف وبتبعه بقاء الحكم
الشرعي، وعليه فلا مانع من جريان الاستصحاب.
42

وفيه: ان العناوين المحكومة بالحسن أو القبح على قسمين. أحدهما: ما كان بنفسه
مع قطع النظر عن جميع ما يترتب عليه من العناوين محكوما بأحدهما، كعنوان الظلم
والعدل وهذا هو الذي يعبر عنه تارة بالذاتي، وأخرى بالضروري. الثاني: ما يكون
محكوما به من حيث اندراجه تحت عنوان محكوم به ذاتا كالمشي إلى السوق إذا كان
تصرفا في ملك الغير مثلا. وهو الذي يعبر عنه بالعرضي المنتهى إلى الذاتي، والنظري
المنتهى إلى الضروري، وعليه، فما يكون موضوعا للحكم العقلي في القسم الثاني ليس هو
ذات الفعل بل ذاك العنوان المنطبق عليه، فالمحكوم بالقبح في المثال الذي ذكره
الشيخ الأعظم (ره)، هو عنوان الضار لا الصدق الضار، وعليه فبما انه من مقدمات استدلال
الشيخ (ره) ان مقتضى الملازمة، تعلق الحكم الشرعي بنفس ما تعلق به الحكم العقلي وهو
عنوان الضار فمع انتفاء، هذا العنوان ينتفى الموضوع فلا مورد لاستصحاب الحكم،
ولا يكون نظير المثال المفروض، إذ في المثال المأخوذ في لسان الدليل موضوعا هو الماء
المتغير، وكان الأولى تنظيره بما لو علم حرمة حفر البئر لكونه موجبا لاضرار الجار، وتغير
هذا العنوان، ولم يكن في الزمان اللاحق الحفر ضرريا فهل يتوهم جريان استصحاب
الحرمة.
الايراد الثاني: ما افاده المحقق الخراساني (ره) وهو انه لعدم إحاطة العقل
بالواقعيات، يمكن ان يكون مع الملاك الذي استكشفه العقل ملاك آخر، لا يكون
لتلك الخصوصية دخل فيه، وعليه فيحتمل بقاء الحكم الشرعي فيستصحب ذلك.
وفيه: ان للعقل حكمين. أحدهما: دركه المصالح والمفاسد فإنه بناءا على مذهب
العدلية من تبعية الاحكام لها يستكشف العقل من وجود المصلحة غير المزاحمة
بالمفسدة، جعل الوجوب، ومن المفسدة غير المزاحمة بالمصلحة جعل الحرمة. ثانيهما:
حكمه بالحسن والقبح العقليين الذي هو محل الخلاف بين الامامية والمعتزلة وبين
الأشاعرة حيث إن الأشاعرة منكرون له، وهما قد أثبتاه، ويعبر عنه في الاصطلاح بالعقلي
العملي، أي الحكم العقلي المربوط بالنظام في قبال الحكم العقلي النظري، وهو دركه
للواقعيات، واشكال المحقق الخراساني يرد على فرض كون مراد الشيخ (ره) من الحكم
43

العقلي هو الأول.
واما على فرض كون مراده هو الثاني فلا يتم: فان الملاك الذي حكم العقل بحسنه
أو قبحه موضوع لحكم الشارع، والملاك المحتمل وجوده في غير ذلك العنوان مستلزم
لجعل الحكم على غيره، فالمتيقن غير المشكوك فيه، مثلا إذا استكشف العقل ان
الكذب الضار قبيح، يوجب ذلك جعل الحكم لعنوان الضار فلو احتملنا وجود ملاك
آخر في مطلق الكذب، فبما ان ذلك الملاك مستلزم لجعل الحرمة على عنوان الكذب
- لا الضار - فالمتيقن حرمة الضار، والمشكوك فيه حرمة الكذب فبعد تبدل عنوان الضار
لا مورد للاستصحاب.
الثالث: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو انه بما ان العقل غير محيط بالواقعيات،
يحتمل ان لا يكون لتلك الخصوصية، دخل في ذلك الملاك الذي استكشفه العقل
واقعا واخذها فيه بمعنى حكم العقل بحسن شئ أو قبحه مع تلك الخصوصية باعتبار
كونه القدر المتيقن في ذلك، فمع فرض الشك في بقاء الحكم العقلي، مع انتفاء تلك
الخصوصية لا محالة يشك في بقاء الحكم الشرعي فيستصحب.
وفيه: ما عرفت من أن العناوين المحكومة بأحكام عقلية اما ذاتية أو منتهية إلى
الذاتية - وبعبارة أخرى - اما ضرورية أو منتهية إليها، وعليه، فلا يكاد يستقل العقل بحسن
شئ أو قبحه الا مع تبين الموضوع تفصيلا.
الرابع: ما ذكره المحقق العراقي (ره) وهو ان غاية ما يدل عليه هذا الوجه هو عدم
تصور الشك من جهة الشك في قيدية شئ فيه، واما مع الشك في بقاء ما علم قيديته،
فهو بمكان من الامكان كالشك في بقاء الصدق على مضريته ففي هذه الصورة يجرى
الاستصحاب.
وفيه: انه ان أريد استصحاب الحكم فلا يمكن للشك في بقاء موضوعه وان أريد
استصحاب الموضوع، فهو استصحاب تعليقي في الموضوع الذي لم يلتزم أحد بجريانه
حتى القائلين بجريانه في الاحكام: فإنه لابد وان يقال، هذا الصدق لو كان متحققا في
الزمان السابق كان متصفا بالضارية فالآن كما كان.
44

الخامس: انه بناءا على ذلك لا بد من الالتزام بعدم جريان الاستصحاب في
الأحكام الشرعية مطلقا بناءا على مسلك أهل الحق من تنزه ساحة الشارع الأقدس عن
الاغراض النفسانية، وانما تكون الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية، وانها ألطاف
في الواجبات العقلية: فإنه على هذا المسلك يتحد موضوع حكم العقل وموضوع حكم
الشرع.
وفيه: انه في الأحكام الشرعية الثابتة بغير حكم العقل يكون الموضوع بحسب ما
يستفاد من الدليل شيئا يكون باقيا مع ارتفاع بعض الخصوصيات التي هي من حالات
الموضوع بنظر العرف، واما الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي فبما ان العقل
لا يرى وراء الموضوع شيئا دخيلا في الحكم، بل كل قيد يكون دخيلا فيه يكون راجعا
إلى الموضوع فليس غير الموضوع شئ يعد من حالاته.
فتحصل مما ذكرناه ان ما افاده الشيخ الأعظم (ره) من عدم جريان الاستصحاب في
الأحكام الشرعية المستكشفة من الاحكام العقلية هو المتين، هذا على فرض جريان
الاستصحاب في الأحكام الشرعية الكلية وسيجئ الكلام في المبنى.
التفصيل بين الشك في الرافع والمقتضى
الثاني: ذهب جماعة تبعا للشيخ الأعظم إلى اختصاص حجية الاستصحاب بموارد
الشك في الرافع وانه لا يجرى الاستصحاب في موارد الشك في المقتضى، وبما انه
اشتبه مراد الشيخ من المقتضى والرافع، فلا بد من البحث أولا في بيان مراده، ثم بيان ما
يستفاد من الأدلة، فتنقيح القول بالبحث في مقامين، الأول في بيان المراد من الشك في
المقتضى وتعيين مورد النزاع، الثاني: في بيان ما هو الحق.
اما المقام الأول: فلا يخفى انه للمقتضى معان، أحدهما: ما يكون من اجزاء العلة
حيث إنها مركبة من المقتضى، وهو ما يترشح منه المعلول كالنار، والشرط، وهو ما يكون
دخيلا في فاعلية الفاعل أو قابلية القابل كالمماسة، وعدم المانع وهو عدم ما يزاحم
45

المقتضى في تأثيره كعدم الرطوبة، وقد يعبر عن المقتضى بالسبب.
لا ريب في أن مراد الشيخ (ره) من المقتضى ليس هذا المعنى: فإنه قائل بجريان
الاستصحاب في العدميات مع أنه لا مقتضى للعدم، وأيضا يقول بجريان الاستصحاب في
الاحكام الكلية مع أنه لا مقتضى لها سوى إرادة الجاعل.
ثانيها: الموضوع فان الفقهاء قد يعبرون عن الموضوع بالمقتضى، وعن القيود
الوجودية المعتبرة فيه بالشروط في باب التكليف وفى باب الوضعيات بالسبب، وعن
القيود العدمية بالموانع يقولون ان المقتضى لوجوب الحج المكلف، والشرط هو
الاستطاعة، والحيض من موانع الصلاة وهكذا، الظاهر أن مراد الشيخ (ره) من المقتضى
ليس ذلك أيضا فان بقاء الموضوع معتبر بالاتفاق والشيخ (قده) بعد تصريحه باعتبار بقاء
الموضوع يفصل بين الشك في المقتضى والشك في الرافع.
ثالثها: ملاكات الاحكام من المصالح والمفاسد، وليس مراده ذلك أيضا فإنه
ملتزم بجريان الاستصحاب في الموضوعات الخارجية ولا يتصور لها ملاك، وأيضا فإنه
ملتزم بجريان الاستصحاب في الملكية في المعاطاة بعد رجوع أحد المتبايعين، مع أن
الملاك غير محرز، بل يلزم من ذلك عدم جريان الاستصحاب في الاحكام الكلية مطلقا
لعدم احراز الملاك.
بل المراد به قابلية بقاء الشئ في عمود الزمان إلى ما بعد زمان الشك ما لم يطرأ
عليه رافع كالملكية والزوجية والطهارة والنجاسة الحاصلة بأسبابها، فلو كان اليقين متعلقا
بهذه الأشياء يكون له مقتض للجري العملي على طبقه ما لم يطرأ رافع، فإذا شك في
بقائه لا محالة يكون الشك مستندا إلى الشك في الرافع، ويقابله ما لا يكون له قابلية البقاء
في نفسه، كالزوجية المنقطعة لو شك في الاجل، والخيار الثابت في مورد خيار الغبن
على القول بالفورية، والشك في أمثال هذه لا يستند إلى احتمال وجود الرافع، بل الشك
في استعداده للبقاء في نفسه، فيكون الشك في أن المتيقن وبالتبع الجري العملي على طبق
اليقين المتعلق به، هل يكون له استعداد البقاء أم لا؟ والأول من موارد الشك في الرافع
والثاني من موارد الشك في المقتضى.
46

وبهذا يظهر ان ما افاده الشيخ الأعظم (ره) في كتاب المكاسب من، جريان
استصحاب الملكية في المعاطاة بعد رجوع أحد المتبايعين، وعدم جريان استصحاب بقاء
الخيار بعد الزمان الأول في مورد خيار الغبن لاحتمال فوريته مبنيان على مبناه، ولا يرد
عليه ما أورده السيد الطباطبائي (ره) بان الأول أيضا من قبيل الشك في المقتضى.
واما المقام الثاني: وهو بيان ما هو الحق، فنخبة القول فيه يبتنى على بيان مقدمتين.
الأولى: ان النقض تقابل الابرام تقابل العدم والملكة، فلابد وان يتعلق بما يصلح ان
يكون مبرما.
وهل الابرام والنقض، بمعنى الاتقان والاحكام وعدمه، كما افاده المحقق
الخراساني وغيره، أو بمعنى الهيئة الاتصالية ورفعها، كما عن الشيخ الأعظم، أو بمعنى هيئة
التماسك والاستمساك ورفعها كما اختاره جمع من المحققين، وجوه أقواها الأخير.
وذلك: لأنه في بعض هذه النصوص أسند النقض إلى الشك أيضا لاحظ قوله (ع) في الصحيح الثالث المتقدم (ولكنه ينقض الشك باليقين) مع أنه لا احكام فيه، وأيضا
الاتقان والاحكام يصدق فيما لا يصدق الابرام.
كما أنه لا دخل للاتصال المقابل للانفصال بالابرام المقابل للنقض.
ثم إن هيئة التماسك لا تكون الا في مركب ذي اجزاء فيكون متماسكا تارة، ومنحلا
أخرى، وعليه فالابرام والنقض بما لهما من المعنى الحقيقي لا يصدقان الا في المركبات
الحقيقية، والاعتبارية، فاسناد النقض إلى اليقين الذي هو من البسائط كاسناده إلى العهد،
واليمين، والعقد في الآيات الكريمة والروايات الشريفة، لابد وأن يكون بلحاظ تنزيله
منزلة المركب بلحاظ بعض لوازم المركب الموصوف بالابرام، والظاهر أن ذلك اللازم
في المقام هو ارتباط بعض اجزاء المبرم ببعض، فان اليقين من الصفات ذات الإضافة
ولا يتحقق الا متعلقا بشئ فهو مرتبط بمتعلقه، وبهذا اللحاظ يصح اسناد النقض إلى الشك.
ومما ذكرناه ظهر ان المراد من النقض في نصوص الباب ليس هو رفع الامر الثابت
كما عن الشيخ الأعظم (ره).
المقدمة الثانية: في بيان المراد من الهيئة، والظاهر أنه ليس المراد منها النهى عن
47

النقض حقيقة، من غير فرق بين، إرادة اليقين، أو المتيقن، أو آثار اليقين. اما الأول: فلان
اليقين بالحدوث لبقائه لا معنى للنهي عن نقضه لكونه طلبا للحاصل، وطلب تحصيل اليقين
بالبقاء ليس طلبا لابقاء اليقين بل يكون طلب ايجاد فرد آخر، واما الثاني: فلان المتيقن ان
كان حكما شرعيا فابقائه وعدمه ليس تحت اختيار المكلف بل امره بيد الشارع، وان كان
من الموضوعات، فهو اما ان يكون باقيا فطلبه طلب تحصيل الحاصل، واما ان يكون زايلا
فطلبه ليس طلبا للابقاء بل طلب لإعادة المعدوم وبذلك ظهر ما في إرادة الثالث.
فما افاده الشيخ الأعظم (ره) بقوله ان النقض الاختياري القابل لورود النهى عليه
لا يتعلق بنفس اليقين على كل تقدير، بل المراد نقض ما كان على يقين منه، وهو الطهارة
السابقة أو احكام اليقين.
غير تام: إذ كما أن النقض المذكور لا يتعلق باليقين كذلك لا يتعلق بالمتيقن ولا
بأحكام اليقين.
فلا محالة يكون المراد النهى عن النقض بناءا وعملا، وحيث لا شبهة في عدم كونه
نهيا تحريميا نفسيا لعدم وجوب العمل على طبق اليقين السابق في باب المستحبات
والمكروهات والمباحات، مع جريان الاستصحاب فيها، فلا محالة يكون ارشاديا.
وعليه فهل هو ارشاد إلى جعل الطريقية لليقين السابق في زمان الشك، أو إلى
جعل المماثل للمتيقن أو لحكمه بعنوان ابقاء الكاشف، أو إلى منجزية اليقين السابق
ومعذريته شرعا لاثبات الحكم في الزمان اللاحق، أو يكون ارشادا إلى اثبات حكم شرعي
بالجري العملي على طبق الحالة السابقة المتيقنة في ظرف الشك، وجوه وأقوال.
ولكن الأول ينافيه ظاهر الكلام، إذ لازم الطريقية الغاء احتمال الخلاف وعدم
الشك، فلا يناسب فرض الشك في الموضوع، والثاني خلاف الظاهر فان ظاهر القضية،
ترتب الحكم على اليقين نفسه دون المتيقن، فيدور الامر بين الأخيرين.
أوجههما الثاني لما عن المحقق النائيني، من أن اليقين بشئ حيث إنه يقتضى الجري
العملي على طبقه بما انه طريق إلى المتيقن، فيكون مفاد النهى عن نقضه، ابقاء المتيقن
السابق من حيث اقتضائه الجري العملي.
48

فان قيل: ان لزوم العمل طبق اليقين انما يكون لحكم العقل بلزوم إطاعة المولى
وقبح مخالفته، وعليه فليس للشارع التصرف في ذلك بجعله أو برفعه، الا بوضع منشأه
أو رفعه.
أجبنا عنه: بأنه مع عدم بقاء اليقين حقيقة لا يستقل العقل بلزوم العمل على طبق
اليقين السابق، ولا بعدم لزومه، وعليه فلا محذور في الجعل.
وان شئت قلت إن النقض استند إلى اليقين، وهو بطبعه لا يوجب العمل على طبقه
في ظرف الشك، ولكن الشارع يتعبد به.
وعن بعض المحققين انه يتعين اختيار كون النهى عن نقض اليقين ارشادا إلى
منجزية اليقين السابق ومعذريته شرعا بالنسبة إلى الحكم في الزمان اللاحق وفى فرض
الشك قال، ولا يتوهم ان ذلك ينافي ما ذكرناه في مبحث حجية الخبر الواحد من عدم
معقولية جعل التنجيز والتعذير لكونهما من الاحكام العقلية، إذ في المقام يدعى ان
الشارع الأقدس يوسع في منجزية اليقين السابق الذي هو منجز بحكم العقل.
ولكن يرد عليه انه في لزوم المحذور المذكور لا فرق بين كون المنجزية مسبوقة
بالتحقق وعدمه.
فالمتحصل ان المتعين هو الوجه الأخير الذي اختاره المحقق النائيني
إذا عرفت ما تلوناه عليك من المقدمتين.
فقد استدل لاختصاص الحجية بالشك في الرافع بوجوه.
أحدها: ما عن الشيخ الأعظم، وهو ان الامر يدور بين ان يراد بالنقض ظاهره، وهو
رفع الامر الثابت لكونه أقرب إلى معناه الحقيقي وهو رفع الهيئة الاتصالية، فيختص
متعلقه بما من شأنه الاستمرار المختص بالموارد التي يوجد فيها هذا المعنى، وبين ان يراد
منه مطلق ترك العمل، ويبقى المنقوض عاما لكل يقين، والظاهر رجحان الأول إذ الفعل
الخاص يصير مخصصا لمتعلقه العام، وفيه ما تقدم من أن المراد بالنقض في المقام، ليس
رفع الامر الثابت، بل أسند إلى اليقين بملاحظة كون اليقين مربوطا بمتعلقه، أضف إليه ما مر
من أن معناه الحقيقي ليس هو رفع الهيئة الاتصالية.
49

الثاني: ما ذكره المحقق النائيني، وحاصله انه ان كان متعلق اليقين غير محدود في
عمود الزمان بغاية فاليقين المتعلق به يقتضى الجري العملي على طبقه على الاطلاق ولا موجب
لرفع اليد عنه الا الشك في الرافع فيصدق عليه نقض اليقين بالشك من حيث الجري العملي،
وأما إذا احتمل كون المتيقن مغيا بغاية، فالمتيقن مما يقتضيه اليقين هو الجري العملي ما
قبل الغاية المحتملة وبالنسبة إلى ما بعدها لا مقتضى للجري العملي من أول الامر فعدم
الجري يستند إلى قصور المقتضى وانتقاض اليقين بنفسه لا إلى نقض اليقين بالشك.
وفيه: ان متعلق اليقين إذا كان غير محدود في عمود الزمان بغاية ولكن كان مغيا
بغاية زمانية كالزوجية المغياة بالطلاق أو احتمل كونه مغيا بها فاليقين المتعلق به لا يقتضى
الجري العملي على طبقه حتى بعدما يحتمل كونه غاية، فعدم الجري فيه كعدم الجري في
الصورة السابقة بلا فرق بينهما أصلا، وبالجملة، لا فرق بين الموردين سوى ان الثاني
يحتمل كونه مغيا بالزمان، والأول يحتمل كونه بزماني، وهذا لا يوجب الفرق بينهما من
حيث صدق نقض اليقين بالشك، وعدمه.
أضف إليه ان اليقين لا يقتضى الجري العملي بعد تبدله إلى الشك في مورد، وان
شئت قلت إن المصحح لاستناد النقض إلى اليقين عنده هو عدم اقتضاء اليقين للجري
العملي في نفسه في ظرف الشك، فكيف يذكر ذلك مانعا.
الثالث: ما أشار إليه المحقق الخراساني في الكفاية وصرح به في التعليقة، وحاصله
ان اليقين، وان كان يصح اسناد النقض إليه، الا انه في باب الاستصحاب، بما ان اليقين
متعلق بالحدوث، والشك متعلق بالبقاء، واليقين بالحدوث، لم ينتقض، بل هو باق
حقيقة، فلا يصح النهى عن نقضه بحسب العمل، لعدم صحته الا فيما إذا انحل حقيقة،
واليقين بالبقاء لم يكن فرفع اليد عن البقاء ليس نقضا لليقين به، فلا محيص عن حمل
الخبر على قاعدة اليقين، أو الاستصحاب في خصوص الشك في الرافع: إذ اليقين في
قاعدة اليقين تعلق بالحدوث والشك أيضا تعلق به، فاليقين قد اضمحل بالشك حقيقة
فيصح النهى عن نقضه عملا، وفى مورد الاستصحاب في الشك في الرافع بما ان متعلق
اليقين من شانه الاستمرار والبقاء فاليقين المتعلق بحدوثه كأنه متعلق بالبقاء - وبعبارة
50

أخرى - اليقين تعلق بأصله حقيقة وببقائه اعتبارا، وهو قد ارتفع وانحل بالشك فيه، فيصح
النهى عنه بحسب البناء والعمل، وهذا بخلاف الشك في المقتضى حيث لا انحلال فيه
لا حقيقة ولا مسامحة، فلا يصح النهى عن نقضه عملا، وحيث إن مورد الخبر لا ينطبق
على قاعدة اليقين، فيتعين حمله على إرادة جعل الحجية للاستصحاب في موارد الشك
في الرافع خاصة، هذا محصل كلامه بتوضيح منا.
وفيه: انه في مورد الشك في الرافع أيضا اليقين المتعلق بالحدوث، لا يكون متعلقا
بالبقاء ولو اعتبار أو مسامحة، إذ المتيقن لم يحرز ان يكون من شأنه الاستمرار حتى بعد
حدوث زماني يحتمل كونه غاية، أو احتمل حدوث ما هو غاية، ويكون حاله حال الشك
في المقتضى من حيث المتيقن، وحل الاشكال ان العناية المصححة لاسناد النقض إليه،
ليس الا اتحاد المتعلقين ذاتا، وعدم ملاحظة تعددهما زمانا، وهذا كاف في اضمحلال
اليقين مسامحة وبنظر العرف وفى صحة اسناد النقض إليه، وفى ذلك لا فرق بين الموردين.
الرابع: ما ذكره بعض المحققين، وهو ان غاية ما يدل عليه الاخبار هو سلب
العموم، لا عموم السلب فلا يستفاد منها عدم جواز نقض كل فرد من افراد اليقين بالشك،
بل أقصى ما يستفاد منها هو عدم جواز نقض مجموع افراد اليقين بالشك وهذا لا ينافي
جواز نقض بعض الافراد، والمتيقن هو الشك في الرافع.
وفيه: انه لو كان العموم مستفادا من لفظ (كل) و (أجمع) ونحو ذلك وكان النفي
أو النهى واردا على العموم لكان لدعوى سلب العموم مجال، بل قد يدعى ظهوره في
ذلك كما في مثل لا تكرم كل فاسق.
ولكن فيما إذا كان العموم مستفادا من النفي أو النهى الوارد على الطبيعة حيث إن
عدم الطبيعة يتوقف عقلا على عدم جميع افرادها فلا مجال لتوهم كونه من قبيل سلب
العموم فان العموم حينئذ متأخر رتبة عن ورود الحكم، بل هو من قبيل عموم السلب
قطعا، والمقام من قبيل الثاني كما هو واضح
ثم انه بعد ما عرف من عدم تمامية شئ مما استدل به على اختصاص الروايات
بالشك في الرافع، وان مقتضى اطلاقها حجية الاستصحاب في الشك في المقتضى أيضا،
51

لا بأس بالتعرض لامرين.
أحدهما: ان الشيخ الأعظم صرح بجريان الاستصحاب في موارد مع أن الشك
فيها من قبيل الشك في المقتضى.
منها: الشك في النسخ وقد صرح بجريان استصحاب عدم النسخ، أضف إليه ان
جريانه فيه متفق عليه، حتى ادعى الأمين الاسترآبادي انه من ضروريات الدين، والنسخ
عبارة عن انتهاء أمد الحكم إذ البداء مستحيل في حقه تعالى، فالشك فيه شك في انتهاء
الأمد فيكون من الشك في المقتضى.
ومنها: الشك في الموضوع الخارجي كحيوة زيد والشيخ (قده) قد صرح في أول
تنبيهات الاستصحاب، بأنه لو شك في بقاء حيوان علم وجوده وشك في أنه يعيش سنة
أو مائة سنة لا يجرى الاستصحاب، لأنه من الشك في المقتضى، ولازم ذلك عدم جريان
الاستصحاب في المثال، فإنه لا يعلم اقتضاء بقائه، ورعاية الجنس القريب، أو البعيد، أو
النوع، أو الصنف كل ذلك بلا وجه، مع أنه ملتزم بجريانه في الموضوعات مطلقا.
ومنها: الشك في الغاية، كما لو شك في هلال شوال مثلا فان الشك انما هو في أن
شهر رمضان ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين يوما، فالشك من قبيل الشك في المقتضى
مع أنه ملتزم بجريان الاستصحاب فيها.
الامر الثاني: ان متعلق اليقين والشك ان لوحظا بالنظر الدقى فهما متغايران،
ولا يصدق نقض اليقين بالشك، حتى في مورد الشك في الرافع لتعلق اليقين بالحدوث
ومتعلق الشك هو البقاء، وان لو حظا بالنظر المسامحي العرفي أي الغى خصوصية الزمان
الذي عرفت انه المناط في صدقه واطلاقه، يصدق نقض اليقين بالشك حتى في مورد
الشك في المقتضى.
ويضاف إلى جميع ما تقدم ان من جملة روايات الاستصحاب خبر محمد بن
مسلم المتقدم الذي عرفت دلالته على حجية الاستصحاب، ولم يذكر فيه لفظ النقض
لاحظ قوله (ع) (من كان على يقين فشك فليمض على يقينه) فعلى فرض التنزل وتسليم
52

عدم دلالة النصوص المتضمنة للفظ النقض على حجية الاستصحاب في الشك في
المقتضى، لا اشكال في دلالة هذه الرواية عليها، فالمتحصل انه لا ينبغي التوقف في حجية
الاستصحاب في مورد الشك في المقتضى.
الكلام حول حجية الاستصحاب في الشك في رافعية الموجود
الثالث: نسب إلى المحقق السبزواري عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك في
رافعية الموجود، واستدل له بان الشك في رافعية الموجود كالشك في رافعية المذي
للطهارة لا يكون ناقضا لليقين بالطهارة قطعا، لأنه يجتمع مع اليقين بها، ولذا كانا مجتمعين
في زمان اليقين، فرفع اليد عنه لا يكون مستندا إلى وجود الامر الذي شك في كونه رافعا،
وانما يستند إلى اليقين بوجود ما شك في كونه رافعا، لان الشئ يستند إلى الجزء الأخير
من العلة التامة، فالالتزام بارتفاع الطهارة بالمذي ليس من نقض اليقين بالشك، بل انما هو
من نقض اليقين باليقين.
وفيه: ان الشك في الرافعية المقارن مع الطهارة لا يكون ناقضا، لعدم وحدة متعلقه
مع متعلق اليقين، وكذا اليقين بخروج المذي مع قطع النظر عن حكمه، بل الناقض هو
الشك الحاصل بعد خروج المذي المتعلق، برافعية الموجود الخارجي المعين، ورفع اليد
عن اليقين بالطهارة به نقض لليقين بالشك.
الرابع: ان الشك في الغاية هل يشمله أدلة الاستصحاب أم لا؟ والكلام فيه في
موضعين الأول: في الفرق بينه وبين الشك في المقتضى والشك في الرافع، الثاني: في
بيان حكمه.
اما الأول: فالشك في المقتضى عبارة عن لا شك في بقاء ما لا يعلم ارساله ولا
تقييده بالنسبة إلى عمود الزمان، والشك في الرفع عبارة عن الشك في بقاء ما علم
ارساله وانما احتمل رفعه لرافع، والشك في الغاية عبارة عن الشك في بقاء ما علم تقييده
لاحتمال تحقق القيد.
53

واما الثاني: فالشك في الغاية يتصور على وجوه، أحدها: ان يعلم الغاية ويكون
مفهومها مبينا عنده ولكن شك في تحققه لأجل أمور خارجية، كما لو شك في تحقق
الليل من جهة الغيم، ثانيها: ان يشك فيها لأجل الشك في المفهوم، وعدم تبينه كما لو
شك في أن الغروب، عبارة عن استتار القرص، أو ذهاب الحمرة المشرقية، ثالثها: ان
يشك فيها من جهة ترددها بين مفهومين متغايرين، كما لو شك في أن غاية صلاة العشاء،
هل هو انتصاف الليل، أو طلوع الفجر.
الظاهر جريان الاستصحاب في الوجه الأول، دون الأخيرين: لأنه في الأول اليقين
مقتض للجري العملي والشك يستند إلى امر خارجي، واما في الأخيرين: فاليقين بنفسه
لا يقتضى الجري العملي، ويكون قاصرا، فلا يصدق على رفع اليد عن الحالة السابقة
نقض اليقين بالشك.
التحقيق حول الاستصحاب في الاحكام الكلية
الخامس: ذهب جمع من المحققين منهم الفاضل النراقي، والأستاذ الأعظم،
وبعض الأخباريين إلى اختصاص حجية الاستصحاب بالشبهات الموضوعية، وانه
لا يجرى في الشبهات الحكمية فلو كان حكم كلي مشكوك البقاء، كوجوب صلاة
الجمعة في زمان الغيبة، ومشروعية الجماعة في صلاة العيدين في زمان عدم وجوبها،
ونجاسة الماء القليل النجس المتمم كرا، وثبوت بعض الخيارات مع التراخي، وما شاكل،
لا يحكم بالبقاء لأجل الاستصحاب.
وتنقيح القول في المقام يستدعى ان يعين محل البحث أولا، ثم بيان ما هو الحق
المستفاد من الأدلة.
اما الأول: فالشك في الحكم، تارة يكون ناشئا من الشك في أصل الجعل من
حيث السعة والضيق بالنسبة إلى عمود الزمان بان يشك في أن الجعل في الحكم المعين
هل هو يعم جميع الأزمنة، أم يكون مختصا بقطعة من الزمان فيرتفع بنفسه بعد انقضاء
54

ذلك الأمد، كما لو علم بجعل حكم في الشريعة وشك في نسخه، إذ النسخ بهذا المعنى
يمكن وقوعه في الشريعة المقدسة، وقد وقع بالنسبة إلى القبلة، واما النسخ بمعنى رفع
الحكم الثابت أولا على نحو السعة فلا يمكن الالتزام به لاستلزامه البداء المستحيل في
حقه تعالى.
لا كلام في جريان استصحاب عدم النسخ وقد عده بعضهم من ضروريات الدين،
وهو كاشف عن دليل خاص يدل عليه، فهو خارج عن محل البحث.
وأخرى يكون الشك راجعا إلى المجعول، بعد فعليته في الخارج والعلم بان أصل
الجعل غير محدود بزمان.
وهو على قسمين: إذ، قد يكون منشأ الشك أمور خارجية، كما لو علم بطهارة
شئ، وشك في عروض ما يوجب النجاسة، وقد يكون منشأ الشك الشك في سعة
دائرة المجعول وضيقه، كما لو شك في أن الحائض التي يحرم وطئها، هل هي في
خصوص حال وجود الدم، أو الأعم منه ومن حال بقاء الحدث كما في ما بعد الانقطاع
وقبل الاغتسال، ومحل الخلاف هو القسم الثاني.
اما الأول: فهو خارج عن محل البحث لأنه في تلك الموارد يجرى الاستصحاب
الموضوعي فلا اثر للنزاع في جريان الاستصحاب فيه وعدمه.
ثم انه فيما هو محل البحث، تارة يكون الزمان مفردا للموضوع كحرمة وطء
الحائض: فان للوطء افراد طولية تقع من أول الحيض إلى آخره، وفى ذلك لا يجرى
الاستصحاب فان الفرد المعلوم حرمته هو الفرد المفروض وقوعه قبل انقطاع الدم،
والمشكوك فيه، هو ما يقع في حال انقطاع الدم، فلا مورد لجريان الاستصحاب،
وظاهر أن هذا خارج عن محل البحث.
ودعوى انه يمكن ان يقال ان هذا الفرد من الوطء لو كان واقعا قبل الانقطاع كان
حراما، والآن كما كان، مندفعة بان ذلك من الاستصحاب التعليقي في الموضوع الذي
لا كلام ولا اشكال في عدم جريانه.
وأخرى لا يكون كذلك بل هو حكم واحد مستمر من الأول إلى الآخر كنجاسة
55

الماء القليل المتمم كرا: إذ الماء شئ واحد لا تعدد فيه، والنجاسة واحدة مستمرة من
الأول إلى الآخر، ومن هذا القبيل، الملكية، الزوجية وما شاكل، وقد استدل لعدم جريان
الاستصحاب فيه بوجوه.
الأول: ان مورد الصحيح هو الطهارة والشبهة موضوعية، وحيث إن من مقدمات
الحكمة عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب، فلا يمكن التمسك باطلاق
لا تنقض لحجية الاستصحاب حتى في الاحكام الكلية.
وفيه: ان المبنى فاسد كما حققناه في محله في هذا الشرح.
الثاني: معارضته مع أدلة الاحتياط، وفيه مضافا إلى أن لازم ذلك عدم جريان
استصحاب عدم الحكم لا استصحاب الحكم، ان الاستصحاب حاكم على أدلة الاحتياط.
الثالث: ان نقض اليقين، وان كان أعم مما إذا تعلق بالحكم أو الموضوع،
والموضوع أيضا قابل للتنزيل كالحكم، لكن بما ان الفعل ابقاء عملي لليقين بالحكم،
فاسناد النقض إليه اسناد إلى ما هو له، وهو لا يكون ابقاءا عمليا لليقين بالموضوع، بما هو
لعدم محركيته له بنفسه، بل بلحاظ نشوء اليقين بالحكم منه، فاسناده إليه اسناد إلى غير ما
هو له، ولا يمكن الجمع بين الاسنادين في كلام واحد.
وفيه: أولا ان الاسناد الكلامي وان كان واحدا صورة الا انه ينحل إلى اسنادات
عديدة في اللب والواقع، وفى ذلك المقام لا يلزم الجمع بين الاسنادين في اسناد واحد،
وفى النسبة الكلامية أسند النقض إلى اليقين ولهذا الاسناد وصفان اعتباريان، بلحاظ
حيثيتين، وهما حيثية الانطباق على الموضوع، وحيثية الانطباق على الحكم فتدبر فإنه
دقيق.
وثانيا: ان اسناد النقض إلى اليقين بالموضوع أيضا اسناد إلى ما هو له إذ الفعل كما
يكون ابقاءا عمليا لليقين بالحكم، يكون ابقاءا عمليا لليقين بالموضوع باعتبار بقاء
الموضوع في عالم التشريع، والاعتبار، لا باعتبار بقائه في عالم الوجود.
الرابع: ان استصحاب الحكم معارض باستصحاب عدم الجعل، توضيح ذلك أنه
يفرض الكلام في الماء القليل النجس المتمم كرا، حيث يشك في بقاء نجاسته، أو
56

ارتفاعها لان الكر لا يحمل خبثا، فالنجاسة قبل التتميم متيقنة ويشك في بقائها
فيستصحب، ولكن في المورد يقين سابق آخر وهو اليقين بعدم جعل النجاسة للماء القليل
في صدر الاسلام، لا مطلقا، ولا مقيدا بعدم التتميم، والمتيقن من ما علم جعله هو النجاسة
للماء القليل غير المتمم، ولا يعلم جعلها للقليل المتمم، فيجرى استصحاب عدم جعل
النجاسة له، وهذا الأصل، اما ان يكون حاكما على استصحاب النجاسة، إذ الشك في بقاء
الحكم مسبب عن الشك في الجعل، واما ان يتعارضان ويتساقطان ولا حكومة في البين
نظرا إلى أن الأصل السببي الحاكم هو ما إذا كانت السببية شرعية كما في غسل الثوب
النجس بالماء المشكوك طهارته، وفى المقام ليس كذلك فان عدم النجاسة الفعلية ليس
من الآثار الشرعية لعدم جعل النجاسة، بل هو من لوازمه التكوينية بل عينه ولا مغايرة
بينهما فلا معنى لحكومة أحدهما على آخر وهو ظاهر، وعلى التقديرين لا يجرى
استصحاب النجاسة.
وقد أورد على هذا الوجه بأمور.
1 - ما عن الشيخ الأعظم، وهو ان الزمان إذا فرضنا اخذه ظرفا للواجب لا قيدا
للوجوب ومفردا له، الذي هو مورد لاستصحاب بقاء الحكم الثابت يقينا سابقا لبقاء
موضوعه، لا يبقى معه مجال لجريان استصحاب العدم الأزلي لانتقاضه بالوجود المطلق
غير المقيد بزمان خاص كما هو المفروض.
وفيه: ان المقدار انتقاضه انما هو ثبوت النجاسة إلى ما قبل التتميم كرا في
المثال، واما بالنسبة إلى ما بعده فجعلها من الأول مشكوك فيه، وعليه فكما يجرى
استصحاب النجاسة، يجرى استصحاب العدم.
2 - ما عن المحقق الخراساني، وهو انه فيما يجرى فيه استصحاب الحكم المتوقف
على كون الزمان ظرفا بحسب المتفاهم العرفي الموجب لكون القضية المتيقنة متحدة مع
القضية المشكوك فيها لا يجرى استصحاب عدم الحكم المتوقف على كون الزمان قيدا،
لعدم امكان الجمع بين القيدية والظرفية لكمال المنافاة بينهما.
وفيه: ان استصحاب عدم الحكم يجرى فيما إذا كان الزمان ظرفا من جهة ان
57

المشكوك فيه مسبوق بيقينين باعتبار أحدهما يجرى الاستصحاب الوجودي، وباعتبار
الآخر يجرى العدمي.
3 - ما عن المحقق النائيني وهو ان الآثار الشرعية والثواب والعقاب تترتب على
المجعول والحكم الفعلي، واستصحاب عدم الجعل لاثبات عدم المجعول من الأصول
المثبتة وبدون اثباته لا يترتب عليه الأثر.
وفيه: مضافا إلى النقض باستصحاب عدم النسخ فلو كان استصحاب عدم الجعل
بالإضافة إلى عدم الحكم من الأصول المثبتة، كان استصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل
بالإضافة إلى وجود الحكم كذلك.
ان الحكم ليس من الأمور الحقيقية وانما هو امر اعتباري قائم بالنفس، أو ابراز
لشوق المولى بالفعل في الواجبات وابراز كراهته في المحرمات، ولا تعدد للاعتبار
والمعتبر، والابراز والمبرز كما في الايجاد والوجود، وانما لا يجب امتثاله قبل وجود
موضوعه، لأجل عدم الحكم بدونه - وبعبارة أخرى - بدون فعلية موضوعه لاحكم فعلى
ولا انشائي، وعلى ذلك، فاستصحاب الجعل لاثبات المجعول، وعدم الجعل لاثبات
عدم المجعول، ليس مثبتا، فتدبر.
4 - ما عن المحقق النائيني أيضا وهو ان المتيقن العدم الأزلي غير المنتسب إلى
الشارع، أي العدم المحمولي، والمشكوك فيه العدم النعتي المنتسب إلى الشارع،
واستصحاب العدم المحمولي لاثبات العدم النعتي من الأصل المثبت ولا نقول به.
وفيه: ما عرفت من أن جعل الحكم كان تدريجيا، فأوائل البعثة لم يكن هذا
الحكم المشكوك فيه مجعولا قطعا، فالمتيقن هو العدم النعتي.
5 - معارضة استصحاب عدم جعل الحكم الإلزامي، مع استصحاب عدم جعل
الترخيص، للعلم بتحقق أحدهما.
وفيه: انه لا مانع من اجرائهما معا لعدم ن لزوم المخالفة العملية من جريانهما معا.
6 - ان المستصحب لابد وأن يكون حكما شرعيا أو موضوعا ذي اثر شرعي،
وعدم الحكم ليس بشئ منهما وعدم العقاب من لوازمه العقلية.
58

وفيه: انه لم يدل دليل على ذلك، بل الدليل دل على اعتبار كون وضعه ورفعه بيد
الشارع، وعدم الحكم أزلا غير قابل للوضع والرفع، لكنه بقاءا بيد الشارع، وهذا يكفي
في التعبد.
7 - ان استصحاب عدم الحكم، لا يوجب القطع بعدم العقاب، لعدم ثبوت الإباحة
به، وعدم كونه اثرا شرعيا فيحتاج معه إلى ضم قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومعها لا حاجة
إلى الاستصحاب.
وفيه: ان الآثار العقلية المترتبة على الأثر الشرعي يترتب باستصحابه، ولذلك التزم
هذا المستشكل بترتبه على الإباحة المستصحبة، فيترتب عدم العقاب على استصحاب
عدم الحكم، وتفصيل القول في الايرادات الثلاثة الأخيرة، ونقدها، وبعض ايرادات اخر
وما يتوجه عليه، تقدمت في مبحث البراءة، في الاستدلال عليها بالاستصحاب
8 - ما أورده الفاضل النراقي على نفسه وأجاب عنه، وصححه المحقق النائيني (ره)
وحاصل ما ذكره المحقق النائيني، انه يعتبر في صحة جريان الاستصحاب، اتصال زمان
المتيقن بزمان المشكوك فيه، فلو علم بنجاسة شئ أول الصبح، ثم بعد ساعة علم
بطهارته، ثم شك، لا مجال لجريان استصحاب النجاسة لانتقاض اليقين بها باليقين
بالطهارة، بل يجرى استصحاب الطهارة بلا معارض، وفى استصحاب عدم الجعل
في المقام لا يكون زمان المشكوك فيه متصلا بزمان المتيقن، لفصل المتيقن الآخر بينهما
إذ المتيقن الأول هو عدم النجاسة، والمتيقن الثاني، هو النجاسة والمشكوك فيه متصل
بالثاني دون الأول، فلا يجرى استصحاب عدم النجاسة.
وفيه: ان لنا متيقنين أحدهما: عدم النجاسة الفعلية. والثاني: عدم جعل النجاسة،
والذي انتقض باليقين بالنجاسة هو الأول. واما الثاني: أي عدم جعل النجاسة للمتمم مثلا
فهو موجود حتى في حال العلم بالنجاسة ولم ينتقض بعد، فان اليقين بالنجاسة حال عدم
التتميم لا يكون ناقضا لليقين بعدم النجاسة بعدم التتميم كما هو واضح.
فالمتحصل تمامية الايراد الرابع على جريان الاستصحاب في الاحكام الكلية،
وهو انه اما ان يكون محكوما لأصالة عدما لجعل، أو معارض معها، فالأظهر عدم جريان
59

الاستصحاب في الاحكام الكلية، بقى في المقام أمران لابد من التنبيه عليهما.
أحدهما: انه قد يتوهم اختصاص ذلك بالأحكام الكلية، من جهة انه في الشبهات
الموضوعية يكون الجعل معلوما فلا يجرى استصحاب عدم الجعل.
ولكنه يندفع، بأنه من جهة ان جعل الاحكام انما يكون على نحو القضية الحقيقية،
فكل موضوع خارجي من افراد الموضوع يكون مخصوصا بحكم خاص فعند الشك
لا مانع من استصحاب عدم جعل الحكم لهذا الموضوع الشخصي، الا انه قد عرفت عدم
ترتب ثمرة عليه فراجع.
ثانيهما: ان ما ذكرناه من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية انما هو في
الاحكام البعثية والزجرية، واما الاحكام الترخيصية كالإباحة فلا مانع من جريان
الاستصحاب فيها لعدم جريان استصحاب عدم الجعل فيها، لأنها كانت مجعولة في صدر
الاسلام، اما بنحو العموم، أو الخصوص، تأسيسا، أو امضاءا.
الكلام حول جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية
السادس: فيما ذهب إليه جماعة منهم الفاضل التوني من التفصيل بين الأحكام الوضعية
والتكليفية، وعدم حجية الاستصحاب في الأحكام الوضعية، وحجيته في
الأحكام التكليفية.
فلا بد أولا من صرف عنان الكلام إلى تحقيق حال الوضع وانه حكم مستقل في
الجعل أوامر انتزاعي ينتزع عما في موارده من الأحكام التكليفية.
وقبل الشروع في البحث لابد من التنبيه على امر - وهو - بيان الحكم الشرعي
وحقيقته، وملخص القول في ذلك، ان الحكم بمعنى، الثبوت، والاستقرار،
والاستحكام، ولذا، يقال ان الله تعالى يحكم ما يشاء، أي يثبت ما يشاء، وقد يطلق الحكم
على الاخبار ويقال فلان حكم بمجيئ زيد من السفر، والحكم الشرعي هو ما أثبته
الشارع بما انه شارع، وعليه فان قلنا ان الأحكام الوضعية كلها مجعولات شرعا، اما
60

بالاستقلال، أو بالتبع، يصح اطلاق الحكم على الحكم الوضعي، وان قلنا ان بعضها غير
قابل لذلك وان كان اثباته بيد الشارع لكن بما انه خالق لا بما انه شارع، فلا يصح اطلاق
الحكم الشرعي عليه بأي معنى فرض.
وبذلك يظهر أمور، الأول: ضعف ما افاده المحقق الخراساني في الكفاية بقوله الا
ان صحة تقسيمه بالبعض الآخر إليهما وصحة اطلاقه عليه بهذا المعنى مما لا يكاد ينكر
انتهى.
الثاني: عدم تمامية ما افاده المحقق القمي في القوانين من أن الحكم عبارة عما
يتعلق بأفعال المكلفين من حيث الاقتضاء والتخيير: لما عرفت من أنه أعم من ذلك.
الثالث: ان ما افاده بعض المحققين من أن كل ما لم يكن حكما تكليفيا، ولم يكن
تكوينيا فهو حكم وضعي، تام.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الوضع على أنحاء. 1 - ما يكون سابقا على التكليف،
كالسببية، والشرطية، والمانعية للامر. 2 - ما يكون لاحقا على التكليف، كالجزئية،
والشرطية، والقاطعية لمتعلق التكليف 3 - ما لا يرتبط به، كالزوجية، والملكية، والولاية،
وما شاكل.
اما القسم الأول: فقد اختار الشيخ الأعظم (ره) ان تلك الأحكام أمور انتزاعية تنتزع
من الامر بالشئ عنده أو عند عدمه، مثلا تنتزع السببية للدلوك من الامر بالصلاة عنده.
واستدل له بوجهين. أحدهما: الوجدان: فإنه لو فرض الانسان نفسه حاكما بحكم
تكليفي ووضعي بالنسبة إلى عبده لوجد من نفسه صدق ما ذكرناه، فإنه إذا قال لعبده أكرم
زيدا ان جائك فهل يجد المولى من نفسه انه أنشأ انشائين وجعل أمرين أحدهما وجوب
اكرام زيد عند مجيئه والآخر كون مجيئه سببا لوجوب اكرامه أو ان الثاني مفهوم منتزع من
الأول لا يحتاج إلى جعل مغاير لجعله الأولى ولا إلى بيان مخالف لبيانه، ولهذا اشتهر في
ألسنة الفقهاء سببية الدلوك ومانعية الحيض ولم يرد من الشارع الا انشاء طلب الصلاة
عند الأول وطلب تركها عند الثاني، وعلى الجملة الوجدان شاهد على أن السببية والمانعية
في المثالين اعتباران منتزعان كالمسببية والمشروطية والممنوعية.
61

ثانيهما: البرهان على عدم كون ذلك مستقلا بالجعل، بما حاصله ان السببية
للدلوك ليست ذاتية، والا لزم تأثيره في الوجوب وان لم يجعل الشارع لان ذلك مقتضى
ذاته كما في بقية الأسباب الخارجية، مع أنه لا يكون مجعولا شرعيا على فرضه ولا نعقل
ان يكون صفة أوجدها الشارع في السبب إذا الذات لا تتغير بالتشريع عما هي عليه من
الوجدان أو الفقدان لان مسألة التشريع غير التكوين ومع التكوين يكون مكونا لا مشرعا.
وذهب المحقق الخراساني إلى أنها أمور انتزاعية تنتزع، من الخصوصيات التكوينية
الموجودة في تلك الأشياء وليست مجعولة ولو بجعل منشأ انتزاعها.
واستند في ذلك على ما في الكفاية إلى أمرين، 1 - ما ذكرناه لعدم كون تلك
الأمور انتزاعية من الأحكام التكليفية، وهو ان فرض كونها سببا وشرطا تقدمها على تلك الأحكام
ومن الواضح استحالة تأخر المتقدم بالذات - وبالجملة - انها متقدمة على
التكليف فكيف يمكن انتزاعها منه.
2 - ما ذكرناه لعدم كونها مستقلة في الجعل، وهو ان الشئ إذا لم يكن فيه ربط
خاص به يؤثر في المعلول لم يكن علة لاعتبار السنخية بين العلة والمعلول والا لزم
صدور كل شئ عن كل شئ، ولا معنى لجعل ما ليس علة علة، وان كان فيه ذلك الربط
فهو علة قبل جعله علة وان شئت قلت، ان كل ما يكون دخيلا في التكليف لا بد وأن يكون
فيه خصوصية لأجلها يكون مؤثرا فيه لما يعتبر من السنخية بين العلة والمعلول والا لزم
صدور كل شئ عن كل شئ وتلك الخصوصية امر تكويني واقعي غير مجعول شرعي
وهي منشأ انتزاع هذه العناوين فهي عناوين انتزاعية من تلك الخصوصيات.
أقول: ان ما يكون سابقا على التكليف على اقسام. منها: ما يكون دخيلا في اتصاف
الفعل بالمصلحة كالاستطاعة التي توجب اتصاف الحج بالمصلحة اللزومية، ونظيره في
العرفيات المرض بالنسبة إلى شرب الدواء، وهذا القسم لا ريب في أنه ليس بمجعول
شرعي، بل انما هو لخصوصية فيه نظير النار بالنسبة إلى الاحراق.
ومنها: ما يكون من اجزاء علة الجعل نظير تصور الجاعل وتصديقه الفائدة،
وما شاكل، وهذا القسم أيضا ليس بمجعول وهو واضح.
62

ومنها: ما يكون شرطا للمجعول أو مانعا عنه نظير الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب
الحج، وهذا القسم هو محل النزاع في المقام، واما الأولان، فخروجهما عن محل الكلام
واضح، ودخل هذا القسم في التكليف ليس واقعيا وإلا لزم انقلاب المجعول الشرعي إلى
المجعول التكويني، وأيضا لزم تخلف الحكم عن موضوعه، بل دخله انما يكون بجعل
الشارع ولذا قلنا ان قيود الحكم بأجمعها داخلة في الموضوع، وجزء له، مثلا إذا قال
يجب الحج ان استطاع، تكون الاستطاعة جزء الموضوع ولا يعقل فعلية وجوب الحج
قبل تحققها كما لا يعقل عدمها، بعد تحققها، واطلاق الشرط عليه، انما يكون بالمسامحة
في التعبير، وهذا الاطلاق صار سببا للاشتباه وتخيلوا ان المراد به ما هو من اجزاء العلة،
وعلى هذا فكما ان جعل وجوب الحج بيد الشارع، وهو مجعول شرعي كذلك تضييق
دائرة موضوعه أو توسعته بيده، فدخل كل قيد في الحكم الذي مرجعه إلى تقييد
الموضوع وتضييقه انما يكون بالجعل الشرعي.
وبما ذكرناه ظهر ما في كلام الشيخ الأعظم، وما في الوجه الثاني الذي افاده
المحقق الخراساني.
واما الوجه الأول: الذي افاده، فيرد عليه ان المتقدم انما هو السبب، والشرط،
والمنتزع عن التكليف هو السببية، والشرطية.
فالمتحصل مما ذكرناه ان شرطية شئ للحكم أو مانعيته عنه انما تنتزع من الحكم
المجعول على النحو الخاص وهذا لا ربط له بشرطيته للمصلحة أو الجعل فتدبر حتى
لا يشتبه الامر عليك.
واما القسم الثاني: فالحق فيه ما افاده المحقق الخراساني وتوضيحه انه لهذه الأمور
أيضا مراتب ثلاث.
الأولى: كونها أجزاءا للمتصور حيث إن الصلاة مركبة من أمورات متباينة
ومقولات مختلفة وقبل ان يأمر المولى بها لا بد وان يتصور المولى مجموعها، فكل
واحد منها جزء للمتصور.
الثانية: كونها أجزاءا وشرطا للمصلحة، حيث إن احكام الله تابعة للمصالح
63

والمفاسد فمصلحة واحدة مترتبة على مجموع الاجزاء والشرائط ولازمها كون كل جزء
جزءا لما يحصل تلك المصلحة.
الثالثة: كونها قيودا للمأمور به اما الأوليان، فهما خارجتان عن محل الكلام، واما
الثالثة فلا اشكال في أن الجزئية، والشرطية، والقاطعية، بهذا المعنى منتزعة من امر المولى
بعدة أمور منها هذه القيود، وعليه، فكما ان أصل جعل الحكم بيد المولى كذلك اخذ
شئ قيدا وهذا واضح.
واما القسم الثالث: فلا اشكال في امكان انتزاع تلك الأحكام من الأحكام التكليفية
ثبوتها، كما لا اشكال في امكان جعلها استقلالا، نعم، لا ينبغي ان يشك في عدم
انتزاعها من الأحكام التكليفية وقوعا لما ستعرف، وبهذا يجمع بين كلمات
المحقق الخراساني (ره) حيث حكم أولا بامكان انتزاعها من الأحكام التكليفية وفى آخر
تلك الصفحة يصرح بعدم صحة انتزاعها منها.
وكيف كان فقد استدل لاستقلالها في الجعل بوجوه ذكرها المحققان الخراساني
والنائيني.
الأول: انه ما من حكم تكليفي الا ويشترك فيه مورد آخر فأي حكم تكليفي
يمكن انتزاع لزوم العقد منه فان حرمة التصرف فيما انتقل عنه يشترك فيها الغصب فلا
يمكن ان تكون هي منشئا لانتزاع اللزوم وكذلك ساير الوضعيات.
وفيه: ان منشأ الانتزاع لو فرض كل واحد من الأحكام التكليفية كان ما ذكره (قده)
متينا، ولكن القائل بهذا القول يلتزم بانتزاعها من مجموع الأحكام التكليفية في مواردها.
الثاني: ان مثل هذه الاعتبارات أي، الملكية والزوجية، وما شاكل، متداولة عند من
لم يلتزم بشرع ولا شريعة، مع أنه ليس عنده الزام وتكليف.
وفيه: ان منشأ انتزاع الملكية مثلا عندهم يمكن ان يكون هو الأحكام التكليفية
الثابتة ببنائهم، إذ لا ريب في أنه عندهم يكون في موارد تلك الاعتبارات احكام تكليفية
مثلا لا يجوز عندهم التصرف في ماله بلا رضاه ووطء زوجته وهكذا.
الثالث: انه يلزم وقوع ما لم يقصد، وعدم وقوع ما قصد.
64

وفيه: انه يقع ما قصد فان الملكية المقصودة بما انها امر انتزاعي على هذا المسلك
فتحققها انما يكون بهذا النحو، أي بتحقق منشأ انتزاعها، كما أنه لا يلزم وقوع ما لم يقصد
فان الحكم التكليفي بما انه منشأ الانتزاع فهو أيضا مقصود تبعا.
الرابع: ان بعض الأحكام الوضعية غير قابل لانتزاعه من الحكم التكليفي كالحجية
لأنه أي حكم تكليفي فرض يسقط بالعصيان، والحجية لا تسقط.
وفيه: ان للحجية كساير الأحكام الشرعية مقامين، الجعل، والمجعول، وعلى
فرض الانتزاعية، ينتزع الأول من انشاء وجوب تصديق العادل مثلا، وينتزع الثاني من
فعليته، والذي يسقط بالعصيان هو الحكم الفعلي، وبتبعه تسقط الحجية الفعلية: لأنه لا اثر
لها كي تكون باقية، والذي يكون باقيا هو الأول ومنشأ انتزاعه أيضا باق.
والحق في المقام يقتضى ان يقال انه لا يصح ثبوتا، الالتزام بأنها انتزاعية لوجوه.
منها: ان الوجدان شاهد على انها عناوين مستقلة في العرف وهم يعتبرون الملكية
لشخص مع عدم الالتفات إلى الحكم التكليفي بل قد يستهجن ملاحظته مثلا لو سئل عن
امرأة عن زوجيتها لأي شخص - وبالجملة - لاشكال في أنه عند العرف تلاحظ هذه الأحكام
مستقلة.
ومنها: ان الامر الانتزاعي هو ما يصح حمل العنوان المأخوذ منه على منشأ انتزاعه
كحمل الفوق على ما انتزع عنه الفوقية، وفى ما نحن فيه لا يصح ذلك مثلا لا يصح حمل
الملك على الحكم التكليفي الموجود في مورده.
ومنها: ان الملكية تكون للصبي والمجنون ولا تكليف لهما ولا يعقل انتزاعها من
جواز التصرف بعد البلوغ، والإفاقة، لان فعلية الامر الانتزاعي تستدعى فعلية المنتزع عنه
كما لا يعقل انتزاعها من جواز التصرف المتوجه إلى الولي فإنه كيف يمكن انتزاع الملكية
لشخص من جواز التصرف لآخر، ثم انه أي حكم تكليفي ينتزع منه الولاية.
واما اثباتا ففي الأدلة انما رتبت الأحكام التكليفية على هذه العناوين، مثل، لا يحل
مال امرأ الخ - و - الناس مسلطون على أموالهم - و - قوله تعالى والحافظين فروجهم - الا
على أزواجهم - إلى غير ذلك من الأدلة وبالجملة في هذه الأدلة فرضت تلك العناوين
65

ورتبت عليها الأحكام التكليفية.
فتحصل مما ذكرناه ان الأحكام الوضعية لا يمكن ثبوتا واثباتا ان تكون منتزعة من
الأحكام التكليفية، بل هي مستقلة في الجعل.
بقى في المقام أمور، الأول: ان المحقق الخراساني (ره) أورد على نفسه بان الملكية
كيف جعلت من الاعتبارات مع أنها إحدى المقولات المحمولات بالضميمة، وأجاب
عنه بان الملك مشترك بين معان منها مقولة الجدة، ومنها الإضافة الخاصة الاشراقية،
ومنها الإضافة المقولية.
توضيح المقام ان الموجودات الخارجية على قسمين، قسم منها موجود لا في
الموضوع، وهي الجوهر، وقسم منها إذا وجد وجد في الموضوع وهو العرض، والثاني
قد لا يحتاج في تحققه إلى شئ سوى موضوعه كالسواد ويعبر عنه بالعرض المتأصل،
وقد يحتاج إلى شئ آخر، والثاني أيضا على قسمين إذ قد لا يحتاج في تحققه إلى عرض
آخر كالعلم، حيث إنه وان لا يوجد الا مع عالم ومعلوم، ولكن لا يتوقف تحققه على
تحقق عرض آخر وقد يحتاج إليه ويكون ملازما مع تحقق عرض آخر كالأبوة، والثاني
أيضا على نحوين إذ ربما يكون العرضان متشابهين كالاخوة، وربما يكونان مختلفين
كالأبوة والبنوة، ومقولة الإضافة هي ما إذا كان العرض بنحو لا يوجد الا ملازما لتحقق
عرض آخر، والا فمطلق التقابل بي شيئين وكل نسبة متكررة ليس من مقولة الإضافة.
هذا كله في الموجودات الخارجية واما الاعتباريات فهي خارجة عن هذه
الأقسام.
وقد ظهر بما ذكرناه ما في كلام المحقق الخراساني من اطلاق الإضافة المقولية
على الملكية، حيث إنها أولا من الاعتباريات وليست من المقولات، وثانيا على فرض
كونها منها لا تكون من مقولة الإضافة، والمالكية وان كانت عنوانا إضافيا لكنها ليست من
مقولة الإضافة: إذ فرق واضح بين العنوان الإضافي ومقولة الإضافة، بل ربما يكون العنوان
إضافيا ويستحيل كونه من مقولة الإضافة كالخالقية، وثالثا ان اختصاص شئ بشئ بسبب
التصرف ليس ملكا، كما في الجل للفرس.
66

والحق ان الملكية بمعنى الإحاطة والسلطنة، ولها مصاديق حقيقية واعتبارية، وما
هو من الأحكام الوضعية هي الملكية الاعتبارية وتمام الكلام في محله.
الامر الثاني: ان جملة من الأمور وقع الكلام فيها، انها من الأحكام الوضعية، أم من
الأمور الواقعية، أو الانتزاعية، منها الطهارة والنجاسة، وقد أشبعنا الكلام فيهما في أول
مبحث البراءة وعرفت انهما من الأمور الاعتبارية، والأحكام الوضعية، ولا يعقل كونهما
من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع، ومنها الصحة والفساد وقد تقدم ما هو الحق
فيهما في الجزء الأول، من هذا الكتاب ومنها غير ذلك مما لا يهمنا التعرض له.
الاستصحاب في الأحكام الوضعية
الثالث: انه، هل يجرى فيها الاستصحاب، أم لا؟ والكلام فيه في موارد، الأول، في
جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية اللاحقة للتكليف.
وأفاد المحقق الخراساني انه لا مانع من جريان الاستصحاب فيها من حيث هي،
لأنها وان لم تسم أحكاما، الا ان امر وضعها ورفعها بيد الشارع فلا مانع من جريان
الاستصحاب فيها، نعم لا مجال لاستصحابها لاستصحاب أسبابها ومنا شئ انتزاعها.
وأورد عليه المحقق الأصفهاني بان ذلك يختص بما إذا جرى الأصل في منشأ
الانتزاع فإنه حاكم على الأصل في الامر الانتزاعي، وأما إذا لم يجر فيه الأصل، فلا مانع
من جريان الأصل في الامر الانتزاعي، كما في استصحاب عدم جزئية المشكوك فيه، مع
عدم جريان الأصل في الامر النفسي في الأكثر لمعارضته بعدم تعلق الامر بالأقل بما هو.
أقول: يرد على المحقق الأصفهاني ان جريان الأصل المحكوم عند ابتلاء الحاكم
بالمعارض، انما هو فيما إذا كان هناك حكمان أحدهما مترتب على الآخر كطهارة ما
غسل بالماء المشكوك الطهارة، حيث إنها مترتبة على طهارة الماء، وكل منهما حكم
مستقل، وأما إذا فرضنا كون أحدهما من شؤون الآخر وتبعاته ومنتزعا عنه، فلا معنى
لجريان الأصل فيه بعد سقوط الأصل في المنشأ كما في المقام، فان إذا امر المولى بعدة
67

أمور، كما ينتزع عنوان الحاكمية له، والكلية للمجموع، كذلك ينتزع الجزئية لبعضها
وهذه عناوين تبعية، لا انها اعتبارات، أو وجودات مستقلة فمع سقوط الأصل في المنشأ
لا مورد لجريان الأصل فيها.
ويرد على المحقق الخراساني ان الجزئية وما شاكل، التي تكون مجعولة تبعا
ومنتزعة عن الجعل الشرعي لا يجرى فيها الأصل لكونها من اللوازم التكوينية للحكم
الشرعي نظير عنوان الحاكمية والمحكوم بهية.
المورد الثاني: في الأحكام الوضعية السابقة على الحكم التكليفي، والكلام فيه،
تارة يقع في الشرط والمانع، وأخرى في الشرطية والمانعية.
اما الأول: فبناءا على عدم كون دخلهما في التكليف واقعيا بل دخلهما جعلي
لا مانع من استصحاب بقائهما أو بقاء عدمهما، ويترتب على استصحاب بقاء الشرط وجود
التكليف وعلى عدمه عدمه، وعلى وجود المانع عدم التكليف، وعلى عدمه وجوده.
واما بناءا على كون دخلهما واقعيا فلا يجرى الاستصحاب لعدم ترتب الأثر عليه.
واما الثاني: فبناءا على كون الشرطية والمانعية مجعولتين كما هو الحق يجرى
الاستصحاب فيهما، لان المستصحب من الأمور المجعولة شرعا، نعم، لا يترتب على
استصحابهما وجود التكليف وعدمه لأنهما مترتبان على الشرط والمانع، لا الشرطية
والمانعية، وبناءا على عدم كونهما مجعولتين لا يجرى لعدم كون المستصحب مجعولا
شرعيا ولا موضوعا لاثر شرعي.
وبما ذكرناه ظهر الخلط في كلمات المحقق الخراساني حيث إن مورد كلامه
استصحاب الشرطية، وقوله والتكليف وان كان مترتبا عليه، انما يلائم مع استصحاب
الشرط، لأنه مترتب عليه، لا على الشرطية.
المورد الثالث: في الأحكام الوضعية المستقلة في الجعل، وقد مر الكلام فيها،
فإنها كساير الأحكام الشرعية لجريان استصحاب عدم جعلها، لا يجرى فيها
الاستصحاب.
ثم إن الشيخ الأعظم ذكر في المقام من التنبيهات اثنى عشر، وأضاف
68

المحقق الخراساني إليها تنبيهين آخرين، فصارت التنبيهات أربعة عشر، وينبغي البحث
فيها لما فيها من المباحث المهمة.
اعتبار فعلية اليقين والشك في الاستصحاب
الأول: قد طفحت كلمات القوم بأنه يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك واليقين
فلا استصحاب مع الغفلة، وملخص القول في المقام، انه لا ينبغي الشك كما لا كلام في
اعتبار فعليتهما في الاستصحاب: لأنهما مأخوذان موضوعا له وظاهر اخذ كل عنوان في
الموضوع توقف فعلية الحكم على فعليته بجميع قيوده وهذا واضح لا كلام فيه،
انما الكلام وقع في المقام في أن الأصحاب مبتنيا على ذلك فرقوا بين فرعين.
أحدهما: ما إذا تيقن بالحدث وغفل وصلى ثم شك بعد الصلاة في أنه توضأ أم لا؟
ثانيهما: ما لو تيقن به وشك فيه وغفل وصلى ثم شك بعد الصلاة في الوضوء.
فإنه في الفرع الأول حكموا بصحة صلاته: وفى الثاني ببطلانها، وذكروا في الفرق
بينهما: انه في الفرع الأول لا يجرى الاستصحاب قبل الصلاة لعدم فعلية اليقين والشك
فيها لفرض الغفلة، واما بعد الصلاة فتجري قاعدة الفراغ وهي مقدمة على الاستصحاب،
واما في الفرع الثاني فالتكليف بالوضوء قد تنجز قبل الصلاة بالاستصحاب لفرض فعلية
اليقين والشك، فكان محدثا ولم يتوضأ بعده قطعا فلا مورد لقاعدة الفراغ
أقول: يقع الكلام في مقامات، الأول: هل هناك فرق في جريان الاستصحاب بين
الفرعين أم لا؟ الحق عدم الفرق بينهما وانه لا يجرى في شئ منهما: لأنه كما يعتبر في
جريان الاستصحاب حدوثا فعلية اليقين والشك، كذلك يعتبر في بقاء جريانه بقاء فعلية
الوصفين كما هو الشأن في كل عنوان اخذ موضوعا للحكم فان بقاء الحكم يدور مدار
بقاء فعلية الموضوع، مثلا في لا تشرب الخمر كما يتوقف فعلية الحرمة على فعلية
الخمرية كذلك يعتبر في بقاء فعليتها، بقاء فعلية الخمرية، فلو تبدلت إلى الخل ترتفع
الحرمة، والاستصحاب لا يكون مستثنى من هذه الكلية، وعليه فكما لا يجرى
69

الاستصحاب في الفرع الأول كذلك لا يجرى في الفرع الثاني قبل الصلاة لفرض ارتفاع
اليقين والشك بحدوث الغفلة.
وما عن بعض المحققين من أن الشك إذا صار فعليا وجرى الاستصحاب، فالشك
يكون باقيا في خزانة النفس، وان كان الشاك غير ملتفت إليه فهو موجود فعلى فيجرى
الاستصحاب.
غريب فان الشك واليقين والظن مقسمها الالتفات وهو قسيم الغفلة، فإذا، فرض
الغفلة لا محالة يكون الشك منعدما.
المقام الثاني: في جريان قاعدة الفراغ فيهما وعدمه: الظاهر عدم جريانها فيهما،
وذلك لان قاعدة الفراغ من الامارات النوعية لوقوع المشكوك فيه، كما هو المستفاد من
التعليل بالأذكرية، وعليه. فحيث لا امارية في الفرضين ولا يحتمل الأذكرية فلا تجرى
القاعدة في شئ منهما، هذا على ما هو الحق من كونها من الامارات، واما على تقدير
كونها من الأصول التعبدية وان التعليل بالأذكرية في الاخبار، من قبيل الحكمة لا العلة،
ولا يوجب تقييد اطلاق الأدلة، فالظاهر جريانها فيهما، اما في الفرع الأول فواضح، واما
في الفرع الثاني.
فغاية ما قيل في وجه عدم الجريان فيه: انه يعتبر فيه كون الشك حادثا بعد العمل،
واما الشك الموجود قبله الباقي بعد العمل فهو مشمول لدليل الشك قبل التجاوز ولا بد
من الاعتناء به.
ولكنه فاسد: فإنه من جهة استحالة إعادة المعدوم، يكون الشك بعد الصلاة غير
الشك الموجود قبلها المنعدم بالغفلة فهو شك حادث بعد العمل فيجرى فيه القاعدة،
مع أنه لو سلم امكان إعادة المعدوم لم يدل دليل على لزوم حدوث الشك بعد
العمل، بل الدليل دل على أنه لا بد من الاعتناء بالشك الموجود حال العمل، وغير ذلك
من أنحاء الشك مشمول للدليل، فالأظهر انه لا فرق بينهما من هذه الناحية أيضا.
المقام الثالث: في أن استصحاب الحدث بعد الصلاة، هل يترتب عليه فساد
الصلاة لاقترانها حينئذ بالمانع، كما عن الشيخ الأعظم (ره)، واختاره المحقق الخراساني،
70

غاية الامر قاعدة الفراغ حاكمة عليه، أم لا يترتب عليه ذلك، الظاهر هو الثاني: لان
المانعية الظاهرية المنتزعة من الامر بالصلاة مقيدا بعدم المانع انما ثبتت من حين جريان
الاستصحاب، واما قبله في حال الصلاة فلعدم جريان الاستصحاب لم تكن ثابتة، ولم
يكن الامر بالصلاة حال وقوعها مقيدا بعدم المانع، والشئ لا ينقلب عما وقع عليه.
جريان استصحاب مؤدى الامارة
الثاني: في أنه هل يعتر في صحة الاستصحاب كون المستصحب محرزا
بالوجدان، أم يكفي فيها، احرازه بالطرق والامارات، بل الأصول المحرزة، بل وغير
المحرزة وجوه وأقوال، والكلام يقع أولا في الامارات ثم في الأصول.
أما إذا كان محرزا بالامارة، فقد يقال انه لا يجرى الاستصحاب، لعدم اليقين
بالثبوت، بل ولا شك في البقاء، إذ البقاء فرع الثبوت غير المحرز، فيشك فيه على تقدير.
وأجاب عنه صاحب الكفاية فيها، بما حاصله ان الاستصحاب، انما يكون شأنه
اثبات البقاء على تقدير الحدوث، وانه يكفي في جريانه الشك فيه على تقدير الثبوت،
ولا يعتبر فيه ثبوت المستصحب حدوثا ولا ترتب الأثر عليه، فإذا ثبتت الملازمة الظاهرية
بين الحدوث والبقاء، فالدليل المتكفل للحدوث حجة على بقائه.
ثم انه أورد على نفسه بأنه قد اخذ اليقين بالثبوت والحدوث في التعبد ببقائه في
الاخبار، ولا يقين في المقام، وأجاب عنه: بان اليقين اخذ مرآة وطريقا لثبوته، ليكون
التعبد في بقائه فإذا تعبد بالبقاء على فرض ثبوته يكون التعبد في بقاء ما فرض ثبوته.
ثم ذكر في هامش الكتاب بان هذا على المختار من كون المجعول في باب
الامارات التنجيز والتعذير، واما على ما هو المشهور من كون مؤديات الامارات أحكاما
ظاهرية شرعية كما اشتهر ان ظنية الطريق لا تنافى قطعية الحكم، فالاستصحاب جار بلا
اشكال للقطع بالحكم الظاهري حدوثا والشك في ارتفاعه فيستصحب.
وفى كلامه مواقع للنظر الأول: فيما ذكره في الهامش، فإنه يرد عليه أمران.
71

أحدهما: ان المشهور غير ملتزمين بذلك وقد مر في أول مبحث حجية الظن.
ثانيهما: انه لو سلم التزامهم بذلك، لا يندفع الاشكال، بما أفيد لان ما شك في بقائه
انما هو الحكم الواقعي الذي لم يكن متيقنا وما كان متيقنا انما هو الحكم الظاهري، ولا
شك في عدم بقائه.
توضيحه ان الامارة إذا قامت على شئ يكون المتعبد به بمقدار ما دلت عليه
الامارة، ولا يكون الثابت أزيد من ذلك، مثلا لو أخبر العادل بزوجية امرأة لزيد إلى شهر
يكون المتعبد به الزوجية إلى شهر وبعده لا تعبد من هذه الناحية بها قطعا، وعليه، فإذا
قامت الامارة على ثبوت شئ كالملكية بعد المعاطاة ولم تدل على انها لازمة لا تنفسخ،
أو جائزة تنفسخ به، فالمخبر عنه الملكية قبل الفسخ، وهو المتعبد به وبعده لا تعبد
بالملكية الظاهرية قطعا، ولو شك في بقائها يكون المشكوك فيه بقاء الملكية الواقعية
لا ما تعبد به بعنوان اخبار العادل، وبالجملة الحكم بثبوت المؤدى انما هو بمقدار ما أخبر
به العادل مثلا وبعده يرتفع قطعا، والشك انما هو في بقاء الواقع فالمتيقن غير المشكوك
فيه.
الثاني: ما ذكره من أن المجعول في باب الامارات التنجيز والتعذير، وقد مر في
أوائل مباحث الظن انه لا يعقل ذلك.
الثالث: ما ذكره من أن دليل الاستصحاب متكفل لاثبات الملازمة بين الحدوث
والبقاء، فإنه يرد عليه: انه ان قيل بعدم اخذ الشك في موضوع
الاستصحاب لزم كونه من
الامارات المثبتة للواقع، وان اخذ فيه الشك في البقاء لا بد من احراز الثبوت كي يتحقق
الشك المذكور، والمفروض على ما افاده عدم احراز الحدوث، مع: ان المأخوذ في
دليل الاستصحاب اليقين بالحدوث وحمله على الطريقية، وان محط النظر في التعبد إلى
جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء خلاف الظاهر، فما افاده لا يفيد في رفع العويصة.
وقد يقال في رفع هذا المحذور بان اليقين المأخوذ في الموضوع أريد به مطلق
الحجة لا الصفة الخاصة وانما اخذ ذلك من جهة كونه أظهر افراد الحجة، كما أن اليقين
الموجود في قوله، بل انقضه بيقين آخر أريد به تلك قطعا، ولذا لم يتوقف أحد في أنه إذا
72

قامت الامارة على خلاف الحالة السابقة يرفع اليد عنها، ويعمل بالامارة - وبالجملة -
اليقين المأخوذ موضوعا، انما هو من باب انه أحد افراد الطبيعي فالحكم في الحقيقية انما
هو على طبيعي الحجة لا على اليقين خاصة، فلو ثبت حجية شئ، يدخل تحت هذا الدليل
فلو قامت الامارة على شئ فشك فيه يجرى الاستصحاب.
وفيه: ان ما ذكر من تعليق الحكم على فرد بما انه من افراد الطبيعي ممكن ولا
محذور فيه الا انه لا ريب في كونه خلاف الظاهر لا يصار إليه بلا قرينة.
وما افاده من القرينة، غير تام: فان الامارة إذا قامت على خلاف الحالة السابقة
انما يؤخذ بها وينقض اليقين السابق، اما من جهة الحكومة أو التخصيص كل على مسلكه
وليس من باب ان المراد باليقين مطلق الحجة.
والحق في الجواب ان يقال انه قد تقدم ان المجعول في باب الامارات هو الطريقية
والوسطية، والعلمية، - وبعبارة أخرى - اعتبر الشارع الطريق علما تعبدا، وعليه بنينا على
قيام الامارة مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية، ففي المقام الامارة
لقيام الدليل على تتميم كشفها تقوم مقام اليقين، فدليلها يوسع موضوع دليل الاستصحاب
ويثبت فردا لليقين تعبدا، فلو قامت على شئ وشك في بقائه يستصحب وبالجملة بعد
جعلها علما واحرازا، يترتب عليها جميع آثار العلم، والاحراز، كما يثبت بها آثار المعلوم
والمحرز، ومن جملة تلك الآثار، عدم النقض بالشك، كما أن منها نقض الشك به،
فتدبر، هذا كله في الامارات.
الكلام حول جريان استصحاب مؤدى الأصل العملي
واما الأصول، فما كان منها موضوعه باقيا في فرض الشك في الحكم، لا يجرى
فيه الاستصحاب مثلا، لو شك في بقاء عدالة زيد الثابتة في الزمان السابق، من جهة
احتمال فسقه، لاحتمال الكذب، وجرى فيها الاستصحاب، ثم بعد ذلك في الزمان
اللاحق، شك في ذلك لاحتمال شرب الخمر فنفس الاستصحاب يكفي للحكم ببقاء
73

العدالة لأنه ليس شكا آخر وموضوعا غير الموضوع الذي جرى فيه الاستصحاب، فإنه
كان مشكوك العدالة عند احتمال الكذب، ويكون كذلك عند احتمال شرب الخمر،
فالموضوع باق ويجرى فيه الاستصحاب، وبالجملة الشك في بقاء العدالة الذي هو
موضوع للاستصحاب لا يكون متبدلا بل بعد باق فلا حاجة إلى جريان استصحاب آخر،
لان موضوع الاستصحاب الأول باق وجدانا.
ويمكن ان يقال انه في أمثال هذه الموارد لا تصل النوبة إلى اجراء استصحاب
مؤدى الأصل، لأنه يجرى الاستصحاب الأول باق وجدانا.
ويمكن ان يقال انه في أمثال هذه الموارد لا تصل النوبة إلى اجراء استصحاب
مؤدى الأصل، لأنه يجرى الاستصحاب في نفس منشأ الشك الثاني، وهو عدم شرب
الخمر في المثال هو حاكم على استصحاب بقاء العدالة، وموضوع هذا الأصل مغاير
لموضوع الأصل الأول.
وان لم يكن موضوعه باقيا، ولم يكن الأصل متكفلا لبيان استمرار الحكم في
فرض عروض الشك له، كما في الموارد التي يترتب على جريان الأصل فيها حكم
لموضوع آخر، كما لو غسل ثوب بالماء المحكوم بطهارته للاستصحاب أو قاعدة
الطاهرة، فحكم بطهارة الثوب، ثم شك في بقاء طهارة الثوب لاحتمال ملاقاته للنجاسة.
فعن المحقق النائيني التفصيل بين الأصل المحرز وغير المحرز، واختيار جريان
الاستصحاب في الأول، دون الثاني، من جهة ان الأصل المحرز يقوم مقام القطع المأخوذ
في الموضوع بما انه مقتض للجري العملي، واليقين المأخوذ في دليل الاستصحاب
كذلك فلو ثبت شئ بالاستصحاب ثم شك في بقائه يستصحب بقاء مؤدى
الاستصحاب، واما الأصل غير المحرز كاصالة الطهارة فلا مجال لجريان الاستصحاب
فيه، لان أصالة الطهارة مغياة بالعلم وتثبت الطهارة على المشكوك فيه بوصف انه
مشكوك فيه فما دام بقاء الشك تكون أصالة الطهارة باقية فلا تصل النوبة إلى
الاستصحاب.
ويرد على ما افاده في الأصل المحرز ان ظاهر اليقين المأخوذ في الاستصحاب
دخله بنفسه فيه لا بما انه مقتض للجري العملي ولا قرينة على صرف هذا الظهور.
ويرد على ما افاده في الأصل غير المحرز ما تقدم من أن العلم المأخوذ في أصالة
74

الطهارة قيدا وغاية يكون من قيود الموضوع، وتدل على طهارة ما لم يعلم نجاسته، واما لو
احتمل عروض نجاسة أخرى عليه، فقاعدة الطهارة لا تصلح لاثبات بقاء الطهارة.
والحق ان يقال ان الأظهر جريان الاستصحاب في جميع موارد الأصول أعم من
المحرز وغيره.
وذلك يظهر بعد بيان أمرين، أحدهما: ان الاستصحاب الموضوعي مقدم على
الاستصحاب الحكمي لحكومته عليه، ثانيهما: انه لا يلزم ان يكون المستصحب حكما
شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي، بل يجرى الاستصحاب لو كان المستصحب عدم
الحكم الشرعي أو كان اثره ذلك مثلا يستصحب حياة زيد لترتيب عدم الإرث عليه.
وبعد هذا نقول، اما الأصل غير المحرز كقاعدة الطهارة فما ثبت طهارته بقاعدة
الطهارة، وشك في النجاسة فاما ان يكون الشك، هو الشك الأول فيكفيه أصالة
الطهارة، لأنها باقية إلى يوم القيمة، واما ان يكون من جهة احتمال عروض النجاسة أي
نجاسة أخرى عليه فيجرى استصحاب عدم عروضها، ويحكم بعدم تنجسه ولا تصل
النوبة إلى استصحاب الطهارة، وان كان في نفسه جاريا من جهة انه يثبت بها طهارة
ظاهرية، وهي متيقنة وجدانا، هذا إذا قلنا بان الطهارة امر عدمي والنجاسة امر وجودي.
وان قلنا انهما أمران وجوديان، فقد يتوهم ان هذا الأصل لا يترتب عليه الطهارة
لعدم حجية في مثبتاته.
لكنه توهم فاسد: فان الدليل المثبت للنجاسة بالملاقاة حجة في مثبتاته لكونه دليلا
وامارة فبالملاقاة كما يثبت النجاسة يثبت عدم الطهارة فإذا جرى استصحاب عدم
الملاقاة، يحكم بعدم تحقق عدم الطهارة، ومن الواضح ان عدم الطهارة هو الطهارة.
وكذلك الأصل المحرز كالاستصحاب فلو غسل الثوب بماء مستصحب الطهارة،
فإنه لو شك في بقاء الطهارة لاحتمال ملاقاة الثوب مع نجاسة أخرى يجرى استصحاب
عدم الملاقاة وهو مقدم على استصحاب الطهارة.
75

اقسام استصحاب الكلى والشخصي
الثالث: المستصحب اما ان يكون كليا، واما ان يكون شخصيا، ولكل منهما اقسام
والكلام في هذا التنبيه انما هو في البحث عن جريان الاستصحاب في أي قسم من
أقسامهما وعدمه في الآخر، وتحقيق الكلام فيه يستدعى تقديم أمور.
1 - ان الكلى الطبيعي على ما هو الحق موجود في الخارج في ضمن الافراد حقيقة،
وعلى فرض التنزل فهو متحقق في ضمن الافراد بالنظر المسامحي العرفي، وهذا المقدار
يكفي في صحة جريان الاستصحاب.
2 - لا فرق في جريان الاستصحاب في الكلى بين ان يكون من الموجودات
المتأصلة في عالم التكوين، أو من قبيل الموجودات الاعتبارية كالملكية والزوجية
وما شاكل، أو من قبيل الأمور الانتزاعية.
3 - ان العلم بوجود الفرد يساوق العلم بوجود الكلى، كما أن الشك في بقاء الفرد
يساوق الشك في بقاء الكلى، وعليه فإذا كان الأثر مترتبا على بقاء الكلى بلا دخل
للخصوصيات الفردية فيه، يجرى الاستصحاب فيه في الجملة وسيمر عليك تفصيل
القول فيه.
4 - المستصحب الشخصي على اقسام، إذ قد يكون معينا، وقد يكون مرددا.
والترديد ربما يكون بين فردين المشكوك بقائه على كل تقدير، كما لو شك في أن
الداخل في الدار زيد أو عمرو، مع العلم بدخول أحدهما ثم شك في بقاء الداخل كان
هو زيدا أو عمروا.
وربما يكون بين فردين المعلوم ارتفاع أحدهما وبقاء الآخر، كما لو علم بأنه دخل
في الدار زيد أو عمرو، ثم علم بأنه ان كان زيدا فقد خرج وان كان عمروا فهو باق قطعا.
5 - المستصحب أيضا على اقسام، الأول: ما لو شك في بقاء الكلى من جهة
الشك في بقاء الفرد المعين المعلوم تحققه.
76

الثاني: ما لو شك في بقائه من جهة الشك في أن الفرد الحادث المتحقق هو
الفرد الطويل الباقي أو الفرد القصير المرتفع قطعا.
الثالث: ما لو كان منشأ الشك في بقائه الشك في حدوث فرد آخر غير ما علم
تحققه وارتفاعه مقارنا لحدوثه أو لارتفاعه.
الرابع: ما لو شك في بقائه من جهة ان الفرد المعلوم تحققه تفصيلا، قد ارتفع،
ولكن بعد العلم بحدوثه، علم اجمالا بثبوت فرد يحتمل ان يكون المعلوم بالاجمال
منطبقا على المعلوم بالتفصيل، فقد ارتفع، ويحتمل ان يكون غيره فهو باق، مثل ما لو علم
بجنابته واغتساله منها، ولكن رأى في ثوبه منيا يحتمل ان يكون من تلك الجنابة،
ويحتمل ان يكون من غيرها.
والفرق بينه وبين القسم الثاني واضح حيث إن هناك فرد واحد متحقق مردد بين
القصير والطويل، وفى المقام الفرد المعلوم تحققه تفصيلا، قد ارتفع قطعا، والمحتمل
بقاء الكلى في ضمن فرد آخر.
والفرق بينه وبين القسم الثالث، ان هناك لاعلم غير العلم بحدوث فرد،
وفى المقام يعلم اجمالا بثبوت فرد غاية الامر يحتمل انطباقه على المعلوم بالتفصيل،
فأقسام المستصحب الشخصي ثلاثة، والكلي أربعة، والمجموع سبعة.
إذا عرفت ما ذكرناه، فتنقيح القول فيها يستدعى البحث في كل قسم من الأقسام
السبعة، فنقول.
اما القسم الأول: فلا كلام ولا اشكال في جريان الاستصحاب فيه لأنه متيقن سابقا
ومشكوك فيه لاحقا، فهو المتيقن من مورد الاستصحاب.
وكذا القسم الثاني، فإنه في جريان الاستصحاب لافرق بين كون المتيقن معلوما
تفصيليا أم اجماليا، وهل يترتب على الاستصحاب في هذا القسمين آثار الكلى، أم لا
وجهان سيأتي الكلام فيه في القسم الأول من اقسام استصحاب الكلى.
77

استصحاب الفرد المردد
واما القسم الثالث: فقد اختار بعض المحققين جريان الأصل فيه، بدعوى ان
الموجود وان كان مرددا عندنا، ولكن لا يضر ذلك بتيقن وجوده سابقا، فيستصحب بقاء
ذلك المتيقن سابقا، وأورد عليه بايرادات.
الأول: ما ذكره المحقق النائيني، وحاصله: ان استصحاب بقاء الفرد المردد معناه
بقاء الحادث على ما هو عليه من الترديد، وهو يقتضى بقائه على كل تقدير، ومن جملة
تقاديره، كونه هو الفرد الزايل، وهو ينافي العلم بارتفاعه على ذلك التقدير.
وفيه: ان المتيقن هو الوجود الشخصي الخارجي المحتمل لانطباق عنوان كل
واحد من الفردين عليه، ولكن هذا الانطباق خارج عن المتيقن، وبعد ما يقطع بارتفاع
أحد العنوانين على تقدير انطباقه على الموجود الخارجي يشك في بقاء ذلك الموجود
فيستصحب بقائه، وليس معنى ذلك بقائه على ما كان عليه حتى من حيث احتمال انطباق
كل واحد من العناوين عليه إذ ذلك غير مربوط بالمتيقن من حيث إنه متيقن فهو من هذه
الجهة لا مانع من ابقائه.
الثاني: ما ذكره المحقق النائيني أيضا، وهو ان الشك في بقاء الفرد المردد يرجع
إلى الشك فيما هو الحادث، وانه هو الزايل أو الباقي، ولا يثبت بالاستصحاب ذلك، فان
شأنه اثبات بقاء ما حدث، لا حدوث الباقي.
وفيه: ان هذا الشك بضميمة العلم بارتفاع أحدهما على تقدير حدوثه يكون منشئا
لتحقق شك آخر وهو بقاء ما حدث، فيجرى فيه الاستصحاب فيثبت به بقاء ما حدث.
الثالث: ان الفرد مردد بين ما هو مقطوع البقاء، وما هو مقطوع الارتفاع، فلا شك
في بقاء الفرد.
وفيه: ان القطع بالبقاء على تقدير، والقطع بالارتفاع على تقدير آخر، بضميمة عدم
العلم بأحد التقديرين بالخصوص يوجب الشك في البقاء.
الرابع: ما ذكره المحقق الأصفهاني وهو ان تيقن الوجود ان كان المراد منه، تيقن
ذلك مع قطع النظر عن الخصوصية المفردة فليس ذلك الا وجود الطبيعي، وان أريد
78

تيقن إحدى الخصوصيتين معينا، فهو بين الفساد، وان أريد تيقن إحداهما المرددة واقعا
فهي لعدم كون المردد ثابتا واقعا وعدم الثبوت له لا ماهية ولا وجودا، يستحيل تعين العلم
الجزئي بها، وان أريد تيقن الوجود المعين في الواقع المردد عندنا، فهو أيضا واضح
الفساد، لان ذلك ينافي العلم إذ معنى العلم انكشاف المعلوم، والتردد ينافي ذلك،
فمتعلق العلم لا يعقل ان يكون مرددا.
وفيه: انا نختار الشق الرابع، والمراد من كون الشئ معينا واقعا، مرددا عندنا ليس
ترديده من الجهة التي تكون متعلقا لعلمنا، بل نقول ان ذلك الموجود الشخصي
الخارجي الذي هو مطابق إحدى الخصوصيتين معلوم، ولكن من جهة انطباق إحداهما
عليه مشكوك فيه فضم المشكوك فيه إلى المعلوم وخلطهما أوجب التردد، وعليه
فالمعلوم ليس وجود الكلى فقط بل هو مع إحدى الخصوصيتين.
الخامس: ما افاده المحقق العراقي (ره) وهو ان الاستصحاب لا يجرى فيه لعدم الأثر،
فان ما هو موضوع الأثر هو الأشخاص بأعيانها، وهي ما بين مقطوع البقاء ومقطوع
الارتفاع، والعنوان الانتزاعي العرضي كعنوان أحدهما، وما شاكل لا يكون موضوع الأثر
كي يجرى فيه الأصل.
وفيه: ان العنوان المشار إليه ان لوحظ بما هو مرآة ومشير إلى العنوان التفصيلي
المعين الواقعي الذي هو موضوع الأثر، كما فيما لو علم اجمالا بثبوت أحدهما يرتفع هذا
المحذور كما لا يخفى.
فتحصل ان الأظهر جريان استصحاب الفرد المردد.
القسم الأول من اقسام استصحاب الكلى
والقسم الرابع: وهو الأول من اقسام استصحاب الكلى، ففي الكفاية كان
استصحابه كاستصحاب الفرد بلا كلام.
وتنقيح القول فيه يستدعى البحث في موردين، الأول: في جريان الأصل فيه،
79

الثاني: في أنه هل يكفي استصحاب الفرد لترتيب آثار الكلى أم لا؟
اما الأول: فملخص القول فيه ان اليقين بوجود الفرد موجب لليقين بوجود الكلى،
كما أن الشك في بقائه ملازم للشك في بقائه، ولكن جريان الاستصحاب فيه يتوقف
على ترتب اثر عليه كما هو الشأن في كل مورد يجرى الاستصحاب، وعليه، فإذا كان لكل
من الفرد والكلي اثر كما في الجنابة والحدث فان لكل منهما اثرا يجرى الاستصحاب
فيهما، ولو كان الأثر لأحدهما يجرى فيه خاصة والظاهر أنه إلى ذلك نظر صاحب
الكفاية.
واما الثاني: فأفاد المحقق الخراساني في التعليقة ان استصحاب الكلى لترتيب آثار
الفرد لا يصح لأنه مثبت، واما استصحاب الفرد، ففي كفايته لترتيب آثار الكلى، وجهان،
من أن وجود الكلى عين وجود فرده، فالتعبد بوجود الفرد تعبد بوجوده، ومن أن الكلى
والفرد بنظر العرف شيئان متغايران، وان كانا بحسب الدقة متحدا فلا يكون التعبد بالفرد
تعبدا بالكلي عندهم.
وفيه: ان وجود الكلى في عالم العين والخارج، انما يكون بعين وجود فرده، واما
في عالم التشريع، وجعل الحكم فلهما وجودان متغايران لا مساس لأحدهما بالآخر، إذ
كل منهما موضوع لاثر غير اثر الآخر، والاستصحاب ليس مفاده بقاء الفرد في عالم العين
والخارج، بل مفاده بقائه في عالم التشريع، نعم، يتم ما افاده في استصحاب الحكم فان
تحقق الطلب انما يكون بتحقق الوجوب أو الاستحباب، - وبعبارة أخرى - التعبد بالفرد
كالوجوب معناه، جعله حقيقة، وهو جعل للطلب كذلك.
القسم الثاني من اقسام استصحاب الكلى
واما القسم الخامس: وهو الثاني من اقسام استصحاب الكلى، فالكلام فيه تارة يقع
في وجود المقتضى، وأخرى يقع في المانع.
اما الأول: فقد يقال ان أركان الاستصحاب وهي اليقين السابق والشك اللاحق
80

غير متحققة فيه: وذلك لان الموجود هي الحصة من الطبيعي، واما الكلى فليس موجودا
بل هو امر انتزاعي فهو ليس متعلق اليقين والشك، واحدى الحصتين معلوم العدم،
والأخرى مشكوك الحدوث.
وفيه: أولا: ان الحق وجود الكلى الطبيعي في الخارج بعين وجود افراده، وثانيا: انه
لو سلمنا عدم وجوده في الخارج بالدقة الفلسفية لا اشكال في وجوده في الخارج بالنظر
العرفي، والمفروض انه بهذا اللحاظ موضوع للحكم الشرعي وبهذه الجهة يصدق نقض
اليقين بالشك عرفا، وهذا المقدار يكفي في جريان الاستصحاب.
واما الثاني: فالمانع المتوهم عن جريانه أمران أحدهما: ان وجود الطبيعي انما هو
بوجود افراده واحد الفردين متيقن الارتفاع على تقدير الحدوث - وبعبارة أخرى - متيقن
العدم، والآخر مشكوك الحدوث، ومحكوم بحكم الشارع بعدم الحدوث، والمفروض
ان الطبيعي مردد بينهما فإذا حكم بعدمهما لا محالة يكون الكلى محكوما بالعدم.
وأجاب عن ذلك المحققون، بان العلم بعدم أحد الفردين وحكم الشارع بعدم
حدوث الفرد الآخر، لا يوجبان الاخلال بأركان الاستصحاب بالنسبة إلى الكلى، فان اليقين
السابق به والشك اللاحق فيه موجودان فيجرى.
ولكن يمكن ان يقال ان نظر المستشكل ليس إلى أنه باستصحاب عدم حدوث
الفرد الطويل، بما هو فرد بضميمة العلم بارتفاع الآخر ينتفى احتمال بقاء الكلى كي يرد
عليه ما ذكره، بل نظره إلى أنه باستصحاب عدم حدوث هذا الوجود الذي هو وجود للكلي
بما هو وجود له بضميمة العلم بعدم وجودات اخر، يقطع بعدم بقاء الكلى، فهذا الجواب
لا يكفي.
بل الحق في الجواب ان يقال: ان الوجود الخارجي يضاف إلى الطبيعي من جهة
ويقال ان هذا وجود الانسان مثلا ويضاف إلى الخصوصية الخارجية من جهة أخرى،
ويقال انه وجود زيد لا عمرو، لا اشكال في تغاير الجهتين وسره واضح، فإنه لو كان جهة
إضافة الوجود إلى الخصوصيات عين جهة اضافته إلى الطبيعي لزم صدق ما في الخارج
على غيره من الخارجيات، مع أنه لا يصح بالبداهة فإذا كانت الجهتان متغايرتين فما يكون
81

مسبوقا بالعدم هو جهة الإضافة إلى الفرد، واما الجهة المضافة إلى الكلى فهي مقطوع
الحدوث، ولا يجرى فيها الأصل وليس هذا الوجود بخصوصه مورد الأثر كي يجرى فيه
الأصل، وجهة اضافته إلى الفرد مشكوك فيها يستصحب عدمها، فتدبر فإنه دقيق.
الامر الثاني: ان الشك في بقاء الكلى مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل،
فإذا جرى فيه الأصل وحكم بعدم حدوثه يحكم بعدم بقاء الكلى وارتفاعه لأنه من
آثاره.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بأجوبة ثلاثة الأول ان الشك في بقاء الكلى، ليس
مسببا عن الشك في حدوث الفرد الطويل لان ارتفاع الكلى لا يكون من آثار عدم
حدوث الفرد الطويل بل هو من آثار ولوازم كون الحادث المتيقن ذاك المتيقن الارتفاع
أو البقاء، فإنه لو كان الحادث هو القصير فقد ارتفع ولو كان هو الطويل فهو باق.
وفيه: ان ارتفاع الكلى وان لم يكن اثرا لعدم حدوث الفرد الطويل ولكن الارتفاع
لم يؤخذ في موضوع دليل، بل لو كان الشك في أحد المستصحبين مسببا عن الشك في
حدوث الآخر لا يجرى الاستصحاب في المسبب، وفى المقام لا اشكال في أن الشك في
بقاء الكلى مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل.
وبالجملة الارتفاع وان لم يكن اثرا لعدم حدوث الفرد الطويل ولكن الشك في
بقاء الكلى وارتفاعه مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل والمفيد لعدم جريان
الاستصحاب في المسبب هو الثاني.
الجواب الثاني: ان بقاء القدر المشترك انما هو بعين بقاء الخاص الذي في ضمنه
لا انه من لوازمه.
وفيه: ان نظر المستشكل ليس إلى أن بقاء الكلى مسبب عن بقاء الفرد الطويل حتى
يجاب بان بقائه عين بقائه، بل إلى أن الشك في بقاء الكلى مسبب عن الشك في حدوث
الفرد الطويل، لأنه لو كان هو الحادث لا محالة يكون باقيا، ومن الواضح ان البقاء غير
الحدوث وجودا، فلا يرد عليه ان السببية والمسببية تتصوران في الوجودين المترتبين،
لا فيما إذا كان موجودين بوجود واحد مع أنه لو كان عينه فالاشكال أوضح.
82

الجواب الثالث: هو متين جدا، وهو ان الأصل في السبب يقدم على الأصل في
المسبب، إذا كانت السببية شرعية كما في غسل الثوب النجس بالماء المستصحب طهارته
حيث إن طهارة الثوب من آثار طهارة الماء الشرعية، وأما إذا كانت السببية عقلية،
والمسبب من اللوازم العقلية، للسبب، فلا حكومة هناك إذ اللوازم العقلية لا تترتب على
الاستصحاب كي يرتفع الشك، والمقام من قبيل الثاني: فان بقاء الكلى من اللوازم العقلية
لحدوث الفرد الطويل.
الجواب الرابع: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو ان الأصل كما يجرى في عدم
حدوث الفرد الطويل يجرى في عدم حدوث الفرد القصير فحيث انه يعلم اجمالا
بحدوث أحدهما فيتعارضان ويتساقطان فيجرى الأصل في المسبب.
ودعوى عدم جريان أصالة عدم حدوث الفرد القصير بعد العلم بارتفاعه.
مندفعة بان الميزان في تعارض الأصلين ملاحظة حال الحدوث ولا اشكال في
تعارضهما عند حدوث أحدهما، وقد مر انه عند انعدام أحد الطرفين أو خروجه عن محل
الابتلاء لا يجرى الأصل في الطرف الآخر، ان كان ذلك بعد التعارض والتساقط.
ولكن هذا الجواب يتم في الموارد التي يجرى الأصل في الفرد القصير كما لو علم
بالحدث المردد بين البول والمنى، واما في المورد الذي لا يجرى الأصل في الفرد القصير
لعدم الأثر كما لو علم بان يده تنجست اما بالبول، أو الدم فغسلها مرة واحدة، فلا محالة
يشك في بقاء النجاسة، إذ لو كان الملاقى هو البول، فهي باقية، ولو كان هو الدم فقد
ارتفعت: فان اثر الملاقاة مع الدم لزوم الغسل مرة واحدة، هو معلوم، فلا يجرى الأصل
في عدمه، فيجرى في الملاقاة مع البول.
الشبهة العبائية المعروفة
وفى المقام اشكال ثالث: أورده بعض الأكابر وهو ان لازم جريان الاستصحاب
في هذا القسم، اما الالتزام بان الملاقى لاحد أطراف الشبهة نجس، أو الالتزام بمنجسية
83

الملاقاة مع الطاهر، وكلاهما كما ترى - توضيحه - انه لو علم اجمالا بنجاسة أحد طرفي
بالعبائة، اما الأعلى منها، أو الأسفل، فغسل منها الجانب المعين يحتمل كونه الجانب
المتنجس، ثم لاقى بدن المصلى مع الرطوبة كلا من جانبيها، مقتضى استصحاب النجاسة
وهو استصحاب الكلى نجاسة ملاقيهما، وهو بدن المصلى، مع أنه لاقى مع أحد طرفي
العلم الاجمالي وطاهر قطعي وشئ منهما لا يكون منجسا.
وقد أجيب عنه بأجوبة. منها: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو ان استصحاب كلي
النجاسة في العباء لا يثبت نجاسة ملاقيه لان نجاسة الملاقى تتوقف على أمرين، أحدهما
الملاقاة، ثانيهما نجاسة الملاقى، واستصحاب النجاسة لا يثبت ان بدن المصلى لاقى مع
النجس ونظير ذلك، استصحاب بقاء الماء في الحوض، حيث إنه لا يثبت طهارة الشئ
النجس الموجود في الحوض.
وفيه: أولا النقض بما إذا احتمل غسل أحد الجانبين: فإنه إذا جرى استصحاب
النجاسة لازم ما أفيد عدم الحكم بنجاسة الملاقى للشك في الملاقاة مع النجس،
والاستصحاب، لا يثبت ذلك وثانيا، بالحل: وهو ان الموضوع مركب من أمرين، أحدهما
وهو الملاقاة محرز بالوجدان، والآخر وهو نجاسة الملاقى محرز بالتعبد، والأصل،
فبضم الأصل بالوجدان يتم الموضوع، وما افاده من النظير غير مربوط بالمقام، فان هناك
أحد الجزئين، وهو الغسل بالماء، لا يكون محرزا لا بالوجدان ولا بالتعبد، ونظير المقام ما
لو شك في طهارة الماء فغسل به شئ نجس فإنه يجرى استصحاب الطهارة ويترتب على
الغسل به طهارة ما غسل به.
ومنها: ما افاده المحقق النائيني (ره) أيضا وهو ان محل الكلام في استصحاب الكلى
هو ما إذا كان المتيقن السابق بهويته وحقيقته ووجوده، مرددا بين ما هو مقطوع الزوال
وغيره، وأما إذا كان الترديد في محله وموضوعه مع تعينه وتشخصه ومعلوميته، فلا يكون
من استصحاب الكلى، بل يكون من قبيل استصحاب الفرد المردد، ومثل لذلك بما إذا
علم وجود الحيوان الخاص في الدار، وتردد محله بين الجانب الشرقي أو الغربي، ثم
انهدم الجانب الغربي، واحتمل ان يكون الحيوان في ذلك الطرف وتلف بانهدامه، ثم
84

قال إن مسألتنا من هذا القبيل فإنه علم بإصابة العبائة نجاسة خاصة وتردد بين كونها
في الطرف الأسفل أو الأعلى ثم طهر طرفها الأسفل.
وفيه: ان النجاسة من قبيل الاعراض أي متقومة بالمحمل وليست من قبيل الجواهر
كي لا تختلف حقيقتها بتعدد المحل ولا يكون محذور في انتقالها إلى محل آخر، بل هي
متقومة بالمحل، وتتعدد بتعدده فالترديد في المحل في المقام، موجب للترديد في الهوية
والوجود، ولا يكون من قبيل الترديد في الموضوع.
ومنها: ما افاده بعض بأنه إذا غسل الطرف الأعلى من العبائة فعلم تفصيلا طهارته،
فحيث يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال على ذلك الطرف فيحتمل ان يكون اليقين
بالنجاسة، منتقضا باليقين بالطهارة، ومعه يكون التمسك بعموم لا تنقض اليقين بالشك
تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية لاحتمال ان يكون من نقض اليقين باليقين، ففي المثال
المذكور لا يجرى استصحاب النجاسة.
وفيه: أولا النقض بساير موارد استصحاب الكلى فإنه في مثال الحدث المردد بين
الأصغر والأكبر، لو توضأ يعلم بان الحدث لو كان هو الأصغر فقد ارتفع يقينا فاستصحاب
بقاء الحدث يحتمل ان يكون من قبيل نقض اليقين باليقين، بل لازمه عدم جريان
الاستصحاب في كثير من الموارد، فإنه لو شك في حياة زيد بما انه يعلم اجمالا بموت
شخص في البلد اجمالا ويحتمل انطباقه على زيد، فلا يجرى الاستصحاب، وثانيا بالحل:
وهو انه ليس لليقين والشك عالم وراء الوجدان، ومن الواضح انه متيقن بنجاسة أحد
الطرفين، وشاك، في أنه ارتفعت تلك النجاسة، أم بعد باق ولا يحتمل تيقنه بالارتفاع
وان شئت قلت إن المعلوم بالاجمال غير المعلوم بالتفصيل فان المعلوم بالاجمال نجاسة
أحد طرفين والمعلوم بالتفصيل طهارة الطرف المعين.
ومنها: ما هو الحق، وهو ان طهارة ملاقي أحد أطراف العلم الاجمالي ليست مورد
دليل خاص بل انما يحكم بها لأجل الأصل، فإذا فرضنا انه في مورد كان أصل حاكم آخر
يحكم لأجله بالنجاسة يلتزم به، ففي المقام إذا لاقى بدن المصلى الطرف الذي لم يغتسل
لا يحكم بنجاسة لأصالة الطهارة ولكنه بعد الملاقاة مع الطرف الطاهر يحصل له العلم
85

بالملاقاة مع مستصحب النجاسة فيحكم بنجاسة وهذا لا يلزم منه الحكم بمنجسية الطاهر،
بل الملاقاة معه، أوجبت العلم بالملاقاة مع مستصحب النجاسة، فالمتحصل ان الاشكال
استغراب محض.
فتحصل انه يجرى الاستصحاب في القسم الثاني من اقسام استصحاب الكلى.
الكلام حول جريان القسم الثاني في الاحكام
بقى أمور لابد من التعرض لها الأول: ربما يقال انها على فرض جريان
الاستصحاب في الكلى في المقام يقع التعارض بينه وبين استصحاب عدم حدوث الفرد
الطويل: للعلم بأنه اما حدث الفرد الطويل، أولا يكون الكلى باقيا.
ولكن يرده ان عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي انما يكون
فيما إذا لزم من جريانهما مخالفة عملية، وفى المقام حيث لا يلزم ذلك كما لا يخفى
فيجريان معا.
الثاني: ان ما ذكرناه من جريان الاستصحاب في القسم الثاني من اقسام الكلى انما
هو في الموضوعات.
واما في الاحكام كما لو علم باستحباب الدعاء عند رؤية الهلال أو وجوبه، ثم
وقعت المزاحمة بينه وبين مطلوب آخر، لو كان الدعاء واجبا يقدم عليه، ولو كان مستحبا
يكون هو مقدما: فإنه بعد المزاحمة يشك في أن الحادث هو الفرد الزايل أو الباقي،
وبالتبع يشك في بقاء الطلب الجامع بينهما، فالظاهر عدم جريانه: فإنه في الموضوعات
قلنا ان استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل لا يصلح رافعا للشك في بقاء الكلى كما مر.
واما في الاحكام فحيث ان جعل الجامع ان انما يكون بجعل فرده وهو الوجوب أو
الاستحباب، فلو علم بعدم وجود الاستحباب واستصحب عدم وجود الوجوب لا شك
في عدم بقاء الطلب الجامع، وهو واضح، نعم إذا تعارض الأصل الجاري فيه مع الجاري
في الآخر وتساقطا يجرى استصحاب الجامع، ولكن الظاهر عدم جريان الأصل في
86

الطرف الآخر في شئ من الموارد لعدم الأثر كما لا يخفى.
الثالث: ان استصحاب الكلى انما يجرى إذا لم يثبت بالأصل ان الحادث هو
القصير كما لو علم بخروج رطوبة مرددة بين البول والمنى بعد الاستبراء، وكان خروجها
قبل ان يتوضأ: فإنه في هذه الصورة يجرى استصحاب بقاء الحدث الأصغر، وعدم
حدوث الحدث الأكبر، ويترتب عليهما ارتفاع الحدث بالوضوء، واستصحاب الحدث
الجامع بينهما، لا يجرى لما تقدم في التنبيه الثاني من أن استصحاب عدم حدوث الفرد
الطويل في الاحكام. منها: الحدث، يترتب عليه ارتفاع الكلى - وبعبارة أخرى - ان كل
مكلف، بمقتضى الآية الشريفة (إذا قمتم إلى الصلاة الخ) يجب عليه الوضوء للصلاة،
خرج عنها المحدث بالحدث الأكبر، فإذا جرى استصحاب عدم كونه محدثا بالحدث
الأكبر، يدخل تحت العام المزبور.
القسم الثالث من اقسام استصحاب الكلى
واما القسم السادس: وهو القسم الثالث من اقسام استصحاب الكلى، وهو، ما لو
علم بحدوث فرد وارتفاعه، الا انه يحتمل ان يكون فرد آخر حادثا مقارنا لحدوث هذا
الفرد أو مقارنا لارتفاعه، فيكون الكلى باقيا، وهذا يتصور على وجوه، إذ الفرد المحتمل
ثبوته وبقائه، تارة يكون من مراتب ما علم تحققه كالسواد الضعيف المحتمل قيامه مقام
السواد الشديد، وأخرى يكون مبائنا معه، والثاني على وجهين إذ الفرد المحتمل المبائن،
قد يحتمل وجوده مع الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه، وقد يحتمل وجوده مقارنا لارتفاعه.
اما الأوجه الأول: كما لو علم بالسواد الشديد وارتفاعه واحتمال بقاء السواد
الضعيف، فلا اشكال في جريان الاستصحاب فيه، لان الشدة، والضعف من مراتب وجود
شئ واحد، بل يستصحب بقاء ذلك الوجود الشخصي ويقال ان كان موجودا قطعا
يشك في بقائه فيستصحب.
وقد يتوهم انه من هذا القبيل الوجوب والاستحباب بتخيل ان الاستحباب من
87

مراتب وجود الطلب الموجود، مع الوجوب، وعليه فلو علم بوجوب شئ وارتفاعه
واحتمل استحبابه يجرى استصحاب بقاء الطلب.
وأجاب المحقق الخراساني عن ذلك، بان الوجوب والاستحباب بحسب الدقة،
وان كانا كذلك أي هما مرتبتان من وجود واحد، الا انهما عند العرف متباينان فلا يجرى
فيهما الاستصحاب.
أقول: ان الإرادة والحب وان كانا كذلك مثلا من كان يحب شيئا شديدا ثم نقصت
محبته وصارت ضعيفة، لا يقال انه قد زالت المحبة، وحدثت فرد آخر بل يقال انه نقصت
محبته، الا انه لا يجرى الاستصحاب فيهما لعدم كونهما من الاحكام، ولا من قبيل
الموضوع ذي الحكم، واما الحكم أي انشاء الوجوب والاستحباب، فهما متغايران عرفا
وبالدقة العقلية، فتحصل ان ما يكون واحدا بالدقة واحد عرفا، الا انه لا يجرى فيه الأصل
لعدم الأثر، وما لا يكون واحدا عرفا لا يكون كذلك بالدقة.
واما الوجه الثاني: فقد اختار الشيخ الأعظم (ره) جريان الاستصحاب فيه نظرا إلى أن
العلم بوجود الفرد الخاص في الخارج واسطة في ثبوت العلم بوجود الكلى خارجا،
وملازم معه، وبديهي ان نسبة وجود الكلى إلى افراده على حد سواء، فبارتفاع الفرد
الخاص، حيث إنه يحتمل مقارنته مع فرد آخر، يشك في بقاء الكلى فيجرى فيه
الاستصحاب لعدم اختلال شئ من ركني الاستصحاب، من اليقين السابق والشك
اللاحق.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بان نسبة الطبيعي إلى افراده نسبة الآباء إلى الأبناء
لا نسبة أب واحد إلى الأبناء فالموجود في ضمن الافراد هو الحصص دون الكلى
الطبيعي، وعليه، فما علم وجوده بوجود الفرد هو حصة خاصة، وهي متيقن الارتفاع،
والمشكوك بقائه حصة أخرى وهي مشكوك الحدوث.
وفيه: ان الحق وجود الكلى الطبيعي في الخارج، وان نسبة الطبيعي إلى افراده نسبة
الأب الواحد إلى الأبناء كما اعترف هو (قده) في غير موضع بذلك.
ولكن مع ذلك لا يجرى الاستصحاب في هذا القسم، وذلك لان متعلق الشك
88

ليس، هو الطبيعي من حيث هو بل من حيث وجوده، ولا اشكال، في أن وجودات الطبيعة
متباينة مثلا وجود زيد غير وجود عمرو حتى من الجهة المضافة إلى الانسان وليس
مجموع الوجودات وجودا واحدا شخصيا، فما هو المتيقن من الوجودات، مرتفع قطعا،
وما هو مشكوك البقاء، مشكوك الحدوث.
مع أن الالتزام بجريان الاستصحاب في هذا القسم مستلزم لتأسيس فقه جديد، فان
من علم بنجاسة يده اليمنى واحتمل إصابة النجاسة أيضا بيده اليسرى ثم غسل يده اليمنى،
لابد من البناء على استصحاب بقاء نجاسة بدنه فلا يجوز له الدخول في الصلاة، وكذا في
باب الدين لو علم بان مديون بزيد دينارين ولكن يحتمل ان يكون دينه أكثر فإذا أدى
دينارين يجرى استصحاب بقاء الدين، وكذا في باب الإرث لو كان لشخص ولد ومات
قبل أبيه ثم مات أبوه ويحتمل ان يكون له أبن آخر في بلد آخر فإنه على هذا يجرى
استصحاب بقاء الابن له ولا يرثه الطبقة الثانية وهكذا في ساير الأبواب.
وقد استدل صاحب الدرر (ره) على جريانه في القسم الثالث مطلقا، بأنه لو جعلت
الطبيعة بنحو صرف الوجود موضوعا للحكم لا يرتفع هذا المعنى الا بانعدام تمام الافراد
في زمان من الأزمنة، لأنه في مقابل العدم المطلق، ولا يصدق هذا العدم الا بعد انعدام
جميع الوجودات، وعليه فلو شك في حدوث فرد آخر اما مقارنا لحدوث الفرد المعلوم،
أو مقارنا لارتفاعه، فيجرى استصحاب الجامع بلحاظ صرف الوجود، إذ على فرض
تحقق ذلك الفرد، يكون الكلى بهذه الملاحظة باقيا لا حادثا فالشك فيه شك في البقاء.
وفيه: ان صرف الوجود من حيث هو بلا إضافة إلى ماهية من الماهيات ينحصر
مصداقه في واجب الوجود، وصرف وجود طبيعي من الطبيعيات، ان كان لوجوده تحقق
سوى تحقق افراده وكان معلولا له كان ما ذكره تاما، ولكن بما ان وجوده بعين وجودها،
فيعود المحذور الذي ذكرناه.
وللفاضل التوني في المقام كلام - وحاصله - ان بناء المشهور على اجراء أصالة
عدم التذكية عند الشك فيها، ويثبتون بها، نجاسة الحيوان، وحرمة لحمه، مع أن هذا
الاستصحاب من قبيل الاستصحاب في القسم الثالث من اقسام الكلى: وذلك لأنه لا ريب
89

في أن موضوع الحكم ليس مطلق عدم التذكية، إذ هو مقارن للحيوة، ولا يترتب عليه
الحكمان، بل الموضوع، عدم التذكية في حال خروج الروح، وعدم التذكية في تلك
الحالة ليس له حالة سابقة: لان خروج الروح، اما ان يكون عن تذكية، واما ان لا يكون فلم
يتحقق في الخارج زمان كان فيه زهوق الروح، ولم يكن معه التذكية، وماله حالة سابقة انما
هو عدم التذكية في حال الحياة المرتفع بزهوق الروح قطعا، لتقومه بحيوة الحيوان،
واستصحاب عدم التذكية على الوجه الكلى، انما يكون من قبيل استصحاب بقاء
الضاحك الذي في ضمن زيد بعد القطع بخروجه، لاحتمال دخول عمرو في الدار بعد
خروج زيد، وعليه فلا يجرى هذا الأصل.
وفيه: ان عدم التذكية لا يتبدل، فان تبدل العدم انما يكون بالوجود، وهو غير ثابت،
والمتبدل انما هو مقارناته، غاية الامر هو بنفسه ليس موضوع الحكم، بل هو مع زهوق
الروح، فإنه إذا كان أحد القيدين محرزا بالوجدان، والآخر جرى فيه الأصل، فبضم
الوجدان إلى الأصل يتم الموضوع ويترتب عليه الحكم، فهذا ليس من استصحاب الكلى
فضلا عن كونه من قبيل القسم الثالث منه.
القسم الرابع من اقسام استصحاب الكلى
واما القسم السابع: وهو الرابع من اقسام استصحاب الكلى، كما لو علم بوجود فرد
تفصيلا، وعلم بارتفاع ذلك الفرد، ثم علم اجمالا بوجود فرد يحتمل انطباقه على متيقن
الحدوث، والارتفاع، ويحتمل ان يكون غيره فيكون باقيا، نظير ما إذا علم بوجود زيد
في الدار ثم سمع صوتا من الدار يحتمل ان يكون هو من زيد، ويحتمل ان يكون من غيره
وعلم بخروج زيد، ومثاله الفقهي ما لو رأى في ثوبه منيا وعلم أنه منه، ولكن لم يعلم أنه
من جنابة سابقة اغتسل منها أو جنابة أخرى لم يغتسل منها.
وفى المثال أقوال، الأول: عدم وجوب الغسل عليه، الثاني: وجوبه، الثالث: ما
اختاره المحقق الهمداني (ره)، ولعله الظاهر من كلمات صاحب الجواهر (ره)، وهو التفصيل
90

بين ما لو علم بكونه من غيره الجنابة التي اغتسل منها لكن شك في حدوثه قبل الغسل أو
بعده، وبين ما لو احتمل كونه من الجنابة التي اغتسل منها فاختار وجوب الغسل في
الأول، دون الثاني.
وقد استدل للأخير: بأنه في الصورة الأولى يعارض استصحاب الطهارة المتيقنة
الحاصلة بالغسل، استصحاب الحدث المتيقن عند خروج المنى الموجود في الثوب
فيتساقطان، ويرجع إلى قاعدة الاشتغال القاضية بوجوب تحصيل القطع بالطهارة للصلاة،
وفى الصورة الثانية بما ان الرؤية لا توجب العلم بثبوت تكليف وراء ما علم سقوطه، فلا
محالة يكون الشك في التكليف فيها موردا للبرائة.
وفيه: ان في الصورة الأولى بما انه يحتمل تعاقب الجنابتين وعلى فرضه لا توجب
الجنابة الثانية تكليفا آخر، بل يكون وجودها كعدمها فتكون بعينها الصورة الثانية من هذه
الجهة فلابد من الالتزام بجريان البراءة فيها أيضا، ولعله يكون مدرك القول بعدم
الوجوب مطلقا وستعرف ضعفه.
وتحقيق القول فيه ان استصحاب الحدث المتيقن وجوده حين خروج المنى
الموجود في الثوب الذي هو القسم الرابع من اقسام استصحاب الكلى يجرى في نفسه
وقد استدل لعدم جريانه بوجوه.
الأول: عدم اتصال زمان الشك باليقين، إذ لو رجعنا القهقرى من زمان الشك إلى
زمان العلم بالطهارة للاغتسال لم نعثر على زمان يعلم بوجود المشكوك فيه، مع أن
المعتبر في جريانه اتصال زمان الشك باليقين لقوله (ع) من كان على يقين فشك.
وفيه: ان هذا المعنى من الاتصال غير معتبر في الاستصحاب، بل المعتبر فيه اليقين
السابق والشك اللاحق وعدم توسط اليقين بالخلاف، وفى المقام الحدث معلوم سابقا
ومشكوك فيه لاحقا، وليس بينهما العلم بالطهارة وسيجيئ في التنبيهات الآتية توضيح
ذلك.
الثاني: انه من جهة احتمال كون المنى الموجود في الثوب من الجنابة التي اغتسل
منها قطعا، وبعبارة أخرى قبل الغسل، يحتمل ان يكون من نقض اليقين باليقين فلا يجرى
91

الاستصحاب.
وفيه: ان اليقين والشك من الحالات النفسانية الوجدانية، فلا يعقل ان لا يعلم أنه
متيقن أو شاك، فالجنابة المعلومة بما انه يحتمل كون زمانها قبل الغسل، يكون بقائها
مشكوكا فيه ولا يحتمل انتقاض العلم بها باليقين بالاغتسال.
الثالث: ان الشك في بقاء الجنابة مسبب عن الشك في حدوث فرد آخر غير ما
ارتفع، فيجرى استصحاب عدم الحدوث ويترتب عليه عدم بقائها.
وفيه: ان استصحاب عدم الحدوث فرد آخر لا يثبت كون الحادث، والثابت هو
الفرد الأول حتى يكون مرتفعا، بل احتمال كون الثابت غير الفرد الأول موجود، فيكون
الشك في الجنابة الفعلية موردا للاستصحاب.
الرابع: انه لاحتمال كون المنى الذي وجده هو المنى الذي أوجب الجنابة يكون
تاريخ الجنابة مجهولا فلا يجرى فيها الاستصحاب.
وفيه: ما سيأتي من ضعف المبنى، وانه يجرى الاستصحاب في مجهول التاريخ.
فتحصل ان الأظهر جريان القسم الرابع من اقسام استصحاب الكلى، ولكن
يعارضه استصحاب عدم حدوث فرد آخر غير ما حدث قطعا مثلا في الجنابة في المثال،
يعارض استصحاب بقاء الجنابة استصحاب عدم حدوث فرد آخر من الجنابة غير ما علم
ارتفاعه، وان شئت فعبر عنه باستصحاب الطهارة المتيقنة الحاصلة بالغسل، فيتساقطان،
فيرجع إلى قاعدة الاشتغال الموجبة لتجديد الغسل، والجمع بينه وبين الوضوء لو صار
محدثا بالحدث الأصغر.
نعم بالنسبة إلى آثار الجنابة كحرمة المكث في المسجد يرجع إلى أصالة البراءة
- وبعبارة أخرى - الرجوع إلى قاعدة اشتغال انما هو بالنسبة إلى آثار الطهارة وما يترتب
على الحدث أعم من الأكبر والأصغر.
الإشارة إلى جملة من الفروع
ثم انه مما بيناه من جريان استصحاب القسم الرابع من اقسام استصحاب الكلى
92

يظهر الحال في جملة من الفروع.
منها: ما لو علم بنجاسة أحد المائين، فغسل شيئا نجسا بهما بالترتيب، فإنه لابد وان
يبنى على طهارة ذلك الشئ، فان استصحاب الطهارة الحاصلة بعد الغسل بأحدهما
يعارض استصحاب النجاسة الثابتة بعد الغسل بالآخر الذي هو من قبيل القسم الرابع،
فيتساقطان فيرجع إلى قاعدة الطهارة، ولا مورد للرجوع إلى استصحاب النجاسة
الموجودة قبل الغسل بهما فإنها ارتفعت قطعا بالغسل بأحدهما الطاهر.
ومنها: ما لو كان جنبا فطهر بدنه بالمائين المشتبهين المعلوم نجاسة أحدهما، ثم
اغتسل بكل من المائين، بان غسل بدنه بأحدهما ثم اغتسل منه، ثم غسل تمام بدنه بالماء
الثاني ثم اغتسل منه، فإنه يحصل بذلك الطهارة الحدثية والخبثية، اما الأولى فتحققها
ثابت معلوم لفرض طهارة أحد المائين، واما الثانية فلانه كما يعلم بنجاسة بدنه حين
الملاقاة مع ما في الاناء الثاني، اما لنجاسة أو لنجاسة الماء الذي اغتسل منه أو لا،
فيستصحب تلك النجاسة، كذلك يعلم بطهارة بدنه بعد تمامية الغسل بأحد المائين فعلى
القول بجريان القسم الرابع، يجرى استصحاب تلك الطهارة فيتعارضان ويتساقطان
فيرجع إلى قاعدة الطهارة.
فان قيل لازم ذلك جواز الوضوء بالمائين المعلوم نجاسة أحدهما، ولم يفت به
أحد، أجبنا عنه بان عدم افتاء الفقهاء في ذلك الفرع انما هو للنص، المتضمن
لقوله (ع) يهريقهما ويتيمم (راجع الوسائل باب 8 و 12 من أبواب الماء المطلق، وباب 4
من أبواب التيمم، وباب 64 من أبواب النجاسات).
ولذلك في ذلك الفرع بنى جماعة على أنه إذا كان المائان كرين يتعين
الوضوء بهما لاختصاص النص بالقليلين.
ومنها: ما لو رأى في ثوبه منيا، واحتمل ان يكون من جنابة اغتسل منها، أو من
جنابة أخرى، وقد تقدم الكلام فيه ومنها غير ذلك من الفروع الفقهية، وتمام الكلام في
هذه الفروع موكول إلى محله وانما الغرض، هو الإشارة إلى أن الجاري في هذه الفروع
القسم الرابع من اقسام استصحاب الكلى.
93

جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية
الرابع: في أنه، هل يجرى الاستصحاب في الأمور التدريجية غير القارة، أم لا؟
وتنقيح القول في المقام ان يقال بعد ما لا اشكال في جريان الاستصحاب في
الأمور القارة، وقع الكلام في صحة جريانه في الأمور التدريجية، وهي التي تكون في كل
آن في حد، غير الحد الذي كانت عليه في الآن السابق - وبعبارة أخرى - هي التي يكون
وجودها في كل آن في حد مخصوص، غير حد ثابت له في آن آخر.
وليس منشأ الاشكال ان البقاء عبارة عن وجود ما كان في الزمان السابق في الزمان
اللاحق، والزمان حيث لازمان له، فلا بقاء له فلا معنى للاستصحاب، فإنه ابقاء ما كان
إذ يرد عليه أولا ان البقاء ينسب إلى الخارج عن أفق الزمان، وثانيا ان الاستصحاب
عبارة عن عدم نقض اليقين بالشك صدق عنوان البقاء أم لم يصدق.
بل منشأ الاشكال ان الأمور التدريجية حيث لاقرار لها بل بحيث يوجد وينصرم،
فما يتعلق به اليقين غير متعلق الشك، فان المتيقن فيها ينصرم والمشكوك فيه الجزء
الآخر، وهو مشكوك الحدوث، وتنقيح القول في المقام بالبحث في موردين.
جريان الاستصحاب في الزمان
الأول: في نفس الزمان وما يعرضه من العنوان الطارئ كاليوم والليل والشهر
ونحوها من العناوين المنتزعة من مجموع الأزمنة المحدودة بين الحدين والمحصورة
بين الحاصرين.
وقد يقال بأنه لا يجرى الاستصحاب فيها: لما مر من أن الامر التدريجي عبارة عن
الآنات المتعاقبة والأكوان المتصرمة شيئا فشيئا فالمقدار المتيقن قد انقضى وانصرم قطعا.
والمقدار المشكوك فيه، يشك في أصل حدوثه فلا تكون أركان الاستصحاب تامة فيه.
94

ولكنه يندفع بأنه، اما على القول بان الزمان امر واحد حقيقة حيث إنه متصل واحد،
وقوامه بالأخذ والترك، والخروج من القوة إلى الفعل عن نعت الاتصال، ووجود مثل
هذا الامر لا نقيض له الا العدم البديل له، لا العدم المتقوم به نفس ذاته، فوجود مثل هذا
الامر يكون واحد، ولا يأبى عن العدم المتقوم به، فواضح.
واما على القول بأنه مركب من الآنات، فلان ذلك انما هو بالنظر الدقى الفلسفي،
والا فهو واحد بالنظر المسامحي العرفي بلا كلام، ومن المعلوم ان العبرة في اتحاد القضية
المتيقنة، والمشكوك فيها انما هي بالنظر المسامحي العرفي، دون الدقى الفلسفي، مع أنه
ليس لعنوان البقاء اثر في أدلة الاستصحاب إذ هي متضمنة للنهي عن نقض اليقين بالشك
ومعلوم ان دائرة ذلك أوسع من دائرة البقاء، ولا ريب في أن رفع اليد عن ترتب الأثر
على الامر التدريجي الذي يوجد وينصرم ويوجد على التعاقب، بالشك في انقطاع سلسلة
وجوداته نقض لليقين بالشك.
واما ما أجاب به المحقق الخراساني من أن الانصرام والتجدد انما هو في الحركة
القطعية دون التوسطية، وهي كونه بين المبدأ والمنتهى، فإنه بهذا المعنى يكون قارا
مستمرا، فتوضيحه بنحو يندفع ما أورد عليه، ما افاده تلميذه المحقق الأصفهاني (ره) من أن
الحركة القطعية هي الصورة الممتدة المرتسمة في الخيال ومنشأ انتزاعها تلك الأكوان
المتصلة بالاتصال التعاقبي، فأجزائها مجتمعة في الخيال، ومتفرقة في الخارج فنسبة هذه
الحركة إلى الأكوان نسبة الكل إلى اجزائه والحركة التوسطية نسبتها إلى تلك الأكوان
نسبة الكلى إلى جزئياته، لان كل كون من تلك الأكوان الموافية للحدود، واقع بين المبدأ
والمنتهى. وحيث إن نفس الحركة القطعية باعتبار منشأيتها متقومة بتلك الأكوان
المتصرمة شيئا فشيئا فهي بذاتها تدريجية والتغير ذاتي لها، فيجرى فيها اشكال البقاء،
وحيث إن الكون بين المبدأ والمنتهى لا تعين ما هوى له الا الوقوع بين المبدأ والمنتهى،
فما دام لم يخرج من الوسط يكون الكون بين المبدأ والمنتهى باقيا فالحركة القطعية
تدريجية التوسطية قارة مستمرة، ولتمام الكلام محل آخر.
فالمتحصل انه لا اشكال في جريان الاستصحاب في زمان في الجملة وترتب
95

الحكم عليه.
انما الاشكال في موردين، أحدهما: فيما إذا كان الأثر مترتبا على الزمان كاليوم
مثلا، بنحو مفاد كان وليس الناقصتين كما إذا شك في أن الزمان الحاضر من الليل أو
اليوم، ومنشأ الإشكال عدم وجود متيقن سابق في البين، ضرورة ان الزمان الحاضر حين
حدوثه، اما من الليل أو النهار، فليس كونه من أحدهما متيقنا حتى يستصحب بقائه، واثباته
باستصحاب نفس الليل والنهار، متوقف على القول بحجية الأصول المثبتة.
ثانيهما: فيما إذا كان الزمان مأخوذا قيدا للمتعلق كما في الموقتات من جهة ان
استصحاب بقاء اليوم أو شهر رمضان مثلا لا يثبت وقوع الظهر أو الصوم في اليوم أو شهر
رمضان وفى وقته، إذ غاية ما يثبت به، بقاء ذات اليوم لا كون هذا الزمان متصفا باليومية،
ولا ان صلاة الظهر الواقعة فيه، واقعة في اليوم، فلا يحرز به وقوع الواجب في الزمان الذي
اخذ ظرفا له وقيدا للواجب، فلا يحرز الامتثال، نعم هو لازم عقلي لبقاء اليوم، ولكن
لا نقول بحجية الأصل المثبت، وبالجملة غاية ما يثبت بالاستصحاب بضم الوجدان إلى
الأصل، هو وجود الفعل عند وجود وقته، واما كونه واقعا في وقته فلا يثبت به.
ولذلك عدل الشيخ الأعظم عن استصحاب الزمان إلى استصحاب الحكم.
والمحقق الخراساني عدل إلى استصحاب نفس المقيد، وسيأتي الكلام فيهما.
ولكن التحقيق انه يمكن دفع الاشكال بوجهين، أحدهما: ان الزمان إذا كان شرطا
للحكم خاصة، لا محالة يكون مأخوذا بنحو مفاد كان التامة، إذ اعتبار وقوع الفعل في
زمان مخصوص الذي هو مفاد كان الناقصة، انما يكون متأخرا عن التكليف وواقعا في
مرحلة الامتثال، فكيف يعقل ان يكون شرطا للتكليف المتقدم عليه رتبة، وأما إذا كان
مأخوذا في المتعلق وقيدا له، فيمكن ان يؤخذ بنحو مفاد كان التامة كما في غيره من
الزمانيات التي يعبر عن ذلك فيها باعتبار اجتماعها في الزمان، من دون اعتبار شئ
آخر، ونعبر عن في المقام باعتبار وجود الفعل والزمان في الخارج، ويمكن ان يؤخذ بنحو
مفاد كان الناقصة بان يعتبر زايدا على ذلك الظرفية وحيثية وقوع الفعل فيه.
لا يقال: ان الوقت ليس عرضا للفعل الواقع فيه، بل هما موجودان مستقلان
96

ومتقارنان في الوجود، فما معنى ظرفية الوقت للصلاة زايدا على التقارن.
فإنه يقال: انه بالدقة كذلك ولكن بالنظر المسامحي العرفي، يصح ذلك، مع أنه
يمكن اخذ خصوصية فيه ملازمة لتقارنهما، ويعبر عنها بالظرفية، وحيث إن الاخذ بالنحو
الثاني غير ملازم لاخذ الزمان قيدا في الواجب، بل هو محتاج إلى مؤنة أخرى فظاهر
الأدلة كونه مأخوذا بالنحو الأول، فلو استصحب الوقت واتى بالعمل خارجا تم
الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل.
ثانيهما: ان شبهة استصحاب مفاد كان الناقصة قابلة للدفع، بان ذوات الآنات
المتعاقبة كما تكون تدريجية، ومع ذلك فهي واحدة كذلك وصف النهارية وما شابهه
من العناوين الطارية على الآنات الثابتة لها أيضا تدريجية تكون حادثة بحدوث الآنات
وباقية ببقائها، فإذا وجد اليوم مثلا واتصف بعض هذه الآنات باليومية وشك في اتصاف
الزمان الحاضر بها، فكما يجرى الاستصحاب في نفس الزمان، كذلك يجرى
الاستصحاب في وصف اليومية الثابتة للزمان، ويدفع شبهة ان هذا الزمان لم يحرز اتصافه
بها، بان هذا الزمان ليس غير الزمان المعلوم اتصافه بها فيجرى الاستصحاب فيما هو مفاد
كان الناقصة، وبه يندفع كلا الاشكالين فتدبر.
واما ما افاده الشيخ الأعظم (ره) من اجراء استصحاب نفس الحكم الشرعي.
فاورد عليه المحقق النائيني (ره) بان استصحاب الحكم ان ترتب عليه احراز وقوع
الفعل في الوقت الذي اخذ قيدا في الواجب، فيكفي في اثباته جريانه في نفس الزمان، وان
لم يترتب عليه ذلك فما الفائدة فيه، لأن المفروض عدم احراز تحقق الامتثال على كل
تقدير ويمكن دفعه بما أشار إليه (قده) بأنه لو سلم عدم ترتب احراز وقوع الفعل في الوقت
المضروب له باستصحاب الزمان، لا نسلم عدم ترتبه باستصحاب الحكم، إذ الأثر العقلي
الواقع في مرحلة الامتثال، يترتب على استصحاب الحكم، وليس من المثبت في شئ،
ومعنى التعبد ببقائه فعلا، هو التعبد ببقائه بجميع خصوصياته التي كان عليها، ومن
المفروض ان الحكم السابق انما كان متعلقا بما إذا اتى به كان واقعا في الوقت المضروب
97

للفعل، فالآن يستصحب ذلك الحكم على النحو الذي كان سابقا ويترتب عليه وقوع
الفعل في الزمان الذي اخذ ظرفا له.
واما ما افاده المحقق الخراساني من استصحاب بقاء نفس المقيد قال فيقال ان الامساك كان قبل هذا الآن في النهار، والآن كما كان فيجب.
فهو وان كان تاما في الجملة، الا انه مختص بما إذا كان المكلف قبل زمان الشك
متلبسا بالعمل كما في المثال، والا كما لو شك في بقاء الوقت للاتيان بالظهرين فلا يصح،
ضرورة ان الصلاة لم تتحقق قبل زمان الشك كي يستصحب بقائها.
نعم يمكن اجراء الاستصحاب التعليقي، بان يقال ان الصلاة لو كانت قبل ذلك
متحققة كانت واقعة في النهار، والآن كما كان، لكنه سيما التعليقي في الموضوعات ليس
حجية كما سيمر عليك.
جريان الاستصحاب في الزمانيات
المورد الثاني: في جريان الاستصحاب في الزمانيات وهي على قسمين:
الأول: ما يكون الزمان مقوما له بحيث ينصرم بانصرام الزمان كالحركة والتكلم،
وجريان الماء وسيلان الدم وما شاكل.
الثاني: ما له بقاء وقرار ولا يمضى بمضي الزمان وارتباطه بالزمان من جهة تعلق
الحكم الشرعي به مقيدا بزمان خاص كالجلوس الواجب مقيدا بزمان خاص.
اما القسم الأول: ففيه أقوال: أحدها عدم جريان الاستصحاب مطلقا، الثاني جريانه
مطلقا ذهب إليه الشيخ الأعظم (ره) والمحقق الخراساني، الثالث التفصيل بين ما إذا كان
الشك في بقاء الزماني ناشئا عن الشك في وجود ما يوجب ارتفاعه وانعدامه بقاءا مع
العلم بمقدار المقتضى للبقاء والاستمرار، كما إذا شك في بقاء الحركة والتكلم من جهة
عروض ما يوجب توقف المتحرك وسكوت المتكلم من تعب وغيره، بعد العلم بان
الداعي إلى الحركة أو التكلم كان إلى بعد زمان الشك، أو شك في بقاء جريان الماء أو
98

سيلان الدم من جهة احتمال ما يوجب المنع عن الجريان أو السيلان بعد العلم بمقدار
اقتضاء عروق الأرض، أو باطن الرحم لجريان الماء وسيلان الدم، وبين ما إذا كان الشك
في بقائه ناشئا عن الشك في مقدار اقتضائه، للبقاء، كما إذا شك في مقدار الداعي
المنقدح في النفس إلى الحركة أو التكلم، أو شك في مقدار اقتضاء عروض الأرض لنبع
الماء، أو باطن الرحم لسيلان الدم، مع العلم بعدم عروض المانع، وما إذا كان الشك في
البقاء ناشئا عن احتمال قيام مقتض آخر مقام المقتضى الأول عند ارتفاعه، كما إذا شك
في بقاء التكلم من جهة احتمال حدوث داع آخر إليه غير الداعي الأول مع العلم بارتفاع
ذلك الداعي، كما عن المحقق النائيني (ره) حيث اختار (قده) جريان الاستصحاب في
الصورة الأولى، وعدم جريانه في الصورتين الأخيرتين.
واستدل للأول بان الشك في بقاء الامر التدريجي في الحقيقة يرجع إلى الشك
في وجود جزء آخر غير ما تيقن به، فما هو المتيقن غير المشكوك فيه.
والجواب عنه ما مر من وحدة الامر التدريجي، وان الاتصال يساوق الوحدة
حقيقة ولا أقل عرفا، غاية الامر ربما يكون الأشياء المتعددة حقيقة واحدة اعتبارا كما أن
الواحد الحقيقي قد يصير متعددا اعتبارا، وعلى أي حال الاشكال المزبور مندفع بما مر
مفصلا. واستدل للأخير: لجريانه في الصورة الأولى بما ذكرناه، ولعدم جريانه في الصورة
الثانية: بأنه من قبيل الاستصحاب الجاري في مورد الشك في المقتضى، ولعدم جريانه
في الصورة الثالثة: بان وحدة الامر التدريجي وتعدده كالتكلم والحركة، انما هي بوحدة
الداعي وتعدده، أو وحدة مقتضيه وتعدده فالشك في حدوث الداعي الآخر عند ارتفاع
الداعي الأول، يرجع إلى الشك في حدوث فرد آخر عند ارتفاع الفرد الأول، فيكون من
صغريات القسم الثالث من استصحاب الكلى فلا يجرى.
أقول: اما ما افاده في الصورة الأولى فهو متين.
واما ما افاده في الصورة الثانية، فيرده ما تقدم من حجية الاستصحاب في موارد
الشك في المقتضى.
99

واما ما افاده في الصورة الثالثة، فيرده ما مر من أن وحدة الشئ لا تدور مدار وحدة
داعيه ومقتضيه، بل مدار الوحدة على الاتصال أو الاعتبار، فالحركة المتصلة من المبدأ
إلى المنتهى واحدة، وان تجدد الداعي في الأثناء، وكذا الخطبة الواحدة، كما أنه لو
انقطعت الحركة أو الخطبة في الأثناء ثم شرع فيها، تصير متعددة لا محالة، وان كان الداعي
إليها واحدا.
فالمتحصل جريان الاستصحاب مطلقا، وما قيل من أنه إذا شك في حدوث داع
آخر، يكون منشأ الشك في البقاء الشك في حدوث الداعي، فالاستصحاب الجاري في
عدم حدوثه حاكم على هذا الاستصحاب، يندفع: بأنه من جهة عدم كون السببية شرعية
لا يكون الأصل الجاري في السبب حاكما على الأصل الجاري في المسبب.
ثم إن صاحب الكفاية قال إن استصحاب بقاء الامر التدريجي، اما ان يكون من
قبيل استصحاب الشخص، أو من قبيل استصحاب الكلى باقسامه، فإذا شك في أن السورة
المعلومة التي شرع فيها تمت أو بقى منها شئ، صح فيه استصحاب الشخص والكلي،
وإذا شك فيه من جهة ترددها بين القصيرة والطويلة كان من القسم الثاني، وإذا شك في أنه
شرع في أخرى، مع القطع بأنه قد تمت الأولى كان من القسم الثالث انتهى.
وفيه: ان كل سورة إذا لوحظت مستقلة تكون شيئا واحدا، ولكن القراءة أيضا شئ
واحد، فإذا ترتب الأثر على القراءة يستصحب بقائها، ولو كان الشك من جهة الشك في
الشروع في الثانية، ولا يكون من قبيل القسم الثالث نعم، لو كان الأثر مترتبا على نفس
السورة كان الامر كما ذكر.
والمحقق النائيني (ره) أفاد في تقريب جريان الأقسام فيها: بأنه إذا شك في أن
الداعي للقرائة المعين المعلوم، هل تم أو بعد باق صح فيه استصحاب الشخص والكلي،
وإذا شك في أن الداعي كان قصيرا أو طويلا كان من القسم الثاني، وإذا شك في أنه هل انقدح
داع آخر مع العلم بتمامية الداعي الأول، كان من القسم الثالث، ثم إن القسم الثالث قد مر
عدم جريان الاستصحاب فيه، وكذلك القسم الثاني في المقام من جهة ان الشك فيه
دائما يكون من قبيل الشك في المقتضى، لأنه يشك في أن داعيه على القراءة مثلا كان
على قرائة سورة أو سورتين، فبالنسبة إلى السورة الثانية الداعي والمقتضى غير محرز
100

فينحصر بالاستصحاب الشخصي، والقسم الأول من الكلى، ويظهر ما يرد عليه مما ذكرناه
وما سنذكره في بيان المختار.
والحق في تقريب جريان الأقسام في الأمور التدريجية، ان يقال ان الشك في بقاء
الزماني التدريجي، تارة يكون في أن الحركة التي شرع فيها هل انتهت وبلغت إلى المنتهى،
أم هي باقية على صفة الجريان؟ وأخرى يكون في أن الحركة الخاصة هل هي من طرف
المشرق فقد منعه مانع عن السير، أم من طرف الجنوب فحيث لا مانع هناك فهو بعد في
حال الحركة، وثالثة، في الشروع في حركة أخرى بعد انتهاء الحركة التي شرع فيها وبلغت
إلى المنتهى وتبدلت إلى السكون، ففي الصورة الأول صح فيه استصحاب الشخص
والكلي الذي هو من قبيل القسم الأول، وفى الصورة الثانية كان من قبيل القسم الثاني من
اقسام الكلى، وليس من قبيل الشك في المقتضى الذي أفاد المحقق النائيني انه دائما من
قبيل الشك في المقتضى، وفى الصورة الثالثة كان من قبيل القسم الثالث.
استصحاب الفعل المقيد بالزمان
واما القسم الثاني: أي الزماني الذي ليس قوامه بالزمان ولا ينصرم بانصرامه، بل له
قرار وبقاء، وارتباطه بالزمان انما يكون من جهة تعلق الحكم الشرعي به مقيدا بزمان
خاص، كالقيام، والجلوس، وغيرهما من الافعال القارة المقيدة بالزمان الخاص، فهو على
أنحاء 1 - ما علم أن الفعل يكون مغيا بغاية معينة، 2 - ما علم استمراره ما لم يرفع برافع، 3 -
مالا يعلم شئ منهما، كما لو علم من دليل مجمل وجوب الجلوس اما إلى الزوال أو إلى
ما بعده.
اما الأول: فالشك في بقاء حكمه، تارة يكون من جهة الشك في تحقق القيد
خارجا كالشك في الغروب المجعول غاية لوجوب الصلاة، والصوم، من جهة الغيم
ونحوه، وأخرى يكون من جهة الشك فيه مفهوما، كما لو شك في أن غروب الشمس
المجعول غاية لوقت الظهرين هل هو استتار القرص، أو ذهاب الحمرة المشرقية؟ وثالثة
101

يكون من جهة تردد الغاية لأجل تعارض الأدلة كما لو شك في أن غاية وقت العشائين
هل هو انتصاف الليل أو طلوع الفجر؟ ورابعة يكون لأجل احتمال حدوث تكليف آخر
مع اليقين بتحقق الغاية وارتفاع الحكم الأول.
اما في الصورة الأولى: فقد مر الكلام مفصلا وعرفت انه يجرى استصحاب بقاء
الوقت ويترتب عليه جميع الآثار، ومعه لا تصل النوبة إلى استصحاب الحكم.
واما في الصورة الثانية: فقد مر في التنبيه الثالث عند البحث عن جريان
الاستصحاب في الفرد المردد، ان الأظهر جريان الاستصحاب في الشبهة المفهومية،
فيستصحب فبقاء اليوم ويترتب عليه الأثر.
واما في الصورة الثالثة: فالاستصحاب الموضوعي لا يجرى، ولكن لا مانع من
استصحاب الحكم على القول بجريان الاستصحاب في الاحكام الكلية.
واما في الصورة الرابعة: فاستصحاب الموضوع لا مانع عنه، واستصحاب الحكم
يتوقف على القول بجريانه في القسم الثالث من اقسام استصحاب الكلى.
واما الثالث: أي ما لو لم يعلم كون الحكم مستمرا أم غير مستمر كما لو علم من
دليل مهمل وجوب الجلوس في مكان إلى الزوال وشك بعد الزوال في وجوبه.
فعن المحقق النراقي (قده) انه يقع التعارض في مفروض المثال بين استصحاب
وجوب الجلوس الثابت قبل الزوال، وبين استصحاب عدم الوجوب الثابت أزلا، لان
انقلاب العدم إلى الوجود في الجملة لا يستلزم انقلاب مطلق العدم الأزلي، وانما يستلزم
انقلاب العدم المطلق لان الموجبة انما تناقض السالبة الكلية، لا السالبة الجزئية، فوجوب
الجلوس قبل الزوال، لا يناقض عدم وجوبه بعده والمفروض عدم دلالة الدليل على
الوجوب فيه فيرجع إلى استصحاب العدم الأزلي الذي لم يعلم انتقاضه الا قبل الزوال،
فهنا شك واحد، وهو الشك في وجوب الجلوس بعد الزوال مسبوق بيقينين أحدهما
اليقين بوجوب الجلوس قبل الزوال، ثانيهما اليقين بعدم وجوب الجلوس بعد الزوال في
الأزل ولا ترجيح لاحد اليقينين على الاخر.
ودعوى اتصال اليقين الأول بالشك، دون الثاني لفصل اليقين الأول بينهما وهو
102

المرجح.
تندفع: بان كلا منهما متصل بالشك لان اليقين الأول، انما صار فصلا بين اليقين
بالعدم المطلق والشك، لا بينه وبين العدم المقيد بالزمان المشكوك فيه، والشاهد بذلك
مضافا إلى وضوحه ان هذا الشك موجود في زمان اليقين بالوجود أيضا.
وأورد عليه الشيخ الأعظم والمحقق الخراساني بان الأصلين لا يجريان في المورد
الواحد كي يقع التعارض بينهما: إذ الزمان اما ان يؤخذ ظرفا للوجوب، ولا يكون قيدا
للواجب، فيجرى استصحاب الوجود نظرا إلى وحدة القضية المتيقنة، والمشكوك فيها
بالنظر المسامحي العرفي، ولا يجرى استصحاب العدم للعلم بانتقاض العدم بالوجود
المطلق غير المقيد بزمان خاص المحكوم ببقائه في ظرف الشك بمؤنة الاستصحاب،
واما ان يؤخذ قيدا للواجب ومفردا له، فلا محالة يصير الجلوس بعد الزوال مغايرا
للجلوس قبله فينتقض الوحدة المعتبرة بين القضيتين فلا يجرى استصحاب الوجود،
فيكون مجرى لاستصحاب العدم، لان المقدار المعلوم انتقاضه من العدم انما هو وجوب
الجلوس المقيد بما قبل الزول، واما الجلوس المقيد بما بعده فخروجه مشكوك فيه،
فيجرى استصحاب العدم.
وأورد عليهما المحقق النائيني (ره) بأنه لا يجرى شئ من الاستصحابين
في الموردين، اما استصحاب الوجود فلانة من قبيل الاستصحاب في الشك في
المقتضى، لأول الشك إلى الشك في كون الوجود قبل الزوال مرسلا، أو مغيا بالزوال،
واما استصحاب العدم فلما مر في البراءة من أن استصحاب العدم الأزلي لا يجرى مطلقا،
ولا يثبت به عدم الحكم في ظرف الشك.
أقول: الا يرادان وان كانا تامين على مبناه (قده) الا انه قد مر في محله بطلان المبنى
وان الاستصحاب يجرى في الشك في المقتضى، والعدم الأزلي، ولكن الذي يرد على
الشيخ والمحقق الخراساني بل والنراقي، ما تقدم منا من عدم جريان الاستصحاب في
الاحكام الكلية فالموردان موردا جريان استصحاب عدم الوجوب.
واما الثاني: أي ما علم استمراره ما لم يرفع برافع كما إذا شك في الطهارة بعد
103

خروج المذي أو شك بعد الغسل مرة في بقاء النجاسة في المحل.
فأفاد المحقق النراقي انه، وان كان يقع التعارض بين استصحاب الوجود والعدم،
الا انه من جهة كون الشك في هذا المورد أي الشك الرافع مسببا عن الشك في
رافع الطهارة والنجاسة، فأصالة عدم جعل الرافعية لما شك في رافعيته حاكم على
الأصلين، ومعها لا يبقى شك في البقاء.
وأورد عليه الشيخ الأعظم مضافا إلى ما مر: بان دليل سببية الشئ للطهارة أو
النجاسة أو غيرهما، مما يكون من هذا القبيل، اما ان يكون له اطلاق ويدل على استمرار
الحادث إلى أن يزيله الرافع، فلا مورد لأصالة عدم جعل السببية للعلم به، واما ان لا يكون
له اطلاق ولا يدل على الاستمرار، فلا مورد لأصالة عدم جعل الرافعية، ولا اثر لها إذ
الشك حينئذ ليس من ناحية الرافع كي يرتفع بهذا الأصل، وما ذكره المحقق الخراساني
في الكفاية بقوله إزاحة وهم لا يخفى ان الطهارة الحدثية والخبثية وما يقابلهما يكون مما
إذا وجدت بأسبابها لا يكاد يشك في بقائها الا من قبل الشك في الرافع لها لا من قبل
الشك في مقدار تأثير أسبابها انتهى، راجع إليه، وظاهره اختياره الشق الأول وانه قد علم
كون الوضوء بنفسه مقتضيا للطهارة والشك انما حصل في كون المذي رافعا، وان
الملاقاة سبب للنجاسة والشك انما حصل من جهة احتمال كون الغسل مرة رافعا لها.
ولكن يرد عليه ان الطهارة وما يقابلها ليست من الأمور الواقعية الخارجية كي
تكون أسبابها مؤثرة فيها، ويكون أسباب ما يقابلهما رافعة لها بل هي من الأمور
الاعتبارية، فمعنى رافعية الشئ للطهارة، هو حكم الشارع عقيبة بالحدث، كما أن معنى
عدم رافعيته حكمه عقيبه بالطهارة، وعليه فحيث يعلم اجمالا بأحدهما بعد ما شك في
رافعيته، وكل من الشكين مسبب عن الشك في المجعول الشرعي، فلا حكومة لاحد
الأصلين على الآخر، ويجرى في هذا المورد ما ذكرناه في مورد الشك في المقتضى،
وهو انه لا يجرى الاستصحاب في الحكم الكلى.
104

الاستصحاب التعليقي
الخامس: قد وقع الخلاف بين الاعلام في جريان الاستصحاب فيما إذا كان
المتيقن حكما غير تنجيزي معلقا ومشروطا، وعدمه، ويطلق على هذا الاستصحاب
الاستصحاب التعليقي تارة، والمشروط أخرى، باعتبار كون القضية المستصحبة قضية
تعليقية حكم فيها بوجود الحكم على تقدير امر آخر، ومثلوا له، باستصحاب حرمة ماء
العنب، فيما إذا جف وصار زبيبا ثم غلا.
والبحث في جريان هذا الاستصحاب وعدمه، يكون مبتنيا على جريان
الاستصحاب في الاحكام الكلية، واما بناءا على عدم جريانه فيها كما هو المختار على ما
عرفت، فلا وجه للنزاع أصلا كما لا يخفى.
وأيضا انما يصح هذا النزاع على القول بمعقولية الواجب المعلق وثبوت الحكم
المعلق، والا فبناءا على عدم ثبوت الحكم المعلق كما ذهب إليه الشيخ (قده)، لا مجال لهذا
النزاع أصلا، لعدم وجود القضية المتيقنة.
وقبل الدخول في البحث وبيان ما قيل في وجه الجريان وعدمه، لابد من تقديم
مقدمتين.
إحداهما: ان العناوين المأخوذة في الحكم، تارة يستكشف من ظاهر الدليل، أو
من الخارج انها دخيلة في الحكم حدوثا وبقاءا، وأخرى يستكشف منه ترتب الحكم على
المعنون وان تبدل عنوانه، كما لو دل الدليل على حلية الحنطة مثلا وعلم أن عنوان الحنطة
عنوان مشير، فهذا الحكم ثابت، وان تبدل العنوان إلى كونه خبزا مثلا وثالثة: لا يحرز أحد
الامرين كما في تغير الماء الموجب لتنجسه فإنه لا يحرز ان الحكم يدور مدار عنوان
التغير حدوثا وبقاءا، ومحل الكلام في المقام ما كان من قبيل الثالث إذ الحكم في الفرض
الأول مع تبدل العنوان معلوم العدم، وفى الفرض الثاني معلوم الثبوت، فلا تصل النوبة إلى
الاستصحاب.
105

وبه يظهر ان ما مثلوا به لمورد الاستصحاب التعليقي، بما إذا غلى ماء الزبيب، في
غير محله: إذ موضوع الحرمة ليس هو العنب بل الموضوع هو العصير العنبي وهو الماء
المتكون في العنب إذا اخرج منه بالعصر، ومن المعلوم ان العنب إذا جف، وصار زبيبا،
وأريق ماء خارجي عليه، وصار حلوا بمجاورته إياه، يكون المشكوك فيه، غير المتيقن،
- وبعبارة أخرى - ان الموضوع ليس هو العنب كي يقال انه متحد مع الزبيب فيجرى فيه
الاستصحاب، بل الموضوع هو العصير العنبي، وهو غير الماء الخارجي الذي صار حلوا
بمجاورة الزبيب.
الثانية: ان الشك في بقاء الحكم، تارة يكون شكا في بقاء الحكم الكلى المجعول
ومنشأ الشك فيه ليس الا احتمال النسخ، وأخرى يكون شكا في بقاء الحكم الجزئي،
لأجل احتمال تبدل الموضوع الخارجي، ويعبر عنه بالشبهة الموضوعية، وثالثة يكون
الشك فيه من ناحية الشك في سعة الموضوع وضيقه في مقام الجعل، كما في الشك في
جواز وطء المرأة بعد الطهر من الحيض، وقبل الاغتسال، ومورد البحث هو الأخير.
إذا عرفت هذين الامرين، فيقع البحث فيما استدل به لعدم الجريان، ولجريانه، اما
الأول فنذكر تلك الوجوه في ضمن الايرادات على ما استدل به للجريان، واما الثاني فقد
استدل له بوجوه، وقد ذكر الشيخ الأعظم منها وجهين.
أحدهما: ما ذكره المحقق الخراساني أيضا، وحاصله، انه لا يعتبر في جريان
الاستصحاب الوجودي سوى كون المستصحب شاغلا لصفحة الوجود من دون اعتبار
شئ زايدا عليه، واما كونه موجودا بنحو خاص فلا يعتبر، ومن المعلوم ان تحقق كل
شئ بحسبه، والمعلق قبل ما علق عليه، لا يكون موجودا فعلا، لا انه لا يكون موجودا
أصلا ولو بنحو التعليق كيف، والمفروض انه مورد فعلا للخطاب، فكان على يقين من
ثبوته قبل طرو الحالة فيشك فيه بعده.
وأورد عليه بايرادات: منها: انه يعتبر في جريان الاستصحاب في الاحكام ترتب اثر
عملي عليه والحكم المعلق لا اثر عملي له.
وفيه: ان المعتبر ترتب الأثر حين اجراء الأصل لا حين اليقين، والفرض وجوده.
106

ومنها: ان الموضوع وهو العنب في المثال منتف.
وفيه: انه وان كان الحق تبدل الموضوع في المثال، لكن لا لما ذكر كي يرد عليه. ما
أورده المحقق النائيني (ره) من أن أهل العرف يفهمون، ان الموضوع هو الجسم الخاص،
وان وصف العنبية والزبيبية، من الحالات.
بل من جهة ان الموضوع هو ماء العنب، والزبيب، لا ماء له، بل انما ينقع في الماء
ويكتسب من الزبيب الطعم والحلاوة، وهل يتوهم اتحاد الماء الخارجي مع ماء العنب،
ولكن لازم ذلك عدم جريان الاستصحاب في خصوص المثال لا مطلقا كما هو واضح.
ومنها: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو ان الحكم الكلى المنشأ، لا شك في بقائه،
إذ لا يحتمل عدمه الا على وجه النسخ، والحكم الفعلي لترتبه على الموضوع المركب،
انما يكون وجوده بعد تحقق كلا جزئي الموضوع، لان نسبة الموضوع إلى حكمه، نسبة
العلة إلى المعلول، فلا يتقدم الحكم على موضوعه، فقبل فرض غليان العنب في المثال
لا يمكن فرض وجود الحكم، ومعه لا معنى لاستصحاب بقائه، والحكم الفرضي
التقديري لا يصح استصحابه، لعدم كونه مجعولا شرعيا، بل هو عقلي لازم لجعل الحكم
على الموضوع المركب الذي وجد أحد جزئيه.
وفيه: ان ما ذكره (ره) يتم على مسلكه من رجوع الشرط إلى الموضوع وكونه من
قيوده، واما بناءا على رجوعه إلى الحكم، وكون الموضوع في المثال العصير العنبي،
وكون الغليان شرطا للحكم لا جزءا للموضوع، فلا يتم إذ قبل تحقق الشرط وان لم يكن
الحكم فعليا، الا ان الشك ليس في بقاء الحكم العقلي الفرضي، ولا في بقاء الحكم
الكلى لموضوعه الكلى، بل انما يكون شكا في بقاء الحكم الانشائي الجزئي المنطبق على
هذا الموضوع الجزئي، وعليه، فدعوى عدم الشك في بقاء الحكم الانشائي غير صحيحة
إذ ما لا شك فيه هو الانشاء الكلى لموضوعه الكلى، واما الانشاء الجزئي المتعلق بهذا
الموضوع، فهو مشكوك البقاء، وعلى ذلك فايراده مبنائي لا بنائي.
وبذلك ظهر ان ما افاده بعض الأعاظم في منجزات المريض في المثال من جريان
الاستصحاب التعليقي إذا كان الموضوع العصير العنبي، وكان الغليان شرطا، وأما إذا كان
107

الموضوع العصير العنبي الغالي، فلا يجرى الاستصحاب يتم على هذا المبنى.
فما علقه المحقق الكاظميني (ره) في المقام من أن المنع عن جريان الاستصحاب
التعليقي لا يتوقف على رجوع الشرط إلى الموضوع، بل يكفي كون الشرط علة لحدوث
النجاسة والحرمة للعنب، فإنه مع عدم الغليان لا حرمة ولا نجاسة أيضا لانتفاء المعلول
بانتفاء علته كانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه غير صحيح.
ومنها: ما ذكره المحقق الخراساني بقوله ان قلت وحاصله معارضة هذا
الاستصحاب مع استصحاب ضده المطلق، وهو في المثال الحلية المطلقة، وأجيب عن
هذا الايراد بأجوبة.
1 - ما عن الشيخ الأعظم (ره): وهو ان استصحاب الحرمة على تقدير الغليان حاكم
على استصحاب الإباحة قبل الغليان، وأوضحه المحقق النائيني (ره)، بان الشك في الحلية
والحرمة بعد الغليان مسبب عن الشك في أن الحرمة المجعولة للعنب إذا غلى، هل هي
مختصة بحال كونه عنبا، أم تشمل ما لو كان زبيبا، فإذا حكم بكونها مطلقة ببركة
الاستصحاب، لا يبقى شك في الحرمة ليجري فيها الاستصحاب.
وفيه: ان ارتفاع الحلية بعد الغليان ليس مترتبا على الحرمة المعلقة، ولا الشك فيه
مسببا عن الشك فيها حتى يكون الأصل الجاري في الحرمة حاكما على الأصل الجاري
في الحلية، بل الحرمة الفعلية بعد الغليان التي هي لازم الحرمة المعلقة قبل الغليان، منافية
للحلية الفعلية بعد الغليان بنحو التضاد فثبوت كل منهما لازم لعدم الآخر كما هو الشأن في
جميع المتضادين، مع أنه لو سلم الترتب لا يكون الترتب شرعيا وحكومة الأصل السببي،
انما تكون فيما إذا كانت السببية شرعية كما في غسل الثوب المتنجس بالماء المشكوك
طهارته.
2 - ما افاده المحقق الخراساني وهو ان الحلية الثابتة قبل تحقق موجب الشك في
بقائها حلية مغياة بعدم الغليان، لان ما علق عليه أحد الضدين لا محالة يكون غاية للضد
الآخر، واستصحاب الحلية المغياة الثابتة حال العنبية لا يخالف ولا يعارض استصحاب
الحرمة المعلقة، بل يوافقه ونتيجة الاستصحابين شئ واحد، وهو ارتفاع الحلية وثبوت
108

الحرمة بعد الغليان، والشك في الحرمة والحلية الفعلية بعد الغليان ليس شكا غير الشك
في بقاء الحرمة المعلقة والحلية المغياة حتى يجرى فيه الأصل، ويعارض مع استصحاب
الحرمة.
وفيه: ان القطع بثبوت الحلية المغياة للعنب يوجب القطع بالحلية الفعلية له، فإذا
شك في بقائها في الزمان اللاحق، ولو من جهة احتمال بقائها غير معلقة على عدم الغليان،
يجرى فيها الاستصحاب، وهو يعارض استصحاب الحرمة، المطلقة.
3 - ما افاده المحقق العراقي وحاصله: ان الثابت في حال العنبية، الحلية المغياة
بالغليان، والحرمة المعلقة به، فالشك في الحلية والحرمة في حال الزبيبية، مسبب عن
الشك في بقاء شرطية الغليان، وغائيته فيستصحب بقاء الشرطية، والغائية، وهو حاكم
على استصحاب بقاء الحلية.
وفيه: ما تقدم في مبحث الأحكام الوضعية، من أن المسبب لا يترتب على السببية،
ولا المشروط على الشرطية، ولا عدم المغيى وارتفاعه على الغائية، بل هي آثار السبب،
والشرط والغاية، لا الشرطية، والسببية، والغائية.
مع أن الغاية على الفرض عقلية ليست بحكم شرعي، ولا موضوعا لحكم شرعي:
إذ ارتفاع الحلية بعد تحقق الغليان عقلي.
ودعوى انه منتزع من الحكم الشرعي، وهو الحرمة المعلقة، مندفعة، بأنه عليه
يجرى الأصل في منشأ الانتزاع دونه فليس هذا استصحابا، غير استصحاب الحرمة
المعلقة، فالمتحصل ان هذا الايراد لا يمكن الذب عنه فهذا التقريب لا يكفي.
الوجه الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم (ره) وحده وهو انه يستصحب الملازمة بين
الغليان والحرمة، وسببية الغليان للحرمة الفعلية، وهذا استصحاب تنجيزي لا تعليقي، فان
الملازمة فعلية لأنها لا تتوقف على صدق طرفيها، ومشكوك فيها في حال الزبيبية
فيستصحب بقائها.
وفيه: أولا ان المسبب لا يترتب على السببية والملزوم غير مترتب على الملازمة، بل
هما مترتبان على السبب واللازم، فاستصحابهما لا يكفي في الحكم بتحققهما، وثانيا: ان
109

الشيخ (ره) يرى انتزاعية الأحكام الوضعية من الأحكام التكليفية ونحن أيضا وافقناه في
مثل السببية والشرطية فراجع، وعليه فلا يجرى فيها الاستصحاب، وثالثا: ان الملازمة
والسببية ان لم تكن جعلية لا يجرى فيها الاستصحاب، لعدم كونها اثرا شرعيا، ولا
موضوعا لاثر شرعي، وان كانت مجعولة فلها كساير الاحكام مقام الجعل والفعلية،
وبالنسبة إلى الحكم الكلى المجعول لا شك في البقاء، وبالنسبة إلى فعليتها لا يقين
بالثبوت، إذ فعليتها تتوقف على فعلية موضوعها وهو مركب من جزئين، وفى المثال،
أحدهما العنب، والآخر الغليان، والمفروض عدم تحقق الثاني فلا تكون فعلية.
فالأظهر عدم جريان الاستصحاب التعليقي، ويرد عليه مضافا إلى ذلك كله انه لو
سلم جريانه، فهو محكوم، باستصحاب عدم الجعل الذي لأجله اخترنا عدم جريان
الاستصحاب في الاحكام الكلية مطلقا.
الاستصحاب التعليقي في الموضوعات
وأوضح من ذلك في عدم الجريان، الاستصحاب التعليقي في الموضوعات،
والمتعلقات، إذ الموضوع أو المتعلق انما يترتب عليه الأثر إذا وجد في الخارج، واما
وجوده التقديري، فلا يكون موضوع الأثر.
وقد يتوهم انه بناءا على جريان الاستصحاب التعليقي في الاحكام، يجرى
الاستصحاب التعليقي في الموضوعات والمتعلقات، فلو كان الحوض قبل ساعة بحيث لو
وقع فيه الثوب النجس لتحقق غسله، وطهر لوجود الماء فيه، ثم شك في بقاء الماء لجرى
الاستصحاب التعليقي، وحكم بحصول الغسل والطهارة على تقدير وقوع الثوب النجس
فيه في الخارج، وكذا لو كانت الصلاة قبل ساعة بحيث لو اتى بها المكلف، لما وقعت في
غير ما لا يؤكل لحمه فبعد ما لبس المكلف الثوب المشكوك في كونه من غير المأكول
يشك في بقاء الصلاة على ما كانت عليه لجرى الاستصحاب وحكم بصحتها على تقدير
الاتيان بها مع ذلك الثوب.
110

وفيه أولا: ان الاستصحاب انما يجرى فيما إذا كان الموضوع موجودا وكان
المفقود من حالاته كما في العنبية والزبيبية على كلام، لا في مثل المقام مما يكون
الموضوع بنفسه مفقودا.
وثانيا: ان الاستصحاب التعليقي فيها، يعارض الاستصحاب التنجيزي، فان
استصحاب كون الصلاة بحيث لو كانت قبل ساعة لم تكن في غير المأكول، يعارض
استصحاب عدم تحقق الصلاة، غير المقترنة بغير المأكول، وما أجيب به عن اشكال
المعارضة في الاستصحاب التعليقي في الاحكام، لا يجرى في المقام، لوضوح ان السببية
لو تمت لا تكون في المقام الا عقلية، لا شرعية، فلا معنى للحكومة، والمستصحب
التنجيزي في المقام ليس حكما مغيا كي يجرى ما افاده المحقق الخراساني.
وثالثا: ان كلا من حصول الغسل، ووقوع الصلاة في غير ما لا يؤكل في المثالين
لازم عقلي لبقاء القضية الشرطية التي هي المتيقنة، وهي كون الصلاة بحيث لو وجدت
في الخارج لم تكن في غير المأكول، وتحقق الغسل على تقدير وقوع الثوب في الحوض
ومعلوم ان اثبات فعلية الجزاء لازم عقلي لبقاء القضية الشرطية على ما كانت عليه.
ورابعا: انه في الاحكام كان لتوهم ان الوجود المعلق نحو من الوجود مجال، ولا
مجال له في الموضوعات إذ لا يكون للموضوع الموجود على تقدير نحو من الوجود
التكويني، وهذا من البداهة بمكان.
استصحاب أحكام الشريعة السابقة
السادس: قال الشيخ الأعظم انه لا فرق في المستصحب بين ان يكون حكما ثابتا
في هذه الشريعة أو حكما من أحكام الشريعة السابقة انتهى.
وتحقيق الكلام فيه يستدعى تقديم امر، وهو انه على ما ذكرناه في التنبيه الخامس
من عدم جريان الاستصحاب في الاحكام الثابتة في هذه الشريعة، لكونه محكوما
لاستصحاب عدم الجعل لا مورد لهذا البحث كما هو واضح.
111

فان قيل إن الدليل قام على جريان استصحاب عدم النسخ، أجبنا عنه بان دليله
الاجماع والمتيقن منه احكام هذه الشريعة، فبالنسبة إلى أحكام الشريعة السابقة لا مخرج
عما يقتضيه القاعدة، فهذا البحث انما يكون على مبنى القوم القائلين بجريان الاستصحاب
في الاحكام الكلية.
وكيف كان فقد استدل لجريان الاستصحاب في الحكم الثابت في الشريعة
السابقة: بان المقتضى موجود وهو جريان دليل الاستصحاب وعدم ما يصلح مانعا عدى
أمور.
أحدها: ما اشتهر من أن هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرايع فلا شك في بقائها
حينئذ.
والظاهر أن منشأ ما ذكر: ان الحكم المجعول لا مقام له سوى مقام الوحي به بلسان
جبرائيل على قلب النبي (ص)، فذلك الانشاء القائم بجبرئيل، عين جعله تعالى، فيكون
الباقي عين ذلك الموحى به إلى ذاك النبي، وعليه، فإذا بقى حكم واحد من أحكام الشريعة
السابقة لزم كون نبينا (ص) تابعا لذلك النبي السابق في ذلك الحكم، وهذا ينافي ما
دلت النصوص الكثيرة عليه من أن الأنبياء لو كانوا أحياءا لما وسعهم الا اتباعه وانه أفضل
الأنبياء هذا بناءا على عدم كون جعل الحكم بيد النبي (ص) والا فالامر أوضح.
وأجيب عنه بان جعل الاحكام انما يكون من قبل الله تعالى وله مقام غير مقام
الوحي: إذ الجبرئيل يكون سفيرا ومبلغا لتلك الأحكام المجعولة المحفوظة في اللوح
المحفوظ لا انه منشأها وعليه فبقاء حكم من أحكام الشريعة السابقة لا يستلزم اتباع
نبينا (ص) لذلك النبي كما لا يخفى، فعدم الدليل على نسخ الجميع يكفي في الحكم بالعدم.
ويمكن ان يقال كما افاده المحقق الأصفهاني (ره) بان اللوح المحفوظ عند أهله
عبارة عن عالم النفس الكلية الموجود فيها صور ما في العقل الكلى بنحو الفرق والتفصيل
فليس وجود كل ما فيها الا بوجود النفس الكلية، لا بوجود ذلك الشئ الخاص به في
نظام الوجود، فالحكم بوجوده الخاص غير موجود في ذلك المقام الشامخ.
وأجاب عنه الشيخ الأعظم بما حاصله انه بعد ما لا كلام في أن شريعة الاسلام
112

ناسخة لجميع الشرايع السابقة، وقع الكلام في أن المراد بالنسخ، هل هو نسخ كل حكم
من الاحكام، أو نسخ بعضها، أو نسخ جميعها من حيث كيفية الالتزام بمعنى وجوب
الالتزام بكل حكم من حيث إنه جاء نبينا (ص) به، وان كان بعضها مما جاء به النبي السابق.
لا سبيل إلى الأول، بل يمكن دعوى الضرورة على فساده فإنه لا كلام في أن جملة
من المحرمات الشرعية كشرب الخمر، ونكاح المحارم، واللواط، وما شاكل كانت محرمة
في جميع الشرايع السابقة وكذا المستقلات العقلية.
واما الثاني: فالعلم الاجمالي به لا يمنع عن اجراء الأصل لانحلاله اما حقيقة بالعلم
التفصيلي بنسخ جملة من الاحكام بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال من موارد النسخ، أو
حكما من جهة ان حكم جملة من الموارد معلوم، فلا يجرى فيها أصالة عدم النسخ، لعدم
الأثر بعد معلومية الحكم فان الأصل يجرى لتعيين الوظيفة وبعد معلوميتها لا مورد له.
واما الثالث: فيرده انه لا دليل على وجوب التدين بكل حكم بما انه جاء به نبينا (ص)
بل يجب التدين بأنه حكم الله تعالى جاء به هذا النبي أو النبي السابق مع انا نثبت
بالاستصحاب كون الحكم عند نبينا (ص) على طبق الحكم عند النبي السابق، والمستصحب
حينئذ هو الحكم أي ذات المقيد مع قطع النظر عن الخصوصيات، لا المقيد بالقيد
المذكور بعد عدم كون القيد المذكور من خصوصياته المقومة له.
ولكن يرد عليه انه بعد دلالة الدليل على أن نبينا (ص) لم يدع موضوعا الا وبين
حكمه، اما مماثلا للحكم السابق، أو مخالفا ان أريد استصحاب شخص الحكم السابق
فهو متيقن الارتفاع، وان أريد الشخص الثابت في هذه الشريعة فهو مشكوك الحدوث،
وان أريد استصحاب الجامع بينهما فهو من قبيل الاستصحاب في القسم الثالث من اقسام
استصحاب الكلى فلا يجرى لما مر.
ثانيها: ان الحكم الثابت في حق جماعة لا يمكن اثباته في حق آخرين لتغاير
الموضوع فان ما ثبت في حقهم مثله لا نفسه، وحيث لا يقين بثبوته في حقنا وانما اليقين
متعلق بثبوته في حق غيرنا، فالموضوع متعدد ومع تعدده لا يجرى الاستصحاب.
وأجاب عنه الشيخ الأعظم بأجوبة: 1 - انا نفرض شخصا مدركا للشريعتين، فإذا
113

جرى في حقه الاستصحاب وحكم بثبوته له يثبت لساير المكلفين بدليل الاشتراك.
وفيه: ان دليل الاشتراك انما يدل على أن كل حكم مترتب على موضوع إذا انطبق
ذلك العنوان المأخوذ في الموضوع على أي شخص ثبت في حقه الحكم بلا تمييز بين
الافراد: لا اشتراك جميع الافراد في كل حكم، إذ من الضروري اختلافهم فيها مثلا
المسافر حكمه غير حكم الحاضر، والمستطيع حكمه غير حكم غيره، ولا فرق في ذلك
بين الحكم الواقعي والظاهري، مثلا إذا كان شخص شاكا في الحرمة يجرى في حقه أصالة
البراءة، ويحكم بالإباحة، ولا يثبت ذلك في حق من هو متيقن بالحرمة، لعدم انطباق
الموضوع وهو الشاك عليه، وفى المقام المدرك للشريعتين، بما انه ينطبق عليه العنوان
المأخوذ في الاستصحاب وأركانه تامة في حقه يجرى في حقه ذلك ويحكم بثبوته له
واما غيره ممن لا يتم في حقه أركان الاستصحاب، فلا معنى لثبوت الحكم له، وليس
ذلك منافيا لقاعدة الاشتراك في شئ وهو واضح نعم، أصل حجية الاستصحاب مع
تمامية موضوعه مشتركة بين الجميع.
2 - النقض باستصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى احكام هذه الشريعة.
وقد مر جوابه في أول المبحث وسيأتي توضيحه عند بيان المختار.
3 - ما ذكره بقوله ان المستصحب هو الحكم الكلى الثابت للجماعة على وجه
لا مدخل لأشخاصهم فيه انتهى وقد اختلفت كلمات القوم في بيان مراده وذكروا وجوها.
منها: ما افاده العلمان الخراساني والنائيني، وحاصله ان جعل الاحكام والمنشئات
الشرعية كلها من قبيل القضايا الحقيقية التي يؤخذ للموضوع عنوان كلي مرآة لما ينطبق
عليه من الافراد عند وجودها، كالمستطيع الذي اخذ عنوانا لمن يجب عليه الحج
فالموضوع ليس آحاد المكلفين لكي يختلف الموضوع باختلاف الأشخاص، فكل من
ينطبق عليه العنوان المأخوذ موضوعا إلى انقضاء الدهر يثبت عليه ذلك الحكم المجعول
لذلك العنوان، فالشك في بقاء الحكم الثابت في الشريعة السابقة كالشك في بقاء
الحكم في هذه الشريعة، فيجرى الاستصحاب.
وسيأتي الجواب عنه عند بيان المختار في المقدمة الأولى.
114

ثانيها: ان مراده تعلق الحكم بالكلي بما هو كتعلق الملكية بكلي الفقير في الزكاة.
وأورد عليه المحقق الخراساني بقوله ضرورة ان البعث أو الزجر لا يكاد يتعلق به
كذلك، بل لابد من تعلقه بالأشخاص وكذلك الثواب أو العقاب المترتب على الطاعة أو
المعصية انتهى.
وفيه: ان الثواب والعقاب والبعث والزجر نظير انتفاع الفقير بالمال فان الانتفاع
أيضا شان الفرد لا الكلى، والحل ان انطباق الكلى على الفرد يوجب ترتب الثواب على
موافقة التكليف والبعث المتوجه إليه، وترتب العقاب على مخالفته.
ثالثها: ما افاده المحقق الأصفهاني (ره) وهو ان المراد ان الحكم متعلق بذوات
الحصص من دون دخل لخصوصياتهم الملازمة لها المفردة لها، وعليه فيسري لا محالة
إلى غيرها من الحصص غير الموجودة لفرض عدم دخل الخصوصيات المميزة.
ويرده، أولا: ان مراد الشيخ ليس ذلك قطعا لتصريحه بان الموضوع هو الجماعة
على وجه لا مدخل لأشخاصهم، لا على نحو لا مدخل لخصوصياتهم، وثانيا: انه غير تام:
لان تعلق الحكم بموضوع لا يكون قهريا بل يكون سعته وضيقه منوطتان باعتبار من بيده
الاعتبار.
والحق في توجيه هذا الوجه يتوقف على بيان مقدمتين، الأولى ان حقيقة النسخ
عبارة عن انتهاء أمد الحكم لا رفع الحكم الثابت فإنه مستلزم للبداء المستحيل في حقه
تعالى، وعليه. فبما ان الاهمال النفس الأمري غير معقول فالحكم المجعول بنحو
القضية الحقيقية، اما ان يكون مجعولا إلى الأبد، أو إلى وقت معين، فالشك في النسخ
شك في سعة المجعول وضيقه من جهة احتمال اختصاصه بالموجودين في زمان خاص
فلا يجرى الاستصحاب.
الثانية: انه يعتبر في جريان الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة والقضية
المشكوك فيها بان يكون من يشك في ثبوت الحكم له متيقنا بثبوته له سابقا.
وعلى هذا فعدم جريان استصحاب عدم النسخ ظاهر فان من شك في ثبوت حكم
ثابت في الشريعة السابقة له لا يكون متيقنا بثبوته له بل بثبوته في حق غيره فلا يجرى
115

الاستصحاب.
لا يقال ان لازم ذلك عدم جريان استصحاب عدم النسخ في احكام هذه الشريعة
فما المثبت لكل حكم في حقنا.
فإنه يقال ان المثبت له الدليل الخارجي، مثل حلال محمد (ص) حلال إلى يوم
القيمة الخ (1)، ولعل مراد من قال إن استصحاب عدم نسخ احكام هذه الشريعة من
الضروريات نظره إلى ذلك لا إلى الاستصحاب المصطلح.
واما ما نسب إلى المحقق العراقي (ره) في توجيه جريان الاستصحاب بأنه بناءا على
جريان الاستصحاب التعليقي كما هو الحق لا غبار في جريانه بالنسبة إلى الموجودين في
الشريعة اللاحقة، بان يقال انهم كانوا سابقا بحيث لو وجدوا كانوا محكومين بكذا والآن باقون
على ما كانوا عليه، فان مرجع الشك في نسخ حكم الشريعة السابقة إلى الشك في بقاء
القضية التعليقية والملازمة المزبورة.
فيرد عليه ان الاستصحاب التعليقي على فرض جريانه (وقد عرفت عدم جريانه)
انما يختص بما إذا كان الموضوع باقيا ولو بنظر العرف وإذا فرضنا اختصاص الحكم
بالمدرك للشريعة السابقة، أو احتملنا ذلك، لا مورد للاستصحاب لعدم احراز بقاء
الموضوع وهو المدرك للشريعة السابقة.
فالمتحصل مما ذكرناه تمامية هذا الوجه وانه لا يجرى استصحاب حكم الشريعة
السابقة، كما لا يجرى استصحاب عدم النسخ، أضف إليه ما تقدم منا من عدم جريان
الاستصحاب في الاحكام الكلية مطلقا.
ثم انه قد ذكر وجهان آخران لعدم الجريان.
أحدهما: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو انه لو سلم جريان الاستصحاب، ولكن
بما ان ثبوت الحكم الثابت في الشرايع السابقة في هذه الشريعة انما يكون بامضاء من
الشارع كما يدل عليه قوله (ص) ما من شئ يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار الا وقد

1 - الكافي - 1 / 58.
116

أمرتكم به الخ فمع عدم العلم بالامضاء لا جدوى في استصحاب بقاء حكم الشريعة
السابقة.
وفيه: ان نفس دليل الاستصحاب دليل الامضاء فان اطلاقه مع قطع النظر عما مر
يشمل تلك الأحكام فتكون ممضاة بدليل عام ولا بأس به.
ثانيهما: ان العلم الاجمالي بنسخ جملة من أحكام الشريعة السابقة مانع عن جريان
الاستصحاب لعدم جريانه في أطراف العلم الاجمالي.
وفيه: انه انما يمنع ما لم ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم، أو الفحص في ما بأيدينا
من الاخبار، والعلم بعدم كون هذا المورد الخاص في الاخبار: فان العلم الاجمالي بنسخ
جملة من الاحكام ينحل بالعلم بوجود الناسخ، في ما بأيدينا من الاخبار المدونة في
الكتب المعتبرة انحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي الصغير، فالصحيح ما
ذكرناه.
حول اعتبار مثبتات الاستصحاب وعدمه
السابع: المشهور بين الأصحاب، ان الاستصحاب على فرض كون حجيته ثابتة
بالاخبار، وكونه من الأصول لا يكون حجة في مثبتاته، وانه على فرض كونه من الامارات
حجة في مثبتاته، وهذا منهم على ما هو المشهور بينهم، من حجية الامارات في
مثبتاتها، وعدم حجية الأصول فيها.
وتنقيح القول في المقام يقتضى تعيين محل الكلام أولا، ثم بيان ما قيل في وجه
ذلك.
اما الأول: فلا اشكال ولا كلام في حجية الاستصحاب بالنسبة إلى المستصحب،
وما يترتب عليه من الآثار الشرعية، بلا واسطة، أو بواسطة الأثر الشرعي، كما لو استصحب
طهارة الماء، فإنه يترتب عليه طهارة ماء نجس امتزج به لو كان كرا، وطهارة الثوب
المغسول بذلك الماء وهكذا، وكذا يترتب على الاستصحاب الحكم العقلي الذي يكون
117

موضوعه أعم من الواقع والظاهر، كوجوب الإطاعة وحرمة المخالفة، فلو استصحب
وجوب فعل يترتب عليه ذلك.
وانما الكلام في حجيته بالنسبة إلى الحكم العقلي المترتب على الحكم الواقعي
والآثار الشرعية المترتبة بواسطة ذلك الأثر العقلي، والملازمات، واللوازم، والملزومات
العقلية، أو العادية للمستصحب بقاءا، واما ما هو من اللوازم حدوثا وبقاءا فيجرى في
نفسه الاستصحاب أو الآثار الشرعية بواسطة هذه الأمور، والمراد بالمثبتات التي قالوا، ان
الامارات حجة فيها، دون الأصول تلكم.
فما في الكفاية من أنه لا شبهة في ترتيب ما للحكم من الآثار الشرعية والعقلية على
اطلاقه غير تام.
وأيضا لا اشكال في أن النزاع ليس في المحذور الثبوتي، بل في أن الأدلة الشرعية
تدل في مقام الاثبات على ذلك أم لا تدل عليه.
وبعد ذلك نقول ان المحقق الخراساني أفاد في وجه عدم حجية الاستصحاب في
مثبتاته، انها تتوقف على أحد أمرين، اما تنزيل المستصحب بلوازمه العقلية، والعادية، واما
تنزيله منزلة المتيقن بلحاظ مطلق ما له من الأثر، اما على الأول فواضح، واما على الثاني:
فلان اثر الأثر اثر فما هو اثر لازم الشئ اثر له فإذا كان التنزيل بلحاظ جميع الآثار ثبت
آثار اللازم أيضا وشئ منهما لم يثبت.
اما الأول: فلان ظاهر القضية تنزيل المشكوك فيه منزلة المتيقن مع دخل
العنوانين في الموضوع، ومعلوم ان اللوازم ليست متيقنة بل عدمها متيقن.
واما الثاني: فلان المتيقن انما هو لحاظ آثار نفسه، واما آثار لوازمه فلا دلالة
هناك على لحاظها وما لم يثبت لحاظها بوجه لما كان وجه لترتيبها عليه بالاستصحاب.
ثم أفاد في وجه الفرق بين الامارات والأصول، ان الامارة كما تحكي عن الشئ
تحكي عن لوازمه وملزوماته، وملازماته، ودليل الحجية يعم الجميع، والأصول منها
الاستصحاب، ليس لها هذا الشأن لعدم الحكاية والدلالة فيها.
وفى كلامه (قده) نظر، اما أولا: فلان الحكاية قصدية متقومة بالقصد والالتفات،
118

والملزومات، واللوازم، والملازمات قد تكون غير ملتفت إليها فلا تكون الامارة حاكية
عنها.
واما ثانيا: فلان دعوى عدم الاطلاق لدليل حجية الاستصحاب مع أنه لا وجه لها
ينافيها ما سيختاره من ترتيب آثار الواسطة إذا كانت جلية أو خفية، وإذا لم يكن لدليل
الاستصحاب اطلاق فلا مجال للقول المزبور.
والمحقق العراقي (ره) وجه كلام المحقق الخراساني (ره) بما يندفع به الايراد الأول،
وحاصله ان الحكاية التصديقية وان لم تكن مع عدم الالتفات، الا ان الحكاية التصورية،
موجودة وهي تكون موضوع الحجية.
وفيه: ان موضوع الحجية في الخبر، الحاكي التصديقي، واما التصوري فلا يكون
حجة بلا ريب.
وقد أفاد المحقق النائيني (ره) في وجه الفرق بين الامارات والأصول في ذلك: بان
مرجع التعبد في الطرق إلى جعل ما ليس بعلم علما، وتتميم كشفه الناقص، وبعد انكشاف
المؤدى يترتب عليه جميع ما للمؤدى من الخواص والآثار على قواعد سلسلة العلل
والمعلولات، واللوازم، والملزومات - وبالجملة - كما أن الشئ بوجوده الواقعي يلازم
وجود اللوازم والملزومات والعلل والمعلولات، كذلك احرازه يلازم احرازها، وبعد ما
كانت الامارة الظنية محرزة للمؤدى يترتب عليها جميع ما يترتب عليه من الآثار الشرعية
ولو بألف واسطة.
واما الاستصحاب فليس المجعول فيه الاحراز، بل مجرد تطبيق العمل على
المؤدى بلا توسيط الاحراز، فلا بد من الاقتصار على ما هو المتعبد به وليس هو الا تطبيق
العمل على مؤدى الأصل، والمؤدى ان كان حكما فهو المتعبد به وان كان موضوعا
فالمتعبد به ما يترتب عليه من الحكم الشرعي، واما آثار اللوازم، فهي لا تكون مترتبة عليه،
وليس موضوعها مؤدى الأصل فلا وجه لترتبها.
وفيه: ان المراد من التلازم بين احراز الشئ، واحراز ما يلازمه، ان كان هو
التلازم بين الاحرازين الوجدانيين، فهو مما لا شبهة فيه، ولكنه غير مربوط بالمقام، وان
119

كان هو التلازم بين الاحرازين التعبديين، فيرد عليه ان ذلك تابع لدليل التعبد فمع فرض
عدم الدليل على التعبد باحراز اللوازم والملزومات والملازمات، لا تلازم بينهما، وان أريد
ان احراز الشئ تعبدا يلازم احراز لوازمه وجدانا فهو بين الفساد.
واما ما افاده من أنه بعد انكشاف المؤدى يترتب عليه جميع ما للمؤدى من
الخواص والآثار على قواعد سلسلة العلل والمعلولات، ففيه ان ما يكون اثرا تكوينيا
للشئ أو لاحرازه الوجداني، ولا يكون اثرا تكوينيا لاحرازه التعبدي، لا مجال لاجراء
تلك القواعد فيه.
والحق في المقام ان يقال ان حجية دليل الشئ، في ملازماته، وملزوماته،
ولوازمه تتوقف على أمرين، أحدهما كون ذلك الشئ كاشفا عنها ككشفه عن مؤديه
نفسه نظير الخبر الحاكي عن امر واقعي كشرب زيد ما في الكأس، المعين الخارجي، فإنه
كاشف عن شربه بالمطابقة، وعن موته إذا كان ذلك سما في الواقع بالالتزام، ثانيهما ثبوت
الاطلاق لدليل اعتباره من جميع الجهات كما في أدلة حجية الخبر الواحد، حيث إنها
باطلاقها تدل على أن مقول قول العادل مطابق للواقع بتمام آثاره وخصوصياته.
ومع فقد أحد القيدين أو كليهما، لا يكون دليل ذلك الشئ حجة في مثبتاته، وفى
بعض الامارات يكون القيد الثاني مفقودا كما في الظن بالقبلة، حيث إنه حجة من باب
الطريقية، ومع ذلك لا يكون حجة في مثبتاته ولا يثبت به لازمه وهو دخول الوقت، فان
قوله (ع) فليتحر أي فليأخذ بالأحرى، لا يدل على أزيد من حجيته للقبلة خاصة.
واما في الأصول ومنها الاستصحاب فالمفقود هو الأول، فان المأخوذ في
موضوع الاستصحاب اليقين السابق، والشك اللاحق، ومع هذين القيدين يتعبد الشارع
بالوظيفة المقررة، وعليه فبالنسبة إلى المؤدى هما موجودان يتعبد الشارع به، وبالنسبة إلى
اللوازم والملزومات والملازمات، هما مفقودان لا يتعبد بهما مثلا، لو تيقن حياة زيد، ثم
شك في موته فبالنسبة إلى الحياة اليقين السابق، والشك اللاحق موجودان، واما بالنسبة
إلى نبات اللحية الذي هو من اللوازم العادية لبقاء زيد إلى زمان الشك، فهما مفقودان،
فبدليل الاستصحاب لا يتعبد به، فان شئت فقل، ان الحكم يدور مدار وجود الموضوع،
120

والفرض انه بالنسبة إلى اللوازم وأختيها، مفقود، فلا تثبت به، وبالجملة، بعد ما لم يكن
للاستصحاب، وكذا ساير الأصول، جهة كشف عن الواقع، وكان دليل التعبد متضمنا
للتعبد بترتيب آثار ما كان على يقين منه وشك، واللوازم ليست مما على يقين منها فشك
وآثارها ليست آثار الملزومات لها، فلا تكون أدلتها شاملة للتعبد بآثار اللوازم.
ودعوى ان آثارها انما تكون آثارا للمؤدى، لقياس المساواة فعلى القول
باطلاق دليل الاستصحاب يدل ذلك على لزوم ترتيبها أيضا.
مندفعة: بان قياس المساواة يتم إذا كان اللوازم من سنخ واحد، بان كانت الجميع
تكوينية أو تشريعية، مثلا من لوازم حركة اليد حركة المفتاح ومن لوازمها انفتاح الباب،
فيكون الانفتاح لازم حركة اليد.
وهكذا في التشريعيات مثلا، نجاسة الملاقى للمتنجس من لوازم نجاسة الملاقى
وهي من لوازم الملاقاة مع النجس.
وأما إذا لم تكن الجميع من سنخ واحد، كما إذا كان الأثر الشرعي مترتبا على امر
عقلي تكويني فليس الأثر التشريعي من لوازم المؤدى: والسر فيه ان ترتب الأثر الشرعي
على موضوعه ليس من قبيل ترتب المعلول على علته، فلا يكون من اللوازم بل من احكامه
فلا يصدق هذه القضية، لازم اللازم، لازم.
عدم الفرق بين خفاء الواسطة وجلائها
ثم انه لا يكون الأصل المثبت معنونا في كلمات القدماء، الا انهم في جملة من
الفروع الفقهية لا يعتمدون على الأصول المثبتة، ومع ذلك في بعض الفروع اعتمدوا
عليها، وسيمر عليك، ولذلك وجه المتأخرون ذلك، بان الواسطة في تلك الموارد
خفية واستثنوا هذا المورد وحكموا فيه بحجية المثبت، والمحقق الخراساني أضاف إليه
جلاء الواسطة.
وكيف كان فقد استدل الشيخ الأعظم (ره) وتبعه المحقق الخراساني على اعتبار
121

الأصل المثبت إذا كانت الواسطة خفية خفاءا يعد الآثار المترتبة عليها آثارا لذي الواسطة،
بان المتفاهم عرفا من دليل الاستصحاب هو ايجاب ترتيب ما يعد بحسب نظر العرف من
الآثار الشرعية لنفس المستصحب، وان كانت حقيقة من آثار الواسطة: وذلك لما عرفت
من أن الدلالة على الأثر الذي بلحاظه يكون التنزيل في مورد الاستصحاب انما هو
بمقدمات الحكمة ولا يتفاوت بحسبها فيما يعد عرفا اثرا بين ما كان اثرا بلا واسطة أو
معها.
وأورد عليهما المحقق النائيني (ره) بان الحكم الثابت لموضوع قد يكون بنظر العرف
ثابتا للأعم منه، أو الأخص بحسب المتفاهم العرفي من الدليل، فيكون الظهور، الفعلي
التركيبي، على خلاف الظهور الافرادي الوضعي، وفى هذه الصورة نظر العرف يكون
متبعا.
وقد يكون الموضوع بنظر العرف موافقا للمدلول الوضعي لكن العرف بحسب
مناسبات الحكم والموضوع، يرون بعض الخصوصيات من مقومات الموضوع وبعضها
من علل ثبوت الحكم ومن قبيل الواسطة في الثبوت، وفى هذه الصورة أيضا يكون نظر
العرف متبعا، كما حقق في مبحث حجية الظهور.
واما في غير هذين الموردين مما يرجع إلى المسامحة في التطبيق بعد معلومية
مفهوم الموضوع بحدوده وقيوده، كالمسامحة في تطبيق الوزن المعين كالحقة على
الموجود الخارجي الذي هو أقل منها بمثقال، فنظر العرف لا يكون متبعا، وعليه فإذا كان
معنى خفاء الواسطة ان العرف بحسب ما يستفاد من الدليل أو بحسب ما ارتكز في
أذهانهم من مناسبات الحكم والموضوع، يفهمون ان الحكم ثابت لذي الواسطة والواسطة
انما تكون علة للحكم وواسطة في الثبوت، فهذا يرجع إلى انكار الواسطة وان الحكم في
الحقيقة ثابت لذي الواسطة، وان كان معناه ان العرف يسامحون في التطبيق مع أن، الحكم
ثابت للواسطة لخفائها يرتبون الحكم على ذي الواسطة فهو داخل في المسامحات العرفية
التي اتفقت كلماتهم على انها تضرب على الجدار، فاستصحاب عدم خروج الودي بعد
البول مثلا لا يكفي في الحكم بعد لزوم ذلك.
122

ولكن الظاهر أن مرادهما (قده) ليس هو الرجوع إلى المسامحات العرفية، وانما
يدعيان الرجوع إلى العرف في تحديد مفهوم النقض المترتب عليه الاستصحاب، بدعوى
ان الخطاب انما يدل على حرمة نقض ما يعد نقضا بنظر العرف، والعرف يرون ان عدم
ترتيب آثار الواسطة إذا كانت خفية نقض لليقين السابق لأنهم يرون اثرها اثرا لذي الواسطة
وان كان بالدقة اثرا لها.
فالصحيح في الجواب ان يقال ان مفهومي الابقاء والنقض من المفاهيم الواضحة
وهما يصدقان على ترتيب آثار المتيقن نفسه وعدم ترتيبها، فإذا فرضنا ترتيب آثاره، دون
آثار الواسطة لما كان هناك نقض أصلا، وانما العرف يرونه نقضا لمسامحتهم في التطبيق
أي بنائهم على كونها آثارا، لذي الواسطة، ولا عبرة بنظر العرف في التطبيق، فالأظهر انه
لا اثر لخفاء الواسطة، ولا فرق بينه وبين جلائها.
وألحق المحقق الخراساني بذلك بعض موارد جلاء الواسطة، وذكر له موردين:
الأول: ما إذا كان مورد التعبد الاستصحابي، هي العلة التامة، أو الجزء الأخير
منها، وهو الذي ذكره بقوله، ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفا بينه وبين
المستصحب تنزيلا كما لا تفكيك بينهما واقعا انتهى: والوجه فيه، ان العلة التامة أو الجزء
الأخير منها، والمعلول، كما لا تفكيك بينهما واقعا لا تفكيك بينهما تنزيلا بنظر العرف
وبحسب المتفاهم العرفي يكون التعبد بالعلة تعبدا بالمعلول.
الثاني: ما إذا كان مورد التعبد الاستصحابي من الأمور المتضائفة، كالأبوة،
والبنوة، وهو الذي ذكره بقوله أو بوساطة ما لأجل وضوح لزومه له أو ملازمته معه بمثابة
عد اثره اثرا لهما، والوجه فيه ان العرف لا يرونهما شيئين، بل هما عندهم شئ واحد
ذو وجهين، واثر أحدهما اثر الآخر.
ولكن يرد على الأول، انه بعد التحفظ على أن محل الكلام، ما إذا كان هناك اثران
شرعيان، أحدهما مترتب على العلة التامة أو الجزء الأخير منها، والآخر مترتب على
المعلول، كيف يتصور اليقين السابق بوجود العلة التامة، دون معلولها مع أنهما لا ينفكان
حدوثا وبقاءا، وعليه فلا محالة هناك يقين سابق وشك لاحق بالنسبة إلى كل منهما
123

فيجرى الاستصحاب فيهما.
وبه يظهر ما في الثاني فان المتضائفين متكافئان قوة وفعلا يقينا، وشكا، فمع اليقين
بالأبوة لا محالة يكون يقين بالبنوة، وكذا الشك، فيجرى في كل منهما الاستصحاب فتدبر
حتى لا تبادر بالاشكال.
الفروع التي توهم ابتنائها على الأصل المثبت
بقى الكلام في الفروع التي توهم ابتنائها على الأصل المثبت، وهي كثيرة نذكر
جملة منها ويظهر الحال في البقية.
منها: ما لو أسلم أحد الوارثين في أول شعبان مثلا، والاخر في أول شهر رمضان
واختلفا في موت المورث، فادعى الأول انه مات في شعبان، وادعى الثاني انه مات في
شهر رمضان فقد حكم الأصحاب، بأنه يكون المال بينهما نصفين لأصالة بقاء حياة
المورث، مع أن موضوع التوارث موت المورث عن وارث مسلم والأصل المزبور بالنسبة
إلى هذه الإضافة مثبت.
وفيه: ان الإضافة المزبورة غير دخيلة في الإرث، بل غاية ما دل عليه الدليل من
الاجماع والنص ان الكفر مانع، - وبعبارة أخرى - الموضوع مركب من أمرين، موت
المورث، مع اسلام الوارث، فإذا كان أحدهما وجدانيا وجرى الأصل في الآخر وضم
الأصل إلى الوجدان ترتب الحكم، وليس هذا من المثبت.
ومنها: انه إذا كان يد شخص على مال الغير، وشك في اذن صاحبه حكموا
بضمانه: لأصالة عدم الرضا من المالك، مع أن موضوع الضمان اليد العدوانية وهذا
العنوان لا يثبت بالأصل المزبور، الا على القول بالمثبت.
وفيه: ان موضوع الضمان وضع اليد على مال الغير بضميمة عدم اذنه صدق عنوان
العدوان، أم لم يصدق فيأتي فيه ما ذكرناه في الفرع السابق.
ومنها: ما لو لاقى جسم طاهر مع المتنجس، الذي كان رطبا وشك في بقاء رطوبته
124

إلى حين الملاقاة فقد حكم بعضهم بنجاسة الطاهر، لاستصحاب بقاء الرطوبة مع أن
الموضوع هو سراية النجاسة إلى الطاهر، وعليه، فان كان المستصحب بقاء الرطوبة كان
ذلك مثبتا، والواسطة جلية وهو واضح، وان كان هي الرطوبة المسرية كان مثبتا مع خفاء
الواسطة.
ولكن الأظهر عدم ترتب الأثر المذكور على ذلك الاستصحاب والتمسك به انما
يكون من بعض الأصحاب لا جميعهم.
ومنها: استصحاب عدم الحاجب عند الشك في وجوده في محال الغسل أو
المسح الذي عليه بناء الأصحاب مع أنه بالنسبة إلى تحقق الغسل أو المسح من المثبت.
وفيه: ان الظاهر عدم كون الأصل المزبور من قبيل الاستصحاب، بل الظاهر كونه
من قبيل أصالة عدم القرينة من الأصول العقلائية ومدركها الغلبة، هذا على فرض تسليمه،
مع أن للمنع عن جريانه مجالا واسعا وانما بناء العقلاء على عدم الاعتناء إذا كانوا
مطمئنين بالعدم.
ومنها: استصحاب عدم دخول هلال شوال في يوم الشك، فإنه مثبت لكون الغد
يوم العيد، وقد مر الكلام في ذلك في التنبيه الرابع - ومنها - غير ذلك من الفروع وهي
ما بين ما لا يكون الأصل فيه مثبتا، وبين مالا نسلم جريانه.
حكم ما إذا كان الأثر مترتبا بواسطة الامر الانتزاعي
ثم إن صاحب الكفاية ذكر تنبيهات ثلاثة أي، الثامن، والتاسع، والعاشر، وذكر فيها
مطالب جميعها من فروع التنبيه السابق، وكيف كان فما افاده في التنبيه الثامن مطالب.
1 - جريان الأصل المثبت فيما إذا كان الأثر مترتبا على المستصحب بوساطة عنوان
كلي منطبق عليه أو بوساطة عنوان عرضي انتزاعي منطبق على المستصحب.
توضيح ذلك أن المستصحب، اما ان يكون بنفسه موضوع الأثر أو يكون غيره،
وعلى الثاني، اما ان يكون لذلك الغير وجود منحاذ عنه في الخارج، كاللازم، والملزوم،
125

والمقارن، واما ان لا يكون له وجود منحاذ، بل يكون عنوانا منطبقا عليه، والثاني، قد
يكون طبيعيا بالإضافة إلى فرده، - وبعبارة أخرى - يكون عنوانا منتزعا عن مرتبة الذات،
كالانسان بالإضافة إلى زيد، والخمر بالإضافة إلى مصداقها، وهكذا وقد يكون عنوانا
قائما به، والثاني اما ان يكون قيامه به قياما انتزاعيا كالفوقية بالإضافة إلى السقف، واما ان
يكون قيامه به قياما، انضماميا كالأبيض بالإضافة إلى الجسم.
لا اشكال في جريان الاستصحاب في القسم الأول.
كما لا اشكال في عدم جريانه في القسم الثاني لترتيب آثار ذي الواسطة كما مر.
واما الأقسام الثلاثة الأخيرة فظاهر كلام الشيخ الأعظم (ره) عدم الجريان فيها قال،
ومن هنا يعلم أنه لا فرق في الامر العادي بين كونه متحد الوجود مع المستصحب بحيث
لا يتغايران الا مفهوما - إلى أن قال - وبين تغايرهما في الوجود انتهى.
والمحقق الخراساني اختار الجريان في القسمين منها وهما - الأول، والثاني -
وعدم الجريان في الأخير، فتنقيح القول بالبحث في مواضع.
الأول: فيما إذا كان موضوع الأثر طبيعيا منطبقا على المستصحب انطباق الكلى
على فرده. فقد استدل الشيخ لما اختاره بتغاير المستصحب مع موضوع الحكم حيث إن
الأول الجزئي، والثاني كلي.
ورده صاحب الكفاية، بان وجود الكلى عين وجود فرده، فلا يكون استصحاب
الفرد وترتيب اثر الكلى من قبيل الأصل المثبت.
ويرد عليه ما تقدم مفصلا، من أن وجود الكلى عين وجود الفرد في عالم التكوين،
لا في عالم الاعتبار والتشريع فان التعدد في ذلك المقام واضح من أن يبين.
والحق في الايراد على الشيخ الأعظم ان الفرد إذا كان متيقنا سابقا، يكون الكلى
أيضا، متيقنا فيجرى فيه الاستصحاب ويترتب عليه حكمه.
مع، انه إذا كان التكليف، لا بنحو صرف الوجود، بل بنحو جميع الوجودات،
حيث إن الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الحقيقية، فلا محالة، وان كان موضوع الأثر
في لسان الدليل هو الكلى، الا انه ينحل إلى احكام عديدة، وكل فرد يكون موضوعا
126

لحكم خاص، فيجرى فيه الأصل ويترتب عليه ذلك الحكم، نعم: إذا كان التكليف بنحو
صرف الوجود، يتعين الجواب الأول.
الموضع الثاني: ما إذا كان الموضوع عنوانا يكون قيامه به قياما انتزاعيا.
وقد استدل المحقق الخراساني للجريان وترتب الأثر: بان الامر الانتزاعي في هذا
القسم لا وجود له سوى وجود منشأ الانتزاع الذي هو المعروض لا شئ آخر،
فاستصحابه لترتيب اثره ليس بمثبت ومثل له بالملكية والغصبية.
أقول: يرد على مثاله انه ليس من قبيل الخارج المحمول فان الملكية من الأمور
الاعتبارية المستقلة في الجعل كما تقدم، فالأولى ان يمثل له بالتقدم والتأخر ونحوهما.
ويرد على دليله ان الأثر ان كان لعنوان التقدم، فلا ريب في أنه غير زيد، إذ هو
المتقدم، نعم، من لوازم وجوده تحقق التقدم لا انه عينه، ولو كان للمتقدم فالمستصحب
بنفسه موضوع الأثر لا غيره.
وبما ذكرناه ظهر عدم جريان الاستصحاب في القسم الأخير أيضا، وهو ما لو كان
الموضوع عنوانا يكون قيامه به قياما انضماميا نظير الأبيض بالإضافة إلى الجسم.
الاستصحاب في قيود المأمور به
2 - ما افاده بقوله وكذا لا تفاوت في الأثر المستصحب أو المترتب عليه بين ان
يكون مجعولا شرعا بنفسه كالتكليف وبعض أنحاء الوضع أو بمنشأ انتزاعه كبعض أنحائه
كالجزئية والشرطية والمانعية انتهى.
ملخص القول في المقام، انه قد تقدم الكلام، في جريان الاستصحاب في
الأحكام الوضعية المتقدمة على الجعل كشرائط الوجوب، والمتأخرة عنه كشرائط
الواجب في مبحث الاحكام الوضيعة، انما الكلام في المقام، في استصحاب الشرط
كالطهارة والمانع، بعد ما لا كلام في جريانه فيما هو جزء الموضوع، ومنشأ الإشكال أمور.
الأول: ان المترتب على الشرط هو الشرطية وهي ليست بمجعولة فلا يجرى.
127

وفيه: ان امر وضع الشرطية ورفعها بيد الشارع وهذا المقدار يكفي في جريانه.
الثاني: انه لا يترتب على جريانه اثر شرعي، بل المترتب انما هو اثر عقلي وهو
حصول الفراغ وتحقق الامتثال ونحو ذلك.
والجواب عن ذلك، ان هذا الاشكال نشأ من توهم لزوم كون المستصحب حكما
أو موضوعا لحكم شرعي، مع أن هذا مما لم يدل عليه دليل، بل الدليل دل على لزوم
كونه مما يتعبد به شرعا، وحيث: ان المتعلق أيضا صالح لان يتعبد به الشارع بالتحقق أو
عدمه، كما في مورد قاعدة الفراغ والتجاوز فان المتعبد به تحقق المتعلق، وعليه فإذا جرى
استصحاب الطهارة وحكم الشارع الأقدس بتحققها، وانضم إليها ساير الاجزاء والشرائط
تحقق الامتثال والفراغ.
الثالث: ان مرجع القيد المأخوذ شرطا في ظاهر الخطاب انما هو إلى دخل التقيد به
في المأمور به وهذا التقيد والإضافة امر واقعي لا تعبدي وشرعي وعليه فاستصحاب ذات
الشرط لترتيب اثر التقيد من الأصول المثبتة.
وفيه: ان الإضافة من الأمور التي موضوعها أعم من الظاهر والواقع فإذا استصحب
الشرط واتى بالمأمور به حصل التقيد قهرا، - وبعبارة أخرى - ليس التقيد من لوازم
الوجود الواقعي للشرط بل أعم منه ومن الوجود التعبدي وقد مر في استصحاب الزمان
تمام الكلام في ذلك، فإذا استصحب الشرط وانضم إليه بقية الاجزاء والشرائط تحقق
ذلك الامر الحقيقي وجدانا.
3 - قال وكذا لا تفاوت في المستصحب أو المترتب بين ان يكون ثبوت الأثر و
وجوده أو نفيه وعدمه انتهى.
مراده من ذلك الرد على الشيخ الأعظم حيث إنه في مبحث البراءة التزم بعدم
جريان استصحاب عدم الحكم من جهة انه لا يترتب عليه القطع بعدم العقاب، الا بضميمة
قبح العقاب بلا بيان ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب، وان أريد به ترتب الحكم بعدم
العقاب عليه كان ذلك من قبيل الأصل المثبت، لأنه من الاحكام العقلية، نعم، ان ثبت به
الاذن والترخيص ترتب عليه عدم العقاب لكن أحد الضدين لا يثبت بنفي الضد الآخر.
128

وقد مر هناك الجواب عن ذلك وعرفت انه لا يعتبر في جريان الاستصحاب سوى
كون المستصحب أو اثره امر وضعه ورفعه بيد الشارع كان ذلك وجوديا أو عدميا وانه
يترتب على عدم التكليف عدم العقاب قطعا فراجع.
ثم لا يخفى ان الشيخ (ره) في مطاوي مباحث الاستصحاب يسلم جريان
استصحاب، عدم التكليف ولذا في جواب من قال إنه يقع التعارض دائما بين استصحاب
الوجود واستصحاب العدم، لم يتعرض الشيخ لذلك، ولم يجب ان استصحاب العدم في
نفسه لا يجرى.
ومما ذكرناه ظهر ما في التنبيه التاسع والعاشر في الكفاية: فإنه قد مر في أول التنبيه
السابع ان الآثار العقلية التي يكون موضوعها أعم من الواقع والظاهر يترتب على
الاستصحاب، كما أنه قد مر ان المستصحب لا بد وأن يكون ذا اثر في حال الشك وان لم
يكن له اثر في حال اليقين.
حول أصالة تأخر الحادث
الحادي عشر: لا اشكال في جريان الاستصحاب عند الشك في حدوث شئ، كما
لا اشكال في جريانه فيما إذا كان الشك في الارتفاع، انما الكلام في جريانه عند الشك
في تقدم حدوثه وتأخره، أو تقدم ارتفاعه وتأخره مع العلم بأصل الحدوث أو الارتفاع
في الجملة، وتنقيح القول في هذا التنبيه بالبحث في مقامين.
الأول: فيما إذا لو حظ الحادث المعلوم تحققه المشكوك تقدمه بالإضافة إلى
اجزاء الزمان.
الثاني: فيما إذا لو حظ بالإضافة إلى حادث زماني آخر.
اما الأول: فالاثر المطلوب ترتبه، اما ان يكون مترتبا على نفس عدمه في الزمان
المشكوك وجوده فيه، أو يكون مترتبا على حدوثه في الزمان الثاني المتيقن وجوده فيه.
فان كان من قبيل الأول جرى الاستصحاب فيه أي استصحاب عدم تحققه في
129

الزمان الأول: إذ لا فرق في جريان الاستصحاب بين كون الشئ مشكوكا فيه في الزمان
اللاحق رأسا، وبين كونه كذلك في جزء منه مع العلم بارتفاعه بعده: لاطلاق الدليل، فلو
علم بموت زيد يوم الجمعة وشك في حدوث الموت فيه أو في يوم الخميس يجرى
استصحاب عدم الموت وبقاء الحياة في يوم الخميس.
وان كان من قبيل الثاني أي كان الأثر مترتبا على تأخره عنه وحدوثه في الزمان
الثاني، فالاستصحاب لا يصلح لاثباته لان تأخره عن الزمان الأول لازم حدوثه فيه لا انه
عينه وقد مر عدم حجية الاستصحاب في مثبتاته.
وقد يقال انه قد اشتهر في الألسن أصالة تأخر الحادث، فما المراد منها ان لم يثبت
بالاستصحاب عنوان التأخر.
قال الشيخ الأعظم انه يمكن ان يكون مرادهم ما لو كان موضوع الأثر نفس
المستصحب وجودا كان علم عدمه أو عدما علم وجوده وهو الفرض الأول، ويمكن ان
يوجه كلامهم بأنهم ملتزمون بحجية الاستصحاب من باب الظن فيكون حجة في مثبتاته،
ويمكن القول به من باب خفاء الواسطة.
والمحقق الخراساني وجه كلامهم بطريقين أحدهما من طريق خفاء الواسطة بان
يقال ان العدم في الزمان الأول ملغى في نظر العرف ويرون التعبد به تعبدا بنفس التأخر
الملازم عقلا لذلك العدم، ثانيهما من طريق عدم التفكيك في التنزيل بين عدم تحققه إلى
زمان وتأخره عنه عرفا كما لا تفكيك بينهما واقعا.
ويرد على الأول مضافا إلى ما تقدم في مسألة الأصل المثبت، من عدم حجيته حتى
مع خفاء الواسطة وانه لا اثر لخفائها: ان التأخر امر وجودي والعدم في الزمان الأول
عدمي والثاني مورد للاستصحاب، والأول موضوع الأثر فكيف يصح ان يدعى خفاء
الواسطة وبه يظهر ما في كلام الشيخ.
ويرد على الثاني مضافا إلى ما تقدم في ذلك المبحث، من أن جلاء الواسطة
كخفائها لا اثر له: ان عدم التفكيك في التنزيل ان كان من جهة التلازم بينهما عقلا فلابد
من البناء على حجيته مطلقا، وان كان من جهة ما في بعض الاستلزامات من الخصوصية،
130

كالعلية والمعلولية، والمتضائفين، كما تقدم فشئ منهما لا ينطبق على المقام، اما العلية
والمعلولية فلان عدم الحادث في الزمان المتقدم ليس علة لوجوده في الزمان المتأخر
فضلا عن كونه علة لعنوان التأخر، واما التضائف فعنوان التأخر مضائف عنوان التقدم
لا عدمه في الزمان المشكوك فيه فالأظهر ان شيئا من هذين الطريقين لا يفيد.
ومما ذكرناه في هذه الصورة يظهر عدم جريانه في الصورة الثالثة، وهي ما إذا كان
الأثر مترتبا على حدوثه في الزمان الثاني المتيقن وجوده فيه: إذ استصحاب العدم في
الزمان الأول لاثبات آثار الحدوث في الزمان الثاني من الأصل المثبت الذي لا نقول به.
ودعوى ان الحدوث مركب من جزئين، وهما الوجود المتأخر، والعدم السابق،
فإذا أحرز الأول بالوجدان والثاني بالأصل يترتب عليه الأثر وليس من الأصل المثبت.
مندفعة: بان الحدوث المقابل للقدم كذلك، واما الحدوث المقابل للبقاء فليس
كذلك كما لا يخفى.
وقد رتب الشيخ الأعظم على عدم ثبوت الحدوث بالأصل، انه لو كان الحادث
بحيث ينعدم بعد حدوثه وليس له بقاء كما لو علم بحدوث الكرية وانعدامها، لا يترتب
على ذلك احكام الوجود في الزمان المتأخر، ثم قال نعم يترتب عليه احكام وجوده
المطلق في زمان ما من الزمانين، كما إذا علمنا أن الماء لم يكن كرا قبل الخميس فعلمنا انه
صار كرا بعده وارتفع كريته بعد ذلك فنقول الأصل عدم كريته في يوم الخميس
ولا يثبت، بذلك كريته في يوم الجمعة فلا يحكم بطهارة ثوب نجس وقع فيه في أحد
اليومين لأصالة بقاء نجاسته، نعم لو وقع فيه في كل من اليومين حكم بطهارته من باب
انغسال الثوب بالمائين المشتبهين انتهى.
وفيه: ان مقتضى القاعدة في الفرض نجاسة الماء والثوب المغسول به، اما نجاسة
الماء فلان استصحاب القلة في يوم الخميس يوجب تنجس الماء لأنه من آثار عدم كرية
الماء في يوم الخميس تنجسه بملاقاة الثوب النجس والعلم بحدوث الكرية لا يوجب
طهارة الماء على القول بنجاسة الماء المتمم كرا بعد الشك في طهارة الكر الذي لاقاه
الثوب النجس، وليس المقام من قبيل غسل الثوب بالمائين المشتبهين، ومعه نجاسة الثوب
131

واضحة.
حول مجهولي التاريخ
واما المقام الثاني: وهو ما إذا لو حظ الشئ بالإضافة إلى حادث زماني آخر
وشك في تقدم ذاك عليه وتأخره عنه، كما إذا علم بموت متوارثين وشك في المتقدم
والمتأخر منهما، فالكلام فيه يقع في موضعين 1 - ما إذا كانا مجهولي التاريخ 2 - ما إذا كان
أحدهما معلوم التاريخ والآخر مجهول التاريخ.
اما الأول: فتارة يكون موضوع الحكم وجود الشئ عند وجود الآخر على نحو
مفاد كان التامة، - وبعبارة أخرى - يكون الموضوع أمرا وجوديا خاصا بخصوصية التقدم،
أو التأخر، أو التقارن، ويكون هذا الخاص بوجوده المحمولي موضوعا للأثر.
وأخرى يكون الأثر مترتبا على وجود شئ عند وجود شئ آخر بمفاد كان
الناقصة، أي الخاص بوجوده الرابط وان شئت فقل كون الشئ متقدما مثلا ومتصفا
بالتقدم.
وثالثة: يكون الأثر مترتبا على عدم شئ عند وجود شئ آخر بمفاد ليس التامة
بان يكون موضوع الأثر العدم المحمولي.
ورابعة: يكون الأثر مترتبا على ثبوت شئ متصف بالعدم عند وجود الآخر بمفاد
ليس الناقة بان يكون موضوع الأثر العدم النعتي.
وتنقيح القول في جريان الاستصحاب في هذه الصور وعدمه يستدعى تقديم
مقدمتين.
الأولى: ان الموضوع أو المتعلق، ان كان مركبا من أمور متعددة، فتارة يكون مركبا
من جوهرين، أو عرضين، أو جوهر وعرض ثابت ولو في غير ذلك الجوهر، وأخرى
يكون مركبا من العرض ومحله، وثالثة يكون مركبا من المعروض وعدم العرض.
ففي القسم الأول: يكون الدخيل هو ذوات الاجزاء، أي كل واحد من تلك
132

الأمور المأخوذة، - وبعبارة أخرى - الوجودات التوأمة بلا دخل لعنوان آخر من قبيل
عنوان اجتماعهما في الوجود، وما شاكل في الموضوع أو المتعلق.
وفى القسم الثاني: لابد من اخذ الموضوع هو المعروض المتصف، بذلك العرض،
لا مجرد وجود المعروض والعرض، لان وجود العرض في نفسه، وجود في الغير، وعين
وجوده لموضوعه، فان اخذ العرض في نفسه بما هو شئ ولم يلاحظ كونه في غيره، و
وصفا له خرج عن هذا القسم، ودخل في القسم الأول، ولزم ترتب الأثر وان كان العرض
موجودا في غير هذا الموضوع، وهو خلف الفرض، وان اخذ بما هو في الموضوع،
وعرض فلا محالة يعتبر العرض نعتا.
وفى القسم الثالث: يمكن ان يكون الحكم مترتبا على عدم الوصف بنحو النعتية
وبنحو الموجبة المعدولة ويكون العدم رابطيا، بمعنى اخذ خصوصية فيه ملازمة لعدم
العرض، ويمكن ان يكون الدخيل في الموضوع هو العدم المحمولي، بل الثاني هو الظاهر
من القضايا المتضمنة لاخذ العدم في الموضوع، فان وجود العرض في نفسه عين وجوده
لموضوعه الا ان عدم العرض ليس كذلك.
الثانية: انه إذا ورد عام، ثم ورد خاص، وكان عنوان الخاص من قبيل الأوصاف،
كما إذا ورد المرأة تحيض إلى خمسين عاما، ثم ورد ان القرشية تحيض إلى ستين عاما،
يكون ذلك كاشفا عن تقييد المراد الواقعي، وعدم جعل الحكم للخاص من أول الامر
واقعا، ولازم ذلك أن ما ثبت له الحكم واقعا، هو المقيد، وملحوظا بنحو التقييد إذ مع
عدم الاهمال في الواقع، وعدم الاطلاق يتعين التقييد، وتفصيل الكلام في المقدمتين في
مبحث العام والخاص، في مسألة استصحاب العدم الأزلي.
إذا عرفت هاتين المقدمتين فاعلم أن الاستصحاب في الصورة الأولى يجرى لولا
المعارضة وهو واضح.
واما الصورة الثانية: فقد حكم المحقق الخراساني بعدم جريانه فيها مستدلا بعدم
اليقين السابق فيه ونظره الشريف إلى أن الموضوع وجد، اما متصفا بالوصف، أو بعدمه،
وكما لا يقين سابق بوجوده لا يقين بعدمه.
133

ووافقه في ذلك المحقق النائيني (ره) وما يظهر من كلماته في وجه هذه الدعوى:
ان العرض وجوده ناعتي لمحله وعدمه كذلك واستصحاب العدم النعتي، لا يجرى لعدم
الحالة السابقة له واستصحاب العدم المحمولي يجرى، ولكن لا يثبت به العدم النعتي الا
على القول بالأصل المثبت.
وفيه أولا: ما تقدم في المقدمة الأولى، من أن الموضوع المركب من المعروض
والعرض، وان كان لازمه دخل الاتصاف فيه، وكونه ناعتيا، الا ان المركب من المعروض،
وعدم العرض ليس كذلك فراجع ما بيناه، وثانيا: ان المفروض في المقام ترتب الأثر على
المعروض مع عرضه، وفى نفى الحكم يكفي نفى موضوع الأثر، وهو يتحقق بسلب
الربط، ولو بسلب موضوعه، فاستصحاب عدم الرابط يجرى، وان شئت قلت إن نقيض
الوجود الرابط، عدم الرابط، لا العدم الرابط كي لا يكون له حالة سابقة.
واما الصورة الثالثة: وهي ما لو كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الاخر، بنحو مفاد
ليس التامة فقد وقع الخلاف في جريان الأصل فيها.
اختار المحقق الخراساني عدم الجريان مستندا إلى عدم احراز اتصال زمان الشك
بزمان اليقين.
ولابد أولا من شرح هذه الكبرى الكلية ثم تطبيقها على المقام.
اما الأول: فملخص القول فيه، انه قد يكون زمان الشك متصلا بزمان اليقين كما
لو تيقن بالطهارة ثم شك فيها لا اشكال في جريان الاستصحاب في هذه الصورة، وقد
يكون منفصلا عنه كما لو تيقن بالحدث بعد اليقين بالطهارة ثم شك فيها، فان اليقين
بالطهارة منفصل عن الشك فيها باليقين بالحدث، وفى هذه الصورة لا يجرى
الاستصحاب قطعا، لظهور الأدلة نحو قوله من كان على يقين فشك في اعتبار الاتصال،
وقد لا يحرز شئ منهما فيكون اجراء الاستصحاب من قبيل التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية، وهو لا يجوز فعند الشك في الاتصال لا يجرى الأصل.
واما الثاني: فتقريب ما افاده المحقق الخراساني انما يكون بأحد وجوه أربعة.
أحدها: انا نفرض ثلاث ساعات، الساعة الأولى كان عدم كليهما متيقنا، الساعة
134

الثانية قطع بوجود أحدهما، والساعة الثالثة تيقن بوجود الآخر، ولم يعلم المتقدم منهما
والمتأخر، وعليه فإذا كان الأثر لعدم أحدهما إلى الساعة الثالثة يجرى ذلك في نفسه، وأما إذا
كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر، لا يمكن اجراء الاستصحاب إذ لو كان
الحادث الآخر حادثا في الساعة الثانية، يكون شكه متصلا بيقينه، ولو كان حادثا في الثالثة
فقد انفصل زمان الشك في العدم عن اليقين به، لوجوده في الساعة الثانية، وحيث لم
يحرز ذلك، فالاتصال مشكوك فيه، مثلا لو علم في الساعة الأولى بعدم موت المورث،
وعدم اسلام الوارث، وفى الساعة الثانية تحقق الموت أو الاسلام، وفى الساعة الثالثة
تحقق الآخر، وشك في تقدم الاسلام، على الموت، وحيث إن الأثر لا يكون مترتبا على
عدم الموت إلى الساعة الثالثة، ولا على الاسلام إليها، بل على اسلام الوارث قبل الموت،
أو الموت قبل الاسلام، فاستصحاب كل منهما لا يجرى لعدم احراز الاتصال.
وفيه: انه لو كان مفاد لا تنقض اليقين بالشك النهى عن نقض اليقين بالمشكوك فيه
تم ما أفيد، ولكن حيث إن مفاده النهى عن نقض اليقين بالشك، فهو لا يتم إذ لا يعقل
الشك في الاتصال حينئذ لان اليقين والشك من الصفات الوجدانية، فاما الاتصال
متيقن، أو الانفصال، والضابط انه ان كان الشك في بقاء ما هو متيقن قبله، فلا محالة
يكون الشك متصلا باليقين، والا فلا، وفى المثال المذكور حيث إن عدم الاسلام حين
الموت وكذا العكس مشكوك فيه ومتصل شكه فيه باليقين بمعنى انه لا يقين بالخلاف
قبله فيجرى الأصل في كل منهما في نفسه.
ثانيها: ما ذكره المحقق النائيني (ره) في توجيه كلام المحقق الخراساني، وهو ان
زمان اليقين بعدم كل منهما، انما هو الساعة الأولى، وزمان الشك في كل منهما عند
حدوث الآخر، انما هو الساعة الثالثة إذ لولا العلم بحدوث كل منهما لما كان يحصل
الشك في عدم كل منهما في زمان حدوث الآخر، ففي المثال لولا العلم بالموت لما كان
يشك في عدم الاسلام حينه، وكذلك العكس، فزمان الشك في عدم كل منهما في
زمان حدوث الآخر انما يكون بعد العلم بتحققهما، وهو في الساعة الثالثة، فقد انفصل
زمان الشك عن زمان اليقين، وهو الساعة الأولى، بالساعة الثانية، فاحتمال وجود كل
135

منهما في الساعة الثانية مانع عن احراز اتصال زمان اليقين بزمان الشك.
وفيه: انه لا يعتبر في جريان الاستصحاب تقدم زمان اليقين عن زمان الشك مثلا لو
شك في عدالة زيد يوم الجمعة، ثم علم يوم السبت بعدالته يوم الخميس، لا اشكال في
جريان الاستصحاب، كما أنه لو حصلا معا يجرى الأصل، وعليه فلا وجه لتوهم اعتبار
الاتصال بهذا المعنى، فالشك في عدم كل منهما حين حدوث الآخر وان كان في الساعة
الثالثة، الا ان متعلقه هو بقاء عدم الموت مثلا إلى زمان الاسلام، فاحتمال حدوث كل
منهما في الساعة الثانية هو الموجب للاتصال المعتبر لا انه مانع عنه.
ثالثها: ما افاده بعض المحققين (ره)، وحاصله: ان المعتبر في الاستصحاب اتصال
زمان المشكوك فيه بالمتيقن، إذ التعبد الاستصحابي تعبد بعنوان البقاء فيعتبر اتصال
الموجودين بالتعبد، وباليقين، والا لم يكن ابقاء الوجود، وفى المقام لو فرضنا في مثال
الاسلام والموت أزمنة ثلاثة، كان الزمان الأول زمان اليقين بعدمهما، والزمانان الأخيران.
أحدهما: زمان الاسلام والآخر: زمان الموت. وعليه فان كان الزمان الثاني، زمان الموت،
كان عدم الاسلام المشكوك فيه متصلا زمانه بزمان اليقين بعدمه، وان كان زمان حدوث
الموت، هو الزمان الثالث، كان عدم الاسلام المشكوك فيه منفصلا زمانه عن زمان اليقين
بعدمه وكذلك في طرف الاسلام، فيكون التمسك في كل منهما بلا تنقض اليقين
بالشك، تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.
وفيه: انه ليس المعيار اتصال زمان ذات المشكوك فيه بزمان ذات المتيقن، والا
لم يكن مورد مجرى الاستصحاب، بل المعتبر اتصال زمان المشكوك فيه من حيث إنه
مشكوك فيه بزمان المتيقن من حيث إنه متيقن وفى المقام كذلك: إذ يحتمل بقاء العدم
في كل منهما في الزمان الثاني المتصل بزمان اليقين، وأن يكون هو زمان الحادث الآخر
فهو زمان الشك في كل منهما في زمان الآخر.
رابعها: ما افاده المحقق العراقي (ره)، وحاصله ان في الحادثين المعلوم حدوثهما
كاسلام الوارث، وموت المورث، والشك في المتقدم منهما، والمتأخر، أزمنة تفصيلية
ثلاثة وزمانين اجماليين، اما الأزمنة التفصيلية فيه زمان العلم بعدمهما، كيوم الخميس
136

مثلا، وزمان العلم بأحدهما فيه اجمالا، كيوم الجمعة، وزمان العلم بوجودهما معا مع
العلم بكونه ظرفا لحدوث الآخر، كيوم السبت، واما الاجماليان. فأحدهما: زمان اسلام
الوارث المحتمل الانطباق على كل من الزمان الثاني، والثالث على البدل، والثاني: زمان
موت المورث المحتمل الانطباق أيضا على كل من الزمانين على البدل، بحيث لو انطبق
أحدهما على الثاني، انطبق الآخر على الزمان الثالث، وحينئذ فحيث يحتمل كون الزمان
الثاني، أي يوم الجمعة في المثال ظرف حدوث الاسلام أو الموت، فلا مجال
لاستصحاب عدم الاسلام المعلوم يوم الخميس إلى زمان موت المورث، لاحتمال ان
يكون زمان الموت، يوم السبت، ويكون زمان الاسلام يوم الجمعة، الذي هو زمان
انتقاض يقينه باليقين الاجمالي بالخلاف، ومع هذا الاحتمال، لا يجرى الاستصحاب،
لعدم احراز كون النقض من نقض اليقين بالشك، واحتمال ان يكون من نقض اليقين
باليقين، وكذا الكلام في استصحاب عدم موت المورث إلى زمان اسلام الوارث فإنه مع
احتمال كون زمان الاسلام، بعد زمان موت المورث، يحتمل انتقاض يقينه، باليقين
بالخلاف.
ومما ذكرناه في الوجوه السابقة يظهر الجواب عن هذا الوجه.
فالمتحصل مما ذكرناه انه لا محذور في جريان الأصل في مجهول التاريخ،
فيجرى.
تكملة
ثم إن المحقق (ره) ذكر انه بعد ما لا ريب في اعتبار اتصال زمان الشك بزمان
اليقين، وبين ضابط الاتصال والانفصال، ان اتصال زمان الوصفين قد يكون ظاهرا، وقد
يكون خفيا، وحاصل ما أفاد انه في موارد حصول العلم على خلاف الحالة السابقة صور.
الأولى: ان يعلم اجمالا بارتفاع إحدى الحالتين السابقتين من دون تعيين لها في
علم المكلف أصلا كما إذا علم بان أحد الانائين المعلوم نجاستهما قد طهر من دون تمييز
137

وتعيين.
الثانية: ان يعلم في الفرض بطهارة خصوص ما هو واقع في الطرف الشرقي، مع
تمييزه في علم المكلف عن الاناء الواقع في الطرف الغربي واشتبه الإناءان بعد ذلك.
الثالثة: الصورة ولكن مع عدم تمييز الاناء الشرقي الا بهذه الإشارة الاجمالية.
ولكن يكون بحيث لو أراد ان يميزه تمكن من ذلك وقد اشتبه الإنائان بعد ذلك.
واما في الصورة الأولى: فلا ريب في اتصال زمان الشك في نجاسة كل منهما
بالعلم بنجاسته، إذ العلم الاجمالي المزبور وان كان مناقضا للعلم بعدم طهارتهما المتولد
من العلم بنجاسة كل منهما الا انه غير ناقض للعلم بنجاسة كل منهما، بل هو موجب
للشك في بقاء نجاسة كل منهما وليس هناك بين اليقين بنجاسة كل منهما والشك في
بقائها، زمان فاصل.
واما في الصورة الثانية: فلا اشكال في أن اليقين بنجاسة الاناء الشرقي قد انتقض
باليقين بطهارته، وسقط فيه الاستصحاب لحصول غايته، فإذا اشتبه الإنائان، وحصل
الشك في نجاسة كل منهما، لا يكون اتصال زمان الشك بزمان اليقين، محرزا في شئ
منهما، وان شئت قلت إنه يعلم اجمالا بسقوط الاستصحاب في أحدهما المعين فيكون
التمسك به في كل منهما تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.
واما الصورة الثالثة: فهي ذات وجهين يمكن الحاقها بكل من الصورتين السابقتين،
الا ان الظاهر هو الالحاق بالثانية: إذ المفروض ان القطع بنجاسة ذلك الاناء الشرقي قد
انتقض باليقين بالطهارة، فبعد الاشتباه وان كان نجاسة كل من الانائين مشكوكا فيها، الا انه
انفصل في البين زمان كانت الطهارة في ذلك الزمان في أحدهما معلومة والشك انما
يكون في تعيين ذلك، فلم يحرز اتصال زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين.
ويترتب على ذلك فروع فقهية وتفصيل القول في كل منها موكول إلى محله.
ولكن الظاهر جريان الاستصحاب حتى في الصورة الثانية، لما مر من أنه لا يعتبر
تقدم زمان اليقين، على زمان الشك فضلا عن اعتبار اتصال الزمانين، بل المعتبر هو اليقين
بالحدوث والشك في البقاء الفعليين، كان زمان حصول اليقين مقدما أو مؤخرا أو مقارنا،
138

وعرفت ان مجرد احتمال العلم بالخلاف لا يضر بالاستصحاب، ففي جميع الصور، كل
واحد من طرفي العلم يعلم بنجاسته سابقا ويشك في بقائها فيجرى فيه الأصل في نفسه.
واما الصورة الرابعة: وهي ما لو كان الأثر مترتبا على الحادث المتصف بالعدم في
زمان حدوث الآخر المعبر عنه بمفاد ليس الناقصة، بان يكون موضوع الأثر العدم النعتي،
فالظاهر أنه لا اشكال في عدم جريان الأصل والحكم بترتيب آثار الاتصاف بالعدم، الا انه
يمكن اجراء استصحاب عدم الاتصاف والحكم بنفي الآثار المترتبة على ثبوته، وقد
أشبعنا الكلام في ذلك وفيما افاده المحقق الخراساني في مبحث العام والخاص في
استصحاب العدم الأزلي.
جريان الأصل في معلوم التاريخ
الموضع الثاني: فيما إذا كان تاريخ أحد الحادثين معلوما دون تاريخ الآخر، مثال
ذلك ما لو علم بموت زيد يوم الخميس وعلم باسلام وارثه، اما قبل ذلك الزمان أو في
يوم الجمعة، وصوره أيضا أربع 1 - ما إذا كان موضوع الأثر فيه وجود الشئ عند وجود
الآخر، بمفاد كان التامة، كما إذا فرضنا ان الوارث يرث إذا كان مسلما حين موت المورث
2 - ما إذا كان موضوع الأثر وجود الشئ عند وجود الآخر بمفاد كان الناقصة كما إذا
فرضنا ان الإرث مترتب على الاسلام المتصف بالسبق في المثال 3 - ما إذا كان موضوع
الأثر عدم الشئ عند وجود الآخر بمفاد ليس التامة، بان يكون الموضوع العدم
المحمولي 4 - ما إذا كان موضوع الحكم عدم الشئ عند وجود الآخر بمفاد ليس الناقصة
بان يكون موضوع الحكم العدم النعتي.
اما في الصورة: فعن الشيخ الأعظم والمحقق النائيني عدم جريان الأصل
في معلوم التاريخ، وستقف على ما أفاداه في الصورة الثالثة، وعليه فلا اشكال في جريان
استصحاب عدم كل من معلوم التاريخ، ومجهوله في نفسه.
واما في الصورة الثانية: فعن المحقق الخراساني عدم جريان الأصل فيه. وقد تقدم
139

في مجهول التاريخ توضيح كلامه وما يرد عليه فلا نعيد.
اما الصورة الثالثة: ففيها أقوال: 1 - جريان الأصل في كل منهما في نفسه
وتساقطهما بالتعارض وهو الأقوى 2 - جريانه في خصوص مجهول التاريخ، دون معلومه
ذهب إليه الشيخ الأعظم (ره) والمحقق الخراساني (ره) والمحقق النائيني (ره) 3 - عدم جريانه
في شئ منهما فالكلام يقع في موردين.
الأول: في جريانه في مجهول التاريخ الثاني: في معلومه.
اما الأول: فحيث ان المانع المتوهم المتقدم في المسألة السابقة الموجب للبناء
على عدم جريانه في مجهولي التاريخ، انما كان من جهة عدم احراز زمان حدوث الآخر،
فبالتبع كان يتوهم عدم احراز اتصال زمان الشك باليقين، لا يكون مورد لتوهمه في
المقام لأنه محرز على الفرض فالشك في بقاء عدم مجهول التاريخ متصل بزمان اليقين
بعدمه بلا كلام، فلا اشكال في جريانه.
واما المورد الثاني: فقد استدل لعدم جريان الأصل فيه بوجهين، أحدهما: عدم
اتصال زمان الشك باليقين: إذ عدمه التامي بما هو ليس مشكوكا فيه في زمان لأنه قبل
التاريخ المعلوم معلوم البقاء وبعده مقطوع الارتفاع، وانما الشك فيه بالإضافة إلى زمان
الغير وحيث انه غير معلوم ويحتمل تقدمه فلا يكون الاتصال محرزا، وقد مر جوابه
مفصلا فراجع.
ثانيهما: ما افاده المحقق النائيني (ره) وحاصله ان زمان تبدل عدم المعلوم بوجوده
لا يكون مشكوكا فيه في زمان من الأزمنة حتى في زمان المجهول: إذ هو اما قبل تاريخ
المعلوم أو مقارن له، أو متأخر عنه، فان كان قبله فعدمه مقطوع، وان كان مقارنا أو متأخرا
عنه، فوجوده مقطوع، فلا شك في عدم المعلوم في زمان حدوث المجهول كي يجرى
فيه الأصل - وبعبارة أخرى - ان حقيقة الاستصحاب هو الجر في الزمان أي جر
المستصحب إلى زمان الشك، وعليه فاما ان يراد بالاستصحاب في المقام استصحاب
عدم المعلوم في الزمان من حيث هو، فيرده انه لا شك فيه في شئ من الأزمنة
المفروضة، وان أريد جره في زمان المجهول، يرده انه اما ان يلاحظ زمان حدوث
140

المجهول على وجه الظرفية لوجوده أو على وجه القيدية، وعلى الأول فهو عبارة أخرى
عن لحاظه بالإضافة إلى نفس اجزاء الزمان، وقد عرفت انه مع العلم بالتاريخ لا يحصل
الشك في وجوده في الزمان، وعلى الثاني لا تجرى أصالة عدمه في ذلك الزمان لان عدم
الوجود في زمان حدوث الآخر بقيد كونه في ذلك الزمان لم يكن متيقنا سابقا، فلا
يجرى فيه الأصل.
وفيه أولا: انه لو فرضنا اخذ زمان حدوث الآخر بنحو القيدية فموضوع الحكم
وان كان لا يجرى فيه الأصل لعدم احراز الحالة السابقة، الا ان عدم تحقق الموضوع
يجرى فيه الأصل لما عرفت في مجهولي التاريخ، من أن عدم هذا الموضوع بنحو السالبة
بانتفاء الموضوع متيقن، وان نقيض الوجود الرابط عدمه، لا العدم الرابط فراجع ما مر.
وثانيا: انه إذا كان شئ معلوما من جهة ومشكوكا فيه من جهة أخرى يجرى فيه
الأصل بالاعتبار الثاني، وفى المقام زمان المعلوم وجودا وعدما وان كان معلوما بالقياس
إلى الزمان من حيث هو، واما باعتبار زمان حدوث المجهول المردد بين الأزمنة غير
المعلومة يكون مشكوكا فيه.
وان شئت قلت، ان عدمه الخاص أي عدمه في زمان الآخر مشكوك فيه، فيجرى
الأصل بهذه الملاحظة ولا محذور فيه سوى توهم عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين
وقد مر جوابه.
واما الصورة الرابعة: وهي ما إذا كان موضوع الأثر العدم النعتي، فقد ظهر من
مجموع ما ذكرناه جريان الاستصحاب في كل من معلوم التاريخ، ومجهوله فيها.
وان ايراد صاحب الكفاية، بان وجود هذا الحادث متصفا بالعدم في زمان حدوث
الآخر لا يكون مسبوقا بالعدم فلا يجرى الأصل فيه، أجبنا عنه بان عدم الاتصاف به
مسبوق بالعدم، وان لم يكن الاتصاف بالعدم، مسبوقا بالعدم، فيجرى الاستصحاب فيه
بهذا الاعتبار، فالمتحصل من مجموع ما ذكرناه انه يجرى الاستصحاب في كل من
مجهولي التاريخ، وفى معلوم التاريخ ومجهوله، في نفسه وان شيئا مما أورد عليه لا يتم،
وعليه فان كان الأثر مترتبا على أحدهما يجرى فيه بلا معارض، ولو كان مترتبا على كل
141

منهما يتساقطان.
ولا يخفى انه قد يتوهم ان هذا الأصل يعارضه دائما أصل آخر، وهو أصالة عدم
المركب وعدم اجتماع القيدين معا، وهذا غير مختص بالمقام، بل هو جار في كل مورد
كان الموضوع مركبا واستصحب أحد القيدين وأحرز الآخر، كما لو أحرز أعلمية زيد،
وشك في عدالته مع العلم بها سابقا، فان استصحاب بقاء العدالة، يعارضه استصحاب
عدم اجتمال الأعلمية والعدالة.
وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) بان الشك في بقاء عدم المركب مسبب، عن
الشك في وجود اجزائه فإذا جرى الأصل فيه لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في
المسبب.
وفيه: ان السببية في المقام ليست شرعية، فلا يكون الأصل في السبب حاكما على
الأصل في المسبب.
والحق في الجواب ان يقال ان المركب من حيث إنه مركب بوصف الاجتماع،
لا يكون موضوعا للحكم، وانما هو مترتب على ذوات الاجزاء المجتمعة، ولا شك فيها،
بعد ضم الوجدان إلى الأصل، نعم، إذا كان وصف المقارنة أو غيرها دخيلا في الحكم،
يجرى استصحاب العدم، ويترتب عليه عدم الحكم، ولا يعارض باستصحاب الجزء
وضمه إلى الوجدان كما لا يخفى.
الكلام حول تعاقب الحالتين المتضادتين
بقى الكلام في أنه، هل يجرى الاستصحاب فيما تعاقب حالتان متضادتان
كالطهارة والنجاسة، وشك في ثبوتهما وانتفائهما، للشك في المقدم والمؤخر منهما، أم
لا؟
والفرق بين هذه المسألة وبين المسألة المتقدمة انما هو من ناحية الموضوع، وما
ذكر في وجه عدم الجريان.
142

اما الأول: فموضوع المتقدمة هي الموضوعات المركبة، وموضوع هذه هي
الموضوعات البسيطة، وأيضا المستصحب في المقام بقاء الحادث، وهناك العدم الثابت
قبل حدوثهما.
واما الثاني: فاستدل في المقام لعدم الجريان: بان زمان المتيقن ليس متصلا بزمان
المشكوك فيه، وفيما تقدم، بعدم اتصال زمان المشكوك فيه بزمان اليقين، أضف إلى
ذلك كله، ان في هذه المسألة، كل من الحادثين رافع للآخر، وكيف كان فالكلام يقع في
موردين، الأول في مجهول التاريخ، الثاني في معلومه.
اما الأول: فقد استدل لعدم جريان الأصل فيه بوجوه.
أحدها: ما في الكفاية، وحاصله ان المحذور في المسألة السابقة، وهو عدم احراز
اتصال زمان الشك باليقين جار هنا، غاية الامر عدم الاتصال هناك كان من ناحية عدم
اتصال زمان المشكوك فيه بزمان اليقين، لاحتمال الفصل بالحادث الآخر، وفى المقام
يكون من ناحية عدم احراز زمان اليقين، لاحتمال كونه الزمان الأول، فيكون الزمان الثاني
فاصلا واحتمال كونه الزمان الثاني، فيكون متصلا فزمان المتيقن بما هو متيقن غير متصل
بزمان المشكوك فيه بما هو مشكوك فيه.
وفيه: انه لا يعتبر في الاستصحاب سوى اليقين والشك الفعليين، وعدم انفصال
زمان المتيقن عن زمان المشكوك فيه بمتيقن آخر، والمقام كذلك، وان كان زمان
المتيقن غير معين ومرددا بين زمانين، الا انه يعلم عدم الفصل بمتيقن آخر.
ثانيها: ما نقله المحقق العراقي عن المحقق الخراساني في مجلس بحثه، وحاصله: انه
اما ان يراد في المقام اجراء الاستصحاب، في الزمان الاجمالي، أو يراد استصحابه في
الأزمنة التفصيلية، وعلى الأول، وان كان يجرى الأصل الا انه لا اثر له إذ الآثار كجواز
الدخول في الصلاة انما يترتب على ثبوت الطهارة في الزمان التفصيلي، ولا يكفي ثبوتها
في الزمان الاجمالي، وعلى الثاني لا يجرى الأصل من جهة ان المنصرف من دليل
الاستصحاب، هو ان يكون زمان الذي أريد جر المستصحب إليه، على نحو لو تقهقرنا منه
إلى ما قبله من الأزمنة لعثرنا على زمان اليقين بوجود المستصحب، وليس المقام كذلك،
143

لان كلا من الطهارة والحدث لو تقهقرنا من زمان الشك الذي هو الساعة الثالثة لم نعثر
على زمان اليقين بوجود المستصحب بل كل من الأزمنة السابقة زمان الشك في الوجود
إلى أن ينتهى إلى الزمان الخارج عن دائرة العلم الاجمالي، الذي هو زمان اليقين بعدم كل
منهما.
وفيه أولا: النقض بما لو علم بالطهارة مثلا في أحد زمانين بنحو الاجمال، وشك
فيها بالشك البدوي، من جهة احتمال حدوث الحدث بعده، فان لازم البرهان المزبور
عدم جريان الاستصحاب في المثال وقد نقل بعض مشايخنا انه أورد عليه في مجلس
البحث بذلك بعض الفحول ولم يجب.
وثانيا: بالحل، وهو ان الأثر انما يترتب على التعبد بالمستصحب في زمان الشك
ولا بد وأن يكون ذلك الزمان معينا ولا يعتبر تعين زمان اليقين وفى المقام زمان الشك
الذي يراد استصحاب الطهارة أو الحدث فيه هو الساعة الثالثة، وهو معلوم معين، وانما
المردد هو زمان اليقين، ولا يضر تردده في الاستصحاب بعد اطلاق الدليل.
ثالثها: ما نسب إلى المحقق العراقي: وحاصله انه انما يجرى الاستصحاب فيما إذا
كان الشك في بقاء ما حدث، وأما إذا كان يقينان وكان الشك في كيفية الحادث ولونه
فلا مجرى للاستصحاب، وفى المقام كذلك فإنه على تقدير حدوث الطهارة مثلا في
الساعة الأولى فهي مرتفعة في الساعة الثالثة قطعا وعلى فرض حدوثها في الثانية فهي باقية
قطعا والشك انما هو في زمان حدوث المتيقن لافى بقائه.
ولعله إلى ذلك يرجع ما ذكره بعض المحققين من أنه يعتبر في الاستصحاب اليقين
بالحدوث والشك في البقاء، وأما إذا كان عوض الشك يقينان فلا يجرى الاستصحاب
والمقام من هذا القبيل، إذ الحدث مثلا لو كان متحققا قبل الوضوء فهو مرتفع قطعا، ولو
كان متحققا بعده فهو باق كذلك فلا شك في البقاء وكذلك الطهارة.
وفيه أولا: النقض بجميع موارد الاستصحاب مثلا لو علم بحياة زيد وشك في
بقائها يمكن ان يقال انه لو كان في علم الله ان يموت قبل ساعة فهو ميت قطعا ولو كان ان
لا يموت فهو حي كذلك.
144

وثانيا: بالحل وهو ان اليقينين المزبورين هما اليقين بالملازمة لا باللازم وهما
منشأ الشك في البقاء - وبعبارة أخرى - ان هذين اليقينين الذين هما يقينان بقضيتين
شرطيتين بضميمة الشك في ساعة الطهارة منشأ للشك في بقاء الحادث ويجرى فيه
الاستصحاب فتدبر فإنه يليق به.
رابعها: ما نسب إلى بعض الأكابر: وحاصله انه يعتبر في جريان الاستصحاب
بحسب ظواهر الأدلة كون الشك الذي لا يجوز النقض به شكا في البقاء، والارتفاع في
زمان واحد، والمقام ليس كذلك، إذ كل واحد من الحادثين إذا لو حظ في الأزمنة، يظهر
انه لا شك في زمان واحد في بقائه وارتفاعه، إذ الساعة الثالثة التي هي زمان الشك، في
البقاء لا يحتمل ارتفاعه، والساعة الأولى التي هي زمان حدوث أحدهما لا شك في
الارتفاع، بل زمان الشك في الارتفاع هو الساعة الثانية التي هي زمان حدوث الآخر،
وفى ذلك الزمان لاشك في البقاء إذ هو اما وجد فيه أو ارتفع فزمان الشك في البقاء
غير زمان الشك في الارتفاع.
وفيه: ان اعتبار هذا القيد لا يستفاد من النصوص، ولا دليل آخر عليه فلا وجه
لاعتباره.
وقد ذكروا لعدم جريان الأصل في مجهولي التاريخ وجوها اخر ضعيفة يظهر وجه
ضعفها مما ذكرناه، لرجوعها إلى بعض الوجوه المتقدمة والاختلاف انما يكون في
التعبير، فتحصل ان الأقوى جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ.
ثم انه بعد تعارض الأصلين الجاريين فيهما وتساقطهما، قد يقال انه يرجع إلى
استصحاب نفس الحالة السابقة على الحالتين لو كانت معلومة.
وفيه: ان الحالة السابقة مرتفعة قطعا للعلم بحدوث ضدها.
وقد يقال انه حيث يعلم بحدوث ضد الحالة السابقة، ويشك في ارتفاعه
فيستصحب، ولا يعارضه استصحاب نفس الحالة السابقة للعلم بارتفاعها، ولا استصحاب
مثلها إذ لا علم بحدوثه، لاحتمال تعاقب المتجانسين، فلو كانت الحالة السابقة هي
الحدث، وعلم بوقوع حدث، ووضوء، وجهل تاريخهما، فالحدث الأول مرتفع قطعا،
145

وحيث انه يحتمل تقدم الحدث الثاني على الوضوء، فلا علم بتحقق فرد آخر منه، وهذا
بخلاف الوضوء فيستصحب ما علم تحققه وهو الطهارة.
وفيه: انه قد مر في التنبيه الثالث من جريان الاستصحاب في القسم الرابع من اقسام
استصحاب الكلى كما في الحدث في المقام، فراجع فيعارض مع استصحاب الطهارة.
واما المورد الثاني: فعن جماعة من المحققين اختيار جريان الأصل في خصوص
معلوم التاريخ، وعدم جريانه في مجهوله، وقد مر ما يمكن ان يستدل به له وضعفه.
وذهب جماعة آخرون منهم الشيخ الأعظم (ره) إلى عدم جريان الأصل في معلوم
التاريخ.
واستدل له: بان استصحاب عدم تحقق مجهول التاريخ إلى زمان العلم بتحقق
الآخر يقتضى تأخره عنه، فلو علم أنه توضأ في أول الزوال، وعلم أيضا بالحدث، وشك
في تقدم الحدث على الوضوء، وتأخره عنه يجرى استصحاب عدم الحدث، إلى زمان
الوضوء، وهو يقتضى تأخر الحدث عن الوضوء.
وفيه: ان هذا الأصل لا يترتب عليه هذا الأثر، الا على القول بالأصل المثبت،
لفرض ترتب الأثر على تأخر الحدث عن الوضوء، ليكون رافعا لاثره، ولا يثبت ذلك
باستصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء.
فتحصل ان الأظهر جريان الأصل في كل منهما في نفسه وتعارض الأصلين لو
علم بهما وشك في المتقدم منهما والمتأخر، من غير فرق بين الجهل بتاريخهما، وبين ما
لو علم تاريخ أحدهما، ففي المثال، لابد من الوضوء لقاعدة الاشتغال.
جريان الاستصحاب في الاعتقاديات
الثاني عشر: في جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقادية المطلوب فيها العلم
واليقين، كالنبوة والإمامة وأطال الشيخ الكلام في هذا التنبيه، وملخص القول، انه يقع
الكلام في جهات.
146

الأولى: انه يعتبر في الاستصحاب زايدا على اليقين والشك وكون المستصحب
حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي، أمران آخران، أحدهما ترتب اثر عملي عليه،
ولا يكفي مجرد الأثر الشرعي في جريانه، اما على المختار من أن المجعول فيه الجري
العملي فواضح، فإنه بدونه يلزم اللغوية من التعبد به، واما على مسلك المشهور من جعل
الحكم المماثل فللانصراف، فان هذه الأصول أصول عملية أي مقررة للشاك وظيفة له
في مقام العمل، فمع عدم الأثر العملي لا يجرى، وبالجملة جعل الحكم انما هو للعمل
والا يكون لغوا.
نعم لا فرق بين كون العمل عملا جارحيا أو جانحيا، كالتسليم، والانقياد، والبناء،
وما شاكل، ومجرد تسمية بعض الأفعال بالأصول لا يكون مانعا عن ذلك.
وبما ذكرناه ظهر ما في ما افاده الشيخ الأعظم من أنه لا يجرى الاستصحاب في
الاعتقاديات مطلقا مستدلا له: بان الاستصحاب ان اخذ من الاخبار فهو لا يكون رافعا
للشك، بل مؤداها الحكم على ما كان معمولا به على تقدير اليقين به، والمفروض ان
وجوب الاعتقاد بشئ على تقدير اليقين به، لا يمكن الحكم به عند الشك، لزوال
الاعتقاد فلا يعقل التكليف وان كان حجة من باب الظن فلا ظن بالبقاء أولا، ولا دليل على
حجيته ثانيا.
ورتب عليه انه لو شك في نسخ الشريعة لا يصح الاستدلال بالاستصحاب، لبقائها،
وأضاف ان الدليل النقلي الدال عليه لا يجدى لعدم ثبوت الشريعة السابقة ولا اللاحقة.
وجه الظهور: انه قد عرفت ان المعتبر في الاستصحاب ترتب اثر عملي عليه كان
ذلك من الأعمال الجوانحية أو الجوارحية، والاعتقاد من القسم الأول، والنسبة بينه وبين
اليقين عموم من وجه فإنه، قد يكون القطع موجودا ولا اعتقاد كما ينبئ عنه قوله تعالى
(وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)، وقد يكون الاعتقاد والبناء موجودا ولا قطع كما في
موارد التشريع وقد يجتمعان.
نعم، في الاعتقاديات التي يعتبر فيها اليقين لا يجرى الاستصحاب، لأنه لا يصلح
للقيام مقام العلم الموضوعي، وان شئت قلت إنه في الاستصحاب مع حفظ الشك يكون
147

التعبد بالمتيقن، وهو لا يزيل الشك، فلو كان الموضوع مما يعتبر فهي العلم فيه شرعا، أو
عقلا، فلا يجرى الاستصحاب لعدم ثبوت الموضوع به، الا إذا كان العلم مأخوذا في
الموضوع بما انه مقتض للجري العملي، ولعله يكون باب الشهادة من هذا القبيل، وهذا
لا يختص بالاعمال الجوانحية بل في الأعمال الجوارحية أيضا كذلك.
مع، انه إذا كان الاستصحاب حجة في كلتا الشريعتين يعتمد عليه للعلم بحجيته
حينئذ، بل يمكن ان يقال ان حجيته في الشريعة اللاحقة تكفى إذ لو كان الثابت هو
الشريعة السابقة فهو، ولو كان هي اللاحقة، فمقتضى حجية الاستصحاب البناء على بقاء
الأولى فتأمل.
الجهة الثانية: في استصحاب النبوة، والكلام فيها، تارة في أنه هل يتصور الشك
في بقائها أم لا؟ وأخرى في أنه ما ذا يترتب على استصحابها، وثالثة في جريانه.
اما من الناحية الأولى: فالحق ان النبوة ان كانت من الصفات الواقعية، ومرتبة عالية
من الكمالات النفسانية، وهي صيرورة نفس النبي (ص) بحيث تتلقى الاحكام الدينية،
والمعارف الإلهية، من المبدأ الأعلى بلا توسط بشر فلا يتصور الشك في بقائها، إذ
الموت لو لم يوجب قوة هذه الملكة الراسخة لا يوجب ضعفها، ومجيئ نبي آخر، ولو
كان أكمل لا يوجب زوالها، إذ كمال شخص، لا يوجب زوال كمال الآخر، واما انحطاط
نفسه المقدسة عن هذه الدرجة، فبما ان هذه الملكة لها درجة المعرفة الشهودية فلا يعقل
زوالها.
وان كانت من الأمور الاعتبارية المجعولة، يتصور الشك في بقائها كما لا يخفى.
واما من الناحية الثانية: فعلى فرض الشك في النبوة لا يترتب على استصحابها
وجوب التصديق بما جاء به، لأنه من آثار نبوته السابقة لا الفعلية، ولا بقاء احكام شريعته
الشرعية، لما تقدم من جريان الاستصحاب فيها حتى بناءا على نسخ الشريعة، مع أنه لو
سلم ان معنى نسخ الشريعة نسخ جميع أحكامها لا يترتب هذا الأثر على استصحابها، لان
بقائها ليس من آثار بقاء نبوته بل من آثار عدم مجيئ نبي آخر بشريعة أخرى، بل اثره
وجوب الاعتقاد بنبوته، وعليه فان كان المعتبر هو الاعتقاد بها يجرى الاستصحاب،
148

ويترتب عليه هذا الأثر، وان كان هو المعرفة والقطع فلا يجرى لما مر، وبه يظهر الكلام من
الناحية الثالثة.
ثم انه لا فرق في جريان الاستصحاب وعدمه على كلا الشقين بين كون النبوة من
الصفات الواقعية أم كانت من الأمور الاعتبارية: إذ بناءا على أن يكون المعتبر هو القطع
بها، فاستصحابها على القول بكونها من الأمور الاعتبارية وان كان استصحاب حكم
شرعي، ولا يحتاج في جريانه إلى ترتب اثر آخر لكن لا يجرى، لعدم ترتب اثر عملي عليه.
وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات المحقق الخراساني في المقام فإنه قال إن النبوة ان
كانت من الأمور الواقعية لم يجر الأصل فيها لعدم الشك فيها أولا، ولعدم ترتب الأثر
عليه ثانيا، ولو كان من الأمور الجعلية جرى فيها الأصل.
فإنه يرد عليه أولا ان الأثر المترتب عليه، وان لم يكن هو وجوب التصديق بما جاء
به، ولا بقاء احكامه ولكن اثره وجوب الاعتقاد، وثانيا ان التفصيل في غير محله: فإنه ان
كفى الأصل في لزوم الاعتقاد لما كان فرق بين المسلكين، وان لم يكف فكما انه على
فرض كونها من الأمور الواقعية لم يجر الاستصحاب لعدم الأثر كذلك على فرض كونها
مجعولة لا يجرى، لعدم الأثر العملي الذي قد عرفت اعتبار وجوده في جريان
الاستصحاب.
حول تمسك الكتابي بالاستصحاب
الجهة الثالثة: ان المنقول عن الشيخ الأعظم انه حكى المناظرة الواقعة بين السيد
العلامة السيد باقر القزويني وبين عالم يهودي في قرية تسمى بذى الكفل، وقد تمسك
الكتابي بالاستصحاب قائلا ان موسى بن عمران شخص واحدا ادعى النبوة واعترف
المسلمون وأهل الكتاب بنبوته فعلى المسلمين الاعتراف بنبوته ما لم يثبت نسخ نبوته،
وذكر الأصحاب في الجواب عنه وجوها.
الأول: ما نقله الشيخ عن بعض الفضلاء والظاهر أنه السيد القزويني، وهو انا نؤمن
149

ونعترف بنبوة كل موسى وعيسى أقر بنبوة نبينا (ص) وكافر بنبوة كل من لم يقر بذلك وهذا
مضمون ما ذكره مولانا الرضا (ع) في جواب الجاثليق.
ثم إن الشيخ قال وهذا الجواب بظاهره مخدوش، بما عن الكتابي من أن موسى بن
عمران أو عيسى بن مريم شخص واحد وجزئي حقيقي اعترف المسلمون وأهل الكتاب
بنبوته فعلى المسلمين اثبات نسخها.
ولكن الظاهر أن هذا الجواب أمتن ما في الباب، وذلك فإنه بعد مالا ريب في أن
منشأ اعتراف المسلمين بنبوة عيسى مثلا ليس هو النظر إلى معجزاته، لعدم وجود المعجزة
الخالدة، له، ولا الخبر المتواتر: فان الحواريين على ما قيل محصورون غير بالغين حد
التواتر، فينحصر الطريق باخبار نبينا (ص): وهو كما أخبر بنبوته أخبر بأنه أخبر بمجيئ
نبينا (ص)، فهذا وصف عنواني مشير إلى ذلك الشخص الخارجي، فكما يقال انه ولد بغير
أب، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأحيى الموتى، يقال انه أخبر بمجيئ نبينا (ص) فالمتيقن ثبوته
هو نبوة عيسى أو موسى الذي له أوصاف منها هذا الوصف، واما غيره ممن لم يخبر فلا
نعرفه نبيا، وهذا واضح.
ثم إن الإمام (ع) علم طريق هذه المناظرة بمناظرته مع جاثليق، ولكنه اعترض عليه
بان طريق معرفة غيرك هو ذلك واما أنت فتدعي العلم من غير الطرق العادية، بما تقدم
فأنت معترف بنبوة عيسى من غير هذا الطريق، وتدعي انه أخبر بمجيئ نبيكم فعليك
اثبات ذلك، فاجابه الإمام (ع) بقوله الآن جئت بالنصفة ثم اخذ في مقام اثبات ذلك.
الثاني: ما افاده المحقق الخراساني وهو مأخوذ من كلمات الشيخ الأعظم (ره)،
وحاصله: ان جواب الكتابي - اما الزامي - أو اقناعي والأول غير صحيح لأنه لا يلزم به
الخصم الا مع الاعتراف بالشك والمسلم قاطع بنسخ نبوة موسى وعيسى، لا شاك فيه،
فلا يمكن الزامه، والثاني باطل لوجهين: أحدهما لزوم الفحص وعدم اجراء الأصل قبله،
ثانيهما: انه دليل عقلي ولا نقلي على حجيته وثبوت حجيته في الشريعة اللاحقة
لا يجدى للزوم العمل به المحال.
وفيه: ان الكتابي يدعى الفحص ويقول انى الآن في حال الفحص فلم يثبت لي،
150

وثبوته في الشريعتين يكفي في التمسك به كما مر فلا اشكال عليه، وبما ذكرناه ظهر ما في
بقية الأجوبة.
حول استصحاب الحكم المخصص
الثالث عشر: إذا ورد عام افرادي متضمن للعموم الازماني، وخصص ذلك
بخروج بعض افراد العام عن الحكم في قطعة من الزمان، ثم شك في أن خروجه عنه
مختص بتلك القطعة، أو انه يعم جميع الأزمنة، فهل يرجع في زمان الشك إلى عموم
العام، أو إلى استصحاب حكم المخصص.
مثال ذلك قوله تعالى (أوفوا بالعقود) (1) حيث إنه خرج عنه البيع الغبني بعد ظهور
الغبن، ويشك في أن خيار الغبن للفور أو التراخي، فإنه بعد الزمان الأول الثابت فيه الخيار
قطعا يشك في بقائه، فهل المرجع استصحاب الخيار، أو عموم الآية الكريمة، وتنقيح
القول يقتضى تقديم أمور.
الأول: انه ليس البحث في المقام في تقديم العموم، أو الاستصحاب عند
التعارض، فإنه لا كلام في تقديم أضعف الامارات على أقوى الأصول كما سيأتي وجهه،
بل النزاع في المقام انما هو في أن المورد مورد للتمسك بالعام فلا مورد للاستصحاب، أم
يكون من موارد الرجوع إلى حكم المخصص وليس من موارد الرجوع إلى عموم الدليل،
أم لا يكون مورد الشئ منهما، فالنزاع صغروي.
الثاني: ان الأصل في الزمان كونه ظرفا للزماني، ما لم يقم دليل على كونه قيدا
للتكليف أو المتعلق، وذلك لان كل موجود له إضافة إلى الزمان، والى المكان، لاحتياج
غير المجردات إليهما، واضافته إلى الزمان يسمى، بمتى، واضافته إلى المكان يسمى باين،
وهاتان الإضافتان، لا تفردان الموجودات ولا تكثراها الا بحسب العوارض، والا ذات

1 - المائدة / 2.
151

الجوهر مثلا لا يختلف بهما، فزيد على السطح، عين الزيد تحت السقف، وبالجملة تفرد
الشئ بهما يحتاج إلى عناية زايدة، والا فبحسب الطبع لا تكونان متكثرتين.
الثالث: ان الزمان في دليل العام، ربما يكون قيدا للحكم، أو المتعلق، وربما يكون
ظرفا لأحدهما، وعلى الأول قد يكون مجموع الآنات ملحوظة على وجه الارتباطية،
ويجعل المجموع قيدا واحدا كالعام المجموعي، بحيث لو خلا آن واحد عن وجود
المتعلق، أو الحكم انتفى رأسا، ومن هذا القبيل باب الصوم، حيث إن الامساك في
مجموع آنات النهار واجب واحد والمجموع قيد واحد بحيث لو أفطر في آن من النهار
لم يمتثل أصلا، وقد يكون كل آن مأخوذا قيدا مستقلا بنحو يتكرر المقيد بتكرر آنات
الزمان، ويصير الموضوع الوحداني الخارجي باعتبار تعدد الآنات موضوعات متعددة
يتبعها احكام عديدة كما في العام الاستغراقي كما لو قال اكرام العلماء في كل يوم،
واستفيد منه ان لكل يوم حكم مستقل في مقابل اليوم الآخر ولو أكرم عالما في يوم، ولم
يكرم في اليوم الثاني، فقد أطاع وعصى، وبالجملة كما أن العام الذي له عموم افرادي،
ينقسم إلى العام المجموعي، والاستغراقي كذلك العام الذي له عموم أزماني.
الرابع: ان الشقوق الثلاثة التي ذكرناها في دليل العام تجرى في دليل المخصص،
إذ فيه أيضا، ربما يكون الزمان ظرفا، وربما يكون قيدا، وعلى الثاني ربما يؤخذ الأزمنة
قيدا على وجه الارتباطية، وربما يؤخذ قيدا على وجه الاستقلالية وكل زمان قيدا مستقلا.
الخامس: ان اعتبار العموم الزماني بنحو القيدية أو الظرفية، لنفس الحكم، أو
لمتعلقه لابد وأن يكون لقيام الدليل عليه كما مر، وهذا لا كلام فيه.
كما لا كلام في أنه ربما يكون الدليل الدال عليه، هو الدليل الخارجي، كقوله (ع)
(حلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة) (1).
ولا كلام أيضا في أنه إذا كان مصب العموم متعلق الحكم، يمكن ان يكون نفس
دليل الحكم متكفلا لبيانه اما بالنصوصية، كما لو قال: أكرم زيدا في كل يوم. أو بالاطلاق

1 - أصول الكافي باب البدع والرأي والمقائيس حديث 19.
152

ومقدمات الحكمة، وذلك انما يكون فيما إذا لزم من عدم العموم الزماني، لغوية الحكم
وخلو تشريعه عن الفائدة كما في قوله تعالى (أوفوا بالعقود) إذ لا فائدة في وجوب الوفاء
بكل عقد في الجملة.
انما الكلام في أنه إذا كان مصب العموم الزماني نفس الحكم، فهل يمكن ان
يكون الدليل المتكفل لبيانه هو نفس دليل الحكم أم لا؟
ذهب المحقق النائيني (ره) إلى الثاني وملخص ما افاده في وجه ذلك، ان استمرار
الحكم ودوامه فرع وجوده، فنسبة الحكم إليه نسبة الموضوع إلى الحكم، والمعروض
إلى العرض، وما كان كذلك يستحيل ان يكون الدليل المتكفل لجعل الحكم متكفلا
للامر المتأخر عن جعله، وبالجملة العموم الزماني الذي مصبه المتعلق، يكون تحت دائرة
الحكم، فيمكن تكفل دليل الحكم لبيانه، ويكون مطلقا بالإضافة إليه، واما العموم الزماني
الذي يكون مصبه الحكم، فهو يكون فوق دائرة الحكم، فلا يكون الدليل المتكفل لبيان
الحكم متكفلا لبيانه، فلا اطلاق له بالإضافة إليه، فاطلاقه بالنسبة إليه يحتاج إلى قيام دليل
آخر.
ثم انه رتب على ذلك أنه عند الشك في التخصيص وخروج بعض الأزمنة يصح
التمسك بالعموم الزماني الذي دل عليه دليل الحكم، بخلاف ما إذا كان مصبه نفس
الحكم فإنه لا يجوز التمسك بدليل الحكم لفرض عدم الاطلاق له، وعدم تكفله لبيان
استمراره، ولا بما دل عليه عموم أزمنة وجوده، إذ الدليل المتكفل لجعل الاستمرار، انما
يكون بنحو القضية الحقيقية التي موضوعها الحكم، ومحمولها الاستمرار، ومن الواضح
ترتب المحمول على الموضوع، فمع الشك في ثبوت الموضوع، لا مجال للتمسك
بعموم دليل المحمول، وعليه فلا مورد حينئذ للرجوع إلى العموم المزبور، وعلى ذلك
حمل كلام الشيخ الأعظم (ره).
أقول: يرد عليه أمران، الأول: يرد على ما افاده من عدم امكان تكفل دليل الحكم
لبيان العموم الزماني الذي مصبه الحكم: ان استمرار الشئ وبقائه ليس عبارة عن عروض
عارض على وجوده، بل هو عبارة عن سعة دائرة وجوده بعد حدوثه، فهما واحد، بل
153

التعدد مستلزم لعدم البقاء: إذ لا تعدد الا مع فرض تخلل العدم، ومعه يكون الثاني حادثا
آخر لا بقاءا للحادث الأول، وعلى الجملة عنوان لموجود
واحد باعتبار عدم عروض العدم عليه، كما أن الحدوث عنوان له باعتبار سبقه بالعدم.
ولا فرق في ذلك بين الموجودات الخارجية التكوينية، والاعتبارية الشرعية،
والشارع الأقدس، كما يجعل الزوجية الموقتة، كذلك يجعل الزوجية الدائمية بجعل
واحد، بل لا يعقل جعله بجعل آخر، فان تعدد الجعل يستدعى تعدد المجعول وقد عرفت
ان التعدد ينافي البقاء، وعليه فيمكن تكفل نفس ذلك الدليل لبيانه، نعم، ما ذكره (ره) يتم
في استمرار الجعل، فان الجعل بالنسبة إليه من قبيل الموضوع، ولا يمكن تكفل الدليل
الدال عليه متكفلا لاستمراره، ولكن محل الكلام استمرار المجعول، وتكفل الدليل لبيان
استمراره، ممكن كما عرفت.
الثاني: ما افاده (ره) من عدم امكان التمسك بالدليل المتكفل لبيان الاستمرار: فإنه
يرد عليه ان الاستمرار وان كان فرع الثبوت الا انه فرع الثبوت في الجملة، لا فرع ثبوته في
الأزمنة المتأخرة: إذ ثبوته فيها عين استمراره وبقائه، لا انه مما يتفرع عليه الاستمرار
والبقاء، وعليه فحيث ان المفروض وجود العموم الافرادي، فإذا شك في استمرار
الحكم الثابت لفرد لا مانع من هذه الجهة من التمسك بعموم الدليل المتكفل لبيان
العموم الزماني.
اللهم الا ان يقال بعد انقطاع حكم هذا الفرد وخروجه عن تحت العام، البناء على
شمول العام له معناه ثبوت الحكم ثانيا وحدوثه لا استمرار ما ثبت أولا، فدليل الاستمرار
لا يصلح لاثبات ذلك فتدبر فإنه دقيق.
إذا عرفت هذه الأمور وعرفت عدم تمامية ما ذهب إليه المحقق النائيني (ره)، فاعلم أن
الشيخ الأعظم (ره) اختار ان المرجع هو العام فيما إذا كان له عموم أزماني، وكان كل
زمان موضوعا مستقلا لحكم مستقل لينحل العموم إلى احكام عديدة بتعدد الزمان، بل لو
لم يكن هناك عموم لما كان وجه للرجوع إلى الاستصحاب، والمرجع هو الاستصحاب
فيما إذا كان الزمان مأخوذا لبيان الاستمرار فإنه لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد
154

ذلك الزمان تخصيص زايد على التخصيص المعلوم، لان مورد التخصيص الافراد دون
الأزمان، بل لو لم يكن هناك استصحاب كان المرجع غيره من الأصول العملية دون
العام.
وأورد عليه المحقق الخراساني، بأنه في المورد الثاني، ان كان المأخوذ في
المخصص، الزمان مفردا، لا ظرفا لاستمرار الحكم، لا يجرى الاستصحاب، لأنه من قبيل
اسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، كما أنه في ذلك المورد إذا كان المخصص
يخرج الفرد عن تحت العام من الأول، كما في خيار المجلس الثابت من أول العقد،
الموجب لخروجه عن تحت عموم أوفوا بالعقود، يتمسك بعموم العام بعد زمان اليقين
بالخروج، فلو شك في بقاء خيار المجلس، يتمسك بعموم أوفوا بالعقود، والا لزم
اخراج أحد افراد العام عن تحت عمومه بلا وجه، نعم يتم ما ذكره فيما إذا كان المخصص
من الوسط كما في خيار الغبن الثابت بعد ظهور الغبن.
فالمتحصل مما افاده المحقق الخراساني ان الزمان قد يكون قيدا للعام، وظرفا
للخاص، وقد يكون قيدا لهما، وقد يكون ظرفا لهما، وقد يكون ظرفا للعام وقيدا للخاص.
ففي المورد الأول: المرجع هو عموم العام، وان لم يكن فالاستصحاب، وفى
المورد الثاني المرجع عموم العام، وان لم يكن فلا مورد للاستصحاب، وفى المورد
الثالث، لا مجال للتمسك بالعام الا إذا كان المخصص من الأول، ويكون المرجع هو
الاستصحاب، وفى المورد الرابع، لا يكون المرجع عموم العام، ولا الاستصحاب. نعم،
إذا كان المخصص من الأول يتمسك بعموم العام.
وهذا في بادي النظر وان كان متينا، الا ان دقيق النظر يقتضى خلافه: فان الحق عدم
جريان الاستصحاب في شئ من الموارد، وكون جميعها من موارد التمسك بالعام، الا
إذا كان دليل العام المتكفل لاثبات الحكم لكل فرد ناظرا إلى حيث وحدة الحكم
وتشخصه بنحو غير قابل للتكثر ولو تحليلا، مع كون التقطيع من الوسط، فلنا دعا وثلاث.
اما الأولى: أي عدم جريان الاستصحاب فقد مر تحقيقه في أول هذا المبحث
وعرفت ان استصحاب الحكم الكلى محكوم لاستصحاب عدم الجعل.
155

واما الثانية: وهي كون المرجع عموم العام، ففيما كان الزمان قيدا واضح، وأما إذا
كان ظرفا، فيبتنى على بيان مقدمات، الأولى: ان الاطلاق هو رفض القيود لا الجمع بينها
الثانية: ان العام الذي اخذ الزمان ظرفا لاستمرار حكمه كقوله تعالى: أوفوا بالعقود، له
حيثيتان، إحداهما: عمومه وشموله لكل فرد من الافراد، ثانيتهما: اطلاقه الازماني بمعنى
ان مقتضى اطلاقه استمرار الحكم الثابت لكل فرد في الزمان المستمر. الثالثة: ان المطلق
إذا خرج منه فرد بقى الباقي تحته بنفس الظهور الذي استقر فيه أولا.
إذا عرفت هذه المقدمات تعرف انه بعد مضى زمان التخصيص يتمسك بعموم
العام لا بحيثية عمومه بل بحيثية اطلاقه بلا فرق بينه وبين ساير المطلقات.
وما ذكره صاحب الدرر (ره) في مقام الفرق، بان ساير المطلقات لها جهات عرضية،
ككون الرقبة مؤمنة أو كافرة، والحكم انما تعلق به بلحاظها، فإذا خرج شئ بقى الباقي
بنفس ذلك الظهور، وهذا بخلاف ما نحن فيه، إذ الزمان الواحد المستمر ليس له افراد
متكثرة متباينة، الا ان يقطع بالملاحظة، وجعل كل من قطعاته ملحوظا في القضية،
وملاحظته كذلك خلف، فلا معنى لاطلاقه من تلك الجهات حتى يكون خروج جهة،
غير مناف لبقاء الجهات الاخر، بل معنى اطلاقه عدم تقييد الحكم بزمان خاص ولازمه
الاستمرار من أول وجود الفرد إلى آخره، فإذا انقطع الاستمرار بخروج فرد في زمان
فليس لهذا العام المفروض، دلالة على دخول ذلك الفرد بعد ذلك الزمان، إذ لو كان
داخلا لم يكن ذلك استمرارا للحكم السابق، وليس هو فردا آخر حتى يشمله العموم
بعمومه الافرادي.
يندفع: بما ذكرناه في المقدمة الأولى، من أن معنى الاطلاق مطلقا، رفض القيود،
لا الجمع بينها، فاطلاق الدليل بالنسبة إلى الأزمنة الذي معناه عدم دخل خصوصياته في
الحكم، لا يكون خلفا، وعليه فيتمسك بالعام، لا بحيثية عمومه كي يقال انه ليس فردا
آخر بل بحيثية اطلاقه.
كما أن دعوى ان المطلق له ظهور واحد في معنى واحد مستمر فإذا انقطع لا ظهور
يتمسك به.
156

مندفعة بان التقييد انما يكون بالنسبة إلى المراد الجدي لقيام حجة أقوى من الحجة
المزبورة، فلا ينثلم به ذلك الظهور الواحد.
فان قيل إن ثبوت الحكم بعد ذلك الزمان ليس استمرارا للحكم الأول، بل هو
حكم آخر فيلزم تعدد الواحد.
أجبنا عنه بان معنى استمراره الثابت بالاطلاق المزبور ليس استمراره خارجا، بل
جعل ظرف واحد لهذا الحكم الوحداني لا جعل حصتين من طبيعي الظرف فتدبر فإنه
دقيق.
فالمتحصل مما ذكرناه ان الأظهر هو التمسك باطلاق العام في جميع الموارد
الأربعة.
واما الدعوى الثالثة: فوجهها واضح لان الشئ لا يبقى على وحدته الشخصية بعد
تخلل العدم في البين، فلو تمسك بالعام لزم ثبوت حكم آخر بعد زمان التخصيص وهذا
خلف الفرض.
جريان الاستصحاب مع الظن بالخلاف
الرابع عشر: الظاهر أن الشك الذي اخذ في موضوع الاستصحاب، في اخبار الباب
وكلمات الأصحاب هو خلاف اليقين، فيجرى الاستصحاب مع الظن غير المعتبر
بالخلاف.
واستدل له بوجوه الأول: الاجماع، وفيه أولا: ان جماعة من الأصحاب لا يرون
الاستصحاب حجة، وجماعة يرونه حجة من باب الظن لا الاخبار، وهم لا يرونه حجة مع
الظن بالخلاف، فالاجماع لا يكون ثابتا، اللهم الا ان يقال عليه الاجماع التعليقي أي على
فرض اعتباره من الاخبار يقولون بأنه حجة مع الظن بالخلاف أيضا، وهو كما ترى، وثانيا،
انه يمكن ان يكون مستند المجمعين بعض الوجوه الاخر فلا يكون اجماع تعبدي كاشف
عن رأى المعصوم (ع).
157

الثاني: ان الظن غير المعتبر ان علم بعدم اعتباره فمعناه ان وجوده كعدمه وان كلما
يترتب على عدمه يترتب على وجوده، وإذا شك في اعتباره وعدمه يكون رفع اليد عن
الحالة السابقة لأجله نقضا لليقين بالشك.
وفيه: ان معنى عدم اعتبار الظن ان المظنون لا يثبت به لا ترتيب آثار الشك عليه،
واما ما ذكر في المشكوك اعتباره، فيرد عليه ان صدق نقض اليقين بالشك يتوقف على
وحدة متعلقهما، وفى صورة التعدد كما في المقام، حيث إن متعلق اليقين هو الحكم،
ومتعلق الشك حجية الظن، لا يصدق.
الثالث: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو ان المراد باليقين في نصوص الباب هو
الاحراز، والشك الذي في مقابله أريد به التحير، فمفاد الروايات ان من كان محرزا لشئ
يبنى عليه ما لم يحرز خلافه.
وفيه: أولا ان هذا خلاف ظاهر لفظي اليقين والشك، وثانيا: ان لازم ذلك الالتزام
بالورود في المسألة الآتية، وهي تعارض الامارات والاستصحاب كما هو واضح مع أنه
(قده) ملتزم بالحكومة.
فالصحيح ان يقال ان المراد من الشك في النصوص خلاف اليقين لوجوه. 1 - ان
جماعة من اللغويين كأصحاب الصحاح، والقاموس، والمجمع، وغيرها، صرحوا بان
ذلك معناه لغة، والظاهر أنه في لسان الشارع الأقدس استعمل في معناه اللغوي،
وتخصيص الشك بالاحتمال المتساوي الطرفين اصطلاح حادث بين العلماء، وليست
الاستعمالات الشرعية جارية على طبقه، والشاهد لذلك ان الوهم في اصطلاحهم هو
الاحتمال المرجوح، مع أنه أطلق الوهم في صحيح الحلبي الوارد فيمن شك في أنه صلى
ثلاثا أو أربعا في الظن، قال (ع) وان ذهب وهمك إلى الثلاث، فقم فصل الرابعة (1).
2 - قوله (ع) في الصحيح الأول لا حتى يستيقن انه قد نام حتى يجيئ من ذلك امر
بين والا فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك ابدا ولكن ينقضه بيقين

1 - الوسائل باب 10 من أبواب الخلل كتاب الصلاة حديث 5.
158

آخر (1) فان المستفاد منه انحصار جواز نقض اليقين في اليقين، وانه لا يجوز رفع اليد عن
اليقين بغير اليقين من مراتب الاحتمال.
3 - عدم استفصاله (ع) في الصحيح بين ما إذا أفاد تحريك شئ في جنبه وهو
لا يعلم، بين كون الاحتمال وعدم العلم متساوي الطرفين أم لا فقد أجاب عما سأله الراوي
عما إذا حرك في جنبه شئ وهو لا يعلم، بقوله لا حتى يستيقن انه قد نام (2).
ويؤيده استعماله فيه في غير واحد من الروايات في باب شكوك الصلاة، بلا قرينة.
فالمتحصل مما ذكرناه جريان الاستصحاب مع الظن بالخلاف.
حول اعتبار بقاء الموضوع
ثم إن خاتمة الكلام في الاستصحاب انما هي بذكر أمور.
الأول: لا خلاف ولا اشكال في أنه يعتبر في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع،
وتوضيح البحث فيه وتنقيح المرام ببيان أمور.
منها: في الدليل على ذلك، وقد استدل له الشيخ الأعظم، بان بقاء المستصحب
لا في موضوع محال، وكذا في موضوع آخر اما لاستحالة انتقال العرض، واما لان
المتيقن سابقا وجوده في الموضوع السابق والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد
ليس نقضا للمتيقن السابق.
وأورد عليه المحقق الخراساني بان استحالته حقيقة غير مستلزم لاستحالته تعبدا
والالتزام بآثاره شرعا.
ورد هذا الايراد، بأنه كما يستحيل انتقال العرض الخارجي من محل إلى محل
آخر كبقائه بلا محل كذلك يستحيل انتقال الوجوب وغيره من الأحكام الشرعية، وان
شئت قلت إن الوجوب متقوم في النفس بموضوع خاص، وعليه فانشاء ذلك الربط

1 - الوسائل باب 1 من أبواب نواقض الوضوء كتاب الطهارة حديث 1.
2 - المصدر المتقدم.
159

الخاص لغير موضوعه، يستلزم انتقال العرض من محل إلى محل آخر.
ولكن يمكن توجيه ما افاده بان المحال انتقال العرض، واما بيان الحكم بلسان
انتقال العرض فلا محذور فيه، والاستصحاب في اللب والواقع يكون دائما جعلا
للحكم، وبيان ذلك بلسان الا بقاء لا محذور فيه.
ويمكن توجيه كلام الشيخ (ره) بنحو لا يرد عليه هذا الايراد انه مع عدم بقاء
الموضوع لا يجرى الأصل للشك في استعداد العرض المتقوم بالموضوع للبقاء لامتناع
بقاء العرض بلا محل، وانتقاله من محل إلى محل آخر، ومع الشك في الاستعداد
لا يجرى الاستصحاب، وهذا على مبناه تام، ولكن قد مر ضعف المبنى.
فالصحيح ان يستدل له: بأنه مع عدم بقاء الموضوع لا محالة لا تكون القضية
المتيقنة متحدة مع القضية المشكوك فيها ومع عدم اتحاد القضية المتيقنة مع القضية
المشكوك فيها، لا يصدق الابقاء على العمل على طبق الحالة السابقة، والنقض على عدم
العمل على طبقها - مثلا - من كان عالما بعدالة زيد وشك في عدالة ابنه، لا يصدق على
ترتيب آثار العدالة على ابنه ابقاء اليقين، وعلى عدم ترتيبها النقض وهذا من الوضوح
بمكان.
ومنها: بيان المراد من بقاء الموضوع، لا اشكال في أنه ليس المراد بقاء الموضوع
خارجا: إذ لا ريب في جريان الاستصحاب لو كان الشك في ثبوت شئ وبقائه، فان
الموضوع حينئذ نفس الماهية وحيث لا ثبوت لها ولا تقرر فلا يكون لها الحدوث
والبقاء.
بل المراد منه كون القضيتين بنحو يكون متعلق الشك بعينه متعلق اليقين، وهذا
كما يصدق، في الشك في العارض والمحمول، من جهة الشك في طرو المانع مع اليقين
بوجود معروضه، كذلك يصدق عند الشك فيه من جهة الشك في بقاء معروضه،
ويتضح ذلك بذكر وجوه الشك في البقاء، وبيان ما هو الحق فيها.
ونخبة القول في المقام: ان الشك تارة يكون في المحمولات الأولية من الوجود
والعدم، وأخرى، يكون في المحمولات المترتبة، كالقيام والقعود والعدالة ونحوها من
160

المحمولات التي لا تترتب على الشئ الا بعد وجوده.
فان كان الشك في المحمول الأولى، يجرى الاستصحاب، والموضوع في
القضيتين هي الماهية المجردة عن الوجود والعدم، وهي واحدة في القضيتين، وان شئت
قلت: انه لتمامية أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشك اللاحق، وصدق الابقاء
على العمل على طبق اليقين السابق، والنقض على رفع اليد عنه يجرى الاستصحاب: إذ
لا يعتبر فيه سوى ما ذكر شئ.
جريان الاستصحاب في المحمولات الثانوية
وان كان المحمول من المحمولات الثانوية، فقد يكون الشك في البقاء، بعد
احراز ذات الموضوع كما لو علم بحياة زيد، وشك في بقاء عدالته، وقد يكون مع الشك
في بقائه أيضا، لا اشكال في جريان الاستصحاب في القسم الأول.
واما القسم الثاني: فقد يكون الشك في بقاء المحمول مسببا عن الشك في بقاء
الموضوع بحيث لو أحرز الموضوع كان المحمول المترتب محرزا أيضا، كما إذا شك في
بقاء مطهرية الماء للشك في بقاء اطلاقه، وقد لا يكون مسببا عنه، بل كان كل منهما متعلقا
للشك مستقلا كما لو شك في حياة زيد لاحتمال موته، وشك في عدالته على فرض
حياته لاحتمال فسقه.
اما القسم الأول: فتارة يكون ذلك بعد العلم بحقيقة الموضوع وحدوده، وأخرى:
يكون لاجمال الموضوع وعدم تبينه.
اما في الصورة الأولى: فان كان المحمول المترتب من الأحكام الشرعية يجرى
الاستصحاب في الموضوع ويترتب عليه المحمول، ولا يجرى في ذلك المحمول، وان
كان من غيرها، فاستصحاب بقاء الموضوع لا يكفي لعدم كون الترتب شرعيا فلا يترتب
عليه ثبوت المحمول المشكوك ثبوته، فما افاده المحقق النائيني (ره) من أنه لا اشكال في أن
جريان الأصل في الموضوع يغنى عن جريانه في المحمول المترتب لأنه رافع
161

لموضوعه.
غير تام: لعدم كونه رافعا له في غير الأحكام الشرعية.
ولكن يجرى الاستصحاب في نفس المحمول الثانوي ويحكم ببقائه: لان هذا
الموجود الخاص. كعدالة زيد، متيقن سابقا، ومشكوك فيه لاحقا، فالقضية المشكوك
فيها بعينها هي القضية المتيقنة فيجرى الاستصحاب فيها: إذ لا دليل على اعتبار احراز بقاء
الموضوع في جريانه من غير جهة الاتحاد المحرز في المقام.
نعم، بعض الآثار في نفسه يلزم في ترتبه احراز الموضوع كالانفاق، وهذا امر غير
مربوط بالاستصحاب، بل يعتبر احراز الموضوع من جهة احتياج ترتب ذلك الأثر على
احرازه، هذا بناءا على المختار من جريان الاستصحاب في موارد الشك في المقتضى.
واما على مختار الشيخ الأعظم (ره) والمحقق النائيني (ره) من عدم جريانه فيها،
فالظاهر عدم جريان هذا الأصل للشك في استعداد العرض المتقوم بالموضوع للبقاء
لامتناع بقاء العرض بلا محل وانتقاله من محل إلى آخر، ومع الشك في الاستعداد
لا يجرى الاستصحاب.
ولعله إلى هذا نظر الشيخ الأعظم (ره) في الاستدلال بالدليل العقلي لاعتبار بقاء
الموضوع المتقدم كما مر وهو على مسلكه تام.
والغريب ان المحقق النائيني (ره) مع اختياره هذا المسلك، أورد على
الشيخ الأعظم (ره) بان الاستدلال بهذا الدليل تبعيد للمسافة، هذا كله إذا كان موضوع الأثر
ثبوت المحمول الثانوي.
واما ان كان هو وجود الموضوع وثبوت المحمول له، فلا يجرى الاستصحاب إذ
استصحاب بقاء الموضوع، وان كان يجرى الا انه لا يترتب عليه المحمول الثانوي لكونه
من لوازمه غير الشرعية، ولا يجرى في المحمول الثانوي لعدم الشك فيه على تقدير بقاء
الموضوع، ولا يكون هو محرزا بالوجدان، وعليه، فلا يجرى الاستصحاب في هذا
الفرض.
واما في الصورة الثانية: وهي ما إذا كان الموضوع مجملا، كما لو شك في بقاء
162

نجاسة الكلب الذي صار ملحا، من جهة الشك في أن الموضوع للنجاسة ومعروضها، هو
ذات الكلب بما له من المادة الهيولائية المحفوظة في جميع التبدلات، والانقلابات حتى
في حال انقلابه ملحا، أم يكون الموضوع الكلب بصورته النوعية الزائلة عند انقلابه ملحا.
فلا يجرى الاستصحاب لا حكما ولا موضوعا، اما الحكمي فلعدم احراز اتحاد
القضية المتيقنة، مع المشكوك فيها، الذي يدور مدار صدق نقض اليقين بالشك، ومع
عدم الاحراز، يكون التمسك بعموم ما دل على حرمة النقض من باب التمسك بالعام في
الشبهات المصداقية، اما الاستصحاب الموضوعي فلعدم معلوميته وتردده بين ما هو
مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع، واما استصحاب بقاء موضوعية الموضوع، فهو عبارة
أخرى عن استصحاب الحكم، واما استصحاب بقاء موضوع الحكم الذي هو عنوان
عرضي، فلعدم ترتب الأثر عليه، لا يجرى.
واما القسم الثاني: وهو ما لو كان الشك في كل منهما مسببا عن غير سبب الآخر،
كما لو شك في عدالة زيد لاحتمال فسقه مع الشك في حياته أيضا.
فقد ذهب الشيخ الأعظم (ره) وتبعه المحقق النائيني (ره) إلى جريان استصحابين،
أحدهما في الموضوع، والآخر في المحمول، وبضم أحدهما إلى الآخر، يحرز الموضوع
ويترتب عليه حكمه، إذا كان الأثر مترتبا على مجموعهما، وقد التزم في الاستصحاب
الجاري في المحمول كالعدالة في المثال باجرائه فيها على تقدير الحياة، نظرا إلى أنه لو
كان المستصحب العدالة نفسها كان ذلك من الاستصحاب في الشك في المقتضى إذ بعد
ما لم يكن الموضوع لها هو الشخص أعم من كونه حيا، أو ميتا، بل الحي خاصة، لو شك
في الحياة يشك في الموضوع، ومع الشك فيه، بمقتضى البرهان المتقدم يكون من
الشك في المقتضى، فلا يجرى الاستصحاب، وهذا بخلاف ما لو أجرينا الأصل في
العدالة على تقدير الحياة، فإنه على هذا التقدير يكون استعداد المستصحب للبقاء محرزا،
ويكون الشك في الرافع، فإذا أجرينا الأصل في ذلك، وضممنا إلى ذلك الأصل
الجاري في الحياة، المثبت لذلك التقدير، فقد أحرزنا الموضوع للأثر، ويترتب الأثر.
ولكن يرد عليهما ان استعداد المستصحب للبقاء انما يكون محرزا، فيما إذا كان
163

المستصحب العدالة على تقدير الحياة واقعا، لا على تقديرها ولو ظاهرا، إذ الأصل
الجاري في ذلك التقدير لا يصلح لاثبات كون المحمول مما له استعداد البقاء الا على
القول بالأصل المثبت ولا نقول به، وعليه فذلك التقدير لا يحرز بالاستصحاب الجاري
في الموضوع، نعم بناءا على المختار من جريان الاستصحاب في الشك في المقتضى
يجرى الأصلان المشار إليهما، بل لا يحتاج في ترتب الأثر إلى اجراء الأصل في العدالة
على تقدير الحياة، بل في العدالة التي هي موجودة خاصة في نفسها وبضم أحد الأصلين
بالآخر يتم الموضوع ويترتب عليه الأثر.
ملاك اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها
ومنها: بيان ملاك اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها، - وبعبارة
أخرى - ملاك بقاء الموضوع وانه هل هو نظر العقل فلا يجرى مع تغير أي خصوصية
فرضت، أم يكون الملاك نظر العرف، فيكفي الاتحاد العرفي في جريانه، وان لم يكن
متحدا في نظر العقل الفلسفي أم يكون الملاك الاتحاد بحسب الدليل المثبت للحكم؟
والكلام في هذا الامر في موارد 1 - في صحة هذا الترديد 2 - في أنه يختلف الحكم
باختلاف الأنظار، وبيان النسبة بينها 3 - في تعيين ما هو الملاك.
اما المورد الأول: فقد ذكر هذا الترديد الشيخ الأعظم، وأورد عليه بايرادات.
أحدها: ان الرجوع إلى العقل انما يصح في المستقلات العقلية، ولا معنى للرجوع
إليه في الموضوعات الشرعية، لأنه لا سبيل له إليها، لعدم كون مناطات الأحكام الشرعية
بيده فما معنى الرجوع إلى العقل.
ثانيها: ان الشيخ قال إن اخذ الموضوع من العقل لزم البناء على عدم حجية
الاستصحاب في الأحكام الشرعية الا فيما إذا كان الشك في بقاء الحكم ناشئا من
احتمال وجود الرافع، أو الغاية، وهذا بخلاف ما إذا كان الملاك نظر العرف، أو الدليل
المثبت للحكم فإنه لا ينحصر جريانه حينئذ بما ذكر، مع أن بناء الشيخ على عدم جريان
164

الاستصحاب عند الشك في المقتضى مطلقا، فكيف جعل ذلك من ثمرات هذا الترديد.
ثالثها: انه ما معنى المقابلة بين ما اخذ في الدليل موضوعا، وبين ما يراه العرف
موضوعا، فإنه ان أريد من الثاني ما يراه العرف موضوعا بحسب نظره: فيرد عليه انه ليس
مشرعا، وان أريد به ما يتسامح فيه العرف ويراه من مصاديق موضوع الدليل، مع عدم كونه
منها حقيقة، فيرد عليه، ان المسامحات العرفية في تشخيص المصاديق تضرب على
الجدار، بل لابد من احراز صدق المفهوم على المصداق، وان أريد به الرجوع إلى العرف
في تعيين مفهوم اللفظ وتشخيصه فهو وان كان صحيحا، الا ان المراد من موضوع الدليل
أيضا ذلك إذ لا عبرة بالظهور التصوري، ولا بالظهور التصديقي البدوي الزائل، بعد
ملاحظة القرائن قطعا وفى الجميع نظر.
اما الأول فلانه يمكن دفعه بان المراد من الاتحاد بنظر العقل ليس تعيين الموضوع
بنظر العقل، بل المراد اتحاد الموضوع في القضيتين بالدقة العقلية، كما لو علم بوجود زيد
وشك في بقائه فان معروض الوجود بعينه موضوع القضية المشكوك فيها.
واما الثاني: فلا مكان ان ينتصر للشيخ (ره) بان المتيقن قد يكون بحيث لا يبقى في
عمود الزمان بنفسه مع قطع النظر عن حدوث شئ أو ارتفاعه، فلو شك في ذلك يكون
ذلك من الشك في المقتضى، وقد يكون بنفسه باقيا ما لم يرفعه رافع، كالنجاسة، ولو
شك في الرافع يكون ذلك من الشك في الرافع الذي بنى الشيخ (ره) على جريان
الاستصحاب فيه، وهو على قسمين إذ ربما يكون الرافع حدوث امر معدوم وقد يكون
انعدام امر موجود، فلو قلنا بان المتبع في الاتحاد نظر العرف كان الاستصحاب جاريا في
القسمين، ولو قلنا بان المتبع هو العقل لزم جريانه في خصوص القسم الأول.
وبذلك يرتفع التنافي بين كلمات الشيخ (ره) كما أن به يظهر ان مراده من الرافع هو
خصوص القسم الأول فتدبر.
كما أنه بذلك يظهر عدم تمامية ما افاده المحقق الخراساني من أنه لو كان المناط
نظر العقل لما كان سبيل إلى جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية، وكان جاريا في
الموضوعات: فإنه في الاحكام إذا كان منشأ الشك حدوث امر معدوم كالشك في بقاء
165

الطهارة من جهة خروج المذي، كان الاستصحاب جاريا حتى على هذا المسلك، كما أنه
في الموضوعات إذا شك فيها لأجل نقصها مما كانت عليه كالكر المأخوذ منه مقدار من
الماء، لا يجرى الاستصحاب على ذلك.
واما الثالث: فلامكان الجواب عنه بان للعرف نظرين، أحدهما بما هو من أهل فهم
الكلام، ثانيهما بما ارتكز في ذهنه من المناسبات بين الاحكام والموضوعات، على
خلاف ما هو متفاهم الكلام، ما لم يكن بحد يعد من القرائن الحافة بالكلام الموجبة
لصرف الظهور - مثلا - إذا ورد ان الماء المتغير نجس فأهل العرف بالنظر البدوي يرون ان
الموضوع هو الماء بوصف التغير فلو زال تغيره وشك في بقاء النجاسة للماء، تكون
القضية المشكوك فيها غير القضية المتيقنة موضوعا، ولكنه بالنظر الثانوي بعد ملاحظة
مناسبة الحكم والموضوع يرون ان الموضوع هو ذات الماء لما ارتكز في أذهانهم، من أن
النجاسة من عوارض الماء لا هو مع التغير، وعلى هذا فمنشأ الشك في نجاسة الماء بعد
زوال التغير هو احتمال ان يكون التغير واسطة في ثبوت النجاسة للماء حدوثا وبقاءا.
فالمتحصل ان المراد من اعتبار الاتحاد بحسب الدليل المثبت للحكم، ليس هو
الظهور التصوري ولا الظهور التصديقي البدوي الزائل بعد ملاحظة المناسبة المذكورة
كما اختاره المحقق النائيني (ره).
كما ظهر ان المراد من اعتبارا لاتحاد بلحاظ الموضوع العرفي، ليس هو التسامح
في صدق الاتحاد، والنقض والبقاء مع الموضوع الدليلي، حتى يقال ان المسامحات
العرفية تضرب على الجدار، بل المراد هو اتحاد موضوع القضية المشكوك فيها، مع
موضوع القضية المتيقنة، الذي يراه العرف موضوعا بحسب المناسبات المذكورة،
فالاتحاد حقيقي على كل حال.
واما المورد الثاني: فالنسبة بين نظر العقل وغيره واضح، واما النسبة بين نظر العرف
ولسان الدليل فعموم من وجه: لأنه قد يكون الموضوع باقيا بنظرهما، كما إذا ورد الماء إذا
تغير ينجس، فتغير ماء ثم زال تغيره من قبل نفسه، فإنه يشك في بقاء النجاسة،
والموضوع باق بالنظرين، وقد يكون الموضوع باقيا بحسب لسان الدليل دون نظر العرف
166

كما إذا ورد، ان الرجل إذا صار مجتهدا يجوز تقليده، فصار زيد مجتهدا ثم زال اجتهاده
لمرض، فشك في بقاء جواز تقليده، فان الموضوع بنظر العرف هو المجتهد وبزوال
اجتهاده، يكون الموضوع متبدلا، بخلافه بحسب لسان الدليل، وقد يكون الامر بالعكس،
كما إذا ورد الماء المتغير ينجس، فتغير ماء ثم زال تغيره من قبل نفسه.
واما المورد الثالث: فالظاهر أن المتبع هو نظر العرف، وتنقيح القول فيه ان المعاني
ربما تكون حقيقية لا تتفاوت بالقياس إلى موجود آخر، كجملة من الجواهر والاعراض،
وقد تكون إضافية تختلف بالقياس إلى شئ دون آخر، ومن هذا القبيل، الوحدة
والاتحاد والنقض والبقاء، فان الشئ الواحد في فرض الشك ان لوحظ بالقياس إلى
الموضوع العقلي ربما يكون غير متحد معه، ولكن يكون متحدا مع الموضوع العرفي، أو
الدليلي، كما أنه ربما لا يكون متحدا مع الموضوع الدليلي ويكون متحدا مع الموضوع
العرفي.
والظاهر من الخطابات الشرعية منها خطاب لا تنقض كون المناط هو الموضوع
العرفي لا العقلي ولا الدليلي، حتى وان أمكن اطلاق الدليل بالإضافة إلى جميع مراتب
الموضوع من العقلي والدليلي والعرفي، وأمكن الجمع بين الأنظار وكان هناك جامع
مفهومي.
لا من جهة ان الموضوع هو النقض، فيرجع إلى العرف في تحديد هذا المفهوم،
لان هذا المفهوم، مبين من جميع الجهات لا اجمال فيه.
ولا من جهة الرجوع إلى العرف في تطبيقه على مصداقه، فإنه لا عبرة بالمسامحة
العرفية في تطبيق المفهوم على المصداق.
بل من جهة: انه إذا كان للمفهوم مصاديق حقيقية باعتبار اخذ الموضوع الثابت له
الحكم في دليل المتيقن من العرف، أو الدليل، أو العقل، يكون الظاهر من خطاب الشارع
مع العرف الذي بنائه على مخاطبته معهم كأحد منهم، والمفاهمة معهم بالطريقة المألوفة
بين أهل المحاورة والعرف، إرادة ما هو مصداق عرفي فان إرادة غيره منهم تحتاج إلى
نصب ما يدل على تعينه دون ما هو متعين عندهم.
167

وبالجملة كما أن حجية الظاهر تستفاد من كون الشارع في مقام افهام مراداته
يخاطب العرف كأنه أحدهم، كذلك إذا كان للظاهر مصاديق متباينات، كلها من افراد
الظاهر حقيقة، وكان بعض مصاديقه وافراده مصداقا له بنظر العرف، دون الآخر، يستفاد
كون الملاك نظر العرف.
وبما ذكرناه يظهر ضعف ما قيل، من أن صدور خطاب لا تنقض من الشارع، يقتضى
إرادة تحريم نقض اليقين بما هو امر شرعي.
كما أنه يظهر اندفاع، دعوى الاطلاق، من حيث العقلية، والعرفية، والدليلية، إذ
ذلك يصح مع عدم القرينة المعينة لاحد الاعتبارات، وقد عرفت وجودها.
ويظهر أيضا مما ذكرناه، ان مراد صاحب الكفاية من الاطلاق، في قوله، ان قضية
اطلاق خطاب لا تنقض، هو ان يكون بلحاظ الموضوع، هو الاطلاق المقامي، دون
اللفظي
وجه تقدم الامارات على الاستصحاب
الامر الثاني: يعتبر في الاستصحاب ان يكون المستصحب مشكوك البقاء، فلو
أحرز بقائه أو ارتفاعه لا يجرى الاستصحاب، ولا فرق في ذلك بين الاحراز الوجداني أو
التعبدي، وعليه فلا يجرى الاستصحاب مع قيام الطريق على بقاء المستصحب أو ارتفاعه،
وهذا في الجملة مما لا كلام فيه، الا ما يظهر من بعض الفقهاء من البناء على اعمال
التعارض بين الامارات والأصول، وهو ظاهر البطلان مما ذكرناه.
انما الكلام في وجه تقدم الامارات على الأصول، وانه الورود، أو الحكومة،
وقبل التعرض له لابد من تقديم مقدمة.
وهي، الإشارة الاجمالية إلى بيان معنى، الورود، والحكومة وبيان الفرق بينهما
وبين التخصيص، والتخصص، والتوفيق العرفي، فهنا خمسة أمور.
أحدها: الورود وهو عبارة عن كون أحد الدليلين بعد ورود التعبد به رافعا
168

لموضوع دليل الآخر وجدانا وحقيقة، كما في الامارات بالإضافة إلى البراءة العقلية، فان
موضوعها اللابيان، وهذا يرتفع حقيقة بالتعبد بامارة جارية في موردها.
ثانيها: الحكومة وهي عبارة عن كون أحد الدليلين ناظرا إلى الآخر أو صالحا
لذلك، اما بالتصرف في موضوعه سعة، كقوله (ع) الفقاع خمرة استصغرها الناس، أو ضيقا،
كما في قوله لا شك لكثير الشك، أو بالتصرف في محموله بان بلونه بلون ويدل على
ثبوت الحكم في بعض الحالات والموارد، أو بالتصرف في متعلقه سعة كقولنا الضيافة من
الاكرام، أو ضيقا.
ثالثها: التخصيص، وهو عبارة عن اخراج بعض افراد العام عن تحت الحكم من
دون ان يتصرف في عقد الوضع أو عقد الحمل.
رابعها: التخصص وهو ما إذا كان خروج المورد عن تحت دليل الآخر ذاتيا
كخروج الجاهل عن عموم أكرم العلماء.
خامسها: التوفيق العرفي، وسيأتي بيانه كبيان وجه تقدم دليل الحاكم والوارد في
أول مبحث التعادل والترجيح انشاء الله تعالى.
إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أنه قد استدل على أن تقدم الامارة على
الاستصحاب يكون بالورود بوجوه.
الأول: ما افاده المحقق الخراساني في الكفاية، والتعليقة، وحاصله على ما في
التعليقة، ان الشك وان كان باقيا بعد قيام الامارة، لكنه ليس افراد العام هيهنا أي
الاستصحاب هو افراد الشك واليقين، بل افراد نقض اليقين بالشك، وهو المتعلق للنهي،
والدليل المعتبر، وان لم يكن مزيلا للشك، الا انه يكون موجبا لئلا يكون النقض
بالشك، بل بالدليل، ثم أورد على نفسه بان مقتضى قوله (ع) لكن تنقضه بيقين آخر، هو
النهى عن النقض بغير اليقين، والدليل المعتبر غير موجب لليقين مطلقا، وأجاب عنه بان
الدليل موجب لليقين، لا محالة، غاية الامر لا بالعناوين الأولية للأشياء بل بعناوينها الطارئة
الثانوية مثل كونه قام على وجوبه خبر العدل أو قامت البينة على ملكيته إلى غير ذلك من
العناوين الانتزاعية.
169

وفى الكفاية أشار في صدر عبارته إلى الوجه الثاني، وفى ذيل عبارته في الجواب
عن وجه ورود الامارة الموافقة أشار إلى الوجه الأول.
ولكن يرد على الوجه الأول مضافا إلى ما أورده هو (قده) على نفسه، ان المنهى
عنه ليس هو نقض اليقين بداعي الشك، والا لزم جواز نقضه باستدعاء المؤمن مثلا، بل
هو النقض به وفى حال الشك - وبعبارة أخرى - ان المراد بنقض اليقين بالشك ليس
الا رفع اليد عن الحالة السابقة في حال الشك، وبعد قيام الامارة لا يخرج المورد عن
تحت هذا العنوان غايته كونه نقضا لليقين بالشك بواسطة الدليل.
ويرد على الوجه الثاني: أولا ان المجعول في باب الامارات عنده ليس هو جعل
الحكم المماثل بل المنجزية والمعذرية، فلا يقين بالحكم بعنوان قيام الامارة، وثانيا انه
لا ينفع في الامارة القائمة على الموضوع الخارجي كموت زيد، فالعمل بها نقض لحياته
سابقا بغير اليقين، بالخلاف، وثالثا ان الظاهر من الاخبار كون اليقين الناقض هو ما تعلق بما
تعلق به السابق وهو الحكم الواقعي الأولى، دون الظاهري الثابت له بالعنوان الثانوي.
الثالث: ما افاده المحقق اليزدي في درره، وحاصله، ان العلم المأخوذ في
الموضوع، قد يؤخذ على وجه الطريقية، والمراد به ان المعتبر هو الجامع بينه وبين ساير
الطرق المعتبرة، وقد يؤخذ على نحو الصفتية، أي يلاحظ خصوصيته المختصة به دون
ساير الطرق، وهو الكشف التام المانع عن النقيض، وكذلك الشك هنا قد يلاحظ بمعنى
انه عدم الطريق، وقد يلاحظ بمعنى صفة التردد القائمة بالنفس، إذ الشك بمعنى عدم
العلم، فان لوحظ العلم طريقا، فمعنى الشك الذي في قباله، هو عدم الطرق، وان لوحظ
صفة فكذلك، وحيث إن ظاهر أدلة الاستصحاب وساير الأصول كون العلم مأخوذا فيها
طريقا فمفاد قوله (ع) لا تنقض اليقين بالشك، انه في صورة عدم الطريق إلى الواقع يجب
ابقاء ما كان ثابتا بطريق، وإذا دل دليل على حجية امارة يرتفع موضوع الحكم الذي كان
معلقا على عدم الطريق.
وفيه: ان الظاهر من اخذ العلم في الموضوع كونه طريقا تاما لا يحتمل الخلاف،
وحمله على إرادة الجامع بين الطرق المختلفة بحسب المراتب، خلاف الظاهر لا يصار إليه
170

الا بقرينة مفقودة في المقام، بل ظاهر قوله (ع) بل ينقضه بيقين آخر، حصر الناقض في
خصوص ذلك الطريق الذي هو أقوى الطرق لا كل طريق.
وبذلك يظهر اندفاع الوجه الرابع: وهو ان الظاهر من اليقين وان كان هو الاحراز
التام الا انه اخذ في الموضوع، بما انه أحد افراد الكلى، ويكون من قبيل اعطاء الحكم
الكلى بالمثال فتمام الموضوع هو الطريق فتقدم الامارة، يكون بالورود لأنه طريق.
كما أنه مما ذكرناه في سابقه يظهر ضعف ما قيل إن نقض اليقين بالامارة ليس نقضا
له بالشك، بل نقض له بيقين مثله، وذلك لان حجية الامارة انما تثبت بدليل قطعي والا
لم تكن حجة ضرورة ان حجية كل ظن لا بد وان تثبت بدليل قطعي، والا لا يكون حجة.
: فإنه قد عرفت ان الظاهر من الاخبار حصر الناقض في اليقين المتعلق بما تعلق به
اليقين الأول.
فالمتحصل مما ذكرناه ان الورود لا مورد له في المقام.
والحق ان تقدمها عليه انما يكون بالحكومة فإنه على ما مر في مبحث الظن يكون
المجعول في باب الامارات هو الطريقية التامة، فهي بمؤنة دليل اعتبارها تكون علما
تعبديا، فيوسع دليل الامارة دائرة موضوع ولكن تنقضه بيقين آخر، ويضيق دائرة الشك
الذي نهى عن نقض اليقين به، وليست الحكومة الا ذلك.
فان قيل إنه بناءا على كون الموضوع في الامارات هو الشاك إذ العالم لا تكون
الامارة حجة عليه، وبناءا على كون الاستصحاب أيضا من الامارات، كما تكون الامارة
حاكمة على الاستصحاب، كذلك الاستصحاب يكون حاكما عليها، إذ كل منهما يصلح
رافعا لموضوع الآخر، فلا وجه لتقدم أحدهما على الآخر.
قلنا انه مضافا إلى أنه لا يتم مبنى امارية الاستصحاب: ان الموضوع في الامارة هو
المكلف من حيث هو، غاية الامر العالم وجدانا بالواقع يكون خارجا عن تحت دليل
الاعتبار بحكم من العقل، لا بمقيد شرعي، فان العقل يرى قبح حجية الامارة لمن هو
عالم بالواقع، ومن الواضح ان القبيح هو التعبد في فرض العلم الوجداني، دون التعبدي،
واما الموضوع في الاستصحاب فهو مقيد بالشك، وعدم العلم انما يستفاد من الدليل
171

الشرعي، وعليه فالتعبد بكون الامارة علما رافع لموضوع الاستصحاب، واما التعبد بعلمية
الاستصحاب، فلا يصلح رافعا لموضوع الامارة، فإنه مقيد بعدم العلم وجدانا الثابت حتى
مع الاستصحاب.
فان قلت إن ذلك بناءا على كون المجعول في باب الامارات هو العلمية، ويكون
دليل حجيتها متعرضا لحكم الشك، واما على القول بعدم دلالة دليل الحجية الا على
جعل مدلول الخبر واقعا وايجاب معاملة الواقع معه، فلا وجه للحكومة كما افاده
المحقق صاحب الدرر (ره).
قلنا انه لو سلم ذلك يمكن تقرير الحكومة بأنه بما ان لسان دليلها ان المؤدى هو
الواقع، فوصوله بالذات، وصول للواقع بالعرض، فيكون دليل الامارة دالا على وصول
الواقع بالخبر، وان شئت قلت إنه بالالتزام يدل على وساطة الخبر لاثبات الواقع عنوانا،
وبعبارة ثالثة ان الموضوع في دليل الاستصحاب هو الشك في الواقع، وهذا المركب كما
يرتفع بجعل العلم كذلك يرتفع بجعل المؤدى واقعا فإنه معه لا شك في الواقع فتدبر
فإنه دقيق.
نعم، بناءا على مسلك المحقق الخراساني (ره) في جعل الحجية من أن المجعول
هو المنجزية والمعذرية، لا وجه لحكومة الامارات على الاستصحاب، بدون التصرف
في ظاهر اليقين والشك المأخوذين موضوعا في الاستصحاب، ولتمام الكلام محل
آخر، ثم إن المحقق الخراساني أورد على الحكومة بايرادين.
أحدهما: انه لا نظر لدليل الامارة إلى مدلول دليل الاستصحاب اثباتا، وان كان لازم
التعبد بالامارة ثبوتا الغائه لمنافاة لزوم العمل بها مع العلم به لو كان على خلافها، كما أن
قضية دليله الغائها كذلك، فان كلا من الدليلين بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل فيطرد
كل منهما الآخر مع المخالفة.
وفيه: ان المراد بلزوم كون دليل الحاكم ناظرا إلى دليل المحكوم ان كان لزوم كونه
مفسرا له، أو انه بدون دليل المحكوم، يكون دليل الحاكم لغوا، فيرده انه لا اختصاص
للحكومة بهذين الموردين، بل هي شاملة لما إذا كان دليل الحاكم متعرضا لبيان الحكم
172

بلسان بيان الموضوع المأخوذ في دليل المحكوم توسعة أو تضييقا كما في المقام على ما
عرفت، وان كان المراد انه لا تعرض لدليل الامارة إلى موضوع دليل الاستصحاب، فيرد
عليه انه يتم على مسلكه في جعل الامارات دون مسلك الشيخ الأعظم وما هو الحق
كما مر تفصيله آنفا.
ثانيهما: ان مرجع الحكومة إلى الغاء احتمال الخلاف ولا احتمال للخلاف في
صورة موافقة الامارة للأصل، ولا يحتمل التزام القائل بالحكومة باختصاصها بصورة
المخالفة.
وفيه: ان مرجع الحكومة إلى الغاء الاحتمال مطلقا دون خصوص احتمال
الخلاف، فالمتحصل ان تقدم الامارات على الاستصحاب وساير الأصول الشرعية انما هو
من باب الحكومة.
ثم انه على فرض التنزل وتسليم عدم الحكومة يمكن تقرير تقدمها عليه وعلى
ساير الأصول: بأنه قل مورد يوجد من موارد الامارات يكون خاليا عن أصل من الأصول،
ولا أقل من أصالة البراءة سيما على مسلك الحق من صحة جريان استصحاب عدم الجعل،
فيدور الامر بين رفع اليد عن أدلة الامارات وطرحها رأسا، وبين رفع اليد عن أدلة الأصول
في خصوص مادة الاجتماع، ومن الضروري ان الثاني أولى فيقدم الامارة ويخصص
بدليلها أدلة الأصول.
فالمتحصل انه لا اشكال في تقديم الامارات على الأصول منها الاستصحاب.
وجه تقدم الاستصحاب على ساير الأصول.
الامر الثالث: المشهور بين الأصحاب، ان الاستصحاب وان كان مدرك حجيته
الاخبار وكان من الأصول العملية، يكون مقدما على ساير الأصول العملية، من البراءة،
والتخيير، والاحتياط، عقليها، ونقليها، وعلل ذلك بأنه من الأصول المحرزة، والأصل
المحرز مقدم على غير المحرز ولكن يبقى السؤال عن وجه تقدم المحرز على غير
173

المحرز، وان تقديمه عليها، للورود، أو الحكومة، أو التخصيص حيث إن فيه وجوها
وأقوالا.
وتنقيح القول، بالبحث أولا، في وجه تقديمه على الأصول العقلية، ثم في وجه
تقديمه على الأصول العملية الشرعية.
اما تقديمه على الأصول العقلية فوجهه الورود، لان موضوعاتها اللابيان والتحير،
وعدم وجود المؤمن عن احتمال العقاب، والاستصحاب بعد ورود الدليل على حجيته
بيان شرعي، ومؤمن، ورافع للتحير.
واما تقدمه على الأصل الشرعي كالبرائة الشرعية الثابتة بمثل قوله (ع) كل شئ
مطلق حتى يرد فيه نهى - فقد استدل له بوجوه.
الأول: ما افاده الشيخ الأعظم (ره)، وحاصله، ان دليل الاستصحاب يوجب تعميم
النهى السابق المعلوم بالإضافة إلى زمان الشك، وحيث إن الرخصة تكون مغياة بورود
النهى، ودليل الاستصحاب، موجب لتعميمه ودوامه، فيكون حاكما عليه، - وبعبارة
أخرى - مجموع الدليلين يدلان على أن كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهى، وكل نهى وارد
في زمان، فهو باق في زمان احتمال بقائه، فتكون الرخصة في الشئ واطلاقه مغياة بورود
النهى المحكوم عليه بالدوام، فيكون مفاد الاستصحاب نفى ما يقتضيه الأصل الآخر، في
مورد الشك، لولا النهى وهذا معنى الحكومة.
وفيه: ان دلالة مثل قوله (ع) كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهى تتوقف على إرادة
الوصول من الورود كما مر في محله، وعليه فمعنى الحديث ان ما لم يعلم حرمته فهو
مرخص فيه وبواسطة الاستصحاب لا يعلم بالحرمة، لعدم كونه حاكيا عن عموم التحريم
بحسب الواقع وانما مفاده كون حكم الشك من سنخ ما كان موجودا في السابق، وهو
التحريم مثلا، فيعارض مع دليل البراءة الدال على أن ما لم يعلم حرمته الواقعية حكمه
الترخيص.
فان قيل إن مورد البراءة، ما لم يعلم حكمه الواقعي والظاهري، فلو علم حكمه
الظاهري بالاستصحاب لا يبقى له مورد.
174

قلت مضافا إلى أنه حينئذ يكون واردا عليها لا حاكما، انه يجرى هذا البيان في
الاستصحاب إذ موضوعه الشك من جميع الجهات حتى من ناحية الحكم الظاهري، فلو
علم ذلك بدليل البراءة لا يبقى له مورد.
الثاني: ما أشار إليه المحقق الخراساني في الكفاية وأوضحه في الحاشية، وهو ان
موضوع الأصول غير التنزيلية المشكوك فيه من جميع الجهات، وغايتها العلم ولو بوجه
وعنوان، وعليه فإذا علم حكم المشكوك فيه بعنوان نقض اليقين بالشك المنطبق عليه،
فيما كان له حالة سابقة كان معلوم الحكم بوجه فلا مورد لها.
وفيه: ان المأخوذ في دليل الاستصحاب أيضا هو الشك، فأي فارق بينه، وبين ما
اخذ في موضوع ساير الأصول، وعليه فيقال ان موضوع الاستصحاب المشكوك فيه من
جميع الجهات، وغايته اليقين ولو بوجه، فما شك في حليته وحرمته مع كون حالته
السابقة هي الحرمة مقتضى أصالة البراءة وقاعدة الحل العلم بحليته بوجه، فلا شك من
جميع الجهات فلا يجرى الاستصحاب فكل منهما على هذا يصلح لرفع موضوع الآخر،
فيقع التنافي بينهما.
الثالث: ما ذكره المحقق النائيني (ره) وهو ان المجعول في الاستصحاب هو البناء
على أحد طرفي الشك، على أنه هو الواقع والغاء الطرف الآخر في عالم التشريع فيرتفع
الشك الذي هو الموضوع لساير الأصول.
وفيه: انه لأنظر للاستصحاب إلى الغاء احتمال الخلاف، والا لكان من الامارات
فمع فرض اخذ الشك في موضوعه لا يعقل كونه معدما للشك والا لزم من وجوده
عدمه.
الرابع: ان المأخوذ غاية في أدلة الأصول وان كان هو العلم، الا ان المراد به مطلق
الحجة، والاستصحاب من افراد الحجة فيكون واردا على أدلة الأصول.
وفيه: ان حمل العلم على إرادة الحجة خلاف الظاهر لا يصار إليه الا مع القرينة
المفقودة في المقام.
الخامس: ما نسب إلى المحقق العراقي (ره) وهو الالتزام بالتخصيص على تقدير كون
175

دليل الاستصحاب ناظرا إلى المتيقن باثبات كونه هو الواقع ولو بتوسط اليقين بجعله في
القضية مرآة إليه.
وفيه: ان النسبة بينه وبينها عموم من وجه لجريانه في موارد كما لو علم بملكية
شئ أو زوجية امرأة، أو شبه ذلك، وشك في بقائها، ولا مورد للأصول فيها، فلا وجه
للالتزام بالتخصيص.
فالصحيح ان يقال انه بناءا على كون المجعول في باب الاستصحاب بقاء اليقين
السابق بالتقريب المتقدم يكون دليل الاستصحاب حاكما على أدلة الأصول غير التنزيلية:
فان لسان الاستصحاب بما انه ابقاء اليقين وعدم الاعتناء بالشك، - وبعبارة أخرى - لزوم
معاملة اليقين، مع هذا الشك، فيكون موضوع ساير الأصول مرتفعا بجريانه تعبدا وليس
معنى الحكومة الا ذلك، واما بناءا على كون المجعول هو الحكم المماثل أو التنجيز
والتعذير أو غيرهما فلا وجه للتقديم أصلا.
تعارض الاستصحابين
الامر الرابع: في تعارض الاستصحابين، وتمييز موارد تقديم أحدهما على الآخر
عن غيرها، وتنقيح القول فيه بالبحث في مقامين. الأول: في بيان اقسام التنافي بين
الاستصحابين. الثاني: في بيان حكم كل قسم منها.
اما الأول: فالتنافي بينهما، قد يكون لأجل عدم امكان العمل بهما معا من دون ان
يعلم بانتفاض الحالة السابقة، كما في استصحاب وجوب أمرين، لا يتمكن المكلف في
زمان الشك من العمل بهما، وقد يكون من جهة العلم بانتفاض الحالة السابقة في
أحدهما.
والثاني: على قسمين، إذ ربما يكون الشك في أحدهما مسببا عن الشك في
الاخر. ويكون المشكوك فيه في أحدهما من آثار المشكوك فيه في الآخر، وربما
يكون الشك في كل منهما مسببا عن امر ثالث وهو العلم الاجمالي الموجود في البين،
176

ولا ثالث لهما.
وما توهم من أنه يمكن ان يكون الشك في كل منهما مسببا عن الشك في الآخر
كما في العامين من وجه، فان الشك في إرادة العموم من كل منهما مسبب عن الشك في
إرادة الآخر.
فاسد فان علة الشئ لا يعقل ان تكون معلولة له - وبعبارة أخرى - الشك في إرادة
العموم من كل منهما مسبب عن العلم بعدم إرادة العموم في أحدهما.
وعلى الأول: قد يكون ترتب المشكوك فيه في أحدهما على المشكوك فيه في
الآخر عقليا - وبعبارة أخرى - تكون السببية عقلية كترتب بقاء الكلى على بقاء الفرد، وقد
يكون شرعيا كترتب طهارة الثوب، على طهارة الماء المغسول به.
والثاني: له اقسام، إذ تارة يلزم من العمل بهما مخالفة عملية للتكليف الإلزامي
المعلوم، وأخرى لا يلزم.
وعلى الثاني: ربما يقوم دليل من الخارج على عدم امكان الجمع بين المستصحبين
كتتميم الماء النجس كرا بطاهر حيث قام الاجماع على اتحاد حكم المائين المجتمعين،
وربما لا يقوم دليل على ذلك.
وعلى الثاني: قد يكون لبقاء كل من المستصحبين اثر شرعي كما في الوضوء
بالمايع المردد بين النجس والطاهر، وقد يكون لأحدهما الأثر دون الآخر، كما في دعوى
الموكل التوكيل في شراء العبد، ودعوى الوكيل، التوكيل في شراء الجارية.
اما القسم الأول: وهو ما إذا كان التنافي لعدم امكان العمل بهما، فحيث انه
لا تعارض بينهما، ولا تكاذب، وانما لا يجريان معا لعدم قدرة المكلف على امتثالهما، فلا
مناص عن الرجوع إلى مرجحات باب التزاحم، فان علم أهمية أحدهما أو احتمل ذلك،
يقدم، والا فيتخير بينهما.
فان قيل إن الدليل الواحد كيف يكون أحد مصاديقه أهم من الآخر، والأهمية انما
تكون في المتيقن لا في المستصحب، - وبعبارة أخرى - عنوان نقض اليقين بالشك عنوان
واحد له ملاك واحد فلا يحتمل الأهمية.
177

قلنا: ان الاستصحاب تابع للمتيقن، فكل ما كان المتيقن عليه يستصحب، ويكون
باقيا بعينه، ولذا لو كان مستحبا يستصحب استحبابه، ولا يحكم بالوجوب، وكذا العكس،
وان شئت قلت: ان حكم الاستصحاب حكم طريقي، لا نفسي منبعث عن مصلحة في نفس
هذا العنوان.
واما القسم الثاني: فان كان أحدهما مسببا عن الآخر مع كون السببية غير شرعية، فلا
يقدم أحدهما على الآخر، ويلحقه ما سنذكره في القسم الثالث.
حول الأصل السببي والمسببي
وان كانت السببية شرعية، فلا كلام بينهم في تقديم الأصل السببي على الأصل
المسببي.
وقد ذكر المحقق النائيني (ره) للتقديم شرطا، وهو ان يكون الأصل الجاري في
السبب رافعا لموضوع الأصل المسببي، فلو لم يكن رافعا له، كما إذا شك في جواز
الصلاة في وبر حيوان شك في كونه محلل الاكل: فان أصالة الإباحة في ذلك الحيوان
لا ترفع الشك في جواز الصلاة فإنه رتب في الأدلة على العناوين الخاصة كالغنم، والبقر،
وما شاكل في قبال العناوين المحرمة كالأرنب وما شابه، وأصالة الإباحة لا تثبت العنوان
المحلل، يكون خارجا عن محل الكلام.
وفيه: ان جواز الصلاة لو كان مترتبا على ما يحل اكله فعلا فيترتب على أصالة
الإباحة، ولا اشكال فيه، ولو كان مترتبا على العناوين الخاصة المحللة، لا الحلال الفعلي
لا يكون هناك ترتب شرعي بين جواز الصلاة والحلية وعليه فهذا ليس قيدا زايدا على
اعتبار كون الترتب شرعيا، وكيف كان فقد استدل لتقديم الأصل السببي بوجوه.
الأول: الاجماع على ذلك في موارد لا تحصى فإنه لا يحتمل الخلاف في تقديم
الاستصحابات في الملزومات الشرعية، كالطهارة من الحدث والخبث، وكرية الماء،
واطلاقه، وحياة المفقود، وما شابه ذلك، على استصحاب عدم لوازمها الشرعية.
178

وفيه: ان مدرك المجمعين معلوم، فلا يكون اجماعا تعبديا، فلا يستند إليه،
أضف إليه مخالفة جماعة في ذلك كالشيخ، والمحقق، والعلامة في بعض كتبه.
الثاني: انه لو لم يلتزم بتقديم الأصل السببي على الأصل المسببي كان
الاستصحاب قليل الفائدة، إذ المقصود منه غالبا ترتيب الآثار الثابتة للمستصحب وتلك
الآثار ان كانت موجودة سابقا اغنى استصحابها عن استصحاب ملزومها، فتنحصر الفائدة
في الآثار التي كانت معدومة فإذا فرض معارضة الاستصحاب في الملزوم، باستصحاب
عدم تلك اللوازم والمعاملة معهما معاملة المتعارضين لغى الاستصحاب في الملزوم.
وفيه: أولا ان الاستصحاب لو فرضنا جريانه في تلك الآثار الموجودة سابقا كفى
ذلك في فائدة الاستصحاب، وثانيا: ان اجراء الاستصحاب فيها لا يغنى عن استصحاب
ملزومها لتوقفه على احراز الموضوع لها، وهو مشكوك فيه، فلابد من استصحاب
الموضوع لذلك فتأمل.
الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم (ره) وهو ان المستفاد من الاخبار ذلك حيث إنه (ع)
في صحيح زرارة، علل وجوب البناء على الوضوء السابق المستلزم لجواز الدخول في
الصلاة بمجرد الاستصحاب، ومن المعلوم ان مقتضى استصحاب الاشتغال بالصلاة عدم
براءة الذمة بهذه الصلاة ولولا تقدم الاستصحاب الأول وانحصار الاستصحاب في المقام
باستصحاب الطهارة لما صح تعليل المضي على الطهارة بنفس الاستصحاب.
وفيه: ان هذا المثال غير مربوط بالشك السببي والمسببي، إذ الاشتغال بالصلاة،
والامر بها ليس وراء الامر بالاجزاء والشرائط شئ، فإذا ثبت أحد الاجزاء والشرائط
بالاستصحاب، والبقية بالوجدان فبضم الوجدان إلى الأصل يحرز وجود المأمور به
في الخارج، فلا مورد للاستصحاب، نعم: لو كانت الصلاة المأمور بها لها وجود حاصل
من هذه الاجزاء والشرائط كان ما ذكره متينا.
بل الصحيح ينافي ما بنوا عليه من تقديم الأصل السببي على المسببي مطلقا، حتى
فيما إذا توافقا لأن الشك في بقاء الطهارة في الفرض مسبب عن الشك في تحقق النوم،
فلو كان الأصل السببي مقدما وحاكما على الأصل المسببي، كان المتعين التعليل
179

باستصحاب عدم النوم.
الرابع: ما افاده المحقق النائيني تبعا للشيخ الأعظم وهو ان ارتفاع نجاسة الثوب
المغسول بالماء المستصحب الطهارة، من آثار طهارة الماء شرعا فالتعبد بطهارة الماء
بنفسه يقتضى التعبد بطهارة الثوب إذ لا معنى لطهارة الماء الا كونه مزيلا للحدث والخبث
فيرتفع الشك في المسبب وهو نجاسة الثوب ومع ارتفاع الشك في المسبب لا مجال
لاجراء الأصل فيه إذ الحكم لا يعقل ان يكون متكفلا لوجود موضوعه، واما الأصل
الجاري في المسبب كنجاسة الثوب فحيث انه لا يترتب عليه السبب وهو نجاسة الماء لعدم
كونها من آثارها فهو لا يصلح لرفع موضوع الأصل السببي.
وفيه: ان مجرد ترتب أحدهما على الآخر وعدمه، لا يوجب حكومته عليه التي
مناطها ارتفاع موضوع المحكوم تعبدا، نعم، لازم ذلك تعارض المدلول المطابقي
للأصل المسببي، وهو استصحاب نجاسة الثوب مع المدلول الالتزامي للأصل السببي،
وهو استصحاب طهارة الماء الذي لازمه طهارة الثوب، ولا يكون الأصل السببي من هذه
الجهة نافيا لموضوع الأصل المسببي حتى يكون حاكما عليه، وان شئت قلت إن
الاستصحاب لا يكون امارة كي يكون رافعا لموضوع الأصل المسببي، وهو الشك، بل
المجعول فيه تطبيق العمل على أحد طرفي الشك فلا وجه لدعوى حكومته عليه برفع
موضوعه.
الخامس: ما ذكره المحقق صاحب الدرر (ره) وهو ان الشك المسببي، معلول
للشك السببي ففي رتبة وجود الثاني، لا يكون الأول موجودا، وانما هو في رتبة الحكم
المترتب على الأول، فالأول في مرتبة وجوده، ليس له معارض أصلا، فيحرز الحكم من
دون معارض، وإذا ثبت الحكم للأول لا يبقى للثاني موضوع.
وفيه: ان فعلية الاحكام تتوقف على وجود موضوعاتها خارجا ولا تكون مترتبة
على الرتبة، بل هي احكام للزمان كما هو واضح، مع: انه قد تقدم تعارض الأصلين في
التدريجيات أيضا فراجع.
والصحيح ان يقال في وجه تقدم الأصل السببي أمران.
180

أحدهما: حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي بالحكومة الحكمية
لا بالحكومة الموضوعية وكونه رافعا لموضوعه، توضيح ذلك أنه سيأتي في أول مبحث
التعادل والترجيح انه لا تختص الحكومة بما إذا كان أحد الدليلين ناظرا إلى موضوع دليل
الآخر، بل لو كان ناظرا إلى حكمه وموجبا لتلونه بلون خاص كما في دليل لا ضرر بالنسبة
إلى أدلة الاحكام الأولية، حيث يكون مبينا للمراد من تلك الأدلة ويكون قرينة عليها،
يكون حاكما عليه، وفى المقام كذلك، حيث إن الأصل الجاري في السبب كقاعدة
الطهارة الجارية في الماء المتعبد بطهارته، بضميمة ما دل على أن اثر طهارة الماء إزالة
الخبث، والنجاسة عن المغسول به، يكون ناظرا إلى الحكم في الأصل المسببي ويدل على
زوال نجاسته بغسله بهذا الماء، فيكون مقدما عليه بالحكومة الحكمية.
الثاني: انه مع الاغماض عما ذكرناه وتسليم عدم الحكومة، انه بعد تعارضهما
وعدم امكان جريانهما معا، شمول دليل الاستصحاب للشك المسببي دوري لتوقفه، على
عدم جريان الأصل في السبب، المتوقف على جريانه في المسبب إذ لا مانع عنه سوى
ذلك، وهذا بخلاف شموله للشك السببي، فان موضوعه غير متوقف على شئ بل
يشمله على كل تقدير، وعليه، فلا يجرى في المسبب، لان ما يلزم منه المحال محال، نعم،
إذا توافقا يجريان مع العدم التنافي بين شمول الدليل للسببي والمسببي معا كما لا يخفى.
وبذلك يندفع الاشكال عن الصحيح الذي أوردناه في ذيل الجواب عن الوجه
الثالث، من أن الحديث ينافي مع ما بنوا عليه من تقديم الأصل السببي على المسببي.
جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي
واما القسم الثالث: فان لزم من جريانهما معا مخالفة قطعية عملية لا يجرى شئ
منهما لما مر في مبحث الاشتغال مفصلا من عدم جريان الأصول في أطراف العلم
الاجمالي ان لزم منه مخالفة قطعية.
والا فان دل دليل من الخارج على عدم جريانهما، لا يجريان معا.
181

وهل يجرى الاستصحاب في أحدهما، أم لا؟ وجهان، المشهور انه لا يجرى لان
جريانه في أحدهما المعين دون الآخر ترجيح بلا مرجح، واحدهما لا بعينه ليس فردا ثالثا،
فلا يجرى الاستصحاب في شئ منهما، ولكن الأظهر هو جريانه في أحدهما تخييرا،
ويظهر ذلك مما ذكرناه مفصلا في أول مبحث الاشتغال واجماله: ان مقتضى القاعدة في
تعارض الأصول هو القول بالتخيير من جهة ان لكل دليل من الأدلة، عموم افرادي،
واطلاق أحوالي، فإذا دل الدليل على تخصيص العموم الافرادي وانهما لا يجريان معا،
ودار الامر بين تقييد الاطلاق الأحوالي لكل منهما بان لا يجرى مع جريان الآخر، وبين
عدم العمل بالاطلاقين رأسا، يكون الأول مقدما لان الضرورات تتقدر بقدرها، وقد مر
تفصيل القول في ذلك، وسيجئ في مبحث التعادل والترجيح من أن مقتضى القاعدة في
تعارض الامارات أيضا هو القول بالتخيير، وعليه فالمتعين هو البناء على التخيير.
وان لم يلزم من جريانهما معا مخالفة عملية، ولم يدل دليل على عدم جريانهما
معا، فان ترتب الأثر على أحدهما، دون الآخر جرى ذلك خاصة، وإذا ترتب الأثر
عليهما، كما في المائين المعلوم نجاستهما سابقا إذا علم طهارة أحدهما، واشتبه أحدهما
بالآخر، فان مقتضى الاستصحاب البناء على نجاسة كل منهما، ولا يلزم من جريانهما
مخالفة عملية قطعية يجريان معا لما مر في مبحث الاشتغال من أن المانع من جريان
الأصول في أطراف العلم الاجمالي لزوم المخالفة القطعية العملية، ومع عدمه لا مانع من
جريان الأصول فيها.
وقد استدل لعدم جريان الاستصحاب بالخصوص وان لم يلزم المخالفة العملية
بوجهين.
أحدهما: ما افاده الشيخ الأعظم (ره) وهو ان جملة من اخبار الاستصحاب مذيلة
بقوله (ع) ولكن انقضه بيقين آخر، وعليه، فبما ان مورد العلم الاجمالي، مشمول للصدر
والذيل، ومقتضى الصدر جريانه في كل من الطرفين للشك في بقاء الحالة السابقة فيه،
ومقتضى الذيل وجوب نقض اليقين بأحدهما، فلا يمكن ابقاء كل منهما تحت عمومه
لمحذور المناقضة، ولا ابقاء أحدهما المعين للزوم الترجيح بلا مرجح، ولا أحدهما
182

المخير لعدم كونه فردا ثالثا فلا مناص عن البناء على عدم جريانه فيهما.
وفيه: أولا ان أدلة الاستصحاب لا تنحصر بما هو مذيل بما ذكر، بل هناك مطلقات
غير مذيلة، فعلى فرض اجمال ما هو مذيل بما ذكر، يرجع إلى اطلاق غيره.
وثانيا: ان الظاهر من الاخبار هو عدم نقض اليقين بالشك المتعلق به، ونقضه بيقين
آخر متعلق بما تعلق به اليقين السابق، وفى المفروض في المقام يكون اليقين السابق متعلقا
بكل واحد بالخصوص واليقين الاجمالي متعلقا بأحدهما غير المعين فلا يكون ذلك
ناقضا.
ثانيهما: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو ان المجعول في باب الاستصحاب هو
الجري العملي على طبق الحالة السابقة والاخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو الواقع،
فيمتنع جعل ذلك في مجموع الطرفين، لعدم معقولية التنزيل على خلاف العلم
الوجداني.
وفيه: انه لا يجرى استصحاب واحد في مجموع الطرفين، كما أنه لا يثبت
بالاستصحاب الجاري في كل طرف لازمه، وهو كون المعلوم بالاجمال في الطرف
الآخر، بل يجرى في كل طرف أصل واحد، ولا يثبت به لازمه، وعليه فجريانه في كل
طرف لا محذور فيه، فغاية ما يلزم من جريانهما مخالفة التزامية، وقد مر في مبحث
الاشتغال انه لا يكون مانعا عن جريان الأصول في أطراف العلم.
ثم إن الأصحاب مع تسالمهم على تقدم جملة من القواعد على الاستصحاب
اختلفوا في وجه التقديم - منها - قاعدة الفراغ والتجاوز - ومنها - أصالة الصحة - ومنها
قاعدة اليد، وحيث انى كتبت سابقا رسالة مستقلة في تلك القواعد الثلاث وطبعت، وقد
استقصيت فيها جهات البحث في تلك القواعد فلذلك أدرجها في المقام تعميما للنفع
وتتميما للبحث.
وأيضا من القواعد التي قدموها على الاستصحاب القرعة، وقد كتبت رسالة فيها
سابقا، واذكرها بعد القواعد الثلاث.
183

الكلام حول قاعدة الفراغ والتجاوز
من القواعد التي لابد لنا من البحث فيها، قاعدة الفراغ والتجاوز، وتنقيح القول
فيها يقتضى البحث في أمور.
الأول: ان هذه القاعدة ليست من المسائل الأصولية، وانما هي من القواعد الفقهية،
لان المسألة الأصولية هي ما تقع نتيجة البحث فيها في طريق اثبات واستنباط الاحكام
الكلية الشرعية، - وبعبارة أخرى - هي ما لو جعلت نتيجة البحث كبرى للقياس، تكون
النتيجة الحكم الكلى المجعول الشرعي.
وهذه القاعدة ليست منها لوجوه 1 - ان المستنتج من القياس الذي جعلت القاعدة
نفيا أو اثباتا كبرى له ليس حكما كليا، بل انما هي صحة عمل خاص مثلا، ولذا تكون
النتيجة بنفسها قابلة للالقاء إلى المقلدين.
2 - انها متكفلة لحكم الشك في الامتثال بعد الفراغ عن ثبوت الاحكام
لموضوعاتها في مرحلة الجعل والتشريع من دون تعرض لثبوت حكم أو نفيه.
3 - ان استفادة الحكم منها من باب انطباق مضمونها على مصداقه، لامن باب
اثبات شئ بها.
وقد يقال انه لا تكون القاعدة من القواعد الفقهية المصطلحة، وهي ما تكون نتيجة
البحث حكما كليا تكليفيا أو وضعيا: فإنه لا يثبت بها حكم، وانما هي تعبد بتحقق الامتثال.
فان قيل إن المجعول فيها هي الصحة، وهي من الأحكام الوضعية، توجه عليه ان
الصحة ليست حكما مجعولا بل هي تنتزع من مطابقة الماتى به للمأمور به فالمتعبد به فيها
هي المطابقة وهي ليست من الأحكام الشرعية.
ولكن يمكن ان يقال ان القاعدة الفقهية هي ما يعين وظيفة المكلف اثباتا أو نفيا
فتشمل مثل هذه القاعدة.
184

ما يثبت به هذه القاعدة
الثاني: في بيان الدليل على هذه القاعدة وما تثبت به، ويشهد بها مضافا إلى أنها
قاعدة عقلائية وعليها بناء العقلاء، فإنهم يرون المشكوك فيه في موارد جريان القاعدة
واقعا في ظرفه، ولا يعتنون باحتمال عدم الاتيان به، والشارع الأقدس امضى هذا البناء:
جملة من النصوص وهي كثيرة، الا ان ما يستفاد منها العموم وعدم الاختصاص
بباب روايات.
منها: صحيح زرارة قلت لأبي عبد الله عليه السلام رجل شك في الاذان وقد دخل
في الإقامة قال عليه السلام يمضى قلت رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر قال عليه
السلام يمضى إلى أن قال في آخره بعنوان الضابط، يا زرارة إذا خرجت من شئ ثم
دخلت في غيره فشكك ليس بشئ (1).
ومنها: صحيح إسماعيل بن جابر عن مولانا الصادق عليه السلام في حديث ان
شك في الركوع بعد ما سجد فليمض وان شك في السجود بعد ما قام فليمض، كل شئ
شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه (2).
ومنها: موثق محمد بن مسلم عن سيدنا الباقر عليه السلام كل ما شككت فيه مما
قد مضى فامضه كما هو (3).
ومنها: موثق ابن أبي يعفور عن امامنا الصادق عليه السلام انما الشك إذا كنت في
شئ لم تجزه (4) فإنه بمفهوم الحصر يدل على المطلوب.
ومنها: موثق بكير بن أعين، قلت له الرجل يشك بعد ما يتوضأ قال عليه السلام هو حين
يتوضأ أذكر منه حين يشك (5)، فإنه بعموم العلة يدل على ثبوت القاعدة بنحو الاطلاق.
ومنها: صحيح محمد بن مسلم عن الإمام الصادق عليه السلام ان شك الرجل بعد ما

1 - الوسائل - باب 23 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة - حديث 1.
2 - الوسائل - باب 13 من أبواب الركوع - حديث 4.
3 - الوسائل - باب 23 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة - حديث 3.
4 - الوسائل - باب 42 - من أبواب الوضوء - حديث 2.
5 - الوسائل باب 42 - من أبواب الوضوء - حديث 7.
185

صلى فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا وكان يقينه حين انصرف انه كان قد أتم لم يعد الصلاة
وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك (1) وتقريب الاستدلال به ما في سابقه.
هذه هي النصوص التي يستفاد منها الكبرى الكلية غير المختصة بباب.
ويؤيد المطلوب النصوص المستفيضة الواردة في موارد خاصة، فاصل ثبوت
القاعدة مما لا ريب فيه.
قاعدة الفراغ والتجاوز من الامارات
الثالث: في بيان ان هذه القاعدة هل تكون من الامارات المثبتة لوقوع المشكوك
فيه، أم من الأصول العملية، وقبل بيان ما هو الحق لا بد من بيان ما به يمتاز الامارة عن
الأصل العملي.
وملخص القول فيه ان الامارة تتقوم بأمرين، أحدهما: كون الشئ كاشفا عن
الواقع كشفا ناقصا - وبعبارة أخرى - ثبوت ملاك الطريقية في مقام الثبوت، ثانيهما امضاء
الشارع إياه بما هو كذلك بتتميم جهة كشفه، وان شئت قلت مساعدة الدليل على ذلك
في مقام الاثبات، والأصل عبارة عن الحجة الشرعية الفاقدة لاحد هذين القيدين، أو هما
معا.
ولو شك في كون شئ امارة أو أصلا تكون النتيجة مع كونه أصلا، فان الأصل
والامارة يشتركان في الحجية بالنسبة إلى المدلول المطابقي، ويمتاز الأصل بعدم حجيته
في اللوازم والملزومات والملازمات، والامارة بحجيتها فيها، فما علم كونه امارة أو أصلا
يعلم بحجيته في المدلول المطابقي ويشك في حجيته بالنسبة إلى غيره، وحيث إن الأصل
فيما شك في حجيته البناء على عدم الحجية فيبنى عليه فيختص حجيته بالمدلول
المطابقي.

1 - الوسائل - باب 27 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة - حديث 3.
186

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الظاهر كون القاعدة من الامارات لثبوت كلا الامرين
فيها.
اما الأول: فلان المريد لامتثال الامر بالمركب لا يترك الجزء أو الشرط عمدا فلو
تركه لا محالة يكون عن غفلة ونسيان، وحيث إن الإرادة المتعلقة بمركب إرادة كلية ينبعث
منها إرادات جزئية تدريجية متعلقة بكل جزء وشرط، متدرجا ولا يتصور الغفلة بعد تلك
الإرادات الجزئية التي هي الأسباب لتحقق الفعل الخارجي: لأنها متقومة بالالتفات
والجزء الأخير للعلة التامة غير المتصور انفكاكها عن الفعل، وانما المتصور عروض الغفلة
بعد تلك الإرادة الكلية وقبل الإرادة الجزئية، وهو انما يكون على خلاف العادة فان
تلك الإرادة الكلية تلازم عادة الإرادات الجزئية، فلذا يظن عادة بفعل الجزء المشكوك
فيه بإرادته المنبعثة عن تلك الإرادة، فيكون لها الطريقية، وعلى الجملة المريد لعمل
مركب إذا كان بصدد الاتيان به، طبعه الأولى، وارادته المتعلقة به أو لا يقتضى اتيان كل
جزء في محله، واحتمال الترك العمدي، مخالف لتعلق ارادته المتعلقة به أو لا يقتضى اتيان كل
جزء في محله، واحتمال الترك العمدي، مخالف لتعلق ارادته بالامتثال، واحتمال الغفلة
مناف لظهور الحال والغلبة فملاك الطريقية موجود.
وان شئت قلت إن الغالب ان من اشتغل بمركب يكون التفاته إلى الخصوصيات
والآتيان بكل شئ في محله ولو بالالتفات والقصد الاجمالي الارتكازي أقوى من بعد
ذلك والفراغ من عمله، فمن لم يتعمد الترك وأراد الامتثال حيث إنه على الفرض ملتفت
إلى جميع الاجزاء والشرائط ومقتضى الطبع والعادة بقائه على ذكره والتفاته إلى آخر
العمل فعروض الغفلة على خلاف الطبع والعادة.
والى ما ذكرناه أشار (ع) بقوله (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك) وبقوله (هو
حين ينصرف أقرب إلى الحق من بعد ذلك)
وقد ظهر مما ذكرناه اندفاع ما قيل من عدم الطريقية لأن الشك ليس له الطريقية
والمرآتية، وجه الاندفاع ان المدعى انه لحال المكلف حين العمل الطريقية والأمارية،
فلو كانت القاعدة مجعولة بلحاظ حال العمل يكون لها الا مارية والطريقية.
واما الامر الثاني: وهو مساعدة الدليل على الطريقية فالظاهر هو ذلك: إذ الظاهر أن
187

بناء العقلاء على تحقق المشكوك فيه انما هو من جهة الطريقية والكاشفية، لا
ادعى انه لا يعقل البناء من العقلاء الا من جهة الكاشفية: فان ذلك فاسد كما سيأتي تحقيقه
في قاعدة اليد: بل ادعى ان الظاهر أن هذا البناء انما هو للطريقية والكاشفية نظير البناء على
العمل بخبر الثقة: إذ ليس شئ آخر يصلح ان يكون ملاكا لهذا البناء.
مضافا إلى دلالة بعض النصوص عليه مثل قوله (ع) في صحيح محمد بن مسلم،
وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك (1) وقوله (ع) في موثق بكير هو حين
يتوضأ أذكر منه حين يشك (2) وقوله (ع) في صحيح الفضيل فيمن شك في الركوع بعد
الانتصاب بلى قد ركعت فامض في صلاتك (3) وقوله (ع) في مصحح عبد الرحمن في رجل
أهوى إلى السجود ولم يدر ركع أم لم يركع، قد ركع (4) فان الاخبار عن تحقق الركوع ظاهر
في الا مارية.
وقد يقال كما عن المحقق العراقي ان المستفاد من الاخبار المأخوذ في موضوعها
الشك كقوله (ع) إذ خرجت من شئ ودخلت في غيره فشكك ليس بشئ، خلاف
ذلك، بل هي تدل على الغاء جهة الكشف المزبور لظهورها في عدم جعل الشك
الموجود مانعا عن المضي في العمل، لا في الغاء الشك وتتميم كشفها، ثم قال فما ورد
من التعليل بالأذكرية في بعض النصوص حينئذ محمول على بيان حكمة التشريع والجعل
لمكان أظهرية تلك النصوص.
وفيه: أولا: فرق بين ترتيب الأثر والحكم على الشك كما في الأصل وبين الحكم
بعدم الاعتناء بالشك بقوله فشكك ليس بشئ، وما يدل على الغاء جهة الكشف هو
الأول والموجود في الاخبار هو الثاني، بل يمكن ان يقال ان قوله فشكك ليس بشئ،
انما ينفى الشيئية والشكية عن الشك وهذا عين جعل الامارة.
وثانيا: ان ظهور ما في بعض النصوص المتضمن للتعليل بالأذكرية أقوى من ظهور

1 - الوسائل باب 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث 3.
2 - الوسائل باب 42 من أبواب الوضوء حديث 7.
3. الوسائل باب 13 من أبواب الركوع حديث 3.
4 - الوسائل باب 13 من أبواب الركوع حديث 6.
188

ما أشار إليه: لأنه من قبيل القرينة وظهور القرينة مقدم على ظهور ذي القرينة.
وثالثا: انه لو قدم ما ظاهره ترتب الحكم على الشك لزم منه طرح ما هو من قبيل
التعليل لا حمله على حكمة الجعل فان الحكمة عبارة عما هو موجود في بعض الموارد
دون جميعها، والحكم يكون ثابتا في جميع الموارد وغير دائر مدارها، واما في مثل
المقام مما لا يكون ذلك ولو في مورد فلا معنى لحمله على الحكمة فتدبر فإنه دقيق
فالمتحصل ان قاعدة الفراغ والتجاوز من الامارات لامن الأصول العملية.
عدم حجية القاعدة في المثبتات
فان قلت إنه بناءا على ذلك لابد من الالتزام بحجية القاعدة في مثبتاتها كما هو
شأن كل امارة فلو شك في ايقاع صلاة الظهر مع الطهارة وجرت القاعدة وحكم بوقوعها
معها واقترانها بها، لابد من البناء على صحة الاتيان بالعصر مع هذه الحال وعدم لزوم
تجديد الطهارة مع أنه لم يلتزم بذلك أحد من الأصحاب فيستكشف من ذلك عدم
كونها من الامارات.
قلت إنه لم يدل دليل عقلي أو نقلي على حجية الامارات في مثبتاتها، وانما نلتزم
بذلك مع وجود قيدين، أحدهما كون ذلك الامر كاشفا عن اللوازم والملزومات
والملازمات ككشفه عن ذلك الشئ نفسه، نظير الخبر الحاكي عن امر واقعي كشرب زيد
ما في الكاس المعين الخارجي، فإنه كاشف عن شربه بالمطابقة، وعن موته إذا كان ذلك
في الواقع سما بالالتزام، ثانيهما: ثبوت الاطلاق لدليل اعتباره من جميع الجهات كما في
أدلة حجية الخبر الواحد على ما حقق في محله ومع فقد أحد القيدين أو كليهما لا يكون
ذلك الامر حجة في مثبتاته، وفى الأصول يكون القيد الأول مفقودا مطلقا فلذا لا تكون
حجة في مثبتاتها، وفى بعض الامارات يكون القيد الثاني مفقودا كما في الظن بالقبلة حيث إنه
حجة من باب الطريقية ومع ذلك لا يكون حجة في مثبتاته ولا يثبت به لازمه وهو
دخول الوقت فان قوله (ع) فليتحر أي فليأخذ بالأحرى لا يدل على أزيد من حجيته في
189

القبلة خاصة كما هو واضح.
وتمام الكلام في ذلك وفى عدم تمامية ما ذكره المحققان الخراساني
والنائيني (ره) في وجه الفرق بين الامارات والأصول وانه لم لا تكون الأصول حجة في
مثبتاتها والامارات حجة فيها موكول إلى محله، وقد أشبعنا الكلام في ذلك في تنبيهات
الاستصحاب.
وعلى ذلك فقاعدة الفراغ والتجاوز وان كانت من الامارات الا انها ليست حجة
في مثبتاتها لعدم الاطلاق لأدلتها كما لا يخفى على من تدبر فيها.
وجه تقدمها على الأصول
الرابع: في وجه تقدمها على الاستصحاب، بناءا على ما اخترناه من
كونها من الامارات يكون وجه تقدمها عليه، هي الحكومة كما هو الوجه في تقدم ساير
الامارات عليه.
واما بناءا على كونها من الأصول فإنما تقدم على الاستصحاب لأخصية دليلها عن
دليله كما هو واضح.
وعن الشيخ الأعظم (ره) حكومة القاعدة على الاستصحاب حتى بناءا على كونها من
الأصول العملية.
وقد قرب الحكومة بوجوه: 1 - ما وجهها المحقق النائيني (ره) وهو ان موضوع
الاستصحاب انما هو الشك في بقاء الحالة السابقة وهو انما يكون مسببا عن الشك في
حدوث ما يوجب رفع الحالة السابقة فتكون، وقاعدة الفراغ والتجاوز انما يكون مؤداها حدوث
ما يوجب رفع الحالة السابقة فتكون رافعة لموضوع الاستصحاب - وبعبارة أخرى -
القاعدة تجرى في الشك السببي، والاستصحاب يجرى في الشك المسببي فلا محالة
تكون حاكمة عليه.
وفيه: ان الشك قوامه بالطرفين وفى المقام شك واحد أحد طرفيه رفع الحالة
190

السابقة والآخر بقائها، لا ان هناك شكين أحدهما مسبب عن الآخر.
2 - ما في تقريرات الأستاذ الأعظم ناسبا إياه إلى المحقق النائيني، وحاصله ان دليل
القاعدة ناظر إلى اثبات حكم مخالف للحالة السابقة بنفسها، فهو ناظر إلى سقوط
الاستصحاب وعدم بقاء الحالة السابقة واما الاستصحاب فهو غير ناظر إلى سقوط القاعدة
الا بالملازمة، إذ الحكم ببقاء الحالة السابقة في مورد القاعدة تلازم عقلا عدم جريان
القاعدة، والاستصحاب مع قطع النظر عن عدم اثباته للوازم في حد نفسه يكون محكوما
للقاعدة إذ اثباته للوازم فرع اثباته لملزومها والقاعدة مانعة عنه باثبات خلافه، ففي المرتبة
التي تكون القاعدة مانعة عن جريان الاستصحاب لا يكون الاستصحاب مانعا عنها، فلا
محالة تكون هي حاكمة عليه.
وفيه: ان المتعبد به، في القاعدة، وفى الاستصحاب من النقيضين المحفوظين
في مرتبة واحدة وكل منهما بنفسه يطارد الآخر بلا تفاوت بينهما فتقدم مرتبة أحدهما على
الآخر لاوجه له.
3 - ان القاعدة انما تنفى الشك وانه ليس بشئ لا حظ صحيح زرارة المتقدم (إذا
حرجت من شئ ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشئ) ومن المعلوم ان الدليل النافي
لموضوع الاخر يكون حاكما عليه كما حقق في محله، وهذا هو الحق.
قاعدة الفراغ والتجاوز قاعدة واحدة
الخامس: في بيان ان قاعدة الفراغ، هل هي غير قاعدة التجاوز، أم هما قاعدة
واحدة، وان المجعول الشرعي شئ واحد.
وقد اختلفت كلماتهم في ذلك، فعن الشيخ الأعظم اختيار الثاني وتبعه جمع من
الأساطين، وعن المحقق الخراساني استظهار الأول وتبعه المحقق الهمداني وجماعة.
والكلام يقع في موردين، الأول: في مقام الثبوت. الثاني: في مقام الاثبات.
اما المورد الأول: فقد استدل لامتناع كونهما قاعدة واحدة بوجوه.
منها: ان متعلق الشك في قاعدة الفراغ انما هو صحة الموجود بعد مفروغية أصل
191

الوجود، وهي المتعبد بها، فالتعبد فيها انما هو بمفاد كان الناقصة، ومتعلق الشك في
قاعدة التجاوز أصل الوجود، وهو المتعبد به، ويكون التعبد فيها بمفاد كان التامة ولا
جامع بينهما ولا يعقل اندراجهما في كبرى واحدة: إذ كيف يمكن ان يكون الوجود
مفروغا عنه في دليل مع فرض تعلق التعبد به.
وأفاد المحقق الأصفهاني (ره) انه ليس المحذور كون التعبد في مورد قاعدة التجاوز
بنحو مفاد كان الناقصة، وفى مورد قاعدة الفراغ بنحو مفاد كان التامة: فإنه يمكن ان يقال
انه في مورد قاعدة التجاوز المتعبد به صحة العمل بنحو مفاد كان التامة، بل المحذوران
المتعبد به في مورد قاعدة التجاوز هو صحة العمل، فاصل وجوده مفروغ عنه ومفروض
الوجود، وفى مورد قاعدة الفراغ المتعبد به أصل الوجود، وهما أمران متغايران
لا يجمعهما شئ واحد.
وفيه: ان وجود العرض في نفسه وجود في الغير وعين وجوده لموضوعه، وعليه
فان اخذ وجود العرض في الموضوع بما هو شئ في نفسه ولم يلاحظ كونه في الغير و
وصفا له، يلزم الالتزام بترتب الأثر وان كان العرض موجودا في غير هذا الموضوع وهو
خلف الفرض، وان اخذ بما هو قائم بالذات وعرض فلا محالة يعتبر العرض نعتا، ففي ترتب
الحكم لابد من احراز اتصاف الموضوع بالعرض زائدا على احراز وجود الموضوع والعرض
- وعلى الجملة - الصحة التي يترتب عليها الأثر هي صحة الموجود لا مطلق الصحة،
فالشك في صحة العمل بعد كونها من الأوصاف ووجودها في نفسها عين وجودها في
غيرها لا محالة يكون هو الشك في كون العمل صحيحا الذي هو مفاد كان الناقصة.
وأجاب: عن أصل الاشكال الشيخ الأعظم (ره) بقوله، السادس ان الشك في صحة
الشئ المأتى به حكمه حكم الشك في الاتيان، بل هو هو: لان مرجعه إلى الشك في
وجود الشئ الصحيح.
وأورد عليه المحققان، الخراساني، والنائيني، بان المتعبد به في قاعدة الفراغ ليس
هو الوجود الصحيح بل صحة الموجود - وذلك - لان قاعدة الفراغ لا تختص بباب التكاليف
حتى يقال ان هم العقل هو الخروج عن التكليف بوجود متعلقه خارجا فلا حاجة إلى
احراز صحة الموجود الخارجي بل تعم الوضعيات والمهم فيها اثبات صحة الموجود: إذ
192

الأثر مترتب على صحة العقد الصادر من المتعاقدين ولا اثر لوجود العقد الصحيح بمفاد
كان التامة، واثبات صحة الموجود الخارجي بوجود الصحيح يكون من الأصل المثبت.
ويرد عليهما، أولا: انا وان بنينا على عدم حجية القاعدة في مثبتاتها حتى على
الا مارية، الا ان هذا المقدار من اللوازم، كصحة الموجود الملازمة لوجود الصحيح،
لا ينفك في التعبد عن التعبد بملزومه عرفا، الا ترى انه لا يشك أحد في أن التعبد بوجود
التكبيرة لو شك فيها بعد الدخول في القراءة، مستلزم للتعبد بصحة الصلاة الخارجية التي
بيده، مع أن انطباق المأمور بها عليها مشكوك فيه، وليس ذلك الا من جهة الملازمة بين
التعبدين عرفا وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر، وعلى ذلك فيكفي في الحكم بصحة
الموجود الخارجي التعبد بوجود الصحيح.
وثانيا: ان الأثر في باب الوضعيات أيضا مترتب على الوجود الصحيح في الخارج
فإذا حكم الشارع بتحقق بيع صحيح خارجا، فلا محالة يحكم بتحقق النقل والانتقال بلا
حاجة إلى اثبات صحة الموجود الخارجي.
ولكن الذي يرد على الشيخ، ان العمل الذي يتعبد به حيث لا يعقل فيه الاهمال،
فمن حيث وصف الصحة اما ان يؤخذ بنحو اللابشرطي القسمي ومطلقا، الذي هو بمعنى
رفض القيود، فلا تعبد بالصحة فتختص القاعدة بموارد قاعدة التجاوز، أو يؤخذ بنحو
بشرط شئ، أي العمل بوصف الصحة فتختص بمورد قاعدة الفراغ، والاعتبارات متقابلة
لا يعقل الجمع بينها.
وقد يجاب عنه بان الظاهر من النصوص كقوله (ع) ما مضى من صلاتك وطهورك
فامضه كما هو ونحوه غيره هو التعبد بصحة الموجود الخارجي، لا التعبد بوجود
الصحيح فارجاع التعبد بوجود الصحيح ولو باعتبار منشأ انتزاع وصف الصحة خلاف
ظاهر النصوص.
وهذا الجواب وان كان تاما، الا انه يناسب المورد الثاني لا هذا المورد.
والحق في الجواب عن هذا الوجه، أولا: النقض بالخبر فإنه، قد يكون المخبر به
وصف الصحة، وقد يكون أصلا الوجود، فلازم هذا الوجه عدم امكان الجمع بينهما في
دليل واحد.
193

وثانيا: بالحل، وهو ان المتعبد به في الدليل ليس الا تحقق ما شك فيه وقد مضى
وتجاوز المكلف عنه، وكون مصداق ذلك، تارة أصلا الوجود، وأخرى وصف الصحة،
لا يوجب تعدد المتعبد به بل هذا الاختلاف انما هو من جهة اختلاف متعلق الشك
خارجا، وحيث إن الاطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بين القيود فلا يعتبر في
المتعبد به شئ من الخصوصيتين بل هو الجامع بينهما، ولم يلاحظ فيه مفروغية الوجود
ولا عدم مفروغيته ويكون ذلك باعتبار خصوصية الموارد.
مع أن المراد بالصحة ليس هو ترتب الأثر، ولا هذا الوصف الانتزاعي، بل المراد بها
استجماع العمل للاجزاء والشرائط وعليه فالشك في موارد الشك في الصحة بعينه الشك
في وجود العمل بتمامه - وبعبارة أخرى - هو بعينه الشك في تحقق امر وجودي أو
عدمي اعتبر في المأمور به، والا فلا معنى للشك في الصحة والفساد، فلو شك في صحة
الصلاة التي اتى بها، من جهة احتمال ترك الركوع مثلا، أو عدم اقترانها بالطهارة فالشك
في الحقيقة متعلق بوجود ذلك الركن أو الاقتران المزبور، ففي الحقيقة ترجع قاعدة
الفراغ في جميع مواردها إلى قاعدة التجاوز والمشكوك فيه دائما انما هو وجود الشئ.
فان قلت إن لازم ذلك أن لو شك في صحة الصلاة من جهة الشك في الاقتران
بالطهارة هو الحكم بتحقق الطهارة لأنها المتعبد بها على هذا الوجه فلا يحتاج إلى تجديد
الطهارة للصلوات الآتية وقد مر عدم التزام الأصحاب بذلك.
قلت: ان المشكوك فيه المتعبد بتحققه ليس هو وجود الطهارة حتى يكون التعبد
به كافيا للأعمال اللاحقة أيضا، بل اقتران الصلاة بها وبديهي انه لا يترتب على الحكم
بالاقتران المزبور تحقق الطهارة الا على القول بحجيتها في المثبتات، وان شئت قلت إن
الطهارة المستمرة إلى حصول الرافع، الشرط منها لصلاة الظهر هي الحصة التوأمة المقارنة
لها، والشرط لصلاة العصر الحصة الأخرى منها لا تلك الحصة، وحيث إن الحصة الأولى
تجاوز المكلف عنها دون الثانية فيحكم بتحقق الأولى دون الثانية، والحصتان وان كانتا
متلازمتين وجودا الا ان التعبد بأحدهما لا يكفي لاثبات الأخرى الا على القول بالمثبت.
وبذلك ظهر الجواب عن وجهين آخرين لعدم الاتحاد: أحدهما ان ظاهر الشك
في الشئ هو تعلق الشك بالوجود وإرادة الشك في الصحة من الشك في الشئ
194

يحتاج إلى العناية: ثانيهما ان ظاهر الدليل أي دليل قاعدة التجاوز هو التجاوز عن نفس
المشكوك فيه مع أنه لا معنى للتجاوز عن وصف الصحة كما هو واضح.
ومنها: ان متعلق الشك في قاعدة الفراغ والملحوظ في مقام الجعل انما هو
المركب بما له من الوحدة الاعتبارية ويكون لحاظ الاجزاء تبعيا لاندكاك شيئية الجزء
في شيئية الكل، ومتعلق الشك في قاعدة التجاوز والملحوظ انما هو اجزاء المركب بما
هي أشياء مستقلة، ومن الواضح استحالة الجمع بين اللحاظين في دليل واحد ففي مرتبة
لحاظ الكل شيئا كيف يمكن لحاظ الجزء شيئا آخر مستقلا - وبعبارة أخرى - لحاظ
الجزء في نفسه سابق في الرتبة على لحاظ المركب منه ومن غيره من الاجزاء فكيف
يمكن الجمع بين الشيئين الذين هما في مرتبتين في عرض واحد والحكم عليهما في دليل
واحد.
ويرد عليه أمور، الأول: ان هذا الاشكال مشترك الورود ولا اختصاص له
بالقائلين بوحدة القاعدتين وذلك لان قاعدة الفراغ لا تختص بالمركبات بل تجرى في
الاجزاء أيضا: فإنها انما تجرى في موارد الشك في الصحة كان المشكوك صحته من
المركبات أم من الاجزاء، فكما تجرى لو شك في صحة الصلاة، كذلك تجرى لو شك
في صحة الركوع من غير فرق بينهما أصلا.
الثاني: ما تقدم آنفا من أن الملحوظ في قاعدة الفراغ أيضا انما هو الاجزاء
والشرائط وعدم الموانع المعتبرة في المأمور به دون المركبات كما تقدم تفصيله.
الثالث: انه لو سلم كون قاعدة الفراغ مختصة بالمركبات وقاعدة التجاوز بالاجزاء،
نقول انه لا مانع من جمع المتقدم والمتأخر في دليل واحد ولحاظهما في عرض واحد
بجامع ينطبق عليهما وكون أحدهما سابقا في الرتبة على الآخر وكون لحاظه مندكا في
لحاظه لا ينافي الجمع بينهما في لحاظ آخر.
وان شئت قلت إن اللحاظ الآخر هو لحاظ الطبيعة الجامعة بينهما المعراة عن جميع
الخصوصيات واندكاك لحاظ الجزء في لحاظ الكل انما هو فيما إذا لوحظت
الخصوصية كما هو واضح لمن راجع نظائر المقام - الا ترى - ان قولنا كل عمل اختياري
195

فهو مسبوق بالإرادة يشمل المركبات واجزائها في عرض واحد، وكذلك كل ممكن
يحتاج في وجوده إلى العلة إلى غير من الموارد.
ومنها: ان التجاوز في قاعدة التجاوز انما يكون بالتجاوز عن محل الجزء
المشكوك فيه، وفى قاعدة الفراغ انما يكون بالتجاوز عن نفس المركب لا عن محله.
وفيه: انه بعد ما عرفت من ارجاع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز، وان المشكوك
فيه دائما هو بعض ما يعتبر في المأمور به، يظهران التجاوز في جميع الموارد لو حظ
بالقياس إلى المحل ولم يلاحظ في قاعدة الفراغ بالقياس إلى المركب. إذ الظاهر من الأدلة
مضى المشكوك فيه - وبعبارة أخرى - تجاوز المكلف عما شك فيه ففي مورد قاعدة
الفراغ العمل وان كان ماضيا، الا ان اجراء القاعدة انما هو لأجل مضى المشكوك فيه
المتحقق بمضي محله فتدبر.
ويمكن ان يجاب عنه بوجوه اخر: 1 - ان التجاوز في جميع الموارد انما يلاحظ
بالإضافة إلى نفس المشكوك فيه، بتنزيل التجاوز عن المحل منزلة التجاوز عن نفسه
فأضيف التجاوز إلى الجزء حقيقة.
2 - ما عن المحقق اليزدي وهو ان المراد في الجميع هو التجاوز عن المحل فان من
تجاوز عن الشئ فقد تجاوز عن محله أيضا.
3 - ما عن المحقق الأصفهاني بإرادة التجاوز بالمعنى الأعم مما، هو تجاوز
بالحقيقة، وما هو تجاوز بالعناية: فان التجاوز عن محل ما يتعين وقوعه فيه كأنه تجاوز
عما يقع فيه، فما يضاف إليه التجاوز امر واحد، وهو وجود الشئ، الا ان الاسناد يتفاوت
حاله بالحقيقة وبالتوسع والعناية.
والايراد عليه، بأنه في مورد الشك في الصحة، اسناد التجاوز إلى الشئ اسناد إلى
ما هو له وفى مورد الشك في الوجود اسناد إلى ما غير ما هو له، ولا جامع بين الاسنادين.
يندفع، بان التجاوز انما استند إلى وجود الشئ، وكون ذلك، في بعض الموارد
بالحقيقة، وفى بعضها بالعناية من خصوصيات الفرد غير الدخيلة في موضوع الحكم فتدبر
فإنه دقيق.
196

ومنها: لزوم التدافع في مدلول الأدلة بناءا على الوحدة وعدم لزومه بناءا على
التعدد، وتقريب التهافت على ما يظهر من كلمات الشيخ الأعظم في الموضع الرابع، وغيره
من الأساطين: انه لو شك في القراءة وهو في الركوع مثلا، فمقتضى قاعدة التجاوز عدم
الاعتناء بشكه للتجاوز عن المشكوك فيه، ومقتضى مفهوم قاعدة الفراغ الاعتناء به: لعدم
التجاوز عن الصلاة: لأنه بعد في الأثناء - وعلى ذلك - فان كانتا قاعدتين تكون قاعدة
التجاوز حاكمة على قاعدة الفراغ ومعممة لها، فلا يعتنى بهذا الشك وهذا بخلاف ما إذا
كانتا قاعدة واحدة، إذ الشئ لا يعقل ان يكون حاكما على نفسه.
وفيه، أولا: انه بناءا على وحدة القاعدتين يكون عكس القاعدة لزوم الاعتناء
بالشك مع عدم التجاوز عن الشئ وعن ابعاضه فلا مورد له في المثال.
وثانيا: ان الشك في صحة الصلاة وفسادها - وبعبارة أخرى - الشك في انطباق
المأمور به على الماتى به لو انضم إليه ساير الاجزاء، مسبب عن الشك في اتيان ذلك
الجزء فإذا جرت قاعدة التجاوز وحكم بالاتيان به، يرتفع هذا الشك فلا مورد لقاعدة
الفراغ.
لا يقال ان قد بين سابقا عدم حجية القاعدة في مثبتاتها، فكيف يحكم بترتب صحة
الصلاة على الحكم باتيان ذلك الجزء.
فإنه يقال هذا غير مربوط بالمثبت: إذ الصحة عبارة عن الاستجماع للاجزاء
والشرائط فمع التعبد بالاتيان ببعض الاجزاء، وضمه إلى اتيان غيره وجدانا لا يشك في
الاستجماع، فتحصل انه لا محذور ثبوتا في الالتزام بوحدة القاعدتين.
واما المورد الثاني: وهو بيان ما يستفاد من الاخبار، فقد ذهب جماعة منهم
الشيخ الأعظم والمحقق النائيني إلى أن المستفاد من الاخبار قاعدة واحدة، وهي عدم
الاعتناء بالشك بعد التجاوز أو الفراغ، وآخرون إلى تعددها منهم المحقق الخراساني،
والهمداني، والخوئي، والعراقي، ثم إن الأولين، ارجع بعضهم قاعدة التجاوز إلى قاعدة
الفراغ كالمحقق النائيني، وارجع جماعة منهم قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز كالشيخ،
والقائلون بالتعدد طوائف 1 - من اختار عموم كلتا القاعدتين لجميع الأبواب من العبادات
197

والمعاملات كالمحقق الخوئي 2 - من ذهب إلى عموم قاعدة الفراغ لجميع الأبواب
واختصاص قاعدة التجاوز بباب الصلاة كالمحقق الخراساني والهمداني 3 - من قال إن
قاعدة التجاوز عامة وقاعدة الفراغ تختص بباب الوضوء والصلاة.
وتنقيح القول في المقام بالبحث في جهات، الأولى في استفاده الوحدة من
الاخبار أو التعدد، الثانية في أنه على فرض الوحدة، هل قاعدة التجاوز ترجع إلى قاعدة
الفراغ، أو العكس، الثالثة في عموم القاعدة أو القاعدتين لجميع الأبواب وعدمه.
اما الجهة الأولى: فالعناوين المأخوذة في الأدلة قيدا هي، التجاوز، والمضي،
والخروج، والفراغ، والانصراف، وتدل الاخبار على أن الشك مع أحد هذه العناوين
لا يعتنى به، وحيث عرفت ان المشكوك فيه في جميع الموارد وجود قيد في المأمور به
فهذه العناوين متحد المضمون.
وان شئت قلت إن العناوين الثلاثة الأول متحد المضمون، والأخيرين غايته كونهما
أخص منها ولا يحمل المطلق على المقيد في المثبتين، فالمستفاد من الاخبار قاعدة واحدة
بلا اشكال.
وأفاد المحقق الخراساني في تعليقته على الرسائل ما ملخصه، ان مقتضى التأمل في
الروايات انها مفيدة لقاعدتين، إحداهما: القاعدة المضروبة للشك في وجود الشئ بعد
التجاوز عن محله مطلقا، أو في خصوص اجزاء الصلاة وما بحكمها كالاذان والإقامة،
ثانيتهما: قاعدة مضروبة للشك في صحة الشئ لأجل الشك في الاخلال ببعض ما اعتبر
بعد الفراغ عنه. ثم جعل صحيح زرارة المتقدم، إذا خرجت من شئ ثم دخلت في غيره
فشكك ليس بشئ (1) وصحيح إسماعيل، كل شئ شك فيه مما قد جاوزه ودخل في
غيره فليمض عليه (2) ظاهرين في القاعدة الأولى وموثق محمد بن مسلم المتقدم، كل ما
شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو (3) مضافا إلى مؤيدات اخر ظاهرا في القاعدة

1 - الوسائل باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث 1.
2 - الوسائل باب 13 من أبواب الركوع حديث 4.
3 - الوسائل باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث 3.
198

الثانية، ثم قال إن ارجاع إحدى الطائفتين إلى الأخرى بحسب المفاد، وارجاعهما إلى ما
يعمهما أو ما يعم القاعدتين من كل منهما لا يخلو من تكلف وتعسف بلا وجه موجب له
أصلا.
وفيه: ان مضمون الموثق متحد مع مضمون الصحيحين، والكبرى المجعولة في
الجميع شئ واحد - وهو - عدم الاعتناء بالشك في الشئ بعد مضيه والخروج عنه،
فالمجعول قاعدة واحدة، وهي قاعدة التجاوز عن الشئ المتحقق بالتجاوز عن محله
سواء أكان ذلك بعد الفراغ عن العمل أو قبله.
فان قلت، ان موثق ابن أبي يعفور المتقدم (إذا شككت في شئ من الوضوء
ودخلت في غيره فشكك ليس بشئ (1) يدل على أن عدم الاعتناء بالشك مختص
بخصوص الفراغ عن العمل: إذ الضمير في - غيره - يرجع إلى الوضوء لا إلى الشئ:
للاجماع والنصوص الدالة على عدم جريان القاعدة في الوضوء إذا كان الشك في الأثناء.
قلت، أولا: انه قد دلت النصوص على جريان القاعدة وان كان الشك في الأثناء
لاحظ النصوص الواردة في باب الصلاة (2) وثانيا: ان الظاهر من الموثق رجوع الضمير إلى
الشئ لا إلى الوضوء، لأنه متبوع، وجهة التابعية أولى بالملاحظة، ومجرد العلم الخارجي
بعدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء، إذا كان الشك في الأثناء لا يصلح قرينة لصرف
هذا الظهور غاية الامر صيرورته معارضا مع ما دل على عدم الجريان.
وأفاد الأستاذ الأعظم في وجه ما اختاره من تعدد القاعدتين: بان الروايات المطلقة
غير المصدرة بالأمثلة الخاصة كموثق محمد بن مسلم المتقدم كل ما شككت فيه مما قد
مضى فامضه كما هو، وغيره لا تنطبق الا على مورد قاعدة الفراغ ضرورة ان الشئ لم
يمض بعد في مورد قاعدة التجاوز وانما هو محتمل المضي واسناد المضي والتجاوز إليه
باعتبار مضى محله خلاف الظاهر لا يصار إليه الا بدليل فلا دليل على كون المجعول في

1 - الوسائل باب 42 من أبواب الوضوء حديث 2.
2 - الوسائل باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، وباب 13 من أبواب الركوع،
وغيرهما.
199

تلك الروايات شاملا لمورد كلتا القاعدتين - ولكن صحيح زرارة - وصحيح إسماعيل
المتقدمين دلانا على عدم الاعتناء بالشك في الشئ في مورد الشك في مضى محل
الشئ أيضا: لان الإمام (ع) بين هذا الحكم الكلى بعد حكمه في صدر الخبرين بعدم
الاعتناء بالشك في وجود الاجزاء، وهو قرينة على عدم إرادة التجاوز والخروج عن نفس
الشئ فيهما بل أسند إليه باعتبار مضى محله، وقيام القرينة على إرادة خلاف الظاهر في
هذه الطائفة، لا يوجب رفع اليد عن ظهور الطائفة الأولى فتفرق القاعدتان، وتكون
إحداهما في مورد الشك في الوجود، والأخرى في مورد الشك في الصحة.
وفيه: انه دام ظله اعترف في البحث عن امكان وحدة القاعدتين، بان المشكوك
فيه في مورد قاعدة الفراغ أيضا وجود الشئ إذ لا معنى للشك في الصحة غير الشك في
استجماع المأتى به للقيود المعتبرة وعدمه، وحيث إن المضي انما هو باعتبار المشكوك
فيه واسند إليه، فلا محالة يكون المراد منه هو مضى محله، لا نفسه: لفرض الشك في
وجوده فهذه قرينة قطعية على اسناد المضي إليه باعتبار مضى محله. فالمتحصل، ان قاعدة
الفراغ والتجاوز قاعدة واحدة بحسب النصوص.
واما الجهة الثانية: فقد ظهر مما ذكرناه، رجوع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز
وأفاد المحقق النائيني (ره) في وجه رجوع الثانية إلى الأولى، بعد بنائه على أمرين، أحدهما:
ان لفظ الشئ في الاخبار، كقوله (ع) انما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه، لا يمكن ان
يعم الكل والجزء في مرتبة واحدة بلحاظ واحد على ما مر في البحث عن عدم امكان
كونهما قاعدة واحدة ثبوتا، ثانيهما: ان الظاهر من الاخبار كون المجعول قاعدة واحدة،
وان الظاهر أن الملحوظ هو المركب من حيث هو، انه لو لم يكن في الاخبار صحيح
زرارة، وخبر إسماعيل، لقلنا بان المجعول هو عدم الاعتناء بالشك في خصوص مورد
قاعدة الفراغ ولكن بملاحظة ورودهما يعلم أن الشارع الأقدس نزل الشك في الجزء في
خصوص باب الصلاة، منزلة الشك في الكل فيكون للشئ المأخوذ موضوعا في
الاخبار - فردان - أحدهما وجداني تكويني، والاخر تعبدي تنزيلي وعليه فلا قاعدة سوى
قاعدة الفراغ وانما تجرى قاعدة التجاوز في خصوص باب الصلاة تنزيلا لها منزلة قاعدة
200

الفراغ.
ويرد عليه ما مر من أن لفظ الشئ عام شامل للجزء والكل في عرض واحد بلا
لزوم محذور من ذلك.
القاعدة غير مختصة بباب الصلاة
واما الجهة الثالثة: فقد يقال انه على فرض وحدة القاعدتين، تكون القاعدة مختصة
بباب الصلاة.
اما على فرض رجوع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ كما اختاره المحقق النائيني،
فلما مر في توجيه كلامه مع نقده.
واما على فرض العكس، ورجوع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز، فاستدل له: بان
قوله (ع) في ذيل موثق ابن أبي يعفور (انما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه) تعليلا لما في
صدره من قوله (ع) (إذا شككت في شئ من الوضوء وقد دخلت في غيره) بعد فرض
رجوع الضمير في غيره إلى الوضوء، اما لكونه أقرب، أو انه من جهة الاخبار الاخر
والاجماع على أنه لا تجرى القاعدة في أثناء الوضوء، لا يمكن ارجاع الضمير إلى الشئ،
فمفاد الصدر انه ان شك في جزء من الوضوء وكان في الأثناء يعتنى بشكه، وان كان بعد
الفراغ منه لا يعتنى به، يقتضى اختصاص القاعدة بما إذا كان الشك بعد تمام العمل
والفراغ منه: فان الظاهر منه كونه في مقام ان الحكم في الوضوء نفيا واثباتا، لا يكون
خارجا عن القاعدة الكلية نفيا واثباتا ولذا قيل إن مفهوم الذيل علة لمنطوق الصدر،
ومنطوقه علة لمفهومه، ولكن صحيح زرارة وصحيح إسماعيل المتقدمين، دالان على
اجراء القاعدة في خصوص اجزاء الصلاة، وبهما يقيد اطلاق منطوق القاعدة الكلية،
فالمتحصل من ذلك عدم اجراء القاعدة في أثناء المركب غير باب الصلاة، وتختص
القاعدة الكلية بما بعد الفراغ.
وفيه، أولا: سيأتي في مبحث عدم جريان القاعدة في باب الوضوء، ان الظاهر من
201

الموثق رجوع الضمير إلى الشئ لا إلى الوضوء، والاجماع على عدم جريان القاعدة في
الأثناء، والأخبار الدالة على ذلك لا يصلحان قرينة لارجاع الضمير إلى الوضوء بل غاية
ما هناك طرح الموثق للمعارض الأقوى وعليه فيسقط هذا الوجه.
وثانيا: ان صدر الموثق لا مفهوم له، وانما المراد منطوقه، وهو عدم الاعتناء
بالشك بعد الفراغ من الوضوء: لان الشرط سيق لبيان تحقق الموضوع، وهو أحد مصاديق
مفهوم ما في الذيل، فلا يلزم منه شمول المفهوم له فيلزم المحذور المذكور فتدبر فإنه
دقيق.
قاعدة التجاوز غير مختصة بباب الصلاة على فرض التعدد
واما على فرض تعدد القاعدتين، فقد وقع الخلاف في اختصاص قاعدة التجاوز
بباب الصلاة وعمومها لاجزاء غير الصلاة من العبادات والمعاملات، بعد التسالم على
عموم قاعدة الفراغ لجميع الأبواب لعموم أدلتها، وقد اختار الاختصاص جمع من
المحققين، كالمحقق الخراساني، والمحقق النائيني.
مقتضى اطلاق قوله (ع) في صحيح زرارة إذا خرجت من شئ الخ (1) وعموم قوله
في صحيح إسماعيل كل شئ شك الخ (2) هو عدم الاختصاص.
وقد استدل المحقق الخراساني (ره) للاختصاص بان الصحيحين لو لم يكونا ظاهرين
في خصوص اجزاء الصلاة بقرينة السؤال عن الشك فيها فلا أقل من الاجمال وعدم
الظهور في العموم: فان تكرار السؤال عن خصوص أفعال الصلاة يمنع من اطلاق الشئ
لغيرها، ثم أورد على نفسه بأنه لو تم ذلك فإنما هو في صحيح زرارة الذي يكون العموم
فيه بالاطلاق، دون صحيح إسماعيل الذي يكون العموم فيه بالوضع، وأجاب عنه، بان
لفظ الشئ الواقع عقيب الكل لو لم يكن مطلقا بمقدمات الحكمة لما دل لفظ الكل على

1 - الوسائل باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث 1.
2 - الوسائل باب 13 من أبواب الركوع حديث 3.
202

استيعاب تمام افراده، وعرفت ان المتيقن من مدخوله في المقام خصوص أفعال الصلاة.
وفى كلامه (قده) موضعان للنظر، الأول في منعه الاطلاق، لان منشأ المنع من
الاطلاق، هو وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب، وهو إرادة خصوص اجزاء الصلاة
من المطلق فإنه يمنع من انعقاد الاطلاق بدعوى ان عدم وجود القدر المتيقن في مقام
التخاطب من مقدمات الحكمة.
ولكن يرد عليه ما حققناه في محله من هذا الشرح من أن وجود القدر المتيقن في
مقام التخاطب كوجود القدر المتيقن في غير ذلك المقام لا يمنع عن الاطلاق، إذ بعد
فرض عدم معقولية الاهمال في مقام الثبوت من الملتفت إلى انقسام الموضوع إلى قسمين
أو اقسام، وانه لابد من الاطلاق أو التقييد، وتعليق الحكم في مقام الاثبات على المطلق
وعدم ذكر القيد مع كونه في مقام البيان يستكشف ثبوت الحكم للمطلق، واحتمال
الاختصاص بالمقيد، يندفع بالاطلاق، وضروري ان كون حصة خاصة قدرا متيقنا
لا يوجب الظهور في الاختصاص فيبقى الظهور الاطلاقي بلا مزاحم، فمقتضى اطلاق
صحيح زرارة هو العموم.
الثاني: ان ما ذكره من احتياج استفادة العموم من أداته إلى اجراء مقدمات الحكمة
في مدخولها - غير تام - في مثل كلمة - كل - وأي، بل هي موضوعة لإفادة استيعاب ما
يصلح مدخولها ان ينطبق عليه من الافراد - لا ما أريد من مدخولها - إذ لو جرت مقدمات
الحكمة لما احتجنا في استفادة العموم إلى أداته فيلزم لغويتها، وتمام الكلام في ذلك
موكول إلى محله.
فعلى فرض تسليم منع وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب، يكفينا في الحكم
بالعموم صحيح إسماعيل.
واما، دعوى ان ذكر اجزاء الصلاة في صدر الصحيحين من قبيل احتفاف الكلام
بما يصلح للقرينية الموجب للاجمال، فمن الغرائب، إذ ليس ذكر المورد منافيا لظهور
الكبرى في العموم بحسب فهم العرف، الا ترى، انه لو قال المولى، يجب اكرام كل عالم،
بعد حكمه بوجوب اكرام زيد النحوي، لا يتوهم أحد اختصاص هذا الحكم بالنحويين
203

وهذا من الوضوح بمكان. أضف إلى ذلك كله ما تقدم من أن هذه القاعدة قاعدة عقلائية
ولا ريب في عدم اختصاص بناء العقلاء بباب دون باب، فالأقوى هو العموم حتى بناءا
على تعدد القاعدتين.
حكم الشك في الطهارة قبل الفراغ منها
ثم انه لا خلاف في عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء لو شك في شئ من
أفعاله وهو في أثناء الوضوء، وعن غير واحد دعوى الاجماع عليه.
ويشهد له صحيح زرارة عن الإمام الباقر (ع) إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم
تدر أغسلت ذراعيك أم لا؟ فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه انك لم تغسله أو
تمسحه مما سمى الله تعالى ما دمت في حال الوضوء الحديث (1).
ولا يعارضه موثق ابن أبي يعفور عن امامنا الصادق (ع) إذا شككت في شئ من
الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشئ انما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه (2).
لا لما قيل من أنه من جهة الاجماع على عدم جريان القاعدة في الوضوء إذا شك
في أثنائه يلتزم برجوع الضمير في (غيره) إلى الوضوء، فإنه لا وجه لذلك أصلا: لان
الظاهر منه رجوعه إلى الشئ لأنه متبوعه وجهة التابعية أولى بالملاحظة من جهة القرب،
فإذا كان مقتضى العربية ذلك لا يصلح الخبر الآخر المنفصل عنه قرينة لارجاع الضمير
إلى الوضوء، فان شئت لاحظ نظائر المقام فلو قال أحد رأيت أسدا كان ظاهر ذلك رؤية
الحيوان المفترس فبعد ساعة قال إن ذلك الأسد كان يرمى، فهل يرى أهل العرف قوله
الثاني قرينة على الأول، أم يرونهما متنافيين.
بل لتعين طرح الموثق للشهرة التي هي أول المرجحات في تعارض الخبرين.
وما في الجواهر من عدم تسليم ظهور الموثق في رجوع الضمير إلى الشئ غير تام،

1 - الوسائل باب 42 من أبواب الوضوء حديث 1.
2 - الوسائل باب 42 من أبواب الوضوء حديث 2.
204

كما أن ما افاده الشيخ الأعظم (ره) في كتاب الطهارة من أنه بعد تعارض الخبرين يرجع إلى
الاخبار الاخر العامة لولا الترجيح بالشهرة والاجماع.
غير تام: فإنه في تعارض الخبرين لا يحكم بالتساقط والرجوع إلى الدليل الآخر، بل
لابد من ملاحظة التراجيح المذكورة في الاخبار ومع فقدها فالتخيير، وفى المقام أول
المرجحات يقتضى تقديم الصحيح فلا اشكال في الحكم.
انما الكلام في موردين، الأول: في أنه هل يختص ذلك بالوضوء، أم يكون
حكم الغسل والتيمم أيضا كذلك؟ الثاني: في أنه، هل يلحق الشك في صحة الجزء
وفساده بالشك في الوجود فلا تجرى فيه قاعدة التجاوز، أم لا؟ فتجري.
اما المورد الأول: فقد نسب الشيخ الأعظم (ره)، القول بعدم جريان القاعدة فيهما
أيضا، إلى المشهور وقد صرح جماعة بجريانها فيهما.
وقد استدل للأول بوجوه، أحدها: ما ذكره المحقق النائيني (ره) وغيره، وهو ان دليل
قاعدة التجاوز مختص بباب الصلاة وغير شامل لغيرها فيكون الالحاق على القاعدة.
وفيه: ما عرفت من عدم الاختصاص حتى بناءا على تعدد القاعدتين.
ثانيها: ان المستفاد من موثق ابن أبي يعفور المتقدم بعد ارجاع الضمير في غيره إلى
الوضوء للاجماع على عدم جريان قاعدة التجاوز لو شك في أثناء الوضوء، لأجل ادخال
الشك في شئ من أفعال الوضوء قبل الخروج عنه، ولو كان بعد الدخول في الجزء
المترتب كالشك في غسل الوجه بعد الدخول في غسل اليد اليسرى في الشك في
المحل كما يشهد له ذكر الكبرى الكلية في ذيله: ان الوضوء بتمامه اعتبر شيئا واحدا، والا
لم ينطبق عليه تلك الكبرى الكلية، ولا وجه لذلك سوى ترتب اثر واحد أو انطباق عنوان
واحد عليه على اختلاف المسلكين وهي الطهارة، وعليه فيلحق به الغسل والتيمم، وبهذا
البيان يظهر عدم صحة ما أورد على هذا الوجه بأنه تخرص بالغيب من دون شاهد.
وأورد عليه المحقق الخراساني (ره) بان لازم ذلك عدم جريان قاعدة التجاوز في
شئ من العبادات حتى الصلاة لترتب اثر واحد على كل واحدة منها.
وفيه: انه فرق واضح بين المسببات التوليدية وما شابهها كالطهارة على المختار
205

التي تكون مأمورا بها وهي متعلقات التكاليف دون محصلاتها، أو ما تنطبق عليه، وبين
غيرها مما لا يكون كذلك كساير العبادات.
وحاصله ان نظر المستدل إلى أن المأمور به بالأصالة هو الامر الواحد البسيط
المتحصل من الغسلات والمسحات، فالامر بها امر تبعي مقدمي، فهو تابع للامر بذى
المقدمة، فحيث انه واحد فكذا ما يحصله، وعليه فلا يرد عليه النقض بساير العبادات فإنه
فيها لا يكون المصلحة الداعية إلى الامر مأمورا بها والامر متعلق بالعبادة.
وبذلك يظهر اندفاع ما أجاب به الأستاذ الأعظم من أن المستفاد من الأدلة كون
الغسلتين والمسحتين مأمورا بها لا انها مقدمة للمأمور به، وعلى فرض تسليم كونها مقدمة
فإنما هي مقدمة شرعية وليست عقلية كما لو وجب قتل أحد وشك في تحقق بعض
مقدماته كي لا يجرى فيها القاعدة، وتكون مورد القاعدة الاحتياط، حيث إن الشك
يرجع إلى الشك في المحصل.
إذ قد عرفت ان نظر المستدل إلى كون العمل مع تعدد اجزائه واحدا، فالشك في
بعض اجزائه ما لم يتم العمل شك في المحل لا بعد التجاوز.
فالصحيح ان يورد على هذا الوجه انه على فرض حجية الموثق وعدم طرحه
للاعراض لأجل ان الظاهر رجوع الضمير إلى الشئ لا إلى الوضوء، وتسليم ان الوجه في
ادخال الشك في شئ من الوضوء وهو فيه في الشك في المحل ترتب اثر واحد أو
انطباقه عليه، مع أن للمنع عنهما مجالا واسعا، انه لا وجه للالحاق لان ذلك ليس علة
منصوصة بل هو من قبيل حكمة التشريع التي لا يتعدى عنها فلا وجه للالحاق.
الثالث: وهو مختص بالتيمم، وهو دليل البدلية، فإنه لا ريب في عدم جريانها في
الوضوء فكذلك فيما هو بدل عنه.
وفيه: مضافا إلى أنه أخص من المدعى، ما حققناه في الجزء الثالث من فقه الصادق
من عدم عموم يدل على بدلية التيمم عن الطهارة المائية في جميع الخصوصيات
والاحكام، فالأظهر جريان قاعدة التجاوز فيهما لاطلاق الأدلة وعدم المقيد.
واما المورد الثاني: فالأظهر ما هو المشهور على ما نسب إليهم الشيخ الأعظم (ره) من
206

الالحاق: لاطلاق صحيح زرارة المتقدم لا سيما بناءا على ما هو الحق من رجوع الشك
في الصحة إلى الشك في الوجود.
واما الاستدلال له بموثق ابن أبي يعفور المتقدم بعد ارجاع الضمير في (غيره) إلى
الوضوء بالتقريب المتقدم، بدعوى انه يدل على لزوم الاعتناء بالشك في الوضوء سواء أ
كان الشك في وجود جزء أو صحته إذا كان ذلك في الاجزاء.
فغير تام، إذ مضافا إلى ما تقدم من عدم حجيته للاعراض أو طرحه لمعارضته مع
ما هو أشهر منه، يرد عليه ان دلالته على لزوم الاعتناء بالشك في صحة الجزء إذا كان في
الأثناء وان كان بعد تجاوز محله، انما تكون بالاطلاق، فيعارض مع عموم ما دل على
لزوم الغاء الشك بعد التجاوز والمضي عن المشكوك فيه، وحيث إن دلالة معارضة انما
تكون بالعموم فيقدم عليه، ويحمل الموثق على الشك في المحل أو الشك في وجود
الاجزاء المعلوم خروجه عن العموم فيكون الشك في الصحة مشمولا لعموم الدليل
فتأمل.
ولكن يمكن ان يقال ان الدليل المخرج للوضوء عن تحت القاعدة الكلية من عدم
الاعتناء بالشك بعد تجاوز المحل، انما هو صحيح زرارة، وهو مختص بالاجزاء التي
سماها الله تعالى، وهي الغسلات، والمسحات، وكون ما يتوضأ به ماءا: فان الآية الكريمة
الآمرة بالوضوء بقرينة ما في ذيلها (وان لم تجدوا ماءا) دالة على اعتبار كونه ماءا، واما
ساير ما يعتبر في الوضوء كما لو شك في الغسل من الأعلى، أو الأسفل، أو الترتيب، أو
الموالاة، أو المسح ببلة اليمنى دون الماء الخارج، وما شاكل فمما لم يسم الله تعالى،
فالصحيح لا يشملها، وحيث يحتمل اختصاص الحكم بما فرضه الله تعالى كما في الشك
في الركعات فلا علم بعدم الخصوصية فلا وجه للتعدي فيبقى تحت عموم القاعدة، ولعله
إلى ذلك نظر من ذهب إلى جريان القاعدة عند الشك في الصحة فتدبر فإنه حقيق به
فالأظهر هو الاختصاص في الموردين.
207

اعتبار الدخول في الغير في جريان القاعدة
السابع: في بيان انه، هل يعتبر الدخول في الغير في اجراء القاعدة، أم لا؟ وعلى
الأول، فهل يعتبر الدخول في الغير الخاص، أم يكفي الدخول في مطلق الغير؟
الأقوى انه في موارد الشك في الوجود كما لو شك في وجود الركوع مثلا يعتبر
الدخول في الغير المترتب الشرعي، لا لاخذ ذلك في دليلها، بل لان التجاوز المعتبر في
جريانها ولو بناءا على المختار من وحدة القاعدتين لا يتحقق في تلك الموارد الا
بالدخول في الغير، والا فلا يصدق التجاوز عنه بعد كون الشك في أصل الوجود، ففي
موارد الشك في أصل الوجود يعتبر الدخول في الغير المترتب الشرعي، ولازم ذلك هو
اعتبار التجاوز عن المحل الذي جعل محلا للشئ شرعا وعدم كفاية التجاوز عما صار
محلا للشئ بمقتضى العادة النوعية أو الشخصية.
ولكن في رسائل الشيخ الأعظم (ره) في الموضع الثاني ان المراد بمحل الفعل
المشكوك في وجوده هي المرتبة المقرة له بحكم العقل أو بوضع الشارع أو غيره ولو
كان نفس المكلف من جهة اعتياده باتيان ذلك المشكوك في ذلك المحل، ثم قال هذا
كله مما لا اشكال فيه الا الأخير فإنه ربما يتخيل انصراف اطلاق الاخبار إلى غيره مع أن
فتح هذا الباب بالنسبة إلى العادة يوجب مخالفة اطلاقات كثيرة فمن اعتاد الصلاة في أول
وقتها أو مع الجماعة فشك في فعلها بعد ذلك فلا يجب عليه الفعل، وكذا من اعتاد فعل
شئ بعد الفراغ من الصلاة فرأى نفسه فيه وشك في فعل الصلاة وكذا من اعتاد الوضوء
بعد الحدث بلا فصل يعتد به أو قبل دخول الوقت للتهيؤ فشك بعد ذلك في الوضوء إلى
غير ذلك من الفروع التي يبعد التزام الفقيه بها.
واشكل عليه المحقق اليزدي في درره: بان الأمثلة المذكورة جلها من قبيل العادة
الشخصية، والمراد من محل الشئ ما صار محلا له شرعا أو بمقتضى العادة النوعية، واما
ما صار محلا له بمقتضى العادة الشخصية فلا يشمله لفظ محل الشئ: إذ إضافة المحل إلى
الشئ بقول مطلق لا تصح بمجرد تحقق العادة لشخص خاص بخلاف ما لو كانت العادة
بحسب النوع، واما ما افاده من المخالفة للاطلاقات فيرد عليه انها لا تدل إلى على وجوب
208

اتيان الفعل واما لو شك في أنه وجد أم لا فلا تدل على عدم الايجاد، نعم قاعدة الاشتغال
تقتضي وجوب الاتيان ما لم يقطع بالامتثال، وكذلك استصحاب عدم الاتيان، وعلى
فرض تمامية نصوص الباب تكون قاعدة التجاوز مقدمة عليهما.
أقول: يرد على الشيخ الأعظم (ره) ان الاخبار لا تشمل في أنفسها موارد التجاوز عن
المحل العادي حتى نلتجأ في اخراجها إلى ما افاده من مخالفة الاطلاقات إذ ليس
الموضوع في شئ من الاخبار التجاوز عن محل الشئ حتى يقال بشموله لذلك، بل
الموضوع فيها هو التجاوز عن الشئ ومضيه والخروج عنه ولكن حيث إنه في مورد
الشك في أصل الوجود لا معنى لذلك فنلتزم بان المراد التجاوز عن محله.
- وبعبارة أخرى - يكون بحيث لو أريد الاتيان به لوقع على غير الوجه المأمور به
ولا ريب ان ذلك يتوقف على التجاوز عن المحل الشرعي فقط.
وبهذا يظهر ان ما استدل به المحقق اليزدي (ره) لما اختاره من كفاية التجاوز عن
المحل العادي بحسب النوع من أنه ليس في الأدلة ما يدل على التقييد بخصوص المحل
الشرعي وان إضافة المحل إلى الشئ بقول مطلق، تصح مع تحقق العادة النوعية. ينبغي ان
يعد من غرائب الكلام.
واما ما أورده على الشيخ الأعظم، حيث ذكر ان اجراء القاعدة في الموارد
المذكورة مستلزم للمخالفة للاطلاقات الكثيرة، بان اجرائها مستلزم للمخالفة لقاعدة
الاشتغال والاستصحاب لا للاطلاقات.
فيرد عليه ان الظاهر أن مراد الشيخ (قده) من هذه الجملة ان الالتزام بكفاية التجاوز
عن المحل العادي في جريانها يستلزم تأسيس فقه جديد، ويوجب الالتزام بمسائل
خلاف الاجماع والضرورة، فلا وجه لدعوى عدم المحذور في جريانها.
فتحصل ان الأظهر اعتبار التجاوز عن المحق الشرعي، في مورد الشك في أصل
الوجود.
واما في مورد الشك في الصحة، فقد أفاد الشيخ الأعظم (ره) ان مقتضى صحيحي
زرارة، وابن جابر اعتبار الدخول في الغير ومقتضى اطلاق موثق محمد بن مسلم
209

وما شابهه، كفاية المضي والتجاوز وان لم يدخل في الغير، فيدور الامر، بين حمل المطلق
على المقيد، وبين حمل القيد على الغالب.
ويقرب الأول، ان الظاهر من الغير في صحيح ابن جابر بعد قوله ان شك في
الركوع بعد ما سجد وان شك في السجود بعد ما قام فليمض، بملاحظة كونه في مقام
التحديد والتوطئة للقاعدة المقررة بقوله بعد ذلك (كل شئ شك فيه مما قد جاوزه
ودخل في غيره فليمض) كون، السجود، والقيام حدا للغير الذي يعتبر الدخول فيه، وانه
لا غير أقرب من الأول بالنسبة إلى الركوع، ومن الثاني بالنسبة إلى السجود، إذ لو كان
الهوى أو النهوض كافيا قبح في مقام التوطئة للقاعدة التحديد بالسجود والقيام.
ويقرب الثاني، التعليل المستفاد من قوله (ع) في موثق بكير هو حين يتوضأ أذكر منه
حين يشك إذ لا فرق فيه بين الدخول في الغير وعدمه، وكذلك المستفاد من قوله انما
الشك إذا كنت في شئ لم تجزه، وقوله (ع) كل ما مضى من صلاتك وطهورك الخبر.
وأورد عليه بأنه على فرض كون النسبة بين الطائفتين عموما مطلقا لا ترديد في حمل
المطلق على المقيد، وما افاده من المقربات لحمل القيد على الغالب، غريب: إذ غاية ما
هناك كون تلك الروايات أيضا مطلقة وتعدد المطلق لا يمنع من حمله على المقيد.
وفيه: انه يمكن ان يكون نظر الشيخ (ره) ان الصحيحين انما هما في مورد
الشك في الوجود والدخول في الغير المعتبر في ذلك المورد يمكن ان يكون من جهة
انه لا يصدق التجاوز عن المحل المصحح لصدق عنوان التجاوز المأخوذ موضوعا
للقاعدة بدونه، لا لخصوصية فيه فيكون من قبيل عطف تفسير، على الخروج والتجاوز
المأخوذين فيهما، وعليه، فلا يدلان على دخل القيد كي يكونان أخص من المطلقات،
ففي الحقيقة تردد الشيخ يكون من جهة الصغرى فتدبر فإنه دقيق، مضافا إلى ما يشير إليه
في آخر كلامه من أن المضي والتجاوز حتى في مورد الشك في الصحة ملازم للدخول
في مطلق الغير أي الحالة التي هي غير حالة الاشتغال بالعمل لا الغير الوجودي.
وتنقيح القول في المقام انه حيث يكون التجاوز عن المشكوك فيه ملازما
للدخول في مطلق الغير، فيكون مقتضى اطلاق جملة من الروايات منها موثق محمد بن
210

مسلم المعلق للحكم على عنوان التجاوز والمضي كفاية مطلق الغير ولو كان هو السكوت
وعدم اعتبار قيد فيه عقلي أو شرعي فمن يدعى اعتبار قيد فيه لا بد وان يذكر له دليل.
وقد يقال ان النصوص لا اطلاق لها والقدر المتيقن منها ذلك وذكروا في توجيه
ذلك أمورا.
منها: ان صدق الطبيعة المأخوذة في الدليل على افرادها إذا كان بنحو التشكيك
ويكون بالقياس إلى بعضها بالظهور وبالقياس إلى الآخر بالخفاء لا يثبت الحكم الا
للافراد الظاهرة، الا ترى ان صدق الحيوان على الانسان انما يكون بحسب المتفاهم
العرفي بالخفاء، ولذلك التزمنا بانصراف ما دل على عدم جواز الصلاة في شئ من
اجزاء الحيوان الذي لا يؤكل لحمه عن اجزاء الانسان.
وحيث إن صدق التجاوز والمضي والفراغ بعد الدخول في الغير الوجودي ظاهر
بالقياس إلى ما لم يدخل فيه فلا محالة ينصرف الدليل إليه، وفيه: ان ما ذكر من الضابط انما
يتم بالنسبة إلى الافراد التي يكون صدق المهية عليها بالخفاء بحيث لا يراها العرف من
مصاديقها وضروري ان الامر في المقام ليس كذلك غاية الامر صدق التجاوز مع
الدخول في الغير الوجودي أظهر ولكن الأظهرية ليست ملاك الانصراف.
ومنها: ان القدر المتيقن في مقام التخاطب في الأدلة هو خصوص ما إذا تحقق
هناك دخول في الغير الوجودي فلا يصح التمسك بالاطلاق فإنما هو فيما إذا
كان القدر المتيقن في مقام التخاطب لا مطلقه، وفى المقام ليس كذلك غاية الامر وجود
القدر المتيقن من الخارج.
وثانيا: ما حققناه في محله وأشرنا إلى وجهه في هذه الرسالة سابقا وهو ان القدر
المتيقن في مقام التخاطب أيضا لا يكون مانعا عن التمسك بالاطلاق.
وثالثا: ان الأدلة لا تنحصر في المطلقات بل فيها العمومات وقد تقدم ان أداة
العموم ما كان منها من قبيل كل وأي بأنفسها متكفلة لتسرية الحكم إلى جميع افراد ما
يصلح ان ينطبق عليه مدخولها من دون حاجة إلى اجراء مقدمات الحكمة في المدخول.
211

ومنها ان غلبة وجو الشك في الصحة في خصوص ما إذا كان داخلا في الغير
الوجودي تمنع عن التمسك بالاطلاق في غيره.
وفيه: أولا ان الغلبة لا توجب الانصراف، وثانيا لا ينحصر الدليل بالمطلقات.
فتحصل ان المطلقات والعمومات تقتضي عدم اعتبار هذا القيد.
وعن المحقق النائيني (ره) اعتبار الدخول في الغير الوجودي وانه لا يكتفى
بالسكوت المجرد، واستدل له: بان مقتضى اطلاق الروايات وان كان عدم اعتبار الدخول
في الغير الا ان ظاهر جملة من النصوص، كموثق ابن أبي يعفور (1) وغيره هو اعتبار الدخول
في الغير لان الظاهر من قوله (ع) وقد صرت في حالة أخرى، وقوله (ع) دخلت في غيره
ونحو ذلك مما ورد في الاخبار هو الاشتغال بأمر وجودي مغاير لحال الاشتغال
بالمركب فلا بد من حمل المطلق على المقيد.
ويرد عليه ان غاية ما يستفاد من المقيدات اعتبار الدخول في مطلق الغير الذي
عرفت انه ملازم لصدق عنوان التجاوز، والمضي، والفراغ وظهورها في اعتبار الدخول
في امر وجودي ممنوع، فإذا لا تنافى بين المطلقات والمقيدات، ومفاد الجميع واحد،
وهو كفاية الدخول في مطلق الغير.
وبذلك ظهر انه لا تنافى بين صدر موثق ابن أبي يعفور الدال على اعتبار الدخول
في الغير وبين ذيله والمقتصر على مجرد التجاوز: لتلازم العنوانين.
ثم انه قد استدل بوجوه اخر، تارة لهذا القول وأخرى للقول باعتبار الدخول في
الغير الذي يكون مستقلا بالتبويب كالسجود والركوع والقيام وما شاكل.
الأول: قوله (ع) في صحيح زرارة (2)؟، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت
في حال أخرى في الصلاة أو غيرها: فإنه يدل على اعتبار الدخول في عبادة مترتبة على
الوضوء مثل الصلاة وغيرها.
وفيه: أولا ان الصحيح مختص بالوضوء والتعدي يحتاج إلى دليل، وعدم الفصل

1 - الوسائل باب 42 من أبواب الوضوء حديث 2.
2 - الوسائل باب 42 من أبواب الوضوء حديث 1.
212

غير ثابت لا سيما بعد ملاحظة عدم جريان القاعدة في أثنائه وجريانها في أثناء غيره.
وثانيا: ان هذه الشرطية معارضة مع الشرطية الأولى المذكورة في صدره وهي
قوله، إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما إلى أن
قال ما دمت في حال الوضوء، والظاهر ولا أقل من المحتمل كون الثانية تصريحا بمفهوم
الأولى، - وبعبارة أخرى - في صدر الصحيح علق الاعتناء بالشك على الاشتغال بالوضوء
فاما يؤخذ بمفهوم الصدر إذ التصرف في الذيل أولى من التصرف في الصدر، أو
يتعارضان فيحكم بالاجمال والرجوع إلى العمومات والمطلقات.
وثالثا: ان قوله (ع) في حال أخرى أريد به بحسب الظاهر مطلق غير حال الوضوء،
ويؤيده قوله (ع) من الصلاة أو غيرها إذ لو كان المراد هو الحال المخصوصة، كان الأولى
ان يقال أو نحوها بدل أو غيرها فتدبر.
الوجه الثاني: وقوع التعليق على الدخول في الغير في صحيحي إسماعيل وزرارة
والمنساق إلى الذهن من الغير في أمثال المقام إرادة فعل آخر من أفعال الصلاة مما له
استقلال بالملاحظة لا مطلق الغير، ويؤيد ذلك وقوع التمثيل في صدر الصحيح بالشك
في الركوع بعد ما سجد وفى السجود بعد ما قام، فلو كان الهوى إلى السجود والنهوض
إلى القيام كافيين، لكانا أولى بالتمثيل، فيستكشف من ذلك أن المراد بالغير المذكور في
الذيل ليس مطلقه بل ما كان من هذا القبيل.
وفيه: انه لا وجه لدعوى الانسباق المزبور الا أحد أمرين، أحدهما: انصراف لفظ
الشئ في قوله كل شئ شك فيه في بادي النظر إلى ما يكون له عنوان مستقل فينسبق إلى
الذهن من لفظ الغير بقرينة المقابلة ما يماثله، ثانيهما: التمثيل بالسجود والقيام، وشئ
منهما لا يصلح لذلك.
اما الأول: فلانه انصراف بدوي يزول بعد الالتفات إلى عدم قصور لفظ الشئ عن
الشمول لأبعاض الاجزاء، وبالجملة مقتضى عموم لفظ الغير شموله لمطلق ما يغاير
المشكوك فيه، ودعوى الانصراف لا تسمع.
واما الثاني: فلان التمثيل بهما وعدم التمثيل بالهوى والنهوض، انما يكون لأجل
213

عدم كونهما من اجزاء الصلاة، واعتبار الدخول في الغير المترتب الشرعي في مورد
الشك في أصل الوجود كما تقدم، أولا جل ان الغالب حصول الشك في هذه الحال
وهذا لا يوجب تقييد اطلاق ما في ذيلهما من الضابطة الكلية.
الوجه الثالث: وقوع العطف بثم الظاهرة في التراخي، في صحيح زرارة إذا
خرجت من شئ ثم دخلت في غيره إذ لو كان الدخول في مطلق الغير كافيا لكان ذلك
من لوازم الخروج فلم يكن العطف بثم مناسبا.
وفيه: انه ان أريد بذلك ان العطف بثم ظاهر في إرادة قسم خاص من الغير وهو ما
يكون منفصلا عن المشكوك فيه، فيرد عليه: انه لا فاصل بين التكبيرة والقرائة التين وقع
التصريح بهما في صدر الصحيح، وان أريد به اعتبار المباينة الذاتية وهذا كما يشمل الغير
الذي له عنوان مستقل كذلك يشمل غيره كما لا يخفى، والظاهر كونه عطف تفسير ولعله
المتبادر إلى الذهن بعد الالتفات إلى أن الدخول في في الغير من مقومات صدق مضى
المشكوك فيه.
فتحصل انه ليس شئ يدل على اعتبار امر زايد على صدق عنوان التجاوز وهو في
موارد الشك في الوجود لا يصدق الا بعد الدخول في الغير المترتب الشرعي وفى موارد
الشك في الصحة يصدق بالدخول في مطلق الغير وهذا الاختلاف انما نشأ من اختلاف
المصاديق والا فالمفهوم المعلق عليه الحكم واحد.
ومن ذلك يظهر جريان قاعدة الفراغ في مورد الشك في صحة الجزء أيضا ولا
يختص بمورد الشك في صحة المركب على ما هو صريح المحقق النائيني (ره)، فلو شك
في صحة التكبيرة بعد الفراغ منها وقبل الدخول في القراءة تجرى القاعدة فيها ولا يتوقف
جريانها على الدخول في القراءة.
هل تجرى القاعدة لو دخل في الجزء المستحبي
الثامن: هل يعتبر في الغير الذي لابد من الدخول فيه في عدم الاعتناء بالشك عند
214

الشك في الوجود، ان يكون من الاجزاء الواجبة، أم هو أعم منها ومن الاجزاء المستحبة
كالقنوت، وعلى الأول فهل يعتبر ان يكون جزءا مستقلا، أم يشمل جزء الجزء، فلو شك
في الحمد وهو في السورة لا يعتنى بشكه على الثاني دون الأول) فالكلام في مقامين.
الأول: في كفاية الدخول في الجزء المستحبي وعدمها، فلو شك في القراءة وهو
في القنوت أو شك في التكبيرة وهو في الاستعاذة، أو في التسبيحات الأربع وهو مستغفر
فهل تجرى القاعدة ولا يعتنى بشكه كما هو المنسوب إلى المشهور، أم لا تجرى ويجب
الاعتناء به كما عن الشهيدين والمحقق الخوئي وجهان: يشهد للأول اطلاق الأدلة.
واستدل الشهيد الثاني (ره) للثاني: بمفهوم قوله (ع) في صحيح زرارة المتقدم (قلت
شك في القراءة وقد ركع قال (ع) يمضى) فان مفهومه انه لو لم يكن ركع يعود فيدخل فيه،
لو كان قانتا.
وبخبر عبد الرحمان الآتي: فان العود إلى الفعل مع الشروع في واجب وهو
النهوض وان لم يكن مقصودا بالذات قد يقتضى العود مع الشروع في المندوب بطريق
أولى.
وبان القنوت ليس من أفعال الصلاة المعهودة فلا يدخل في الاخبار.
وفيه: ان صحيح زرارة لا مفهوم له من جهة عدم الشرط مع أنه لو كان بنحو القضية
الشرطية لما كان دالا على المفهوم لكون الشرط مسوقا لبيان تحقق الموضوع، أضف إليه
كونه في كلام السائل لا الإمام (ع) والأولوية ممنوعة فان القنوت مما امر به الشارع
والنهوض غير مأمور به، وعدم كون القنوت من أفعال الصلاة المعهودة لا يوجب
الانصراف فإذا لا مقيد لاطلاق الروايات.
واستدل الأستاذ الأعظم لما اختاره، بعد بيان ان الجزء المستحب، هو ما يوجب
زيادة فضيلة من دون ان يكون دخيلا في ماهية الواجب.
: بان الدخول فيه لا يوجب مضى محل الجزء فإنه انما يتحقق إذا كان ترتب
المدخول فيه معتبرا في صحة الجزء، ومن الظاهر أن ترتب الجزء المستحب غير معتبر في
صحة الاجزاء السابقة عليه، ضرورة ان القراءة تصح وان لم يتعقبها قنوت أصلا.
215

وفيه: ان مضى المحل انما يتحقق باتيان ما امر به الشارع مترتبا على المشكوك
فيه، الذي لو اتى به قبل المشكوك فيه كان على غير الوجه المأمور به كان الامر به
استحبابيان أو وجوبيا، ومن الضروري ان الجزء المستحب كذلك، وان شئت فقل ان الامر
به وان كان استحبابيا الا ان المكلف ليس مختارا في محله بل ملزم بالاتيان به بعد القراءة
مثلا، وهذا يوجب صدق عنوان مضى محل ما شك فيه، فالأظهر جريان قاعدة التجاوز
بالدخول فيه.
حول جريان القاعدة في الاجزاء غير المستقلة
المقام الثاني: في كفاية الدخول في جزء الجزء لاجراء القاعدة في الجزء السابق
كما لو شك في الحمد وهو في السورة، وعدمها، فالمنسوب إلى المشهور عدم الاكتفاء
به فيعتنى بشكه ويأتي بالحمد، وعن الشيخ المفيد، والحلي، والمحقق، والفاضل
الخراساني، والمحقق الأردبيلي، وجماعة من المحققين من متأخري المتأخرين، جريان
القاعدة وانه لا يعتنى بشكه.
مدرك القول الثاني: اطلاق الأدلة ضرورة انه يصدق الخروج عن الجزء السابق
والدخول في الجزء اللاحق الذي هو غيره.
وبذلك يظهر جريان القاعدة في الشك في آية بعد الدخول في الآية اللاحقة كما
صرح به المحقق الأردبيلي، والفاضل الخراساني، ونفى عنه البعد المجلسي (قده) واختاره
جمع من محققي متأخري المتأخرين.
واستدل لما هو المشهور بوجوه 1 - ان القراءة الشاملة لكل من الفاتحة والسورة
امر واحد. وقيل في توجيهه ان يستفاد ذلك من تعلق الامر الواحد بها الكاشف ذلك عن
لحاظ مجموعها شيئا واحدا فلا يصدق المضي مع عدم تماميتها.
وفيه: ان كون اجزاء الجزء الواحد التي هي متعددة في الوجود التكويني، وكل
واحد منها مغاير مع الآخر بالذات عملا واحدا، يتوقف على اعتبار الشارع إياها كذلك
216

ومجرد امر ضمني متعلق بها لا يصلح لذلك، والا كانت الصلاة مثلا عملا واحدا وحيث
انه لا دليل على ذلك الاعتبار، فلا وجه لدعوى عدم صدق المضي.
2 - مفهوم قوله (ع) في صحيح زرارة (شك في القراءة وقد ركع) فإنه بمفهومه يدل
على عدم المضي لو شك في القراءة الشاملة للحمد ما لم يركع، وان كان دخل في
السورة.
وفيه: ان صحيح زرارة لا مفهوم له لعدم كونه متضمنا لقضية شرطية، والقيد
لا مفهوم له، أضف إليه انه لو كان بنحو القضية الشرطية لم يكن له مفهوم لكون الشرط
على فرض وجوده مسوقا لبيان تحقق الموضوع مع أنه في كلام السائل دون الامام.
3 - ان ذكر الافعال المعدودة في صدرة الخبر توطئة لبيان الضابطة الكلية في ذيله،
دال على أن الغير الذي يجب المضي بالدخول فيه ما كان من قبيل الاجزاء المستقلة
بالتبويب ولا يشمل جزء الجزء
وفيه: ان ما ذكر في صدر الخبر انما هو الأسئلة الخاصة ولم يذكرها الإمام (ع)
ابتداءا كي يجرى فيه ما ذكر، مع أنه لو كان ذلك في كلامه (ع) لما كان ما أفيد تاما، لان
ذكر المورد لا يكون منافيا لظهور الكبرى في العموم كما مر.
4 - ما استدل المحقق النائيني (ره) له بان قاعدة التجاوز مختصة بباب الصلاة إذ
اطلاق الأدلة وعمومها بعد ما لم يمكن شمولهما للاجزاء وللمركبات في عرض واحد، و
الا لزم الجمع بين لحاظ المتأخر والمتقدم في لحاظ واحد وهو ممتنع كما تقدم.
واختصاصهما بالمركبات، فدخول الاجزاء في عموم الشئ في عرض دخول الكل
لا يمكن الا بعناية التعبد والتنزيل، وحينئذ لابد من الاقتصار على مورد التنزيل، والمقدار
الذي قام الدليل عليه هي الاجزاء المستقلة بالتبويب إذ الدليل عليه ليس الا صحيحا زرارة
وإسماعيل، المختص صدرهما بالاجزاء المستقلة الموجب ذلك لتضييق مصب عموم
الشئ واطلاق الغير المذكورين في الذيل.
ويرد عليه، أولا ما تقدم من عدم المانع من شمول الأدلة للمركبات واجزائها في
عرض واحد، بل هذا هو الظاهر منها، وثانيا: انه لو تم ذلك لما كان وجه لدعوى
217

اختصاص الصحيحين بالاجزاء المستقلة. إذ الأمثلة المذكورة في صدرهما وان كانت من
هذا القبيل الا ان العبرة باطلاق الدليل وعمومه، وقد تقدم انه لا قصور في شمول ذيلهما
لاجزاء الاجزاء أيضا، ولذا ترى انه لا يتوقف أحد في اجراء القاعدة لو شك في الحمد
وهو في السورة مع أن المذكور في الصحيح هو القراءة، بل مقتضى اطلاق الدليل وعمومه
جريان القاعدة في الشك في صدر الآية بعد الدخول في ذيلها المخالف له مفهوما، كما
قد يتفق ذلك في الآيات الطوال، نعم شمولها لاجزاء الكلمة الواحدة أو الكلام الواحد
العرفي كالمبتدأ والخبر مشكل إذ لا يبعد دعوى ان أهل العرف يرون ذلك من الشك
قبل التجاوز لابعده فتدبر.
لا يكفي الدخول في الهوى والنهوض في جريان القاعدة
التاسع: هل يكفي الدخول في الهوى إلى السجود في عدم الاعتناء بالشك في
الركوع، والدخول في النهوض إلى القيام في جريان القاعدة في الشك في السجود، أم
لا؟ أم يفصل بين الفرعين، فيكفي الأول دون الثاني وجوه وأقوال.
يقع الكلام تارة فيما تقتضيه القواعد، وأخرى فيما يقتضيه النص الخاص.
اما من حيث القواعد فكفاية الدخول فيهما وعدمها مبنيان على، كون الهوى
والنهوض من اجزاء الصلاة، وكونهما من مقدماتها، وعلى كفاية التجاوز عن المحل
العادي في جريان القاعدة، وعدمها: إذ على فرض كونهما من اجزاء الصلاة تجرى
القاعدة بعد الدخول فيهما، لما مر من عدم اعتبار شئ في جريانها سوى الدخول في الغير
المترتب الشرعي، كما أنه على القول بكفاية التجاوز عن المحل العادي تجرى القاعدة في
الفرض.
واما على القول بعدم كونهما من الاجزاء وعدم كفاية التجاوز عن المحل العادي
فلا تجرى: لما تقدم من اعتبار الدخول في الغير المترتب الشرعي في موارد الشك في
الوجود.
218

نعم، إذا شك في صحة الركوع، والسجود وهو في الهوى إلى السجود، والنهوض
إلى القيام، تجرى القاعدة لما عرفت من عدم اعتبار الدخول في الغير الخاص في جريان
القاعدة في الشك في الصحة، لكن ذلك خارج عن فرض المسألة، لان محل الكلام
الشك في أصل الوجود.
وحيث إن المختار عدم كونهما من اجزاء الصلاة لعدم الدليل عليه، بل قد يقال ان
لا بدية الاتيان بهما لتوقف السجود والقيام عليهما تمنع من تعلق الامر الشرعي بهما، فإنه
يكون من الطلب اللغو غير المحتاج إليه، وأيضا المختار عدم كفاية التجاوز عن المحل
العادي، فالأقوى عدم كفاية الدخول فيهما. لعدم الاعتناء بالشك في الركوع والسجود.
وقد يقال كما عن المحدث الكاشاني بان القاعدة تقتضي التفصيل بين الفرعين،
فان الهوى للسجود مستلزم للانتصاب الذي أهوى منه إليه، والانتصاب فعل آخر غير
الركوع فيصدق الدخول في الغير، بخلاف النهوض إلى القيام. فإنه ما لم يستتم قائما
لا يكون داخلا في فعل آخر.
وفيه: ان الانتصاب المأمور به الذي هو من الاجزاء وفعل آخر، هو ما يكون بعد
الركوع فهو أيضا غير محرز ومشكوك فيه، فالمتحصل ان القاعدة تقتضي عدم جريان
القاعدة في الفرعين.
واما من حيث النص الخاص، فعن سيد المدارك ان مصحح عبد الرحمن بن أبي
عبد الله قلت لأبي عبد الله (ع) رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع قال (ع) قد
ركع (1) وصحيحه الآخر عنه (ع) في حديث، قلت فرجل نهض من سجوده فشك قبل ان
يستوى قائما فلم يدر أ سجد أم لم يسجده قال (ع) يسجد (2).
يدلان على التفصيل بين الفرعين، وانه يكفي الدخول في الهوى في عدم الاعتناء
بالشك في الركوع، ولا يكفي الدخول في النهوض في عدم الاعتناء بالشك في السجود.
وأورد عليه أمران 1 - ما افاده صاحب الحدائق، وهو ان الالتزام بالتفصيل جمع بين

1 - الوسائل باب 13 من أبواب الركوع حديث 6.
2 - الوسائل باب 15 من أبواب السجود حديث 6.
219

المتناقضين، لأنهما ان كانا من الاجزاء تجرى القاعدة فيهما، والا فلا تجرى فيهما.
وفيه: ان لم يدل دليل عقلي ولا شرعي على الملازمة بين الفرعين، كي يرفع اليد به
عن النص، وما افاده وان كان بحسب القاعدة متينا لا ريب فيه، الا انه مع ورود النص
بالتفصيل وعدم الدليل على الملازمة بين الفرعين، لا مناص عن الالتزام به، ومن الغريب
طرحه (قده) الخبر الصحيح لمخالفته للقاعدة المستفادة من المطلقات والعمومات.
2 - ما عن المحقق النائيني وهو ان دلالة المصحح على كفاية الدخول في الهوى
غير المنتهى إلى السجود انما تكون بالاطلاق وهو يقيد، بصحيح إسماعيل بن جابر عنه (ع)
ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض، وان شك في السجود بعد ما قام فليمض كل
شئ شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه (1) الذي هو كالصريح في عدم
كفاية الدخول في الهوى غير المنتهى إلى السجود إذ تحديد جريان القاعدة بما إذا تحقق
الدخول في السجود مع كونه متأخرا عن الهوى، يدل على عدم الاعتبار بالدخول في
الهوى.
وفيه: ما عرفت من أن العبرة بعموم الجواب واطلاقه، لا بخصوص الأمثلة الواردة
في الخبر قبل اعطاء الضابطة، لا سيما في مثل هذه الأمثلة الواقعة في سؤال الراوي
لا جواب الإمام (ع)، وعليه فجوابه (ع) وان كان لا يشمل الهوى كما تقدم الا انه غير مناف
لثبوت عدم الاعتناء فيه أيضا بدليل آخر، وبالجملة خبر إسماعيل لا يدل على عدم كفاية
الدخول في الهوى كي يوجب تقييد المصحح.
والصحيح في الجواب عن المدارك، ان يقال ان الظاهر من المصحح فرض
السؤال في الشك في الركوع بعد الدخول في السجود: وذلك للتعبير بالفعل الماضي
الظاهر في التحقق والمضي، وتعديه بإلى السجود، لا بمن القيام فان ذلك يوجب ظهور
الكلام في تحقق الهوى المنتهى إلى السجود ومضيه الملازم ذلك للدخول في السجود.
نعم، لو كان المذكور في المصحح، يهوى بصيغة المضارع أو كان، أهوى من قيامه

1 - الوسائل باب 13 من أبواب الركوع حديث 4.
220

بالتعدي بمن كان الخبر ظاهرا فيما ذكره (ره) لكنه ليس كذلك، ولو تنزلنا عن ذلك فلا
أقل من اجمال الرواية وعدم ظهورها في خلاف ما تقتضيه القاعدة الأولية من وجوب
الاعتناء ما لم يدخل في السجود.
فتحصل ان الأظهر عدم كفاية، الدخول في الهوى، والنهوض في عدم الاعتناء
بالشك في الركوع، والسجود.
الشك في الركوع بعد الانتصاب
بقى في المقام فرع مناسب لهذه المسألة - وهو انه - لو شك المصلى في الركوع
بعد انتصابه من الانحناء بان شك في أنه وصل إلى حد الركوع فقام أم لم يصل إليه، فهل
تجرى القاعدة فيه، أم لا؟ وجهان أقواهما الأول: وذلك لان الانتصاب من الاجزاء
الواجبة للصلاة بعد الركوع فيكون الشك المزبور شكا في الركوع بعد الدخول في الغير
المترتب الشرعي فتجري القاعدة فيه، مضافا إلى أنه يدل عليه - صحيح الفضيل - قلت
لأبي عبد الله (ع) استتم قائما فلا ادرى أركعت أم لا قال عليه السلام بلى قد ركعت فامض في
صلاتك وانما ذلك من الشيطان (1).
فما عن الحدائق من وجوب الاعتناء بهذا الشك ولزوم الاتيان بالركوع في
الفرض نصا وفتوى.
اشتباه منه (قده) وخلط بين هذا الفرع وفرع آخر، وهو ما إذا شك في الركوع وهو
قائم مع عدم احراز الانحناء أصلا فان المفتى به في هذا الفرع وجوب الركوع وهو مطابق
للقاعدة والنص، لكنه أجنبي عن محل الكلام.
حكم الشك في الجزء الأخير
العاشر: إذا كان المشكوك فيه هو الجزء الأخير فقد يقال بعدم جريان القاعدة في

1 - الوسائل باب 13 من أبواب الركوع حديث 3.
221

العمل المركب منه ومن غيره للشك في تحقق الفراغ منه.
تحقيق القول في المقام ان الشك فيه، تارة يكون قبل الاتيان بالمنافي العمدي
والسهوي، وأخرى يكون بعد الاتيان بالمنافي العمدي والسهوي، وثالثة يكون بعد الاتيان
بالمنافي العمدي، وعلى الأول: فقد يكون ذلك بعد الدخول في امر مترتب على
المشكوك فيه شرعا كما لو شك في التسليم وهو مشغول بالتعقيب ونحو، وقد يكون
قبله.
اما في الصورة الأولى: وهي ما لو شك فيه بعد الدخول في امر مترتب شرعي فلا
ينبغي التأمل في جريان قاعدة التجاوز في خصوص الجزء الأخير: إذ الشك انما يكون
فيما تجاوز ومضى باعتبار مضى محله وتجاوزه هذا بناءا على وحدة القاعدتين أو
تعددهما مع كون قاعدة التجاوز عامة لجميع الأبواب.
واما بناءا على التعدد واختصاصها بباب الصلاة فقد يتوهم عدم جريان القاعدة
فيه إذا كان المشكوك فيه غير الصلاة، كما لو شك في الجزء الأخير للوضوء، اما عدم
جريان قاعدة التجاوز فواضح، واما عدم جريان قاعدة الفراغ وان اعتقد الفراغ ولو آنا ما،
فلان اثبات الفراغ باليقين الزائل غير ظاهر الوجه ونفس اليقين الزائل لا يكون حجة،
وبالجملة الفراغ مشكوك فيه فلا تجرى.
لكنه توهم فاسد إذ المراد من الفراغ هو الفراغ البنائي إذ إرادة الفراغ الحقيقي
تستلزم عدم حجية القاعدة رأسا لأنه مع عدم احرازه لا مورد لجريانها ومع احرازه
لا شك فيه، هذا فيما إذا اعتقد الفراغ ولو آنا ما، وأما إذا لم يحرز ذلك فحيث ان
المأخوذ في أدلتها هو الانصراف والمضي وهما يصدقان في الفرض فتجري القاعدة فيه.
واما في الصورة الثانية: وهي ما لو شك فيه ولم يدخل في الغير المترتب ولم يأت
بالمنافي حتى السكوت الطويل فان اعتقد الفراغ ولو آنا ما تجرى القاعدة فيه كما اختاره
صاحب الجواهر (ره) إذ المراد من الفراغ هو الفراغ البنائي لا الحقيقي كما تقدم آنفا،
فانكار الشيخ الأعظم (ره) ذلك، في غير محله، وان لم يعتقد الفراغ ولو آنا ما لا تجرى
القاعدة لعدم صدق التجاوز والمضي.
222

واما في الصورة الثالثة: وهي ما لو شك فيه بعد الاتيان بما يوجب مطلق وجوده
البطلان كما لو شك في التسليم بعد الاستدبار.
فقد يقال انه لا تجرى القاعدة حينئذ لاختصاصها بما إذا دخل في الامر المترتب
الشرعي ولا يكون المنافى مترتبا على الجزء الأخير شرعا.
لكنه غير تام إذ لم يرد دليل دال على اعتبار الدخول في الامر المترتب الشرعي
وانما التزمنا به من جهة انه لا يصدق التجاوز بدونه، وحيث: انه مع الاتيان بالمنافي
المزبور يصدق التجاوز، إذ لو أريد الاتيان به لوقع على خلاف الوجه المأمور به شرعا،
فتجري القاعدة فيه.
واما في الصورة الرابعة: وهي ما لو شك فيه بعد الاتيان بالمنافي العمدي دون
السهوي كما لو شك في التسليم بعد التكلم فالأظهر عدم جريان القاعدة لعدم صدق
التجاوز والمضي، إذ لو اتى به لوقع على الوجه المأمور به الشرعي، ودعوى: ان محل
التسليم قبل فعل المنافى العمدي أيضا فبعد الاتيان به يصدق التجاوز، مندفعة: بعدم كونه
كذلك إذ لو تكلم قبله سهوا لا تبطل الصلاة.
فما عن المحقق النائيني (ره) من جريان القاعدة في هذه الصورة في غير محله.
حكم الشك في الشئ مع احراز الغفلة
الحادي عشر: إذا شك بعد الفراغ من العمل في صحته وفساده، فقد يكون محرزا
لغفلته حال العمل عن رعاية المشكوك فيه، وقد يكون محرزا للغفلة قبل ترقب الاتيان
بالمشكوك فيه مع احتمال التذكر حينه، وقد يكون غير محرز لذلك أيضا اما الفرض
الأول فالأظهر خلافا لجمع بين الأساطين كالمحقق النائيني (ره) والمحقق اليزدي صاحب
الدرر وغيرهما وتبعا لجمع من المحققين عدم جريان القاعدة فيه، وذلك لان القاعدة
كما عرفت ليست من الأصول التعبدية، بل هي من الامارات النوعية لوقوع المشكوك
فيه، كما هو المستفاد من التعليل بالأذكرية، وعليه فحيث لا امارية في الفرض ولا تحتمل
223

الأذكرية فلا تجرى القاعدة.
فان قلت إن مقتضى عموم قوله كل شئ شك فيه وقد جاوزه الخ وغيره من
النصوص جريانها في الفرض.
فلت انه يخصص بالعلة المنصوصة، مع أن مقام الاثبات تابع لمقام الثبوت فإذا لم
يكن هناك ملاك الطريقية لا يعقل الحكم بالمضي بعنوان تتميم الكشف وامضاء
الطريق، وليت شعري ان من التزم بكونها من الامارات كالمحقق النائيني (ره)، كيف بنى
على جريانها في الفرض، وحمل التعليل بالأذكرية على الحكمة دون العلة.
وقد استدل المحقق صاحب الدرر تبعا لصحاب الجواهر (ره) على أن قوله هو حين
يتوضأ أذكر الخ ليس من قبيل العلة بل يكون من قبيل حكمة التشريع فلا مقيد لاطلاق
الأدلة، بأمرين.
الأول: خلو ساير الأخبار المطلقة مع كونها في مقام البيان عن ذكر تلك العلة.
الثاني: ما رواه ثقة الاسلام عن العدة عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن
الحسين بن أبي العلاء قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الخاتم إذا اغتسلت قال عليه السلام حوله
من مكانه وقال في الوضوء تديره. فان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك ان تعيد
الصلاة (1) وتبعهما في الوجه الثاني بعض المعاصرين.
وفيه: مضافا إلى ما تقدم آنفا من كونها من الامارات ومعه لا يعقل شمول الأدلة
للفرض: انه يرد على الوجه الأول ان ذكر ما يوجب تقييد اطلاق الأدلة في دليل منفصل
غير عزيز في الفقه بل غالب المقيدات مذكورة في دليل منفصل، مع كون المطلقات في
مقام البيان، والا لما انعقد الاطلاق.
ويرد على الوجه الثاني: أمران، الأول، ان الظاهر كون السؤال والجواب واردين
على الخاتم الوسيع الذي يصل الماء تحته قطعا ويكون الجواب دالا على استحباب
التحول والإدارة في الفرض كما هو المشهور بين الأصحاب بل عن المعتبر هو مذهب

1 - الوسائل باب 41 - من أبواب الوضوء - حديث 2.
224

فقهائنا رضوان الله عليهم ولو أبيت عن ظهور الرواية في ذلك فلا أقل من الاجمال.
الثاني: انه لو سلم ورودهما في مورد الشك في وصول الماء تحت الخاتم، ان
الخبر لا يدل على صحة الوضوء والغسل وانما يدل على صحة الصلاة وعدم وجوب
اعادتها، فتكون الرواية دالة على أن الاخلال في الصلاة بالطهارة نسيانا كالاخلال بالقراءة
ونحوها لا يوجب البطلان، فتكون معارضة لحديث لا تعاد المقدم عليها لوجوه لا تخفى،
والعلم بان الصلاة تعاد من ناحية الطهارة، لا يوجب ظهور الرواية في إرادة صحة الوضوء
كما لا يخفى.
واما في الفرض الثاني: فالأقوى هو الجريان إذ ملاك الطريقية موجود فيه إذ
المريد لمركب يكون غالبا غافلا عن كثير من الاجزاء الشرائط تفصيلا قبل العمل، ولكن
الالتفات الاجمالي الارتكازي يوجب الاتيان بكل جزء في محله، فالغالب عند تعلق
الإرادة باتيان المركب هو الاتيان بالاجزاء في محالها وان لم يلتفت إليها تفصيلا قبل
العمل، والعمومات والمطلقات تشمله، والتعليل بالأذكرية أيضا شامل له، إذ لا وجه
لتخصيصه بالذكر التفصيلي في أول العمل، بل يشمل الذكر الاجمالي الارتكازي
الموجب لاتيان الجزء في محله، فملاك الطريقية موجود، والأدلة في مقام الاثبات
تشمله - فتجري القاعدة فيه -.
إذا كانت صورة العمل محفوظة
واما الفرض الثالث: ففيه صورتان، الأولى: ما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة،
ولأجله شك في انطباق المأمور به على المأتى به، وهذه الصورة هي القدر المتيقن من
موارد القاعدة، من غير فرق بين كون الشبهة موضوعية، كما لو شك بعد الصلاة في أنه
ركع فيها أم لا وبين كونها حكمية، كما إذا علم بأنه صلى بلا سورة واحتمل ان يكون
ذلك لأجل تقليده من يفتى بعدم وجوب السورة، فإنه تجرى القاعدة ويحكم بصحة
الصلاة لاحتمال استنادها إلى حكم ظاهري الموجب ذلك لعدم وجوب الإعادة
225

والقضاء وان انكشف الخلاف.
ومن هذا القبيل ما إذا صلى بلا تقليد اجتهاد ثم شك في صحة ما اتى به من
الصلوات من جهة احتمال رعاية الاحتياط، والآتيان بكل ما يحتمل وجوبه من الاجزاء
والشرائط: فان تجرى القاعدة فيها إذ لا يعتبر في جريانها معلومية الحكم الواقعي أو
الظاهري بعينه، بل الميزان هو احتمال الاتيان بما هو وظيفته، وهو متحقق في الفرض
لاحتماله رعاية الاحتياط.
واما الصورة الثانية: وهي ما إذا كانت صورة العمل محفوظة، كما لو علم أنه صلى
إلى جهة معينة واحتمل كونها هي القبلة أو علم أنه توضأ بمايع خاص، الا انه شك في
كونه ماءا أو غيره.
فالأظهر عدم جريان القاعدة إذ لا امارية في هذه الصورة - وبعبارة أخرى - انه مع
معلومية الماتى به والشك في موضوع واقعي وأنه يكون منطبقا على الماتى به أم لا، لا
طريقية للمطابقة، ولكونه على وفق الماتى به، وعليه فالأدلة لا تشمل هذه الصورة: إذ
مضافا إلى أن التعليل بالأذكرية موجب لتقييد اطلاقها الشامل في نفسه للمقام انه لأجل
عدم الكاشفية الناقصة لا يعقل الحكم بالمضي بعنوان الكاشفية وامضاء الطريق لتبعية مقام
الاثبات لمقام الثبوت.
ونظير ذلك في الشبهات الحكمية ما إذا توضأ بماء الورد ثم شك في صحة الوضوء
به، فاللازم حينئذ اما إعادة الوضوء أو الفحص عن حكم المسألة ثم العمل بما يقتضيه
تكليفه، وبالجملة الميزان في جريان القاعدة هو كون الشك في الانطباق ناشئا عن الجهل
بكيفية الماتى به، واما مع انحفاظ صورة العمل وكون الشك في سراية الامر إلى هذا
الماتى به الخارجي، فلا تجرى القاعدة من غير فرق بين الشبهات الموضوعية والحكمية.
حكم الشك في الشرائط
الثاني عشر: لا ريب ولا كلام في جريان القاعدة لو شك في صحة العمل وفساده
لأجل احتمال الاخلال بشرط من الشروط بعد الفراغ من العمل، كما لو شك بعد الصلاة
226

في أنه كان متطهرا أم لا.
انما الكلام فيما إذا حدث الشك في الأثناء، وملخص القول فيه ان للشروط
أقساما، الأول: ما يكون بوجوده المتقدم على العمل شرطا لصحته - كالاذان والإقامة -
بالقياس إلى الصلاة على القول باشتراط صحة الصلاة بهما، أو بخصوص الإقامة، وفى مثل
ذلك تجرى قاعدة التجاوز في نفس الشرط للتجاوز عنه بمضي محله، ويحكم بتحققه
فلو كان شرطا لصحة عمل آخر له الاتيان به من دون إعادة الشرط، ودعوى ان المتعبد به
وجود الشرط لما بيده لا مطلق وجوده، فيها: ان المتعبد به لو كان وجدان المشروط لشرطه لتم
ما ذكر، ولكن إذا كان نفس وجود الشرط فلا يتم كما لا يخفى.
فان قلت إنه بناءا على ما بنيتم عليه من أن الشرط في الصلاة وغيرها من العبادات
المشروطة بالطهارة هو نفس الوضوء لا الامر الحاصل منه، لازم ما ذكر في المقام، انه لو
شك وهو في الصلاة في الوضوء قبلها جريان القاعدة فيه، فله اتمام الصلاة واتيان ساير ما
يشترط بالطهارة من دون ان يعيد وضوئه، وحيث إن لم يفت أحد بذلك فيستكشف
فساد أحد المبنيين.
قلت انا لم نلتزم بان الشرط هي الغسلات والمسحات بوجودها الآني الحقيقي
المنصرم، بل التزمنا بان الشارع الأقدس اعتبر بقاء تلك الأفعال وان كانت منعدمة حقيقة
ما دام لم يتحقق الناقض لمصلحة تدعو إلى اعتباره، وعليه فشرط كل عبادة هي حصة
خاصة من ذلك الامر الاعتباري المستمر الملازمة لها والتوأمة معها، فيخرج الشك في
الطهارة في أثناء الصلاة عن الشك في وجود الشرط المتقدم، ويدخل في الصورة الثانية،
وسيأتي حكمها انشاء الله تعالى.
فان قلت إنه من هذا القبيل ما لو شك في الاتيان بصلاة الظهر، وهو في أثناء العصر،
فمقتضى قاعدة التجاوز هو البناء على تحققها وعدم لزوم شئ عليه سوى اتمام ما بيده.
قلت: ان تقدم صلاة الظهر على صلاة العصر انما يكون شرطا ذكريا لا واقعيا،
وعليه فلا يحرز التجاوز عنها بالدخول في العصر لبقاء محلها الشرعي، فمقتضى القاعدة
لزوم الابطال واتيان الظهر ثم العصر بعدها لولا اخبار العدول، نعم: بناءا على كفاية التجاوز
227

عن المحل العادي في اجراء القاعدة جرت في المقام لكن قد عرفت انها بمراحل عن الواقع.
القسم الثاني: ما إذا كان الشئ بوجوده المستمر المقارن للعمل شرطا له، مع كون
المشروط هو نفس المركب بما له من الاجزاء والآنات المتخللة بينها كالطهارة، والاستقبال
وما شابههما، بالقياس إلى الصلاة، وفى هذا القسم لا مجال لجريان القاعدة لا بالقياس إلى
نفس الشرط ولا بالقياس إلى المشروط، اما بالقياس إلى الشرط فلان ما هو شرط بالنسبة
إلى الآن الذي هو فيه وما بعده ليس هو وجوده المتقدم، بل وجوده المقارن فهو لم
يتجاوز محله، واما بالقياس إلى المشروط فلعدم تجاوزه لفرض كونه مشغولا به وفى
الأثناء، ولا يتوهم في المقام انه تجرى القاعدة بالنسبة إلى الاجزاء السابقة، فإذا أحرز
اللاحقة وضم الوجدان إلى القاعدة فقد أحرز تحقق المأمور به، فان المفروض شرطيته
في جميع الآنات ومنها حال الشك، وفى تلك الحال لم يحرز الشرط لا وجدانا ولا تعبدا.
فان قلت إن ذلك يتم بالقياس إلى الاستقبال ونحوه، ولا يتم في الطهارة وشبهها
مما لها أسباب شرعية كالوضوء مثلا الذي لابد وأن يكون متقدما على الصلاة، فإذا شك
في تحققه قبلها وهو في الأثناء تجرى القاعدة في الوضوء لفرض التجاوز عن محله، فإذا
جرت وأحرز تحقق السبب في ظرفه المقرر له شرعا يرتفع الشك في بقاء الطهارة.
قلت إن ذلك يتم لو شك في صحة الوضوء وفساده مع احراز أصل وجوده، لما
تقدم من عدم اعتبار شئ في جريان القاعدة في مورد الشك في أصل الوجود سوى
الفراغ منه والدخول في حالة مغايرة للمشكوك فيه، ولا يتم في مورد الشك في أصل
الوجود الذي هو المفروض في هذا الامر، لما تقدم من اعتبار التجاوز عن المحل
الشرعي: إذ محل الوضوء شرعا ليس قبل الصلاة بل هو محله العقلي من جهة اعتبار
مقارنة الصلاة للطهارة إذ حينئذ لا مناص عقلا الا من تقديم الوضوء، والا ففي كل مورد
وقع الوضوء فقد وقع في محله، ونعم: بناءا على كفاية التجاوز عن المحل العادي في
جريانها تجرى القاعدة في الوضوء ويحكم بتحققه، لكن عرفت انها بمراحل عن الواقع.
القسم الثالث: ما إذا كان الشئ شرطا مقارنا للاجزاء من دون دخله في الآنات
المتخللة كاعتبار اقتران القراءة بالاستقرار، وفى مثل ذلك تجرى القاعدة في المشروط
228

الماتى به لفرض الشك في صحته وفساده، وقد مر انه في هذا المورد لا يعتبر في جريان
القاعدة الدخول في الغير المترتب، فيحكم بصحته، فبالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة إذا أحرز
تحقق الشرط يتم عمله، نعم إذا كان مشغولا بجزء فشك لا تجرى القاعدة فيه، لكونه من
الشك في المحل فلابد من اعادته.
بقى الكلام فيما إذا شك في تحقق النية، والشك في تحقق الموالاة.
اما النية، فان أريد بها قصد القربة، فلا يعتنى بهذا الشك سواء كان في الأثناء أو بعد
الفراغ وتجري القاعدة في المشروط بها لكون الشك فيه شكا في الصحة بعد احراز أصل
الوجود، الذي لا يعتبر في جريان القاعدة فيه سوى كون الشاك في حالة مغايرة لحال
المشكوك فيه، وان أريد بها القصد الذي يدور عليه تحقق ذات المأمور به في الخارج
كما إذا شك في أنه صلى بقصد الصلاة أم بقصد التعليم، فان كان الشك في حالة مغايرة لحال
المشكوك فيه، وان أريد بها القصد الذي يدور عليه تحقق ذات المأمور به في الخارج
كما إذا شك في أنه صلى بقصد الصلاة أم بقصد التعليم، فان كان الشك بعد الفراغ
لا تجرى القاعدة فيها لكون الشك في أصل المأمور به لا في صحته وفساده، وحيث انه لم
يدخل في الغير المترتب فلا تجرى القاعدة، وان كان في الأثناء، فان كان رأى نفسه في
حال الشك قاصدا للصلاة تجرى القاعدة في الاجزاء السابقة: لفرض كون الشك في
الوجود مع الدخول في الغير المترتب الشرعي، والا فلا تجرى لأنه بالنسبة إلى ما بيده
شك في المحل، وبالنسبة إلى الاجزاء السابقة لم يحرز الدخول في الغير المترتب
الشرعي، وبما ذكرناه ظهر حكم ما إذا أريد بها لا اختيار فتدبر.
واما الموالاة، فهي على قسمين، الأول ما يكون معتبرا في اجزاء الصلاة المستقلة
كالتكبيرة والقرائة والركوع ونحوها، وفى هذا القسم تجرى القاعدة في المشروط بها إذا
كان الشك بعد الفراغ منه سواء كان ذلك تمام العمل أم بعضها، نعم إذا شك في تحققها
بين ما تقدم وبين ما هو مشغول به لا تجرى القاعدة لكون الشك في المحل الا انه يمكن
احراز الصحة باجراء استصحاب بقاء الموالاة وعدم تحقق الفصل الموجب للبطلان.
الثاني: ما يكون معتبرا بين اجزاء الكلمة الواحدة واعتبار هذا القسم عقلي ومن
جهة عدم تحقق ذات المأمور به، بخلاف القسم الأول الذي يكون اعتباره شرعيا، وفى
هذا القسم لا تجرى القاعدة الا فيما إذا دخل في الغير المترتب الشرعي لرجوع الشك فيه
229

إلى الشك في أصل الوجود، فلو كان هذا الشك في الجزء الأخير يلحقه ما تقدم فيما إذا
شك في الجزء الأخير من الاحكام باختلاف الصور فراجع.
حكم الشك في الاخلال العمدي
الثالث عشر: إذا شك في صحة العمل السابق وفساده من جهة احتمال الاخلال
العمدي، فهل تجرى فيه قاعدة الفراغ، أم لا؟ وجهان بل قولان.
مقتضى اطلاق الأدلة جريانها فيه، الا ان التعليل بالأذكرية يوجب اختصاص الأدلة
بصورة احتمال الترك عن غفلة، ودعوى ان في قوله عليه السلام هو حين يتوضأ أذكر، كبرى
كلي مطوية وهي ان الا ذكر لا يترك ويكون القياس بصغراه وكبراه تعبدا بعدم الترك
العمدي والسهوي جميعا، مندفعة: بأنه يمكن ان يكون عدم الترك العمدي مفروغا عنه
فأراد عليه السلام بذلك سد احتمال الترك السهوي.
والغريب ان المحقق النائيني (ره) مع التزامه بكون الأذكرية المذكورة علة للحكم
من قبيل حكمة التشريع لا العلة، التزم بعدم جريان القاعدة في مورد احتمال الترك
العمدي مستندا إلى التعليل في بعض النصوص بالأذكرية.
فان قلت إن المستفاد من مجموع الأدلة بعد ضم بعضها إلى بعض هو التعبد بما
يقتضيه طبع كل أحد قصد اتيان فعل مركب وكان في مقام الامتثال، وهو كما يقتضى عدم
الترك السهوي، كذلك يقتضى عدم الترك العمدي فتجري القاعدة عند احتمال الترك
العمدي كما تجرى عند احتمال الترك السهوي.
قلت إن هذا، ان كان استدلالا بالنصوص، فيرد عليه ما تقدم آنفا، وان كان استدلالا
ببناء العقلاء، فيرد عليه: انه لم يثبت بنائهم على ذلك فتأمل، وان كان استدلالا بظهور
حال المسلم فيرد عليه انه لا دليل على حجيته في المقام، فالأظهر عدم جريان القاعدة
في المقام، الا انه بناءا على ما ستعرف في المقام الثاني من جريان أصالة الصحة في عمل
الشخص نفسه تجرى تلك في المقام ويحكم بالصحة هذا تمام الكلام فيما يرجع إلى
قاعدة الفراغ والتجاوز.
230

أصالة الصحة
من تلكم القواعد أصالة الصحة، وتنقيح القول فيها انما يكون ببيان أمور.
الأول: في بيان مدركها، وقد استدل لها بالأدلة الأربعة، فمن الكتاب بجملة من
الآيات.
منها: قوله تعالى (وقولوا للناس حسنا) (1) بناءا على تفسيره بما عن الكافي من قوله
عليه السلام لا تقولوا الا خيرا حتى تعلموا ما هو (2) وتقريب الاستدلال به ان المراد من القول
الظن والاعتقاد، وحيث إن الاعتقاد من الأمور غير الاختيارية فلا محالة يكون متعلق
التكليف ترتيب الآثار، فيكون مفاده حينئذ انه يجب ان يعامل مع الناس في أفعالهم
معاملة الافعال الصحيحة، ودعوى ان الاعتقاد قد يحصل بمقدمات اختيارية، مندفعة بأنه
حيث يكون غالبا بغير الاختيار فلا يصح جعله متعلقا للتكليف بنحو الاطلاق.
وفيه: أولا انه حيث يكون صدر الآية الشريفة اخبارا عما جعل على بني إسرائيل
فيحتمل ان يكون المراد قلنا لهم قولوا الخ وقد قيل في معناه ذلك فتدبر.
وثانيا: ان حسن الظن والاعتقاد انما يكون من آثار صفاء النفس وتزكيتها، فيمكن
ان يكون المراد الامر بالسبب وهو اختياري.
وثالثا: انه لو سلم انه عدول من الاخبار إلى الخطاب، وسلم عدم صحة تعلق
التكليف بالظن والاعتقاد وبسببهما، لا يصح الاستدلال به أيضا، إذ فسرت الآية الشريفة
بتفسير آخر، فعن جابر عن سيدنا أبى جعفر عليه السلام في قوله تعالى (قولوا للناس حسنا) قال

1 - البقرة - الآية 83.
2 - الوسائل - باب 21 - من أبواب فعل المعروف من كتاب الامر بالمعروف حديث 2.
231

قولوا للناس أحسن ما تحبون ان يقال لكم (1).
ورابعا: انه لو سلم هذا التفسير فغاية ما يدل عليه مطلوبية مواجهة الناس بقول حسن
لين جميل وخلق كريم ولا ربط له بترتيب آثار الصحة، ويؤيد ذلك ما عن المجمع عن
الإمام الصادق عليه السلام ان الآية وان كانت عامة للمؤمن والكافر الا انها منسوخة بآية
السيف وبقوله قاتلوهم حتى يقولوا لا إله إلا الله أو يقروا بالجزية.
ومنها: قوله تعالى (اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن اثم) (2) وتقريب الاستدلال
به ان ما امر بالاجتناب عنه انما هو ظن السوء لا مطلق الظن إذ ظن الخير ليس اثما قطعا
وعليه فحيث مر عدم قابلية نفس الظن للخطاب فلا مناص عن إرادة الاجتناب عن ترتيب
آثار السوء، وحيث انه لا واسطة بين السوء والحسن والصحة والفساد، فيكون المراد لزوم
ترتيب آثار الحسن والصحة.
وفيه، أولا: ما تقدم من قابلية الظن لتعلق الخطاب به باعتبار سببه ومنشأه، وثانيا ان
سوء الظن الذي أمرنا بالاجتناب عنه لعله أريد به عقد القلب وحكمه عليه بالسوء من غير
يقين الذي هو فعل من أفعال النفس، وثالثا ان نفى الواسطة بين الحسن والسوء، والصحة
والفساد، لا يلازم نفى الواسطة بين حرمة ترتيب آثار السوء ووجوب ترتيب آثار الحسن.
ومنها: قوله تعالى (أوفوا بالعقود) (3) وتقريب الاستدلال به وجهان، الأول ان
المستفاد منه اقتضاء كل عقد للصحة وترتيب الأثر، وقد جعل الشارع الأقدس بعض
الأمور كعدم اذن المرتهن مانعا عنه ولا يشترط العلم بانتفائه لتأثير المقتضى فمع الشك
يجب ترتيب آثار الصحة، الثاني: ان مقتضى عمومه امضاء كل عقد وصحته وقد خصص
هذا العموم وقيد بقيود وشرائط فإذا شك في مصداق الخاص يتمسك بالعموم.
وفيهما: نظر، اما الأول: فلعدم حجية قاعدة المقتضى والمانع، واما الثاني: فلان
الأظهر عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية كما حقق في محله مع أن هذا

1 - الوسائل - باب 21 - من أبواب فعل المعروف من كتاب الامر بالمعروف حديث 3.
2 - الحجرات - الآية 12.
3 - المائدة الآية 2.
232

الوجه أخص من المدعى لاختصاصه بالعقود.
واما السنة فقد استدل لها بجملة من النصوص، منها ما في الكافي وهو خبر
الحسين بن المختار عن الإمام الصادق عليه السلام عن الإمام علي عليه السلام ضع امر أخيك على أحسنه
حتى يأتيك ما يعنيك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في
الخير محملا (1).
وفيه: أولا انه ضعيف السند لكونه مرسلا، وثانيا: ان الحسن والقبح غير الصحة
والفساد: إذ ربما يكون العقد الصادر المردد بين الصحيح والفاسد صادرا لا على وجه
قبيح، بل هو كذلك غالبا، وعليه فالخبر أجنبي عما هو محل الكلام، وثالثا: انه لو سلم
تلازم الحسن لترتيب الأثر، الا ان الظاهر بقرينة قوله ولا تظنن الخ ولا أقل من المحتمل ان
المراد البناء على الحسن بمعنى عقد القلب عليه، وحكمه عليه بذلك لا بالسوء، ولا ربط
له بترتيب الأثر خارجا.
ومنها: خبر محمد بن الفضل عن الإمام الصادق عليه السلام يا محمد كذب سمعك
وبصرك عن أخيك فان شهد عندك خمسون قسامة انه قال وقال لم أقله فصدقه
وكذبهم (2).
وفيه: ان الظاهر ورود الخبر في مقام بيان حكم أخلاقي ويكون مختصا بموارد
عدم ترتب الأثر الشرعي على ما شهد به القسامة، والا لما كان وجه لتقديم قول الواحد
على قول الخمسين - وبعبارة أخرى - المراد من التصديق ليس هو التصديق العملي، بل
المراد التصديق في مقام المعاشرة والمعاملة بينك وبينه.
وبما ذكرناه ظهر ما في الاستدلال، بالمستفيضة المتضمنة ان المؤمن لا يتهم أخاه
وانه إذا اتهم أخاه انماث الايمان في قلبه كانمياث الملح في الماء وان من اتهم أخاه فلا
حرمة بينهما (3).

1 - الوسائل - باب 160 - من أبواب احكام العشرة - من كتاب الحج - حديث 3.
2 - الوسائل - باب 156 - من أبواب احكام العشرة - حديث 4.
3 - الوسائل باب 160 - من أبواب احكام العشرة - وغيره.
233

واما العقل فقد قيل إنه مستقل حاكم بأنه لو لم يبن على هذا الأصل لزم اختلال
نظام المعاد والمعاش.
وفيه: ان لزوم اختلال النظام من عدم جريانها في غير موارد، وجود اليد، وسوق
المسلمين، وغير موارد قاعدة الفراغ والتجاوز، محل نظر بل منع.
وبما ذكرناه ظهر ما في استدلال الشيخ الأعظم (ره)، بفحوى قوله عليه السلام في موثق
حفص بعد الحكم بان اليد حجة على الملكية وجواز الشهادة بالملكية مستندا إلى اليد (انه
لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق) (1) بل بدلالته بظاهر اللفظ حيث إن الظاهر أن كل
ما لو لاه لزم الاختلال فهو حق، لان الاختلال باطل والمستلزم للباطل باطل فنقيضه حق،
وهو اعتبار أصالة الصحة: إذ قد عرفت عدم لزوم الاختلال من عدم اعتبارها.
كما أنه ظهر عدم صحة الاستدلال لها بما ورد من نفس الحرج وتوسعة الدين، مع أنه
يرد على الاستدلال به ان دليل نفى الحرج لا يصلح لاثبات حجية أصالة الصحة لا سيما
في غير موارد الحرج الشخصي.
واما الاجماع فقد قيل: انه مستفاد من تتبع فتاوى الفقهاء في موارد كثيرة.
ولكن يرد عليه انه ليس اجماعا تعبديا لاحتمال استناد المجمعين إلى ما تقدم
- مع - انه يرد عليه ما ذكره المحقق النراقي في عوائده، من انا لم نقف من غير بعضهم
التصريح بكلية حمل جميع أفعال المسلمين وأقوالهم على الصحة والصدق، وكلام
الأكثرين غير طائفة من المتأخرين خال عن ذكر هذه القاعدة.
فالأولى: ان يستدل لها، ببناء العقلاء على ذلك، والسيرة المستمرة غير المختصة
بالمسلمين بل من كل ذي دين، بضميمة عدم الردع، وهذا هو العمدة في المقام.
أصالة الصحة ليست من الامارات
الثاني: في بيان انها من الامارات، أو الأصول التعبدية وفيه وجهان.

1 - الوسائل باب 25 من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى حديث 2 كتاب القضاء.
234

وقد قيل في تقريب وجود ملاك الطريقية فيها، ان احتمال الفساد اما، ان يكون لأجل
احتمال تعمد الاخلال بقيد من قيود الصحة، أو يكون لأجل احتمال الغفلة عنه، أو يكون
لاحتمال الجهل به، اما احتمال الغفلة فهو مناف لظهور الحال في عدم تعلق الغفلة حال
العمل، واما احتمال الترك العمدي، فهو مناف لظهور حال المسلم فان الظاهر من تصديه
لفعل وتعلق ارادته باتيانه عدم الاخلال بقيد عمدا، واما احتمال الجهل بالحكم فهو أيضا
مناف لظهور حال المسلم المتصدي للفعل.
ولكن الانصاف انه مع احتمال الفساد من جهة احتمال جهل العامل بالحكم عن
قصور لا عن تقصير من جهة أداء اجتهاده إلى خلاف الواقع، لا ملاك للطريقية والمرآتية
بل المعروف جريانها في موارد العلم بالجهل، وعدم ملاك الطريقية في تلك الموارد
واضح. فالأظهر عدم وجود ملاك الطريقية فيها، وعليه فمع عدم وجود ملاكها لا يعقل
الحكم بعنوان تتميم الكشف وامضاء الطريقية، مع أنه على فرض وجود ملاكها فيها، لا
دليل على الطريقية في مقام الاثبات: إذ بناء العقلاء كما يمكن ان يكون من جهة الطريقية
يمكن ان يكون لمصلحة أخرى كحفظ نظام المعاشرة ونحوه، ودعوى انه لا يعقل التعبد
في بناء العقلاء، سيأتي الجواب عنها في قاعدة اليد فانتظر، فالأظهر كونها من الأصول
التعبدية.
ثم انه رتب الشيخ الأعظم (ره) على ذلك، انه لا يثبت بأصالة الصحة الا الآثار
الشرعية المترتبة عليها، اما ما يتوقف عليه الصحة أو يلازمها مطلقا، أو ما يلزمها فلا تثبت
بها، وقال، فلو شك في أن الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك كالخمر والخنزير، أو
بعين من أعيان ماله فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته بل يحكم بصحة الشراء
وعدم انتقال شئ من تركته إلى البايع لأصالة عدمه - ومحصل ذلك - ان أصالة الصحة
في العقد انما تثبت انتقال المبيع المعين المعلوم إلى المشترى لأنه من آثار صحة العقد،
ولا تثبت انتقال ما يملك من أمواله الذي هو طرف للعلم بكونه ثمنا أو مالا يملك وان
كانت صحة العقد ملازمة لذلك واقعا.
235

أقول: ما ذكره (ره) من عدم اثبات اللوازم والملزومات والملازمات بها بناءا على
كونها من الأصول حق لا ريب فيه، الا انا نقول انها لا تثبت بها حتى بناءا على الا مارية، لما
حققناه في محله من هذا الكتاب وأشرنا إليه في أول قاعدة الفراغ والتجاوز، من عدم
الدليل على حجية الامارات في مثبتاتها، وانما تكون كذلك مع وجود قيدين فيها.
أحدهما: كون ذلك الشئ كاشفا عن اللوازم والملزومات والملازمات ككشفه عن
ذلك المؤدى نفسه نظير الخبر الحاكي. ثانيهما: ثبوت الاطلاق لدليل اعتباره من جميع الجهات
ومع فقدهما أو أحدهما لا يكون ذلك حجة في المثبتات، وفى أصالة الصحة كلا الركنين
مختلان كما لا يخفى فلا يثبت بها اللوازم والملزومات والملازمات، حتى بناءا على
اماريتها.
واما ما ذكره من المثال، فمن حيث عدم تعين المبيع بأصالة الصحة لا كلام فيه،
ولكن ليس للورثة التصرف في مجموع المال للعلم الاجمالي بعدم كون المجموع ملكا
للمورث.
ثم انه نقل الشيخ الأعظم (ره) انتصارا لما اختاره من عدم حجية أصالة الصحة في
مثبتاتها ما ذكره العلامة (ره) من الفرعين.
أحدهما: ما لو قال آجرتك كل شهر بدرهم. وقال المستأجر بل سنة بدينار قال
ففي تقديم قول المستأجر نظر فان قدمنا قول المالك فالأقوى صحة العقد في الشهر
الأول: وجه دلالة ذلك على أن مبناه عدم حجيتها في مثبتاتها، ما ذكره المحقق الثاني (ره)
في جامع المقاصد من أن وجه النظر: ان المستأجر لما كان يدعى صحة الإجارة لان بناء
العلامة على بطلان إجارة كل شهر بدرهم فيكون قوله موافقا لأصالة الصحة، وحيث انه
لا يثبت بها وقوع الإجارة على السنة لعدم كونه من اللوازم الشرعية المترتبة على صحة
العقد، فصار ذلك منشئا لتوقف العلامة في تقديم قول المستأجر.
ثم إن المحقق الثاني ذكر وجها لافتاء العلامة بالصحة في الشهر الأول، وحيث انه
غير مربوط بهذه المسألة فلا نتعرض له هنا.
ثانيهما: ما ذكره بقوله وكذا الاشكال في تقديم قول المستأجر لو ادعى اجرة مدة
236

معلومة أو عوضا معينا وأنكر المالك التعيين فيهما، والأقوى التقديم فيما لم يتضمن
دعوى، وجه دلالته على ذلك أنه تارة يدعى المستأجر اجرة تساوى أجرة المثل، فيقدم
قوله على قول المالك لموافقته لأصالة الصحة - وأخرى - يدعى اجرة انقص منها،
وحيث انه يدعى دعوى أخرى وهي عدم استحقاق المالك أجرة المثل وهي لا تثبت
بأصالة الصحة فلا تقدم دعواه فتدبر.
المراد بالصحة هي الصحة الواقعية
الثالث: هل المحمول عليه هي الصحة الواقعية، أم الصحة عند العامل وقبل
الشروع في بيان ذلك لابد من التنبيه على امر، وهو ان في المقام نزاعين.
أحدهما: انه، هل يعتبر في الحمل على الصحة علم الفاعل بها، فلا يحمل على
الصحة مع العلم بجهله، أو الجهل بحاله، أم يعتبر عدم العلم بكونه جاهلا، أم لا يعتبر
شئ منهما، فلو علم بأنه جاهل بصحيح الفعل وفاسده، يحمل عليها كان الجهل عن
قصور أم تقصير، غاية الامر في الجهل القصوري يعتبر تصادق اعتقاديهما بالصحة في
فعل. الثاني: في أن المحمول عليه، هل هي الصحة الواقعية أو الفاعلية، ولا يبعد ان
يكون خلاف صاحب المدارك في النزاع الأول.
وكيف كان فالأظهر عدم اعتبار علم الفاعل بها إذا الغالب في موارد الحاجة إلى هذا
الأصل انما هي صورة الجهل بحال الفاعل: فان محل الابتلاء انما هي أفعال العوام من
الرجال والنساء الذين لا يعرفون احكام المعاملات والعبادات، مع قيام السيرة على حمل
أفعالهم على الصحة من دون ان يفتشوا على حال معاملاتهم.
واما اعتبار عدم العلم بالجهل في خصوص ما هو محل الجريان فغير بعيد: إذ القدر
المتيقن من الأدلة غير هذا المورد، ودعوى ان ابتلاء عموم الناس انما هو بأفعال أهالي
الصحارى والبراري والأسواق الذين لا يعرفون الاحكام مع استقرار السيرة على امضاء
237

أعمالهم مع احتمال المطابقة، يمكن دفعها بان عدم معرفة هؤلاء بعمدة الاحكام ان كان
منشئا للجهل بعلمهم في خصوص ما هو محل الحاجة، فجريان القاعدة وان كان مما لا
كلام فيه، الا انه أجنبي عن الفرض، واما لو علم بجهلهم في خصوصه، فالسيرة على
الحمل عليها غير ثابتة ولكن ذلك يحتاج إلى تأمل زايد، فان دعوى قيام السيرة على
العموم مع جهل الغالب بالأحكام قريبة جدا.
واما النزاع الثاني: فان كان مدرك الحمل على الصحة هو ما عن العلامة وجماعة
من المتأخرين عنه، وهو ظهور حال المسلم، فيتعين الحمل على الصحة عند العامل فان
الظاهر من حاله عدم فعل مالا يراه صحيحا وان آت بالعمل على وجه يراه صحيحا، واما
ان كان المدرك هو حكم العقل، أو بناء العقلاء والسيرة المستمرة، أو الاجماع،
فالمحمول عليه هي الصحة الواقعية
أصالة الصحة تجرى في عمل نفسه
الرابع: هل يكون مجرى هذا الأصل هو خصوص عمل الغير، أم يعم عمل نفسه
وجهان: أقواهما الثاني: لثبوت السيرة، وبناء العقلاء على اجرائها في عمل نفس الحامل.
واستدل للأول بوجهين، الأول ما عن المحقق النائيني (ره) من دعوى العلم بأنه لم
يجعل الشارع الأقدس للشك في عمل الشخص نفسه قاعدتين، وحيث إن قاعدة الفراغ
مجعولة فيه فلا تكون أصالة الصحة مجعولة.
وفيه: ان دعوى العلم بعدم جعل قاعدتين في مورد واحد بالجعل التأسيسي
الاستقلالي في محلها، واما دعوى عدم جعل قاعدتين بالجعل الامضائي، أحدهما ببيان
لفظي وهو دليل قاعدة الفراغ، ثانيهما بعدم الردع، فممنوعة إذ لا محذور فيه، ودعوى
العلم بعدم جعلهما هكذا، غير مسموعة.
الثاني: ان تعدد الجعل يستلزم تعدد المجعول، وحيث إن المجعول في عمل
الشخص نفسه لا يكون متعددا فلا محالة يكون الجعل أيضا واحدا.
238

وفيه: ان ذلك أيضا يتم في الجعل التأسيسي ولا يتم في الجعل الامضائي.
المراد من الصحة
الخامس: المراد من الصحة هو انطباق المأتى به الخارجي لما هو موضوع للأثر
الشرعي أي الاعتبارات الشرعية في المعاملات، ولما هو متعلق التكليف في العبادات،
وعلى ذلك تحمل في جميع الموارد، غاية الامر في باب العبادات لا يتصور الصحة
التأهلية والصحة الفعلية، وفى باب المعاملات تتصور ان: إذ لو كان موضوع الاعتبار
الشرعي موجودا بتمامه ولم يترقب لصحته حصول شئ آخر، فالصحة فعلية أي ذلك
الاعتبار الشرعي يترتب عليه، وان كان جزئه موجودا وكان الجزء الآخر دخيلا في ترتب
ذلك الاعتبار ولم يكن دخيلا في تمامية ذلك الجزء كالايجاب وحده إذ القبول ليس
دخيلا في صحة الايجاب وتماميته، وانما يكون دخيلا في ترتب الاعتبار الشرعي، وهو
اعتبار الملكية فالصحة تأهلية بمعنى ان الايجاب لو تعقبه القبول لترتب عليهما النقل
والانتقال ودليل هذا الأصل يشمل كلا الموردين.
وقد تعرض الشيخ الأعظم (ره) لذلك في رسائله دفعا لتوهم، انه إذا تحقق الايجاب
وشك في تعقبه بالقبول تجرى أصالة الصحة فيه ويحكم بترتب النقل والانتقال عليه
وتعقبه بالقبول، ومحصل الدفع ان الصحة الفعلية اثر الايجاب والقبول جميعا غير
المحرز تحققهما والايجاب وحده ليس اثره الا الصحة التأهلية والعلم بتحققه صحيحا
لا يستلزم القبول فضلا عن التعبد به.
وربما يتوهم التنافي بين ما ذكره الشيخ الأعظم (ره) في هذا الامر من أن التعبد
بصحة الايجاب لا يستلزم التعبد بالقبول، وبين ما افاده في الامر الثاني بقوله، واما ما ذكره
(أي المحقق الثاني) من أن الظاهر انما يتم مع الاستكمال المذكور لا مطلقا فهو انما يتم إذا
كان الشك من جهة بلوغ الفاعل ولم يكن هناك طرف آخر معلوم البلوغ تستلزم صحة
فعله صحة فعل هذا الفاعل الخ.
239

ولكن يمكن دفعه بوجهين، الأول: ان ما ذكره في رد المحقق الثاني ليس بلحاظ
أصالة الصحة بل بلحاظ ظهور حال المسلم حيث إن ظاهر حاله عدم المعاملة مع غير
البالغ فاقدامه هذا امارة لبلوغه، وما افاده في المقام انما هو بلحاظ أصالة الصحة وانه
لا يثبت بها تحقق القبول.
الثاني: ان صحة الايجاب نفسه، ربما تتوقف على صحة القبول، وربما لا تتوقف
عليها ولا على وجوده، وفى الأول مقتضى صحة الايجاب صحة القبول أيضا، وفى الثاني
لا تثبت ذلك، وفى صورة الشك في بلوغ القابل صحة الايجاب بما انها متوقفة على
صحة القبول فتثبت بها صحتها، وفى صورة الشك في صدور القبول ممن له شأنية ذلك
بما انه لا تتوقف صحة الايجاب على تحقق القبول لا يثبت بأصالة الصحة تحققه.
ثم انه ذكر الشيخ الأعظم (ره) في المقام فروعا لمناسبتها مع المقام وتبعه بعض
المحققين ونحن اقتفاءا لأثرهما نتعرض لها.
منها: ما تقدمت الإشارة إليه وهو انه لو أحرز الايجاب وشك في تحقق القبول
اجراء أصالة الصحة في الايجاب لا يستلزم تحققه.
ومنها: ما لو شك في صحة بيع الصرف من جهة الشك في تحقق القبض في
المجلس وقال إن أصالة الصحة في العقد لا يترتب عليها النقل والانتقال ولا يثبت بها
تحقق القبض.
وغاية ما قيل في وجه ذلك أمران.
الأول: ان الصحة الفعلية أي ترتب النقل والانتقال انما تكون اثر الايجاب
والقبول والقبض في المجلس فيكون القبض أحد اجزاء المؤثر، وعليه فالعلم بصحة العقد
لا يستلزم تحقق القبض فضلا عن الصحة الثابتة بالتعبد.
الثاني: ان مفاد أصالة الصحة صحة العقد حدوثا، ولا نظر لها إلى البقاء، والعقد من
حيث الحدوث ليس له الا الصحة التأهلية - وهي اما لا شك فيها - أو على فرض الشك
أصالة الصحة الجارية في العقد حدوثا لا تفيد في اثبات تحقق القبض وترتب النقل
240

والانتقال.
وفيهما: نظر، اما الأول: فلان الظاهر أن المؤثر هو العقد المركب من الايجاب
والقبول، والقبض انما يكون شرط التأثير وشرط الصحة بقاءا، فلو انقضى المجلس وشك
في تحقق القبض فلا محالة يشك في صحة العقد بقاءا فأصالة الصحة تثبت تحققه.
واما الثاني: فلأنها كما تجرى بلحاظ الحدوث تجرى بلحاظ البقاء، والعقد بعد
انقضاء المجلس، صحته مشكوك فيها فمقتضى أصالة الصحة تحقق القبض.
ومنها: ما لو شك في إجازة المالك لبيع الفضولي، فإنه لا يمكن اجراء أصالة
الصحة في العقد لاحراز تحققها، إذ العقد الصادر من غير المالك لا صحة له الا تأهلية
وهي لا تتوقف على الإجازة وعقد المالك موضوعا مشكوك التحقق.
ومنها: ما لو شك في صحة بيع الوقف، من جهة الشك في عروض المسوغ له، فإنه
لا يمكن اجراء أصالة الصحة لاثبات عروض المسوغ.
واستدل له بان العقد لو خلى وطبعه مبنى على الفساد بحيث يكون المصحح طاريا
عليه وليس له صحة تأهلية مع عدمه.
وفيه: ان ذكر ذلك في وجه جريان أصالة الصحة أولى، بل هو المتعين فان بيع
الوقف إذا كان صحيحا في بعض الصور دون أخرى لا محالة تقتضي أصالة الصحة صحته
وقوعه على الوجه الصحيح.
ومنها: ما لو شك في صحة بيع الراهن من جهة الشك في اذن المرتهن أو اجازته
فإنه لا يثبت الاذن أو الإجازة باجراء أصالة الصحة في العقد، واستدل له بوجوه.
الأول: ان صحة العقد تأهلية، والأثر، أي النقل والانتقال مترتب عليه مع الاذن أو
الإجازة، فلا تثبت الصحة الفعلية باجراء أصالة الصحة في العقد.
الثاني: ان امر عقد الراهن يدور بين الصحة الفعلية، والصحة التأهلية فإنه على
تقدير الاذن أو الإجازة صحته فعلية وعلى تقدير عدمه صحته تأهلية، وأصالة الصحة انما
تجرى في مورد دوران الامر بين الصحة والفساد، ولا تجرى عند دوران الامر بين الصحة
الفعلية، والتأهلية.
241

الثالث: وهو مختص بخصوص الشك في الإجازة، وهو ان عقد الراهن حدوثا
صحيح بالصحة التأهلية قطعا، وغير صحيح بالصحة الفعلية جزما، والشك انما يكون
بلحاظ البقاء، ولا تجرى أصالة الصحة بلحاظه.
وفى الكل نظر. اما الأول: فلان اذن المرتهن أو اجازته من قبيل رفع المانع عن
تأثير عقد الراهن، لا انه جزء المؤثر فان العين المرهونة متعلقة لحق الغير وكونها كذلك
مانع عن تأثير عقد المالك فبالاذن أو الإجازة يرتفع المانع فيؤثر العقد اثره، فلو شك في
تحققه لا محالة تجرى أصالة الصحة في العقد وتثبت بها الصحة الفعلية.
واما الثاني: فلان أصالة الصحة كما تجرى عند دوران الامر بين الصحة والفساد
تجرى عند دورانه بين الصحة الفعلية والتأهلية، الا ترى انه لو شك في أن البايع مالك أم
غير مالك تجرى أصالة الصحة ويحكم بصحة بيعه بالصحة الفعلية وانه بيع صادر عن
المالك، مع أن بيع غير المالك له صحة تأهلية.
واما الثالث: فلانه قد عرفت ان أصالة الصحة كما تجرى بلحاظ الحدوث تجرى
بلحاظ البقاء.
ومنها: ما لو علم بوقوع البيع من الراهن وصدور اذن ورجوع من المرتهن وشك
في تقدم الرجوع على البيع وتأخره عنه، فلا محالة يشك في صحة كل من الأمور الثلاثة،
وحيث إن صحة كل منها تأهلية بمعنى ان صحة البيع لا تستلزم وقوعه قبل الرجوع، وصحة
الاذن لا تستلزم وقوع البيع عقيبه، وصحة الرجوع لا تستلزم وقوع البيع بعده، فصحة
الأولين لا تقتضي صحة البيع، وصحة الأخير لا تستلزم فساده.
وفيه: ان ما ذكره (ره) يتم في الاذن ولا يتم في الرجوع ولا في البيع.
اما الأول: فلان الرجوع إذا وقع بعد البيع لا يترتب عليه شئ لعدم كونه قابلا
للتأثير لا ان له صحة تأهلية، ولكن حيث إن من شرائط جريان أصالة الصحة قابلية التأثير
عقلا كما صرح بذلك الشيخ الأعظم (ره) في كتاب البيع فلا تجرى فيه أصالة الصحة.
واما الثاني: لما تقدم من أنه يترتب على أصالة الصحة الجارية في البيع صحته
بالصحة الفعلية فراجع.
242

ثم انه قد يقال في وجه عدم تماميته في البيع، ان البيع ان وقع قبل الرجوع فصحته
فعلية وان وقع بعده فهو فاسد بقول مطلق فلا يتصف بالصحة التأهلية.
وفيه: ان الرجوع لا يكون موجبا لحل العقد، بل غاية ما يترتب عليه ارتفاع الاذن
فلو لحقه الإجازة يترتب عليه الأثر الفعلي فتدبر.
لا يعتبر احراز عنوان العمل
السادس: لا ريب في أنه يعتبر في اجراء أصالة الصحة احراز تحقق العمل: إذ مع
الشك في تحقق أصل العمل الموصوف بالصحة، وان كان يمكن الشك في الصحة
وليس كما قيل لا يعقل الشك في الوصف الا مع احراز الموصوف الا ان دليل التعبد انما
يتكفل التعبد بالوصف لا التعبد بالموصوف واثباته، فلا تعبد بالوصف الا مع احراز
الموصوف.
انما الكلام في أنه، هل يعتبر احراز العنوان الذي تعلق به الامر أو ترتب عليه الأثر
وضعا أو تكليفا كما عن الشيخ الأعظم (ره) والمحقق النائيني (قده) وغيرهما، فلو شوهد من
يأتي بصورة عمل من صلاة أو طهارة أو نسك حج ولم يعلم قصده تحقق هذه العبادات
لم تحمل على تلك، أم لا يعتبر ذلك بل يكفي تحقق عناوين هذه الأعمال عرفا المحرز
بصورتها كما اختاره المحققان الخراساني (ره)، والهمداني (قده) وغيرهما، أم لا يعتبر ذلك
أيضا، وجوه.
فقد استدل للأول: بان موضوع الأثر هو المعنون بذلك العنوان وباعتبار ترتبه عليه
يوصف بالصحة وباعتبار عدمه بالفساد، فلابد من احراز الموصوف كي يتعبد بوصف
الصحة.
وفيه: أولا النقض بجميع موارد الشك في الصحة، إذ لا يتصور الشك فيها الا مع
الشك في تحقق ما هو موضوع الأثر شرعا، وثانيا: بالحل وهو ان مقتضى دليل أصالة
الصحة التعبد بصحة العمل، فيما إذا أحرز العمل عرفا، وهو انما يكون فيما إذا أحرز
243

صورته عرفا، ولذا ترى انه لا يتوقف أحد في الاخبار عن أن فلانا يصلى إذا رأى صدور
صورة الصلاة منه مع عدم احراز قصد الصلاتية، فلو صدر الايجاب عن شخص في مقام
المعاملة وشك في أنه قصد به الانشاء أو التعليم مثلا يحمل على الصحة، وبالجملة بما ان
عمدة دليل هذا الأصل هي سيرة العقلاء ولا ريب في قيامها على الحمل على الصحة في
هذه الموارد لا مناص عن الالتزام به.
والغريب ان الشيخ الأعظم (ره) مع اختياره في المقام ذلك، التزم في كتاب
الخيارات في مسألة الفسخ بالفعل انه يثبت قصد حل العقد باجراء أصالة الصحة، فالأظهر
عدم اعتبار احراز ذلك واعتبار احراز عنوان العمل عرفا.
نعم، يعتبر احراز كونه في مقام الاتيان بما هو موضوع الأثر فلو قال بعت ولم يعلم أنه
قصد به الانشاء لكونه في مقام انشاء المعاملة أو لم يقصد ذلك لكونه في مقام التعليم
مثلا لا يحمل على الأول، لعدم احراز الموضوع عرفا المعتبر في جريانها كما تقدم.
وعلى هذا يبتنى عدم اجراء أصالة الصحة لاحراز كون الفعل عن الغير ما لم يحرز
كونه عنه، - وبعبارة أخرى - العمل الصالح لوقوعه عن نفسه، ووقوعه عن غيره ما لم
يحرز كونه في مقام تفريغ ذمة ذلك الغير لا يحرز وقوعه عن غيره باجراء أصالة الصحة.
والظاهر أن هذا هو منشأ تفصيل المشهور بين، أصالة على الميت، والصلاة عن
الميت حيث اكتفوا في الأولى بالحمل على الصحيح بمجرد أصل الصلاة، واعتبروا في
الثانية اخباره بذلك مع كونه عادلا ولم يكتفوا بمجرد الصلاة.
حول جريان أصالة الصحة في عمل النائب
تكملة في بيان أمرين الأول ان للشيخ الأعظم (ره) في المقام كلاما في توجيه عدم
احراز فراغ ذمة المنوب عنه باجراء أصالة الصحة في عمل النائب، وانه يعتبر في احراز
الفراغ احراز صدوره صحيحا عنه، وحاصله: ان لفعل النائب جهتين.
الأولى: انه عمل من أعماله ولذا يجب عليه مراعاة الاجزاء والشرائط، وبهذا
244

الاعتبار يستحق الأجرة ويجوز استيجاره ثانيا بناءا على اعتبار فراغ ذمة الأجير في صحة
استيجاره ثانيا، ويترتب عليه غير ذلك من آثار صدور الفعل الصحيح منه.
الثانية: انه عمل من اعمال المنوب عنه بالعرض حيث إنه فعله بالتسبيب، وبهذا
الاعتبار يراعى فيه القصر والاتمام في الصلاة، والصحة من الحيثية الأولى، لا تثبت الصحة
من الحيثية الثانية، بل لابد من احراز صدور الفعل الصحيح عنه، وحيث إن فراغ ذمة
المنوب عنه ليس من آثار فعل النائب من حيث هو بل من آثاره بما انه فعل المنوب عنه
بالتسبيب، فلا يترتب ذلك على اجراء أصالة الصحة في فعل النائب.
ويرد على ما افاده أمور. الأول: انه لو تم ذلك لما كان وجه للحكم باستحقاق
الأجرة، إذ ذلك أيضا من آثار صدور الفعل عنه بما انه فعل المنوب عنه، إذ تعيين الأجرة
انما هو على تفريغ ذمة المنوب عنه لا على فعل النائب من حيث هو.
الثاني: ان جعل باب النيابة من باب التسبيب غير صحيح كما حقق في محله.
الثالث: انه إذا لم يحرز كون النائب في مقام تفريغ ذمة المنوب عنه لا يحمل على
الصحة بمعنى الحكم بوقوعه عنه ولو بلحاظ اثر من الآثار، واما ان أحرز ذلك فحيث ان
الحيثيتين ليستا في عرض واحد بل إحداهما مترتبة على الأخرى، إذ النائب يأتي بالفعل
الواجب على المنوب عنه فإذا أحرزت صحته بأصالة الصحة لزم الحكم بالصحة من
الحيثيتين فتدبر.
الثاني: ان المحقق الهمداني (ره) فصل بين العمل النيابي فاختار فيه ما ذكرناه وبين
مثل توضئة الغير للعاجز، فاختار فيه عدم كفاية اجراء أصالة الصحة في صحة وضوء
العاجز.
وعلله: بان توضؤ الغير للعاجز ليس من باب النيابة، بل من قبيل ان تكليفه ايجاد
الفعل بإعانة الغير فلا يجديه أصالة الصحة في فعل الغير لان فعل الغير هو التوضئة
لا الوضوء فحمل التوضئة على الصحيح لا يثبت كون الوضوء الصادر من العاجز صحيحا
إذ لا يثبت بأصالة الصحة ساير العناوين الملازمة لها.
وفيه: ان الواجب على العاجز لا يعقل ان يكون هو الوضوء بإعانة الغير إذ فعل الغير
245

الصادر عن ارادته واختياره لا يمكن ان يكون واجبا على غير المريد، والا لزم التكليف
بما لا يطاق فمتعلق الأثر هو نفس توطئة الغير فلو جرت أصالة الصحة في ذلك، لابد من
ترتيب جميع الآثار منها جواز دخول العاجز في الصلاة ونحوها.
هذا كله فيما يجب احرازه، واما ما به يحرز فالعمدة فيه هو اخبار العامل الموثق
وحجيته بناءا على ما هو الحق عندنا من حجية الخبر الواحد في الموضوعات، وعدم
اعتبار العدالة في المخبر، وانه يكفي كونه ثقة في النقل واضحة، واما بناءا على عدم
حجيته في الموضوعات، فحيث ان الاقتصار في أمثال هذه الموضوعات على العلم والبينة
مع عموم الابتلاء بها موجب للعسر والحرج، بل سد باب النيابة، فيستكشف من ذلك
جعل الشارع اخبار العامل حجة لانحصار الطريق به.
وهل يعتبر فيه العدالة، أم يكفي الوثوق وجهان أو لهما مختار الشيخ الأعظم (ره)،
والأقوى هو الثاني إذ لا خصوصية للعدالة من الجهات الاخر غير جهة الكذب في هذا
الحكم قطعا، فان تلك الأمور أجنبية عن خبره بل لو كان دليل لفظي متضمن لجعل
الحجية لخبر العادل لكنا حملناه على ذلك لأجل مناسبة الحكم والموضوع فضلا عن
المقام فتدبر.
موارد جريان أصالة الصحة
السابع: هل يختص جريان أصالة الصحة بما إذا أحرز صحة العقد من ناحية شرائط
العوضين والمتعاقدين وأحرز كون العقد مستجمعا لها وشك في الصحة والفساد من
جهة الشك في كون العقد واجد الشرائط نفسه كالعربية والماضوية وما شابهها
فالموضوع هو العقد التام من جميع الجهات غير جهة شرائط العقد كما اختاره
المحقق النائيني (ره)، أم يعم ما إذا شك في الصحة من جهة الشك في ساير ما يعتبر في
العقد مع احراز شرائطه العرفية فيكون الموضوع هو العقد العرفي كما اختاره جمع من
الأساطين منهم الشيخ الأعظم (ره)، أم يعم كل شرط شرعي أو عرفي مع احراز انشاء البيع
246

فيكون الموضوع هو صورة العقد الصادر من المتعاملين فإذا شك في صحته من جهة
الشك في تحقق شرائط الصيغة أو شرائط المتعاقدين أو شرائط العوضين أعم من الشرائط
الشرعية والعرفية يحمل على الصحة كما لعله الأظهر وجوه.
وقد استدل المحقق النائيني (ره) لما اختاره: بان دليل هذا الأصل هو الاجماع
ومعقده العقد المشكوك صحته وفساده وظاهر ذلك هو الشك في صحة العقد وفساده
من حيث إنه عقد مع احراز الصحة من ناحية الشروط الاخر وتمحض الشك في الشك
في تحقق ما هو من شرائط العقد بما هو عقد، وشرائط المتعاقدين والعوضين وان نسبت
إلى العقد أيضا، الا انه انما يكون ثانيا وبالعرض لا أولا وبالذات، وظاهر معقد الاجماع
شروط العقد بما هو عقد لا أولا وبالذات، فمرجع هذا إلى الاستظهار من معقد الاجماع
بحيث لو كان ذلك متن النص لكان يستفاد منه ذلك، لا إلى، ان الاجماع دليل لبى لا بد
من الاقتصار على الموارد المتيقنة، كي ينافي ما ذكره في أول المبحث.
وفيه: أولا ان عمدة دليل هذه القاعدة هو، بناء العقلاء، وسيرة المسلمين، بل سيرة
كل ذي دين وملة، وعدم ردع الشارع الأقدس عن ذلك، ولا ريب في قيام ذلك على
الحمل على الصحة في كل مورد شك في صحة العقد كان من جهة الشك في الاخلال
بشروط العقد، أم كان من جهة الشك في الاخلال بشروط العوضين، أو المتعاقدين.
وثانيا: ان معقد الاجماع ليس هو العقد كي يصح الاستظهار المذكور إذ لم ينعقد
اجماعان، أحدهما في باب المعاملات، والآخر في باب العبادات، بل انعقد اجماع واحد
ومعقده شامل للبابين وعليه فالمعقد هو العمل الصادر من الغير عباديا كان أم معامليا،
ومعلوم ان جميع الشروط دخيلة في ترتب الأثر على العمل المعاملي بما هو عمل معاملي.
وثالثا: ان كون الشروط على قسمين شروط العقد أولا بالذات، وشروطه ثانيا
وبالعرض غير مربوط بموضوع القاعدة وهو العقد المشكوك صحته وفساده، إذ الاخلال
بأي شرط كان يوجب فساد العقد، لا فساد العوضين أو المتعاقدين وهو واضح جدا،
فالموصوف أولا وبالذات بالصحة والفساد انما هو العقد، وبالجملة كون منشأ الشك في
الصحة والفساد الشك في الاخلال بشروط العقد، أم الاخلال بغيرها، أجنبي عن كون
247

الموصوف بالصحة والفساد هو العقد الذي هو الموضوع لهذه القاعدة على الفرض.
ثم انه قد التزم المحقق المذكور، بجريان أصالة الصحة في جملة من موارد الشك
في صحة العقد من ناحية الشك في الاخلال بشرائط العوضين أو المتعاقدين - منها - ما
إذا شك في جهالة العوضين - ومنها - ما لو شك في كون المعاملة ربوية وتفاضل أحد
المتجانسين على الآخر - ومنها - ما لو شك في صدور العقد عن الاختيار المقابل للاكراه
نظرا إلى أن الجهالة في الأول، والزيادة في الثاني لا تضر ان بمالية العوضين وقابليتهما النقل
والانتقال، ولذا تصح المصالحة في الموردين، والاكراه في الثالث لا يوجب خروج العاقد
عن الأهلية.
وفيه: ان المراد بشروط العوضين أو المتعاقدين هو ما يعتبر فيها ولو في عقد
خاص في قبال ما يعتبر في العقد - وبعبارة أخرى - الشروط التي يكون محلها وموردها
غير العقد، ولا ريب في أن الشروط المذكورة كذلك وجواز المصالحة مع فقد بعض
تلك الشروط لا يكون دليل كونه من شروط العقد - وبالجملة - ليس المراد بشروط
العوضين ما تكون دخيلة في مالية المال أو قابليته للنقل والانتقال بقول مطلق بل هو أعم
من ذلك ومما يكون دخيلا في قابليته للنقل والانتقال بمعاملة خاصة كالبيع والشروط
المتقدمة كذلك.
واستدل للثاني: بان موضوع هذه القاعدة هو العقد، فلابد من احرازه في الحكم
بالصحة، وهو انما يكون باحراز جميع ما يعتبر فيه عرفا كما هو كذلك في العقد الذي هو
الموضوع لأوفوا بالعقود وغيره، فكما انه لو شك في صحة العقد من جهة الشبهة
الحكمية ما لم يحرز العقد العرفي لا يتمسك باطلاق الأدلة للحكم بصحته، كذلك لو
شك في صحته من جهة الشبهة الخارجية لا يصح التمسك بدليل أصالة الصحة للحكم
بصحته ما لم يحرز العقد العرفي.
ويرد عليه ان هذا يتم بناءا على كون المدرك هو الاجماع المدعى في خصوص
العقود، ولكن حيث عرفت ان المدرك هو بناء العقلاء، ولا ريب في قيامه على الحمل
على الصحة حتى في ما إذا شك في الاخلال بالشرائط العرفية وهؤلاء العقلاء ببابك
248

فهل يتوقف أحد منهم في الحمل على الصحة في تلك الموارد كلا، فالمتعين هو القول
الثالث.
تقدم أصالة الصحة على الاستصحاب
الثامن: في بيان تعارض أصالة الصحة مع الاستصحابات الحكمية والموضوعية
في مواردها والكلام في هذا الامر يقع في موردين. الأول: في بيان وجه تقديمها على
الاستصحاب الحكمي وهي أصالة الفساد. الثاني: في وجه تقديمها على الاستصحاب
الموضوعي كاصالة عدم البلوغ.
اما المورد الأول: فظاهر الشيخ الأعظم (ره)، بل صريحه كون تقدمها عليها انما هو
بالحكومة، والظاهر أنه كذلك إذ الشك في عدم النقل والانتقال مع قطع النظر عن
الأصل الموضوعي مسبب عن الشك في استجماع العقد الخارجي للاجزاء والشرائط
فإذا جرت أصالة الصحة وحكم باستجماعه لها فلا محالة يرتفع الشك في النقل
والانتقال فأصالة الصحة حاكمة على أصالة الفساد حكومة الأصل الجاري في السبب على
الأصل الجاري في المسبب، فعلى هذا لا فرق في ذلك بين كونها من الامارات أو
الأصول المحرزة أو غير المحرزة.
واما المورد الثاني: فعبارة الشيخ الأعظم (ره) في المقام قد اشتبهت بعبارة العلامة
الشيرازي (ره)، ومحصل الكلام ان لكل منهما في المقام كلاما، ومحصل ما افاده
الشيخ (ره) ان ما يمكن ان يذكر فيه بيان وجه معارضة الأصل الموضوعي مع أصالة الصحة
على القول بكونها من الأصول أمران.
الأول: ان مقتضى أصالة عدم البلوغ فيما إذا شك في بلوغ المتعاقدين أو أحدهما
احراز صدور العقد من غير البالغ الذي هو الموضوع للفساد - وبعبارة أخرى - موضوع
الفساد العقد الصادر من غير البالغ واحد جزئية وهو العقد محرز بالوجدان والجزء الآخر
وهو الصدور من غير البالغ يحرز بالأصل فبضم الوجدان بالأصل يتم الموضوع، وهذا
249

الأصل يعارض أصالة الصحة المحرزة لكون العقد جامعا لجميع الشرائط منها البلوغ التي
يترتب عليها النقل والانتقال.
الثاني: ان أصالة الصحة المقتضية لترتب الأثر.
ثم أجاب عن كليهما، اما عن الأول: فبان عدم الأثر انما يكون بعدم سببه لا بصدور
ضد سببه، فالأصل الجاري في الثاني المثبت صدور العقد من غير البالغ لا يثبت به عدم
صدور العقد من البالغ الا على القول بالأصل المثبت - وبالجملة - ان موضوع الأثر ما هو
مفاد ليس التامة ومجرى الأصل ما هو مفاد ليس الناقصة واثبات أحدهما بالأصل الجاري
في الآخر يتوقف على القول بالأصل المثبت.
واما عن الثاني: فبان عدم الأثر بعدم السبب من باب اللا اقتضاء ووجود الأثر انما
يكون بوجود السبب المقتضى وما ليس له الاقتضاء لا يزاحم ما له الاقتضاء، فعلى هذا
تقدم أصالة الصحة على الاستصحاب الموضوعي أيضا وان كانت من الأصول لامن
الامارات.
وما افاده من الجوابين قابلان للرد، اما الأول: فلان عدم الأثر كما يكون بعدم
السبب كذلك يكون بعدم شرط من شروط سببه وحيث إن شرط تأثير العقد صدوره من
البالغ فإذا جرى الأصل وثبت به عدم الشرط يترتب عليه عدم المشروط بلا احتياج إلى
اثبات شئ آخر.
واما الثاني: فلان استصحاب عدم صدور العقد من البالغ مقتض لعدم الأثر إذ
التعبد بعدم المسبب غير واقع عدم المسبب، والثاني وان كان بعدم المقتضى له، الا ان
الأول انما يكون عن الاقتضاء.
ومحصل ما افاده العلامة الشيرازي (ره)، ان مفاد أصالة الصحة ان كان ترتب الأثر
والتعبد بالنقل والانتقال كان الاستصحاب الموضوعي حاكما عليها: إذ الشك في الصحة
ناش عن الشك في بلوغ العاقد مثلا فإذا جرى الأصل في البلوغ وثبت صدور العقد من
غير البالغ ارتفع الشك في الصحة، وان كان مفادها كون العقد على نحو يترتب عليه الأثر
250

ومستجمعا للاجزاء والشرائط ومنها البلوغ، كان الأصلان متعارضين: إذ مفاد
الاستصحاب بضميمة العقد المحرز بالوجدان صدور العقد من غير البالغ، ومفاد أصالة
الصحة التعبد بكون العقد صادرا من البالغ وعلى ذلك فهناك شك واحد تقتضي أصالة
الصحة التعبد بوجود المشكوك فيه ويقتضي الاستصحاب التعبد بعدمه - وبعبارة
أخرى - مفاد أصالة الصحة صحة العقد الموجود وسببيته، ومفاد الاستصحاب نفى سببية
العقد الموجود فكل منهما ينفى ما يثبته الآخر.
وبهذا التقريب يندفع ما أورد عليه: بان مفاد أصالة الصحة حيث يكون التعبد
بوجود العقد الصحيح ومفاد الاستصحاب التعبد بعدم سببية العقد الموجود فلا تعارض
بينهما، وجه الاندفاع: ان مفاد أصالة الصحة ليس التعبد بوجود العقد الصحيح بل بصحة
العقد الموجود.
وأورد على نفسه بان التعبد بنفي السببية لا يصح لكونه غير مجعولة شرعا
فالاستصحاب يكون أصلا حكميا محرزا لبطلان العقد، وأجاب عنه بأنه على هذا تكون
أصالة الصحة أيضا من هذا القبيل كما لا يخفى.
ولكن: الذي يهون الخطب، ويغنينا عن إطالة الكلام في المقام في بيان وجوه
المعارضة والحكومة من الطرفين، ان دليل أصالة الصحة، هو السيرة وبناء العقلاء بضميمة
عدم ردع الشارع الأقدس عنه، وحيث: ان هذا المدرك يدل على ثبوت أصالة الصحة في
موارد وجود الأصول الموضوعية، كما يظهر لمن اختبر ذلك من العرف والعقلاء في
المعاملة مع العقود الصادرة من الغير، فلا وجه لملاحظة المعارضة مع تلك الأصول
فتقدم عليها وبهذا ينقطع النزاع.
أصالة الصحة في الأقوال
التاسع: في أصالة الصحة في الأقوال، والصحة فيها تكون من وجهين.
الأول: من حيث كونها حركة وفعلا صادرا من المكلف، والشك من هذه الجهة
251

يتمحض في كونها محرمة أم مباحة، لا كلام في أن مقتضى أصالة الصحة البناء على عدم
الحرمة.
الثاني: من حيث كون القول كاشفا عن المعنى والشك من هذه الحيثية يكون من
وجوه أحدها: من حيث إن المتكلم، هل أراد بذلك القول معنى، أم تكلم لاغيا ومن غير
قصد. لا ريب في قيام الأصل العقلائي على البناء على أنه تكلم عن قصد، وهذا لا ربط له
بأصالة الصحة. ثانيها: من حيث إن مراده الاستعمالي، هل يكون مطابقا لمراده الجدي، أم
لا - وبعبارة أخرى - ان المتكلم صادق في ما هو ظاهر كلامه من اعتقاده بالمراد
الاستعمالي أم لا، لا كلام أيضا في أن الأصل العقلائي التطابق، وهذا أيضا أجنبي عن أصالة
الصحة، ثالثها: من حيث كونه صادقا في الواقع أم كاذبا - وبعبارة أخرى - في مطابقة
المخبر به للواقع، والكلام من هذه الجهة محرر في مبحث حجية الخبر الواحد مفصلا،
ودلالة الأدلة الدالة على أصالة الصحة أو أقيمت عليها، على ذلك وعدمها محرر في
ذلك المبحث أيضا.
العاشر: في أصالة الصحة في الاعتقادات والشك في ذلك يتصور على وجهين:
الأول: من جهة ان اعتقاده هذا هل هو ناش عن مدرك صحيح من دون تقصير
عنه في مقدماته أو عن مدرك فاسد، فالظاهر وجوب الحمل على الصحيح لظاهر بعض
ما مر من وجوب حمل أمور المسلمين على الحسن دون القبح كذا في رسائل
الشيخ الأعظم (ره).
الثاني: من حيث مطابقة اعتقاده للواقع، لا دليل على الحمل على ذلك، فلو دل
الدليل عليه من دليل لفظي أو غيره، كما في رأى الفقيه للعوام، ورأى الرجاليين
واعتقادهم وتعديلاتهم المكتوبة في كتبهم، فهو، والا فالأصل عدمه، هذه نبذة مما تتعلق
بأصالة الصحة والحمد لله أولا وآخرا.
252

قاعدة اليد
ومنها: قاعدة اليد، والمراد بها الاستيلاء على الشئ خارجا، لا الجارحة الخاصة
وارادته منها انما هي بالكناية حيث إن لازم الاستيلاء ذلك غالبا - والا - فليس هو أحد
معانيها قطعا ولا من مصاديق معناها. اما الأول: فلان الاستيلاء معنى حدثي قابل للاشتقاق
ولفظ اليد ليس كذلك. واما الثاني: فلعدم الجامع بين المعنى الاشتقاقي وهو الاستيلاء
والمعنى غير القابل له وهي الجارحة كي يوضع اللفظ له.
ثم إن الاستيلاء ليس دائما أمرا حقيقيا مقوليا. بل له افراد اعتبارية عرفية أيضا
المستكشفة بالتصرف ويكون الاستيلاء الاعتباري قسمان. الأول: الاستيلاء التام. الثاني:
الاستيلاء الناقص وانتظر لذلك زيادة توضيح في بعض المباحث الآتية.
اليد حجة على الملكية
وتنقيح البحث في هذا المقام انما يكون بالبحث في مواضع. الموضع الأول: في
حجية اليد الملكية وفيه مباحث، المبحث الأول لا خلاف في اعتبار اليد وحجيتها
على الملكية في الجملة.
ويشهد له ان ذلك مما استقرت عليه سيرة العقلاء والمتدينين: فان بناء العقلاء
وعمل المتدينين على ترتيب آثار الملكية على ما في اليد لصاحبها - وأضف إلى ذلك -
دلالة جملة من النصوص عليه.
منها: موثق حفص بن غياث الذي رواه المشايخ الثلاثة عن الإمام الصادق (ع)، قال
له رجل إذا رأيت شيئا في يدي رجل يجوز لي ان اشهد أنه له قال (ع) نعم، قال له الرجل
اشهد أنه في يده ولا اشهد أنه له فلعله لغيره، فقال أبو عبد الله (ع) أفيحل الشراء منه قال:
نعم: فقال أبو عبد الله (ع) فلعله لغيره، فمن أين جاز لك ان تشتريه ويصير ملكا لك ثم
تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ولا يجوزان تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك
253

ثم قال أبو عبد الله (ع) لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق (1).
ومورد الاستدلال به جملتان. الأولى: الجملة الدالة على جواز الشهادة بالملك
استنادا إلى اليد. الثانية: الجملة الدالة على جواز الشراء استنادا إليها فإنها بضميمة ان ظاهر
السؤال والجواب دوران امر اليد بين كونها يدا مالكية أم عادية وعدم احتمال الولاية
ونحوها تدل على المطلوب. وبذلك ظهران الايراد عليه بعدم الملازمة بين جواز الشراء
وجواز الشهادة بالملك إذ جواز الشراء يكفي فيه كون البايع مالكا للتصرف وان كان
بنحو الولاية أو نحوها بخلاف جواز الشهادة، في غير محله.
ومنها: صحيح فدك عن أمير المؤمنين (ع) قال لأبي بكر أتحكم فينا بخلاف حكم
الله في المسلمين، قال لا، قال (ع) فان كان في يد المسلمين شئ يملكونه ادعيت انا فيه من
تسئل البينة قال إياك كنت اسئل البينة على ما تدعيه قال (ع) فإذا كان في يدي شئ فادعى
فيه المسلمون تسئلني البينة على ما في يدي (2) إذ لولا حجية اليد على الملكية لما كان وجه
لتعريضه (ع) عليه بان البينة على المسلمين لا على فكيف تسئل عنى وهو واضح.
ومنها: موثق يونس بن يعقوب عن سيدنا الصادق (ع) في امرأة تموت قبل الرجل،
أو رجل قبل المرأة قال (ع) ما كان من متاع النساء فهو للمرأة وما كان من متاع الرجال
والنساء فهو بينهما ومن استولى على شئ منه فهو له (3) وهو وان ورد في مورد خاص الا
انه لا ريب في الغاء الخصوصية.
ومنها: خبر حمزة بن حمران ادخل السوق فأريد ان اشترى جارية تقول انى حرة
فقال (ع) اشترها الا ان تكون لها بينة (4).
ومنها: صحيح العيص عن مملوك ادعى انه حر ولم يأت بينه على ذلك اشتريه
قال (ع) نعم (5)، وتقريب الاستدلال بهما ان الظاهر كون المصحح للشراء هو يد البايع دون

1 - الوسائل - باب 25 - من أبواب كيفية الحكم من كتاب القضاء - حديث 2.
2 - الوسائل - باب 25 - من أبواب كيفية الحكم - حديث 3.
3 - الوسائل - باب 8 - من أبواب ميراث الأزواج - حديث 3.
4 - الوسائل - باب 5 - من أبواب بيع الحيوان - حديث 2.
5 - الوسائل - باب 5 من أبواب بيع الحيوان - حديث 1 - وباب 29 - من أبواب كتاب
العتق حديث 4.
254

غيرها كالبينة والا لم يكن وجه لسماع دعواها مع إقامة البينة كما لا يخفى. كما أن الظاهر أن
المفروض في الخبرين دوران الامر بين كون المبيع ملكا للبايع أم حر أو عدم احتمال
كونه ملكا لغيره، وعلى ذلك فدلالتهما على المطلوب واضحة.
ولكن يمكن المناقشة في كلا الاستظهارين، اما الأول: فلانه يمكن ان يكون
جواز الشراء لأجل جريان أصالة الصحة في فعل البايع، لا لأجل حجية يده على الملكية،
واما الثاني: فلان كون المفروض فيهما ما ذكر غير ثابت.
ومنها: جملة من الروايات الواردة في تعارض البينات (1)، وهناك روايات واردة
في أبواب متفرقة يمكن الاستشهاد بها على المطلوب فاصل الحكم مما لا ريب فيه.
اليد من الامارات
المبحث الثاني: في أن اليد، هل هي الامارات الكاشفة عن الملكية الواقعية، أو
انها من الأصول التعبدية ومقتضاها التعبد بالملك وآثاره، والكلام في هذا المبحث يقع
في جهتين. الأولى: في تعيين ملاك الطريقية. الثانية: في الدليل عليها.
اما الجهة الأولى: فقد ذكر في وجه ذلك، وجوه
الأول: ما عن المحقق النائيني (ره) وهو ان الاستيلاء على الشئ حيث إنه بالقياس
إلى الملكية من لوازمه الطبعية فلا محالة تكون فيها جهة كاشفية ناقصة.
وأورد عليه، المحقق الأصفهاني بعدم تمامية ذلك من جهة ان الاستيلاء
الخارجي ليس من لوازم الملكية شرعا كي يقال ان الملك لو خلى وطبعه يلازم الاستيلاء
بل هذا من شؤون ملك التصرف فان ملك العين لو لم يكن عارض يقتضى ملك
التصرف وانما يتخلف عنه لمانع كالجنون ونحوه فلا يكشف الاستيلاء عن الملك
كشف اللازم عن ملزومه في حد ذاته.

1 - الوسائل - باب 12 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى من كتاب القضاء.
255

وفيه: ان المستدل لا يدعى اقتضاء الملك شرعا للاستيلاء كي يرد عليه ما ذكر، بل
يدعى كون الاستيلاء لازما طبعيا للملك بمعنى ان المالك لو خلى وطبعه ولم يكن عارض
يستولي على مملوكه، وهذا امر لا يقبل الانكار.
الثاني: ما عنه (قده) تبعا للشيخ الأعظم (ره)، وهو ان الاستيلاء الخارجي ملازم غالبا
مع ملك العين، فهو يوجب الظن بكون المستولي عليه مملوكا للمستولي والظن فيه جهة
الكاشفية، - وبعبارة أخرى - الغالب كون المستولي مالكا لما استولى عليه، والغلبة توجب
الظن باللحوق.
والايراد عليه: بان المسلم غلبة الأيدي غير العادية على الأيدي العادية، واما غلبة
الأيدي المالكية للعين على الأيدي غير المالكية، فغير ثابتة لكثرة أيدي الأولياء والأوصياء
والوكلاء والمأذونين، في غير محله كما لا يخفى.
الثالث: ما عن البلغة، وهو ان الاستيلاء الخارجي منشأ لإضافة الملكية حقيقة ما
لم يعتبرها الشارع لغير المستولي، ومنشأ الانتزاع كاشف عن الامر الانتزاعي كشف العلة
عن معلولها.
وفيه: ما حققناه في محله من أن الملكية من الأمور الاعتبارية وليست من الأمور
الانتزاعية ولا من الأمور الواقعية.
واما الجهة الثانية: فقد استدل المحقق النائيني (ره) على الطريقية: بان حجية اليد على
الملكية مما قام عليها بناء العقلاء، ولا ريب ان اعتبارها عند العقلاء من جهة كاشفيتها: لعدم
وجود تعبد لامن جهة الكاشفية عندهم، ولعله إلى ذلك أشار في الدرر حيث قال ومعلوم
ان ذلك (أي بناء العقلاء على معاملة الملكية مع ما في أيدي الناس) ليس من جهة التعبد.
ولكن يرد عليهما ان بناء العقلاء على شئ ربما يكون للكاشفية كبنائهم على
العمل بخبر الثقة، وربما يكون لمصلحة أخرى داعية إلى ذلك، الا ترى ان بنائهم على
تحسين فاعل بعض الأفعال وتقبيح فاعل الآخر، وليس ذلك الا لأجل رفع اختلال النظام
- وبالجملة - ان ما هو المسلم عدم كون بناء العقلاء تعبدا صرفا، واما ان منشأ البناء دائما
هو الكاشفية، فغير صحيح، بل ربما يكون مصالح اخر، وفى المقام يمكن ان يكون هذا
256

البناء منهم منشأه رفع اختلال السوق، الذي أشار عليه السلام إليه بقوله لو لم يجز هذا لم يقم
للمسلمين سوق.
ولكن الانصاف ان دعوى كون البناء للطريقية والكاشفية وان حفظ نظام السوق
مصلحة داعية إلى البناء العملي قريبة جدا.
ويشهد لها مضافا إلى ذلك خبران مما تقدم - أحدهما - موثق يونس بن يعقوب
(ومن استولى على شئ منه فهو له) (1) فان ظاهر قوله فهو له الحكم بالملكية الواقعية
لا مجرد ترتيب آثارها ظاهرا كما لا يخفى، ثانيهما موثق (2) حفض المتقدم، وتقريب
الاستدلال به بطريقين.
الأول: دلالته على الغاء احتمال انه لغيره وان البناء على الملكية ليس حكما
للمحتمل.
ودعوى ان هذا المقدار لا يكفي في الطريقية والامارية لان الاستصحاب أيضا من
باب عدم الاعتناء باحتمال خلافه ومع ذلك ليس طريقا وامارة.
مندفعة: بان الاستصحاب ليس من باب الغاء احتمال الخلاف، بل من باب ابقاء
المتيقن من حيث الجري العملي فقط، وبالجملة الغاء احتمال الخلاف ظاهر في الا مارية
والطريقية.
الطريق الثاني: دلالته على جواز الشهادة بالملكية استنادا على اليد فان المعتبر في
الشهادة ثبوت الواقع كما هو واضح، وان شئت قلت، ان الظاهر من السؤال والجواب هو
السؤال عن الشهادة بالملكية واقعا، والا فالسائل عالم بالملكية الظاهرية ولذا أجاب بقوله
نعم في جواب أفيحل الشراء منه، والشهادة على الملكية الواقعية تلازم امارية اليد
والمعاملة معها معاملة العلم فتدبر، فان قلت إن قوله عليه السلام في ذيل الموثق لو لم يجز هذا
لم يقم للمسلمين سوق ظاهر في أن اعتبارها انما هو لحفظ نظام السوق لا للطريقية، قلت إن
ذلك حكمة اعتبار اليد وهذا كما يلائم مع التعبد يلائم مع الطريقية فتدبر.

1 - الوسائل - باب 8 - من أبواب ميراث الأزواج - حديث 3.
2 - الوسائل - باب 25 - من أبواب كيفية الحكم من كتاب القضاء - حديث 2.
257

وجه تقدم البينة على اليد
المبحث الثالث: في تعارضها مع الأصول والأدلة وبيان وجه تقدمها على
الأصول، وتقدم البينة عليها، وملخص القول فيه: انه بناءا على المختار من كونها من
الامارات والطرق المثبتة للملكية، تقدمها على الاستصحاب وساير الأصول انما هو
بالحكومة كتقدم ساير الامارات على الأصول.
واما تقدم البينة عليها الذي لا شبهة فيه، فإنما هو للأدلة الخاصة الواردة في باب
القضاء.
وقد ذكر له وجهان آخران، الأول ما في رسائل الشيخ الأعظم (ره)، وحاصله ان
مستند الكشف في اليد هي الغلبة وهي توجب الحاق المشكوك فيه بالأعم الأغلب
فالمأخوذ في موضوعها الشك فهي حجة على الملكية عند الجهل بالسبب، والبينة تزيل
الشك فلا يبقى لها موضوع فتكون البينة حاكمة على اليد حتى على فرض اماريتها.
وفيه: انه، ان أريد بأخذ الشك في موضوعها ان الشك موضوع لليد التي تكون
حجة كما هو ظاهر العبارة، فيرد عليه ان ملاك طريقيتها الملازمة الطبعية أو الغلبة
الموجبة للظن نوعا، - وبعبارة أخرى - لا يجتمع اخذ الشك موضوعا مع جعل الا مارية إذ
الشك غير قابل لذلك كما صرح به (قده) في محله، وان أريد كون الشك موردا ففي البينة
أيضا كذلك، إذ حجيتها انما تكون في ظرف الشك.
الثاني: ما افاده المحقق العراقي (ره) - وهو - ان اليد كشفها أضعف عن كشف البينة
لأنها في الحقيقة من باب الالحاق بالأعم الأغلب الذي يترتب على الأمور الحدسية
بخلاف البينة فان حكايتها عن الواقع مستندة إلى حس المخبر فقهرا تكون البينة في
حكايتها عن الواقع أقوى من اليد فمع التعارض تقدم للأقوائية.
وفيه: ان مجرد كون إحدى الامارتين أضعف لا يكفي في تقدم غيرها عليها، ما لم
ينطبق عليها أحد العناوين الموجبة للتقدم، من الحاكمية والواردية، والأظهرية كما
258

لا يخفى، فالصحيح ما ذكرناه.
واما بناءا على كون اليد من الأصول التعبدية، فوجه تقدمها على الاستصحاب انما
هي أخصية دليلها من أدلة الاستصحاب، مع أنه يلزم المحذور المنصوص، وهو اختلال
السوق وبطلان الحقوق من تقديم الاستصحاب عليها.
يد الشخص نفسه حجة على الملكية
المبحث الرابع: بعد ثبوت حجية اليد على الملكية لابد من البحث في عمومها من
جهات.
الجهة الأولى: في أنه، هل تختص الحجية بيد الغير، أم تعم يد الشخص نفسه. فلو
كان شئ في يد شخص وشك في أنه له أو لغيره تكون اليد حجة على أنه له. والأظهر هو
الثاني.
: لثبوت ملاك الطريقية في يد الشخص نفسه أيضا، لغلبة الأيدي المالكية على
غيرها، والأدلة في مقام الاثبات تشملها.
: لبناء العقلاء على المعاملة مع ما في أيديهم معاملة الملكية وان لم تحرز تلك
وجدانا.
ولاطلاق بعض النصوص المتقدمة، كموثق يونس بن يعقوب ومن استولى على
شئ منه فهو له (1).
ولصحيح جميل قلت فرجل وجد في صندوقه دينارا قال عليه السلام يدخل أحد يده
في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئا قلت لا قال عليه السلام فهو له (2)، ودعوى انه مع القطع بعدم
وضع الدينار فيه غيره يستلزم عدم الشك في الملكية، مندفعة بان ذلك لا ينافي الشك
في المكية الذي هو المفروض في السؤال لاحتمال كونه أمانة عنده أو انه وضعه في

1 - الوسائل - باب 8 - من أبواب ميراث الأزواج - حديث 3.
2 - الوسائل - باب 3 - من أبواب كتاب اللقطة - حديث 1.
259

صندوقه غفلة أو خطاءا أو غير ذلك من الاحتمالات، فان قلت: ان الحكم بأنه له تفضل
من الشارع الأقدس وليس من باب امارية اليد للملكية، ولذا أفتى بعض الأساطين بأنه له
حتى مع العلم بعدم كونه له، استنادا إلى هذا الصحيح، قلت: ان ذلك خلاف الظاهر وهذا
القول غير ظاهر الوجه وتمام الكلام في محله.
واما الاستدلال له بموثق مسعدة بن صدقة كل شئ هو لك حلال حتى تعرف
الحرام منه بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك وقد اشتريته ولعله
سرقة (1) بتقريب ان هو لك صفة للشئ وحلال خبر للموصوف والمثال تطبيق للكبرى
الكلية وهي ملكية الشئ لمن استولى عليه والموضوع في المثال الانسان نفسه.
ففاسد: إذ مضافا إلى أن الظاهر كون اللام لام الصلة لا لام الملك: ان التطبيق على
الثوب فيه ليس باعتبار كون يده عليه لفرض الاشتراء فيه فالملكية له مستندة إلى الاشتراء
لا إلى الاستيلاء فتدبر.
وقد استدل للأول بوجهين الأول: صحيح جميل عن الإمام الصادق عليه السلام رجل
وجد في بيته دينارا قال عليه السلام يدخل منزله غيره قلت نعم قال عليه السلام هذه لقطة (2) فان
الحكم بأنه لقطة مع فرض استيلاء الشخص على داره وعلى ما فيها دليل عدم امارية يد
الشخص نفسه على الملكية.
الثاني: موثق إسحاق بن عمار عن رجل نزل في بعض بيوت مكة فوجد فيها نحوا
من سبعين درهما مدفونة فلم يزل معه ولم يذكر حتى قدم الكوفة كيف يصنع قال عليه السلام
يسئل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها قلت فان لم يعرفوها قال عليه السلام يتصدق بها (3) فان
الحكم بالتصدق في صورة الجهل مع فرض كون البيت وما فيه تحت يد مالكه ينافي
امارية يد الشخص نفسه على الملكية إذ على ذلك كان اللازم ترتيب اثر الملك وان
جهلها صاحب المنزل.

1 - الوسائل - باب 4 - من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة - حديث 4.
2 - الوسائل باب 3 - من أبواب كتاب اللقطة حديث 1. 3 - الوسائل باب 5 - من أبواب كتاب اللقطة - حديث 3.
260

وفيهما نظر: اما الأول فلانه لم يفرض في الصحيح كون الدينار تحت يد صاحب
المنزل ومجرد كونه في منزله مع كثرة الداخل فيه لا يوجب صدق كون الدينار تحت يده
عرفا، وهذا بخلاف الصندوق الذي لا يدخل أحد يده فيه غيره ولا يضع أحد شيئا فيه كما
لا يخفى.
واما الثاني: فلان المراد بالجهل يمكن ان يكون هو الانكار لا الشك مع أن صدق
كون المدفون تحت يده غير معلوم، مضافا إلى أن في خصوص الكنز كلاما محررا في
محله وهناك روايات اخر ففيه بحث خاص لا وجه للتعدي عنه فالأظهر هو التعميم.
وبذلك ظهر انه كما لا يعتبر انضمام دعوى الملكية في حجية اليد كذلك لا يعتبر
عدم ادعاء عدم العلم بالملكية كما لا يخفى.
فما عن المحقق النراقي من اعتبار ذلك مستندا إلى عدم حجية يد الشخص نفسه
على الملكية، ضعيف.
عدم اعتبار انضمام التصرفات في امارية اليد
الجهة الثانية: هل اليد بنفسها حجة على الملكية، أم بضميمة التصرفات المالكية
فيه وجهان، أقواهما الأول: لاطلاق النصوص المتقدمة، لاحظ حكمه (ع) في موثق حفص
بجواز الشهادة بالملكية بمجرد رؤية كونه في يده وكذلك ساير النصوص. مضافا إلى
ثبوت بناء العقلاء على التعميم، وأضف إلى ذلك كله انه يلزم المحذور المنصوص وهو
اختلال نظام المعاش والسوق من عدم حجية اليد المجردة على الملكية إذ كل تصرف
فرض من البيع وغيره يلائم مع كون المتصرف مالكا وكونه مأذونا من قبله هذا إذا أريد
من التصرفات التصرفات المالكية، وان أريد بها التصرفات مطلقا، فهي في بعض الموارد
وان كانت محققة لصدق الاستيلاء، الا انه لا دليل على اعتبارها مع صدق الاستيلاء
بدونها.
261

اليد على المنافع حجة على الملكية
الجهة الثالثة: في أن اليد حجة على الملكية في خصوص الأعيان، أم تكون اليد
على المنافع أيضا حجة عليها وقبل تحقيق القول في ذلك ينبغي تقديم مقدمتين.
الأولى: ليس المراد بالمنافع هنا الأعيان المستخرجة من الأعيان الاخر كالفواكه
ونحوها فإنها داخلة في الأعيان، بل المراد بهاما تقابل الأعيان القارة، التي هي تدريجية
الوجود كحيثية مسكنية الدار ومركبية الدابة ونحوهما.
الثانية: ان ثمرة هذا النزاع انما تظهر فيما إذا كان الاستيلاء على المنفعة خاصة
دون العين كما لو كان شخص متصديا لإجارة الدار مع كون الدار تحت استيلاء غيره، فان
هذا التصرف حينئذ محقق للاستيلاء وكون المنفعة تحت يده، وأما إذا كان العين تحت
يده تكون يده حجة على ملكية العين ويستلزم ذلك مالكيته للمنافع بالتبع فلا حاجة إلى
ملاحظة الاستيلاء على المنافع.
ثم انه من هاتين المقدمتين ظهر أمران، الأول تصوير الاستيلاء على المنافع
استقلالا، الثاني عدم تمامية ما افاده السيد الفقيه في ملحقات عروته في تصويره بالتمثيل
بالمزرعة الموقوفة على العلماء مع كون العين بيد المتولي وصرف منافعها وحاصلها فيهم.
بدعوى ان لهم اليد على منافعها التي ترسل إليهم أو تصرف عليهم فان المنافع التي هي
محل الكلام غير هذه المنافع التي هي من الأعيان.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه قد استدل المحقق النراقي في عوائده على الاختصاص
بوجوه، الأول: ان اليد والاستيلاء انما هي في الأشياء الموجودة في الخارج القارة واما
الأمور التدريجية الوجود غير القارة كالمنافع فلو سلم صدق اليد والاستيلاء عليها فإنما
هو فيما تحقق ومضى لا في المنافع المستقبلة التي هي المرادة هيهنا، الثاني: ان المتبادر
عرفا من لفظ ما في اليد هو ذلك الثالث: اختصاص الاخبار باليد على الأعيان حتى موثق
262

حفص فلان لفظ (شيئا) في أوله وان كان عاما الا ان رجوع الضمير في قوله الشراء منه
وان يشتريه يوجب اما تخصيصه بالأعيان أو التوقف لعدم جواز شراء المنافع اجماعا.
وفى الجميع نظر، اما الأول: فلان منفعة الشئ امر مقدر الوجود عند العقلاء قائم
به وموجود بوجوده، مثلا منفعة الدار هي حيثية المسكنية القائمة بها وهي يقدر وجودها
عند العقلاء وعلى ذلك فالمنفعة أيضا من الأمور القارة التي يستولي عليها عرفا وعند
العقلاء، واما الثاني: فلمنع التبادر، واما الثالث: فلان بناء العقلاء عام ونصوص الباب
بملاحظة ما ذكرناه لا سيما بعد الغاء خصوصية الموارد تشمل المنافع فالأظهر هو التعميم.
حدوث اليد لا في الملك
الجهة الرابعة: هل تختص حجية اليد بما إذا احتمل حدوث اليد في الملك كما هو
الغالب، أم تعم ما إذا علم أن حدوثها لم يكن في الملك بل كان بعنوان الإجارة أو العارية
أو الغصب أو نحو ذلك وجهان بل قولان، أقواهما الأول.
لا لما افاده المحقق الأصفهاني (ره) من أنه وان كان مقتضى اطلاق بعض النصوص
هو التعميم، الا ان مقام الاثبات تابع لمقام الثبوت فإذا لم يكن ملاك الطريقية لا يعقل
الحكم بالملكية بعنوان امضاء الطريق وتتميم جهة كشفه، وحيث إن ملاك الطريقية ليس
موجودا في اليد الحادثة لا في الملك إذ الغالب من غير المالكية إذا تحققت بقائها على ما
كانت، فهذه اليد المشكوكة الحال وان كانت بملاحظة ان الغالب في الأيدي كونها مالكية
ملحقة بالأيدي المالكية، الا انها بملاحظة الغلبة الثانية المشار إليها ملحقة بغير الأيدي
المالكية فلا محالة تتقيد الأولى بالثانية وبعد تضييق دائرة الغلبة الأولى لا مقتضى لالحاق
المشكوك بالأيدي المالكية فلا مناص عن النباء على عدم حجيتها على الملكية في
الفرض.
: فإنه يرد عليه ان الغلبة الثانية، وهي غلبة بقاء اليد غير المالكية على ما كانت،
ممنوعة ولذا نلتزم بعدم حجية الاستصحاب من باب الطريقية والأمارية وانه ليس فيه
263

ملاكها فتدبر.
بل لان اليد التي تكون حجة على الملكية هي اليد التي لم يثبت كونها يدا غير
مالكية، واما التي ثبت فيها ذلك فلا تكون حجة عليها واستصحاب بقاء اليد على ما كانت
عليه يثبت كون اليد غير مالكية وانها يدا جارية أو نحوها فيرتفع موضوع الحجية بذلك.
لا يقال: ان اليد من الامارات وهي تكون حاكمة على الاستصحاب فكيف يقدم
عليها، فإنه يقال: ان اليد تكون حاكمة عليه إذا كان الاستصحاب جاريا بالقياس إلى مؤدى
اليد، لا فيما إذا كان جاريا بالقياس إلى شئ آخر لا تكون اليد متعرضة له الموجب
لارتفاع موضوعها كما في المقام: فان اليد لا تثبت انتقال اليد وتبدلها عما كانت عليه إذ هي
لا تكون حجة في مثبتاتها حتى على الا مارية كما تقدم، فإذا جرى الاستصحاب فيه وثبت
بقاء اليد على ما كانت عليه يرتفع موضوع حجية اليد، ومعه لا يبقى مورد للتمسك بها إذ
الحجية فرع صدق الموضوع.
إذا ثبت كونه ملكا للمدعى سابقا
الجهة الخامسة: إذا لم يكن في مقابل ذي اليد من يدعى الملكية لا كلام في حجية
اليد عليها وترتيب آثارها، وان ثبت بالوجدان أو بالبينة أو بالاقرار كونه ملكا لغيره سابقا
كما أنه لا كلام في ذلك أن كان في مقابل ذي اليد من يدعى الملكية، الا انه ثبت بأحد
الطرف الثلاثة كونه ملكا لغير من يدعيها سابقا لاطلاق الأدلة.
انما الكلام في ما إذا ثبت كونه ملكا للمدعى سابقا أو كونه تحت يده التي هي
امارة كونه ملكا له، فالأكثرون على تقديم اليد اللاحقة وان صاحبها منكر والبينة على
خصمه، وعن الشرائع اختيار تقديم الأولى، وعن الارشاد الميل إليه، وعن التحرير
احتمال التساوي، والأول أقوى: إذ اليد الموجودة امارة الملكية، ولا يصلح استصحاب
بقاء الملكية السابقة أو حكم اليد الأولى لمعارضتها لما تقدم من أنها من الامارات
ومقدمة على الاستصحاب.
264

واستدل للقول الثاني بوجوه، الأول: انه إذا ثبتت الملكية السابقة للسابق فلابد
لذي اليد اللاحقة من اثبات الانتقال إليه والأصل عدمه.
وفيه: انه لا يعتبر في الحكم بملكية ذي اليد اثبات الانتقال.
واما ما أجاب به السيد (ره) في ملحقات عروته من أن حال هذا الأصل حال
الاستصحاب في عدم صلاحيته للمعارضة مع اليد، فهو يبتنى على القول بان الحجة على
المسبب حجة على السبب فتكون اليد حجة على الانتقال كحجيتها على الملكية وفى
ذلك كلام سيأتي فانتظر.
الثاني: انه لادعائه الملكية الفعلية بعد كونه مملوكا للمدعى قبلا لا محالة يصير
مدعيا للانتقال وصاحب اليد السابقة منكرا.
وفيه: ان الانتقال ليس مصب الدعوى كي يكون ذو اليد الحالية مدعيا بالنسبة إليه
ومجرد كونه لازما لدعواه الملكية لا يجعله مدعيا بعد عدم كونه مصب الدعوى.
الثالث: انه إذا كانت اليد الحالية دليلا على الملكية، فالسابقة بالأولى لمشاركتها في
الدلالة على الملك الحالي وانفراد السابقة بالملك السابق.
وفيه: ان اليد السابقة امارة الملك السابق لا الملك الحالي ودلالتها عليه انما هي
بضميمة الاستصحاب، بل هو الدليل عليه دونها وهو محكوم لليد.
وللمحقق النراقي في المقام كلام - وحاصله - بعد اختياره القول المختار والمناقشة
في دليله من جهة ان اليد كالاستصحاب من الأصول فتسقط بالمعارضة انهما وان سقطا،
الا ان اليد الفعلية باقية والأصل عدم التسلط على انتزاع العين من يد ذيها وعدم جواز منعه
من التصرفات حتى مثل البيع،، إذ غاية الامر عدم الدليل على ملكيته ولكن لا دليل على
عدمها مع أن هذه التصرفات ليست موقوفة على الملكية لجوازها بالاذن والتوكيل
ونحوهما فتبقى أصالة عدم التسلط وأصالة جواز التصرفات انتهى ملخصا.
وفيه: أولا ان التصرفات الموقوفة على الملك كالبيع لا تجوز لغير المالك الا
الوكيل والولي والمأذون من قبل المالك فمع عدم ثبوت الملكية والمفروض عدم
الوكالة والولاية والاذن كيف يجوز للغير أن يشترى منه أو يستأجر ونحو ذلك من
265

التصرفات والحال ان الأصل هو العدم، وثانيا: انه إذا سقط حكم اليد فذو اليد وغيره سواء
فان جازت له التصرفات جازت لخصمه أيضا وليس لذي اليد منعه، إذ الأصل عدم تسلطه
على ذلك.
إذا أقر ذو اليد بان المال كان للمدعى
هذا كله في غير الاقرار، واما لو أقر ذو اليد الحالية بان العين كانت للمدعى أو بيده
سابقا، فالمشهور بين الأصحاب انه ينقلب ذو اليد مدعيا والمدعى منكرا، واستشكل في
ذلك في محكى الكفاية وتبعه جمع من الأساطين بل اختاروا عدم الانقلاب.
والكلام في ذلك يقع في موضعين، الأول في أن الاقرار المزبور هل يوجب
تشكيل دعوى أخرى أم لا؟ الثاني: في أنه على فرض التشكيل هل ينقلب ذو اليد مدعيا
والمدعى منكرا أم لا؟
اما الموضع الأول: فقد استدل الشيخ الأعظم (ره) للتشكيل: بان دعويه الملكية
في الحال إذا انضمت إلى اقراره بكونه قبل ذلك للمدعى يرجع إلى دعوى انتقالها إليه، و
أوضحه المحقق النائيني (ره) بأنه عند اقراره بان المال كان للمدعى اما ان يضم إلى اقراره
دعوى الانتقال إليه واما ان لا يضم إلى اقراره ذلك بل يدعى الملكية الفعلية مع اقراره بان
المال كان للمدعى فان لم يضم إلى اقراره، دعوى الانتقال يكون اقراره مكذبا لدعويه
الملكية إذ لا يخرج المال عن ملك من كان المال له بلا سبب، فمقتضى الاخذ بالاقرار
عدم حجية يده وان ضم إلى اقراره ذلك تنقلب الدعوى ويصير ذو اليد مدعيا للانتقال
إليه.
وفيه: ان الميزان في تشخيص المدعى والمنكر هو ملاحظة مصب الدعوى والا
فمجرد لزوم شئ لدعوى الملزوم لا يصلح لجعله مصب الدعوى - وبعبارة أخرى -
التلازم بين الشيئين واقعا لا يلازم التلازم بين وقوعهما، في مصب الدعوى، وعليه ففي
المقام إذا ادعى ذو اليد انه ملكي ساكتا عن الانتقال وعدمه ولم يقع الانتقال مصب
266

الدعوى لا يكون ذو اليد مدعيا وان كان لازم الملكية الواقعية الانتقال الا انه ليس لازم
دعوى الملكية دعوى الانتقال، والقول بأنه ان لم يضم إلى اقراره دعوى الانتقال يكون
اقراره مكذبا لدعواه الملكية، غير تام إذ الاقرار بالملكية السابقة للمدعى مع السكوت عن
الانتقال وعدمه كيف يكون مكذبا لدعواه الملكية الفعلية فما لم يدع الانتقال صريحا
لا ينقلب ذو اليد مدعيا فالأظهر هو عدم التشكيل.
واما الموضع الثاني: وهو انه على فرض التشكيل أو دعوى الانتقال صريحا، هل
يصير ذو اليد مدعيا أم لا؟ ففيه قولان اختار ثانيهما المحقق الأصفهاني (ره)، واستدل، له:
بان اليد امارة والامارة على المسبب امارة على السبب فالحجة على المسبب وهي الملكية
في المقام لذي اليد حجة على سببه الناقل في الفرض من المقر له فهو بالنسبة إلى دعوى
الانتقال أيضا يكون منكرا لموافقه دعواه للحجة.
وفيه: ان اليد امارة على أصل الملكية لاعلى خصوصيتها، وقد مر ان اليد ليست حجة
في مثبتاتها وعليه فان لم يقع الانتقال مصب الدعوى تكون اليد حجة على الملكية، والا
فيصير ذو اليد مدعيا بالقياس إلى الانتقال، ولكن مع ذلك لا يخرج اليد عن الا مارية للملكية.
واما ما ذكره المحقق اليزدي (ره) انتصارا للمشهور القائلين بالانقلاب مع تسليم ان
اليد التي تكون حجة على الملكية تكون حجة على سببها، بان المنكر ليس مطلق من يوافق
قوله الحجة المعتبرة بل المنكر من يدفع الخصومة عن نفسه التي أنشأها المدعى، ومدعى
الانتقال ينشأ الخصومة.
فيرد عليه: انه لو تم ذلك لزم القول به في خصوص ما إذا أنشأ ذو اليد الخصومة
وادعى الانتقال إليه، واما لو أنشأ خصمه ذلك بدعواه بقاء المال على ملكه ودفع ذو اليد
عن نفسه ذلك بدعوى الانتقال فيكون هو منكرا.
وهم ودفع في محاجة أمير المؤمنين عليه السلام مع أبي بكر في قصة فدك
اما الأول: فقد توهم التنافي بين ما اختاره المشهور من انقلاب الدعوى في صورة
267

اقرار ذي اليد بان المال كان للمدعى أو لمورثه، وبين الصحيح (1) المتقدم الوارد في محاجة
أمير المؤمنين عليه السلام مع أبي بكر في قصة فدك، لان الصديقة الطاهرة عليها السلام
اعترفت بان فدك كان ملكا لرسول الله عليه السلام وادعت انه نحلة فاقرارها بملكيته لرسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم اقرار بالانتقال إلى المسلمين بمقتضى الخبر الذي وضعوه وادعوا
سماعه منه (ص) نحن معاشر الأنبياء لا نورث إلى قولهم (ما تركناه صدقة)، فعلى مختار
المشهور تنقلب الدعوى، وتصير الصديقة عليها السلام مدعية فعليها إقامة البينة، ومع عدم
الإقامة يكون المال للمسلمين ولوليهم المطالبة، فكيف اعترض (ع) على مطالبة أبى بكر
البينة عنها عليها السلام.
واما الدفع فبوجوه، الأول: ما تقدم من عدم تمامية ما نسب إلى المشهور من
الانقلاب فتدبر.
الثاني: انه لو سلم ذلك فإنما هو بالنسبة إلى الاقرار للمدعى، واما الاقرار للمورث
أو للموصى إذا كان المدعى هو الوارث أو الموصى له فلا يوجب الانقلاب قطعا: إذ المقر
له وهو الميت لا يكون مدعيا والمدعى لم يقر له فالاقرار للمورث أو للموصى كالاقرار
للأجنبي وهي عليها السلام انما أقرت بأنه كان ملكا لرسول الله (ص) لا للمسلمين.
الثالث: ما افاده المحقق الهمداني (ره) وهو ان ما ذكره المشهور انما هو في الاقرار
للمدعى مع كونه منكرا للانتقال واما مع اعترافه بالجهل بالانتقال لا دعوى كي ينقلب
المنكر مدعيا والمدعى منكرا، وأبو بكر كان جاهلا بالانتقال منه (ص) إليها عليها السلام، فلا
حق له في مطالبة البينة منها مع عدم وجود من ينكر التلقي في مقابلها، وبالجملة بها انها
مدعية بلا منكر في مقابلها فيدها امارة الملكية واقرارها بكونه ملكا لرسول الله (ص) وانتقاله
إليها لا يوجب صحة مطالبة البينة منها.
هذا كله على تقدير صدق الخبر الا انه مجعول موضوع قطعا لا جميعه بل ما أضافوا
إليه وهو قولهم (ما تركناه صدقة).

1 - الوسائل - باب 25 - من أبواب كيفية الحكم - من كتاب القضاء - حديث 3.
268

وأجاب: المحقق النائيني (ره) بعد تسليمه فتوى المشهور عن هذه الشبهة بوجه
آخر، وهو يتوقف على بيان مقدمة، وحاصلها انه في موارد تبدل الملكية، - تارة - يتبدل
المملوك فتكون العلقة الرابطة بين المالك والمال قد حل أحد طرفيها وهو الطرف
المربوط بالمال وجعل مكانه المال الآخر كما في عقود المعاوضة فتكون المعاوضة بين
المالين مع بقاء الإضافة بحالها، - وأخرى - يتبدل المالك مع انحفاظ الإضافة القائمة
بالمملوك كما في باب الإرث فالعلقة المزبورة قد حل أحد طرفيها المربوط بالمالك
وربط بالوارث - وثالثة، يتبدل نفس الإضافة باعدام إضافة وإيجاد إضافة أخرى كما في
الهبة والوصية.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه فرق بين الاقرار للمورث وبين الاقرار للموصى، وفى
الأول يكون الاقرار اقرارا للمدعى فيلحقه حكمه من الانقلاب وفى الثاني ليس كذلك إذ
الاقرار للموصى مع فرض انعدام تلك الإضافة الخاصة التي أقربها ليس اقرارا للموصى له
الذي على فرض ملكيته تكون ملكيته إضافة أخرى غير تلك الإضافة، وهذا بخلاف
الاقرار للمورث، فإنه اعتراف بملكية الوارث لعدم التبدل فيها كما عرفت، وعليه فحيث
ان المسلمين لم يكونوا ورثة النبي (ص)، بل غاية الامر الانتقال إليهم كالانتقال بالوصية فلا
يكون اعترافها بملكية النبي (ص) اعترافا بملكية المسلمين بل هو كالاعتراف للأجنبي غير
الموجب لانقلاب الدعوى.
وفيه أولا: ان التبدل دائما يكون في نفس الإضافة: إذ هي امر اعتباري متقوم
بالطرفين فلا يعقل بقائها مع تبدل أحد طرفيها فدائما تنعدم إضافة وتتحقق إضافة أخرى.
وثانيا: انه لم يظهر الفرق بين الوصية والإرث فعلى فرض تسليم المقدمة
المتقدمة، انه كما يلتزم في باب الإرث بتبدل المالك مع بقاء الإضافة كذلك لابد وان
يلتزم بذلك في الهبة والوصية بل هذا فيهما أولى من الإرث، إذ لو كان الموهوب أو
الموصى به إضافة أخرى غير ما له من الإضافة يكون من باب تمليك ما ليس له وهذا
بخلاف ما لو التزمنا ببقاء الإضافة فتدبر فإنه لطيف.
269

إذا كان المال وقفا سابقا
الجهة السادسة: إذا كان المال وقفا سابقا قبل استيلاء ذي اليد عليه واحتمل طرو
بعض المسوغات فاشتراه ذو اليد. فهل تكون اليد حينئذ امارة الملكية أم لا فيه خلاف مع
الفراغ عن حجية اليد على الملكية مع الشك في الوقفية فإنه كالشك في أنه حر أو رق
الذي دل الدليل على حجيتها عليها فيه.
واستدل السيد الفقيه في ملحقات عروته على الحجية، بان العلم بكونه وقفا كالعلم
بكونه مال الغير لا اثر له في مقابل اليد إذ ليس في البين الا استصحاب بقاء الوقفية، وهو
كاستصحاب بقاء المال على ملك الغير يكون محكوما لقاعدة اليد.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره)، بأنه فرق بين الموردين - وذلك - لان الأموال
بحسب طبعها قابلة للسير والتبدل وللمالك ان يحبسها ويمنع عن سيرها فتسقط عن قابلية
التبدل والسير، وعليه فإذا وجد مال في يد أحد ولم يعلم وقفيته فاليد امارة لفعلية الانتقال
ولكن إذا وجد مال في يد شخص وعلم أنه لم يكن قابلا للنقل والانتقال واحتمل عروض
المسوغ فقاعدة اليد لا تصلح لاثبات قابلية الانتقال بل مقتضى استصحاب بقاء عدم
القابلية عدم كونه ملكا له - وبعبارة أخرى - اليد حجة على فعلية الانتقال ما لم يحرز عدم
قابلية متعلقها للانتقال، وعليه فاستصحاب عدم عروض المسوغ وبقاء المال على وقفيته
يكون من قبيل الاستصحاب الموضوعي الذي تقدم انه مقدم على اليد.
ثم أورد على نفسه، بان اليد امارة على الملكية وشأن الامارة اثبات اللوازم
والملزومات فاليد تثبت طرو المجوز للنقل أيضا فتكون حاكمة على الاستصحاب،
وأجاب عنه: بان قابلية المال للنقل والانتقال تكون بمنزلة الموضوع للنقل والانتقال لا من
اللوازم والملزومات واليد لا تثبت الموضوع فلا تكون حجة على طرو المسوغ
فاستصحاب عدم طروه يوجب خروج الفرض عن مورد قاعدة اليد.
ويرد عليه (ره) ان قابلية المال للنقل والانتقال كنفس انشاء النقل والانتقال ليست
270

بمنزلة الموضوع بل من قبيل اجزاء السبب للملكية، فكما انه لو علم بكون المال للغير
واحتمل الانتقال تكون اليد حجة على الملكية، كذلك فيما إذا علم بعدم قابليته للنقل
والانتقال واحتمل طرو المسوغ - وان شئت قلت - ان عروض المسوغ من شرائط صحة
انشاء النقل والانتقال فكما انه عند الشك في انشاء النقل والانتقال تكون اليد حجة على
الملكية، ولا يعتنى باستصحاب عدمه كذلك عند الشك في عروض المسوغ لا يعتنى
باستصحاب بقائه على ما كان.
مضافا إلى أن أصالة الصحة في فعل متولي الوقف وذي اليد، تقتضي سقوط
استصحاب عدم عروض المسوغ لبيع الوقف فتكون اليد بلا معارض، ودعوى عدم
جريان أصالة الصحة في مثل هذا الفرض، قد تقدم تقريبها والجواب عنها في أصالة
الصحة في فروع الامر الخامس فراجع.
فتحصل ان الأظهر حجية اليد على الملكية حتى فيما علم عدم قابلية المال للانتقال
سابقا واحتمل تبدله إلى القابلية.
إذا كان شئ بيد اثنين.
المبحث الخامس: إذا كان شئ في يد اثنين، كالدار الواحدة يسكناها، والفرش
يجلسان عليه لا كلام في كون اليدين امارة الملكية.
انما الكلام في موردين، الأول في، ان يد كل منهما على النصف المشاع، أو ان
يد كل منهما على تمامه، قد يقال بتعين الثاني من جهة ان الاستيلاء على النصف المشاع
غير معقول الا بالاستيلاء على الكل إذ كل جزء فرض يد كل منهما عليه، وفى مقابل ذلك
قيل بتعين الأول نظرا إلى أن استيلائين مستقلين على شئ واحد كاجتماع الملكيتين
المستقلتين على مال واحد.
ولكن الحق في المقام ان يقال ان الاستيلاء الذي هو امارة الملكية ليس دائما أمرا
حقيقيا عينيا، بل له افراد اعتبارية عرفية أيضا كما تقدم، وعرفت ان لافراده الاعتبارية
271

قسمين، الأول الاستيلاء التام، الثاني الاستيلاء على تمام المال بالاستيلاء الناقص، ففي
المقام يكون يد كل منهما على تمام المال ولكن لا بنحو الاستيلاء التام حتى يقال انه غير
معقول بل بنحو الاستيلاء الاعتباري غير التام فتدبر.
واما ما افاده السيد الفقيه في ملحقات عروته من أنه، يمكن اجتماع اليدين
المستقلتين على مال واحد، كما يمكن ان يكون يد كل منهما على النصف المشاع.
فمما لا أتصوره: إذ لو كان المراد من اليد المستقلة الاستيلاء التام ومن اليد على
النصف المشاع الاستيلاء الناقص لم يكن الأول معقول، ولو كان المراد باليد المستقلة
الاستيلاء على تمام المال ولو بالاستيلاء الناقص ومن اليد على النصف المشاع اليد على
نصف المال لم يكن الثاني معقولا.
المورد الثاني: في بيان مقتضى كل من اليدين من الملكية.
وحق القول فيه انه بناءا على ما اخترناه من أن يد كل منهما على تمام المال ولكن
بنحو الاستيلاء الناقص بضميمة ما اخترناه في تصوير الملك المشاع تبعا لجمع من
الأساطين، من أن حقيقته مالكية كل من الفردين أو الافراد لجميع المال بالملكية الناقصة،
على ما أوضحناه في حاشيتنا على مكاسب الشيخ الأعظم (ره) الامر سهل، إذ كل من
الاستيلائين الناقصين يكون امارة على الملكية غير التامة المعبر عنها بملكية النصف
المشاع، ويكون مقتضى كل استيلاء مطابقا له من دون لزوم أي محذور، وتنطبق القاعدة
حينئذ على ما دلت عليه النصوص الكثيرة الدالة على تنصيف ما يدعيه اثنان ويدهما عليه
بدون البينة لأحدهما أو مع البينة لهما، وكذلك لا كلام بناءا على القول باستيلاء كل
منهما على النصف المشاع.
انما الكلام في أنه بناءا على كون استيلاء كل منهما على تمام العين بالاستيلاء التام،
ان اقتضى كل من اليدين ملكية تمام العين لزم التزاحم بينهما، لامتناع اجتماع المالكين
على مال واحد، وان اقتضتا ملكية النصف المشاع لكل منهما لزم عدم مطابقة مقتضى اليد
لها مع أن مقتضى الا مارية المطابقة، وقد قيل في التفصي عن ذلك وجوه.
الأول: ان اليدين تتعارضان ولا يمكن الحكم بملكيته لهما، ولا لأحدهما المعين
272

للزوم الترجيح بلا مرجح، ولا لأحدهما لا بعينه لعدم كونه شخصا ثالثا، فلا محالة
تتساقطان الا ان ذلك في المدلول المطابقي لكل منهما، واما بالنسبة إلى اللوازم التي
لا تعارض بينهما فيها كنفي ملكية غيرهما فهما حجتان فيها، فإذا ثبت عدم مالكية غيرهما
فلا محالة يكون مالا مرددا بينهما لا حجة لأحدهما على أنه ملك له، فمقتضى القواعد
التنصيف.
وفيه: ما حققناه في محله، من أن الدلالة الالتزامية كما تكون تابعة للدلالة
المطابقية ثبوتا تكون تابعة لها في الحجية فمع سقوطهما عن الحجية بالنسبة إلى المدلول
المطابقي لا تكونان حجة في المدلول الالتزامي.
الثاني: ما افاده المحقق النراقي، وهو ان مقتضى القاعدة وان كان هو التساقط الا
ان مقتضى قوله في الموثقة ومن استولى على شئ منه فهو له، انه لو استوليا معا عليه كان
لهما وبمقتضى قاعدة التساوي في الشركة المبهمة انه بينهما نصفين.
وفيه: انه لو كان لهما استيلاء واحد لكان ما ذكر تاما، ولكن بما ان المفروض
ثبوت استيلائين تامين فيلزم التعارض المشار إليه في مدلول الموثق بين مصداقين من هذه
القضية الحقيقية فلا محالة يتساقطان أيضا.
الثالث: ما افاده السيد الفقيه في ملحقات عروته، وهو ان الأقوى جواز اجتماع
الملكين المستقلين على مال واحد كما إذا كان ملكا للنوع كالزكاة والخمس، فان كل فرد
من ذلك النوع مالك لذلك المال، بل الأقوى جواز اجتماع المالكين الشخصيين أيضا
كما إذا وقف على زيد وعمرو أو أوصى لهما على نحو بيان المصرف فإنه يجوز صرفه
على كل واحد منهما.
ثم انه (قده) قاس الملكية بالحق، وقال إنه لا اشكال عندهم في جواز كون حق
واحد لكل من الشخصين مستقلا، كخيار الفسخ، وكولاية الأب والجد على مال الصغير
ومن المعلوم عدم الفرق بين الملك والحق.
أقول: اما ما ذكره (ره) من جواز اجتماع المالكين المستقلين على مال واحد،
فالظاهر أنه أراد بالملكية المستقلة ما اخترناه في ملك المشاع، ويؤيده بل يشهد له ما
273

ذكره في آخر المسألة بقوله، ودعوى: ان مقتضى الملكية المستقلة ان يكون للمالك منع
الغير وإذا لم يكن له منع الغير فلا يكون مستقلا، ممنوعة: فان هذا أيضا نحو من الملكية
المستقلة ونظيره الوجوب الكفائي والتخييري في كونهما نحوا من الوجوب مع كونه
جائز الترك وعليه فهو حق لا يرد عليه شئ مما أوردوه عليه
ولكن في كلامه موضعين من النظر، الأول: ما ذكره من أنه في باب الخمس
والزكاة يكون كل فرد مالكا مستقلا، فإنه يرد عليه ان تعلقهما بالمال انما هو من باب تعلق
الحق بمالية العين فكل واحد من الافراد لا يكون مالكا بل قابل لان يصير مالكا باعطاء
المالك إياه وتمام الكلام في الجزء السابع من فقه الصادق.
الثاني: ما ذكره من قياس الملكية بالحق: إذ يرد عليه ان متعلق الحق انما هو الفسخ
لا العقد فمع ثبوت حقين لشخصين يكون المتعلق أيضا متعددا إذ كل منهما له حق فسخ
غير ما للآخر وهذا لا يقاس بملكية العين.
جواز الشهادة بالملك بمشاهدة اليد
المبحث السادس: هل تجوز الشهادة بالملك بمشاهدة اليد، أم لا؟ المشهور بين
الأصحاب ذلك في اليد المقرونة بالتصرف، و - الكلام يقع، تارة في مقتضى القواعد،
وأخرى فيما يقتضيه النص الوارد في خصوص اليد.
اما القواعد، فالأظهر انها تقتضي الجواز وذلك لأنه وان كان لا كلام ولا اشكال
في أن المأخوذ في موضوع جواز الشهادة هو العلم بالمشهود به، وانه لابد وأن يكون
المشهود به منكشفا كانكشاف الشمس وكمعرفة الكف حتى تجوز الشهادة به الا ان
الظاهر أن العلم المأخوذ في موضوعه مأخوذ على وجه الطريقية والكاشفية لا على وجه
الصفتية، خلافا للشيخ الأعظم (ره) إذ الظاهر من الأدلة ان النظر فيها إلى ثبوت الواقع
274

لا تحقق هذا الوصف من حيث هو.
وعليه فبناءا على ما اخترناه تبعا للشيخ الأعظم (ره) من قيام الطرق والامارات بأدلة
اعتبارها مقام القطع الطريقي المحض، والمأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية كما
أشبعنا الكلام في ذلك في مبحث القطع، وقد تقدم، تجوز الشهادة بالملك بمشاهدة اليد
لأنها من الامارات كما قدمناه.
بل بناءا على ما حققناه من قيام الأصول المحرزة مقام القطع المأخوذ في
الموضوع على وجه الطريقية من حيث إنه مقتض للبناء العملي والجري على وفق ما تعلق
القطع به لامن حيث إنه انكشاف للواقع تجوز الشهادة بالملك مستندة إلى الاستصحاب
إذا ثبت كون العلم المأخوذ في موضوع جوازها مأخوذا على هذا النحو، وعلى ذلك
فالنصوص الدالة على جواز الشهادة مستندة إلى الاستصحاب التي عقد لها في الوسائل في
كتاب الشهادات بابا يمكن تطبيقها على القواعد وكيف كان فلا ريب في جواز الشهادة
مستندة إلى اليد بناءا على اماريتها كما اخترناه.
وقد استدل لعدم الجواز بوجوه، الأول: ما في ملحقات العروة وهو انه لاعتبار
العلم في الشهادة لا تجوز مستندة إلى اليد بل الشهادة مستندة إليها تدليس حرام.
وفيه: ما عرفت من قيام الطرق والامارات مقام القطع المأخوذ في الموضوع على
وجه الطريقية ومنها اليد.
الثاني: ما في الشرائع وهو ان اليد لو أوجبت الملك لم تسمع دعوى من يقول
الدار التي في يد هذا لي كما لا تسمع لو قال ملك هذا لي.
وفيه، أولا: ان هذا انكار لحجية اليد على الملكية، والكلام في هذه المسألة انما هو
في جواز الشهادة بعد الفراغ عن حجيتها على الملكية.
وثانيا: ان المدعى في الدعوى الأولى أقر بذات الكاشف وذلك لا يكون مكذبا
لدعواه بملاحظة علمه بعدم المنكشف، وفى الدعوى الثانية أقر بنفس الملكية فلا محالة
يكون ذلك تكذيبا لدعواه.
275

الثالث: ان لازم جواز الشهادة مستندة إلى اليد وقوع التعارض بين بينة المدعى
وبينة ذي اليد إذا علم استنادها إلى اليد مع أنه لا كلام في تقدم الأولى.
وفيه: ان وجه التقدم انه مع احراز استناد البينة إلى اليد لا اثر لها لأنها لا تزيد على
اليد فليس في مقابل بينة المدعى الا اليد، والبينة تقدم عليها، فالأظهر ان القواعد تقتضي
جواز الشهادة بالملك بمشاهدة اليد.
واما النص الخاص، فقد دل موثق حفص المتقدم عن الإمام الصادق (ع) قال له
رجل إذا رأيت في يدي رجل يجوز لي ان اشهد أنه له قال (ع) نعم، على الجواز بل
المستفاد من ذيله فمن أين جاز لك ان تشتريه ويصير ملكا لك ثم تقول بعد الملك هو
لي وتحلف عليه ولا يجوز ان تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك (1) هي الملازمة بين
جواز ترتيب الأثر في عمل نفسه وجواز الشهادة به لغيره، والمناقشة فيه بان المراد منه
جواز نسبة الملك إلى ذي اليد لا الشهادة الفاصلة للنزاع، يدفعها مضافا إلى منافاة ذلك
للظهور: فإنه سئل عن الشهادة له، ما في الخبر من جواز الحلف عليه.
حجية يد المسلم على التذكية
الموضع الثاني: في حجية اليد على تذكية ما هي عليه، من اللحم والجلد وغيرهما
وغير ذلك من الاعراض والنسب وفيه مباحث.
الأول: في حجية يد المسلم على التذكية والكلام فيه، تارة في وجود ملاك
الطريقية فيها، وأخرى في الدليل عليها في مقام الاثبات.
اما الأول: فيمكن تقريبه بوجهين. أحدهما: ان المسلم غالبا لا يستعمل الا المذكى
وغالب ما في أيدي المسلمين انما هي ذبيحتهم. ثانيهما: ان اليد امارة الملكية بمعنى ان

1 - الوسائل - باب 25 - من أبواب كيفية الحكم - من كتاب القضاء - حديث 2.
276

غالب ما في أيدي الناس مملوك لهم وغير المذكى لا يملك والطريق إلى الملزوم طريق
إلى لازمه، والكلام في المقام ليس في ملازمة حجيتها عليها مع حجيتها على الملكية ثبوتا
واثباتا، مطلقا، حتى يرد عليه ما أورده المحقق الأصفهاني من أن اليد حجة على الملك
مطلقا من دون فرق بين كون ذي اليد مسلما أو كافرا، والكلام في دلالة يد المسلم
بالخصوص على التذكية فتدبر.
واما في مقام الاثبات فيشهد لحجيتها عليها، مضافا إلى السيرة القطعية حيث إنها
قائمة على المعاملة مع ما في أيدي المسلمين معاملة المذكى، والى - عدم الخلاف فيه -.
والى النصوص (1) الواردة في سوق المسلمين الدالة على كونه امارة للتذكية، بناءا
على المختار من أنه امارة يستكشف بها كون البايع مسلما، وهو امارة كونه مذكى على ما
حققناه في الجزء الثالث من فقه الصادق.
خبر إسماعيل بن عيسى سألت أبا الحسن (ع) عن جلود الفراء يشتريها الرجل في
سوق من أسواق الجبل يسئل عن ذكوته إذا كان البايع مسلما غير عارف قال (ع) عليكم ان
تسئلوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسئلوا عنه (2).
ويمكن ان يستأنس لحجيتها عليها بخبري أبي بصير (3) وابن الحجاج (4) الآتيين
الدالين على عدم المعاملة مع ما يشترى من المستحلين للميتة معاملة المذكى معللا
باستحلالهم ذلك كما لا يخفى، فحجية يد المسلم على التذكية مما لا ينبغي التوقف فيها
الا ان هذه الأدلة انما تفي باثبات حجيتها إذا كانت اليد مبنية على التصرف المترتب على
كون الحيوان مذكى، ولا تدل على حجية اليد على تذكية ما تحت اليد المجردة لا سيما إذا
كانت للالقاء والنبذ.

1 - الوسائل - باب 50 - من أبواب النجاسات - وباب 30 من أبواب الذبائح وباب 38 -
من أبواب لباس المصلي.
2 - الوسائل باب 50 - من أبواب النجاسات - حديث 7.
3 - الوسائل - باب 61 - من أبواب لباس المصلي - حديث 2.
4 - الوسائل باب 61 - من أبواب النجاسات حديث 4.
277

عدم امارية يد الكافر على عدم التذكية
المبحث الثاني: هل تكون يد الكافر امارة عدم التذكية كما أن يد المسلم امارة
التذكية أم لا؟ وانما تترتب على ما في يده آثار عدم التذكية لأصالة عدمها وجهان، اختار
صاحب الجواهر (ره) أولهما، وذهب جمع إلى الثاني.
واستدل للأول بوجوه، الأول: انه من المسلم عند الأصحاب ان الذبيحة إذا كانت
في سوق المسلمين بيد الكافر فهي محكومة بعدم التذكية ولا ينطبق ذلك الا على امارية
يد الكافر إذ عليها يتعارض سوق المسلمين الذي هو امارة التذكية مع يد الكافر التي هي
امارة عدم التذكية فيتساقطان، فيرجع إلى أصالة عدم التذكية، وهذا بخلاف القول بعدم
الا مارية إذ حينئذ ليس في مقابل سوق المسلمين الا أصالة عدم التذكية، ولا ريب في أن
الأصل محكوم بالدليل المعتبر والامارة الكاشفة وهي سوق المسلمين.
وفيه: انه قد حققنا في محله في الجزء الثالث من فقه الصادق ان سوق المسلمين
ليس امارة التذكية، بل هو امارة كون البايع مسلما ويده امارة التذكية وعليه فمع العلم
بكون البايع كافرا لا يكون السوق امارة فيحكم بالعدم لأصالة عدم التذكية.
الثاني: ما في الجواهر وهو خبر إسحاق بن عمار لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني
وفى ما صنع في ارض الاسلام قلت فان كان فيها غير أهل الاسلام قال عليه السلام إذا كان
الغالب عليها المسلمون فلا بأس (1) وتقريب الاستدلال به ان مفهومه انه إذا كان الغالب
عليها الكفار ففيه بأس، واستفادة هذا المفهوم اما ان تكون باستفادة المناط من تعليق
الحكم على الغلبة فان المناط في التذكية وجودا وعدما هي الغلبة، ففي الأول غلبة
المسلمين وفى الثاني غلبة الكفار إذ الظاهر أنه عليه السلام في مقام اعطاء الضابط من الطرفين لا

1 - الوسائل - باب 55 - من أبواب لباس المصلي حديث 3 وباب 50 - من أبواب
النجاسات حديث 5.
278

اعطائه من طرف التذكية خاصة، أو لكونه من مفهوم الوصف، وعليه فحيث ان ظاهر
الاسناد الاسناد إلى ما هو له وفى الخبر أسند ثبوت البأس إلى غلبة الكفار فيستكشف من
ذلك أن غلبة الكفار امارة عدم التذكية والا كان ثبوت البأس للأصل لا لغلبة الكفار.
وفيه: ان مفهوم قوله إذا كان الغالب الخ إذا لم يكن الغالب المسلمون ففيه بأس لا
إذا كان الغالب عليها الكفار، وكونه في مقام اعطاء الضابط من الطرفين، كما يلائم مع كون
الحكم بعدم التذكية لامارية غلبة الكفار، يلائم مع كونه لعدم غلبة المسلمين، والوصف
لا مفهوم له كما حقق في محله، واستناد ثبوت البأس إلى عدم غلبة المسلمين مع عدم
امارية يد الكافر من قبيل اسناد الشئ إلى ما هو له، فإنه من استناد الشئ إلى عدم مانعه
كما لا يخفى فتدبر فإنه دقيق.
الثالث: خبر إسماعيل بن عيسى المتقدم عن جلود الفراء يسئل عن ذكوته إذا كان
البايع مسلما غير عارف قال عليه السلام عليكم ان تسئلوا إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك
وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسئلوا عنه (1).
وقد استدل به بوجوه، منها انه يدل على لزوم السؤال إذا كان البايع مشركا ولولا
امارية يده على عدم التذكية لم يكن له وجه.
وفيه: انه ذكر هذا الوجه وجها لدلالة الخبر على عدم امارية يد الكافر، بدعوى انه
لو كان يد الكافر امارة لعدم التذكية لما كان وجه للسؤال، إذ مع وجود الامارة يجب
الاجتناب من دون الفحص.
ولكن الانصاف انه لا يصلح وجها لشئ منهما: إذ السؤال انما هو لترتيب آثار
التذكية، فالمعنى والله العالم، انه مع كون البايع مشركا محكوم بعدم التذكية، فلو أريد
ترتيب آثار التذكية لابد من السؤال والفحص، وليس المراد هو لزوم الفحص لترتيب
آثار عدم التذكية فإنه على القولين لا يجب الفحص لترتيب تلك الآثار اما على الأول
فلأمارية يد الكافر، واما على الثاني فلأصالة عدم التذكية التي لا يجب في اجرائها

1 - الوسائل - باب 50 - من أبواب النجاسات - حديث 7.
279

الفحص، والحكم بعدم التذكية يلائم مع الا مارية وعدمها.
ومنها: ان الخبر متكفل لامارية يد المسلم في قبال يد المشرك ومقتضى المقابلة
امارية يد المشرك.
وفيه: ان مقتضى المقابلة عدم ثبوت ما ثبت ليد المسلم، ليد المشرك لا ثبوت شئ
آخر لها.
ومنها: انه في الخبر رتب وجوب الاجتناب المستفاد من الامر بالسؤال على كون
الشئ بيد المشرك، وظاهر الاسناد كون الموجب هو يد المشرك لا عدم يد المسلم،
والا لزم الاسناد إلى غير ما هو له وهي لا تكون موجبة الا مع الا مارية، والا يكون
الموجب هي أصالة عدم التذكية لا يد المشرك.
وفيه: ان المسند إذا كان هي الكاشفية والمرآتية كان لهذا الاستظهار مجال، ولكن
بما انه هو الحكم بعدم تذكية ما في يد المشرك، وعلى القولين لا تكون اليد موجبة له، بل
على الا مارية كاشفة عن عدم التذكية، وعلى عدمها يكون الأصل مقتضيا لذلك إذا كان
في يده فلا يتم ذلك وان شئت قلت، انه على القولين يكون الاسناد اسنادا عليه إلى غير ما هو
له، فلا يمكن الاستدلال به، فتدبر فإنه دقيق، فالأظهر عدم امارية يد الكافر لعدم التذكية،
وانما يحكم به، لأصالة عدم التذكية.
حكم ما في يد المسلم المستحل للميتة
المبحث الثالث: هل يختص الحكم بتذكية ما في يد المسلم بما في يد غير
المستحل للميتة كما عن التذكرة والمنتهى والنهاية، أم يعم ما في يد المستحل لها إذا أخبر
بالتذكية كما عن الذكرى والبيان، أم يعمه مطلقا كما لعله المشهور بين الأصحاب وجوه،
والأقوى هو الأخير وذلك: لان ملاك الطريقية وهي غلبة كون ما في أيدي المسلمين
مذكى بالذبح موجود فيه والأدلة في مقام الاثبات مطلقة لا مقيد لها.
واستدل للأول بوجوه الأول: عدم حصول الظن بتذكية ما في يد المستحل للميتة
280

وفيه: انه لا يعتبر الظن الفعلي في حجية الامارات فمع فرض شمول المطلقات
لا احتياج إلى حصوله ومع عدمه لا يفيد حصول الظن.
الثاني: خبر أبي بصير قال سئلت أبا عبد الله عليه السلام عن الصلاة في الفراء فقال عليه السلام
كان على بن الحسين عليه السلام رجلا صردا لا يدفئه فراء الحجاز لان دباغها بالقرظ فكان
يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه فإذا حضرت الصلاة ألقاه والقى القميص
الذي تحته وكان يسئل عن ذلك فيقول ان أهل العراق يستحلون لباس الجلود الميتة
ويزعمون ان دباغه ذكاته (1) إذ نزعه للصلاة دليل عدم المعاملة معه معاملة المذكى، وقد
استند في ذلك إلى استحلال أهل العراق للميتة.
وأورد عليه: بان لبسه في غير حال الصلاة دليل المعاملة معه معاملة المذكى إذ
المعروف عدم جواز الانتفاع مطلقا بالميتة فلابد من الالتزام بأحد أمرين، اما جواز
الانتفاع بالميتة في غير الصلاة، أو حمل نزعه على التنزه، ولو لم يكن الثاني متعينا لا محالة
يكون محتملا فلا يصح الاستدلال به على هذا القول - وبالجملة - بما ان المسؤول عنه
حكم الصلاة في الفراء فجوابه عليه السلام بحكاية فعل المعصوم عليه السلام كما يمكن ان يكون
المراد منه المنع يمكن ان يكون هو الاحتياط الاستحبابي اللائق منه عليه السلام بمثل الصلاة.
الثالث: خبر ابن الحجاج قلت لأبي عبد الله عليه السلام انى ادخل السوق أعني هذا
الخلق الذين يدعون الاسلام فاشترى منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها أليس هي ذكية
فيقول بلى فهل يصلح لي ان أبيعها على انها ذكية فقال عليه السلام لا ولكن لا بأس ان تبيعها
وتقول قد شرط لي الذي اشتريتها منه انها ذكية قلت ما أفسد ذلك قال استحلال أهل العراق
للميتة (2) فان تعليل المنع عن بيعها على انها ذكية باستحلال الميتة دليل عدم امارية يد
المستحل لها.
وفيه: ان الظاهر منه المنع عن الشهادة لاعن المعاملة معه معاملة المذكى.
واستدل للقول الثاني بخبر محمد بن الحسين الأشعري كتب بعض أصحابنا إلى أبى

1 - الوسائل - باب 61 - من أبواب لباس المصلي - حديث 2.
2 - الوسائل - باب 61 - من أبواب النجاسات - حديث 4.
281

جعفر الثاني ما تقول في الفرو يشترى من السوق فقال عليه السلام إذا كان مضمونا فلا بأس (1)
بدعوى ان المراد من ضمانه اخبار البايع بتذكيته.
وفيه: انه لابد من حمله على الاستحباب أو على عدم كون البايع مسلما لوجهين.
الأول: عدم اختصاصه بالمستحل. الثاني: دلالة قوله عليه السلام في صحيح البزنطي (ليس
عليكم المسألة) (2) على عدم الوجوب.
فتحصل ان الأظهر هو القول الأخير لاطلاق الأدلة.
ويمكن ان يستدل للتعميم بنصوص سوق المسلمين من جهة ان مورد أغلبها سوق
المستحلين للميتة كما لا يخفى فتدبر.
اخبار ذي اليد
الموضع الثالث: في أنه هل يقبل قول ذي اليد واخباره بطهارة ما في يده أو نجاسته
ونحوهما أم لا؟ المشهور بين الأصحاب انه يقبل، وعن الحدائق ان ظاهر الأصحاب
الاتفاق عليه.
ويشهد له السيرة القطعية المستمرة، والنصوص الواردة في الموارد المتفرقة
المستفاد منها هذه الكلية، بل يستفاد منها ان حجيته كانت أمرا مفروغا عنه عند المسلمين
ومسلما عندهم.
منها: صحيح معاوية بن عمار قلت فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه انه
يشرب على الثلث ولا يستحله على النصف يخبر ان عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه
وبقى ثلثه يشرب منه قال (ع) نعم (3) وصريحه عدم اعتبار الايمان وحيث إن التفكيك بينه
وبين الاسلام بعيد فهو أيضا لا يعتبر.

1 - الوسائل - باب 50 - من أبواب النجاسات - حديث 10.
2 - المصدر المتقدم.
3 - الوسائل - باب 7 - من أبواب الأشربة المحرمة - حديث 2.
282

ومنها: النصوص (1) الواردة في اخبار البايع بالكيل والوزن الدالة على جواز الاعتماد
عليه المعمول بها بين الأصحاب.
ومنها: الروايات (2) الواردة في، القصارين، والجزازين، والجارية المأمورة بتطهير
ثوب سيدها، وان الحجام مؤتمن في تطهير موضع الحجامة.
ومنها: المتفيضة (3) الواردة في أن من أقر بعين في يده لغيره فهي له، وليس ذلك الا
لحجية قوله، لامن باب حجية الاقرار لأنها تختص بما إذا كان على نفسه فلا يثبت به ملكية
غيره.
ومنها: ما في بعض (4) اخبار الجبن من نهيه (ع) خادمه عند شرائه جبنا عن السؤال إذ
لولا قبول اخباره لما كان وجه للنهي.
ومنها: غير ذلك مما ورد في الأبواب المتفرقة، والانصاف ان التتبع في أبواب
الفقه يوجب القطع بحجية قول ذي اليد مطلقا فما عن بعض التشكيك فيه في غير محله.
تمت الرسالة في اليوم السادس والعشرين من شهر صفر سنة 1377
هجرية على مهاجرها أفضل الصلاة والسلام بقلم مؤلفها العبد الفاني
محمد صادق الحسين الروحاني عفى عنه والحمد لله
أولا وآخرا والصلاة على نبيه محمد (ص)
وآله باطنا وظاهرا

1 - الوسائل - باب 5 - من أبواب عقد البيع وشروطه.
2 - الوسائل - باب 29 - من أبواب كتاب الإجارة - وباب 56 - من أبواب النجاسات.
3 - الوسائل - باب 1 و 2 و 5 - من أبواب كتاب الاقرار.
4 - الوسائل - باب 61 - من أبواب الأطعمة المباحة - حديث 4.
283

[...] الكلام حول دليل مشروعية القرعة
من القواعد التي ينبغي البحث فيها في المقام، قاعدة القرعة، وقد استند الأصحاب إليها في كثير من المسائل الفقهية.
وقد دلت عليها الآيات والنصوص الكثيرة البالغة حد التواتر.
ومع ذلك اشتهر في ألسنة متأخري المتأخرين، انه قد وردت عليها تخصيصات
كثيرة قد بلغت حدا لا يصح التمسك باطلاق وعموم تلك الأدلة، ولذلك التزموا بأنها
كانت محفوفة بقرائن لم تصل إلينا، وهذا موجب لسقوط تلك العمومات والاطلاقات
عن الحجية، وانه في كل مسألة ورد النص الخاص لأعمال القرعة فيها فهو المتبع، وفى
غيرها لا يرجع إليها.
فلا بد من ذكر أدلتها، وبيان ما يستفاد منها، ومن يشرع له القرعة، ومحل اجرائها
والنسبة بينها وبين دليل الاستصحاب.
فأقول مستعينا بالله تعالى انه لا اشكال في بناء العقلاء على العمل بالقرعة عند
تزاحم الحقوق مع عدم الترجيح، فتكون من طرق فصل الخصومة، كما يشهد به ملاحظة
الاخبار المتضمنة لقضايا سوهم فيها، لا حظ.
ما دل على أن أحبار بيت المقدس ساهموا لتكفل مريم (1) وقد أخبر الله تعالى عن

1 - الوسائل - باب 13 - من أبواب كيفية الحكم كتاب القضاء - حديث 12.
285

ذلك إذ قال تعالى (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ
يختصمون) (1).
وما دل على مساهمة أصحاب السفينة التي فيها يونس على نبينا وآله وعليه السلام،
وطرحه بعد ما ساهموا فاصابته القرعة في البحر (2).
وما دل على مقارعة بنى يعقوب ليخرج واحد ويحسبه يوسف عنده.
وما دل على مساهمته (ص) بين نسائه (3).
وما دل على مقارعة عبد المطلب بين عبد الله والإبل، فإنه نذران يذبح أول ما يولد
له فولد له عبد الله وكان يحبه كثيرا فاقرع بينه وبين مائه إبل فأصابتها القرعة (4).
وما دل على مساهمة رسول الله (ص) قريشا في بناء البيت (5) وغير ذلك من القضايا
الظاهرة في أن المساهمة كانت أمرا عقلائيا عليه بناء العقلاء، والظاهر أن المقارعات
المتداولة في هذا العصر من هذا القبيل.
ويشهد لمشروعيتها وامضاء ما عليه بناء العقلاء الآيتان الكريمتان قال تعالى في
أحوال يونس (فساهم فكان من المدحضين) (6) أي فقارع فصار من المعلومين بالقرعة وقال
عز وجل (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم، أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ
يختصمون) (7).
وهاتان الآيتان تدلان على أن القرعة كانت مشروعة في الشرايع السابقة، وقد ثبت
ان ما ثبت في الشرايع السابقة ثابت في هذه الشريعة ما لم ينسخ سيما ما ينقله القرآن.
وقد استفاد الأصحاب في كثير من الفروع مشروعية ما ثبت في الشرايع السابقة في

1 - آل عمران آية 44.
2 - الوسائل - باب 13 - من أبواب كيفية الحكم حديث 12.
3 - المستدرك - باب 11 - من أبواب كيفية الحكم حديث 13.
4 - المستدرك - باب 11 - من أبواب كيفية الحكم حديث 2.
5 - المستدرك - باب 11 - من أبواب كيفية الحكم - حديث 10.
6 - الصافات آية 141.
7 - آل عمران آية 44.
286

هذه الشريعة، لا حظ، استفادة وجوب الاخلاص في الجواب من قوله تعالى (وما أمروا الا
ليعبدوا الله مخلصين له الدين) (1)، واستفادة جواز الجهالة في الجعالة، وجواز ضمان ما لم
يحب من قوله تعالى حكاية عن مؤذن يوسف (ولمن جاء به حمل بعير) (2)، واستفادة جواز
بر اليمين على ضرب المستحق مائة بالضرب بالضغث من قوله تعالى (وخذ بيدك ضغثا
فاضرب به ولا تحنث) (3) واستفادة جواز اجراء الحد على المريض الزاني بضغث فيه مائة
سوط دفعة بل رسول الله (ص) استدل بهذه الآية الشريفة لهذا الحكم، واستفادة حكم من
جعل عمله صداق المرأة من قوله تعالى حكاية عن شعيب (انى أريد ان أنكحك إحدى
ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) (4) إلى غير ذلك من الروايات وقد احتج
الإمام (ع) بالآية الأولى على شرعية القرعة كما يأتي.
وهم ودفع
قد يتوهم منافاة ذلك لقوله تعالى (وان تستقسموا بالأزلام) (5) وانه يدل على أن
القرعة غير مشروعة، فيكون رادعا عن بناء العقلاء وناسخا لمشروعيتها الثابتة في الشرايع
السابقة.
كما أنه ربما يتوهم ان الآية الكريمة تدل على عدم مشروعية الاستخارة، توضيح
ذلك أنه قد حكى الطبري في تفسيره، والزمخشري في الكشاف، وجماعة من المفسرين
ان العرب في الجاهلية كانوا يستقسمون بالأزلام، أي يطلبون معرفة ما قسم لهم دون ما لم
يقسم بالأزلام، وانهم إذا أرادوا سفرا أو أمرا آخر، يهتمون به ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب
على أحدها امرني ربى وعلى الآخر نهاني ربى والثالث غفل لا كتابة عليه، فان خرج الامر

1 - البينة آية 5.
2 - يوسف آية 72.
3 - ص آية 44.
4 - القصص آية 27.
5 - المائدة آية 3.
287

مضوا على ذلك، وان خرج النهى تجنبوا عنه، وان خرج الغفل أحالوها ثانيا، وقد نهاهم
الله تعالى عن هذا العمل لان الأزلام جمع الزلم وهو السهم لا ريش عليه، وبعده هذه
الجملة قال الله تعالى ذلكم فسق، وهو اما مخصوص بهذه الجملة أو يشملها في ضمن
الجميع، وهذا العمل ينطبق على الاستخارة، وعلى القرعة.
ولكن هذا الاحتمال في تفسير الآية الكريمة باطل لوجهين، أحدهما: انه من معاني
الاستقسام بالأزلام قسمة اللحم بالمقامرة.
قال في مجمع البيان وروى على بن إبراهيم عن الصادقين عليهما السلام ان الأزلام عشرة
إلى قوله وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزونه اجزاء ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام
ويدفعونها إلى الرجل وثمن الجزور على من يخرج له التي لا انصباء لها وهو القمار
فحرمه الله عز وجل، وقيل هي كعاب فارس والروم التي كانوا يتقامرون بها، وقيل هو
الشطرنج، وحيث إن الآية الشريفة في مقام بيان كيفية اكل اللحوم في الجاهلية وتمييز ما
هو حلال منها، وما هو حرام أي المذكى وغير المذكى لأنه تعالى قال (حرمت عليكم
الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة، والمتردية والنطيحة
وما اكل السبع الا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وان تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق) فلا
شك حينئذ بعد هذا السياق الواضح والقرائن المتوالية في أن المراد استقسام اللحم قمارا.
ولنعم ما أفاد بعض المفسرين قال نظير ذلك أن العمرة مصدر بمعنى العمارة، ولها
معنى آخر وهو زيارة البيت الحرام فإذا أضيف إلى البيت صح كل من المعنيين، لكن
لا يحتمل في قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) (1) الا المعنى الأول والأمثلة في ذلك
كثير انتهى.
ثانيهما: انه على تقدير كون معنى الجملة استعلام الخير والشر في الأمور، فالمراد به
ما حكاه الطبري في تفسيره في الجزء السادس عن ابن إسحاق قال كانت هبل أعظم أصنام
قريش بمكة وكانت على بئر في جوف الكعبة وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما

1 - البقرة آية 119.
288

يهدى للكعبة وكانت عند هبل سبعة أقداح كل قدح فيه كتاب قدح فيه (الغفل) إذا اختلفوا
في الغفل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة قدح فيه (نعم) للامر إذا أرادوه يضرب به
فان خرج قدح نعم عملوا به وقدح فيه (لا) فإذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح فإذا خرج
ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الامر وقدح فيه (منكم) وقدح فيه (ملصق) وقدح فيه (من
غيركم) وقدح فيه (المياه) إذا أرادوا ان يحفروا للماء ضربوا بالقداح، وفيها ذلك القدح
فحيثما خرج عملوا به، وكانوا إذا أرادوا، ان يجتنبوا غلاما، أو ان ينكحوا منكحا أو ان
يدفنوا ميتا، أو يشكوا في نسب واحد منهم ذهبوا إلى هبل بمأة درهم ويجزرون فأعطوها
صاحب القداح الذي يضربها ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا يا
الهنا هذا فلان بن فلان أردنا به كذا وكذا فاخرج الحق فيه ثم يقولون لصاحب القداح
اضرب، فيضرب فان خرج عليه (من غيركم) كان حليفا وان خرج (ملصق) كان على منزلته
منهم لا نسب له ولا حلف وان خرج شئ سوى هذا مما يعملون به (نعم) عملوا به وان
خرج (لا) اخروه عامهم ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى يلتهون في أمورهم إلى ذلك مما
خرجت به القداح انتهى.
وعلى هذا فلو كان المنهى عنه ذلك كان نهيا عن ايكال الامر إلى هبل، وطلب
الخير منه الذي هو شرك محض، وأين هذا من القرعة والاستخارة التين هما: ايكال الامر
وتفويضه إلى الله تعالى، وهل هذا الا قياس التوحيد، وعبادة الله تعالى، وتفويض الأمور
إليه، بعبادة الأوثان.
ولعله إلى هذا يشير ما في جملة من الروايات الآتية بعد الحكم بالقرعة أليس هي
التفويض إلى الله تعالى، أو ما من قوم فوضوا أمرهم إلى الله تعالى وألقوا سهامهم الا خرج
السهم الأصوب وما قاب هذه المضامين.
ومن الغريب ما نسبه بعض المعاصرين إلى المقدس الأردبيلي من قوله في تفسير
الآية وعلى هذا يفهم منه تحريم الاستخارة المشهورة التي قال الأكثر بجوازها، بل
باستحبابها، ويدل عليه الروايات إلى آخر ما قال ثم يعلق عليه، وهذا الكلام من مثله
عجيب فسبحان من لا يخطئ، ولكنه يا ليت كان ينقل ما ذكره المقدس الأردبيلي (ره) بعد
289

هذا الكلام، قال فهو دليل بطلان الأول: (أي كون النهى عن استعلام الخير والشر)، أولا
يكون سبب التحريم ما ذكره، بل مجرد النص المخصوص بذلك الفعل الخاص والوجه
الخاص، أو يكون الاستخارة خارجة عنه بالنص.
واما الاجماع فعن الشيخ في مسألة تعارض البينتين، اجماع الفرقة على أن القرعة
تستعمل في كل امر مجهول مشتبه، وفى مسألة تداعى الرجلين في ولد، ان القرعة مذهبنا
في كل امر مجهول، وفى الوسائل دعوى الاجماع عليه. و
في قواعد الشهيد ثبت عندنا قولهم عليهم السلام كل امر مجهول فيه القرعة.
وعن السرائر في باب تعارض البينات واجماعهم على أن كل امر مشكل فيه
القرعة، وقال أيضا في ذلك الباب وأجمعت عليه الشيعة الإمامية.
ولا أظن على من تتبع كلمات الفقهاء في المسائل المختلفة ان يشك في كون
العمل بالقرعة في الجملة اجماعي، وقد عمل الأصحاب باتفاق أو خلاف في موارد
كثيرة، واليك طرف منها، تشاح أئمة الجماعة مع عدم المرجح، قصور المال عن
الحجتين الاسلامية، والنذرية، واختلاط الموتى في الجهاد، وفى التزاحم، على مباح أو
مشترك كمعدن، أو رباط مع عدم قبوله القسمة، وفى صورة تساوى بينتي الخارجتين،
وفى تنازع صاحب العلو والسفل في السقف المتوسط، وفى الخزانة التي تحت الدرج،
وفى بينتي المتزارعين إذا تعارضتا في المدة والحصة، وفى الوصية بالمشترك اللفظي،
وفى الوصية بما لا يسعه الثلث مع العلم بالترتيب والشك في السابق أو مع الشك في
السبق والاقتران، وفى ابتداء قسمة الزوجات، وفى حق الحضانة وفى اخراج المطلقة
مطلقا، أو إذا مات ولم يعين، وفى اخراج مقدار الثلث مع تعدد المدبر، وفى ميراث الخنثى
على قول ومن ليس له فرج على الأشهر، وفيما لو اشتبه الولد في كونه لعبد أو حر أو
مشرك، وفى اشتباه الغنم الموطوئة، وفى من أوصى بعتق ثلث مماليكه، وفى تعدد
السيف والمصحف في الحبوة، وفى ميراث الخامسة مع المشتبهة بالمطلقة، وفى تساوى
البنيتين في اللقطة إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة مما لا يبقى لاحد الشك في أن
مشروعية القرعة في الجملة متفق عليها حتى في الموارد التي لم يرد فيها نص خاص.
290

وعلى هذا فلا وجه لما عن جمع من محققي متأخري المتأخرين تبعا
للشيخ الأعظم (ره) من ترك التعرض لما يستفاد من الأدلة نظرا إلى عدم عمل الأصحاب بها.
الأخبار الدالة على مشروعية القرعة
واما السنة فهي كثيرة، وهي على طائفتين، الأولى: النصوص المطلقة. الثانية: ما ورد
في الموارد الخاصة، فمن الأولى.
ما رواه الشيخ في التهذيب بسند معتبر والصدوق بطريقين صحيحين عن محمد بن
حكيم (حكم) قال سألت أبا الحسن (ع) عن شئ فقال (ع) لي كل مجهول ففيه القرعة قلت
له ان القرعة تخطئ وتصيب قال (ع) كل ما حكم الله به فليس بمخطئ (1) وقال الشيخ في
النهاية روى عن أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) وعن غيره من آبائه وأبنائه (ع) من قولهم
كل مجهول ففيه القرعة فقلت له ان القرعة تخطئ وتصيب فقال (ع) كل ما حكم الله به
فليس بمخطئ (2) وقد مر كلام الشهيد (ره) ثبت عندنا قولهم كل مجهول فيه القرعة وعلى
هذا فلا شبهة في أن الخبر معتبر سندا.
قال في العوائد هذا الحديث يحتمل معنيين، أحدهما، ان حكم الله لا يخطئ في
القرعة ابدا، والثاني. ان ما خرج بالقرعة فهو حكم الله وان أخطأ القرعة فان الحكم ليس
بخطاء انتهى، وكيف كان فسيأتي الكلام في دلالة الخبر مفصلا.
ومنها: ما أرسله المقداد قال نقل عن أهل البيت عليهم السلام كل امر مشكل فيه
القرعة (3) وتلقاه الأصحاب بالقبول ويذكرونه مستندا إليه في الكتب الاستدلالية وضعفه
سندا منجبر بالعمل، والاستناد.
وعن السرائر، واجماعهم على أن كل امر مشكل فيه القرعة، وقال أيضا في باب

1 - الوسائل - باب 13 - من أبواب كيفية الحكم حديث 11 - كتاب القضاء.
2 - الوسائل - باب 13 - من أبواب كيفية الحكم - حديث 18.
3 - كنز العرفان ج 2 ص 27.
291

سماع البينات، وكل امر مشكل مشتبه الحكم، فينبغي ان يستعمل فيه القرعة، لما روى عن
الأئمة عليهم السلام، وتواترت به الآثار، وأجمعت عليه الشيعة الإمامية.
ويؤيده ما عن دعائم الاسلام، عن أمير المؤمنين، وأبي جعفر، وأبى عبد الله عليهم
السلام، انه أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل (1) وما عن عناوين الأصول ص 121 انه
المنقول عن العامة، فلا ينبغي التوقف في صدور هذه الجملة عن المعصوم (ع).
ومنها: صحيح أبي بصير عن الإمام الباقر (ع) بعث رسول الله (ص) عليا (ع) إلى اليمن
فقال له حين قدم حدثني بأعجب ما ورد عليك فقال يا رسول الله أتاني قوم قد تبايعوا
جارية فوطأها جميعهم في طهر واحد فولدت غلاما فاحتجوا فيه كلهم يدعيه فأسهمت
بينهم فجعلته للذي خرج سهمه وضمنته نصيبهم فقال رسول الله (ص) ليس من قوم تقارعوا
ثم فوضوا أمرهم إلى الله الا خرج سهم المحق (2) ونحوه صحيح عاصم بن حميد عن بعض
أصحابنا عن الإمام الباقر (ع) الا انه قال ليس من قوم تنازعوا (3).
ومنها: ما عن دعائم الاسلام قال أبو عبد الله (ع) وأي حكم في الملتبس أثبت من
القرعة أليس هو التفويض إلى الله جل ذكره ثم قال في الدعائم وذكر أبو عبد الله (ع) قصة
يونس... وقصة ذكريا... وذكر قصة عبد المطلب... إلى أن قال وحكى أبو عبد الله هذه
القصص في كلام طويل (4).
ومنها: ما عن الفقيه قال الصادق (ع) ما تنازع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله عز وجل
الا خرج سهم المحق وقال أي قضية اعدل من القرعة إذا فوض الامر إلى الله أليس الله
يقول (فساهم فكان من المدحضين (5)) وهذا الخبر وان كان مرسلا لكنه من جهة ان
الصدوق ينسبه إلى الامام جزما فمن قسم المرسل الحجة، ونحوه ما عن فقه الرضا (6).

1 - مستدرك الوسائل ج 3 ص 200 حديث 1.
2 - وسائل الشيعة باب 13 - من أبواب كيفية الحكم - حديث 6 - كتاب القضاء.
3 - نفس المصدر حديث 5.
4 - المستدرك ج 3 ص 200 حديث 2.
5 - الوسائل - باب 13 - من أبواب كيفية الحكم - حديث 13 - كتاب القضاء.
6 - مستدرك الوسائل ج 3 ص 200 حديث 4.
292

ومنها: صحيح منصور بن حازم سأل بعض أصحابنا أبا عبد الله (ع) عن مسألة فقال
هذه تخرج في القرعة ثم قال فأي قضية اعدل من القرعة إذا فوضوا أمرهم إلى الله عز وجل
أليس الله تعالى يقول (فساهم فكان من المدحضين) (1) ولا يتوهم كونه مرسلا فان منصور
ينقل بنفسه جواب الإمام (ع).
ومنها: ما رواه المفيد (ره) باسناده عن عبد الرحيم قال سمعت أبا جعفر (ع) يقول إن
عليا (ع) كان إذا ورد عليه امر لم يجئ فيه كتاب ولم تجر فيه سنة رجم فيه يعنى ساهم
فأصاب ثم قال يا عبد الرحيم وتلك من المعضلات (2).
ومنها: صحيح جميل قال الطيار لزرارة ما تقول في المساهمة أليس حقا فقال
زرارة بلى هي حق فقال الطيار أليس قد ورد انه يخرج سهم المحق قال بلى فقال فتعال
حتى ادعى انا وأنت شيئا ثم نساهم عليه وننظر هكذا هو فقال له زرارة انما جاء الحديث
بأنه ليس من قوم فوضوا أمرهم إلى الله ثم اقترعوا الا خرج سهم المحق فاما على التجارب
فلم يوضع على التجارب فقال الطيار أرأيت ان كانا جميعا مدعيين ادعيا ما ليس لهما من
أين يخرج سهم أحدهما فقال زرارة إذا كان كذلك جعل معه سهم مبيح فان كانا ادعيا ما
ليس لهما خرج سهم المبيح (3) وهذا الصحيح مضافا إلى أنه يظهر منه تسالمهم على
مشروعية القرعة متضمن لتصريح زرارة بورود الحديث بذلك إلى غير ذلك من
النصوص المطلقة، واما الروايات الواردة في الموارد الخاصة فكثيرة.
منها: ما ورد في تعارض البينتين كصحيح داود بن سرجان عن الإمام الصادق (ع) في
شاهدين شهدا على امر واحد وجاء آخران فشهدا على غير الذي شهدا عليه (شهد الأولان)
واختلفوا قال (ع) يقرع بينهم فأيهم قرع عليه اليمين وهو أولى بالقضاء (4) ورواه البصري
بسند صحيح، ونحوه صحيح الحلبي (5).

1 - الوسائل باب 13 من أبواب كيفية الحكم حديث 17.
2 - المستدرك ج 3 ص 200 حديث 14.
3 - الوسائل باب 13 من أبواب كيفية الحكم - حديث 4.
4 - الوسائل - باب 12 من أبواب كيفية الحكم - حديث 6 كتاب القضاء.
5 - الوسائل - باب 12 من أبواب كيفية الحكم حديث 11.
293

ومنها: ما ورد فيما لو اشتبه الولد في كونه لعبد أو حر أو مشرك ففي صحيح
الحلبي عن الإمام الصادق (ع) إذا وقع الحر والعبد والمشرك على امرأة في طهر واحد
وادعوا الولد أقرع بينهم وكان الولد للذي يقرع (1).
ومنها: ما ورد في اشتباه الدابة ففي موثق سماعة عن الإمام الصادق (ع) ان رجلين
اختصما إلى علي (ع) في دابة فزعم كل واحد منهما انها نتجت على مذوده (معتلف
الدواب) وأقام كل واحد منهما بينة سواء في العدد فاقرع بينهما سهمين فعلم السهمين كل
واحد منهما بعلامة إلى أن قال فأسألك ان يقرع ويخرج سهمه فخرج سهم أحدهما
فقضى له بها (2) ونحوه غيره.
ومنها: ما ورد في البينة على الزوجية ففي خبر داود بن أبي زياد العطار عن بعض
رجاله عن أبي عبد الله (ع) في رجل كانت له امرأة فجاء رجل بشهود ان هذه المرأة امرأة
فلان وجاء آخران فشهدا انها امرأة فلان فاعتدل الشهود وعدلوا فقال يقرع بينهم فمن
خرج سهمه فهو المحق وهو أولى بها (3).
ومنها: ما ورد في الوديعة ففي خبر زرارة عن الإمام الباقر (ع) قال قلت له رجل شهد
له رجلان بان له عند رجل خمسين درهما وجاء آخران فشهدا بان له عنده مائة درهم
كلهم شهدوا في موقف قال أقرع بينهم ثم استحلف الذين أصابهم القرع بالله انهم يحلفون
بالحق (4).
ومنها: ما ورد في قضية الشاب الذي ذهب أبوه مع جمع إلى سفر ولم يرجع ففي
خبر أبي بصير عن الإمام الباقر (ع) في حديث ان شابا قال لأمير المؤمنين (ع) ان هؤلاء النفر
خرجوا بابي معهم في السفر فرجعوا ولم يرجع أبى فسألتهم عنه فقالوا مات فسألتهم عن
ماله فقالوا ما ترك مالا فقدمتهم إلى شريح فاستحلفهم وقد علمت أن أبى خرج ومعه مال

1 - الوسائل - باب 13 من أبواب كيفية الحكم حديث 1.
2 - الوسائل - باب 12 كيفية الحكم حديث 12.
3 - الوسائل - باب 12 من أبواب كيفية الحكم حديث 8.
4 - الوسائل - باب 12 من أبواب كيفية الحكم حديث 7.
294

كثير فقال أمير المؤمنين (ع) والله لأحكمن بينهم بحكم ما حكم به خلق قبلي الا داود
النبي (ع) إلى أن قال ثم إن الفتى والقوم اختلفوا في مال أبى الفتى كم كان فاخذ علي (ع)
خاتمه وجمع خواتيم من عنده قال أجيلوا هذه السهام فأيكم اخرج خاتمي فهو صادق في
دعواه لأنه سهم الله عز وجل وهو لا يخيب (1) ونحوه في ذلك خبر الأصبغ بن نباتة عن
أمير المؤمنين (ع) (2).
ومنها: ما ورد في من أوصى بعتق ثلث مماليكه ففي خبر محمد بن مروان عن
الإمام موسى ابن جعفر (ع) عن أبيه (ع) ان أبا جعفر مات وترك ستين مملوكا فأعتق ثلثهم
فأقرعت بينهم وأعتقت الثلث (3) ورواه ابان.
ومنها: ما ورد في الوصية بعتق ثلث العبيد، لا حظ صحيح محمد بن مسلم عن
الإمام الباقر (ع) عن الرجل يكون له المملوكون فيوصي بعتق ثلثهم فقال (ع) كان علي (ع)
يسهم بينهم (4).
ومنها: ما ورد في الخنثى المشكل، لا حظ خبر الفضيل بن يسار عن الإمام الصادق
(ع) عن مولود ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء قال (ع) يقرع عليه الامام أو المقرع
يكتب على سهم عبد الله وعلى سهم أمة الله إلى أن قال ثم تطرح السهام في سهام مبهمة ثم
تجال السهام على ما خرج ورث عليه (5) ونحوه غيره.
ومنها: ما ورد في المملوك يعتق ويشتبه بغيره، لا حظ خبر يونس في رجل كان له
عدة مماليك فقال أيكم علمني آية من كتاب الله فهو حر فعلمه واحد منهم ثم مات
المولى ولم يدر أيهم الذي علمه انه قال يستخرج بالقرعة (6).
ومنها: ما ورد في اشتباه الغنم الموطوئة ففي صحيح العبيدي عن الرجل (ع) انه سئل

1 - الوسائل - باب 20 من أبواب كيفية الحكم حديث 1. 2 - الوسائل - باب 20 من أبواب كيفية الحكم حديث 2.
3 - الوسائل باب 75 من كتاب الوصايا حديث 1.
4 - الوسائل - باب 65 من كتاب العتق حديث 1.
5 - الوسائل باب 4 من أبواب ميراث الخنثى حديث 2.
6 - الوسائل باب 34 من كتاب العتق حديث 1.
295

عن رجل نظر إلى راع نزى على شاة قال (ع) ان عرفها ذبحها وأحرقها وان لم يعرفها قسمها
نصفين ابدا حتى يقع السهم بها فتذبح وتحرق وقد نجت سايرها (1) ونحوه غيره.
ومنها: ما ورد في الوصية بعتق العبيد ففي الخبر ان رجلا من الأنصار أعتق ستة اعبد
في مرض موته ولا مال له غيرهم فلما رفعت القضية إلى رسول الله (ص) قسمهم بالتعديل و
أقرع بينهم واعتق اثنين بالقرعة (2).
ومنها: ما ورد في صبيين أحدهما حر والآخر مملوك واشتبه أحدهما بالآخر، مثل
ما رواه الشيخ بسنده عن حماد عن المختار قال دخل أبو حنيفة على أبى عبد الله (ع) فقال له
أبو عبد الله (ع) ما تقول في بيت سقط على قوم فبقى منهم صبيان أحدهما حر والآخر
مملوك لصاحبه فلم يعرف الحر من العبد فقال أبو حنيفة يعتق نصف هذا ونصف هذا
فقال أبو عبد الله (ع) ليس كذلك ولكنه يقرع بينهما فمن اصابته القرعة فهو الحر ويعتق هذا
فيجعل مولى لهذا (3).
ومنها: غير ذلك في الموارد الكثيرة التي ورد فيها النص على القرعة وعمل به
الأصحاب. الكلام حول مقدار دلالة الأدلة
واما مقدار دلالة الأدلة وبيان ما يستفاد منها، فملخص القول فيه ان الشبهة، قد
تكون حكمية، وقد تكون موضوعية، وعلى كل تقدير، قد تكون بدوية، وقد تكون
مقرونة بالعلم الاجمالي، وعلى جميع التقادير، قد يكون المشتبه من حقوق الله، وقد
يكون من حقوق الناس، وعلى كل تقدير، قد يكون له واقع معين في عالم الثبوت كالولد
المردد بين الحر والمملوك، وقد لا واقع معين له في عالم الثبوت كما لو قال إحدى

1 - الوسائل باب 30 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث 1.
2 - عوائد النراقي عائدة 62.
3 - الوسائل - باب 13 من أبواب كيفية الحكم حديث 7.
296

زوجاتي طالق.
والمتيقن من بناء العقلاء هو اعمال القرعة في مورد تزاحم الحقوق والموارد التي
لا تكون الوظيفة الظاهرية والواقعية محرزة، كما أن القدر المتيقن من معقد الاجماع
ذلك، وكذلك موارد أكثر النصوص.
واما المطلقات: فقد يقال ان جملة منها ضعيفة السند، وطائفة منها قاصرة الدلالة،
والعمدة رواية محمد بن حكيم وما بمضمونها - وبعبارة أخرى - ما تضمن قولهم عليهم
السلام كل امر مجهول ففيه القرعة، وهي لا اطلاق لها والمتيقن منها مورد تزاحم
الحقوق، وذكر في وجه ذلك أمرين.
الأول: ان صدرها غير مذكور، إذ السؤال لم يكن بهذا العنوان، بل كان عن شئ
خاص لم يذكر، ولعله كان على نحو كان قرينة على صرف الجواب إلى مجهول خاص.
الثاني: ان كون القرعة عقلائية مرتكزة في ذهن العرف موجب لصرف كل
مجهول إلى المجهول في باب القضاء وتزاحم الحقوق، لا مطلقا خصوصا مع ورود تلك
الروايات الكثيرة في ذلك بخصوصه.
ثم انه قال هيهنا احتمال آخر قريب بعد الدقة في الأدلة وكلمات الأصحاب، وهو
ان المراد من، المجهول، والمشكل، والمشتبه المأخوذة في الأدلة كل امر مشكل في
مقام القضاء ومشتبه على القاضي، ومجهول فيه ميزان القضاء، فيرجع محصل المراد إلى أن
المرفوعة إلى القاضي إذا علم فيها ميزان القضاء أي كان لديه ما يشخص المدعى
والمنكر ككون أحدهما ذا اليد مثلا فليس الامر مجهولا عنده ولا القضاء مشتبها
ومشكلا، وأما إذا كان الامر الوارد عليه مجهولا بحسب ميزان القضاء لابد من التشبث
بالقرعة لتشخيص من عليه اليمين تمييز ميزان القضاء لا لتشخيص الواقع.
وفى كلامه مواقع للنظر الأول: ما افاده من أنه يمكن ان يكون السؤال على نحو
كان قرينة على صرف الجواب إلى مجهول خاص، فإنه يرد عليه ان الجواب لو كان
مصدرا بالألف واللام، كان ما افاده تاما من جهة احتمال كونهما للعهد، فيكون الجواب
مختصا بمورد السؤال غير المعلوم، كما في قوله أرواحنا فداه، اما الخمس فقد أبيح
297

لشيعتنا، فإنه وقع جوابا عن سؤال غير معلوم، فالجواب مختص به، واما الجواب الذي
لا يكون مصدرا بهما بل ذكر بعنوان كل خصوصا مع أداة العموم فالسؤال كان عن أي
شئ لا يصلح قرينة لصرف الجواب، إذ المورد لا يكون مخصصا - وبعبارة أخرى - ان
الصغرى والكبرى بينهما كمال الملائمة، فكيف يمكن ان تكون الصغرى قرينة على
صرف الكبرى عن ظاهرها.
الثاني: ما افاده من أن بناء العقلاء على اختصاصه بمورد خاص يصلح قرينة
لصرف العام عن عمومه، فإنه يرد عليه مضافا إلى أنه على فرض التنافي، دليل القرعة يكون
رادعا عنه، انه لا تنافى بينهما فان بناء العقلاء على اعمال القرعة في مورد خاص، ودليل
القرعة دال على أعمالها في موارد أكثر من ذلك المورد فلا تنافى بينهما كي يكون بناء
العقلاء قرينة لصرف العام عن عمومه.
الثالث: ما ذكره من الاحتمال أخيرا فإنه يرد عليه انه احتماله ينافيه ظهور عموم
قوله كل مجهول ففيه القرعة، وورود روايات اخر في اعمال القرعة في هذا المورد
لا يصلح قرينة لحمل العام عليه.
أضف إلى ذلك كله ما مر من روايات معتبرة اخر.
وللمحقق العراقي في المقام كلام، وحاصله، ان المأخوذ موضوعا لأدلة القرعة
أمور، المشكل، المجهول، المشتبه.
اما الأول: فظاهره الاختصاص بالمبهمات المحضة التي لا تعين لها في الواقع
ويستخرج بالقرعة ما هو الحق كما في باب القسمة وباب العتق لو أعتق أحد عبيده لا على
التعيين فلا يشمل كل مجهول، ثم قال إن أبيت عن ذلك فهو عبارة عما يصعب حاله وما
يتحير المكلف في مقام العمل فلا يشمل أيضا موارد الأصول الجارية في الشبهات لأنه
بجريانها لا صعوبة على المكلف ولا تحير له في مقام الوظيفة الفعلية.
واما العنوانان الآخران الراجعان إلى مفاد واحد، فهو لا يشمل الشبهات البدوية
الموضوعية والشبهات الحكمية مطلقا، بل يختص بالشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم
الاجمالي: وذلك لظهور عنوان المشتبه في قوله (ع) القرعة لك امر مشتبه، في كونه وصفا
298

للشئ المعنون من جهة تردده بين الشيئين أو الأشياء، لا وصفا لحكمه، ولا لعنوانه ليكون
من قبيل الوصف بحال المتعلق، فالشبهات الحكمية حيث تكون الشبهة فيها في حكم
الشئ لا في ذات الشئ خارجة عن مورد جريانها، كما أن الشبهات الموضوعية البدوية
من جهة ان الشبهة فيها في انطباق عنوان ما هو موضوع الحكم كالخمر ونحوها على
الموجود الخارجي لا فيما انطبق عليه عنوان الموضوع فارغا عن الانطباق في الخارج
بكونه هذا أو ذاك تكون خارجة عن موردها، فتختص موردها بالشبهة الموضوعية
المقرونة بالعلم الاجمالي.
ثم إن الموضوع المشتبه في تلك الموارد، تارة يكون متعلقا لحق الله سبحانه،
وأخرى يكون متعلقا لحق الناس، اما الأول فمن جهة العلم الاجمالي بالتكليف الملزم
واقتضائه بحكم العقل الجزمي بلزوم الفراغ إذ الوظيفة، هو الاحتياط في جميع
المحتملات، مع الامكان لا تصل النوبة إلى القرعة، لأنها لا توجب انحلال العلم الاجمالي
لتأخرها عنه ولا تثبت بدلية ما اصابته القرعة عن المعلوم بالاجمال، وان كان متعلقا لحق
الناس فان أمكن فيه الاحتياط فلا مجرى للقرعة أيضا لما مر، والا فهو مورد القرعة،
والظاهر أن الأصحاب عاملين بالقرعة فيما كان من هذا القبيل مما يتعلق بالحقوق
والأموال.
وفى كلامه (قده) أيضا مواقع للنظر، الأول: في ما افاده من أن المشتبه والمجهول
ظاهران، في كونهما وصفين بحال ذات الشئ، فإنه يرد عليه ان الموصوف لم يذكر في
الحديث والمأخوذ في المشتق هو ما يساوق الشئ من المفاهيم العامة الصادقة على كل
شئ كان هو الموضوع، أو الحكم، ولذلك بنينا على شمول رفع مالا يعلمون للشبهات
الحكمية والموضوعية - وعليه - فكل شبهة مشمولة لعموم الحديث كل مجهول ففيه
القرعة.
الثاني: ما ذكره من عدم شموله للشبهة الموضوعية: فإنه يرد عليه انه لو سلم كون
الموضوع للمجهول ذات الموضوع فبما ان موضوعات الاحكام هي العناوين المنطبقة
على الذوات كعنوان الخمرية، وما شاكل، فلو كان العنوان مجهولا يكون مشمولا له، وفى
299

الشبهات الموضوعية البدوية يكون العنوان مجهولا.
الثالث: ما ذكره من أنه في الشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي يكون
العلم الاجمالي موجبا للاحتياط إذا كان المشتبه من حقوق الله تعالى.
فإنه يرد عليه: ان العلم الاجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية يكون
مقتضيا، لا علة تامة، فمع دليل القرعة المرخص في المخالفة الاحتمالية لا يصلح العلم
الاجمالي للمنع عنه.
مع، ان دليل القرعة مثبت لجعل البدل أي بدلية بعض الأطراف عن المعلوم
بالاجمال وفى مثل ذلك، لا توقف في انحلال العلم الاجمالي.
وقد أفاد المحقق النائيني (ره) في مفاد دليل القرعة ان المستفاد من قوله (ع) القرعة
لكل مشتبه أو مجهول، هو مورد اشتباه الموضوع بين الشيئين أو الأشياء فيقرع بينهما
لاخراج موضوع التكليف، ولا معنى للقرعة في الشبهات البدوية فإنه ليس فيها الا
الاحتمالين، والقرعة بين الاحتمالين خارج عن مورد التعبد بالقرعة: والوجه في استفادة
ذلك أن المتفاهم من عنوان القرعة هو ان يكون بين الموضوعات المتعددة لا بين
الاحتمالين في موضوع واحد.
ولا اشكال في أنه انما تجرى القرعة فيما إذا كان الاشتباه في الموضوع الخارجي
فالشبهات الحكمية ولو المقرونة بالعلم الاجمالي خارجة عن مجريها: والوجه في ذلك
ورود اخبار القرعة فيما إذا كان الاشتباه في الموضوع، ومن الموارد يستكشف، ان مصب
العموم هو خصوص الموضوعات ولا يعم الاحكام.
وبعد ذلك كله أشكل عليه الامر من جهة ان لازم ذلك هو جريان القرعة في
الشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي، والأصحاب غير ملتزمين بذلك، ولذا قال
أخيرا ان تشخيص موارد القرعة عن موارد الاحتياط والتخيير، في حقوق الله تعالى وعن
مورد قاعدة العدل والانصاف في حق الناس في غاية الاشكال.
ويرد على ما افاده في وجه اختصاص مورد القرعة بالتردد بين الشيئين أو الأشياء:
انه بعد تسليم عموم المشتبه والمجهول لا وجه لاستفادة ذلك من عنوان القرعة، فإنها
300

عبارة عن القاء السهام واستخراج السهم الأصوب، مع أنه لو سلم ذلك لاوجه
للاختصاص بالشبهات الموضوعية، فان كون موارد النصوص خصوص الموضوعات
لا يصلح مقيدا للعموم سيما مع عدم كونه في تلك الموارد، وعليه فبما انه في الشبهة
الحكمية المقرونة بالعلم الاجمالي أيضا يكون التردد بين الشيئين أو الأشياء فلابد من
الالتزام بجريانها فيها.
بيان ما هو الحق في المقام
ونخبة القول في المقام انه بعد ما لا شبهة في عدم جريان القرعة في الشبهة البدوية
الحكمية مطلقا ولم أر من احتمل ذلك بل تكرر في كلماتهم دعوى الاجماع عليه، حتى
قيل إن القول بشمولها لها ينبغي ان يعد من المضحكات، وانما وقع الكلام في أن
خروجها هل يكون من باب التخصيص أو التخصص.
قد يقال ان العناوين العامة الواردة في أدلة القرعة خمسة، عنوان المجهول،
وعنوان المشتبه، وعنوان المشكل، وعنوان الملتبس، وعنوان المعضلات.
والعناوين الثلاثة الأول وان كان لها عموم بحسب المفهوم، وتشمل جميع أنواع
الشبهة.
ولكن التتبع في الروايات وضم بعضها إلى بعض والتأمل في العلة المذكورة في
جملة من الروايات وهو قولهم عليهم السلام (فأي قضية اعدل من القرعة إذا فوضوا
أمرهم إلى الله تعالى) وملاحظة العنوانين الآخرين وهما، المشكل، والمعضل، يوجب
الاطمينان بان المراد من العناوين الخمسة هو المجهول والمشتبه الذي في الشبهة
الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي إذا لم يكن طريق إلى اثباتها، وكان الاحتياط غير
ممكن، أو موجبا للعسر والحرج، أو نعلم أن الشارع الأقدس لم يوجب الاحتياط فيه ففي
هذا المورد شرع القرعة. و
لا فرق فيه بين كون المشتبه من حقوق الله أو حقوق الناس، ولا بين ان يكون له
301

واقع معين، وتكون القرعة واسطة، ودليلا في عالم الاثبات، أو لم يكن له واقع معين في
عالم الثبوت والقرعة واسطة في الثبوت كما في قوله (أحد عبيدي حر).
وفى مثل الغنم الموطوئة المشتبهة في قطيع الغنم وان كان مقتضى القاعدة الأولية
هو الاجتناب عن الجميع، ولكن الشارع الأقدس لم يوجب الاحتياط تحفظا على أن
لا يضيع المال الكثير الذي لا يتحمل عادة، والمفروض انه لا يمكن تعيين الموطوئة،
فيصير معضلا ومشكلا وحله بالقرعة ويدخل بذلك في الموضوع.
وأيضا لا فرق في ذلك بين ان يكون في مورد وقوع المنازعة والمخاصمة، وما إذا
لم يكن هناك نزاع وخصومة في البين وان كان ادعى جماعة الاجماع على اعمال القرعة
في المورد الأول، ولعله يكون ذلك من جهة ان الفقهاء تعرضوا لذكر القرعة في كتاب
القضاء في مسألة تعارض البينات.
ولذلك ترى ان الأصحاب التزموا فيما لو كان واطء الغنم المشتبهة هو صاحب
الغنم، وعلى الجملة المستفاد من أدلة القرعة بعد ضم بعضها إلى بعض ان مورد القرعة
الشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي الذي لا يمكن فيه الاحتياط، أو لا يجوز، أو
لا يجب، ولم يكن هناك أصل أو امارة موافق للعلم الاجمالي كي يوجب انحلاله ويصير
المورد بذلك في المعضلات.
واليه أشار الإمام أبو جعفر (ع) في خبر عبد الرحيم القصير المتقدم بعد ما قال كان
علي عليه السلام إذ ورد امر ما نزل به كتاب ولا سنة قال رجم فأصاب (وهي المعضلات) أو (و
تلك المعضلات (1)) إذ الموضوعات الكلية حكمها في الكتاب والسنة موجود، وكذلك
الشبهة البدوية قد بين حكمها في الكتاب والسنة إذ القواعد المجعولة للشك مستوعب
لجميع الشكوك البدوية، وكذلك العلم الاجمالي الواجب فيه الاحتياط بحكم
النصوص، فلا محالة يكون المراد ما ذكرناه من الضابط لمورد القرعة.
ولو أغمضنا النظر عما ذكرناه وسلمنا ان مقتضى اطلاق الأدلة جريان القرعة في

1 - المستدرك ج 3 ص 200 حديث 14.
302

جميع موارد الشبهة كانت مقرونة بالعلم الاجمالي أم كانت الشبهة بدوية، وعلى الجملة
سلمنا ان الدليل عام شامل لكل مشتبه ومجهول.
فلا اشكال في أنه خرج عن تحت عموم الأدلة الشبهات البدوية المجعول فيها
الأصول من الاستصحاب، وقاعدة الحل، والطهارة وما شاكل.
والمقرونة بالعلم الاجمالي إذا كان المشتبه متعلقا لحق الله تعالى لما تقدم في وجه
تنجيز العلم الاجمالي واقتضائه لوجوب الموافقة القطعية، إذ قد عرفت ان وجهه
النصوص الخاصة، والنسبة بين هذه الأدلة، ودليل القرعة عموم مطلق فتقدم عليه.
واما في العلم الاجمالي في مورد حق الناس فان كان من قبيل دوران الامر بين ان
يكون مال لشخص، أو لآخر كان مورد القاعدة العدل والانصاف، المقتضية للتنضيف أو
التثليث أو... على اختلاف الموارد، والا فان أمكن الاحتياط التام يلحق بما إذا كان من
حقوق الله تعالى، والا فهو مورد للقرعة.
وان قلت إن لازم ذلك تخصيص الأكثر المستهجن فيستكشف من ذلك أن العام
كان محفوفا بقرائن وقيود لم تصل إلينا فلا يجوز التمسك به الا في مورد عمل
الأصحاب على طبقها.
قلت: انه لو سلم ذلك فإنما هو في الخبر كل مجهول ففيه القرعة، واما بناء
العقلاء، واجماع الأصحاب، والنصوص العامة الاخر المتضمنة انها في كل مشكل أو
ملتبس، والنصوص الخاصة الواردة في الموارد الخاصة المستفاد منها الكبرى الكلية، فهي
تدل على اعمال القرعة في كل مورد التبس الامر ولم تكن الوظيفة الظاهرية ولا الواقعية
معلومة، اما دلالة الأولين فواضحة، واما الثالثة فلان المشكل والملتبس انما هما ظاهران
في ذلك، واما الرابعة، فلا لغاء الخصوصية مضافا إلى ما فيها من القرائن المستنبطة منها
هذه الكلية.
فالمتحصل اختصاص جريان القرعة بمورد الشبهة التي لا تجرى فيها الأصول من
الاستصحاب وغيره، ولا يكون موردا لقاعدة العدل والانصاف، ولا الاحتياط، والالتزام
بهذه الكلية لا يترتب عليه محذور.
303

لا يقال انه من جملة موارد القرعة اشتباه الغنم الموطوئة، وهناك يمكن الاحتياط.
فإنه يقال أولا قد تقدم وجه ادخاله في مورد تزاحم الحقوق، وثانيا: انه تعبد في
مورد خاص لا باس بالالتزام به.
ثم انه بعد ما عرفت من مشروعية القرعة، لبناء العقلاء، واتفاق الأصحاب،
والروايات العامة، والخاصة، ومقدار دلالتها، ومورد جريانها، فتنقيح القول في المقام
يستدعى بيان أمور:
هل القرعة من الامارات أو الأصول
الأول: هل القرعة من الامارات المثبتة للواقع، أم هي من الأصول بمعنى انها
وظيفة مجعولة ظاهرية عند الالتباس والاشكال وجهان.
لا اشكال في أنها لدى العقلاء ليست امارة مثبتة والبناء عليها عندهم انما هو لرفع
الخصومة والنزاع والتحير.
كما لا اشكال في أنه ليس فيها ملاك الطريقية فان مطابقتها للواقع انما تكون
اتفاقية، فلا طريقية ناقصة لها ولا كاشفية، وقد ثبت في محله ان ما حاله كذلك يستحيل
تتميم كشفه وجعله طريقا كالشك.
الا ان ظاهر جملة من نصوصها، ان طريقيتها واقعية بتسبيب الشارع الأقدس الناظر
إلى الواقع إلى وقوع السهم على الحق لا حظ قوله (ع) في خبر محمد بن حكيم المتقدم
جوابا لقول السائل ان القرعة تخطئ وتصيب كل ما حكم الله به لا تخطئ، وقوله (ع) في
مرسل الصدوق المتقدم عن الإمام الصادق (ع) ما تنازع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله
عز وجل الا خرج سهم المحق، وقوله (ع) في خبر داود بن يزيد المتقدم، يقرع بينهم فمن
خرج سهمه فهو المحق.
وما رواه عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (ع) قال إن الله تبارك
وتعالى أوحى إلى موسى عليه السلام ان بعض أصحابك ينم عليك فاحذره فقال يا رب لا
304

اعرفه اخبرني حتى اعرفه فقال يا موسى عبت عليك النميمة وتكلفني ان أكون نماما فقال
يا رب وكيف اصنع قال الله تعالى فرق أصحابك عشرة عشرة ثم تقرع بينهم فان السهم
يقع على العشرة التي هو فيهم ثم تفرقهم وتقرع بينهم فان السهم يقع عليه قال فلما رأى
الرجل ان السهام تقرع قام فقال يا رسول الله انا صاحبك لا والله لا أعود (1).
وصحيح جميل قال قال الطيار لزرارة ما تقول في المساهمة أليس حقا فقال
زرارة بلى هي حق فقال الطيار أليس قد ورد انه يخرج سهم المحق قال بلى قال فتعال حتى
ادعى انا وأنت شيئا ثم تساهم عليه وتنظر هكذا هو فقال زرارة انما جاء الحديث بأنه ليس
من قوم فوضوا أمرهم إلى الله ثم اقترعوا الا خرج سهم المحق فاما على التجارب فلم
يوضع على التجارب فقال الطيار أرأيت ان كانا جميعا مدعيين ادعيا ما ليس لهما من أين
يخرج سهم أحدهما فقال زرارة إذا كان كذلك جعل معه سهم مبيح الحديث (2) ومورد
الاستدلال به نقلهما الحديث عن المعصوم (ع) لا فهمهما كي يقال انه ليس حجة -
وبالجملة المتتبع في النصوص والمتدبر فيها يراها متفقة على أن القرعة من الامارات بالمعنى الذي ذكرناه.
القرعة ليست وظيفة شخص خاص
الثاني: في بيان ان القرعة هل يجوز لكل أحد أعمالها، أم هي وظيفة شخص
خاص؟
المشهور بين الأصحاب هو الأول، بل في عوائد النراقي (قده) دعوى الاجماع عليه،
وهو مقتضى بناء العقلاء.
واما العمومات فظاهرها ورودها في مقام بيان موردها ولا اطلاق لها من جهات
اخر لا حظ قوله (ع) في خبر محمد بن حكيم كل مجهول ففيه القرعة.

1 - المستدرك - كتاب القضاء - باب 11 من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى.
2 - الوسائل - كتاب القضاء - باب 13 من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى.
305

الا ان مقتضى جملة من النصوص عدم اعتبار مقرع خاص، ففي مرسل الصدوق
المتقدم ما يقارع قوم فوضوا أمرهم إلى الله الا ما خرج سهم المحق وقريب منه، ما في
صحيح الجميل المتضمن لمباحثة الطيار وزرارة، وما في خبر عباس بن الهلال عن الإمام الرضا
(ع) فان ظاهرها العموم لكل قوم.
وفى صحيح الفضيل عن أبي عبد الله (ع) عن مولود ليس له ما للرجال ولا ما للنساء
قال (ع) يقرع الامام، أو المقرع الحديث (1) فان عطف المقرع على الامام ظاهر أو صريح في
ذلك، وفى خبر أبي بصير المتقدم المتضمن لقصة الشاب الذي خرج أبوه مع قوم ثم
جائوا يشهدون بموته اجعلوا بهذه السهام فأيكم اخرج خاتمي فهو صادق، حيث امر
القوم بإجالة السهام والاخراج.
ويؤيده قول الطيار في صحيح جميل المتقدم - ثم تساهم عليه - وجواب زرارة
بما أجاب ولم يقل بان المساهمة وظيفة الامام.
وبإزاء ما ذكر روايتان، إحداهما: مرسلة حماد المتقدمة عن أحدهما (ع) القرعة
لا تكون الا للامام، ثانيتهما: رواية يونس في رجل كان له عدة مماليك فقال أيكم علمني
آية في كتاب الله فهو حر فعلمه واحد منهم ثم مات المولى ولم يداريهم الذي علمه الآية
هل يستخرج بالقرعة قال (ع) نعم ولا يجوزان يستخرجه أحد الا الامام فان له كلاما وقت
القرعة ودعاءا لا يعلمه سواه ولا يقتدر عليه غيره (2).
ولكن يرد عليهما مضافا، إلى أن الأول مرسل، والثاني: غير مستند إلى المعصوم
ولعله من قول يونس، ومضافا إلى اعراض الأصحاب عنهما: انهما لمعارضتهما مع
النصوص المتقدمة لابد من طرحهما لان جملة من المرجحات فيها كما لا يخفى.
وقد جمع المحدث الكاشاني (ره) بين الطائفتين، بحمل ما دل على الاختصاص
بالامام، على ما إذا كان الامر فيما يقرع عليه متعينا في الواقع كما في قضية تعليم الآية،

1 - الوسائل - كتاب الميراث - الباب 4 من أبواب ميراث الخنثى.
2 - الوسائل - كتاب القضاء - باب 13 من أبواب كيفية الحكم حديث 9 - وكتاب العتق
باب 34.
306

وحمل ما دل على العموم على ما إذا لم يكن متعينا وأريد التعيين بالقرعة.
وفيه: انه جمع تبرعي لا شاهد له، أضف إليه ان الوقايع في كثير من العمومات، بل
ما صرح فيه بمباشرة غير الامام، من القسم الأول راجع الاخبار.
وللمحقق النراقي في المقام كلام - وحاصله - انه من المحتمل ان يكون المراد من
روايات الاختصاص ان اختيار القرعة بيد الامام، فتصدى أعمالها من اذن له عاما أو
خاصا، وان للقرعة نوع اختصاص به كمنصب القضاء، وبه تخرج الروايتان عن الشذوذ،
لان أكثر الفقهاء قائلون باختصاص القرعة بالامام أو نائبه الخاص أو العام، ولا ينافيهما
أيضا النصوص الاخر لظهور اختصاص الوالي والمقرع بمن عينه الامام، لتولية الامر
ونصبه للقرعة وكذا ما امر فيه الامام بالقرعة وإجالة السهام،
ثم قال (قده) انه لو قطع النظر عن ذلك وحملنا الروايتين على إرادة مباشرة امام
الأصل بنفسه فيكونان أعمين مما ذكر مطلقا، لان مقتضاهما عدم كون القرعة، وعدم
جوازها لاحد الا الامام، ومقتضى ما ذكر جوازها لمن ولاه مطلقا أو على القرعة، أو اذن
له بخصوصه أيضا فيجب تخصيصهما بذلك، ولا ينافيه قوله في رواية يونس ان له كلاما
ودعاءا لا يعلمه غيره ولا يقتدر عليه غيره ليختص به أو بمن علمه، ولذا ذكر الدعاء
للمقرع أيضا في روايته وذكر الدعاء في روايات اخر أيضا، ثم بعد تخصيص الروايتين
بالامام أو المأذون منه وخروجهما عن حيز الشذوذ يجب تخصيص العمومات أو
المطلقات بذلك أيضا، ولذلك كله يبنى على أن القرعة انما هي وظيفة الامام أو نايبه
الخاص أو العام الا ما خرج بالدليل.
وفيه: ان الاحتمال المذكور خلاف ظاهر الروايتين بل صريحهما لا حظ قوله في
خبر يونس، ولا يجوز ان يستخرجه أحد الا الامام، سيما مع قوله في ذيله، ولا يقتدر عليه،
أي على الدعاء لا على انشائه، غيره.
واما ما افاده ثانيا من أنه على فرض تسليم ظهور الروايتين في إرادة مباشرة امام
الأصل يكونان أعمين من ما ذكر مطلقا، فيرد عليه انهما على ذلك التقدير يدلان على
الاختصاص به (ع) فهما يعارضان مع ما دل على عدم الاختصاص، والتوجيه بما افاده
307

لتدخل في العام والخاص ليس جمعا عرفيا، مع أنه قد عرفت ان جملة من النصوص
ظاهرة في جواز تصدى أعمالها لكل أحد لا خصوص المأذون من قبله (ع) فالأظهر عدم
الاختصاص به (ع)، ولا به وبنوا به.
حول لزوم القرعة وجوازها
الثالث: قد عرفت من مطاوي ما ذكرناه ان للقرعة موردين 1 - ماله واقع معين 2 -
ما ليس له ذلك، فهل أعمالها في الموردين لازمة، ويتعين بناء الامر عليها، أم يجوز
العدول عنها إلى غيرها وتكون جائزة، أم فرق بين الموردين، أم هناك تفصيل آخر
وجوه.
ملخص القول فيه انه في المورد الأول: قد يكون التعيين واجبا، كما إذا وجب
رفع التنازع أو دفع الضرر أو ما شابه ولم يكن طريق آخر إليه وجب الاقراع لتوقف
الواجب عليه، والا فلا يجب لعدم الدليل عليه والأصل عدمه.
وفى المورد الثاني: قد يجب التعيين كما في ما لو أعتق عبيده في مرض موته ولا
مال سواهم، وبنينا على أن منجزات المريض من الثلث، فإنه ينعتق حينئذ مع عدم اذن
الورثة ثلثهم فلابد من تعيين الثلث بالقرعة ولا طريق غيرها، فان ترجيح عبد على غيره بلا
مرجح، وايكاله إلى اختيار الوصي مثلا بلا وجه.
وان لم يجب التعيين، كتقدم أحد المتعلمين في العلم، أو تقديم إحدى
المتمتعتين في الليلة فلا تجب القرعة أيضا.
ثم انه بعد أعمالها، هل هي لازمة لا يجوز التخلف عنها أو جائزة.
لا اشكال في أن ما كان من القسم الأول تكون لازمة لا يجوز التخلف عن
مقتضاها، لما في النصوص المتقدمة من أن الحق يستخرج بالقرعة، وانها سهم الله، وسهم
الله لا يخطئ، وما شاكل من التعبيرات، فإنه لا يجوز التخطي عما هو الحق.
واما ما كان من القسم الثاني، فقد يتوهم عدم لزومه نظرا إلى استصحاب عدم
308

التعيين.
ولكن بعد تعيين الحق فيما عينه القرعة مقتضى استصحاب بقاء حق المحكوم له
لزومه أيضا ولا يخفى وجهه.
بيان النسبة بين القرعة والاستصحاب
الرابع: في بيان النسبة بين القرعة والاستصحاب، ونخبة القول فيه، انه ان قلنا
بعموم دليل القرعة لكل مجهول، تكون النسبة بينهما عموما مطلقا، فإنه عام لكل مجهول
ودليل الاستصحاب مختص بما كان له حالة سابقة فيخصص دليلها بدليله.
فان قيل إنها على فرض اماريتها تكون حاكمة على الاستصحاب.
أجبنا عنه بان اماريتها غير امارية ساير الامارات فإنه في ساير الموارد تكون
الامارة ثابتة مع عدم فعل من أحد، وفى القرعة ما لم يقرع لا تكون الامارة متحققة، وعليه
فإذا قدم دليل الاستصحاب وتكون للأخصية لا يبقى لأعمالها مورد، ومعه لا تجرى حتى تعارض
الاستصحاب وتكون حاكمة عليه.
وعلى القول الآخر الذي اخترناه على فرض سقوط العام عن حجيته في العموم،
فلا تماس بينهما، كي يتعارضان، لان مورد القرعة هو ما لم تكن الوظيفة معلومة ولم يكن
طريق إلى حل العقدة، كان في باب القضاء أو غيره، وعليه فمع جريان الاستصحاب لا
مورد لها، فيكون تقدمه على القرعة بالتخصص كما افاده الشيخ الأعظم.
ولكن المحقق الخراساني أفاد في وجه تقديم الاستصحاب ما يظهر منه اختياره
ورود الاستصحاب عليها، من جهة ان موضوع القرعة هو المجهول بقول مطلق لافى
الجملة، ومع جريان الاستصحاب يكون المورد بعنوان كونه على يقين منه سابقا معلوم
الحكم.
وفيه: ان موضوع الاستصحاب أيضا الشك بقول مطلق، ومع اعمال القرعة يصير
معلوم الحكم بذلك العنوان، فكل منهما يصلح لان يكون رافعا لموضوع الآخر وهذا هو
309

معنى التعارض.
وقد يقال كما عن المحقق النائيني (ره) انه لا مورد لنا يجرى فيه الاستصحاب،
والقرعة حتى يلاحظ النسبة بينهما، لان القرعة مختصة بموارد اشتباه موضوع التكليف،
وتردده بين أمور متباينة، وفى تلك الموارد لا يجرى الاستصحاب: للعلم الاجمالي، ولا
مورد لها في الشبهات البدوية التي هي مجرى الاستصحاب، لأنه ليس فيها الا احتمالان
في موضوع واحد.
وفيه: مع الاغماض عما افاده في مفاد أدلة القرعة، انه لا يختص أدلة الاستصحاب
بموارد الشبهات البدوية، بل انما يجرى في المقرونة بالعلم الاجمالي ما لم يسقط
بالتعارض - مثلا - في الحادثين المعلوم تاريخ أحدهما المجهول تاريخ الآخر كما في
عقد الوكيلين المرأة، لرجلين، وجهل تاريخ أحدهما: فإنه على مبناه يجرى الاستصحاب
في خصوص مجهول التاريخ فيقع التعارض بينه وبين القرعة وكم له نظير في الفقه.
بل موارد العلم الاجمالي بين الشخصين في باب الحقوق والأموال كلها يجرى
فيها الاستصحاب، ولا يسقط بالتعارض بالاستصحاب في الآخر، فيقع التعارض بينه وبين
القرعة.
فالصحيح ما ذكرناه، هذا تمام الكلام في المهم من مباحث القرعة والحمد لله أولا
وآخرا.
310

الخاتمة
التعادل والترجيح
311

[...]
312

خاتمة في التعادل والترجيح
والأولى: كما افاده المحقق النائيني (ره) تبديل العنوان، بالتعارض، فان التعادل
والترجيح من الأوصاف والحالات اللاحقة للدليلين المتعارضين، فجعل العنوان المقسم
انسب.
وكيف كان فلا اشكال في أن مسألة التعادل والترجيح من أهم المسائل الأصولية،
وليست من المسائل الفقهية، ولا من المبادئ، لوقوعها في طريق استنباط الأحكام الشرعية
، بل عليها يدور رحى الاستنباط، فلا وجه لتطويل الكلام في ذلك، بل الأولى
صرف عنان الكلام إلى ما هو أهم من ذلك في مباحث، الأول في تعريف التعارض،
وبيان الفرق بينه وبين التزاحم، وبيان ما يعتبر في التعارض، وفى تعارض العامين من وجه،
فالكلام في موارد.
تعريف التعارض
1 - المشهور بين الأصحاب في تعريف التعارض، انه عبارة عن تنافى مدلولي
الدليلين على وجه التناقض، أو التضاد.
وبذلك عرفه الشيخ الأعظم، والمحققون المتأخرون عنه منهم المحقق النائيني.
وخالفهم المحقق الخراساني قال في الكفاية التعارض هو تنافى الدليلين أو الأدلة
بحسب الدلالة ومقام الاثبات على وجه التناقض أو التضاد حقيقة أو عرضا انتهى.
313

وملخص القول في المقام، انه لا اشكال ولا كلام في أن الدالين بما هما دالان
لا تنافى بينهما، وانما التنافي بينهما عرضي باعتبار التنافي بين المدلولين.
واما المدلولان، فالتنافي بينهما أيضا، ليس ذاتيا، فان المدلول المنشأ أي الحكم امر
اعتباري، والاعتبار خفيف المؤنة، لا تنافى بين فردين منه.
بل التنافي بينهما انما يكون من ناحية مبدأهما من المصلحة والمفسدة - والإرادة
والكراهة - أو منتها هما من اقتضائهما، الفعل أو الترك كما مر تحقيق ذلك في الجمع بين
الحكم الواقعي والظاهري، ولكن تنافى المبدأين أو المنتهيين واسطة لثبوت التنافي بين
الحكمين المدلولين بالنسبة إلى المولى الحكيم، وهو واسطة في عروض التنافي على
الدالين، وعلى ذلك فدعوى ان التنافي بين المدلولين حقيقي، دون التنافي بين الدالين، في
محلها.
ثم إن التعارض ان كان بمعنى التنافي، تعين تعريفه بما عن المشهور، ولكن الظاهر أنه
أخص منه فإنه من باب العرض بمعنى الاظهار، ومنه عرض المتاع للبيع، فيكون
التعارض بمعنى اظهار كل من المتعارضين نفسه في مقابل الآخر، ولذا لو قام خبر عدل
على وجوب شئ، وخبر فاسق على عدم وجوبه، لا يكون من باب التعارض فان خبر
الفاسق غير الحجة لا يظهر نفسه، في مقابل خبر العادل، وعليه: فالتعارض هو تنافى
الدليلين في مقام الدلالة فالحق مع المحقق الخراساني.
2 - التعارض بين الدليلين قد يكون لعدم امكان اجتماع مدلوليهما، كما إذا دل
أحدهما على وجوب شئ والآخر على عدم وجوبه، وقد يكون لأجل العلم الخارجي
بعدم ثبوت مدلوليها، كما لو دل خبر على وجوب صلاة الجمعة والآخر على وجوب
الظهر، فإنه لا تنافى بين المدلولين الا بواسطة العلم بعدم وجوبهما معا في يوم الجمعة
وبواسطة هذا العلم يقع التعارض بين الدليلين وكل منهما بمدلوله الالتزامي ينفى الآخر،
ويظهر نفسه في مقابل الآخر.
3 - قد ذكر المحقق النائيني (ره) شرطين آخرين لصدق عنوان التعارض.
أحدهما: كون كل من الدليلين حجة في نفسه فلو كان أحدهما حجة دون الآخر
314

واشتبه الحجة باللا حجة لم يكن ذلك من باب التعارض.
وهذا متين فان التعارض كما مر اظهار كل منهما نفسه في مقابل الآخر، فإذا كان في
الواقع أحدهما حجة دون الآخر لم يكن الا شيئا واحدا، لا اثنان كي يظهر كل منهما نفسه
وهذا واضح.
ثانيهما: ان يمتنع اجتماع مدلوليهما ثبوتا في عالم التشريع والجعل، سواء أكان
التكاذب بينهما ابتداءا كما إذا تنافى مدلوليهما ذاتا، أو كان التكاذب لأمر خارج، كما في
الخبرين الدال أحدهما على وجوب الجمعة، والآخر على وجوب الظهر، فإنه من جهة
العلم بعدم وجوب إحداهما يقع التكاذب بينهما، فكل منهما بمدلوله الالتزامي ينفى ما
يثبته الآخر، واما لو علم بعدم تشريع مؤدى أحد الدليلين، مع امكان جعلهما ثبوتا ولم
يكن أحدهما مربوطا بالآخر، كما إذا كان مؤدى أحدهما وجوب الدعاء عند رؤية
الهلال، ومؤدى الآخر وجوب دية الحر في قتل العبد المدبر، وعلم بعدم ثبوت أحدهما،
فهو ليس من باب التعارض لعدم امتناع اجتماع مدلوليهما ثبوتا في عالم الجعل والتشريع،
بل هو من باب اشتباه الحجة باللاحجة.
وفيه: ان محل البحث ما لو كان كل منهما واجدا لشرائط الحجية في نفسه، والعلم
بمخالفة مضمون أحدهما للواقع بعد فرض احتمال إصابة كل منهما في نفسه لا يوجب
عدم حجية أحدهما: فلا محالة يقع التعارض بينهما، بمعنى ان كلا منهما بضميمة العلم
المزبور ينفى بدلالته الالتزامية ما يثبته الآخر.
وبالجملة لم يظهر لي الفرق بين هذا المورد والمورد الذي يكونان مربوطين
والتنافي بينهما كان لأمر خارج، كما في مثال الجمعة والظهر: فإنه في ذلك المورد ان كان
مفاد كل من الدليلين ان الصلاة الواحدة الواجبة في يوم الجمعة، ما تضمنه من الظهر أو
الجمعة كان التنافي بينهما ذاتيا، واما ان كان مفاد كل منهما وجوب ما تضمنه بلا نظر له
إلى الآخر كان ذلك مثل هذا المورد بلا تفاوت بينهما.
315

الفرق بين التعارض والتزاحم
4 - في الفرق بين التعارض والتزاحم، فقد اختار المحقق الخراساني ان الفرق بينهما
ان التزاحم انما يكون فيما إذا ثبت الملاكان للحكمين المتنافيين، ولو في مورد واحد
ومحل فارد كالصلاة في الدار المغصوبة بناءا على انطباق العنوانين على مورد واحد، واما
التعارض فهو انما يكون فيما أحرز ان المناط في أحدهما دون الآخر، وطريق احراز
ذلك موكول إلى محله.
وفيه: ان ثبوت الملاكين في محل واحد غير معقول، إذ لا محالة يقع الكسر
والانكسار بينهما، فاما ان يغلب أحدهما فهو الملاك دون المغلوب، والا فلا يصلح شئ
منهما لان يكن منشأ الحكم وملاكه.
والمحقق النائيني (ره) أفاد في مقام الفرق بينهما - بما حاصله - ان التعارض انما
يكون في مرحلة الجعل والتشريع بحيث يمتنع تشريع الحكمين ثبوتا، واما التزاحم فعدم
امكان اجتماع الحكمين في مورده، ليس في مقام الجعل والتشريع، بل في ذلك المقام
بينهما كمال الملائمة، وانما يكون المزاحمة في مقام الفعلية بعد تحقق الموضوع خارجا
من جهة عدم القدرة على الجمع بينهما في مقام الامتثال، فيقع التزاحم بينهما لتحقق
القدرة على امتثال أحدهما، فيصلح كل منهما لان يكون تعجيزا مولويا عن الآخر، ورافعا
لموضوعه.
وفيه: انه كما يكون عدم ثبوت الملاكين موجبا لامتناع جعل الحكمين للمولى
الحكيم فيقع التنافي بين الحكمين في مقام الجعل، كذلك يكون عدم القدرة على امتثال
الحكمين موجبا لعدم امكان جعلهما معا بناءا على شرطية القدرة للتكليف، لاقتضاء
جعلهما المحال، وما يقتضى المحال محال فالتنافي بين المتزاحمين أيضا يكون في مقام
الجعل والتشريع لا في مقام الفعلية - وبعبارة أخرى - ان كانت القدرة شرطا للتكليف
فالتنافي بينهما يكون في مقام الجعل، والا، فلا تنافى بينهما حتى في مقام الفعلية، لان عدم
فعلية الحكم مع تحقق موضوعه خارجا يشبه بعدم وجود المعلول، مع وجود علته.
فالصحيح ان يقال ان التزاحم وان كان يشترك مع التعارض، في عدم امكان جعل
316

الحكمين، وان التمانع بينهما يكون في الجعل والتشريع، الا ان عدم الامكان في باب
التعارض انما يكون من جهة المبدأ وعدم امكان اجتماع المصلحة والمفسدة الغالبتين، أو
عدم ثبوتهما، وفى باب التزاحم يكون من جهة المنتهى وعدم امكان امتثالهما ثم إن
تفصيل القول في بيان حقيقة التزاحم وما يرجع إليه من المباحث ومرجحات بابه
وما شاكل موكول إلى محله في مبحث الضد وقد استوفينا البحث في ذلك، وانما
المقصود هنا الإشارة الاجمالية إلى حقيقته، وما به يمتاز عن التعارض الذي هو محل
البحث.
ضابط الحكومة، ووجه تقديم الحاكم
5 - يعتبر في التعارض ان لا يكون أحد الدليلين حاكما على الآخر، ولا يكون
أحدهما قرينة على التصرف في الآخر، وأضاف المحقق الخراساني إليهما، ان لا يكون
بينهما التوفيق العرفي، فالكلام في موارد:
1 - ما إذا كان بين الدليلين حكومة بان كان أحدهما حاكما على الآخر.
2 - ما إذا كان بينهما التوفيق العرفي ذكره المحقق الخراساني (ره).
3 - ما إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر يقدم ظهور القرينة على ظهور ذي القرينة ولا يلاحظ النسبة بينهما.
اما الأول: ففي الكفاية بعد التعريف التعارض بأنه تنافى الدليلين أو الأدلة بحسب
مقام الاثبات والدلالة وعليه فلا تعارض بينهما بمجرد تنافى مدلوليهما إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض والخصومة انتهى.
ويرد على ما افاده انه بناءا على المختار في تعريف التعارض من أنه عبارة عن
تنافى مدلولي الدليلين أيضا لا تعارض بين الحاكم والمحكوم: إذ المحكى والواقع غير
مدلول الدليل بهذا العنوان، فالتنافي بين المحكيين والواقعين وان كان ثابتا في الحاكم
والمحكوم، الا انه بين المدلولين العنوانيين لا تنافى مثلا إذا لو حظ قوله (ع) لا شك لكثير
317

الشك، مع أدلة الشكوك، فتارة يلاحظ اللب والواقع، وأخرى يلاحظ المدلول العنواني
بما هو كذلك، فعلى الأول يكون التنافي ثابتا إذ ليس مفاد الأول بحسب الواقع الا رفع
الحكم الثابت بعموم أدلة الشكوك، وعلى الثاني بما ان لسانه نفى الموضوع فلا تنافى بينه
وبين ما تضمن اثبات حكم على تقدير وجود الموضوع، فعلى التعريفين لا تعارض بين
الحاكم والمحكوم، واما ضابط الحكومة فحيث انها ليست مدلول دليل لفظي، فلا وجه
للنزاع في مفهومها سعة وضيقا، بحسب المتفاهم العرفي، بل لابد من الرجوع إلى دليل
تقديم الحاكم وملاحظة مقدار ما يقتضيه ذلك الدليل، سعة وضيقا وانتزاع جامع لتلكم
الموارد، وجعله ضابطا لها.
وعلى ذلك، فتنقيح القول في المقام انما هو بالبحث أولا في بيان الضابط
المذكور ثم في وجه التقديم.
اما الأول: فضابطها، ان يكون أحد الدليلين ناظرا إلى الدليل الآخر، أو صالحا
لذلك.
اما بالتصرف في موضوعه سعة كقوله (ع) الفقاع خمرة بالنسبة إلى دليل حرمة
الخمر، أو ضيقا، كقوله (ع) لا شك لكثير الشك، بالنسبة إلى أدلة الشكوك.
أو بالتصرف في متعلقه نفيا، كقول، الضيافة ليست من الاكرام، بالنسبة إلى ما دل
على مطلوبية اكرام العالم، أو اثباتا مثل الطواف في البيت صلاة بالنسبة إلى أدلة وجوب
الصلاة وما يعتبر فيها.
أو بالتصرف في محموله، بان يتلونه بلون، ويدل على عدم ثبوت ذلك الحكم في
بعض الحالات والموارد كدليل نفى الضرر فإنه ناظر إلى أدلة الاحكام ويدل على انها
مختصة بغير موارد الضرر.
واما الثاني: أي وجه التقديم ففيما إذا كان دليل الحاكم ناظرا إلى دليل المحكوم أو
صالحا له بالتصرف في موضوعه أو متعلقه فواضح: إذ كل من الدليلين حينئذ متكفل لبيان
شئ غير ما يكون الآخر متكفلا له، فان دليل المحكوم لا يكون ناظرا إلى موضوعه ولا
إلى متعلقه بل يثبت الحكم على تقدير وجود الموضوع، ودليل الحاكم ينفى الموضوع،
318

أو المتعلق، أو يثبته.
وأما إذا كان ناظرا إلى المحمول فوجهه ان التمسك بأصالة الظهور من الاطلاق أو
العموم، في دليل المحكوم، فرع تحقق الشك في المراد، فإذا ثبت تعبدا بالدليل ان
الحكم الضرري مثلا غير مجعول في الشريعة يرتفع الشك تعبدا، فلا يبقى مورد
للتمسك بالاطلاق أو العموم.
وبما ذكرناه ظهر أمور 1 - ان ما قيل في ضابط الحكومة من كون أحد الدليلين
بمدلوله اللفظي مفسرا لمدلول الآخر، وشارحا له بحيث يكون مصدرا بإحدى أداة
التفسير أو ما يلحق به كقرينة تفسير قرينة المجاز لذي القرينة.
في غير محله لعدم اختصاص دليل تقديم الحاكم بهذا المورد، أضف إليه انه يلزم
منه خروج غالب الموارد عنها.
2 - عدم تمامية ما افاده الشيخ الأعظم في مقام بيان الضابط، ان يكون أحد الدليلين
بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر، ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض
افراد موضوعه، فيكون مبينا لمقدار مدلوله مسوقا لبيان حاله متفرعا عليه.
إذ لا وجه لاختصاص الحكومة بذلك، بل إذا كان أحد الدليلين مفيدا فائدة
مستقلة ولكنه يصلح لان يكون بيانا لكمية موضوع الدليل الآخر كان من الحكومة.
3 - عدم تمامية ما افاده المحقق الخراساني (ره) من اختصاصها بموارد التعرض لعقد
الوضع كما لا يخفى.
ثم انه صرح صاحب الكفاية بأنه لا يعتبر في الحاكم ان يكون مؤخرا عن المحكوم.
وما افاده بناءا على ما اخترناه تبعا له من عدم اعتبار كون الحاكم مسوقا لبيان كمية
موضوع المحكوم بل لو كان مفيدا فائدة مستقلة، ولكنه كان بنحو يصلح لذلك تكون
الحكومة ثابتة، تام: إذ مع فرض عدم مجيئ المحكوم إلى الأبد يصح جعل مثل هذا
الحكم.
واما بناءا على ما افاده الشيخ الأعظم من أن الحاكم هو ما سيق لبيان كمية ما أريد
من المحكوم، فلا بد وأن يكون مؤخرا عنه ومتفرعا عليه والا يلزم اللغوية كما لا يخفى.
319

التوفيق العرفي
واما الثاني: ففي الكفاية أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف وفق بينهما
بالتصرف في أحدهما إلى آخر ما افاده، محصل ما ذكره في التوفيق العرفي وكونه جمعا
عرفيا، انه إذا عرض الدليلين على العرف يحملون ما تضمن للأحكام بعناوينها الأولية،
على بيان الاحكام الاقتضائية، وما تضمن للحكم بالعنوان الثانوي على بيان المانع، فمع
انطباق العنوان الثانوي لا يصير الحكم فعليا لوجود المانع، ومع عدمه لوجود المقتضى
وعدم المانع يصير فعليا.
وفيه: انه ان أريد من الحكم الاقتضائي مقتضى الحكم، فمضافا إلى أنه خلاف
الظاهر: إذ الظاهر من الدليل كونه في مقام بيان الحكم لا كونه جملة خبرية، ان لازمه عدم
لزوم امتثال الحكم في غير مورد الضرر مثلا أيضا: لان وجود الملاك بنفسه لا يوجب
لزوم الامتثال إذ حينئذ يحتمل عدم التكليف لوجود المانع.
وان أريد به حمله على الفعلية الناقصة: فيرد عليه ان فعلية الحكم وعدمها أجنبيتان
عن المولى بالمرة بل تدوران مدار تحقق الموضوع بجميع قيوده، وعدمه، فمع التحقق
لا يعقل عدم فعلية الحكم ومع عدمه لا يعقل الفعلية وعليه، فان لم يؤخذ العنوان الثانوي
مانعا في مقام الجعل، لا يعقل دخل عدمه في الفعلية.
وقد مر ان تقدم الأدلة النافية للعسر والحرج، والضرر، والاكراه، والاضطرار مما
يتكفل لاحكام الموضوعات بعناوينها، الثانوية على الأدلة المتكفلة لبيان احكام
الموضوعات بعناوينها الأولية ليس من باب التوفيق، بل إنه انما يكون للحكومة.
ثم انه رتب على ذلك تقدم الامارات على الأصول الشرعية.
وقد عرفت في آخر مبحث الاستصحاب ان تقدمها عليها انما يكون للحكومة.
320

بيان وجه عدم التعارض بين العام والخاص
واما الثالث: فلا اشكال فيه انه لا تعارض بين الدليلين إذا كان أحدهما قرينة على
التصرف في الآخر، انما الكلام في المقام في خصوص ما مثلوا لذلك، بالعام والخاص،
وملخص القول فيه يستدعى قبل بيان وجه عدم التعارض بينهما وتقديم الخاص على العام
تقديم مقدمات.
الأولى: ان الظهور والدلالة على اقسام.
منها: الدلالة التصورية وهي الانتقال من سماع اللفظ إلى المعنى ولو كان اللافظ
تلفظ به من غير شعور واختيار، وهذه الدلالة لا تستند إلى الوضع بل منشأها الانس
الحاصل من كثرة الاستعمال.
ومنها: الدلالة التصديقية فيما قال: وهي دلالة اللفظ على أن المتكلم أراد به تفهيم
المعنى، وهذه الدلالة مستندة إلى الوضع، لما مر في مبحث الوضع من أن حقيقته تعهد
الواضع بأنه متى أراد تفهيم معنى خاص تكلم بلفظ مخصوص.
ومنها: الدلالة التصديقية فيما أراد، وهي دلالة اللفظ على أن المراد الجدي للمتكلم
مطابق مع المراد الاستعمالي، - وبعبارة أخرى -: ان الداعي للإرادة الاستعمالية هو الجد
لا غيره، وهذه الدلالة أيضا أجنبية عن الوضع، بل هي مستندة إلى بناء العقلاء على أن ما
يصدر من الفاعل المختار من قول أو فعل يصدر بداع الجد لا بغيره من الدواعي، وهذه
الدلالة تتوقف على عدم وجود القرينة المتصلة والمنفصلة، بخلاف الثانية فإنها تتوقف
على عدم وجود القرينة المتصلة خاصة.
الثانية: انه لا ريب في تقديم ظهور القرينة على ظهور ذي القرينة، والضابط
لتشخيص القرينة وتمييزها عن غيرها انما هو بفرض الكلامين متصلين صادرين عن متكلم
واحد في مجلس واحد، فإذا رأى العرف أحدهما، شارحا للآخر من حيث تعيين المراد،
بحسب المتفاهم العرفي كان ذلك قرينة، والا فلا.
الثالثة: ان محل الكلام هو ما إذا لم يكن العام نصا في العموم، والا فيقع التعارض
بينه وبين الخاص ولم يقل أحد بتقديم الخاص في هذا المورد.
321

إذا عرفت ذلك فنقول انه قد يكون الخاص قطعي السند والدلالة، وقد يكون ظني
السند والدلالة، وقد يكون ظني السند قطعي الدلالة، وقد يكون بالعكس، فهذه أربعة
اقسام لابد من البحث في كل قسم منها.
اما القسم الأول: فبعد الاتفاق على تقديم الخاص، اختلفوا في وجهه فقد ذهب
الشيخ الأعظم (ره) إلى أن تقدم الخاص، انما يكون للورود.
والمحقق النائيني، والأستاذ، اختارا ان تقدمه يكون بالتخصص، لان موضوع
أصالة العموم هو الشك في المراد وهو يرتفع وجدانا بالعلم بصدور الخاص وكونه مرادا.
أقول: ان حقيقة الورود عبارة عن خروج الشئ عن موضوع أحد الدليلين بمؤنة
التعبد، أي ورود الدليل من الشارع، ولو كان قطعي الصدور والدلالة، في مقابل التخصص
الذي عبارة عن خروجه عن موضوعه بالوجدان، مع قطع النظر عن الشارع، كخروج زيد
الجاهل عن العلماء المأخوذ موضوعا لوجوب الاكرام، وعلى ذلك فبما ان ما يدل عليه
الخاص القطعي السند والدلالة خروجه عن تحت العام، انما يكون بواسطة ما ورد من
الشارع وليس تكوينيا، فما اختاره الشيخ (ره) هو الأظهر.
أما إذا كان الخاص ظني السند وقطعي الدلالة فقد أفاد الشيخ الأعظم (ره) ان تقدمه
على العام على تقدير ان تكون حجية أصالة الظهور، لأجل أصالة عدم القرينة، انما يكون
بالحكومة، واحتمل الورود وتأمل فيه.
واستدل للحكومة بان الرافع لموضوع أصالة العموم والظهور، هو ثبوت القرينة،
فان كان الخاص ظنيا فكونه مثبتا للقرينة انما يكون بالتعبد، لا بالوجدان، فلا محالة يكون
ارتفاعه تعبديا، وعلى تقدير ان يكون حجة لأجل إفادته للظن النوعي، فالخاص وارد
عليه: لان بناء العقلاء على حجية الظهور وكاشفيته عن المراد انما يكون مقيدا بعدم وجود
ظن معتبر وحجة على خلافه، فإذا ورد الخاص الذي هو حجة وظن معتبر يرتفع موضوع
أصالة الظهور وجدانا.
وأورد عليه بايرادين، أحدهما: ما عن المحقق الخراساني والمحقق صاحب الدرر
من أنه لا يعقل الحكومة في اللبيات.
322

وفيه: انه ان كان ذلك لأجل ان الموضوع في اللبيات محرز كمية وكيفية بالجزم
واليقين، فلا يمكن ان ينالها يد التصرف بأي نحو كان كما صرح به المحقق الخراساني،
فيرد عليه: ان ما ذكر يتم في الاحكام العقلية، واما في البناءات العقلائية فبما انها انما تكون
موضوعاتها الكليات، فيمكن ان يتصرف الشارع، أو العقلاء ببناء آخر على شئ يكون
ذلك موجبا لخروج ذلك الشئ عن ذلك الموضوع فتدبر.
وان كان لأجل ان الحكومة انما تكون عبارة عن كون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي
شارحا ومفسرا للدليل الآخر ولذلك لا تجرى في اللبيات.
فيرد عليه ما تقدم في ضابط الحكومة ومر انها أعم من ذلك.
الثاني: ما افاده المحقق النائيني (ره)، من أنه بناءا على أن حجية الظهور من جهة
إفادة الظن النوعي أيضا يكون التقدم بالحكومة لا بالورود، لان موضوع أصالة العموم
ظهور اللفظ في المعنى العام مع الشك في المراد، ولا ريب ان ورود الخاص بنفسه
لا يوجب ارتفاع الموضوع، بل انما يكون رافعا لموضوع أصالة العموم بتوسط اثباته
للمؤدى المخالف، وحيث إن ثبوته تعبدي فلا محالة يكون حاكما عليها لا واردا.
وفيه: ان بناء العقلاء على حجية الظهور من جهة الكاشفية والمرآتية، انما هو
بمعنى ان المقتضى لهذا البناء هو الكاشفية والمرآتية، وليس ذلك بناءا كليا غير مقيد
بشئ سوى الشك في المراد، بل انما يكون مقيدا بعدم وجود دليل معتبرا قوى على
الخلاف، وعلى ذلك فمع ورود الخاص يرتفع موضوع أصالة الظهور وجدانا، فيكون
تقدم النص بالورود لا بالحكومة.
نعم يرد على الشيخ (قده) ان لازم ذلك الورود حتى بناءا على كون حجية أصالة
الظهور لأجل أصالة عدم القرينة إذ المراد منها ليس استصحاب عدمها، بل بناء العقلاء
على عدمها عند احتمالها، وعليه فهذا البناء كالبناء على حجية أصالة الظهور ابتداءا انما
يكون مع عدم دليل معتبر على وجود القرينة فمع ورود النص يرتفع موضوعها وجدانا
لا تعبدا.
فالمتحصل ان الأقوى كون تقدم النص مطلقا انما يكون بالورود لا بالحكومة.
323

وأما إذا كان الخاص ظني الدلالة سواء أكان قطعي السند أو ظنيه، فقد اختار
الشيخ الأعظم انه يعمل بأقوى الظهورين، ظهور العام في العموم، وظهور الخاص في
التخصيص.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) من أنه يخصص العام به ولو كان ظهوره أضعف من
ظهور العام، لحكومة أصالة الظهور، في طرف الخاص على أصالة الظهور، في طرف
العام، لكون الخاص بمنزلة القرينة على التصرف في العام، كما يتضح ذلك بفرض
وقوعهما في مجلس واحد من متكلم واحد، إذ لا يشك العرف في كون الخاص قرينة
على العام، وهو (قده) لم يلتزم بذلك في شئ من المسائل الفقهية.
وفيه: انه ان ثبت قرينيته يكون ما ذكر تاما، ولكن ذلك أول الكلام، وما ذكر من
فرض وقوعهما في مجلس واحد من متكلم واحد، متين، الا انه لا يكون الخاص مطلقا
قرينة على التصرف في العام، وعدم التزامه بذلك في المسائل الفقهية لعله يكون من جهة
كون جميع الموارد في الفقه، الخاص نصا في عدم العموم، ولذا ترى انه (قده)، صرح قبل
ذلك بأسطر، بانا لا نجد من أنفسنا موردا يقدم العام من حيث هو على الخاص.
فالأقوى ما ذكره الشيخ ما لم يكن الخاص نصا في عدم ثبوت حكم العام لما
يكون متكفلا لبيان حكمه فتدبر فإنه دقيق.
لا يقال انه على هذا لم يبق فرق بين التخصيص وأخويه (الحكومة والورود).
فإنه يقال: ان الحكومة أو الورود في هذا المقام انما هو بالإضافة إلى أصالة الظهور
لا في مدلول العام، وما يقابل التخصيص انما هو فيما إذا كان ذلك بالنسبة إلى مدلول
الدليل فتدبر حتى لا تشتبه، وما ذكرناه من أن الحكومة نافية للتخصيص، انما هو في
الحكومة في المدلول، واما الحكومة في أصالة العموم فهي ملائمة معه.
حكم التعارض بين العامين من وجه
6 - إذا تعارض عامان من وجه كما في قولنا: أكرم العلماء، ولا تكرم الفساق، فان
324

كان بينهما جمع عرفي كالحكومة وما شاكل، فلا كلام ولا تصل النوبة إلى اعمال قواعد
التعارض، فهل كون دلالة أحدهما بالعموم، والآخر بالاطلاق من هذا القبيل أم لا؟
وجهان، سيأتي تفصيل القول فيه بعد ذكر اخبار الترجيح فانتظر.
وان لم يكن بينهما جمع عرفي، فقد يقال: انه ان كانت دلالة كل منهما على حكم
المجمع، بالاطلاق ومقدمات الحكمة، يسقط الاطلاقان، إذ الاطلاق انما يكون متوقفا
على اجراء مقدمات الحكمة، وحيث إن جريانها فيهما لا يمكن، وفى أحدهما دون الآخر
ترجيح بلا مرجح، فلا تجرى في شئ منهما، ففي المجمع لا يرجع إلى شئ منهما بل
انما يرجع إلى الأصول.
ولكن يرد عليه ان مقدمات الحكمة تجرى في كل منهما في صورة الانفصال، فان
من مقدمات الحكمة عدم البيان متصلا، لا عدمه ولو منفصلا، فمقدمات الحكمة جارية
فيهما، غاية الامر يعلم بعدم مطابقة المراد الجدي لكلا الاطلاقين، وهذا لا يمنع عن اجراء
مقدمات الحكمة، فعلى هذا حكم هذه الصورة حكم ما إذا كانت دلالة كل منهما
بالوضع.
وستعرف ان حكم ما إذا كانت دلالة أحدهما بالوضع ودلالة الآخر بالاطلاق أيضا
حكم هذه الصورة.
ثم إن المشهور بين الأصحاب بل المتسالم عليه بينهم، انه في العامين من وجه
يحكم بالتساقط في مورد الاجتماع، والرجوع إلى العام الفوق لو كان، والا فإلى الأصل.
أقول: بناءا على المختار من أن الأصل في المتعارضين هو التخيير لا التساقط كما
سيمر عليك، يكون مقتضى القاعدة هو التخيير.
وانما الكلام في المقام في الشمول الاخبار العلاجية لهما وعدمه، وفيه مسالك.
أحدها: انها لا تشمل العامين من وجه ولعله المشهور.
الثاني: انها تشملهما الا انه لا يجوز الرجوع إلى المرجحات الصدورية، بل يجب
الرجوع إلى المرجحات الجهتية والمضمونية اختاره المحقق النائيني (ره).
الثالث: انها تشملهما وتجري فيهما جميع المرجحات وهو المختار.
325

يشهد للأخير ما سنذكره.
واستدل للأول: بان الاخبار العلاجية سؤالا وجوابا ظاهرة في اخذ أحد الخبرين
رأسا وترك الآخر كذلك لاحظ، قوله يأتي عنكم خبران متعارضان أو مختلفان بأيهما
آخذ، وقوله (ع) خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر، وعلى الجملة الناظر في
الاخبار العلاجية يرى أن مورد السؤال والجواب ومحطهما الخبران المختلفان بجميع
المضمون فلا تشمل العامين من وجه.
والجواب عنه يظهر مما سنذكره في بيان المختار.
واستدل المحقق النائيني (ره) لما ذهب إليه: بأنه ان أريد من الرجوع إلى المرجح
السندي طرح الفاقد مطلقا فهو بلا وجه لعدم المعارض له في مادة الافتراق، والمفروض
حجيته مع قطع النظر عن المعارض، فطرحه في غير مادة الاجتماع طرح للحجة بلا وجه،
وان أريد منه طرحه في خصوص مادة الاجتماع، فهو غير جائز، لان الخبر الواحد
لا يتبعض في مدلوله من حيث السند، إذ لا يمكن ان يكون الخبر صادرا في بعض مدلوله
وغير صادر في بعضه الآخر.
وفيه: ان المستبعد هو التعبد بصدور خبر، وعدم صدوره، واما التعبد بان الخبر
صدر بنحو لا يشمل مورد الاجتماع - مثلا - إذا ورد - أكرم العلماء - ولا تكرم الفساق،
يتعبد الشارع بان الخبر الأول، لم يكن حين ما صدر هكذا بل كان مع قيد (غير الفاسق) أو
(العدول) ولم ينقله بعض المحدثين أو أسقطه المخالفون، وما شاكل فلا نستبعده، ومفاده
الاخبار العلاجية لو شملت العامين من وجه يكون من هذا القبيل وسيجيئ توضيحه.
وحق القول في المقام ان يقال في جميع تلك الصور الثلاث، انه تارة يكون
العامان قطعيين، وأخرى يكونان ظنيين، وثالثة يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا.
اما الصورة الأولى: فحيث ان الاخبار العلاجية ظاهرة في أن موردها ما إذا كان
التعارض في السند بحيث يكذب كل من المتعارضين الآخر، فلا محالة لا تشمل هذه
الصورة، واما ظهور كل منهما فيعارض ظهور الآخر فيجرى فيه ما سنذكره فيما تقتضيه
القاعدة عند تعارض الدليلين، وستعرف انها تقتضي التخيير، فيحكم بالتخيير لأجل ذلك.
326

واما الصورة الثانية: فبعد التحفظ على أمرين 1 - انه يمكن ثبوتا ان يكذب المخبر
في بعض ما يخبر عنه، أو يشتبه فيه، أو يتصرف فيه بالغاء قيد أو زيادته مثلا إذا جاء بعض
الحجاج، يخبر بمجئ جميعهم 2 - ان من يخبر عن كلي ذي افراد ينحل خبره إلى اخبار
عديدة حسب ما له من الافراد - مثلا - إذا قال جاء الحجاج يصح لنا ان نقول انه أخبر
بمجئ زيد إذا كان منهم، لا يقال لازم ذلك أنه لو أخبر كذبا بمجيئ الحجاج وهم الف
حاج يكون ذلك الف كذب والف محرم مع أنه ليس الا واحدا. فإنه يجاب عنه بان
الحكم الشرعي ربما يترتب على الدال، كالكذب، وربما يترتب على لمدلول كالغيبة ما
أفيد يتم في الثاني دون الأول.
نقول: ان العامين من وجه بالنسبة إلى مورد افتراق كل منهما لا معارض له، فيشمله
أدلة حجية الخبر، وبالنسبة إلى مورد الاجتماع يقع التعارض بينهما ولا مانع من الرجوع
إلى الاخبار العلاجية وطرح أحدهما في خصوص المجمع أو اعمال القاعدة فيه على ما
سيأتي.
وان أبيت عن صدق الخبر على البعض، لا ينبغي التأمل في أن المأخوذ في لسان
الاخبار العلاجية، وان كان هو الخبر الا انه بمناسبة الحكم والموضوع يكون المراد منه
مفاده ومؤداه، ولا ريب في أن البعض مفاد الخبر ومؤداه.
واما الصورة الثالثة: فان كان القطعي، قطعي السند والدلالة، فلا اشكال في تقدمه
على الظني، للعلم بعدم مطابقته بما له من الظهور للواقع، واما ان كان قطعي السند وظني
الدلالة، فلا يمكن الرجوع إلى الاخبار العلاجية لفرض مقطوعية سند أحدهما: كما
لا يصح الرجوع إلى اخبار العرض على الكتاب والسنة على ما سيأتي في آخر هذا
المبحث، فلا بد من اعمال قواعد، التعارض بين دلالة القطعي، ودلالة الظني أو سنده
وستعرف انها تقتضي التخيير، فيما أمكن والتساقط فيما لا يمكن.
ما تقتضيه القاعدة عند تعارض الأدلة والامارات
المبحث الثاني: فيما تقتضيه القاعدة في الخبرين المتعارضين، وانه التساقط كما
327

هو المشهور، أو التخيير كما هو المختار أو غيرهما ويقع الكلام في مقامين، الأول: في
تعارضهما على القول بالطريقية، الثاني في تعارضهما على القول بالسببية.
اما الأول: فالكلام فيه في موردين، أحدهما: بالنسبة إلى مؤداهما ثانيهما: في نفى
الثالث.
اما المورد الأول: فالأقوال فيه خمسة أحدها حجيتهما معا.
واستدل له بوجود المقتضى وعدم المانع، اما الأول: فلان موضوع الحجية هو
الخبر الموثق الذي يحتمل اصابته شخصا ويغلب اصابته نوعا وهو موجود متحقق بقيوده
في الفرض، إذ الموضوع كل واحد مستقلا لا منضما إلى غيره، واما الثاني: فلان العلم
الاجمالي الذي توهم مانعيته يجامع مع احتمال إصابة كل واحد منهما الذي هو موضوع
الحجية، لاكل منهما منضما إلى الآخر كي، يعلم بعدم الإصابة، فلا يعقل ان يكون مانعا
عنه، وهذا بخلاف العلم التفصيلي كما هو واضح.
وأورد عليه بايرادين، الأول: ما عن المحقق اليزدي والأصفهاني: بان المقتضى
لأصل جعل الحجية، هو المصلحة الواقعية، وهي واحدة على الفرض، واحتمال الإصابة
شخصا وغلبة الإصابة نوعا بمنزلة الشرط لتأثير ذلك المقتضى الوحداني، وتعدد الشرط
لا يجدى في تعدد المقتضى بالفتح، مع وحدة مقتضيه.
وفيه: ان الحجية لا تكون دائرة مدار وجود المصلحة الواقعية، بل لا يعقل ذلك إذ
عليه مع عدم احراز وجودها لا تكون الحجية واصلة ومعلومة، ومع الاحراز لا يكون
حجة لوصول الواقع، بل تدور مدار احتمال وجودها، وان شئت قلت: ان المقتضى
والملاك لجعل الحجية، التحفظ على المصلحة الواقعية المتوقف على احتمال وجودها،
وحيث انه في كل خبر يحتمل ذلك فالمقتضي للجعل في كل منهما موجود.
الثاني: ما افاده الأستاذ: وهو ان لازم حجيتهما معا جعل العلمين بشيئين متنافيين أو
متناقضين، وهو محال، إذ لازم جعل العلم بالوجوب مثلا، العلم بعدم الحرمة، ومع جعل
العلم بها، يلزم جعل العلم بها وعدم العلم بها وهو محال.
328

وفيه: ان جعل ما ليس بعلم علما جعل اعتباري فلا تمانع ولا تدافع بين العلمين
المجعولين: لأن الاعتبار خفيف المؤنة، نعم تقع المضادة بينهما بواسطة المنتهى أي لزوم
حركة العبد على طبق ما أدت إليه الحجة وستعرف توضيحه.
فالصحيح في الايراد عليه ان يقال ان التعبد بهما مع حجية ظهور كل منهما مستلزم
لتنجيز الواقع مع العذر عنه، فيما إذا كان أحدهما متضمنا للوجوب والآخر لعدمه،
ولتنجيز الحكمين المتنافيين، فيما إذا تضمن أحدهما وجوب شئ والآخر حرمته،
ولازمه العقاب على كلا التقديرين، سواء أفعل أم لم يفعل، وهو كما ترى.
ومع الغاء ظهورهما والحكم بالاجمال، مستلزم للالتزام بجعل الحجية مع عدم
ترتب اثر عليها، وهو لغو وصدوره من الحكيم محال ومع الجمع والتأويل، كما في
مقطوعي الصدور على مسلك الشيخ الأعظم، لا وجه له، سوى ما اشتهر
قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح
من أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح - وهو غير تام - مثل ما افاده الشيخ في مقطوعي
الصدور كما سيمر عليك.
وتنقيح القول في هذه القاعدة يقتضى تقديم أمرين.
الأول: ان الجمع بين الدليلين، تارة يكون عرفيا متداولا بحيث لا يكون الخبران
متعارضين بحسب المتفاهم العرفي، كما في العام والخاص، والحاكم والمحكوم،
وما شاكل، والضابط كون مفاد أحدهما قرينة عند العرف على مفاد الآخر، وهذا الجمع
قد مر الكلام فيه، وعرفت انه متين.
وأخرى يكون جمعا تبرعيا محضا بحيث لا يكون مرضيا عند العرف لا بلحاظ مفاد
الخبرين ولا بلحاظ الخارج، وكان حمل الخبرين على ما حمل عليه كل منهما بلا مرجح،
ولا مزية أصلا، والظاهر خروج هذا المورد عن مورد القاعدة، ولا يظن بأحد ممن نسب
إليه هذه القاعدة الالتزام به، بل صريح كلام الأحسائي المدعى للاجماع عليها خلاف
329

ذلك لاحظ ما نقل عنه الشيخ في الرسائل.
وثالثة: يكون الجمع بنحو لا يأبى عنه المتفاهم العرفي بالكلية، كما لو كان لكل من
الخبرين نص وظاهر، فيحمل ظاهر كل منهما على نص الآخر، مثلا، إذا ورد، لا تجهر
بالقراءة في ظهر يوم الجمعة، وورد يجوز الجهر بالقراءة في ظهر يوم الجمعة: فان الأول
نص في طلب الترك وظاهر في الحرمة، والثاني نص في الجواز المطلق وظاهر في
الإباحة الخاصة، فيرفع اليد عن ظاهر كل منهما بنص الآخر فتكون النتيجة هي الكراهة،
وكما لو كان لكل من المتعارضين قدر متيقن في الإرادة من الخارج، كما إذا دل خبر على
ولاية الفقيه على أموال الأيتام، وورد أيضا لا ولاية للفقيه عليها، فان المتيقن من الأول
الفقيه العادل ومن الثاني العالم الفاسق الخائن، فيجمع بينهما بحمل الأول على العادل،
والثاني على الفاسق والظاهر أن من يدعى أولوية الجمع من الطرح أراد هذا القسم.
وعليه فلا مورد لاستدلال الشيخ (ره) لبطلان القاعدة من الوجوه الأربعة 1 - سؤال
الرواة عن حكم المتعارضين من الاخبار فيما ورد في باب العلاج، مع ما هو المركوز في
اذانهم من وجوب العمل بالدليل الشرعي مهما أمكن فلو لم يفهموا عدم الامكان لم
يكن معنى لعجزهم. 2 - الأجوبة التي في الاخبار فإنه لم يقع فيها الجواب الا بالطرح
ترجيحا أو تخييرا، وحملها على ما لو لم يمكن الجمع التبرعي حمل على فرد نادر جدا بل
معدوم 3 - الاجماع العملي حتى من القائلين بالقاعدة، وهذا هو الفقه فراجع هل ترى
موردا من الموارد الجمع التبرعي التزم واحد منهم بالجمع، دون الترجيح أو التخيير 4 -
لزوم الهرج والمرج في الفقه واحداث فقه جديد لا حظ كثرة المتعارضات وفتاوى
الأصحاب في مواردها.
فان هذه الوجوه الأربعة تتم إذا كان مورد كلام الأصحاب القائلين بالقاعدة هو
الجمع التبرعي المحض لا الجمع الذي أشرنا إليه.
الثاني: ان المتعارضين قد يكونان قطعي الصدور، وقد يكونان ظني السند، وثالثة
يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا.
اما الأخير فقد وردت روايات دالة على أن ما خالف الكتاب والسنة لابد من
330

طرحه وليس بحجة فالظني غير حجة.
واما الأول: فقد التزم الشيخ الأعظم (ره) فيه بلزوم التأويل والحكم بإرادة المعنى
المؤول، بدعوى ان القطع بالصدور قرينة على إرادة خلاف الظاهر.
ويرده ان ذلك قرينة صارفة عن إرادة المعنى الظاهر، ولكن تعين إرادة المعنى
المؤول يحتاج إلى قرينة معينة، ومع عدمها يحكم بالاجمال، اللهم الا في الموردين
الذين قلنا ان مورد كلام من التزم بالقاعدة هو ذينك الموردين - وهما - كون كل من
المتعارضين له نص وظاهر، وما إذا كان لكل منهما مورد متيقن، فيقال ان تيقن مورد
ونصوصيته قرينة معينة للمراد ومحل الكلام في المقام هو الفرض الثاني، وهو ما لو كانا
ظني السند.
إذا عرفت هذين الامرين، فاعلم أنه قد استدل لقاعدة الجمع مهما أمكن أولى من
الطرح بوجوه.
الأول: الاجماع وقد ادعاه ابن أبي جمهور الأحسائي في كتاب عوالي اللئالي
ويظهر من غيره.
وفيه: أولا: انه غير ثابت، بل عن الفريد البهبهاني دعوى الاجماع على فساد هذه
القاعدة.
وثانيا: ان مدرك المجمعين معلوم أو محتمل ومثل هذا الاجماع ليس بحجة.
الثاني: ما ذكره الشهيد الثاني (ره) وغيره، وهو ان الأصل في الدليلين الأعمال
فيجب الجمع بينهما مهما أمكن لاستحالة الترجيح بلا مرجح، بيانه: ان الامر يدور بين
أمور ثلاثة، امر طرحهما، أو الاخذ بأحدهما وطرح الآخر، أو العمل بهما، والأول مخالف
للأصل الثابت بالدليل، والثاني مخالف للعقل، فيتعين الثالث.
وفيه: ان الطرح ليس مخالفا للأصل كما مر في تقريب القول بالتساقط فإنه ان بنى
عليه فإنما يلتزم بتخصيص دليل الحجية فلا يلزم مخالفة الأصل، مع أن الالتزام بالتخيير
بالنحو الذي نبينه شق رابع لا محذور فيه، أضف إليه ان العمل بهما في تمام مدلولهما غير
ممكن، وبكل منهما في بعض مدلوله يحتاج إلى دليل آخر مفقود.
331

الثالث: ما عن العلامة (ره) في النهاية: وهو ان دلالة اللفظ على تمام معناه أصلية
وعلى جزئه تبعية، واهمال الثاني على تقدير الجمع، أولى من اهمال الأول اللازم على
تقدير الطرح.
وفيه: أولا انه مجرد استحسان لا يصلح مدركا للحكم الشرعي: وثانيا، انه من
الجمع بين المتعارضين يلزم الغاء أصالة الظهور في كل منهما ورفع اليد عن حجتين. ومن
الالتزام بالتخيير أو الترجيح يلزم طرح حجة واحدة وهي سند الآخر، ولا ريب ان الثاني
أولى، وتمام الكلام في رسائل الشيخ (ره) فالمتحصل عدم تمامية القاعدة.
وجه حجية أحد الخبرين لا بعينه ونقده
ثانيها: ما افاده المحقق الخراساني قال التعارض وان كان لا يوجب الا سقوط أحد
المتعارضين عن الحجية رأسا حيث لا يوجب الا العلم بكذب أحدهما، فلا يكون هناك
مانع عن حجية الآخر الا انه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعا إلى أن قال لعدم التعين
في الحجة أصلا انتهى فهو يختار حجية أحد الخبرين بلا عنوان.
ومحصل ما يستفاد من كلامه في وجه ذلك، ان المقتضى للحجية في كل منهما
وهو احتمال الإصابة موجود في كلا الخبرين، والمانع وهو العلم بكذب أحدهما لا يكون
مانعا عن حجيتهما بل عن حجية أحدهما، وحيث انه لا يكون مانعا عن حجية أحدهما
معينا لتساوي النسبة إلى المقتضيين، فلا محالة يؤثر أحد المقتضيين بلا عنوان في مقتضاه
واحدهما بلا عنوان يسقط عن التأثير.
ويرد عليه أولا ما مر من عدم مانعية العلم الاجمالي حتى عن أحدهما، وثانيا: ان
المردد بالحمل الشايع واحدهما بلا عنوان في الواقع لا تحقق له ولا وجود ولا ماهية فلا
شئ حتى يكون معروض الحجية، وثالثا: ان الحركة على طبق ما أدت إليه الحجة التي هي
الأثر المترقب منها نحو المبهم والمردد وغير المتعين غير معقول.
ثالثها: حجية الموافق منهما للواقع، وقيل في توجيهها، ان كلا من الخبرين وان كان
332

في مقام الاثبات حجة، الا ان الحجية الفعلية الموجبة لتنجز الواقع شان الخبر الموافق
المعلوم ثبوته اجمالا فتندرج المسألة في اشتباه الحجة باللاحجة.
ويندفع: بان حجية أحدهما الموافق للواقع، ان أريد ما علم بموافقة أحدهما
للواقع، فمضافا إلى أنه غير مورد البحث فان محل البحث ما لو علم بعدم حجية أحدهما
من دون ان يعلم بالحكم الواقعي لاحتمال كذبهما معا، انه لو علم بالحكم الواقعي لا مورد
للتعبد وجعل الحجية، وان أريد به ما احتمل فيه ذلك فهو في كل منهما كذلك.
رابعها: ما هو المشهور وهو التساقط، وقد استدل له بوجهين، الأول: ما قيل من
امتناع التخيير وسيمر عليك ما فيه.
الثاني: ما افاده المحقق اليزدي (ره)، وهو ان بناء العرف والعقلاء على ذلك فانا
نريهم متوقفين عند تعارض طرقهم المعمول بها عندهم فان من أراد الذهاب إلى بغداد
مثلا واختلف قول الثقات في تعيين الطريق إليه يتوقف عند ذلك حتى يتبين له الامر.
وفيه: انه لا شبهة في أن بناء العرف والعقلاء في صورة انسداد باب العلم ووجود
المصلحة الملزمة في المقصد على العمل بأحد الطريقين، ولا يتوقف أحد منهم في العمل.
القاعدة تقتضي الحكم بالتخيير
خامسها: القول بالتخيير، وتقريبه، ان التخيير على اقسام ثلاثة، الأول: التخيير
المجعول ابتداءا كما في موارد جملة من الكفارات. الثاني: التخيير الثابت في مورد
التزاحم، الذي يحكم به العقل، اما من باب سقوط الخطابين واستكشاف خطاب تخييري
من الملاكين، أو سقوط اطلاقهما، وثبوت التكليف في كل منهما مشروطا بعدم الاتيان
بالآخر على اختلاف المسلكين. الثالث: التخيير الثابت من جهة الاقتصار على المتيقن في
رفع اليد عن ظواهر خطابات المولى، كما لو ورد عام له اطلاق أحوالي، كما في اكرام كل
عالم فان له مع قطع النظر عن عمومه الافرادي، اطلاقا احواليا، ويدل على لزوم اكرام كل
فرد في كل حال حتى حال اكرام الآخر، ثم علمنا من الخارج عدم اكرام زيد وعمرو مثلا
333

معا، ودار الامر بين ان يكونا خارجين عنه رأسا فلا يجب اكرامهما أصلا، وبين ان يقيد
اطلاقه الأحوالي بالنسبة إلى كل منهما فيجب اكرام كل منهما عند ترك اكرام الآخر، ومن
المعلوم ان المتعين هو الثاني: لان الضرورات تتقدر بقدرها فالمقدار المعلوم خروجه عن
تحت العام، هو عدم وجوب اكرامهما معا، واما الزايد عن ذلك، فمقتضى عموم العام هو
لزوم اكرام كل منهما منفردا.
إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن المدعى جريان القسم الثالث في المقام دون
الأولين، بتقريب: ان مقتضى اطلاق أدلة حجية الخبر حجية كل منهما مطلقا، ووجوب
العمل به سواء عمل بالآخر، أم لم يعمل به، وقد علمنا من جهة ما تقدم من امتناع
حجيتهما معا، انه لم يجعل الشارع الحجية لهما مطلقا، فيدور الامر بين ان يسقطا عن
الحجية رأسا، وبين ان يقيد حجية كل منهما بعدم العمل بالآخر فتثبت الحجية تخييرا،
وقد عرفت ان المتعين هو الثاني: ولعل مراد المحقق الخراساني من حجية أحدهما بلا
عنوان ذلك.
وقد أورد عليه بايرادات، الأول: انه حيث يستحيل الاطلاق في المقام فيستحيل
التقييد: إذ التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، فإذا لم يمكن الاطلاق ثبوتا
كيف يمكن التقييد في مقام الاثبات.
وفيه: انه في موارد العدم والملكة امتناع أحدهما لا يستلزم امتناع الآخر، بل ربما
يكون الآخر ضروريا، مثلا: الجهل في المبدأ الاعلى محال والعلم ضروري، والغنى، في
الممكن ممتنع، والفقر ضروري وهكذا، واما في الاطلاق والتقييد فإذا امتنع أحدهما
لمحذور فيه، وكان ذلك المحذور في الآخر أيضا، كان ممتنعا، مثلا تقييد وجوب
الصلاة بالعاجز ممتنع لقبح التكليف بما لا يطاق، وهذا المحذور موجود في الاطلاق فهو
ممتنع، ولو لم يكن ذلك المحذور في الآخر، كما في تخصيص الولاية بالفاسق،
المستلزم لترجيح المرجوح على الراجح، كان الآخر ضروريا لامتناع الاهمال النفس
الأمري، وفى المقام بما ان المحذور المتقدم انما يكون في الاطلاق وهو ليس في التقييد
فلا يكون محالا.
334

الثاني: ان المقيد في المقام بما انه ضروري واجمال المقيد الضروري كالمتصل
يسرى إلى العام، فلا وجه للتمسك باطلاق أدلة الحجية.
وفيه: أولا انه ليس ضروريا كيف وقد التزم جمع كما مر بحجيتهما معا، وثانيا: ان
ذلك المحذور المتقدم لا يكون مجملا بل هو واضح ومختص بصورة الاطلاق.
الثالث: ان لازم الحجية بالنحو المذكور أي المقيدة بعدم العمل بالآخر، حجيتهما
معا عند عدم العمل بهما لتحقق كلا الشرطين، وقد أقمتم البرهان على امتناع ذلك.
وفيه: ان حجية كل منهما مشروطة ومقيدة حتى بعد وجود الشرط غير الحجية
المطلقة، إذ المانع عن حجيتهما بنحو الاطلاق كان من ناحية عدم امكان العمل بهما،
واستحالة العقاب على كل من الفعل والترك، وهذا لا يترتب على حجيتهما بنحو التقييد،
إذ لو عمل بإحداهما فقد امتثل ووافقها فلا عقاب من ناحيتها، وتسقط الأخرى عن
الحجية لانعدام شرطها، فلا عقاب لعدم كون ما أدت إليه حينئذ منجزا فلا محذور،
فتحصل ان الأقوى هو التخيير.
نفى الثالث بالمتعارضين
واما المورد الثاني: فقد وقع الكلام في أنه إذا تعارض أمارتان، هل يحكم بنفي
الثالث، أم لا؟ وبماذا ينفى الثالث، فقد ذهب الشيخ الأعظم (ره) وتبعه المحقق النائيني (ره) انه
ينفى الثالث بهما.
واستدل له المحقق النائيني (ره)، بان المتعارضين يشتركان في نفى الثالث بالدلالة
الالتزامية، وهي وان كانت فرع الدلالة المطابقية وجودا، ولكنها ليست فرعها في الحجية،
- وبعبارة أخرى - الدلالة الالتزامية للكلام تتوقف على دلالته التصديقية أي دلالته على
المؤدى، واما كون المؤدى مرادا فهو مما لا يتوقف عليه الدلالة الالتزامية، فسقوط
المتعارضين عن الحجية في المؤدى، لا يلازم سقوطهما عن الحجية في نفى الثالث، لان
سقوطهما في المؤدى انما كان لأجل التعارض غير المتحقق في نفى الثالث.
335

ثم إن المحقق النائيني (ره)، استثنى من ذلك ما لو كان التعارض بينهما ناشئا عن
العلم الخارجي بكذب أحدهما، ولم يكن التعارض ذاتيا، كما في الخبرين الدال أحدهما
على وجوب الجمعة والآخر على وجوب الظهر، من جهة ان كلا من الخبرين ليس له دلالة
التزامية على عدم وجوب غير المؤدى.
أقول: يرد عليه ان الدلالة الالتزامية كما تكون تابعة للدلالة المطابقية وجودا تابعة
لها حجية، مثلا لو أخبر زيد بفري أوداج عمرو، فيدل خبره بالدلالة الالتزامية على موته،
أو أخبر بإصابة البول ببدنه، فيدل على نجاسة بدنه بالدلالة الالتزامية فلو علمنا من الخارج
خطأ المخبر في المؤدى، ولكن احتمل موته في المثال الأول، ونجاسة بدنه في المثال
الثاني لسبب آخر، فهل يتوهم أحد ان يكون الخبران ساقطين في مؤداهما عن الحجية
واما في مدلولهما الالتزامي فيؤخذ بهما ويحكم بالموت والنجاسة.
والسر في ذلك أن المدلول الالتزامي ليس هو الموت والنجاسة بقول مطلق، بل
الحصة الخاصة من كل منهما الملازمة للمؤدى، ففي المثال الأول المخبر عنه بالدلالة
الالتزامية الموت المستند إلى فرى الأوداج لا مطلقه.
وعليه، ففي المقام لو كان مفاد أحد المتعارضين وجوب شئ ومفاد الآخر حرمته
يكون المدلول الالتزامي للأول، عدم الإباحة الملازم للوجوب، والمدلول الالتزامي
للآخر عدم الإباحة الملازم للحرمة، فكما انه لا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة كذلك
لا يمكن اجتماع عدمي الإباحة الملازمين لهما.
وتوهم انه لا تنافى بين العدمين الا باعتبار ملزومهما، وعليه فان أريد التعبد
بالملزومين، أو التعبد باللازمين المقيدين بهما لم يكن ممكنا لفرض التنافي بينهما، واما لو
أريد التعبد بذات اللازمين بحيث يكون التقيد داخلا والقيد خارجا فلا محذور فيه.
مخدوش فان المخبر عنه هو المقيد لا المطلق والتعبد به غير ممكن.
ثم انه قد يتوهم نفى الثالث بالبينتين المتعارضتين في بعض موارد التداعي، ولكن
تنقيح القول في تلك المسائل وبيان انه لا ينفى الثالث بهما موكول إلى محل آخر.
واما المحقق الخراساني فحيث انه يرى حجية أحدهما لا بعينه فهو يرى أنه ينفى
336

الثالث بما هو حجة ولكن قد عرفت ضعف المبنى.
واما على المختار من حجيتهما تخييرا فنفى الثالث انما يكون بهما من دون ان
يتوجه محذور.
القاعدة الأولية في المتعارضين على الموضوعية في الامارات
واما المقام الثاني: وهو بيان مقتضى القاعدة الأولية عند تعارض الامارتين على
القول بالسببية، فالمشهور بين الأصحاب، انه التخيير، وملخص القول فيه، انه بناءا على ما
اخترناه من أنها تقتضي التخيير حتى بناءا على القول بالطريقية، فالحكم بالتخيير على هذا
المسلك في غاية الوضوح.
واما على ما هو المشهور من الحكم بالتساقط، فيقع الكلام فيما يقتضيه الأصل
على القول بالسببية في الامارات وملخص القول فيه، ان السببية في الامارات تطلق على
معان.
أحدهما: انه مع قطع النظر عن قيام الامارة، لا مصلحة، ولا مفسدة، ولا حكم، في
الواقع، وانما الملاك والحكم تابعان لقيام الامارة ومع قطع النظر عنها لاحكم في الواقع
وهو منسوب إلى الأشاعرة.
ثانيهما: ما نسب إلى المعتزلة وهو ان قيام الامارة على وجوب شئ أو حرمته سبب
لحدوث مصلحة، أو مفسدة في المؤدى غالبة على المصلحة أو المفسدة الواقعية (على
فرض وجودها) المقتضية لجعل الوجوب أو الحرمة، وجامع القسمين كون مؤديات
الامارات احكام واقعية وليست ورائها احكام، وهذان القسمان من التصويب الباطل عندنا
بالاجماع.
ثالثها: اقتضاء الامارة بقيامها على وجوب فعل أو حرمته لحدوث مصلحة أو
مفسدة في المؤدى يقتضى وجوبه أو حرمته ظاهر في المرتبة المتأخرة عن الشك في
الواقع مع بقاء الحكم الواقعي الناشئ عن المصلحة أو المفسدة الواقعية القائمة بذات
337

الفعل في المرتبة السابقة على الشك على حاله من الفعلية بلا مضادة بينهما وهذه هي
السببية التي يقول بها جمع من المخطئة.
رابعها: ان قيام الامارة لا يكون سببا لحدوث المصلحة أو المفسدة في المؤدى
تقتضي وجوبه أو حرمته ولو ظاهرا ولكن في سلوك الامارة والتطرق بها مصلحة
يتدارك بها ما يفوت من الواقع.
ومحل الكلام في المقام انما هو السببية بالمعنيين الأخيرين، وظاهر كلام
شيخ الأعظم ان محل كلامه هو السببية بالمعنى الثالث قال.
هذا كله على تقدير ان يكون العمل بالخبر من باب السببية بان يكون قيام الخبر
على وجوب شئ واقعا سببا شرعيا لوجوبه ظاهرا على المكلف انتهى.
وقد اختار الشيخ ان الأصل على هذا المبنى هو التخيير نظير التخيير في
المتزاحمين، وأجاب عما استدل به على التساقط، بان العمل بالخبرين معا ممتنع لفرض
التعارض، وبأحدهما تعيينا ترجيح بلا مرجح، وبأحدهما لا بعينه لا واقع له، وبأحدهما
التخييري لا يدل الكلام عليه إذ لا يجوز إرادة الوجوب التعييني بالنسبة إلى غير
المتعارضين، والتخييري بالنسبة إلى المتعارضين من لفظ واحد.
: بما حاصله ان الدليل انما يدل على وجوب العمل بكل منهما مشروطا بالقدرة،
وحيث إن العمل بكل منهما مع العمل بالآخر غير مقدور فيخرج عن تحت الدليل،
والعمل به بدون العمل بالآخر مقدور فيكون واجبا، ونتيجة ذلك وجوب العمل بكل
منهما في فرض عدم العمل بالآخر، وهذا هو التخيير، وهو ليس من استعمال اللفظ، في
معنيين في شئ.
وأورد عليه المحقق الخراساني بما حاصله: ان دليل حجية الخبر مثلا الموجب
لحدوث الملاك وجعل الحكم ظاهرا على المؤدى انما يدل في مورد ثبوت الطريق
والحجة، والحجية انما تكون مجعولة للخبر الذي يحتمل الصدق والكذب، وحيث يعلم
بعدم مطابقة أحد الخبرين للواقع، فيعلم انه لا يكون هناك حجتان وطريقان فلا يحدث
ملاكان ولا حكمان، بل أحدهما طريق والمجعول ظاهرا حكم واحد فليس من باب
338

التزاحم في شئ - وبعبارة أخرى - ان دليل حجية الخبر، اما بناء العقلاء، أو الآيات،
والروايات، والمتيقن من بناء العقلاء غير المتعارضين، وظاهر الآيات والروايات لو لم
نقل حجية الخبر الذي يظن بموافقته للواقع، هو الخبر الذي لم يعلم اجمالا أو تفصيلا
بعدم مطابقته للواقع، وعلى هذا فلا مقتضى للسببية فيهما، فالتمانع بين الحكمين في مقام
الجعل لا في مقام الامتثال فلا يكون من باب التزاحم.
ثم قال لو سلمنا وجود المقتضى للسببية فيهما وكونهما سببين لجعل حكمين
ظاهريين، فإنما هو فيما إذا قاما على حكمين الزاميين، كوجوب ضدين، ووجوب فعل
وحرمته، وأما إذا قام أحدهما على حكم الزامي والآخر على حكم غير الزامي لا يكون من
باب التزاحم، إذ ما لا اقتضاء فيه لا يصلح ان يزاحم ما فيه الاقتضاء.
وان قيل إن الحكم غير الإلزامي الثابت بالامارة ظاهرا انما هو حكم غير الزامي
ناش عن الاقتضاء له لا عن اللا اقتضائية فيزاحم حينئذ الحكم الإلزامي.
أجبنا عنه بأنه حينئذ يحكم فعلا بغير الإلزامي لكفاية عدم تمامية الإلزامي للحكم
بغير الإلزامي، نعم لو قلنا بوجوب الالتزام بما يؤدى إليه من الاحكام كان الخبران الدالان
على حكم الزامي وحكم غير الزامي من قبيل المتزاحمين بالنسبة إلى وجوب الالتزام لكنه
لا دليل عليه.
ولكن يرد على المحقق الخراساني، ما تقدم من أن العلم الاجمالي، لا يصلح مانعا،
فإنه لا يوجب معلومية كذب أحدهما المعين، فكل منهما محتمل للصدق والكذب،
فيشمله دليل الحجية، وليسا هما معا موضوعا واحدا للحجية كي يقال نعلم بعدم مطابقة ما
يجعل له الحجية، للواقع، فراجع ما ذكرناه.
فالصحيح ان يقال، انه بناءا على القول بالسببية بالمعنى الثالث، فتارة تكون
الامارتان، مؤديتين إلى وجوب الضدين، بان تكون إحداهما دالة على وجوب أحد
الضدين، والأخرى مؤدية إلى وجوب الضد الآخر، وأخرى تكون إحداهما مؤدية إلى
حكم الزامي كالوجوب والأخرى مؤدية إلى حكم الزامي آخر ضده كالحرمة، وثالثة،
تكون إحداهما مؤدية إلى وجوب شئ والأخرى مؤدية إلى وجوب شئ آخر، وعلمنا
339

من الخارج عدم وجوبهما معا، ورابعة، تكون إحداهما مؤدية إلى حكم الزامي، والأخرى مؤدية إلى عدمه ونقيضه.
اما في الصورة الأولى: فحيث ان المكلف لا يتمكن من امتثالهما فيحصل له علم
اجمالي، بعدم ثبوت أحدهما، ولكن هذا العلم لا يوجب أزيد من احتمال مخالفة كل من
الخبرين في نفسه للواقع، فكل منهما واجد للمصلحة فيجرى فيهما ما يجرى في ساير
موارد التزاحم من التخيير.
ودعوى انه مع العلم الاجمالي بكذب أحدهما يكون أحدهما بلا مصلحة، لان ما
فيه المصلحة هو الخبر المحتمل للصدق والكذب.
مندفعة: بان العلم الاجمالي لا يوجب معلومية الكذب في أحدهما المعين فكل
منهما محتمل للصدق والكذب فيشمله دليل الحجية.
ودعوى انه مع العلم الاجمالي المشار إليه يعلم بان الثابت في الواقع أحد الحكمين
فمن أين يستكشف المصلحة في كل منهما.
مندفعة بان طريق استكشافها طريق استكشاف الملاك في ساير المتزاحمين، وهو
اطلاق المادة.
واما في الصورة الثانية: فالأظهر سقوط الحكمين والحكم بالإباحة فان مقتضى
الاطلاقات ثبوت المصلحة أو المفسدة في مؤدى كل منهما فيقع التزاحم بين الملاكين في
التأثير، فلا محالة يتساقطان: لان المنشأ للوجوب هي المصلحة غير المزاحمة بالمفسدة،
كما أن منشأ الحرمة هي المفسدة غير المزاحمة بالمصلحة فمع وجودهما معا يسقطان ولا
يؤثر شئ منهما في الالزام فيحكم بالإباحة.
واما في الصورة الثالثة: فيستكشف من العلم بعدم ثبوت المؤديين حتى بهذا
العنوان، ان المصلحتين الحادثتين بسبب قيام الامارتين بنحو لا يمكن استيفائهما معا، فلا
محالة يقع التزاحم بين الحكمين فيحكم بالتخيير.
واما في الصورة الرابعة: فان قلنا بان الحكم غير الإلزامي حتى الإباحة ناش عن
مصلحة مقتضية لجعله فلا محالة يقع التزاحم بين المقتضيين والنتيجة هو عدم الالزام،
340

وان قلنا بان الإباحة مثلا ناشئة عن عدم الاقتضاء فيكون مقتضى القاعدة الحكم بالالزام إذ
لا يزاحم عدم المقتضى مع المقتضى.
ولكن الأظهر هو الأول إذ لو كان الحكم الواقعي هو الوجوب، وقامت الامارة
على الاستحباب يتبدل الوجوب إليه، فيعلم من ذلك أن مقتضى الاستحباب الموجود
بسبب قيام الامارة انما يكون مقتضيا لعدم الوجوب، ولذا يمنع عن تأثير مقتضى الوجوب
فيه، والا لا يعقل مانعيته عن تأثيره كما لا يخفى، وعليه فلو قامت الامارة على وجوب
شئ، وامارة أخرى على استحبابه بما ان مقتضى الاستحباب له اثران. أحدهما: الحد
الضعيف الوجودي. ثانيهما: عدم مرتبة الفوق فبالنسبة إلى ذلك الحد والمرتبة الفوقانية
يتعارضان ويتمانعان، وحيث لا مانع عن تأثير مقتضى الاستحباب في اثره الأول فيؤثر فيه،
ويحكم بالاستحباب، إذ يكفي في الحكم به عدم الاقتضاء للمرتبة الفوقانية فتدبر فإنه
دقيق.
وبه يظهر ما في الاشكال الثاني الذي ذكره المحقق الخراساني (ره).
واما على القول بالسببية بالمعنى الرابع، فان قلنا بان المصلحة انما هي في الاستناد
إلى الحجة بما هي حجة فعلا، فيكون حكمهما حكم الامارتين المتعارضتين على
الطريقية، إذ بعد فرض المعارضة وعدم امكان فعلية الحجية فيهما لا يمكن الاستناد إليهما
حتى تكون المصلحة فيهما، وأما لو قلنا بان المصلحة في الاستناد إلى ذات الحجة فيكون
حالهما حال التعارض على فرض السببية بالمعنى الأول، لان كل واحدة منهما على
الفرض ذات مصلحة.
حول مقتضى الأصل الثانوي في تعارض الخبرين
المبحث الثالث: لا يخفى ان ما ذكرناه من مقتضى القاعدة في الامارتين
المتعارضتين، انما هو في غير الخبرين المتعارضين.
واما فيهما فقد اتفقت كلمات القوم واستفاضت الاخبار على عدم سقوطهما
341

بالتعارض، وانه يجب الاخذ بأحدهما تخييرا أو تعيينا.
وتنقيح القول في المقام يقتضى البحث هنا في أنه إذا لم ينهض حجة على التعيين
ولا على التخيير ودار الامر بينهما، فهل الأصل هو التعيين أو التخيير، ثم يبحث في
المبحث الآتي فيما يستفاد من الاخبار.
والكلام هنا في موردين الأول: بناءا على أن الأصل الأولى في تعارض الامارتين
هو التساقط، الثاني بناءا على ما هو المختار من أن الأصل هو التخيير.
اما الأول: فقد يقال ان الأصل الثانوي هو التخيير، واستدل له بوجهين.
أحدهما: ان الشك في حجية الراجح تعيينا أو حجية المرجوح تخييرا، مسبب عن
الشك في اعتبار المزية شرعا، فتجري أصالة العدم في السبب ويترتب عليه عدم حجية
الراجح تعيينا، وحجية المرجوح تخييرا فلا يجرى في المسبب.
وفيه: ان معنى اعتبار المزية شرعا، دخلها في جعل الشارع الحجية للخبر الراجح
تعيينا، وقد مر في مبحث الاستصحاب في الأحكام الوضعية عدم جريان الاستصحاب في
أمثال هذه الأمور، لعدم كونها مجعولة شرعا، وعدم ترتب اثر شرعي عليها لان ترتب
الجعل عليها ترتب عقلي نحو ترتب المقتضى على المقتضى، لا ترتب شرعي.
الثاني: ان المفروض حجية كل منهما شانا، وانما الشك في الحجية الفعلية، وعدم
حجية المرجوح بهذا معنى مسبب عن الشك، في مانعية المزية فتجري أصالة عدمها
ويترتب عليها الحجية الفعلية.
وفيه: ان معنى مانعية الزيادة مانعيتها عن الجعل إذ لا يعقل المنع عن الفعلية من
دون ان يؤخذ في مقام الجعل عدمها دخيلا، لما تقدم من عدم معقولية دخل شئ في
مقام الفعلية من دون ان يؤخذ في مقام الجعل فيرد عليه ما أوردناه على سابقه.
فالأظهر ان الأصل هو التعيين لما مر في آخر مباحث الاشتغال من أنه الأصل عند
دوران الامر بين التعيين والتخيير في الحجية: للقطع بحجية ما يحتمل تعيينه اما تعينيا أو
تخييرا، والشك في حجية الآخر، وقد مر في أول مباحث الظن ان الشك في الحجية
ملازم للقطع بعدم الحجية.
342

واما المورد الثاني: فالأصل يقتضى التخيير لما تقدم من أن التخيير الذي التزمنا به،
انما هو بمعنى حجية كل منهما مقيدا بعدم العمل بالآخر - وعليه - فمقتضى أصالة العموم
لدليل الحجية، حجية المرجوح عند عدم العمل بالراجح، ولا يعتنى بالاحتمال في مقابل
أصالة العموم، بل هي تتبع ما لم يدل دليل أقول على خلافها، وأصالة عدم الحجية، عند
الشك لا يرجع إليها، مع أصالة العموم المقتضية للحجية.
الترجيح بالأحدثية
المبحث الرابع: في بيان ما يستفاد من الاخبار في تعارض الخبرين، وملخص
القول في المقام، ان نصوص الباب على طوائف، الأولى: ما توهم دلالته على لزوم لاخذ
بالأحدث، الثانية: ما دل على الاخذ بما يكون من الخبرين موافقا للاحتياط، الثالثة: ما دل
على التوقف، الرابعة: ما دل على التخيير، الخامسة: ما دل على الترجيح بمزايا مخصوصة،
اما الأولى: فالروايات التي استدل بها للترجيح بالأحدثية ولزوم الاخذ بالأحدث
ثلاث. إحداها: رواية المعلى بن خنيس قال قلت لأبي عبد الله (ع) إذا جاء حديث عن
أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ فقال (ع) خذوا به حتى يبلغكم عن الحي وان
بلغكم عن الحي فخذوا بقوله ثم قال أبو عبد الله (ع) انا والله لا ندخلكم الا فيما يسعكم (1).
الثانية: رواية الكناني عنه (ع) قال لي أبو عبد الله أرأيت لو حدثتك بحديث أو
أفتيتك بفتياء ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو
أفتيتك بأيهما كنت تأخذ قلت بأحدثهما وادع الآخر فقال (ع) قد أصبت يا أبا عمرو، أبى
الله الا ان يعبد سرا والله لئن فعلتم ذلك أنه لخير لي ولكم أبى الله عز وجل لنا في دينه الا
التقية (2) ونحوهما فيما في ذيلهما غيرهما.
الثالثة: رواية الحسين بن مختار عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (ع) أرأيتك

1 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 8.
2 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 17.
343

لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ قال قلت
كنت آخذ بالأخير فقال لي رحمك الله (1).
والخبر الأخير ضعيف السند للارسال، والثاني ضعيف بابي عمرو الكناني لأنه لم
يوثقه أحد، وصاحب الوسائل في كتاب الامر بالمعروف في باب التقية ينقل الرواية عن
البرقي في المجالس عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) وهذا
السند صحيح، وان كان يحتمل قويا سقوط أبى عمرو في هذا السند فهشام ينقل الخبر عن أبي
عمرو، والقرينة عليه تكرار لفظ أبى عمرو في تلك الرواية أيضا مرتين في كلام
الإمام (ع)، وخبر المعلى لا باس به سندا.
ويمكن ان يقال ان الترجيح بالأحدثية ان ثبت لا ريب في كونه تعبديا محضا ولا
يوافقه القواعد العقلائية المرتكزة في باب الطريقية لان كلمات الأئمة عليهم السلام
ناظرة بأجمعها إلى الحكم الكلى الواحد النازل على رسول الله (ص) فلا اثر لتقديم بعضها
على بعض، وعليه فلابد من الاقتصار على مورد الروايات وهو ما علم بصدور الحديثين
- لا حظ - قوله (ع) لو حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتوى الخ، ونحوه غيره.
وعلى ذلك فالتعدي إلى الظنيين بعد احتمال دخل القطع بالصدور في هذا الحكم
بلا وجه، مع أن مورد الأحاديث هو حضور السامع للحديث الا حدث مجلس الصدور
لاحظ خبر المعلى، ومع احتمال الخصوصية لا وجه للتعدي.
وكيف كان فالظاهر عدم ارتباطها بترجيح إحدى الروايتين على الأخرى مطلقا، بل
انما هي في مقام بيان انه بعد وصول الثاني عن المعصوم (ع) تكون الوظيفة الفعلية أعم من
الحكم الواقعي الأولى أو الثانوي من باب التقية هو ما وصل أخيرا، ولذا في مكاتبة ابن
يقطين بعد سوء ظن الخليفة به امره (ع) بالوضوء على النحو الذي يتوضأ المخالفون، وهو
مع علمه بعدم كونه موافقا للمذهب عمل به ثم بعد صلاح حاله عند الخليفة ورفع التهمة
عنه امره (ع) بالوضوء الصحيح فهي أجنبية عن ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى.

1 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 7.
344

وان شئت قلت إن المقصود بالأخذ بالأحدث في هذه الروايات ملاحظة ظهور
كلام الإمام (ع) في كون ما يقوله وظيفة السامع الفعلية التي قد تكون واقعية وقد تكون
ظاهرية على وفق التقية، لا ظهور الكلام في مقام بيان الحكم الواقعي.
ومما يؤيد ذلك مضافا إلى ما مر من عدم مناسبة عقلائية للترجيح بالأحدثية،
توجه السائل لهذا الترجيح بنفسه حيث أجاب بأنه يأخذ بالأحدث فإنه يكشف عن كون
هذا المعنى امر واضحا مركوزا لدى العرف وذلك لا يكون الا لما ذكرناه، وأيضا يؤيده
ما في ذيل خبر الكناني من قوله (ع) أبى الله الا ان يعبد سرا.
فيكون مفاد هذه الروايات مفاد خبر أبي عبيدة عن أبي جعفر (ع) قال لي يا زياد ما تقول
لو أفتينا رجلا ممن يتولانا بشئ من التقية قلت له أنت اعلم جعلت فداك، قال (ع) ان اخذ
به فهو خير له وأعظم اجرا قال وفى رواية أخرى ان اخذ به أجر وان تركه والله اثم 1 وخبر
الخثعمي عن الإمام الصادق (ع) من عرف انا لا نقول الا حقا فليكتف بما يعلم منا فان سمع
منا خلاف ما يعلم فليعلم ان ذلك دفاعا منا عنه (2).
ويضاف إلى جميع ما تقدم انه لو سلم كون الروايات في مقام بيان الترجيح
بالأحدثية حتى في الظنيين، يمكن ان يقال: انه يقع التعارض بينها وبين اخبار التخيير
والترجيح بمرجحات اخر، ومع قطع النظر عن وجود الترجيح لتلك الأخبار انه لا بد من
تقديمها بحكم هذه النصوص: لان فيها ما هو صادر عن الامام اللاحق فهو يكون أحدث
فلابد من تقديمه.
واما الثانية: فهي رواية واحدة وهي ما رواه الأحسائي في عوالي اللئالي عن العلامة
مرفوعا إلى زرارة عن الإمام الباقر (ع) في الخبرين المتعارضين بعد ذكر جملة من
المرجحات قال (ع) اذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر (3) ولكن الرواية ضعيفة
سندا لضعف مؤلف الكتاب ورفعها، وعمل الأصحاب بها لو كان فإنما هو بالنسبة إلى

1 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 2.
2 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 3.
3 - مستدرك الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 2.
345

صدرها المتضمن للترجيح بالشهرة وصفات الراوي لا بالنسبة إلى ذيلها، وقد مر مرارا انه
لا مانع من حجية الخبر في بعض جملاته دون آخر، مع: انه لو سلم حجيتها في جميع
جملها فتعارض مع اخبار التخيير، فان حمل تلك الأخبار على صورة دوران الامر بين
المحذورين الذي لا يمكن فيه الاحتياط بعيد غايته، ولا اشكال في تقديم اخبار التخيير.
اخبار التوقف
واما الثالثة: فهي أيضا على الطوائف، منها ما دل على التوقف عند الشبهة مطلقا،
كموثق مسعد بن زياد عن جعفر عن أبيه عن ابائه عليهم السلام عن النبي (ص) لا تجامعوا في
النكاح على الشبهة، وقفوا عند الشبهة إلى أن قال فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام
في الهلكة (1) ونحوه غيره.
وهذه النصوص ظاهرة في غير الخبرين المتعارضين، مع أنه لو سلم شمولها لهما،
تكون أعم من اخبار التخيير والترجيح، فتخصص بها، لورودها في خصوص الخبرين
المتعارضين.
أضف إلى ذلك انها تدل على لزوم التوقف عند فقد الحجة وعدم الطريق إلى
الواقع، ومفاد اخبار التخيير، والترجيح، انما هو اثبات حجية أحد الخبرين فهي حاكمة
عليها.
أضف إليه ما تقدم في مسألة البراءة من تعين حملها على الاستحباب.
ومنها ما دل على التوقف في خصوص الخبرين المتعارضين وهي أربع روايات.
إحداها: مقبولة عمر بن حنظلة الآتية وفى ذيلها قوله (ع) إذا كان ذلك فارجئه حتى
تلقى امامك فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (2).
ثانيتها: ما رواه الميثمي عن الإمام الرضا (ع) في حديث طويل، وعليكم بالكف

1 - الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي حديث 15.
2 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 1.
346

والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا (1).
ثالثتها: ما رواه سماعة عن الإمام الصادق (ع) قال قلت له يرد علينا حديثان واحد
يأمرنا والآخر ينهانا عنه قال (ع) لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله قلت لابد
ان نعمل بواحد منهما قال (ع) خذ بما فيه خلاف العامة (2).
رابعتها: ما رواه سماعة أيضا عنه (ع) في رجل جائه خبران أحدهما يأمره والآخر
ينهاه قال (ع) يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حق يلقاه (3).
وقد يقال كما في رسائل الشيخ الأعظم: بأنه يحمل نصوص التوقف على زمان
الحضور، قال فهي محمولة على صورة التمكن من الوصول إلى الإمام (ع) كما يظهر من
بعضها.
وأورد عليه المحقق صاحب الدرر بان مجرد دلالة بعض اخبار التوقف على
التمكن من الوصول إلى الإمام (ع) لا يوجب تقييد ساير الأخبار المطلقة لعدم التنافي بين
وجوب التوقف مطلقا وبين كون غاية التوقف الوصول إليه فلا وجه للحمل.
ولكن: الظاهر أن نظر الشيخ إلى أن النسبة بين ما دل على التخيير بقول مطلق وبين ما
دل على التوقف مطلقا وان كانت هي التباين، الا ان النسبة بين، ما دل على التخيير بقول
مطلق وما دل التوقف في زمان الحضور هو العموم المطلق، فيقيد اطلاق الأول
بالثاني فيختص اخبار التخيير بزمان الغيبة فتكون أخص مطلق من اخبار التوقف بقول
مطلق وتنقلب النسبة فيقيد اطلاق ما دل على التوقف، بما دل على التخيير، فتكون النتيجة
هو التوقف في زمان الحضور والتخيير في زمان الغيبة.
لا يقال انه من اخبار التخيير ما يكون مختصا بزمان الحضور فيجرى في تلك الأخبار
مع اخبار التوقف المطلق ما ذكر فيعود التعارض.
فإنه يقال: انه ليس في اخبار التخيير ما يختص بزمان الحضور ويكون معتبرا سندا

1 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 21.
2 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 42.
3 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 5.
347

- مع - انه لو كان لابد من طرحه لعدم العمل.
والجواب عن ما افاده الشيخ ما سيأتي من عدم القول بانقلاب النسبة.
وقد يقال في الجمع بين اخبار التوقف، وبين اخبار التخيير: بأنه يحمل اخبار
التوقف على النهى عن تعيين مدلول الخبرين بالمناسبات الظنية فيكون المعنى انه ليس له
استكشاف الواقع والحكم بان الواقع كذا كما كان له ذلك لو كان هناك مرجح، ويحمل
اخبار التخيير على الوظيفة في مقام العمل كما افاده المحدث صاحب الحدائق
والمحقق صاحب الدرر.
ولكن يرد عليه انه لا يجرى ذلك في جميع اخبار التوقف، لا حظ قوله (ع) في خبر
سماعة لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك بل لا يجرى في مقبولة ابن حنظلة
فلاحظ وتدبر.
وقد قيل في مقام الجمع بين الطائفتين وجوه اخر، كحمل اخبار التوقف على
الماليات، أو المتناقضين وحمل اخبار التخيير على غير ذلك، أو حمل اخبار التخيير على
العبادات، واخبار التوقف على المعاملات أو غير ذلك من الوجوه التي ليس شئ منها
من الجمع العرفي المقبول.
والحق ان يقال انه ليس في شئ من اخبار التوقف ما يدل على التوقف في زمان
الغيبة، بل كلها مختصة بزمان الحضور والتمكن من السؤال عنه (ع) فلا تنفع لزمان الغيبة
ولا تعارض اخبار التخيير.
مع أنه لو سلم التعارض لا ريب في أن الترجيح مع اخبار التخيير سيما مع اعراض
المشهور عن اخبار التوقف حينئذ.
ومنها: ما دل على الرد إلى الأئمة عليهم السلام، وهو ما رواه ابن إدريس عن كتاب
مسائل الرجال لعلي بن محمد بن علي بن عيسى كتب إليه يسأله عن العلم المنقول عن
آبائك وأجدادك قد اختلف علينا فكيف العمل به على اختلافه أو الرد عليك فيما
348

اختلف فيه، فكتب (ع) ما علمتم انه قولنا فالزموه وما لم تعلموه فردوه إلينا (1).
والجواب عنه أولا انه ضعيف السند لعدم ثبوت وثاقة صاحب الكتاب. وثانيا: ان
الظاهر ولا أقل من المحتمل اختصاصه بزمان الحضور فان قوله (ع) فردوه إلينا نظير قوله (ع)
في المقبولة فارجه حتى تلقى امامك، لا انه من قبيل الرد إلى الله ورسوله. وثالثا: ان ما دل
على التخيير في زمان عدم التمكن من الوصول إلى المعصوم (ع) يكون أخص منه فيقيد
اطلاقه به، ففي حال الغيبة ينحصر المرجع عند التعارض باخبار التخيير، والترجيح.
اخبار التخيير
واما الرابعة: وهي اخبار التخيير فهي ثمانية. 1 - خبر حسن بن جهم عن الإمام الرضا
(ع) قال قلت له يجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة فقال (ع) ما جائك عنا فقس على
كتاب الله عز وجل وأحاديثنا فان كان يشبههما فهو منا وان لم يكن يشبههما فليس منا قلت
يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين، ولا نعلم أيهما الحق قال (ع) فإذا لم تعلم
فموسع عليك بأيهما اخذت (2).
وهذا الخبر يدل على التخيير بعد فقد الموافقة للكتاب التي هي من المرجحات،
لكنه ضعيف السند للارسال.
2 - خبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (ع) إذا سمعت من أصحابك الحديث
وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم فترد عليه (3).
وايراد المحقق الأصفهاني عليه بأنه مختص بصورة التمكن من لقاء الإمام (ع) فلا
يعم زمان الغيبة.
يرده ان التوقف يحتمل اختصاصه بزمان الحضور، واما التخيير فلا يتوهم فيه

1 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 36.
2 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 40.
3 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 41.
349

ذلك بل لو ثبت التخيير في زمان الحضور والتمكن من لقائه (ع) ثبت في زمان الغيبة
بالأولوية.
لكنه أيضا كالأول ضعيف للارسال.
3 - مكاتبة عبد الله بن محمد إلى أبى الحسن (ع) اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي
عبد الله (ع) في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم ان صلهما في المحمل، وروى
بعضهم لا تصلهما إلى على الأرض فاعلمني كيف تصنع أنت لاقتدى بك في ذلك،
فوقع (ع) موسع عليك باية عملت (1) وتقريب الاستدلال بها واضح.
ولكن يرد عليها ان الظاهر منها بيان الحكم الواقعي وانه هو التخيير، لا التخيير بين
الحجتين إذ السائل انما سئل عن الحكم الواقعي وظاهر الجواب، مضافا إلى لزوم تطابقه
مع السؤال هو بيان الحكم الواقعي لأنه المناسب لحال الامام وعليه فلا ربط لها بمحل
الكلام.
أضف إليه ان موردها مما فيه الجمع العرفي فان موردها التعارض بين ما يأمر
بالصلاة على الأرض الظاهر في وجوبه، وبين ما يرخص في الصلاة على المحمل لورود
الامر به مقام توهم الحظر، فيكون ظاهرا في الجواز، والجمع العرفي بينهما يقتضى البناء
على جواز الصلاة على المحمل وأولوية الصلاة على الأرض، فمن الحكم بالتخيير فيها،
لا يمكن استفادة التخيير في موارد التعارض المستقر.
مع أن موردها المستحبات المبنى أمرها على التخفيف والسهولة فلا يستلزم
التخيير في الالزاميات.
4 - مكاتبة الحميري بتوسط الحسين بن روح إلى الحجة أرواحنا فداه سألني بعض
الفقهاء عن المصلى إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه ان يكبر فان
بعض أصحابنا قال لا يجب عليه التكبير ويجزيه ان يقول بحول الله وقوته أقوم واقعد
فكتب (ع) في الجواب ان فيه حديثين اما أحدهما فإنه إذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه

1 - الوسائل باب 15 من أبواب القبلة كتاب الصلاة.
350

التكبير واما الآخر فإنه روى إذا رفع رأسه من السجدة الثانية ذكر ثم جلس ثم قام فليس
عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهد الأول يجرى هذا المجرى وبأيهما
اخذت من باب التسليم كان صوابا (1) وتقريب الاستدلال بها واضح، خصوصا بقرينة قوله
اخذت من باب التسليم، فإنه ظاهر، في التخيير في الاخذ، والتعبد بإحدى الحجتين.
ولكن يرد عليها أولا انها غير نقي السند لأنه يحتمل ان المكاتبة كانت باملاء
الحسين بن روح وبخط أحمد بن إبراهيم النوبختي واحمد مجهول فان كان واسطة في
النقل عن الحسين فالخبر ساقط عن الحجية. نعم، لو كان احمد مجرد مستنسخ للرواية
وان الراوي هو الحميري وهو يشهد باملاء الحسين بن روح يكون الخبر معتبرا، والتردد
يكفي في السقوط عن الحجية.
وثانيا: ان السائل سئل عن الحكم الواقعي، واما الجواب، فبقرينة التطابق مع
السؤال، وبقرينة ظهور كلام الإمام (ع) في بيان الحكم الواقعي في نفسه، يكون في مقام
بيان ذلك لا التخيير في العمل بأحد الخبرين وطرح الآخر.
وثالثا: ان مورده الخبرين المقطوعي الصدور لان الامام - (ع) يقول إن فيه حديثين
المناسب مع كونهما ثابتين عن آبائه عليهم السلام فلا يمكن التعدي إلى مظنوني الصدور.
ورابعا: ان بين الحديثين يمكن الجمع العرفي، اما لكونهما من قبيل العام والخاص
المطلق، واما من جهة كونهما من قبيل الظاهر والنص: إذا الحديث الأول عام، والثاني
مختص بحالة خاصة، وأيضا، الأول ظاهر في اللزوم، والثاني صريح في جواز الترك، فلا
يمكن التعدي إلى التعارض المستقر، بل يتعين حمله على إرادة الترخيص الواقعي ولو
كان خلاف الظاهر.
وخامسا: ان موردها أيضا المستحبات، فلا وجه للتعدي إلى الالزاميات.
5 - مرفوع زرارة المتقدم، وفى آخره إذا فتخير (2) ولكن عرفت انه ضعيف السند.
6 - ما في ديباجة الكافي حيث قال لقوله (ع) بأيهما أخذتم من باب التسليم

1 - الوسائل باب 13 من أبواب السجود.
2 - المستدرك باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 2.
351

وسعكم (1) ولكنه مرسل.
7 - وكذا السابع وهو ما في الكافي أيضا وفى رواية أخرى بأيهما اخذت من باب
التسليم وسعك (2).
8 - خبر الميثمي عن الإمام الرضا (في حديث طويل وفيه ذيله بعد فقد بعض
المرجحات، وبأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع (3) ولكن مورده
الحكم غير الإلزامي فلا وجه للتعدي كما مر فإذا ليس في الاخبار ما يمكن الاستدلال به
للتخيير بقول مطلق.
اخبار الترجيح
واما الخامسة: وهي النصوص الدالة على الترجيح بمزايا مخصوصة، فالمرجحات
المنصوص عليها في الاخبار عبارة، عن موافقة الكتاب، ومخالفة العامة، والشهرة،
وصفات الراوي.
اما الأولان: فالنصوص الواردة فيهما كثيرة، وهي طوائف. الأولى: ما تضمن
الترجيح بهما مرتبا.
منها: ما رواه سعيد بن هبة الله الراوندي في رسالته التي ألفها في أحوال أحاديث
أصحابنا واثبات صحتها عن محمد وعلى ابني على بن عبد الصمد عن أبيهما عن أبي
البركات على بن الحسين عن أبي جعفر ابن بابويه عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أيوب بن
نوح عن محمد بن أبي عمير عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال الصادق (ع) إذا ورد عليكم
حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب
الله فردوه فان لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على اخبار العامة فما وافق اخبارهم

1 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 19.
2 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 6.
3 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 21.
352

فذروه وما خالف اخبارهم فخذوه (1) والكلام فيه في جهتين.
الأولى: في سنده، وأورد عليه بايرادات 1 - من المستبعد وجود كتاب للراوندي
في أحوال الرجال لان، ابن شهرآشوب، ومنتجب الدين تلميذاه، قد ترجماه في كتاب،
معالم العلماء، والفهرست ولم يذكرا هذه الرسالة في عداد مؤلفاته، ولذلك قيل إنه يمكن
ان يكون هذه الرسالة للسيد الراوندي المعاصر للقطب.
وفيه: أولا انهما لم يذكرا في عداد مؤلفاته، كتاب قصص الأنبياء الذي ينقله
صاحب الوسائل مع كتاب الخرائج والجرايح عن الراوندي، وصرح ابن طاووس في مهج
الدعوات بأنه له، فليكن هذه الرسالة نظير تلك الكتب ولم يطلعا عليها - مع - ان كلا منهما
يذكر بعض ما لم يذكره الآخر، مثلا يذكر ابن شهرآشوب ان للراوندي كتابا في أولاد
العسكريين، ولم ينقله منتجب الدين كما أن منتجب الدين، يذكر ان له شرح النهج لم ينقله
ابن شهرآشوب.
2 - التشكيك في وجود طريق لصاحب الوسائل إلى هذه الرسالة، لأنه لم يذكر
طريقه إليها في الوسائل.
وفيه: انه ينقل في خاتمة الوسائل طريقه إلى كتاب الخرائج والجرائح، وكتاب
قصص الأنبياء ثم يقول ونروي باقي الكتب بالطرق السابقة.
3 - ان طريق صاحب الوسائل انما هو عن العلامة فكيف لا نجد من هذا الخبر عين
ولا اثر في كلمات العلامة ومشايخه، كما يظهر لمن راجع كتبهم الأصولية.
وفيه: ان العلامة ومشايخه لم يذكروا أكثر روايات الباب.
4 - ان محمدا وعليا الواقعان في السند ليسا ابنا على، وانما هما ابنا عبد الصمد، إذ
من البعيد جدا ان ينقل القطب الراوندي المتقدم على ابن شهرآشوب طبقة، عن أولاد على
الذي هو من مشايخ ابن شهرآشوب، وعليه فأبوهما الذي ينقلان عنه هو عبد الصمد، وهو
لم يوثق.

1 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 29.
353

وفيه: ان الذي من مشايخ ابن شهرآشوب، هو على بن عبد الصمد، وهو ابن محمد،
أو على، أو حسين أبناء على بن عبد الصمد الأول، الجد الاعلى للأسرة، ومن ينقل عنه
القطب هو محمد، وعلى ابنا عبد الصمد الأول فتدبر.
5 - ان أبا البركات لم يوثقه أحد غير صاحب الوسائل، وتوثيقه مع هذا البعد
الزماني الممتد بينهما، وهو قرب سبعمائة عام لا محالة لا يكون عن حس فلا يفيد.
وفيه: أولا ان صاحب رياض العلماء قال في حقه الإمام الزاهد، وهذا التعبير فوق
حد التوثيق، وثانيا: ان توثيق صاحب الوسائل يكفي: لان التوثيق دائما يكون عن غير
حس، فالرواية صحيحة سندا.
الثانية: في دلالتها، ومحصل القول ان الخبر مشتمل على مرجحين طوليين، الأول
الموافقة والمخالفة للكتاب، ومع فقده فالمخالفة للعامة، والجمود على نفس الخبر
يقتضى البناء على أن المرجح هو موافقة أحد الخبرين للكتاب، ومخالفة الآخر معه، فلا
يكفي مجرد المخالفة للكتاب في ترجيح الآخر عليه ولكن الظاهر كفاية ذلك بالتعدي،
والفهم العرفي بعد عدم مجيئ جميع التفاصيل وجزئيات الأحكام الشرعية في الكتاب.
فيكون المراد من الموافقة عدم المخالفة.
واما المخالفة للعامة، فالجمود على نص الخبر يقتضى البناء على أن الميزان
الموافقة والمخالفة لاخبارهم، ولكن الحق التعدي إلى الموافقة والمخالفة مع فتاويهم
وان كانت على أساس غير الاخبار لعدم الخصوصية للاخبار وللنصوص الاخر.
ومنها: مقبولة ابن حنظلة عن الإمام الصادق (ع) في رجلين من أصحابنا يكون بينهما
منازعة، فإنه (ع) بعد ما ينهاهم عن التحاكم إلى السلطان وأمرهم بالتحاكم إلى المجتهدين
وانه لا يجوز رد ما حكموا به، قال قلت فان كان كل رجل يختار رجلا من أصحابنا فرضيا
ان يكونا الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم قال (ع)
الحكم ما حكم به أعدلهما وافقهما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما
يحكم به الآخر قلت فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر
قال (ع) ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين
354

أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فان
المجمع عليه لا ريب فيه - إلى أن قال - قلت فان كان الخبر ان عنكم مشهورين قد رواهما
الثقات عنكم قال (ع) ينظر ما كان حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به
ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامة قلت جعلت فداك أرأيت ان كان الفقيهان
عرف حكمه من الكتاب والسنة فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا بأي
الخبرين يؤخذ قال (ع) ما خالف العامة ففيه الرشاد الحديث (1).
والظاهر اعتبار سندها لتنصيص الشهيد الثاني في الدراية بوثاقة ابن حنظلة، قال انا
قد حققنا توثيقه من محل آخر، وليس منشأه ما افاده صاحبا المعالم والمدارك، من
ارادته من محل آخر، خبر يزيد بن خليفة المتضمن لقول الإمام (ع) إذا لا يكذب علينا (2) لما
صرح به صاحب المعالم باني قد وجدت بخطه في حاشية الروضة انه كتب أولا من خبر
آخر، ثم ضرب عليه، وكتب من محل آخر، وللخبر.
ولتلقي الأصحاب إياها بالقبول حتى اشتهر بالمقبولة، وهي أيضا تدل على
الترجيح، بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.
فان قيل، انه في المقبولة جعل موافقة الكتاب ومخالفة العامة مرجحا واحدا،
وفى عرض واحد فكيف يلتزم بالترتيب بينهما.
قلنا انه حيث جعل مخالفة العامة مرجحا مستقلا بعد ما فرض الراوي موافقتهما
معا للكتاب يعلم من ذلك أن مجموع الامرين ليسا مرجحا واحدا، فيدور الامر، بين ان
يكون كل واحد منهما مرجحا مستقلا في عرض واحد، وبين ان يكون موافقة الكتاب
حشوا بلا اثر، وبين ان يكون عطف مخالفة العامة على موافقة الكتاب حشوا جيئ، به
لبيان الترجيح بمخالفة العامة بعد ذلك واشعارا بان آراء العامة كثيرا ما تكون مخالفة
للكتاب ويؤيد الاحتمال الأخير ان السائل سكت عن السؤال عن حكم ما إذا كان
أحدهما موافقا للكتاب غير مخالف للعامة، وعما يكون بالعكس، مع أنه كان بصدد

1 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 1.
2 - الوسائل باب 10 من أبواب مواقيت الصلاة.
355

استيعاب الشقوق فيعلم انه فهم الطولية من كلام الإمام (ع).
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا الاجمال يبين بصحيح القطب الصريح في الترتيب.
الثانية: ما اقتصر فيها على الترجيح بمخالفة العامة - منها - خبر الحسن بن الجهم
عن العبد الصالح (ع) في حديث فقلت فيروى عن أبي عبد الله (ع) شئ ويروى عنه خلافه
فبأيهما نأخذ فقال (ع) خذ بما خالف القوم وما وافق القوم فاجتنبه (1) ومنها خبر الحسين بن
السرى قال أبو عبد الله (ع) إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم (2).
ومنها: خبر محمد بن عبد الله قلت للرضا (ع) كيف نصنع بالخبرين المختلفين فقال (ع) إذا
ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه، وانظروا إلى ما
يوافق اخبارهم فدعوه (3). ومنها: خبر سماعة عن الإمام الصادق (ع) في حديث خذ بما فيه
خلاف العامة (4). ومنها: خبر عبيد بن زرارة عنه (ع) ما سمعته منى يشبه قول الناس فيه التقية
وما سمعت منى لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه (5).
وهذه بأجمعها متفقة على الترجيح بمخالفة العامة بالسنة مختلفة - من مخالفة
العامة - وما لا يشبه قول الناس - ومخالفة القوم - والمراد واحد.
والنسبة بينها وبين الطائفة الأولى عموم مطلق فان هذه تدل على الترجيح بمخالفة
العامة وان كان الآخر موافقا للكتاب والطائفة الأولى تدل على أنه في خصوص ذلك
المورد لا تكون المخالفة مع العامة مرجحة فيقيد اطلاقها بها.
الثالثة: ما اقتصر فيه على الترجيح بموافقة الكتاب، كخبر سدير قال أبو جعفر وأبو
عبد الله عليهما السلام لا تصدق علينا الا ما وافق كتاب الله وسنة نبيه (ص) (6). ومنها: خبر ابن
الجهم عن العبد الصالح (ع) إذا جائك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله

1 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 31.
2 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 30.
3 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 34.
4 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 42.
5 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 46.
6 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 47.
356

وأحاديثنا فان أشبههما فهو حق وان لم يشبههما فهو باطل (1).
وهما متضمنان للترجيح بموافقة الكتاب وساكتان عن الترجيح بمخالفة العامة،
والجمع بينهما وبين ما تقدم ظاهر مما ذكرناه.
واما الشهرة، فقد جعلت مرجحة، في المقبولة المتقدمة وفى مرفوع زرارة عن
الإمام الباقر (ع) في الخبرين المتعارضين، خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر
قلت يا سيدي انهما مشهوران مأثوران عنكم فقال خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما
في نفسك فقلت انهما معا عدلان مرضيان موثقا، فقال (ع) انظر ما وافق منهما العامة
فاتركه وخذ بما خالفهم فان الحق في خلافهم، قلت ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين
فكيف اصنع قال (ع) إذا فخذ بما فيه الحائط لدينك واترك ما خالف الاحتياط
الحديث (2)، وفى مرسل الاحتجاج قال وروى عنهم (ع) انهم قالوا إذا اختلف أحاديثنا
عليكم فخذوا به بما اجتمعت عليه شيعتنا فإنه لا ريب فيه (3).
ولكن المرفوعة ضعيفة السند جدا، لضعف صاحب الكتاب، ولرفعها، وقيل إنه
ليس منها عين ولا اثر في كلمات الأصحاب قبل الشيخ الأحسائي وقد ناقش فيها وفى
الكتاب المتضمن لها من ليس دأبه الخدشة في سند الروايات كصاحب الحدائق (ره).
والمرسل ضعيف للارسال، مضافا إلى أن الظاهر كونه إشارة إلى المقبولة، فالعمدة
في الترجيح بها هي المقبولة.
وهي تدل على انها أول المرجحات لإحدى الروايتين: لأنه بعد ما فرض الراوي
تساوى الحكمين في الصفات، قال (ع) (ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي
حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس
بمشهور عند أصحابك) فانتقل الامام (من ملاحظة الحاكمين إلى ملاحظة الروايتين
اللتين هما مدركا الحكمين وتمام الكلام فيها بالبحث في جهات.

1 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 48.
2 - المستدرك باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 2.
3 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 43.
357

الأولى: هل المراد بالشهرة فيها الشهرة الروائية، أو الفتوائية، أو العملية، والظاهر
هو الأولى، فان الشهرة لوحظت بالنسبة إلى الرواية وظاهر ذلك اضافتها إليها بما هي
حكاية عن حديث المعصوم لا بما هي رأى نقل عن المعصوم (ع).
ودعوى ان قوله (ع) فان المجمع عليه لا ريب فيه قرينة على أن المراد الشهرة
الفتوائية فان الذي لا ريب فيه هو الذي عليه الشهرة الفتوائية، بحيث كان مقابله الشاذ
النادر، واما نفس الشهرة في الرواية مجردة عن الفتوى، فهي مورثة للريب، بل للاطمينان
أو اليقين بخلل فيها.
مندفعة: بان الرواية المشهورة من حيث الرواية إذا كانت وحدها وكان فتوى
الأصحاب على خلافها يطمئن الانسان بخلل فيها أما إذا كانت معارضة مع رواية صحيحة
سندا وغير مشهورة، وكان كل منهما مستند جمع من الفقهاء لم يوجب ذلك الريب فيها
فضلا عن الاطمينان واليقين بخلل فيها.
الجهة الثانية: قد يقال ان الشهرة الروائية مساوقة مع الاستفاضة والقطع بالصدور،
فهي من مميزات الحجة عن اللاحجة لامن مرجحات إحدى الحجتين، ولكنه يندفع بان
الشهرة عبارة عن الظهور والوضوح وهي ذات مراتب مشككة، أول مرتبة منها جعلت
مرجحة، لا المرتبة الأخيرة المورثة للقطع بالصدور والشاهد بذلك، فرض الخبرين
مشهورين في المقبولة، وتقديم حكم الحاكم الواجد للصفات على الآخر وان كان
مستندة مشهورا بين الأصحاب، وغير ذلك من القرائن فإذا لا اشكال في أن الشهرة من
المرجحات.
الجهة الثالثة: في النسبة بين المقبولة وساير الروايات فالظاهر كما مر من أنه إذا
تكفل خبر لمرجحين والآخر لمرجح واحد منهما يكون الجمع بينهما بتقييد اطلاق الثاني
بالأول، والبناء على ثبوت المرجحين، فالجمع بين النصوص يقتضى البناء على الترجيح
أولا، بالشهرة، ثم بموافقة الكتاب، ثم بمخالفة العامة.
واما صفات الراوي، فقد تضمنت المقبولة أي مقبولة ابن حنظلة المتقدمة،
ومرفوعة زرارة المتقدمة أيضا للترجيح بها.
358

ولكن المرفوعة قد عرفت انها ضعيفة سندا، ولا مثبت لاستناد الأصحاب إليها في
الالتزام بهذا المرجح بعد ما تقدم من أنه لم ينقلها أحد قبل الشيخ الأحسائي حتى مثل
العلامة (ره).
واما المقبولة فهي وان اعتبر سندها كما مر، الا ان الترجيح بها فيها انما هو لتقديم
حكم أحد الحاكمين على الآخر لا الترجيح بها لتقديم إحدى الروايتين، لأنه في صدر
المقبولة بعد فرض السائل اختلاف الحكمين قال (ع) الحكم ما حكم به أعدلهما الخ وهذا
صريح في أن ذلك بصدد بيان المرجح لتقديم حكم أحد الحاكمين ويشهد به أيضا قوله
بعد ذلك فقلت فإنهما عدلان مرضيان فقال (ع) ينظر إلى ما كان من روايتهم فإنه صريح في
كونه بعد الترجيح بالصفات بصدد بيان ما هو المرجح لإحدى الروايتين على الأخرى،
ولذلك قلنا انها دالة على أن أول المرجحات الشهرة فيكون مفاد المقبولة بالنسبة إلى
الترجيح بالصفات مفاد خبر موسى بن أكيل (1) وخبر داود بن الحصين (2) المتضمنين لترجيح
حكم أحد القاضيين بها الذين لم يحتمل أحد دلالتهما على الترجيح بها لتقديم إحدى
الروايتين على الأخرى. وقد نسب إلى المحقق النائيني (ره) انه وان جعلت الصفات فيها مرجحة للاخذ
بحكم أحد الحاكمين، الا انه يمكن ان يستفاد منها من باب تنقيح المناط كونها مرجحة
لإحدى الروايتين على الأخرى لأنه لما كان منشأ اختلاف الحكمين هو اختلاف
الروايتين، فيستفاد من ذلك أن المناط في ترجيح أحد الحكمين على الآخر بالصفات،
لكون مثل هذه الصفات مرجحة لمنشأ الحكم، وهو الرواية.
ويرد عليه انه مع عدم احراز المناط كيف يحكم بالتعدي، مع أن الأفقهية التي
جعلت مرجحة، لا دخل لها في نقل الحديث أصلا، وانما تناسب ترجيح الحاكم من حيث
هو، ومن الغريب انه (قده) بعد أسطر يصرح بان أول المرجحات الشهرة لا الصفات لأنها
جعلت في المقبولة أول المرجحات

1 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 45.
2 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 20.
359

فالمتحصل انحصار المرجح بالشهرة - وموافقة الكتاب - ومخالفة العامة، مرتبة
فان قيل إنه في المقبولة بعد فرض السائل موافقتهما معا للعامة قال (ع) ينظر إلى ما هم إليه
أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر، فهذا مرجح آخر لم يتعرض له
الأصحاب قلنا، الظاهر أنه توسعة في المخالفة المجعولة مرجحة كما هو واضح.
ايرادات نصوص الترجيح ونقدها
ثم إن توضيح ما اخترناه وبيناه، انما يكون بذكر ما أورد على اخبار الترجيح من
الايرادات، والجواب عنها، وهي ثمانية.
الأول: ما يختص بمرجحية مخالفة العامة، وحاصله ان أكثر رواياتها مروية عن
رسالة القطب، وقال الفاضل النراقي انها غير ثابتة من القطب ثبوتا شايعا فلا حجية فيما
ينقل عنها، فيبقى من رواياتها المقبولة، وخبر سماعة، والثاني ضعيف بالارسال، فينحصر
المدرك في المقبولة، وحكى عن المحقق في رد الترجيح بها انه لا يثبت مسألة علمية
برواية رويت عن الصادق (ع).
وفيه: أولا ما تقدم من حجية رواية تلك الرسالة، وان الوجوه المذكورة لعدم
حجيتها فاسدة، وثانيا ان الخبر إذا كان حجة خصوصا مع عمل الأصحاب به وتلقيهم إياه
بالقبول يثبت به مسألة أصولية، كما يثبت به حكم فرعى خاص، وانما لا يعتمد على مثله
في العقائد المطلوب فيها العلم.
الثاني: ما افاده المحقق العراقي (ره) في المقالات، وهو ان مرفوعة ضعيفة السند
والمقبولة مخالفة للاجماع، إذ ظاهرها، انه عند تساوى الحكمين في الصفات يرجعان إلى
المستند ويجتهدان في استفادة الحكم من المستند، وهو خلاف الاجماع المدعى في
المستند، على أنه عند تساويهما يكون الاختيار بيد المدعى.
وأجيب عنه بان المقبولة محمولة على قاضي التحكيم.
ويرده: ان قاضي التحكيم عبارة عن القاضي الواجد لجميع الشرائط حتى الاجتهاد
360

غير أنه لا يكون منصوبا، ولذلك قال الشهيد الثاني في المسالك انه مختص بزمان
الحضور ولا معنى له في زمان الغيبة فإنه ان لم يكن مجتهدا لا يكون قاضيا ولو للتحكيم،
وان كان مجتهدا فهو منصوب وحيث إن صدر المقبولة في مقام نصب المجتهد قاضيا
وحاكما فلا يمكن حمل ذيلها على قاضي التحكيم.
والحق ان يجاب عنه بان كون الاختيار بيد المدعى انما يكون مدركه الاجماع،
والمتيقن منه الشبهة الموضوعية، واما في مورد الشبهة الحكمية كما في مورد المقبولة
فلا دليل عليه.
مع، ان المقبولة قابلة للحمل على صورة التداعي، أضف إلى ذلك، ان المفروض
في المقبولة كون تعيين الحاكمين مع رضايتهما معا، لا بان يختار كل منهما غير ما يختاره
الآخر فلاحظها.
ويمكن ان يقال انه لما كان منشأ النزاع في موردها الشبهة في حكم المسألة كما
لا يخفى، وهي لا ترتفع بالحكومة، أمرهما (ع) بالنظر في أدلة الواقعة، واستفادة حكمها
منها كي يرتفع النزاع.
الثالث: ما افاده المحقق اليزدي (ره) وهو ان الترجيحات المذكورة في المقبولة
والمرفوعة غير موافقة الكتاب، ومخالفة العامة، كالشهرة، وصفات الراوي، فيمكن ان
يقال بعدم دلالتهما على الترجيح بما ذكر في صورة التعارض: إذ صفات الراوي المذكورة
في المقبولة، فهي في مقام تقديم حكم أحد الحكمين في مقام رفع الخصومة، واما في
المرفوعة، فان الظاهر بقرينة سؤال السائل بعد ذلك هما عدلان مرضيان، انه ليس المراد
من الأعدل من كان هذا الوصف فيه أكثر وأشد بعد اشتراكهما في أصل الصفة، بل المراد
منها من كان عادلا، فهو من قبيل أولوا الأرحام، وحاصله يرجع إلى وجوب الاخذ بخبر
العادل لكونه حجة وطرح الآخر لكونه غير حجة، واما الشهرة فالظاهر بقرينة التعليل في
المقبولة، بان المجمع عليه لا ريب فيه: ان الترجيح بها ليس من الترجيحات الظنية التي
تعبدنا الشارع بها، بل تقديم المشهور، انما يكون من جهة انه مقطوع به وان غيره مقطوع
الخلاف.
361

أقول: ما افاده في الترجيح بالصفات بالنسبة إلى المقبولة، تام كما بيناه، واما بالنسبة
إلى المرفوعة، فغير تام: إذ استعمال هذه الجملة وإرادة تساويهما من حيث العدالة شايع،
ولذا ترى في المقبولة انه قال إنهما عدلان مرضيان لا يفضل أحدهما على صاحبه، فهي
لا تصلح ان تكون قرينة لصرف ظهور الأعدل والأوثق وإرادة الوثاقة والعدالة منهما.
واما الشهرة فليس المراد منها في المقبولة المشتهر بين الشيعة رواية وفتوى
وعملا، الذي يطمئن، بل يقطع بكون مضمونه هو الحكم الواقعي، والا لم يصح، قوله فان
كان الخبران عنكم مشهورين، ولا الرجوع إلى صفات الحاكم قبل ملاحظة الشهرة، ولا
الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجحات الاخر، بل المراد منها لهذه القرائن، ولظهور
الخبر في نفسه، ولما ستعرف، هي الشهرة رواية وهي لو أوجبت شيئا، فهي الاطمينان
بالصدور، لا الاطمينان من جميع الجهات كي يكون الخبر مما لا ريب فيه بقول مطلق من
جميع الجهات، بل هو حينئذ لا ريب فيه بقول مطلق من جهة، وهذا لا يلازم الاطمينان،
ولا الظن بعدم صدور المعارض، ولذا ترى فرض الشهرة في المتعارضين، فتكون من
المرجحات الظنية.
وبذلك ظهر ان مراد الشيخ الأعظم (ره) من أن المراد من نفى الريب فيه عدم الريب
فيه بالإضافة إلى الآخر، عدم الريب فيه بقول مطلق من جهة الصدور خاصة لامن جميع
الجهات، فلا يرد عليه الركاكة.
الرابع: ان النصوص المتضمنة للترجيح جملة منها ضعيفة السند، وجملة منها وان
كانت معتبرة الا ان الظاهر اختصاصها بزمان الحضور والتمكن من لقائه (ع) ولا تشمل
زمان الغيبة.
وفيه: أولا ان التوقف يحتمل اختصاصه بزمان الحضور، لامكان السؤال، ولكن
الترجيح لا يحتمل فيه ذلك، ولا فرق فيه بين الزمانين، بل العلل المذكورة فيها - مثل -
فان المجمع عليه لا ريب، وان الرشد في خلافهم تشهد بعدم الاختصاص كما لا يخفى.
وثانيا: ان جملة من النصوص مطلقة ليس فيها ما يتوهم الاختصاص، وبعضها وان
كان مذيلا بقوله فارجه حتى تلقى امامك، ولكن هذا القيد ذكر لخصوص التوقف، واما
362

ما قبله من المرجحات فلم يذكر فيها هذا القيد، ومعلوم انه لو ذكر مطلقات وذكر في
الأخير منها قيد يرجع ذلك إلى الأخير دون الجميع، وقد مر في مباحث العام والخاص ان
الجمل المتعقبة بالاستثناء يكون ذلك استثناءا عن الجملة الأخيرة فراجع.
الخامس: ما هو مختص بالمقبولة: وهو ان المقبولة واردة في القاضيين الذين حكم
كل منهما بخلاف الآخر، ومن المعلوم انه لا معنى للتخيير في ذلك الباب، لعدم قطع
الخصومة والنزاع به، فلا محيص عن الترجيح، ولذا في آخره حكم (ع) بالتوقف، فلا
يصح التعدي عن موردها إلى الخبرين المتعارضين الذين لا مانع فيهما من الالتزام
بالتخيير.
وفيه: ان صدر الرواية في مقام بيان ما يرجح به أحد القاضيين ويعمل بحكمه
ويترك الآخر، وبعد ما فرضهما الراوي متساويين في الصفات المرجحة، امر (ع) بالرجوع
إلى مستندهما أي الرواية فاخذ في بيان ما يرجح به إحدى الروايتين على الأخرى، وذكر
الشهرة أول تلك المرجحات.
لا يقال ان الشهرة المذكورة فيها من مرجحات أحد الحكمين الذي حكم بهما
القاضيان، لا من مرجحات الرواية، لأنه (ع) فرع على ما إذا كان أحدهما مشهورا بقوله
فيؤخذ به من حكمهما.
فإنه يقال ان عبارة الرسائل وان كانت كما ذكر، ولكن ما في كتب الحديث هكذا،
فيؤخذ به من حكمنا.
وبما ذكرناه تنحل العويصة التي أشكلت على الشيخ الأعظم (ره)، وهي ان ظاهر
الرواية تقديم الترجيح بصفات الراوي على الشهرة، مع أن بناء الأصحاب على تقديم
الترجيح بالشهرة، على الترجيح بالصفات: لما عرفت من أن أول مرجحات الرواية فيها
هي الشهرة، والصفات مرجحات حكم الحكمين.
فان قيل فما منشأ الترجيح بالصفات بعد الشهرة الذي عليه بناء الأصحاب، قلنا ان
وجهه مرفوعة زرارة المنجبرة بعمل الأصحاب على ما توهم.
فان قيل فلم يذكر الصفات في المقبولة، قلنا لعل وجهه ان الروايتين
363

المفروضتين في المقبولة راويهما القاضيان وقد فرض تساويهما في الصفات
السادس: انه لو قيدنا اخبار التخيير باخبار الترجيح لا يبقى لاخبار التخيير الا
موارد نادرة، وحملها عليها مستهجن فان في أكثر الموارد، اما ان يكون أحدهما مشهورا،
أو مخالفا للعامة، أو موافقا للكتاب، أو في رواية صفة من الصفات المرجحة، وفرض
التساوي في غاية الندرة، سيما إذا تعدينا عن المرجحات المنصوصة إلى كل ما يوجب
أقربية أحدهما إلى الواقع.
وفيه: أولا: ان هذا لو تم فإنما هو على مسلك من يرى الترتيب بين المرجحات،
واما من كان مثل المحقق الخراساني ويرى انه لا ترتيب، بينها، ففرض التساوي كثير، كما
لو فرضنا ان أحدهما مشهور والآخر مخالف للعامة، أو موافق للكتاب، وهكذا فمثل
المحقق الخراساني لا حق له ان يعترض بذلك.
وثانيا: ان استكشاف كون أحد الخبرين مشهورا، أو مخالفا للعامة، أو كون راويه
واجدا للصفات في هذا الزمان سهل، ولم يكن كذلك في أول الامر لتشتت الرواة
والفقهاء، وعدم الوسائل التي يظهر بواسطتها فتاويهم وأقوال العامة كانت مختلفة،
وتشخيص صفات الرواة كان صعبا.
لا يقال ان المرجح واقع الشهرة ومخالفة العامة، لا ما استكشفه المكلف،
فإنه يقال المكلف موظف بالترجيح بما ظهر له ومع عدمه أي عدم تشخيص وجود
المرجح وظيفته التخيير فتدبر.
السابع: ما في الكفاية ان، مخالفة الكتاب، وموافقة العامة ليستا من المرجحات، بل
من مميزات الحجة عن اللاحجة: لان ما خالف الكتاب بنفسه ليس بحجة، لما دل من
النصوص على أنه باطل، زخرف، لم نقله، وكذا الخبر الموافق للقوم، لان أصالة عدم
صدوره تقية بملاحظة الخبر المخالف لهم، مع الوثوق بصدوره لولا القطع به غير جارية
للوثوق حينئذ بصدوره كذلك.
وفيه: ما سيجيئ من أن مورد اخبار العرض على الكتاب وسقوط ما خالفه عن
الحجية هو صورة المخالفة بنحو التباين، وفى ذلك المورد ذكر هذه التعبيرات، واما
364

المخالفة في اخبار الترجيح، فموردها العموم المطلق، والعموم من وجه، على كلام،
وليس فيها هذه التعبيرات، وعلى الجملة المخالفة المرجحة، غير المخالفة المميزة، كما
ستعرف، والتعبيرات المشار إليها واردة في الثانية دون الأولى، والظاهر أن ذلك سهو من
قلمه الشريف.
الثامن: ما ذكره المحقق الخراساني بقوله، انه لولا التوفيق بذلك لزم التقييد أيضا
في اخبار المرجحات وهي آبية عنه كيف يمكن تقييد مثل ما خالف قول ربنا لم نقله، أو
زخرف، أو باطل الخ.
وفيه: ان نصوص الترجيح ليس فيها ما يأبى عن التقييد، وما ذكره من الجملات
الثلاث غير مربوطة بنصوص الترجيح، وانما هي في نصوص العرض على الكتاب
وموردها المخالفة بنحو التباين كما سيمر عليك، مع أن المذكور في نصوص الترجيح
الموافقة للكتاب ولم يذكر فيها المخالفة.
فالمتحصل ان شيئا من ما أورد على نصوص الترجيح لا يرد عليها، وهي أخص من
اخبار التخيير لو كان لدليله المعتبر اطلاق، فيقيد اطلاقها بهذه النصوص.
وان أول المرجحات، الشهرة، ثم موافقة الكتاب، ثم مخالفة العامة بمالها من
المعنى الوسيع الشامل لما وافق ميل حكامهم، ومع عدم شئ من المرجحات يحكم
بالتخيير للأصل الأولى ولنصوصه التي عرفت ان المتيقن منها فقد المرجحات.
بيان المراد من موافقة الكتاب
ثم انه لا بد من بيان أمور. الأول: ان موافقة الكتاب، هي مقابلة للمخالفة، فهل
المراد بالمخالفة، هي المخالفة ثبوتا، أو اثباتا؟
ثم هل المراد بها، المخالفة بنحو التباين أو بنحو العموم من وجه، أو العموم
المطلق؟
ثم انه في اخبار العرض على الكتاب جعلت المخالفة للكتاب من مميزات الحجة
365

عن اللاحجة، فهل المراد بالمخالفة في نصوص الترجيح هو ما أريد منها في نصوص
العرض، كما عن المحقق الخراساني حيث قال إن نصوص الترجيح ونصوص العرض على
الكتاب تفرغان عن لسان واحد، أم أريد منها غيره؟
وقد يقال ان اخبار العرض على الكتاب، وعدم صدور المخالف للكتاب عنهم
عليهم السلام محمولة على المخالفة ثبوتا، بمعنى ان ما يصدر منهم لا يخالف الكتاب
واقعا، بل يوافقه اما، لإرادة المؤول من الكتاب، أو من الخبر، نسبه المحقق الأصفهاني
إلى المحقق الخراساني في مباحث الألفاظ.
وفيه: انه لو تم فيما تضمن قولهم (ع)، لا نقول ما خالف قول ربنا، وما شاكل، لا يتم
فيما امر فيه بالعرض على الكتاب، وطرح ما خالفه كما هو واضح، فان المراد منها مخالفة
ما يدل عليه الخبر لمدلول الكتاب على ما يفهمه العارض منهما إذ هو القابل للعرض.
وقد يقال كما عن المحقق الخراساني في الكفاية ان المراد بالمخالفة في نصوص
الباب واخبار العرض شئ واحد، فتدلان جميعا على عدم صدور المخالف عنهم ولو
كان وحده، فتكون المخالفة من مميزات الحجة عن اللاحجة، لامن مرجحات إحدى
الحجتين على الأخرى.
وفيه: بعد فرض انه في المقبولة، ورد الامر بطرح المخالف بعد فرض كونهما
مشهورين والا فلو كان المخالف مشهورا لم يكن مطروحا، بل كان يجب العمل به، يظهر
ان المخالف للكتاب لا يكون ساقطا عن الحجية مطلقا.
وأيضا نعلم صدور ما خالف ظاهر الكتاب عنهم عليهم السلام، بل أغلب التفاسير
الواردة عنهم التي لا يساعدها ظاهر الكتاب كذلك.
وأيضا نعلم أن ما خالف الكتاب بالعموم، صادر قطعا عنهم (ع) فيظهر من جميع
ذلك انهما لا تفرغان من لسان واحد.
وحق القول في المقام ان المخالفة للكتاب تتصور على وجوه ثلاثة، المخالفة
بالتباين، والمخالفة بالعموم من وجه.
اما الأول: فله صورتان، إحداهما: ما إذا كان الخبر مخالفا لنص الكتاب فهي التي
366

وردت الاخبار على أن الخبر المتصف بها ليس بحجة أو زخرف، أو باطل، أو لم نقله أو
ما شاكل، فهذه الصورة هي مورد اخبار العرض ولا تشملها نصوص الترجيح.
ثانيتهما: ما إذا كان مخالفا لظاهر الكتاب، مثلا ظاهر الكتاب وجوب قضاء الصوم
للمريض والمسافر، فإذا ورد خبر صريح في عدم الوجوب غير معارض بخبر آخر، ففي
هذه الصورة لا اشكال في العمل به وحمل الكتاب على الاستحباب، فلو عارضه خبر
آخر صريح في الوجوب، يدخلان في الاخبار العلاجية ويقدم الخبر الثاني لموافقة
الكتاب.
والظاهر أن نظر الأصحاب حيث قالوا انه في صورة كون النسبة هو التباين يسقط
المخالف عن الحجية وهو المتيقن من اخبار العرض إلى الصورة الأولى.
واما الثاني: فحيث ان المأخوذ في اخبار العرض على الكتاب هي المخالفة، وهي
لا تصدق على المخالفة بنحو العموم والخصوص المطلق، لان الخاص يكون قرينة على
العام، فاخبار العرض لا تشمله، مضافا، إلى القطع بصدور الخبر المتصف بها عن
المعصوم فان أكثر المخصصات لعمومات الكتاب انما هي صادرة عن المعصومين (ع) فلا
توقف في عدم شمولها لها، واما في نصوص الترجيح فالمأخوذ هو الموافقة للكتاب وانما
ذكرت المخالفة في بعض تلك النصوص عقيب الموافقة وهي شاملة للفرض، فالمخالف
للكتاب بهذا النحو مشمول للاخبار العلاجية.
وبذلك ظهر ما في كلام المحقق النائيني (ره) حيث قال، ان نصوص الترجيح
والتخيير أيضا لا تشمله لعدم صدق المخالفة.
كما أنه ظهر ما في كلام المحقق الخراساني المدعى ان نصوص الترجيح ونصوص
العرض على الكتاب تفرغان عن لسان واحد.
واما الثالث: وهي المخالفة بالعموم من وجه فلا ريب في صدق المخالفة عليها
- الا ان - الظاهر عدم شمول اخبار العرض لها: فان مخالفته حينئذ انما تكون لظاهر الكتاب
عموما، وصدور مثل هذا المخالف عنهم (ع) غير عزيز، بل أغلب التفاسير الواردة عنهم (ع)
التي لا يساعدها ظاهر الكتاب من هذا القبيل، فلا يعمها ما دل على أن المخالف زخرف
367

أو باطل أو لم نقله، فتكون مشمولة للاخبار العلاجية.
فتحصل ان الأقوى كون موارد المخالفة بالعموم المطلق، والمخالفة بالعموم من
وجه وصورة واحدة من المخالفة بالتباين مشمولة للاخبار العلاجية، وصورة واحدة من
المخالفة بالتباين مشمولة لاخبار العرض
بيان المراد من الشهرة، ومخالفة العامة
الثاني: في الشهرة، وهي على اقسام 1 - الشهرة الروائية 2 - الشهرة العملية 3 -
الشهرة الفتوائية.
اما الشهرة الروائية وهي اشتهار الرواية بين الرواة، وأرباب الكتب الحديثية بان
ينقلها كثير منهم، فلا اشكال في الترجيح بها، لما عرفت من أنه الظاهر من المقبولة وغيرها.
واما الشهرة العملية وهي عبارة عن استناد المشهور إلى رواية في الفتوى وعملهم
بها، فهي من مميزات الحجة عن اللاحجة، لما مر في مبحث حجية الخبر الواحد، ان عمل
المشهور برواية واستنادهم إليها في مقام يوجب جبر ضعفها لو كانت ضعيفة، كما أن
اعراض الأصحاب عن رواية، هي بمرئى منهم ومنظر يوجب وهنها وان كانت صحيحة،
وعليه فالرواية المشهورة بهذا المعنى حجة، والرواية المعارضة لها ساقطة عن الحجية،
فهي من مميزات الحجة عن اللاحجة.
واما الشهرة الفتوائية، وهي عبارة عن اشتهار الفتوى على طبق مضمون الرواية مع
عدم احراز استنادهم في الفتوى إلى تلك الرواية، بان كانت الفتوى مطابقة للقاعدة أو
الأصل العملي واحتمل استنادهم إليها لا إلى الرواية.
فالظاهر عدم كونها مرجحة، ولا جابرة لضعف السند، اما عدم كونها جابرة
فواضح، واما عدم كونها مرجحة فلما مر من أن العمدة في مرجحيتها المقبولة وهي من
جهة انه لوحظ الشهرة فيها بالإضافة إلى الرواية الظاهر في نقل رأى المعصوم عن حس،
لا عن حدس ورأى، وغير ذلك من القرائن، ظاهرة في إرادة الشهرة الروائية.
368

نعم إذا كانت الفتوى على خلاف القاعدة والأصل، فحيث ان عدالة الأصحاب
تمنع عن الفتوى من غير مستند، والفرض انه لا مستند غير تلك الرواية، فلا محالة
يستكشف من ذلك استنادهم إليها، ولعله من هذا الباب حديث على اليد ما اخذت (1)،
فإنه خبر ضعيف، وفتوى قدماء الأصحاب على طبقه وان لم يستدلوا به، ولكنها ترجع إلى
الشهرة العملية، وليست مجرد الشهرة الفتوائية.
الثالث: لا اشكال في أن مخالفة العامة من المرجحات ولا كلام في ذلك انما
الكلام في أن مرجحيتها، هل تكون من جهة مطلوبية المخالفة لهم في نفسها، كما هو
الظاهر من خبر داود بن الحصين عمن ذكره عن أبي عبد الله (ع) في حديث، وان من وافقنا
خالف عدونا، ومن وافق عدونا في قول أو عمل فليس منا ولا نحن منهم (2)، أو من جهة
التعبد المحض كما هو الظاهر من ما تضمن الامر بالأخذ بالمخالف، كخبر المفضل بن
عمر قال الصادق (ع) كذب من زعم أنه من شعيتنا، وهو مستمسك بعروة غيرنا (3)، أو من
جهة صدور الموافق تقية، كما هو المستفاد من جملة من الاخبار كخبر عبيد بن زرارة عن
الإمام الصادق (ع) ما سمعته منى يشبه قول الناس فيه التقية، الحديث (4) أو من جهة ان الرشد
في خلافهم كما هو ظاهر كثير من النصوص، لاحظ قوله (ع) دعوا ما وافق القوم فان الرشد
في خلافهم (5) وخبر على بن أسباط عن الإمام الرضا (ع) في حديث ائت فقيه البلد فاستفته
من امرك فإذا أفتاك بشئ فخذ بخلافه فان الحق فيه (6) ونحوهما غيرهما، وجوه.
أظهرها الأخير، فان ما هو مدرك الوجه الأول، ظاهر في الموافقة معهم في
العقائد الفاسدة كما يشهد به خبر حسين بن خالد عن الإمام الرضا (ع) شيعتنا المسلمون
لامرنا الآخذون بقولنا المخالفون لأعدائنا فمن لم يكن كذلك فليس منا (7).

1 - المستدرك، ج 2: 504 حديث 12، عوالي اللئالي، ج 1: 224.
2 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 33.
3 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 26.
4 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 46.
5 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 19.
6 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 23.
7 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 25.
369

وما يكون مدركا للثاني مع تعدده وكثرته قابل للحمل على الوجه الرابع.
وما يكون مدركا للثالث ظاهر في صورة العلم بالصدور لاحظ خبر عبيد المتقدم.
فإذا المتعين هو الاحتمال الرابع، ويؤيده جعله مقرونا بالترجيح بموافقة الكتاب
في المقبولة، الظاهر، في أنهما من سنخ واحد، لا سنخين أحدهما المرجح المضموني
والآخر المرجح الجهتي.
ساير ما استدل به على لزوم الترجيح
وقد استدل لوجوب الترجيح في المتفاضلين بوجوه اخر.
منها: دعوى الاجماع على الاخذ بأقوى الدليلين.
وأورد عليه صاحب الكفاية بأنه مع مصير مثل الكليني إلى التخيير، وهو في عهد
الغيبة الصغرى ويخالط النواب والسفراء، قال في ديباجة الكافي ولا نجد شيئا أوسع ولا
أحوط من التخيير، دعوى الاجماع مجازفة.
وفيه: أولا ان الكليني في ديباجة الكتاب يصرح بلزوم الترجيح بالشهرة، وموافقة
الكتاب، ومخالفة العامة، ثم بعد ذلك يبنى على التخيير.
اللهم الا ان يكون نظره (قده) إلى رد الترجيح بكل مزية ولو لم تكن منصوصة كما
هو ظاهر الدليل، وثانيا: ان مخالفة الكليني وحده مع جلالة قدره لا تضر.
فالحق ان يورد عليه بعدم كون هذا الاجماع تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم (ع)
- مع - انه ليس اجماعيا قوليا، بل هو عملي، ووجه العمل غير معلوم، ولعله يكون من جهة
الاحتياط الاستحبابي، أو اختيار أحد فردي التخيير.
ثم انه ربما يورد على الكليني (قده)، بان ما افاده من انا لا نجد شيئا أوسع ولا أحوط
من التخيير لا يتم، فان التخيير وان كان أوسع، الا انه ليس أحوط قطعا، لان الترجيح
وتقديم ذي المزية لو لم يكن متعينا، لا أقل من احتمال تعينه، للنصوص المتقدمة وافتاء
المحققين به، فالأحوط هو الترجيح لا التخيير.
370

ولكن يمكن ان ينتصر للكليني بان مراده، ان الأحوط التوقف، والأوسع التخيير
لاحظ قوله، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم (ع) وقبول ما
وسع من الامر فيه الخ، فان الظاهر كونه بنحو اللف والنشر المرتب، وليست العبارة بالنحو
المذكور في الكفاية.
ومن الوجوه التي ذكروها لوجوب ترجيح ذي المزية: انه لو لم يجب الترجيح
بذى المزية، لزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح عقلا، بل ممتنع قطعا.
وأورد عليه المحقق الخراساني بقوله، وفيه انه انما يجب الترجيح لو كانت المزية
موجبة لتأكد ملاك الحجية في نظر الشارع ضرورة امكان ان تكون تلك المزية بالإضافة
إلى ملاكها من قبيل الحجر في جنب الانسان وكان الترجيح بها بلا مرجح وهو قبيح
انتهى.
ويرد عليه ان المستفاد من الأدلة ان ملاك حجية الخبر هو إرائته للواقع، ورجحان
صدقه، فإذا كان المزية موجبة لأقوائية هذا الملاك كيف يمكن دعوى احتمال ان
تكون المزية بالإضافة إلى ملاكها من قبيل الحجر في جنب الانسان فيكون الترجيح، بها
بلا مرجح.
فالأولى: ان يجاب عنه، بأنه لا يعتنى بهذه الاحتمالات والاستدلالات في مقابل
اطلاقات التخيير الدالة على ثبوت التخيير حتى مع وجود المزية، ولكن قد عرفت انها
تقيد بأدلة الترجيح، ولولا تلك الأدلة كان المتعين البناء على التخيير مطلقا، ومنها غير
ذلك مما هو بين الفساد.
هل التخيير في المسألة الأصولية أو في المسألة الفرعية؟
ثم انه مع عدم المرجح لا اشكال في التخيير كما مر وانما الكلام يقع في موارد.
الأول: في أن التخيير، هل هو في المسألة الأصولية، أم في المسألة الفرعية؟ الثاني:
في أنه هل للمجتهد ان يفتى بالتخيير في المسألة الأصولية بناءا على كون التخيير فيها
371

فيختار المقلد غير ما اختاره المجتهد أم لا؟ الثالث: في أن التخيير بدوي أو استمراري.
اما الأول فالظاهر أن التخيير في المسألة الأصولية لوجوه.
أحدها: ان ظاهر بعض نصوصها كقوله (ع) بأيهما، أي بأي الخبرين، اخذت من باب
التسليم وسعك، ذلك كما لا يخفى.
ثانيها: ان التخيير في الحكم الفرعي لا يخلو عن وجوه ثلاثة، كونه واقعيا، أوليا، أو
واقعيا ثانويا، أو ظاهريا، وشئ منها لا يكون معقولا.
اما الأول: فلاستلزامه التصويب، لان مذهب المخطئة بقاء الواقع على ما هو عليه،
ولو بعد قيام الامارة، والواقع على الفرض، ليس لا أحدهما المعين، وهو لا يتغير بقيام
الامارة.
واما الثاني: فلاستلزامه الجمع بين الحكمين، التعييني والتخييري، مع أنه لو قام
أحد الخبرين على وجوب الظهر في زمان الغيبة، والآخر على وجوب الجمعة فيه،
فبمقتضى اخبار التخيير على هذا المسلك يكون الحكم الثانوي هو التخيير بينهما،
وحيث إن الواقعي الأولى باق بحاله، وهو وجوب أحدهما تعيينا، والمفروض تعلق العلم
بثبوته فيجب بمقتضى هذا العلم الاحتياط بالجمع بينهما، واخبار التخيير على هذا لا يصلح
لرفع وجوب الاحتياط.
واما الثالث: فلان الحكم الظاهري انما هو في ظرف الشك في الواقع، فيعتبر في
صحة جملة احتمال مصادفته للواقع، ومع القطع بالعدم لا يعقل جعل الحكم الظاهري،
وفى المقام حيث يعلم بان المجعول الواقعي أحدهما المعين فجعل الحكم التخييري غير
معقول، ويكون نظير جعل الإباحة في صورة العلم بان الواقع اما هو الوجوب أو
الاستحباب.
ثالثها: انه لو كان مؤدى أحدهما وجوب شئ، ومؤدى الآخر وجوب شئ آخر
يمكن التخيير بينهما، واما لو كان مؤدى أحدهما وجوب شئ ومؤدى الآخر اباحته
لا معنى للتخيير بينهما، بان يكون مخيرا بين الوجوب والإباحة: إذ التخيير بين الفعل
والترك، أو الفعلين معقول، واما التخيير بين الحكمين فغير معقول.
372

فالمتحصل ان التخيير يكون في المسألة الأصولية.
واما المورد الثاني: فجواز اختيار المقلد غير ما يختاره المجتهد يبتنى على القول
بان التقليد في المسألة الأصولية مشمول لأدلة التقليد، فلو كان رأى المجتهد حجية الخبر
الموثوق به له ان يفتى بذلك، فإذا رأى المقلد وثاقة خبر لا يراه المجتهد موثقا له ان
يعمل به. وعليه ففي المقام له ان يختار غير ما يختاره المجتهد، وقد أشبعنا الكلام في
المبنى، في أول مباحث القطع، وفى رسالة الاجتهاد والتقليد هل التخيير بدوي أو استمراري؟
واما المورد الثالث: فالكلام فيه يقع في جهات، الأولى: فيما يقتضيه الأصل الأولى
على المختار من أنه التخيير، الثانية: فيما يقتضيه الاجماع المدعى على التخيير مع عدم
المرجح. الثالثة: فيما يقتضيه اطلاقات أدلة التخيير على تقدير تسليم دلالتها عليه، الرابعة:
فيما يقتضيه الاستصحاب مع عدم الدليل على أحد الطرفين.
اما الجهة الأولى: فحيث عرفت ان الأصل في الامارتين هو التخيير بتقييد حجية
كل منهما بعدم الاخذ بالآخر، لا بتعلق الحجية والدليلية بالجامع بينهما، فيكون دليل
التخيير دليلا على استمراره، فالتخيير استمراري الا ان يمنع عنه مانع خارجي، وهو العلم
الاجمالي.
توضيحه: انه إذا فرضنا قيام خبرين على وجوب فعلين، كالظهر، والجمعة، أو
القصر، والتمام وأمثالهما فعلى القول باستمرارية التخيير له ان يختار في الواقعة الثانية،
خلاف ما يختاره في الواقعة الأولى، فإذا فعل كذلك يحصل له العلم الاجمالي بالمخالفة
القطعية العملية وهذا العلم الاجمالي يمنع عن الحكم باستمرارية التخيير.
والى ذلك نظر صاحب المفاتيح حيث استدل لابتدائية التخيير: بان العدول موجب
لترك الواجب لا إلى بدل، وهذا بخلاف التخيير الواقعي في موارده فان جواز العدول
373

فيها لا يلزم المحذور المذكور.
اللهم الا ان يقال ان المخالفة القطعية في الواقعتين التدريجتين لا قبح فيها أصلا،
أو انه إذا التزم في كل واقعة بحكم ظاهري من الشارع كما في المقام لا قبح فيها.
ولعله إلى أحد هذين نظر العلامة (ره) في النهاية حيث قال، ليس في العقل ما يدل
على خلاف ذلك ولا يستبعد وقوعه كما لو تغير اجتهاده.
ولكن حيث إن، المبنيين المشار إليهما في الجواب، غير تامين، كما يظهر عدم
تمامية الأول مما ذكرناه في منجزية العلم الاجمالي في التدريجيات، وعدم تمامية الثاني
في أول مبحث الظن من عدم مجعولية الحكم في مقام جعل الحجية والدليلية، فلا يمكن
الالتزام بالتخيير الاستمراري في هذا المورد خاصة لمانع، والمسألة محتاجة إلى تأمل
زايد.
واما الجهة الثانية: فحيث ان تسالم الأصحاب على التخيير ليس من قبيل الاجماع
على القاعدة، والاجماع الذي حاله ذلك لا اطلاق له، بل هو دليل لبى، فلا بد من الاخذ
بالمتيقن، وهو ثبوت التخيير ابتداءا وعدم استمراريته.
واما الجهة الثالثة: أي بناءا على تسليم دلالة الاخبار على التخيير وثبوت
الاطلاق لها فقد استدل لكون التخيير ابتدائيا بوجوه.
منها: ما افاده الشيخ الأعظم وهو: ان اطلاقات التخيير لا تشمل ما بعد الاخذ
بأحدهما: لأنها مسوقة لبيان حكم المتحير في بادي الامر، فبعد الاخذ والعمل بأحدهما
يتبدل الموضوع، ولا يكون باقيا.
وأورد عليه تارة: بان الموضوع ليس هو المتحير فان الموضوع المأخوذ في الأدلة
هو تعارض الخبرين بلا تقييده بقيد التحير.
وأخرى: بأنه لو سلم التقييد بالمتحير، لكن تقييد المتحير بكونه في بادي الامر لم
يدل عليه دليل.
والى هذين الايرادين نظر المحقق الخراساني في الكفاية حيث قال، ان التحير
بمعنى تعارض الخبرين باق على حاله، وبمعنى آخر لم يقع في خطاب موضوعا للتخيير
374

أصلا انتهى.
ولكن يمكن تقريب ما افاده الشيخ: بان الموضوع ومن وجه إليه الخطاب في
الاخبار ليس كل مكلف، بل هو المكلف الذي اتاه الحديثان المتعارضان، فتحير، ولم
يأخذ بواحد منهما، فلا اطلاق لها بالنسبة إلى الاخذ.
وان شئت قلت إن المسؤول عنه في الاخبار حكم من اتفق له ذلك وتحير فيما هو
وظيفته، فالجواب بأنه مخير في العمل بأيهما شاء، لا يشمل صورة الاخذ بأحدهما وعدم
تحيره في وظيفته.
وبعبارة ثالثة: انه على القول بان الأصل في تعارض الخبرين هو التساقط، فمن
تعارض الخبران عنده، لا دليل له على الحكم الواقعي، والاخبار واردة لبيان حكمه،
ويعين له الدليل فبعد الاخذ وثبوت الدليل عنده، لا نظر للاخبار إلى تعيين الدليل له،
ويمكن ارجاع الوجهين الآخرين الآتيين إلى ذلك، والا فاشكالهما ظاهر.
أحدهما: ان ظاهر التكاليف الوجودية المتعلقة بالطبايع كون المتعلق هو صرف
وجود الطبيعة لا جميع الوجودات، وعليه فالامر بالأخذ بأحد الخبرين انما يكون المطلوب به هو الاخذ مرة واحدة، لا الاخذ في كل يوم - وبعبارة أخرى - التكليف
متوجه إلى غير الآخذ، وبعد الاخذ يسقط التكليف.
ثانيهما: ان موضوع التخيير هو الخبرين المتعارضين الجائي أي الواصل وهو انما
يصل مرة واحدة، وبعد الآن الأول لا يصدق انه وصل، بل هو الذي وصل أولا، فإذا اختار
أحدهما فقد ارتفع موضوع التخيير فلا يشملهما اخبار التخيير.
وللمحقق النائيني (ره) في المقام كلام، قال ومنها كون التخيير استمراريا إذا كان
التخيير في المسألة الفقهية، لأنه يكون كالتخيير بين القصر والاتمام في المواطن الأربعة
إلى أن قال، وبدويا إذا كان التخيير في المسألة الأصولية فان معنى كون التخيير في المسألة
الأصولية هو التخيير في جعل أحد المتعارضين حجة شرعية واخذ أحدهما طريقا محرزا
للواقع، ولازم ذلك وجوب الفتوى بما اختاره أولا وجعل مؤداه هو الحكم الكلى
الواقعي المتعلق بأفعال المكلفين، فلا معنى لاختيار الآخر بعد ذلك إلى أن قال، وأدلة
375

التخيير انما تدل على اختيار أحدهما حجة، وبعد اختيار أحدهما حجة يكون المجتهد
محرزا للواقع ولا يبقى مجال لاختيار الآخر بعد ذلك حجة شرعية انتهى.
ويرد عليه ان التخيير كان في المسألة الأصولية، أو الفقهية، ان كان موضوعه
تعارض الخبرين بلا دخل شئ آخر فيه يتعين الالتزام بكونه استمراريا، والا لزم تخلف
الحكم عن موضوعه، وهو كحد تخلف المعلول عن علته كما صرح به، وان كان موضوعه
ذلك مقيدا بوصولهما، أو كون المخاطب به غير الآخذ تعين الالتزام بكونه بدويا، والا
لزم ثبوت الحكم مع انعدام موضوعه، بلا فرق بين المسلكين.
اما الجهة الرابعة: فعلى المختار من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية
الكلية الامر واضح.
واما على القول الآخر، فقد ذكر الشيخ الأعظم (ره) انه لا يجرى استصحاب التخيير
من جهة تبدل الموضوع، فان الحكم انما ثبت لمن لم يختر فاثباته لمن اختار والتزم،
اثبات للحكم في غير موضوعه الأول.
وأورد عليه بأنه بناءا على أن المعيار في وحدة الموضوع هو نظر العرف كما بنى
هو وساير المحققين عليه لا وجه لما ذكر، لعدم تبدل الموضوع بنظرهم بتغير هذا القيد
وتبدله.
ولكن بناءا على ما ذكرناه في توجيه ما افاده من عدم شمول اطلاق الأدلة لما بعد
الاخذ لا مورد لهذا الايراد: فان التخيير عبارة عن كون الاختيار بيد المكلف في جعل
أحد المتعارضين حجة بينه وبين ربه حيث لا حجة له لفرض تساقط الحجتين، وهذا
المعنى بعد الاخذ بأحد الخبرين يرتفع قطعا، لأنه بعد الاخذ يكون ذا حجة بينه وبين ربه
فيتبدل الموضوع لا محالة.
وقد يقال انه يجرى استصحاب التخيير، ولكن يعارضه استصحاب الحجية
الفعلية، فإنه قبل الاخذ بأحدهما كان مخيرا في الاخذ بأيهما شاء، وكان لكل منهما حجية
شأنية، فبعد الاخذ بأحدهما، صار ذلك حجة فعلية فاستصحاب التخيير يثبت الحجية
الشأنية للمأخوذ، فهو يعارض الحجية الفعلية فيه.
376

وأجاب الشيخ عن هذه المعارضة، في مبحث دوران الامر بين المحذورين، بان
استصحاب التخيير، حاكم على الاستصحاب الجاري في الحجية الفعلية، إذ الشك في
الحجية الفعلية بقاءا مسبب عن الشك في بقاء التخيير، فلو جرى الأصل في السبب،
لا يجرى في المسبب.
ولكن يرد عليه ان السببية في المقام لا تكون شرعية، بل هما متلازمان كما هو
واضح، وقد مر انه يعتبر في تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي على القول به، ان
تكون السببية شرعية، وعلى ذلك لو فرض جريان استصحاب التخيير، يعارضه
استصحاب الحجية الفعلية في المأخوذ فيتساقطان.
فالمتحصل مما ذكرناه، انه بناءا على مسلك المشهور، من أن الأصل الأولى في
تعارض الامارتين هو التساقط، يكون التخيير الثابت في الخبرين المتعارضين بمقتضى
الأصل الثانوي بدويا لا استمراريا، واما على المختار من أن الأصل الأولى في المتعارضين
مطلقا هو التخيير، يكون التخيير الثابت في الخبرين استمراريا لا بدويا.
التعدي عن المرجحات المنصوصة وعدمه
المبحث الخامس: هل يجب الاقتصار على المرجحات المنصوصة على القول
بوجوب الترجيح كما قويناه، أم يجوز التعدي عنها إلى كل ما احتمل كونه مرجحا واقعا
وان لم ينص عليه في الروايات، كما اختاره الشيخ الأعظم حيث ذهب إلى الترجيح بكل
ما يوجب أقربية أحد المتعارضين إلى الواقع من الآخر وجهان.
مقتضى القاعدة في موارد دوران الامر بين التعيين والتخيير في الحجية وان كان
هو التعيين: للعلم بحجية ذي المزية والشك في حجية ما قابله، والشك في الحجية ملازم
للقطع بعدم الحجية.
: الا انه في خصوص الخبرين المتعارضين الأصل الثانوي يقتضى التخيير كما مر
تفصيله في أول المبحث الرابع، فالتعدي خلاف الأصل يحتاج إلى دليل.
377

وقد استدل له بوجوه.
الأول: الترجيح بالأصدقية في المقبولة، والأوثقية في المرفوعة بتقريب: ان اعتبار
هاتين الصفتين ليس الا لترجيح الأقرب إلى المطابقة للواقع في نظر الناظر في المتعارضين،
من حيث إنه أقرب من غير مدخلية خصوصية سبب، فكل مزية موجبة لأقربية ذيها إلى
الواقع تكون موجبة للترجيح.
وفيه: أولا انا لا نتصور معنى صحيحا معقولا للأصدقية: لان بعض الصفات
والملكات قابل للشدة والضعف، وفى أمثال ذلك يتصور كون تلك الصفة والعرض
والملكة في مورد أكثر وأشد من ثبوتها في محل آخر، وفى الصدق الذي هو بمعنى
مطابقة الخبر للواقع، لا يتصور ذلك فان من أخبر عن شئ، اما ان يكون صادقا، أو كاذبا
ولا ثالث، وعليه فلا بد وان يحمل الأصدقية على إرادة ان المتصف به يتكلم بالصدق أكثر
من مقابله، وان كان هو أيضا صادقا لو تكلم، لكنه لعدم وجوب كل صدق لا يكون مقيدا
بالاخبار بما هو صادق، بخلاف هذا الشخص مثلا ورد ان أبا ذر أصدق الناس، وهو انما
يكون لأجل انه كان مقيدا بان يخبر بالاخبار الصادقة وحين ما سئله المشركون عن حمله،
قال النبي (ص)، مع أنه لم يكن يجب عليه ذلك، وعلى هذا، فالترجيح بهذه الصفة تعبد
محض وليس ذلك لأجل الأقربية إلى الواقع كما هو واضح.
وثانيا: انه لم يعلل الترجيح بهما بالأقربية إلى الواقع، ولعله في أقربية الأصدقية
والأوثقية خصوصية في الترجيح، كما في الظن الحاصل من خبر الواحد: فإنه لا يتعدى
منه إلى كل ما يوجب الظن.
وثالثا: ان الأصدقية انما ذكرت في المقبولة ولم تذكر في خبر معتبر، وقد مر ان
الصفات المرجحة المذكورة في المقبولة انما هي من مرجحات أحد الحكمين لا من
مرجحات الرواية فتدبر.
الوجه الثاني: التعليل للترجيح بالشهرة: بان المجمع عليه لا ريب فيه، بتقريب ان
الظاهر أن العلة هو عدم الريب فيه بالإضافة إلى الآخر ولو كان فيه الف ريب، فإنه لو كان
المراد عدم الريب فيه بقول مطلق، لم يكن وجه لفرض كليهما مشهورين ولكان معارضه
378

مما لا ريب في غيه لا داخلا في الشبهات وقد أدخله الإمام (ع) فيها، فمقتضى عموم العلة
ان كل معارض كان لا ريب فيه بالإضافة إلى معارضه يكون هو الحجة - وبعبارة أخرى -
يكون مقدما عند التعارض ذكره الشيخ الأعظم.
وأورد عليه جمع من الأساطين منهم المحقق الخراساني: بان الشهرة في الصدر
الأول بين الرواة وأصحاب الأئمة (ع) موجبة لكون الرواية مما يطمئن بصدوره بحيث
يصح ان يقال انه مما لا ريب فيه، ولا باس بالتعدي منه إلى مثله مما يوجب الاطمينان
والوثوق بصدوره لا إلى كل مزية ولو لم توجب الا أقربية ذي المزية إلى الواقع من
المعارض الفاقد لها.
وأيده بعضهم بان المراد بالمشهور هو معناه اللغوي وهو الظاهر والواضح،
والمشهورية بهذا المعنى لا تلازم الاطمينان بعدم صدور الآخر بعد ما يوجد التعارض في
مقطوعي الصدور - نعم - لو اطمئن بان الحكم الواقعي هو ما أدى إليه هذا الخبر يطمئن
بعدم كون ما أدى إليه الآخر هو حكم الله تعالى، وبه يظهر انه يمكن فرضهما مشهورين.
أقول: ان الشيخ الأعظم في استدلاله بعموم العلة لا يدعى ان المراد من لا ريب فيه،
لا ريب فيه بالإضافة كي يرد عليه ما ذكر، بل يدعى انه وان كان ظاهر التعليل هو نفى الريب
فيه بقول مطلق من جميع الجهات، ولكن بقرينة فرض السائل الخبرين مشهورين،
وارجاعه (ع) إلى صفات القاضي قبل ملاحظة الشهرة والحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى
المرجحات الاخر، يتعين إرادة نفى الريب فيه من جهة من الجهات، فيكون مفاد التعليل
ان في الشاذ احتمالا لا يوجد في المشهور، ومقتضى التعدي عن مورد النص في العلة،
وجوب الترجيح بكل ما يوجب كون أحد الخبرين أقل احتمالا من الآخر.
ولكن يرد على الشيخ (ره) انه بعد فرض عدم إرادة لا ريب فيه من جميع الجهات،
يدور الامر بين إرادة لا ريب فيه بقول مطلق من حيث الصدور، فلا يتعدى الا إلى ما
يوجب الاطمينان بالصدور، وبين إرادة لا ريب فيه بقول مطلق من جهة من الجهات بلا
دخل لجهة الصدور في ذلك، ولازمه التعدي إلى كل ما كان الاحتمال فيه أقل من
الآخر، ولو لم ندع ظهوره في الأول من جهة خصوصية المورد ومناسبة الحكم
379

والموضوع، فلا أقل من الاجمال وعدم ظهوره في الثاني فلا وجه للتعدي فتدبر فإنه دقيق.
الثالث: تعليله (ع) لتقديم الخبر المخالف للعامة، بان الرشد في خلافهم، فإنه يدل
على لزوم تقديم كل خبر أقرب إلى الواقع، وذلك لأنه لا ريب في أن كل ما خالف العامة
لا يكون موافقا للواقع، وكل ما وافقهم لا يكون باطلا ضرورة ان الاحكام المتفق عليها بين
الفريقين كثيرة وهي موافقة للواقع، بل المراد ان ما خالفهم أقرب إلى الواقع من الموافق
واحتمال الرشد فيه أقوى، فيتعدى إلى كل ما فيه امارة الرشد ويكون أقرب إلى الواقع.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بجوابين، أحدهما: انه يحتمل ان يكون الرشد في
نفس المخالفة لحسنها.
وفيه: ما تقدم في ذيل نصوص الترجيح من أن الظاهر من الروايات ان الترجيح
بمخالفة العامة، انما هو من جهة غلبة مخالفة أحكامهم للواقع لا لحسن المخالفة نفسها.
مع أنه ليس في الاخبار ما يتوهم دلالته على حسن المخالفة نفسها، الا هذه الجملة
(فان الرشد في خلافهم) وهذه لم ترد في النصوص وانما ذكره الكليني في ديباجة الكافي
في مقام نقل مضمون النصوص، والموجود فيها (ما خالف العامة فيه الرشاد) (1) وظهوره
فيما ذكرناه ظاهر.
ثانيهما: انه لو سلم انه لغلبة الحق في طرف الخبر المخالف لا شبهة في حصول
الوثوق بان الخبر الموافق المعارض بالمخالف لا يخلو من الخلل صدورا أو جهة ولا باس
بالتعدي منه إلى مثله.
وفيه: انه كيف يكون الخبر الموافق لهم موثوقا عدم صدوره أو عدم صدوره لبيان
حكم الله الواقعي، مع أنه لو كان وحده وبلا معارض كان يعمل به بلا ريب.
والحق في الجواب ان يقال ان العلة المنصوصة هي ما يمكن القائه إلى المكلف
وفى المقام لا يمكن ذلك: لان المراد بالرشد ليس هو الرشد الجزمي، إذ لا ريب في أن
كثيرا من الاخبار الموافقة لهم موافقة للواقع، ولذا عند عدم التعارض يكون الخبر الموافق

1 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 1.
380

الذي يكون مشهورا مقدما على المخالف لهم بل المخالفة من المرجحات بعد فقد جملة
منها، فيدور الامر بين حمله على إرادة الرشد الغالبي، أو الإضافي، أو الظني، ولو لم يكن
الأول أظهر لا ريب في أنه محتمل، ومعه لا يمكن القاء ذلك إلى المكلف ليكون ضابطا
ويتعدى عنه، لعدم الطريق له إلى احراز كون صنف خاص غالب الإصابة كما هو واضح.
الوجه الرابع: مما ذكره الشيخ للتعدي، قوله (ع) دع ما يريبك إلى ما لا يريبك:
بدعوى انه يدل على أنه إذا دار الامر بين الامرين في أحدهما ريب ليس في الآخر ذلك
الريب يجب الاخذ به، وعليه فإذا فرض أحد المتعارضين منقولا بلفظه والآخر منقولا
بالمعنى، وجب الاخذ بالأول لان احتمال الخطاء في النقل بالمعنى منفى فيه.
وفيه أولا: انه ضعيف السند لأنه رواه الشهيد في الذكرى مرسلا ورواه الكراچكي
كذلك في كنز الفوائد صفحه 164 مذيلا بقوله، فإنك لن تجد فقد شئ تركته لله
عز وجل، وقد اعترف الشيخ بذلك في مسألة وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية،
وانما استفاد قوة السند من اقتصار المحقق في المعارج على الجواب عنه، بأنه لا يعتمد
على خبر الواحد في المسألة الأصولية، وان الزام المكلف بالأثقل فيه مظنة الريبة، وهو
كما ترى.
وثانيا: انه (قده) في تلك المسألة استظهر منه ومن ساير الروايات كون الامر فيه غير
الزامي وكونه دالا على مطلوبية الاحتياط نفسا، ويؤيده ما في ذيله من التعليل، مع أنه لو لم
يكن ظاهرا فيه لابد من حمله عليه بقرينة ساير الأخبار.
وثالثا: انه يدل على لزوم ترك ما فيه ريب والاخذ بما لا ريب فيه بقول مطلق لا ما
لا ريب فيه بالإضافة، مع أن كلا من الخبرين لفرض شمول أدلة حجية الخبر الواحد له في
نفسه يكون مما لا ريب فيه.
ثم إن المحقق الخراساني ذكر في الكفاية وجهين لعدم التعدي.
الأول: عدم بيان الإمام (ع) للكلية كي لا يحتاج السائل إلى إعادة السؤال مرارا.
الثاني: امره (ع) بالارجاء بعد فرض التساوي فيما ذكر من المزايا المنصوصة فان
عدم بيان، والامر بالارجاء يوجبان الظهور للروايات في أن المدار في الترجيح على
381

المزايا المخصوصة.
ثم قال إنه بناءا على التعدي حيث كان في المزايا المنصوصة ما لا يوجب الظن بذى
المزية ولا أقر بيته كبعض صفات الراوي مثل الأورعية أو الأفقهية، إذا كان موجبهما مما
لا يوجب الظن أو الأقربية كالتورع من الشبهات والجهد في العبادات،، وكثرة التتبع في
المسائل الفقهية أو المهارة في القواعد الأصولية فلا وجه للاقتصار على التعدي إلى
خصوص ما يوجب الظن أو الأقربية بل إلى كل مزية ولو لم تكن بموجبة لأحدهما انتهى.
أقول: يرد على الوجه الأول ان الشيخ (قده) يدعى انه (ع) بين الكلية غاية الامر بلسان
العلة لا بلسان بيان المجعول، وكم له نظير في الفقه.
ويرد على الوجه الثاني ان الامر بالارجاء انما يكون بعد فرض عدم وجود ما
ذكره مرجحا، ومنه ما بينه بنحو العلة وهو كل ما أوجب الأقربية لا بعد فقد خصوص
المرجحات المنصوصة.
واما ما افاده أخيرا، فيرده ان الأفقهية والأورعية ليستا من مرجحات إحدى
الروايتين على الأخرى لعدم ذكرهما إلى في المقبولة التي عرفت ان صدرها المتضمن
للترجيح بصفات الراوي وارد لبيان ما يكون مرجحا لاحد الحكمين على الآخر، ولا ربط
له بترجيح أحد الخبرين على الآخر.
مع أن التورع في غير النقل بما انه يلازم التورع فيه، فلا محالة يكون خبر الأورع
أقرب من غيره، كما أن الأفقهية بما انها دخيلة في بيان ما صدر من الإمام (ع) فيما ينقل من
الاخبار بالمعنى، فلا يكون مرجحا تعبديا، فالصحيح ما ذكرناه.
فالمتحصل انه لا يتعدى من المرجحات المنصوصة.
اختصاص الاخبار العلاجية بغير موارد الجمع العرفي
المبحث السادس: قد عرفت سابقا انه لا تعارض بين الخبرين في موارد الجمع
العرفي، ولا يعمها ما يقتضيه الأصل في المتعارضين، فهل الترجيح أو التخيير الثابت
382

بالاخبار العلاجية يختص أيضا بغير مواردها، أو يعمها، المشهور بين الأصحاب
الاختصاص، وعن ظاهر الاستبصار والمحقق القمي وبعض المحدثين التعميم.
واستدل للأول: بان المستفاد من الاخبار العلاجية ان الترجيح أو التخيير انما هو
في موارد تحير العرف في الوظيفة وعدم فهمهم إياها، لا فيما يستفاد ولو بالتوفيق العرفي،
فإنه من أنحاء طرق الاستفادة.
واشكل عليه المحقق الخراساني بان منشأ الاستظهار المذكور ان كان اختصاص
السؤالات بغير مواردها من جهة عدم صحة السؤال بعد فهم المراد بالطريقة العقلائية،
فيرده: انه يصح السؤال، اما بملاحظة التحير البدوي، وان كان زائلا بالتأمل، أو من جهة
التحير في الحكم الواقعي، لان الجمع العرفي لا يوجب رفع التحير في الحكم الواقعي، أو
من جهة احتمال الردع عن الطريقة المألوفة.
وان كان منشأه اختصاص العناوين المأخوذة في الأسئلة والأجوبة بغير مواردها،
فيرده: ان جلها لولا كلها تشملها، ودعوى ان المتيقن غيرها، مندفعة: بان المتيقن في غير
مقام التخاطب لا يوجب تقييد الاطلاقات.
ثم هو (قده) تصدى لبيان وجه الاختصاص وذكر له وجهين.
أحدهما: ان السيرة العقلائية مخصصة لعمومات الاخبار العلاجية.
ثانيهما: ان السيرة تكون قرينة على التخصيص وان موردها ما عدا مورد الجمع
العرفي، ثم قال، انه لو سلم الاجمال فحيث لم يثبت الردع عن السيرة تكون هي المتبعة.
أقول: في كلامه (قده) مواقع للنظر 1 - ان ما افاده في وجه صحة السؤال لا يتم: فان
السؤال ليس بملاحظة التحير في الحكم الواقعي، فإنه يكون باقيا بعد بيان الوظيفة أي
التخيير، ولا بملاحظة التحير البدوي فإنه بعيد غايته ان يسئل انه لو تحيرنا في الحكم ثم
علمنا الوظيفة الفعلية بالتأمل ماذا نصنع، ولا بملاحظة احتمال الردع إذ احتماله قبل هذا
السؤال والجواب ليس وبعده بعيد.
2 - ما ذكره من أن جل العناوين لولا كلها تشملها: فإنه يرد عليه ان العناوين
المأخوذة ثلاثة، المتعارضان، المختلفان، ويجئ امر ونهى على خلافه، وشئ منها
383

لا يشمل مورد الجمع العرفي، اما الأول: فلما تقدم في أول مبحث التعادل والترجيح، واما
الثاني: فلان الاختلاف مساوق للتعارض، واما الثالث: فلان الظاهر منه وحدة متعلق الأمر والنهي
في موضوع واحد ولا يشمل، ما لو كان متعلق أحدهما أخص من متعلق الآخر، أو
كان موضوعه كذلك.
3 - ما ذكره من تخصيص عموم الاخبار بالسيرة: فإنه دوري إذ تخصيصه بها
يتوقف على حجيتها، وحجيتها تتوقف على عدم الردع وهو يتوقف على التخصيص
4 - ما ذكره (قده) من التخصيص فإنه يرده ما افاده (قده) في أول كلامه، فالصحيح
البناء على عدم الشمول من جهة عدم شمول العناوين لمواردها.
وقد استدل للزوم الرجوع إليها في موارد الجمع العرفي بروايات.
الأولى: التوقيع الشريف كتب إليه الحميري يسئلني بعض الفقهاء عن المصلى إذا
قام من التشهد الأولى إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه ان يكبر فان بعض أصحابنا قال
لا يجب عليه تكبيرة ويجزيه ان يقول بحول الله وقوته أقوم واقعد فكتب (ع) في الجواب
عن ذلك حديثان اما أحدهما فإذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير، واما الآخر فإنه
روى أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد
القعود تكبير، وكذلك التشهد الأول يجرى هذا المجرى، وبأيهما اخذت من باب
التسليم كان صوابا (1) حيث إنه (ع) حكم بالتخيير مع أن الثاني أخص من الأول.
وأجاب الشيخ الأعظم (ره) في مبحث البراءة عنه بان جوابه (ع) يدل على أن الحديث
الأول نقله الإمام (ع) بالمعنى وأراد شموله لحالة الانتقال من القعود إلى القيام بحيث
لا يمكن إرادة ما عدا هذا الفرد منه، فأجاب (ع) بالتخيير.
وفيه: ان لازم ذلك الالتزام بما لا يصح لنا الالتزام به بالنسبة إلى فقيه من فقهائنا
فضلا عن المعصوم (ع) وهو الخطاء في النقل
وأجاب عنه المحقق الهمداني (ره) بان حكمه (ع) بالتخيير لعله يكون من جهة علمه

1 - الوسائل باب 3 1 من أبواب السجود كتاب الصلاة، وباب 9 من أبواب صفات القاضي
حديث 39.
384

بإرادة العموم حقيقة لا استعمالا كي يحمل العام على الخاص.
وفيه: انه مع علمه بذلك يتعين البناء على استحباب التكبيرة على أي حال كما
لا يخفى، مع أنه هذا أيضا كسابقه لا يليق بمقامه السامي إذ لو كان (ع) بصدد بيان تعليم
حكم المتعارضين وينقل ما ظاهره عدم التعارض بينهما كان ذلك خلاف مقامه.
وأجاب المحقق الخراساني عنه في حاشيته على الرسائل بان الغرض من بيان
الخبرين بيان المقتضى لاستحباب كل منهما ولأجل تزاحم المقتضيين، وعدم امكان
استيفائهما معا المستفاد من نفى التكبير في الخبر الثاني لوجود المقتضى للحوقلة، يكون
التخيير عقليا.
وفيه: ان المراد من ذكر الخبرين لو كان ذلك، كان المتعين ان ينقلهما بغير هذا
النحو الذي يكون مقتضى الجمع العرفي، عدم وجود المقتضى للتكبير، فما ذكره (قده)
مستلزم لعدم صحة الجمع العرفي، وبالجملة ما ذكره يكون تقريبا لثبوت التعارض بين
العام والخاص فإنه لولا ذلك كان المتعين بحسب ما يستفاد من الاخبار استحبابهما معا
فتدبر فإنه دقيق.
والحق في الجواب ان يقال، أولا: ان الخبر لم يعمل به أحد سوى المفيد إذ لم
يفت أحد بمشروعية التكبيرة في القيام بعد القعود سواه على ما في الجواهر، واعترض
عليه في الذكرى بأنه لم نجد له مأخذا كما في الجواهر، وثانيا: انه لكون مورده من
المستحبات التي يتسامح في أدلتها لا يتعدى عنه، فإنه يمكن ان يكون منشأ محبوبية
التكبير مع أن الخاص يستدعى عدمها صرف ظهور العام فيها، وان كان زايلا لأقوائية
الخاص، ولا يمكن الالتزام بذلك في غير المستحبات كما لا يخفى.
الثانية: ما عن سماعة عن الإمام الصادق (ع) عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل
دينه في خبرين كلاهما يرويه أحدهما يأمره - والآخر ينهاه - كيف نصنع قال (ع) يرجئه
حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه (1) بتقريب ان الامر ظاهر في طلب الفعل ونص

1 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 5، كتاب القضاء.
385

في الجواز، والنهى ظاهر في التحريم ونص في طلب الترك ومقتضى حمل الظاهر على
النص الحكم بالكراهة والرخصة في الفعل مع أنه (ع) حكم بالتخيير.
وفيه: أولا، ان مثل هذا الجمع ليس جمعا عرفيا: إذ الضابط في كون الجمع عرفيا
فرض صدور الجملتين من شخص واحد في مجلس واحد، فان لم ير العرف التنافي بينهما
ورأوا إحداهما قرينة على الأخرى كان الجمع عرفيا والا فلا، وفى المقام إذا جمعنا الامر
بشئ والنهى عنه صادرين من شخص واحد لا ريب في أن العرف يرونهما متنافيين
ولا يرون أحدهما قرينة على الآخر كما لا يخفى.
وثانيا: انه لا شاهد فيه يشهد بان في المورد كان صيغة الامر وصيغة النهى، بل ظاهره
انه كان هناك حقيقة الأمر والنهي وهما متباينان.
وثالثا: انه ليس جوابه دالا على الحكم بالتخيير بين الاخذ بالخبرين بل يدل على
بيان الحكم الواقعي الذي يحكم به العقل مع عدم الحجة على شئ من الطرفين فيعارض
مع اخبار التخيير والترجيح.
الثالثة: رواية على بن مهزيار قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبى الحسن (ع)
اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله (ع) في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم
صلهما في المحمل وروى بعضهم لا تصلهما الا على وجه الأرض فاعلمني كيف تصنع
أنت لأقتدي بك في ذلك فوقع (ع) موسع عليك باية عملت (1) بتقريب انه (ع) حكم
بالتخيير، مع أن الأول نص في الجواز والثاني ظاهر في الحرمة، فالجمع بينهما يقتضى
البناء على الكراهة.
وفيه: أولا ما تقدم في الجواب الأول عن الخبر الثاني، وثانيا انها في المستحبات،
فيرد عليها ما أوردناه ثانيا على الخبر الأول، وثالثا: انه يمكن ان يقال فيها انه لم يسئل
عنه (ع) عن حكم الخبرين وانما سئل عن الحكم الواقعي وكان هو أفضلية الصلاة على وجه
الأرض وجوازها في المحمل وأجاب (ع) بالتوسعة.

1 - الوسائل باب 15 من أبواب القبلة كتاب الصلاة وباب 9 من أبواب صفات القاضي
حديث 44.
386

فتحصل ان الأقوى خروج الموارد الجمع العرفي عن موارد الترجيح والتخيير،
وانه لم يرد من الشارع ما يكون رادعا عن الطريقة المألوفة التي استمرت عليها السيرة من
لدن زمان الأئمة (ع) إلى اليوم، بحيث يلزم من عدم العمل على طبقها تأسيس فقه جديد.
وظاهر كلام الشيخ في العدة والاستبصار وان كان هو عمله بالمرجحات في
تعارض النص والظاهر، الا انه يتعين صرفه عن ظاهره، لما صرح به في محكى العدة في
باب بناء العام على الخاص، بان الرجوع إلى التخيير والترجيح انما هو في تعارض العامين،
دون العام والخاص، بل لم يجعلهما من المتعارضين أصلا، واستدل له بان العمل بالخاص
ليس طرحا للعام، وان العمل بالتخيير والترجيح فرع التعارض الذي لا يجرى فيه الجمع
العرفي.
تعارض العموم والاطلاق
المبحث السابع: قد عرفت انه إذا كان أحد الخبرين قرينة على الآخر لا يعامل
معهما معاملة المتعارضين، وقد يشتبه الامر صغرويا، وقد ذكر الشيخ الأعظم لتمييز القرينة
وذي القرينة عن المتعارضين في موارد الاشتباه ضوابط، ذكر المحقق الخراساني منها
اثنين.
أحدها: ما إذ تعارض الاطلاق والعموم كما لو قال، أكرم العالم، ولا تكرم الفساق
حيث إنه يدور الامر، بين تقييد اطلاق الأول بغير الفاسق، وبين تخصيص عموم الثاني،
بغير العالم، حيث قيل إن شمول العام لمورد الاجتماع أظهر من شمول المطلق له، وقد
ذكر في وجه الأظهرية والتقديم أمران، كل منهما على مسلك.
الأول: ان التقييد كثير والتخصيص قليل، وقد ذكر الشيخ (ره) ذلك بناءا على القول
بان التقييد مجاز، وقد ذكره المحقق الخراساني بنحو الاطلاق.
وفيه: ان الصغرى والكبرى ممنوعتان، اما الأولى: فلعدم الدليل على أكثرية التقييد
عن التخصيص، لو لم يكن الثاني أكثر حتى قيل ما من عام الا وقد خص، واما الثانية: فلان
387

الأكثرية لا تكون منشئا لذلك بعد كون العام قابلا للتخصيص أيضا.
الثاني: انه على فرض عدم كون التقييد مجازا، حيث إن ظهور العام في العموم
يكون بالوضع وظهور المطلق في الشمول بمقدمات الحكمة يقدم الأول.
وذلك: لان سراية الحكم إلى جميع الافراد في موارد العموم الوضعي لا يحتاج
إلى جريان مقدمات الحكمة، بل أداة العموم بنفسها كاشفة عن ذلك، وان المدخول غير
مقيد بقيد، وهذا بخلاف سراية الحكم إلى جميع الافراد، في موارد الاطلاق، فإنها
بمقدمات الحكمة، وهذا هو المراد من كون دلالة العام تنجيزية، ودلالة المطلق تعليقية.
وعليه فدلالة العام على حكم المجمع لا تتوقف على شئ، وهذا بخلاف دلالة
المطلق، فإنها متوقفة على جريان مقدمات الحكمة، ومنها عدم البيان، والعام يصلح
للبيانية، فمع وجوده لا تتم المقدمات، فلا يثبت الاطلاق للمطلق ولا ينعقد له ظهور فيه.
ولا يمكن ان يقال، ان العام انما يكون حجة في العموم لولا المخصص، والمطلق
يصلح لذلك.
: فان تخصيصه به دوري فإنه متوقف على حجية المطلق في اطلاقه وانعقاده
المتوقفة على عدم حجية العام في عمومه المتوقف على مخصصية المطلق وهذا دور
واضح.
والحق في الجواب عن ذلك أن عدم البيان الذي هو من مقدمات الحكمة انما هو
عدم البيان ببيان القيد متصلا بكلامه لا عدم بيان القيد ولو منفصلا، فإنه مانع عن دلالة
الكلام على المراد الجدي، لا المراد الاستعمالي.
توضيح ذلك: ان لكل جملة دلالتين، أحدهما: دلالتها على أن المتكلم أراد بها
تفهيم معناها ويعبر عنها بالدلالة التصديقية فيما قال، ثانيتهما: دلالتها على أن المراد
الجدي مطابق للمراد الاستعمالي بل هذه ليست في الحقيقة من دلالة اللفظ في شئ، بل
بناء العقلاء جار على ذلك، وبيان القيد المتصل يمنع عن انعقاد الظهور في الاطلاق، واما
بيان القيد المنفصل فهو لا يمنع عن ذلك، بل يوجب تقييد المراد الجدي، وعليه فالعام
لا يصلح بيانا لما هو مانع عن انعقاد الاطلاق
388

لا يقال ان المطلق وان انعقد له الظهور في الاطلاق مع عدم بيان القيد متصلا الا انه
يكون مراعى بعدم البيان ولو منفصلا.
فإنه يقال ان الشيخ الأعظم (ره) وان التزم بذلك في مبحث المطلق والمقيد، وعليه
يتم ما ذكره (ره) في المقام، الا انا قد حققنا في ذلك المبحث خلافه وان القيد المنفصل
لا يوجب انثلام ظهور المطلق في الاطلاق.
لا يقال ان ما ذكر يتم فيما إذا ورد العام بعد المطلق، وأما إذا ورد قبله فلا يتم فإنه
في حكم البيان المتصل، فإنه يقال: مجرد ذكره قبله لا يجدى فإنه عند العرف لا يعد قرينة
متصلة ما لم يكن ذلك القيد من المرتكزات الذهنية.
لا يقال انه بناءا على ما اعترف به من توقف دلالته على المراد الجدي على عدم
بيان القيد ولو منفصلا لا يكون للمطلق دلالة عليه في الفرض إذ العام يصلح لذلك، ومع
عدمها لا يكون حجة.
فإنه يقال من هذه الجهة، لا فرق بين العام والمطلق، فان مدرك هذه الدلالة هو بناء
العقلاء وليست دلالة لفظية، وعليه فلا مزية لأحدهما على الآخر، فالأظهر عدم تمامية
هذا الضابط، ومما ذكرناه يظهر الخدشة في كثير مما قيل في المقام.
دوران الامر بين النسخ والتخصيص
الثاني: ما إذا دار الامر بين التخصيص والنسخ، كما إذا ورد عام بعد حضور وقت
العمل بالخاص، حيث يدور الامر بين كون الخاص مخصصا للعام، أو كون العام ناسخا
للخاص، أو ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، حيث يدور الامر بين كون
الخاص ناسخا للعام، أو مخصصا له، قد يقال بتعين النسخ، واستدل له بوجهين.
أحدهما: ان الالتزام بالتخصيص مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو قبيح.
وأجاب عنه صاحب الكفاية في مبحث العام والخاص، بما هو، وايراد
المحقق النائيني (ره)، وايرادنا عليهما، مذكورة في ذلك المبحث مفصلا فراجع.
389

والحق في الجواب انه ربما تكون المصلحة في تأخير البيان مع القاء الحجة على
خلاف الواقع أو المفسدة في تقديمه، وفى مثل ذلك لا مانع من تأخير البيان عن وقت
الحاجة: إذ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة انما يكون من جهة قبح تفويت المصلحة أو
الالقاء في المفسدة، ومع وجود المصلحة في التأخير أو المفسدة في التقديم لا يكون
ذلك قبيحا.
الوجه الثاني: ما افاده المحقق الخراساني (ره) في المقام وحاصله ان دلالة الخاص
أو العام على الاستمرار والدوام، انما هو بالاطلاق لا بالوضع، فعلى الوجه العقلي في
تقديم التقييد على التخصيص كان اللازم في هذا الدوران تقديم النسخ على التخصيص
أيضا.
وملخص القول في المقام بالبحث في موردين 1 - في أن بقاء الحكم في عمود
الزمان وعدم نسخه لأي شئ يكون، هل هو الاطلاق، أو العموم، أو الاستصحاب، أو
الأدلة الخارجية غير دليل الحكم من قبيل ما دل (1) على أن حلال محمد (ص) حلال إلى يوم
القيامة 2 - في تقديم التخصيص على النسخ، أو تقديم النسخ عليه، أو عدم تقديم أحدهما
على الآخر.
اما الأول: فلا ينبغي التوقف في أن عدم النسخ ليس من جهة اطلاق دليل الحكم:
لان الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى المجعول ممكن نظير انشاء الزوجية فإنه يمكن انشاء
الزوجية الدائمة كما يمكن انشاء الزوجية المقيدة الانقطاعية، واما بالنسبة إلى الجعل، فهو
بمعنى الانشاء وابراز المعنى باللفظ، ينعدم بعد وجوده بلا فصل، وبالمعنى الاعتباري
الذي يعبر عنه ببقاء القانون في العرفيات، يكون الانشاء والجعل بالنسبة إليه بمنزلة
الموضوع للحكم فلا يعقل تضمن ما دل على ثبوت الحكم لبقائه بهذا المعنى، وبالجملة،
دوام الحكم واستمراره انما يكون من احكامه المتفرعة عليه، فكيف يمكن اثبات الدوام
بنفس ما يتكفل لاثبات الحكم بل لابد له من دليل آخر.

1 - أصول الكافي: كتاب فضل العلم باب البدع والرأي والمقائيس حديث 19.
390

فان قلت، ان الاطلاق في الموضوع يلازم الاطلاق في الجعل، وذلك: لأنه إذا
وجب الحج مثلا لمن يأتي بعد الف سنة فبعد تلك المدة يجب عليه الحج، وهذا يلازم
لبقاء الجعل إلى ذلك الوقت والا لما كان واجبا عليه.
قلت: ان جعل الحكم عليه انما يكون من أول زمان الجعل، واما فعليته له فهي
تتوقف على بقاء الجعل، واثباته بها دوري.
وليس وجهه استصحاب عدم النسخ لما تقدم في التنبيه السادس مفصلا.
بل البناء على عدم النسخ انما هو لأجل الأدلة الخارجية من قبيل حلال محمد (ص)
حلال إلى يوم القيامة، وما شاكل، وعليه فلو كان تعارض فإنما هو بين عموم هذه الأدلة
وأصالة العموم.
واما الثاني: فالحق انه يقدم التخصيص ويبنى عليه، وان كان مدرك بقاء الحكم
في عمود الزمان هو الاستصحاب، وذلك: فان النصوص الصادرة عن المعصومين (ع) بما
انما متضمنة للأحكام الثابتة في الاسلام من أول ظهوره إلى الأبد وهي كاشفات عنها،
فالروايات الصادرة عنهم بمنزلة الصادرة عن شخص واحد، فالمتقدم والمتأخر منها
بمنزلة المقارن - وبعبارة أخرى - ان التقدم والتأخر انما هو في الكاشف، واما المنكشف
فلا تقدم ولا تأخر فيه وهو المعيار، وقد تقدم ان تقدم الخاص على العام انما هو بالورود
ولا يصلح العام لان يكون ناسخا عن الخاص، فلو صدر من النبي (ص) خاص، ومن الإمام الصادق
(ع) عام يفرض انهما صدرا من شخص واحد في مجلس واحد، ويبنى على
تخصيص العام بالخاص، لا ناسخية العام للخاص، نعم لو كان مفاد العام ثبوت الحكم من
حين صدوره، لا من الأول، كان لما افاده المحقق الخراساني وجه، ولكنه عرفت انه
بمراحل عن الواقع.
ثم إن الأقوال في الخصوصيات الصادرة عن الأئمة عليهم السلام بالنسبة إلى
الكتاب المجيد، ثلاثة، 1 - الالتزام بالنسخ 2 - الالتزام بالتخصيص، وان النبي صلى الله عليه
وآله بينها من الأول، ولكنها خفيت على الناس إلى أن بينها الأئمة (ع) 3 - الالتزام
بالتخصيص من حين صدورها.
391

لا سبيل إلى الأول، لا لما قيل من انقطاع الوحي بعد النبي (ص)، لأنه يمكن ان يكون
من العلوم المستودعة عندهم، بل لأنه من المستبعد جدا الالتزام بالنسخ في أكثر الأحكام الشرعية
، أضف إليه ما تقدم في المسألة المتقدمة، وبه يظهر ان المتعين هو القول الثالث.
حول انقلاب النسبة في التعارض بين أكثر من دليلين
المبحث الثامن: قد عرفت انه إذا كان أحد الدليلين قرينة عرفية على الآخر، يقدم
عليه، من دون ان تلاحظ المرجحات، وان لم يكن كذلك يرجع إلى اخبار الترجيح
والتخيير على تفصيل تقدم.
لكن تعيين ذلك فيما إذا كان التعارض بين الأكثر من دليلين في جملة من موارده
لا يخلو من صعوبة ولذلك أصبحت المسألة معركة للآراء.
وحيث إن موارد ذلك في الفقه كثيرة، فلا بد من بيان ضابط به يتضح الحال في
كل مورد.
وتنقيح القول بالبحث في كل صورة من صور المسألة وهي خمس.
الأولى: ما لو ورد عام وخاصان متباينان كما لو، دل دليل على استحباب اكرام
العلماء، ودل دليل آخر على عدم استحباب اكرام الكوفيين منهم، ودل دليل ثالث على
عدم استحباب اكرام الحليين منهم، فان النسبة بين العام، وكل من الخاصين عموم مطلق،
والنسبة بين الخاصين التباين، فان لم يلزم من تخصيص العام بهما محذور كما في المثال
فيخصص العام بهما، من دون لزوم انقلاب النسبة.
وان لزم منه ذلك كما لو لزم عدم بقاء المورد للعام من تخصيصه بهما، أو لزم
التخصيص المستهجن، كما لورود يجب اكرام العلماء، ودل دليل ثان على استحباب
اكرام العدول منهم، ودل دليل ثالث على حرمة اكرام الفساق منهم، فله موردان 1 - ما إذا
كان كل من الخاصين منفصلا 2 - ما إذا كان أحدهما متصلا والآخر منفصلا.
فالكلام في موردين.
392

اما الأول: فعن المحقق النراقي (ره) انه يخصص العام أولا بأحدهما، إذا كان ذلك
هو الاجماع ونحوه، ثم يلاحظ النسبة بين العام المخصص والخاص الآخر، وليست
النسبة حينئذ هو العموم المطلق كما هو واضح.
وأورد عليه المحقق الخراساني بان النسبة انما تلاحظ بملاحظة الظهورات
وتخصيص العام بمخصص منفصل ولو كان قطعيا لا ينثلم به ظهوره وان انثلم به حجيته.
وفيه: ان التعارض انما يكون بين الحجج، واما ما ليس بحجة فلا معنى لتعارضه
مع الحجة: إذ ما ليس بحجة كيف يمكن ان يعارض مع الحجة، فالمعارض لا بد وأن يكون
حجة لولا المعارضة.
ولكن يرد على المحقق النراقي (ره) ان الاجماع أو نحوه ليس من قبيل القرينة
المتصلة المانعة عن انعقاد ظهور العام في العموم فلا فرق بينه وبين المخصص اللفظي، ولا
وجه لملاحظة النسبة بينه وبين العام أولا لقبح الترجيح بلا مرجح.
وعليه فهل تلاحظ النسبة بين العام وبين مجموع الخاصين ثم بين الخاصين كما
اختاره المحقق الخراساني وغيره من الأساطين، أم تلاحظ النسبة بين جميع الأدلة؟
وجهان.
قد استدل للأول، بان نسبة العام إلى الخاصين على حد سواء فتخصيصه بأحدهما
دون الآخر ترجيح بلا مرجح، وبهما معا يلزم المحذور المتقدم، فيعامل مع الخاصين
والعام معاملة المتعارضين، فان قدم الخاصان، فهو ومعه لا مجال للعمل بالعام أصلا، وان
قدم العام فلا يطرح من الخاصين الا خصوص ما لم يلزم مع طرحه المحذور فان التباين
انما كان بينه وبين مجموعها لا جميعها، فحينئذ ربما يقع التعارض بين الخصوصات
فيخصص ببعضها ترجيحا أو تخييرا.
أقول: لا اشكال في أن دلالة العام على بعض الافراد في الجملة انما تكون
بالنصوصية، وبوضع المادة لذلك، وتقدم الخاص عليه انما يكون فيما لم يصادم مع هذه
الدلالة، ودلالته على جميع الافراد انما تكون بالظهور، وبأصالة العموم، وقد مر ان الخاص
وارد أو حاكم عليه في دلالته هذه.
393

وعلى هذا فالعام لا يعارض مع مجموع الخاصين لعدم كونهما معا طرف
المعارضة، وليس دليلهما واحدا بل هو امر انتزاعي منهما.
وكذا لا يعارض مع كلا الخاصين لان أحدهما يكون قرينة على العام وهو في
دلالته على العموم لا يصلح ان يعارض مع الخاص، فطرف المعارضة أحد الخاصين
- وبعبارة أخرى - العام بعد كونه ذا دلالتين، الدلالة على فرد ما، والدلالة على الجميع،
فبعد ورود الخاصين حيث إنه يكون أحدهما قرينة عليه فيسقط دلالته على العموم، وتبقى
الدلالة الأولى ومعارضته في هذه الدلالة انما تكون مع أحدهما لا كليهما، وان شئت قلت،
ان العام انما يكذب أحد الخاصين لا كليهما، غاية الامر أحدهما غير المعين، وكل من
الخاصين أيضا يكذب الآخر والعام، فتكون حال هذه الأدلة حال البينات الثلاث، القائمة
كل واحدة منها على طهارة أحد الإناءات الثلاثة المعلوم نجاسة أحدها، في أن التعارض
انما يكون بين الجميع فلا بد من ملاحظة النسبة بين الجميع.
فحينئذ ان لم يكن لاحدها مرجح يتخير بينها وأيها شاء يطرح.
واما ان كان هناك ترجيح فان كان الترجيح لكل من الخاصين يقدمان ويطرح
العام.
وان كان الترجيح للعام وكان الخاصان متساويين يؤخذ بالعام ويتخير بين
الخاصين، فيطرح أيهما شاء، ويخصص العام بالآخر.
وان كان للعام مرجح عليهما ولأحدهما مرجح على الآخر يقدم العام وذاك
الخاص ويطرح المرجوح.
ثم إن الفرق بين ما اخترناه وما ذهب إليه الأساطين، انه إذا كان للعام مرجح على
أحد الخاصين، وكان للخاص الآخر مرجح على العام، يكون الحكم على القول الأول
التخيير، لان مجموع الخاصين الذي هو طرف المعارضة يكون مركبا من الأضعف
والأقوى، فلا يكون أضعف ولا أقوى.
واما على المختار يقدم العام على الخاص المرجوح والخاص الراجح يقدم على
العام.
394

ولو كان العام أرجح من أحد الخاصين ومساويا مع الآخر، فعلى المسلك الأول
يقدم العام عليهما لان المشتمل على المساوي والأضعف يكون أضعف فيقدم العام.
ولكن على ما اخترناه يقدم العام على الخاص الخاص المرجوح ويتخير بين الاخذ
بالخاص الآخر والعام.
ولو كان العام مساويا مع أحد الخاصين ومرجوحا بالنسبة إلى الآخر، فعلى
المسلك الأول يقدم الخاصان لان المشتمل على المساوي والأقوى يكون أقوى.
ولكن على مسلكنا يقدم الخاص الراجح ويتخير بين العام والخاص المساوي،
وعلى التقديرين لا يكون هذا المورد من موارد انقلاب النسبة.
واما المورد الثاني: وهو ما إذا كان أحد الخاصين متصلا والآخر منفصلا، كما إذا
ورد أكرم العلماء الا النحويين منهم، ثم ورد منفصلا، لا تكرم الأصوليين وفرضنا ان
العلماء صنفان نحوي، وأصولي، لا اشكال في أنه يخصص العام أولا بالمتصل ثم يلاحظ
النسبة مع المنفصل، والسر في ذلك: ان المخصص المتصل لا يبقى للعام ظهورا في
العموم، لما مر من أن الظهور التصديقي فيما قال أيضا يتوقف على عدم وجود القرينة
المتصلة، والعام مع القرينة المتصلة انما يكونان بحكم ما لو عبر عن الموضوع بلفظ
بسيط، فالمثال الأول، بحكم أكرم الأصوليين، وهذا هو الفارق بين المتصل والمنفصل
حيث إنه في الثاني ينعقد للعام ظهور في العموم والخاص، يصادم مع حجيته، والمتصل
يصادمه في الظهور.
وبما ذكرناه يندفع ما قد يتوهم من أن التعارض انما يكون في الكاشفية عن المراد
وفى الكاشفية عن المراد لا فرق بين القرينة المتصلة والمنفصلة.
وجه الاندفاع: ان التعارض انما يكون بين الشيئين الذين يكون كل منهما حجة في
نفسه لولا التزاحم، لا بين ما لا يكون حجة في حد نفسه ولو لم يكن مزاحم وغيره
وعليه فإذا كان الخاصان منفصلين فحيث ان العام انعقد ظهوره في العموم وهو
حجة فيه، والخاصان كل منهما يصلح للقرينية ونسبتهما إليه على حد سواء، فيقع التعارض
بين الجميع وأما إذا كان أحدهما متصلا فلا ينعقد للعام ظهور في العموم كي يعارض،
395

ويصلح الخاص الآخر للقرينية، فلا مقتضى فيه للكاشفية عن المراد بل اقتضائه انما يكون
بالنسبة إلى غير ما خصص، فلابد من ملاحظة النسبة بين العام المخصص والخاص الآخر.
الصورة الثانية: ما إذا ورد عام وخاصان بينهما عموم من وجه، والكلام فيها أيضا
في موردين، الأول ما إذا كان الخاصان متوافقين، كما إذا ورد أكرم العلماء، ثم ورد
لا تكرم الفساق من العلماء، ثم ورد لا تكرم النحويين، الثاني، ما إذا كان الخاصان
مختلفين - مثل - ما إذا دل دليل على وجوب اكرام العلماء ودليل آخر على حرمة اكرام
النحويين، ودليل ثالث على استحباب اكرام الصرفيين.
اما المورد الأول: فمورد الاجتماع، وهو النحوي الفاسق لا يجب اكرامه بمقتضى
الخاصين فيخصص به العام ويكون النسبة بين الخاصين في موردي الافتراق هو التباين
فيعامل حينئذ معاملة التباين الذي مر آنفا.
واما المورد الثاني: فيخصص العام في مجمع التصادق، وهو النحوي الصرفي
ويحكم بعدم وجوب اكرامه، واما انه هل يستحب أو يحرم فيرجع فيه إلى ما يقتضيه
القواعد بين العامين من وجه، وحينئذ فعلى المختار في العامين من وجه من الرجوع إلى
الاخبار العلاجية فهو، وعلى القول بالتساقط يسقطان، معا، ويرجع فيه إلى العام، ولا وجه
لدعوى انهما يسقطان عن الحجية بالنسبة إلى مدلولهما المطابقي لا الالتزامي: لما تقدم من
تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية حجية أيضا فراجع.
واما في موردي الافتراق فيجرى فيهما ما ذكرناه في الصورة الأولى.
الصورة الثالثة: ما إذا ورد عام وخاصان بينهما عموم مطلق كما إذا ورد أكرم كل
شائب ودل دليل آخر على إباحة اكرام الفساق منهم، وورد دليل ثالث انه يحرم اكرام
شارب الخمر منهم، لا اشكال في تخصيص العام بالخاص الأخص لعدم حجية العام فيه
على كل تقدير، والنسبة بينه وبين الخاص الأعم أيضا عموم مطلق فيخصص به ويختص
الخاص الأعم بغير مورد الأخص، وتكون النسبة بينه وبين العام عموم مطلق كما لا يخفى.
الصورة الرابعة: ما إذا ورد عامان من وجه وخاص مطلق، فان كان الخاص أخص
منهما وكان يخرج مادة الاجتماع منهما، كما إذا ورد يجب اكرام العلماء، ثم ورد، يحرم
396

اكرام الفساق، وورد دليل ثالث، انه يستحب اكرام العالم الفاسق، يخصص العامان به،
ويختص كل من العامين بموردي الافتراق ولا تعارض بينهما.
وان كان الخاص مخصصا لأحدهما بان اخرج مورد افتراق أحدهما، كما إذا دل
- دليل - على استحباب اكرام العلماء، ودليل آخر على حرمة اكرام الفساق، ودليل ثالث
على أنه يجب اكرام العدول من العلماء.
فقد التزم الشيخ الأعظم (ره) بانقلاب النسبة في هذه الصورة، بمعنى انه يخصص ما
دل على استحباب اكرام العلماء، بما دل على وجوب اكرام العدول منهم فيختص بالفساق
منهم حينئذ والنسبة بينه، وبين العام الثاني عموم مطلق، فيخصص به فيختص حرمة اكرام
الفساق بغير العلماء.
والوجه فيه: انه يدور الامر بين أمور، منها ان يخصص العام الذي له مخصص به،
وبالعام الآخر، فلا يبقى له مورد، ومنها ان يخصص العام الذي مخصص بالعام الآخر،
ويعارض حينئذ مع الخاص، ويقدم عليه، فيطرح الخاص، ومنها ان يخصص العام الذي له
مخصص بالخاص ثم يخصص العام الآخر به، فلا يلزم طرح دليل أصلا.
وبعبارة أخرى - الامر يدور بين طرح أحد النصين، وبين طرح ظهورين وابقاء
الأدلة الثلاثة فيما تكون نصا فيه، ولا ريب في أن الثاني أولى.
وفيه: ان طرح النص أو الظاهر بتمامه انما لا يجوز في مقام الجمع الدلالي، واما
طرحه بواسطة الاخبار العلاجية فلا محذور فيه.
عليه فيمكن ان يقال في المقام انه يلاحظ أولا عامان من وجه ويعمل قاعدة
التعارض كي يظهر وجود عام كي يخصص وعدمه، فان قدم العام المنافى للخاص على
معارضه، لوجود مرجح فيه فيخصص ذلك العام بالخاص، وان قدم غير المنافى
لرجحانه فان كان للعام المنافى بعد هذا الترجيح افراد غير ما ينطبق عليه الخاص فيخصص
بالخاص، والا فيكون العام المنافى مع الخاص كالمبائن وحيث إن الخاص أظهر منه لان
دلالته على المورد بالنصوصية، ودلالة العام بالظهور فيقدم الخاص عليه ويطرح العام ولا
محذور فيه.
397

وان شئت قلت إن العام المنافى يعارضه الخاص والعام الآخر في مرتبة واحدة،
والخاص يقدم عليه لكونه نصا، ويعمل قواعد التعارض في العام مع العام الذي يكون
معارضا له، فان كان ذلك العام أرجح يقدم عليه، ويطرح ذلك ولا محذور في مثل هذا
الطرح واستدل المحقق النائيني لانقلاب النسبة في هذه الصورة: بان ملاحظة النسبة بين
الأدلة انما هي لأجل تشخيص كونها متعارضة أو غير متعارضة وقد تقدم ان تعارض
الأدلة انما هو لأجل حكايتها وكشفها عما لا يمكن جعله وتشريعه لتضاد مؤدياتها،
فالتعارض بين الأدلة انما يكون بمقدار كشفها وحكايتها عن المراد النفس الأمري، ومن
الواضح ان تخصيص العام يقتضى تضييق دائرة كشفه وحكايته: لان التخصيص يكشف
لا محالة عن عدم كون عنوان العام تمام المراد، بل المراد هو ما وراء الخاص، لان دليل
الخاص لو لم يكشف عن ذلك يلزم لغوية التعبد به وسقوطه عن الحجية فلازم حجية
دليل المخصص هو سقوط دليل العام عن الحجية في تمام المدلول وقصر دائرة حجيته
بما عدا المخصص، وحينئذ لا معنى لجعل العام بعمومه طرف النسبة لان النسبة انما
تلاحظ بين الحجتين، فالذي يكون طرف النسبة هو الباقي تحت العام الذي يكون العام
حجة فيه، فلو خصص أحد العامين من وجه بمخصص متصل أو منفصل يسقط عن
الحجية في تمام المدلول ويكون حجة فيما عدا عنوان الخاص فيلاحظ النسبة بينه بمقدار
حجيته وبين العام الآخر ولا محالة تنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق.
وفيه: ان العام الذي له مخصص، في نفسه كاشف عن المراد النفس الأمري، وانه
العموم، ولو قدم الخاص عليه تتضيق دائرة كشفه ولكن لا وجه لتخصيصه به أولا ثم
ملاحظة النسبة مع العام بعد كونه والخاص في رتبة واحدة، فلقائل ان يقول إنه يلاحظ
النسبة أولا بين العامين، فلو قدم ذلك العام يصير هذا العام دائرة كشفه منحصرة بمورد
الخاص، فيعارض مع الخاص بالتباين، فالأظهر انه لا وجه لانقلاب النسبة في هذه الصورة
أيضا.
والمحقق الخراساني مع التزامه بعدم انقلاب النسبة التزم بتقديم العام الذي له
398

مخصص، لو لم يكن الباقي تحته بعد تخصيصه، الا ما لا يجوز ان يجوز عنه التخصيص
أو كان بعيدا جدا، من جهة كون كالنص فيه، فيقدم على الآخر الظاهر فيه بعمومه.
وفيه: انه لو خصصنا العام أولا بالخاص، ثم لاحظنا النسبة بينه وبين العام الآخر
كان ما افاده تاما، ولكن لم يخصص به أولا، بل لابد على هذا المسلك من ملاحظة النسبة
قبل التخصيص، ولو لوحظت النسبة قبل التخصيص يكون التعارض بين الظهورين،
وبالجملة كما يمكن تخصيص العام أولا بالخاص، فيكون معارضا مع العام حينئذ
معارضة النص والظاهر، كذلك يمكن ان تلاحظ النسبة بين العامين أولا ثم ملاحظتها بين
العام والخاص فربما تكون المعارضة حينئذ بين النصين.
فالمتحصل ان العام الآخر وحده لا ينافي مع ما يكون العام الذي له مخصص
نصا فيه، بل هو وحده ينافي ظهوره، كما أن الخاص وحده كذلك، وهما معا ينافيان العام
فيما يكون العام نصا فيه، فلا وجه للتخصيص بالخاص أولا، بل تقع المعارضة بين الأدلة.
الصورة الخامسة: ما لو ورد دليلان متباينان - كما ورد - ان الزوجة لا ترث من
العقار، وفى خبر آخر، الزوجة ترث من العقار ثم ورد خاص بالنسبة إلى أحدهما،
وأوجب ذلك انقلاب النسبة إلى العموم المطلق، كما ورد، انها ترث من العقار إذا كانت
ذات ولد فإنه يكون أخص من الأول فيخصص به فيختص بغير ذات الولد والنسبة بينه
حينئذ وبين الآخر عموم مطلق، وقد تنقلب النسبة إلى العموم من وجه ولكن بما ذكرناه
في الصور السابقة يظهر عدم انقلاب النسبة في هذه الصورة أيضا.
فالمتحصل عدم انقلاب النسبة في شئ من الصور.
كون المرجحات بأجمعها للسند
المبحث التاسع: ذهب جماعة من المحققين، منهم الشيخ الأعظم والمحقق النائيني
إلى تقسيم المرجحات إلى اقسام.
الأول: ما يكون مرجحا لسند الخبر ككونه مشهورا بين الأصحاب، وكون رواته
399

أوثق وأصدق، وأعدل.
الثاني: ما يكون مرجحا لجهة صدوره وانه صدر لبيان الحكم الواقعي، ككونه
مخالفا للعامة.
الثالث: ما يكون مرجحا للمدلول ومضمون الخبر، ككونه موافقا للكتاب والسنة.
وخالفهم المحقق الخراساني وذهب إلى رجوع جميع المرجحات إلى الترجيح
الصدوري، وانها بأجمعها موجبة لترجيح أحد السندين على الآخر، وقبل الدخول في
البحث لابد من تقديم مقدمتين.
إحداهما: ان استفادة الحكم من الخبر تتوقف على أمور أربعة.
الأول: صدور الخبر عن المعصوم (ع) والمتكفل لاثبات ذلك هو أدلة حجية
الخبر الواحد.
الثاني: كونه ظاهرا في معنى والمتكفل لاثبات ذلك هو العرف واللغة
الثالث: صدوره لبيان الحكم الواقعي لا لجهة أخرى من تقية ونحوها والمتكفل
لاثبات ذلك بناء العقلاء على حمل الكلام على كونه صادرا لبيان إفادة المراد النفس
الأمري.
الرابع: كون مضمونه تمام المراد لا جزئه والمتكفل لاثبات ذلك أصالة عدم
التقييد والتخصيص والقرينة وما شاكل من الأصول اللفظية العقلائية، التي عليها بناء
العقلاء عند الشك في التقييد، والتخصيص، وإرادة المجاز.
الثانية: ان موارد المرجحات مختلفة مورد بعضها نفس الخبر، وهو الشهرة،
ومورد بعضها الراوي، وهو الأعدلية والأوثقية، ومورد بعضها جهة الصدور، وهو مخالفة
العامة ومورد بعضها مضمون أحد المتعارضين، وهو موافقة الكتاب.
إذا عرفت هاتين المقدمتين فاعلم أنه استدل المحقق الخراساني لما اختاره من
رجوع جميع المرجحات إلى المرجح الصدوري وانها بأجمعها موجبة لترجيح أحد
السندين على الآخر بوجهين.
1 - ان المتضمن لهذه المرجحات هو الاخبار العلاجية، وهي ظاهرة في تقديم
400

رواية ذات مزية في أحد، أطرافها ونواحيها، فجميع هذه من مرجحات السند.
2 - انه لا معنى للتعبد بصدور الخبر مع وجوب حمله على التقية: إذ الحمل عليها
يساوق الطرح ولا يعقل ان تكون نتيجة التعبد بالصدور هي الطرح، ولا يقاس ذلك
بمقطوعي الصدور الذين لا تعبد فيهما للقطع.
وأورد عليه المحقق النائيني بان الخبر، قد يكون بنفسه ظاهرا في الصدور تقية،
بحيث يكون فيه قرائن التقية ولو لم يكن له معارض، وقد لا يكون فيه قرائن الصدور تقية
بل مجرد كون مؤداه موافقا لمذهب العامة، وفى هذا المورد لا يحمل الخبر على التقية الا
في صورة التعارض بأدلة العلاج والذي لا يمكن فيه التعبد مع الحمل على التقية انما هو
القسم الأول، واما القسم الثاني غير المحمول عليها لو كان وحده فإنما يحمل عليها في
صورة التعارض المتفرع صدق هذا العنوان على شمول أدلة التعبد بالصدور لكل من
الموافق والمخالف فالحمل عليها انما هو بعد شمول أدلة الحجية لكل منهما في نفسه.
وفيه: ان أدلة اعتبار الخبر وحجيته لا تشمل شيئا من المتعارضين عنده (قده)، لان
بنائه على أن الأصل في المتعارضين التساقط وانما ثبت الاعتبار بأدلة العلاج وبالنسبة إليها
أيضا لا يمكن الالتزام بشمولها للموافق مع حمله على التقية فلا محالة تكون مخالفة العامة
من مرجحات الصدور وانها توجب التعبد بصدور المخالف وعدم صدور الموافق
لا صدوره تقية، فالأقوى ما عليه المحقق الخراساني من ارجاع جميع المرجحات إلى
المرجح من حيث الصدور نفسه.
الترتيب بين المرجحات
المبحث العاشر: هل المرجحات كلها في رتبة واحدة، فلو كان أحد الخبرين،
واجد المرجح والآخر كان واجدا لمرجح آخر كانا متساويين فيرجع إلى اخبار التخيير،
أم يجب مراعاة الترتيب بينها؟
وعلى الثاني أي لزوم مراعاة الترتيب فهل يقدم المرجح الصدوري، على المرجح
401

الجهتي والمضموني كما عن الشيخ الأعظم (ره) والمحقق النائيني، أم يقدم المرجح الجهتي
على المرجح السندي كما عن الوحيد البهبهاني والمحقق الرشتي، أم يتابع النص في
ذلك؟ وجوه فالكلام يقع في موردين.
اما المورد الأول: فقد استدل المحقق الخراساني (ره) لعدم لزوم مراعاة الترتيب
بوجهين.
أحدهما: ظهور الاخبار في بيان أصل المرجحية، دون الترتيب.
ثانيهما: انه لو لزم مراعاته لزم البناء على تقييد أكثر نصوص الترجيح بل جميعها
عدا المقبولة، وهو بعيد.
وفيهما نظر، اما الأول: فلان الاخبار ظاهرة في بيان الترتيب زايدا على أصل
المرجحية، فان المقبولة تأمر بالأخذ بالمشهور، وبعد فرضهما مشهورين تأمر بالأخذ بما
وافق الكتاب وهكذا.
واما الثاني: فلان الكتاب والخبر المتواتر، يقيدان بالخبر الواحد، فلا محذور في
تقييد النصوص الكثيرة، به، فالأظهر لزوم الترتيب.
واما المورد الثاني: فالأظهر في كيفيته متابعة النص وقد مر ما يستفاد منه، وهناك
أقوال اخر عمدتها اثنان المتقدمان.
أحدهما: ما عن الشيخ الأعظم (ره) وتبعه المحقق النائيني (ره)، وهو، تقديم المرجح
الصدوري على المرجح الجهتي والمضموني، والمحقق النائيني اختار تقديم المرجح
الجهتي على المرجح المضموني.
ثانيهما: ما عن الوحيد البهبهاني والمحقق الرشتي، وهو تقديم المرجح الجهتي
على المرجح السندي.
اما القول الأول: فقد استدل له الشيخ بما فصله المحقق النائيني، وحاصله ان
استفادة الحكم من الخبر تتوقف على أمور أربعة - صدور الخبر - وظهوره في المعنى
- كونه صادرا لبيان حكم الله - كون مضمونه تمام المراد وقد أشبعنا الكلام في ذلك في
المقدمة الثانية المذكورة في المبحث السابق، وعليه فالتعبد بجهة الصدور فرع التعبد
402

بالصدور وبالظهور، كما أن التعبد بكون المضمون تمام المراد فرع التعبد بجهة الصدور،
بداهة انه لابد من فرض صدور الخبر لبيان حكم الله حتى يتعبد بكون مضمونه تمام
المراد لا جزئه، نعم ليس بين التعبد بالصدور وبالظهور، ترتب وطولية، ولازم ما ذكر هو
تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي عند التعارض بينهما، كما هو ظاهر أدلة
الترجيح كالمقبولة.
ثم انه (قده) أشكل على نفسه بأنه في خبر القطب المتقدم، قدم الترجيح بموافقة
الكتاب على مخالفة العامة مع أن الأول مرجع مضموني، والثاني مرجح جهتي، وأجاب
عنه بأنه يمكن ان يقال بكون موافقة الكتاب من المرجحات الصدورية.
ويرد عليهما، ان أدلة حجية الخبر الواحد لا تشمل شيئا من المتعارضين عندهما:
لان بنائهما على أن مقتضى القاعدة هو التساقط، فيتعين الرجوع إلى الاخبار العلاجية ولا
وجه معه لهذه الأمور الاعتبارية، وان شئت قلت: ان المراد من الحجية التي قال الشيخ (ره)
ان المرجح الجهتي انما يكون بعد فرض حجيتهما، ان كان هي الحجية الفعلية فليست
فيهما قطعا، وان كان المراد هي الحجية الشأنية، فهي فيهما على حد سواء، وبالجملة لا بد
في مقام الاخذ بالحجة من ملاحظة ما ورد عنهم عليهم السلام ولا ينبغي الاعتناء بهذه الأمور
الاعتبارية، والإمام (ع) قدم المرجح المضموني وهو موافقة الكتاب، على المرجح الجهتي
وهو مخالفة العامة.
واستدل للقول الثاني بوجهين الأول: ان الخبر الموافق للعامة يدور امره بين أمرين
1 - عدم الصدور 2 - الصدور تقية، ولا يعقل التعبد به على التقديرين، فحينئذ لا يحتمل
تقديم المرجحات السندية على مخالفة العامة.
وفيه: ان الخبر الموافق لابد وان يفرض بنحو يكون حجة لو كان وحده، والا لما
صدق التعارض وما فرض في الدليل لا يكون حجة لو كان وحده، - وبعبارة أخرى - ان
الامر إذا دار بين أمرين، عدم الصدور، أو الصدور تقية فهو خارج عن ما نحن فيه، ويقطع
بعدم حجيته، فلا يعارض مع المخالف للعامة، واما ما هو محل الكلام فأمره يدور بين
ثلاثة: عدم الصدور، أو الصدور تقية، أو الصدور لبيان حكم الله الواقعي.
403

الثاني: ان قطعية الصدور لا تمنع عن حمل الموافق على التقية، فالتعبد بالصدور
أولى بعدم المنع عن حمل الموافق على التقية.
وفيه: ان قطعية الصدور لا تقتضي سوى صدور الكلام عن المعصوم (ع)، ولا
تقتضي التعبد بالحكم، وهذا بخلاف التعبد بالصدور، فإنه انما يكون بلحاظ التعبد
بالحكم والأثر فلا أولوية.
فالمتحصل مما ذكرناه انه ان قلنا بالتعدي من المرجحات المنصوصة إلى كل مزية
موجبة لا قريبة ذي المزية إلى الواقع، فلا وجه لملاحظة الترتيب كما لا يخفى.
اللهم الا ان يقال ان ذلك يتم في الترتيب بين الافراد والمصاديق، واما على مسلك
الشيخ الأعظم (ره) من تقسيم المرجحات إلى اقسام ثلاثة، صدوري، جهتي، مضموني،
كما مر فلا يتم في الأنواع.
وعلى القول بعدم التعدي كما اخترناه، فان بنينا على عدم الترتيب بين المرجحات
فالحكم ظاهر، وان قلنا بالترتيب كما هو الحق فلابد من متابعة النصوص، وقد عرفت ما
تقتضيه، وانه لا بد من تقديم الشهرة، ثم موافقة الكتاب، ثم مخالفة العامة، فتكون النتيجة،
تقديم المرجح السندي، على المرجح المضموني، وتقديم المضموني، على المرجح
الجهتي، لو صح التقسيم وقد مر عدم صحته.
موافقة الخبر للمزية الخارجية.
المبحث الحادي عشر: في أن موافقة أحد الخبرين المتعارضين لأمر خارجي
يوجب الظن ولو نوعا، هل هي من المرجحات، أم لا؟ وتنقيح القول فيه، ان الامر
الخارجي الذي يوافقه، قد يكون هو الأصل العملي، وقد يكون امارة لا دليل على
اعتبارها، وقد يكون امارة دل الدليل على عدم اعتبارها كالقياس، وقد يكون امارة معتبرة.
اما القسم الأول: فقد وقع في كلمات الأصحاب مورد البحث تحت عناوين ثلاثة.
أحدها: ما إذا تعارض خبران وكان أحدهما موافقا لأصل البراءة، أو الاستصحاب،
404

فالمنسوب إلى المشهور الترجيح بذلك وانه يقدم ما وافقه أصل البراءة أو الاستصحاب.
ثانيها: ما إذا تعارض المقرر، وهو الخبر الموافق للأصل، والناقل، وهو المخالف
له، وعن الأكثر بل جمهور الأصوليين تقديم الناقل.
ثالثها: ما إذا تعارض الخبر المبيح، والخبر الحاضر، فقد ادعى الاجماع على تقديم
الحاضر.
وحيث إن الظاهر في بادي النظر اختلاف الآراء في هذه الموارد، فقد أورد عليهم
بايرادين 1 - انهم في المورد الأول قالوا ان الأصل مرجح، وفى الأخيرين استشكلوا في
ذلك بل ذهبوا إلى تقديم المخالف 2 - انهم اختلفوا في تقديم الناقل (وهو المخالف
للأصل) على المقرر (وهو الموافق له) وقد ذهب جمع منهم إلى عدم التقديم، مع أنهم
اتفقوا على تقديم الحاضر وهو الناقل.
وملخص القول في المقام يقتضى البحث في موردين، الأول: في الجمع بين
كلمات الأصحاب الثاني: فيما هو الحق في كل مسألة.
اما الأول: فالظاهر عدم التنافي بين كلماتهم. فان موضوع بحثهم، في المسألة
الأولى الأصل الشرعي، وفى الثانية بل والثالثة، الأصل العقلي فيندفع الايراد الأول.
واما الايراد الثاني: فيندفع بأنهم لم يتفقوا في المسألة الثالثة، بل صرح بعضهم
بتقديم الإباحة لرجوعه إلى تقديم المقرر على الناقل الذي اختاره في تلك المسألة مع،
ان موضوع الثالثة أخص من الثانية، فيمكن ان يقال بتخصيص الثانية بدوران الامر بين
الوجوب وعدمه.
واما المورد الثاني: فقد استدل للترجيح بالأصل الشرعي بوجوه.
1 - ان الخبرين يتعارضان ويتساقطان فيبقى الأصل سليما عن المعارض.
وفيه: ان الأصل الثانوي في الخبرين المتعارضين بعد فقد المرجحات هو التخيير
لا التساقط بل عرفت ان المختار عندنا ان مقتضى الأصل الأولى أيضا ذلك.
2 - ان العمل بالموافق موجب للتخصيص فيما دل على حجية المخالف، والعمل
بالمخالف، مستلزم للتخصيص، فيما دل على حجية الموافق وتخصيص آخر فيما دل
405

على حجية الأصول، فيقدم الأول تقليلا للتخصيص.
وفيه: ان الخبر المخالف يكون حاكما على دليل الأصل، وموجبا لانعدام
موضوعه لا التخصيص في دليله.
3 - ان ما دل على التخيير مع تكافؤ الخبرين، معارض بما دل على الأصلين.
وفيه: ما تقدم من حكومة دليل حجية الخبر على دليل الأصل: إذ لا فرق بين
حجيته تعيينا أو تخييرا، مع أن بعض اخبار التخيير في مورد جريان الأصل، مع أن
التخصيص في اخبار التخيير يوجب اخراج كثير من مواردها، بل أكثرها، بخلاف العكس.
4 - ان الخبر الموافق يفيد ظنا بالحكم الواقعي، والعمل بالأصل يفيد الظن بالحكم
الظاهري فيقوى به الخبر الموافق.
وفيه: ان الأصل وظيفة مجعولة للشاك عند فقد الدليل فمع وجوده يرتفع
موضوعه، فلا تحقق له كي يوجب الأقوائية، مع أن الظن بالوظيفة الظاهرية كيف يوجب
أقوائية ما يكون كاشفا عن الواقع وحاكيا عنه فتدبر، فالأظهر عدم الترجيح بالأصل.
واستدل لتقديم الناقل، بان الغالب فيما يصدر من الشارع الحكم بما يحتاج إلى
البيان ولا يستغنى عنه بحكم العقل.
وفيه: ان الغلبة ممنوعة كيف وقد كثر في الأدلة بيان الشارع، ما عليه بناء العقلاء،
وما يستقل به العقل فراجع، مع أنها لا تكون دليلا على التقديم.
واستدل لتقديم الحاضر، تارة بكونه متيقنا في العمل استنادا إلى ما دل على لزوم
الاحتياط، وأخرى بما دل على وجوب الاخذ بالاحتياط من الخبرين.
ولكن يرد على الأول ما تقدم في محله من عدم كون المستند أصالة الاحتياط،
ويرد على الثاني ما مر في الاخبار العلاجية من أن ما تضمن الاخذ بما فيه الحائطة من
الخبرين المتعارضين لا يعمل به فراجع.
موافقة الخبر للامارة غير المعتبرة
واما القسم الثاني: وهو ما إذا كانت المزية الخارجية هي الامارة غير المعتبرة لعدم
406

الدليل على اعتبارها فقد استدل الشيخ الأعظم (ره) للترجيح بها بوجهين.
الأول: ان المستفاد من الاخبار العلاجية من جهة ما فيها من التعليلات، ان كل
مزية موجبة لأقربية أحد المتعارضين إلى الواقع، وان كانت خارجة عن الخبرين توجب
الترجيح، ومعلوم ان الامارة الظنية وان كانت غير معتبرة توجب أقربية ما وافقته إلى
الواقع.
الثاني: انه قد تكرر في كلماتهم، دعوى الاجماع على وجوب العمل بأقوى
الدليلين، وهذه القاعدة لو سلم اختصاصها بما إذا كان أحدهما أقوى في نفسه، ومن حيث
هو، لا مجرد كون مضمونه أقرب إلى الواقع، لموافقة امارة خارجية تشمل، المقام من
جهة ان الامارة موجبة لظن الخلل في المرجوح، اما من حيث الصدور، أو من حيث جهة
الصدور، فيكون الراجح أقوى من حيث نفسه، وان لم يعلم تفصيلا انه من أي جهة يكون
أقوى.
ولكن يرد على الوجه الأول ما تقدم من عدم التعدي عن المرجحات المنصوصة
إلى غيرها، ويرد على الثاني عدم ثبوت القاعدة بنحو يعتمد عليها في غير موارد الجمع
العرفي.
وأورد المحقق الخراساني على الوجه الثاني، بان الظاهر من القاعدة ما إذا كانت
الأقوائية من حيث الدليلية والكشفية، وكون مضمون أحدهما مظنونا لأجل مساعدة امارة
ظنية عليه، لا يوجب قوة فيه من هذه الحيثية، بل هو على ما هو عليه من القوة لولا
مساعدتها ومطابقة أحد الخبرين لها، لا يكون لازمه الظن بوجود خلل في الآخر، اما من
حيث الصدور أو من حيث جهته كيف وقد اجتمع مع القطع بوجود جميع ما اعتبر في
حجية المخالف لولا معارضة الموافق والصدق واقعا لا يكاد يعتبر في الحجية كما لا يكاد
يضربها الكذب كذلك.
وفيه: ان ما ذكره أولا مذكور في كلمات الشيخ (ره) وأجاب عنه بان المراد بالقاعدة
بعد ملاحظة كلمات المجمعين، واستدلالهم بها في الموارد المختلفة، أقوائية أحد
الخبرين بأي وجه كانت ولو كانت من ناحية أقربية مضمونه إلى الواقع، ولعله بلحاظ فناء
407

الدال في المدلول، حيث إنه إذا كان المدلول أقرب إلى الواقع يتصف الدال بالاقوائية
بالعناية بهذه الملاحظة، فراجع ما افاده الشيخ (ره) في المقام.
واما ما افاده أخيرا، فيرد عليه: انه بعد فرض التعارض والظن بمطابقة الموافق
للواقع لا محالة يظن بعدم مطابقة المخالف، وهذا الظن وان لم يكن حجة في نفسه، ولذا
لا يعتنى به مع عدم المعارض، ويقطع بحجية المخالف، ولكن يوجب الترجيح للقاعدة
التي أشار إليها الشيخ الأعظم (ره) فتدبر.
موافقة الخبر لامارة دل الدليل على عدم اعتبارها
واما القسم الثالث: وهو ما إذا كانت المزية الخارجية هي الامارة التي دل الدليل
على عدم اعتبارها كالقياس، فعلى القول بان الامارة غير المعتبرة لعدم الدليل على
اعتبارها، لا توجب تقديم ما وافقها كما اخترناه، فالامر واضح لا وجه لتطويل الكلام فيه.
واما على القول الآخر: فالمشهور بين الأصحاب ان الامارة التي دل الدليل على
عدم اعتبارها كالقياس لا تكون مرجحة، وعن المفاتيح القول بكون القياس مرجحا.
واستدل المحقق في المعارج للمرجحية: بان الممنوع عنه هو العمل بالقياس
والترجيح به انما يكون بالعمل بالخبر الموافق للقياس دون القياس، ثم أورد عليه: بان
القياس مطروح في الشريعة، وأجاب عنه بان فائدة الترجيح كون القياس رافعا للعمل
بالخبر المرجوح، فيعود الراجح كالسليم عن المعارض، فيكون العمل به لا بذلك القياس،
ثم تنظر فيه.
وأورد عليه الشيخ الأعظم: بان رفع العمل بالخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة
أضف إليه ان المنهى عنه الاعتناء بالقياس مطلقا، وقد استقرت طريقة أصحابنا على هجره
في باب الترجيح ولم نجد منهم موضعا يرجحونه به، ولولا ذلك لوجب تدوين شروط
القياس في الأصول، ليرجح به في الفروع.
وفيه: ان الذي دل الدليل المعتبر على النهى عنه هو اعمال القياس في الدين، واما
408

ما يدل على لزوم هجر القياس بقول مطلق فليس بدليل معتبر.
ويضاف إليه ان استقرار السيرة على ما ذكر، لعله من جهة انه إذا كان أحد الخبرين
موافقا للقياس لا محالة يكون الآخر مخالفا للعامة، وقد جعل ذلك من المرجحات في
الاخبار.
وبما ذكرناه ظهر ما في كلمات المحقق الخراساني في الكفاية قال، الا ان الأخبار الناهية
عن القياس وان السنة إذا قيست محق الدين مانعة عن الترجيح به ضرورة ان
استعماله في ترجيح أحد الخبرين استعمال له في المسألة الشرعية الأصولية وخطره ليس
بأقل من استعماله في المسألة الفرعية.
ثم انه (قده) تنبه لاشكال، وهو انه كيف يعمل القياس في الموضوعات، وينقح به
الموضوع الشرعي مثلا لو حصل الظن بالقبلة من القياس لا كلام بينهم في العمل به، وان
الظن الحاصل منه حجة فليكن المقام من هذا القبيل، أي يرجح أحد الخبرين به.
وأجاب عنه بالفرق بينهما: فان القياس في الموضوعات ليس في الدين، واما
المعمول في المقام فنحو اعمال له في الدين، ضرورة انه لولاه لما تعين الخبر الموافق له
للحجية بعد سقوطه عنها بمقتضى أدلة الاعتبار، والتخيير بينه، وبين معارضه بمقتضى أدلة
العلاج.
والأقوى ان المراد من اعمال القياس في الدين، ان كان ترتب الحكم الشرعي عليه
واستنتاجه منه ولو بوسائط بمعنى انه لولا القياس لما كان يستنتج ذلك، فهو وان كان
يصدق في المقام، الا انه يصدق في القياس المعمول في الموضوعات، أيضا إذ لولاه لما
كان يكتفى بالصلاة إلى الطرف المظنون، أو لم تكن متعينة، بل كان يصلى إلى الجوانب
الأربع أو كان مخيرا في الصلاة إلى أي طرف شاء على اختلاف المسلكين، وان كان المراد
ترتب الحكم عليه بلا واسطة فكما انه في القياس في الموضوع لا يترتب الحكم عليه،
كذلك في المقام فان الترجيح انما يكون بأثره التكويني وهو الظن فلا يحكم بالترجيح
لأجل القياس.
وبذلك يظهر انه لا وجه لعدم الترجيح به على القول بالترجيح بالامارة غير
409

المعتبرة لعدم الدليل: لان المنهى عنه اثبات الحكم الشرعي به، ولذا لو حصل له القطع من
القياس لا اشكال في حجيته ومنجزيته للواقع، فكذا لو حصل له الظن بأقربية أحد الخبرين
إلى الواقع، كيف فكل امارة غير معتبرة، دل الدليل على عدم اعتبارها كما مر في أول
مبحث الظن، ولا فرق بين القياس وغيره، الا في كون الدليل في الأول خاصا، وفى الثاني
عاما، وهو لا يكون فارقا.
واما القسم الرابع: وهو ما إذا كان الامر الخارجي لاحد الخبرين امارة
معتبرة، كالكتاب والسنة المتواترة، فمحصل، القول فيه، ان مخالفة الخبر للكتاب والسنة
القطعية، تتصور على وجوه 1 - المخالفة بالتباين 2 - المخالفة بالعموم المطلق 3 - المخالفة
بالعموم من وجه.
اما الأولى: فلها صورتان، إحداهما: ما يباين نص الكتاب. ثانيهما: ما يباين ظاهره.
وقد عرفت في ذيل مبحث نصوص الترجيح، ان موارد المخالفة بالعموم المطلق،
والمخالفة بالعموم من وجه، والصورة الثانية من المخالفة بالتباين مشمولة للاخبار
العلاجية وان الخبر المخالف بأحد هذه الأنحاء يطرح وما يوافقه بالمعنى المقابل لاحد
هذه يعمل به.
وصورة واحدة من المخالفة بنحو التباين، وهي الصورة الأولى مشمولة لاخبار
العرض الدالة على عدم حجيته وان لم يكن له معارض.
هذا تمام الكلام في المسائل المتعلقة بالتعادل والترجيح، وقد كنت كتبت في
الأصول مرات، وفرغت منه في المرة الأولى سنة 1364 ولكن جمعت جميع ما كنت
كاتبا إياها في تلك المرات وفرغت من اخراجها من المسودات إلى المبيضة في اليوم
الأحد من شعبان سنة 1386.
والحمد لله أولا وآخرا.
410