الكتاب: منتقى الأصول
المؤلف: تقرير بحث الروحاني ، للحكيم
الجزء: ٥
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٦
المطبعة: الهادي
الناشر:
ردمك:
ملاحظات: تقريراً لأبحاث السيد محمد الحسيني الروحاني

منتقى الأصول
تقريرا لأبحاث آية الله العظمى
السيد محمد الحسيني الروحاني
الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم
الجزء الخامس
1

اسم الكتاب منتقى الأصول ج 5
المؤلف: الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم
المطبعة: الهادي
الطبعة: الثانية 1416 ه‍
الكمية: 2000 نسخة
السعر: 7000 ريال
حقوق الطبع محفوظة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

تتمة
مبحث البراءة
5

" الشبهة الموضوعية "
ويقع الكلام بعد ذلك في الشبهة الموضوعية التحريمية. والكلام في
جهات:
الأولى: في الدليل على البراءة فيها شرعا.
الثانية: في تقريب جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
الثالثة: في ضابط ما تجري فيه البراءة منها، وتمييزه عما لا تجري فيه.
أما الجهة الأولى: فتحقيق الكلام فيها: ان الدليل على البراءة في
الشبهات الموضوعية هو ما تقدم من أدلة البراءة، ويضاف إليها بعض النصوص
التي قيل باختصاصها في الشبهة الموضوعية:
منها: رواية عبد الله بن سنان: " قال أبو عبد الله (عليه السلام) كل شئ
يكون فيه حرام وحلال، فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه
فتدعه " (1). وقد ورد هذا المضمون في نصوص أخرى وقع السؤال فيها عن
الجبن (2).

(1) وسائل الشيعة 12 / 59 باب: 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.
(2) وسائل الشيعة 17 / 90 باب: 61 من أبواب الأطعمة المباحة.
7

وقد تعرض الشيخ (رحمه الله) إلى هذا المضمون، وذهب إلى عدم شموله
للشبهة الحكمية وانه يختص بالشبهة في الموضوع لقرائن متعددة.
كفرض وجود القسمين من الحلال والحرام.
وظهور ان ذكر القيد لبيان منشأ الاشتباه، وان وجود القسمين هو الذي
أوجب اشتباه الحال في المشكوك، وهذا لا يتم في الشبهة الحكمية لعدم كون منشأ
الاشتباه وجود القسمين، بل يتحقق الشك من جهة الحكم ولو لم يكن هناك
قسمان.
وكون الغاية هي معرفة الحرام منه. ومن الواضح انه لو فرض تصور
جامع بين ما هو الحلال والحرام في موارد الشبهة الحكمية، فلا تكون معرفة الحرام
غاية لحلية المشكوك، كما لا يخفى.
وبالجملة: ظهور النص في جعل الحلية في خصوص مورد الشبهة
الموضوعية لا ينكر (1).
ومنها: قوله (عليه السلام): " كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام
بعينه فتدعه " (2) - بناء على أنه غير رواية مسعدة بن صدقة، وقد تقدم الحديث
في ذلك فراجع -. وظهورها في خصوص مورد الشبهة الموضوعية قد ينكر بدوا،
لعموم: " كل شئ " لكل مشكوك ولو بالشبهة الحكمية. لكن قوله: " حتى تعلم
أنه حرام " يوجب الظهور في الاختصاص، إذ لا يعبر في موارد الشبهة الحكمية
بهذا التعبير، بل يقال: " حتى تعرف حرمته "، فمثل التعبير ظاهر في العلم
بمصداقيته للحرام وانطباق الحرام عليه، وهو ظاهر في موارد الشبهة الموضوعية.
ولو تنزلنا عن هذه الدعوى، فمفهومها للشبهة الحكمية لا يضر دلالتها

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 200 - الطبعة الأولى.
(2) قريب من هذا المضمون روايات باب: 4 من أبواب ما يكتسب به ج 11.
8

على الإباحة في الشبهة الموضوعية، وهو يكفينا في المقام لأنه المهم.
ومنها: رواية مسعدة بن صدقة التي استدل بها العلامة (رحمه الله) في
التذكرة وهي قوله: " كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من
قبل نفسك، وذلك مثل الثواب يكون عليك ولعله سرقة، أو العبد يكون عندك
ولعله حر قد باع نفسه أو قهر فبيع أو خدع فبيع، أو امرأة تحتك وهي أختك أو
رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة " (1).
هذا، وقد تقدمت الإشارة إلى الاشكال في دلالتها على أصالة الإباحة
والحلية، باعتبار ان الموارد المذكورة في النص ليست من موارد اجراء أصالة
الحل، بل الحل فيها مستند إلى الأصول أو الامارات الموضوعية كاليد في مثال
الثوب والعبد، بحيث انه لولا هذا الأصل الموضوعي لكان الحكم فيها بحرمة
التصرف لا بحليته، لجريان أصالة بقاء الثوب على ملك مالكه الأول - في مثال
الثوب -. وأصالة الحرية في الانسان المشكوك، أو أصالة عدم تأثير العقد الواقع
عليه، فان الأصل في المعاملات الفساد - في مثال العبد المشترى -. وكأصالة عدم
تحقق الرضاع والنسب - في مثال الزوجة - فإنه يستلزم الحلية، ولولا هذا الأصل
لكان المعين الحكم بالحرمة لأصالة عدم تأثير العقد.
وقد صرح الشيخ (رحمه الله) بهذا الاشكال، كما تقدم منا - في مقام تحقيق
الحال فيه - ان هذا الحديث بعد عدم إمكان حمله على ظاهره من انشاء الحلية
في جميع هذه الموارد وغيرها من موارد أصالة البراءة بانشاء واحد، فإنه يستلزم
استعمال اللفظ في أكثر من معنى، يدور أمره بين احتمالين:
أحدهما: أن يكون إخبارا عن جعل الحلية في جميع موارد الشك فيها،
فيدل على جعل أصالة الحل لوجود المورد الفاقد لدليل يدل على الحلية غيرها.

(1) وسائل الشيعة 12 / 60 باب: 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 4.
9

والاخر: أن يكون اخبارا بعنوان الإشارة إلى ما هو المجهول المفروض
جعله في الشريعة من أحكام تسهيلية (1).
وقد عرفت عدم دلالته - بناء على هذا الاحتمال - على جعل أصالة الحل.
وقد تقدم عدم ظهور الحديث في أحد الاحتمالين، فيكون مجملا. فراجع تعرف.
وأما الجهة الثانية: فتحقيق الكلام فيها: أنه قد يدعى عدم جريان
قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
ولا يخفى ان هناك موردا تنفى فيه هذه القاعدة وهو مورد الشبهة الحكمية
البدوية قبل الفحص.
ولكن الوجه الذي تنفى به القاعدة هناك لا يتأتى هنا ولا يرتبط بما نحن
فيه.
فان الوجه المذكور هناك يرجع إلى بيان ان البيان المأخوذ في موضوع
القاعدة ليس هو خصوص البيان الواصل بنفسه إلى العبد، كي لا يجب على
العبد الفحص لعدم وصول الدليل فيحكم العقل بالبراءة، بل هو ما يعم
الواصل وما هو في معرض الوصول، لان طريقة المولى ليست على ايصال كل
حكم إلى المكلف بنفسه، بل طريقته على ايصاله إلى بعض المكلفين، فيصل إلى
الجميع تدريجا بواسطة النقل، وفي مثل ذلك لا يحكم العقل بقبح العقاب قبل
الفحص واليأس عن الدليل.
ولا يخفى انه لا موضوع لهذا الوجه فيما نحن فيه لفرض العلم بالحكم،
فلو لم يتم هذا الوجه والتزم بإرادة البيان الواصل من موضوع القاعدة، فهو
حاصل فيما نحن فيه للعلم بالحكم الكلي. إذن فلا بد من كون منشأ الشك في
جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعدم جريانها فيما نحن فيه أمرا آخر غير

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 201 - الطبعة الأولى.
10

تردد الامر في كيفية البيان، وانه البيان الواصل أو ما هو في معرض الوصول.
وإلا لما كان مجال للشك في عدم جريانها لفرض كون البيان واصلا للعلم
بالحكم.
وعلى ما ذكرنا يظهر لك التسامح الواقع في بعض التقريرات لظهورها
في تقريب وجه عدم جريان القاعدة فيما نحن فيه بما يذكر لتقريب عدم جريانها
في الشبهات قبل الفحص (1).
فالوجه الذي ينبغي ان يقال في تقريب عدم جريان القاعدة فيما نحن
فيه هو: ان المعتبر في البيان المأخوذ في موضوع القاعدة هو بيان الحكم الشرعي
الذي يرتبط بالمولى. ولا يخفى ان ما يرتبط بالمولى هو الحكم الكلي، أما الحكم
الجزئي في المورد الخاص فهو أجنبي عن المولى، وليس على المولى بيانه، بل
تشخيصه موكول إلى العبد نفسه. فما يلزم على المولى بيانه هو الحكم الكلي.
والمفروض تعلق العلم به، فيكون منجزا، فلا بد من الخروج عن عهدته بترك
المشكوك كونه من افراد الحرام الكلي. فهذا الوجه يرجع إلى تشخيص ما يلزم
بيانه عما لا يلزم بيانه.
والوجه السابق يرجع إلى تشخيص كيفية البيان المأخوذ في الموضوع.
وقد تصدى الشيخ (رحمه الله) إلى رد هذا الوجه، وأنه لا ينفع في اثبات
الاحتياط في الشبهة الموضوعية (2).
ولكن بيانه - في الشبهة التحريمية والوجوبية - لا يخلو عن إجمال، بل
هو أشبه بالدعوى بلا تنبيه على أساس النكتة التي بها يندفع هذا الوجه.
وقد أوضحه بصورة علمية المحقق النائيني، فأفاد (قدس سره): ان الحكم
الكلي مجعول بنحو القضية الحقيقية، فهو ينحل إلى احكام متعددة بتعدد افراد

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 489 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 221 - الطبعة الأولى.
11

الموضوع الكلي. ولا يخفى ان الحكم الثابت على الموضوع المفروض الوجود انما
يصير فعليا بفعلية موضوعه، فإذا لم يكن موضوعه فعليا لم يكن الحكم كذلك، إذ
لا معنى للنهي الفعلي عن شرب الخمر غير الموجود، وانما يتعلق الحرمة على تقدير
وجوده.
وعلى هذا فالعلم بفعلية الحكم يناط بالعلم بالموضوع، فمع الشك في
الموضوع يشك في فعلية الحكم، فلا يكون منجزا، لان الحكم الذي يتنجز بالعلم
هو الحكم الفعلي. فالدليل العام المعلوم لا يستلزم سوى العلم بجعل الحكم على
تقدير وجود الموضوع، ولا يقتضي العلم بنفس الحكم المجعول. والذي ينفع في
مقام التنجيز هو العلم بالحكم الفعلي، لا بأصل الجعل. إذن فالعلم بجعل الحكم
الكلي لا يكون منجزا في مورد الشك في الموضوع (1).
وبذلك يتضح ما قرره (قدس سره) من أن التنجز يتقوم بالعلم بالكبرى
والعلم بالصغرى، ولا فائدة في العلم بالكبرى مع عدم العلم بالصغرى، كما لا
فائدة في العلم بالصغرى مع عدم العلم بالكبرى. فلاحظ.
ولعل هذا هو مراد الشيخ من أن الدليل على النهي العام لا يكون دليلا
على تحريم الخمر المشكوك. فالتفت.
ثم إن الشيخ (2) (رحمه الله) بعد أن تصدى لرد الوجه المذكور تصدى
للنقض على القائل بموارد الشبهات الحكمية، لوجود عمومات تدل على حرمة
أمور واقعية يحتمل أن يكون المشتبه حكمه - كشرب التتن - منها، كقوله تعالى:
(ما نهاكم عنه فانتهوا) (3). وقوله: (حرمت عليكم الخبائث) (4).

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 390 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 221 - الطبعة الأولى.
(3) سورة الحشر، الآية: 7.
(4) سورة الأعراف، الآية: 157.
12

ثم إن جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يختلف الحال فيه بين كون
الشبهة تحريمية أو وجوبية، فمثل ما لو دار أمر الفوائت بين الأقل والأكثر، لا
يتنجز عليه سوى وجوب الأقل.
وأما الزائد فلا عقاب عليه لعدم البيان. فما ذهب إليه البعض في المثال
من عدم الرجوع إلى أصالة الاحتياط والتمسك بالبراءة في غير محله.
وقد ذكر الشيخ لبعض المحققين (1) تفصيلا في مثال الفوائت، وهو أن
المكلف..
تارة: يعلم تفصيلا بمقدار الفوائت ثم يعرض عليه النسيان فلا يعلم انها
كانت خمسة أو عشرة - مثلا -.
وأخرى: يكون جاهلا من أول الامر بالمقدار ومترددا بين فوات الأقل والأكثر.
ففي الصورة الأولى يلزمه الاحتياط، لتنجز ما علمه تفصيلا في حقه ولا
يزول ذلك بعروض النسيان، فإنه - اي النسيان - لا يرفع الحكم الثابت
بالاطلاق.
وفي الصورة الثانية لا يلزمه الاحتياط، لعدم تنجز شئ في حقه سابقا
يشك في براءة ذمته منه، بل الذي يعلم ثبوته في حقه هو الأقل لا غير.
ونفاه (قدس سره): بأنه يظهر النظر فيه مما ذكرناه سابقا (2).
ولم يزد على هذا بقليل ولا كثير.
ومن الواضح انه ليس فيما تقدم من بيان جريان البراءة العقلية ما ينفي
ما ادعاه، من لزوم الخروج عن عهدة العلم التفصيلي المنجز السابق.
فالتحقيق في جواب هذا التوهم هو: ان العلم تفصيليا كان أو إجماليا إنما

(1 و 2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 234 - الطبعة الأولى.
13

يكون منجزا ما دام باقيا، فإذا زال زال أثره.
وأشار الشيخ إلى ذلك في أول مبحث القطع بقوله: " ما دام موجودا " (1).
ويوضح ذلك في مبحث الاشتغال فيبين: ان العلم الاجمالي انما يكون منجزا إذا
بقي ثابتا ولم يرتفع، فلو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثم بعد حين زال علمه
الاجمالي بان علم تفصيلا بطهارتهما أو بطهارة أحدهما أو بعدم وقوع النجاسة في
أحدهما وان شك في نجاستهما بدوا، لم يكن مجال لدعوى لزوم الاحتياط
بملاحظة حدوث العلم الاجمالي (2).
ولا يرد على هذا: بان لازمه عدم لزوم الاجتناب عن أحد الطرفين المعلوم
نجاسة أحدهما إذا طهر الاخر لزوال العلم الاجمالي بالنجاسة. وذلك لان التطهير
إنما يرفع المعلوم بالاجمال بقاء، أما حدوثا فلا، فالعلم الاجمالي فعلا بنجاسة أحد
الإناءين حدوثا ثابت ولم ينتف بالتطهير، فيكون التنجيز بلحاظه، فالمعتبر بقاء
العلم لا المعلوم.
وإذا ظهر ذلك تعرف الحال في ما ذكره المحقق المزبور، فان علمه
التفصيلي انما تلزم مراعاته ما دام موجودا. أما إذا زال كما هو الفرض فلا
موضوع للتنجيز، فليس عدم التنجيز لتقييد المطلقات، بل لعدم موضوعه وهو
العلم، والعلم السابق لا ينفع في تنجيز الحكم لا حقا، فلاحظ وتدبر.
وأما الجهة الثالثة: فتحقيق الكلام فيها: ان البراءة انما تجري في مورد
الشك في التكليف الزائد، سواء كان استقلاليا أو ضمنيا، أو فقل انها انما تجري
مع الشك في أصل التكليف أو في سعته وانبساطه على أمر خاص مع العلم بأصله،
كموارد دوران الامر بين الأقل والأكثر، والسر في ذلك واضح، لان ما هو بيد

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 2 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 250 - الطبعة الأولى.
14

الشارع رفعا ووضعا هو التكليف، فيستطيع ان يرفعه من أصله كما بيده تضييق
دائرة شموله وانبساطه وتوسيعها.
أما غير ذلك، فليس مما يرجع إليه كي يصح له رفعه.
إذا تبين ذلك: فقد تقدم ان النهي - سواء كان عبارة عن الزجر عن
الفعل أو طلب الترك - انما ينشأ عن مفسدة في متعلقه في قبال الامر الذي ينشأ
عن مصلحة في متعلقه.
وعليه، فهو لا يخرج عن أحد صور ثلاث، لان المفسدة..
إما ان تكون في كل فعل على استقلاله فيكون النهي متعلقا بجميع
الأفعال بنحو العموم الاستغراقي، فيكون كل فعل محرما على حدة.
وإما أن تكون في مجموع الأفعال بنحو الارتباط، فيكون النهي متعلقا
بمجموع الأفعال، ويلزمه تحقق الامتثال بترك أحد الأفعال ولو ترك فعل الباقي
بأسره لتحقق ترك المجموع.
وأما ان تكون في صرف الوجود، فيتعلق النهي به ويلزمه عدم تحقق
الامتثال إلا بترك الجميع، وقد تقدم منا ما يوضح ذلك. فراجع.
أما إذا كان النهي متعلقا بجميع الأفعال بنحو العموم الاستغراقي، فمع
الشك في شئ انه مصداق للمحرم كالشك في أن هذا المائع خمر أو خل، تجري
البراءة فيه، لأنه يشك في تكليف مستقل تعلق بهذا الفرد المجهول، فتجري البراءة
شرعا كما تجري فيه البراءة عقلا، إذ قد عرفت أن العلم بالكبرى الكلية لا
ينفي قاعدة قبح العقاب بلا بيان لعدم استلزامه للتنجيز.
وأما إذا كان النهي متعلقا بمجموع الأفعال، فلا اشكال في صحة ارتكاب
المشكوك مع اجتناب أحد الافراد المعلومة، انما الاشكال في ارتكاب جميع الافراد
المعلومة وترك المشكوك فقط، فهل يصح أولا؟. فقد قيل: بجريان البراءة في
الأقل المعلوم فرديته فيصح ارتكابه، ويتحقق الامتثال بترك المشكوك، وذلك
15

لرجوع الشك إلى دوران الامر بين الأقل والأكثر، والحكم فيه في باب التحريم
يختلف عنه في باب الوجوب، لدوران الامر في تعلق الحرمة من تعلقها بخصوص
الافراد المعلومة وتعلقها بالمجموع المركب منها ومن الفرد المشكوك - لو كان
مصداقا للحرام واقعا - فهو يعلم بحرمة الأكثر إما لنفسه أو لحرمة الأقل في
ضمنه.
أما الأقل، فهو غير معلوم الحرمة لاحتمال أن يكون المشكوك مصداق
الحرام، فيتحقق ترك المجموع بتركه، فيكون مجرى البراءة دون الأكثر، على
العكس في دوران بين الأقل والأكثر في باب الوجوب.
وهذا البيان غير سديد، وذلك لان المفروض ثبوت العلم بتعلق الحرمة
بعنوان المجموع المشكوك تحققه بالأقل أو الأكثر، فهو يعلم إجمالا اما بحرمة
مجموع الأقل أو مجموع الأكثر، والمطلوب هو اثبات انحلال هذا العلم، وما أفيد
لا يحقق الانحلال، إذ أصالة البراءة في الأقل تعارضها أصالة البراءة من الأكثر
لعدم العلم تفصيلا بحرمة الأكثر بما هو أكثر، فلا انحلال بخلاف موارد
الوجوب، فإنه يعلم تفصيلا بوجوب الأقل - عند دوران الامر بين وجوبه
ووجوب الأكثر - على كل تقدير، وهو يمنع من تنجيز العلم الاجمالي - على ما
قيل - إذن فمقتضى الاشتغال بالتكليف المزبور هو عدم الاكتفاء بالمشكوك عند
ارتكاب غيره، لعدم العلم بتحقق الامتثال بذلك.
وأما إذا كان النهي متعلقا بصرف وجود الفعل..
فمع الشك في مصداقية شئ للحرام قد يلتزم بالبراءة..
إما لاجل الشك في صدق أول الوجود عليه ليكون حراما، فيكون
مشكوك الحرمة والمرجع فيه البراءة.
وإما لاجل الشك في كون المكلف في ضيق من التكليف فيه، والبراءة
تتكفل رفع الضيق على المكلف ونفيه.
16

ولكن الحق هو جريان قاعدة الاشتغال وفاقا لصاحب الكفاية (1) - كما
تقدم -، وعدم تمامية ما قيل في وجه اجراء البراءة سواءا كان النهي عبارة عن
الزجر عن الفعل أو كانت عبارة عن طلب الترك.
أما إذا كان عبارة عن الزجر عن الفعل، فلان النهي تعلق بصرف وجود
الفعل وهو أو وجوده، وهو معلوم بحدوده وقيوده، وإنما الشك في انطباق صرف
الوجود المعلوم بحده على هذا الفرد المشكوك. ومن الواضح ان كون هذا الفرد
من افراد الحرام واقعا لا يستلزم سعة في التكليف وزيادة فيه، كما أن عدم كونه
من افراده واقعا لا يستلزم نقصا في دائرته، كما لو أوجد شخص فردا للخمر أو
أتلفه، فان الايجاد لا يستلزم سعة التكليف، كما أن اتلاف الفرد لا يستلزم ضيقه
بعد أن كان النهي عن صرف الوجود، إذ لا ربط لانطباق متعلق التكليف المعلوم
بمفهومه على فرد وعدم انطباقه بالتكليف زيادة ونقيصة.
وإذا تبين ذلك، فلا مجال لاجراء البراءة فيه لعدم تعلق التكليف به، ولا
يكون ثبوت الحكم له على تقدير كونه من أفراد الحرام مستلزما لسعة التكليف
وزيادته عما كان معلوما. وقد عرفت أن البراءة إنما تجري فيما إذا كان الشك في
أصل التكليف أو زيادته وسعته. وعليه فمقتضى قاعدة الاشتغال لزوم اجتنابه،
ليعلم بترك صرف الوجود فيعلم بالامتثال.
وأما إذا كان عبارة عن طلب الترك - كما فرضه العراقي (قدس سره) -
فقد يتخيل جريان البراءة للشك في سعة التكليف، لان الشك في كون هذا فردا
للحرام يلازم الشك في أن تركه مشمول للطلب أولا، فيرجع الشك إلى الشك في
سعة التكليف وانبساطه على ترك المشكوك.
ولكن فيه: ان الالتزام بان النهي عبارة عن طلب الترك والعدم مع كونه

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 353 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
17

مخالفا لظاهر النهي في كونه زجرا عن الفعل وردعا عنه، إنما هو من جهة عقلية،
وهي ما تقدم من أن التكليف لتحريك الإرادة، والمتصور في باب النهي هو تحريك
الإرادة في عدم الفعل لا في نفسه. ولا يخفى ان هذا المعنى يرجع إلى أن المطلوب
في موارد النهي هو عدم إعمال الإرادة في الفعل. ولا يخفى ان عدم إعمال الإرادة
في صرف وجود الفعل لازم للترك المستمر بين المبدأ والمنتهى، فليس المطلوب
هو الترك بنفسه، بل ما هو لازمه.
وعليه، فالشك في فردية أمر للحرام لا يستلزم الشك في سعة التكليف،
لان متعلقه أمر بسيط لازم للمتروك، فلا يكون مجرى للبراءة. وإنما المحكم هو
قاعدة الاشتغال تحصيلا للفراغ اليقيني. فتدبر.
يبقى الكلام فيما أفاده صاحب الكفاية (رحمه الله) من وجود أصل
موضوعي - في بعض الأحيان - ينقح الاتيان بمتعلق التكليف، فيكون حاكما
على قاعدة الاشتغال أو واردا عليها.
كما إذا كان المكلف مسبوقا بترك صرف الوجود، فإنه مع اتيانه بالمشكوك
يشك أنه بعد تارك لصرف الوجود أولا، فيستصحب كونه تاركا لصرف الوجود
ويثبت به الامتثال (1).
وهذا الأصل بهذه الصورة أنما يتأتى فيما لو كان الطلب متعلقا بالترك
بعنوانه، اما إذا كان مرجع الطلب إلى طلب عدم إعمال الإرادة في الفعل، فاستصحاب
الترك لا يجدي، لأنه - اي الترك - من لوازم متعلق التكليف لا نفسه.
ولكن يمكننا ان نلتزم باجراء الاستصحاب في نفس متعلق التكليف
المفروض، وهو عدم اعماله الإرادة في الفعل، لأنه متيقن الثبوت مشكوك
الارتفاع.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 353 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
18

وبالجملة: يجري الاستصحاب في متعلق التكليف كيفما فرض، لأنه
متيقن الثبوت مشكوك الارتفاع. فتدبر.
هذا تمام الكلام في الشبهة الموضوعية.
19

فصل في دوران الامر بين الوجوب والحرمة
إذا دار أمر الفعل بين أن يكون واجبا أو حراما بحيث علم إجمالا تعلق
الوجوب أو الحرمة به - كما إذا علم أنه حلف على الجلوس في هذا المكان في هذه
الساعة أو على تركه. أو حلف أما على وطء زوجته هذه الليلة أو على ترك وطئها
في الليلة نفسها -، فتارة: يكون الوجوب والحرمة توصليين. وأخرى: يكون
أحدهما أو كل منهما تعبديا.
وقد جعل الشيخ (قدس سره) محل الكلام هو الصورة الأولى دون ما لو
كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين كذلك، وذلك للتمكن من المخالفة القطعية
العملية في هذه الصورة، فلا يمكن اجراء الإباحة المستلزمة لطرح كلا
الاحتمالين، وهي أحد الوجوه في المسألة (1).
ولكن صاحب الكفاية (قدس سره) ذهب إلى أنه وان كانت الإباحة غير
جارية في هذه الصورة، إلا أن الحكم فيها هو التخيير عقلا بين الفعل بنحو قربي
أو الترك كذلك، لعدم التمكن من الموافقة القطعية (2).

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 236 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 356 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
21

وبما أن المهم في هذا المقام هو تحقيق أصالة التخيير بين الفعل والترك،
لم يكن وجه لتخصيص المورد بالتوصليين.
ولا يخفى عليك أن تعميم المورد للتعبديين أو تخصيصه بالتوصليين غير
مهم إنما المهم معرفة حكم كلتا الصورتين، وسيتضح ان شاء الله تعالى بعد ذلك أن
الحق في جانب الشيخ (رحمه الله) لا في جانب صاحب الكفاية. فيقع الكلام
في مسألتين:
المسألة الأولى: ما إذا كان الوجوب والحرمة توصليين يسقطان بمجرد
الموافقة بلا احتياج إلى قصد التقرب.
ولا يخفى ان المكلف لا يقدر في هذه الصورة على الموافقة القطعية لعدم
قدرة المكلف على الفعل والترك معا، كما لا يتمكن من المخالفة العملية القطعية
لعدم خلو المكلف من الفعل أو الترك. ومنه يظهر ان كلا من الموافقة الاحتمالية
والمخالفة الاحتمالية قهرية الحصول لا دخل لاختيار المكلف فيها.
والأقوال المذكورة في المسألة خمسة:
الأول: جريان البراءة نقلا وعقلا.
الثاني: الاخذ بأحدهما تعيينا.
الثالث: الاخذ بأحدهما تخييرا.
الرابع: التخيير بين الفعل والترك عقلا مع جريان أصالة الإباحة شرعا.
الخامس: التخيير بين الفعل والترك عقلا، مع عدم جريان البراءة
والإباحة وعدم الحكم بشئ أصلا.
واختار الرابع صاحب الكفاية (1).
وتحقيق الكلام على نحو يتضح به ما هو الصحيح من هذه الأقوال: هو

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 355 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
22

أنك عرفت أنه لا تمكن موافقة ومخالفة العلم الاجمالي قطعا، والموافقة الاحتمالية
والمخالفة كذلك قهرية الحصول. وعليه نقول:
أما جريان البراءة شرعا، فقد يقرب - كما أشار إليه في الكفاية -: بان
كلا من الوجوب والحرمة مجهول، فيعمه حديث الرفع ونحوه مما دل على رفع
الحكم عند الجهل به (1).
وقد ذهب المحقق النائيني (رحمه الله) إلى نفيه لوجهين:
الأول: ان الحكم الظاهري لا بد له من أثر شرعي وإلا لكان لغوا،
وجعل البراءة فيما نحن فيه لا أثر له بعد عدم خلو المكلف من الفعل أو الترك
قهرا، لحكم العقل بالترخيص والتخيير بين الفعل والترك.
الثاني: ان رفع الالزام انما يصح في المورد القابل لوضعه بجعل الاحتياط
- كما تقدم بيانه في حديث الرفع -، وفي ما نحن فيه لا يتمكن الشارع من جعل
الاحتياط لعدم التمكن من الاحتياط، فلا معنى لرفع التكليف (2).
كما أن المحقق الأصفهاني (رحمه الله) نفى البراءة الشرعية بدعوى: ان
ظاهر أدلة البراءة كونها في مقام معذورية الجهل وارتفاعها بالعلم، فما كان تنجزه
وعدمه من ناحية العلم والجهل كان مشمولا للغاية والمغيى، وما كان من ناحية
التمكن من الامتثال وعدمه فلا ربط بأدلة البراءة، وما نحن فيه من الثاني
لعدم القصور في العلم، وانما القصور من جهة عدم التمكن من امتثال الالزام
المعلوم. فلاحظ (3).
أقول: أما محذور اللغوية في جريان البراءة الشرعية، فهو محذور عام
يقال في جميع موارد البراءة لفرض حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وعدم لزوم

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 355 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 232 - الطبعة الأولى.
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 236 - الطبعة الأولى.
23

الاحتياط، بناء على الالتزام بحكم العقل المزبور الذي عليه الكل، والجواب
هناك هو الجواب هنا. فراجع (1).
وأما الوجه الثاني: فهو يبتني على ملاحظة أصالة البراءة بالنسبة إلى
الجامع المعلوم وفرض الطرفين طرفا واحدا، إذ لا يتصور الاحتياط حينئذ، مع أنه
لا ينبغي ذلك، إذ البراءة تلحظ بالنسبة إلى كل طرف بخصوصه، وجعل
الاحتياط والضيق بالنسبة إليه ممكن للشارع، إذ للشارع أن يجعل الاحتياط
بلحاظ احتمال الوجوب، فيلزم بالفعل كما له ان يجعله بلحاظ احتمال الحرمة،
فينفي الاحتياط بلحاظ كلا الحكمين تسهيلا ومنة، برفع كل منهما على حدة.
ومنه ظهر الاشكال فيما أفاده المحقق الأصفهاني، فان عدم التمكن من
الامتثال إنما هو بملاحظة الجامع المعلوم. وإلا فبملاحظة كل احتمال بحياله
يكون المكلف قادرا على امتثاله، فتجري أصالة البراءة فيه للجهل به بخصوصه
وإن كان الجامع معلوما.
وبالجملة: فايراد المحققين (قدس سرهما) ناش من ملاحظة الطرفين
طرفا واحدا، وقياس البراءة بالنسبة إلى جامع الالزام المعلوم. وهو ليس كما
ينبغي.
ولكن هذا الايراد عليهما بدوي، إذ يمكن توجيه كلامهما بما يرتفع به
الايراد فنقول: انه بناء على أن النهي عبارة عن الزجر عن الفعل لا طلب الترك
- كما يراه صاحب الكفاية - يكون مورد الوجوب والحرمة شيئا واحدا وهو
الفعل. إذن فالجامع بين الوجوب والحرمة معلوم التعلق بالفعل، والفعل يعلم
بورود الجامع بينهما عليه، ولنسمه الالزام - تبعا للاعلام -، فالالزام الجامع يعلم
تفصيلا بتعلقه بالفعل. وإنما الشك في خصوصية الالزام من وجوب أو حرمة.

(1) راجع 4 / 196 من هذا الكتاب.
24

ولا يخفى عليك ان هذا الالزام لا أثر له عملا بعد تردده بين الوجوب
والحرمة، فلا يكون سببا للتنجز ولا منشئا للمؤاخذة على المخالفة، لما عرفت
من أنه مما لا يتمكن المكلف من موافقته ومخالفته العملية القطعية، ومما لا
يخرج المكلف عن موافقته ومخالفته الاحتمالية. إذن فانطباق الالزام واقعا على
أي الاحتمالين من الوجوب والحرمة لا أثر له.
وعليه، فان أريد اجراء البراءة من خصوصية الوجوب أو الحرمة. ففيه:
ان اجراء البراءة من كل منهما باعتبار جهة الالزام والكلفة التي فيه، وهي معلومة
بالفرض.
وإن أريد إجراء البراءة بملاحظة الشك في انطباق الالزام المعلوم على
الوجوب أو على الحرمة، نظير الشك في انطباق النجس المعلوم على أحد
الإناءين. ففيه: ان الانطباق الواقعي على كل من الحكمين إذا لم يكن بذي أثر
- كما عرفت - فلا معنى لنفيه ورفعه بدليل البراءة مع الشك فيه، لأنه لا يمكن
وضع الالزام.
وإن أريد اجراء البراءة بملاحظة الالزام المعلوم المتعلق بالفعل. ففيه:
أولا: انه معلوم تفصيلا. وثانيا: انه مما لا يمكن جعل الاحتياط بالنسبة إليه ومما
لا يتمكن من امتثاله.
وهذا البيان لا يتأتى بناء على كون النهي عبارة عن طلب الترك،
لاختلاف متعلق الالزام المعلوم، إذ الوجوب والحرمة لا يردان على شئ واحد،
فكل من الفعل والترك مشكوك الالزام، فقد يقال بجريان البراءة فيه لعدم العلم
بالالزام في كل طرف، نظير تردد الوجوب بين تعلقه بالظهر والجمعة.
ولكن لا يمكن الالتزام بجريان البراءة حتى على هذا المبنى، وذلك لان
الحكم بالبراءة شرعا انما هو بملاحظة جهة التعذير عن الواقع، وبملاك
معذورية المكلف بالنسبة إلى الواقع المحتمل، وهذا إنما فيما كان احتمال
25

التكليف قابلا لداعوية المكلف وتحريكه نحو المكلف به، بحيث يكون المكلف
في حيرة منه وقلق واضطراب، فيؤمنه الشارع، أما إذا لم يكن الامر كذلك، بل
كان المكلف آمنا لقصور المقتضي فلا معنى لتأمينه وتعذيره.
وما نحن فيه كذلك، لان احتمال كل من الحكمين بعد انضمامه واقترانه
باحتمال الحكم المضاد له عملا لا يكون بذي أثر في نفس المكلف ولا يترتب عليه
التحريك والداعوية، لان داعوية التكليف ومحركيته بلحاظ ما يترتب عليه من
أثر حسن من تحصيل ثواب أو فرار عن عقاب أو حصول مصلحة أو دفع
مفسدة، وإذا فرض تساوي الاحتمالين في الفعل لم يكن أحدهما محركا للمكلف
لا محالة.
ومن هنا أمكننا ان نقول: بامتناع جعل مثل هذا الحكم واقعا، بناء على أن
الحكم يتقوم بامكان الداعوية، إذ لا يمكن كل من الوجوب والحرمة أن يكون
داعيا إلى متعلقه مع تساوي احتمالهما، فلا حكم واقعي أصلا، بل نلتزم
بعدم الحكم واقعا، بناء على ما قربناه في حقيقة الحكم من أنه جعل ما يقتضى
الداعوية، إذ لا اقتضاء في كل منهما للداعوية، فان عدم الداعوية راجع إلى
قصور المقتضي لا لوجود المانع، إذ اقتضاء الحكم للداعوية باعتبار العلم أو
احتمال ترتب الأثر الحسن عليه فإذا كان هذا الاحتمال مقرونا بعكسه كان
المقتضي قاصرا، نظير العلم بثبوت مصلحة ومفسدة متساويتين في الفعل، فإنه لا
تكون المصلحة في هذا الحال ذات اقتضاء للداعوية والتحريك. فانتبه.
أو فقل: ان التكليف ههنا لغو بعد عدم تأثيره الفعلي في المتعلق، ولو قلنا
بان التكليف ما فيه اقتضاء الداعوية، فان جعل ما يقتضى الداعوية مع عدم
انتهاءه إلى التأثير فعلا في متعلقه، فيكون محالا، والا لصح تعلق التكليف على
هذا المنهج بغير المقدور، وهو مما لا يمكن الالتزام به.
ومن هنا يظهر انه لا مجال لاجراء البراءة العقلية في خصوص كل من
26

الحكمين، إذ لا موضوع لها بعد خروج المورد عن مقسم التعذير والتنجيز. مضافا
إلى ما أفاده صاحب الكفاية من أن البيان ههنا تام، وهو العلم الاجمالي، وانما
القصور من ناحية عدم القدرة فهو نظير ما لو علم بالتكليف بأمر غير
مقدور، فلا يقال إنه يقبح العقاب لعدم البيان، بل لعدم التمكن من الامتثال،
ولا يخفى ان العلم الاجمالي مانع من جريان البراءة العقلية في كل من الطرفين
ولو لوحظ كل منهما بنفسه وعلى حدة. فانتبه (1).
وبذلك يتضح عدم تمامية القول الأول.
وأما لزوم الالتزام والاخذ بأحدهما - بحيث لو ثبت كان مانعا من إجراء
أصالة الإباحة.
ولا مجال لدعوى: أن الالتزام بالوجوب أو الحرمة واقعا لا يتنافى مع
الإباحة الظاهرية، إذ لا تنافي واقعا بين الحكم الواقعي والظاهري، فلا تنافي بين
الالتزام بهما.
وذلك لان المراد من الالتزام بأحدهما هو الالتزام مقدمة للعمل على طبقه
لا مجرد الالتزام بلا عمل به. وهو يتنافى مع الإباحة الظاهرية. وقد أشار الشيخ
(رحمه الله) إلى هذا المعنى (2) -.
فهو يقرب بوجهين:
الوجه الأول: انه حيث تجب موافقة الاحكام التزاما، بمعنى انه يجب
الالتزام بالحكم الواقعي، فيجب الالتزام بكل من الوجوب والحرمة، للعلم بثبوت
أحدهما، وبما أنه غير متمكن عقلا من ذلك لان الالتزام بالضدين محال، فان
الايمان بثبوت الضدين محال كثبوتهما، فتمتنع الموافقة القطعية، وإذا امتنعت

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 356 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 236 - الطبعة الأولى.
27

الموافقة القطعية وجبت الموافقة الاحتمالية لتنزل العقل من الموافقة القطعية إلى
الموافقة الاحتمالية ولا مجال لسقوط العلم الاجمالي عن التجزية رأسا، فيلتزم
بأحد الحكمين.
وببيان آخر: ان المكلف مضطر إلى ترك أحد طرفي العلم الاجمالي، وقد
قرر في محله انه مع الاضطرار إلى أحد الأطراف بعينه يلتزم بالتوسط في التنجيز
ونتيجته لزوم الموافقة الاحتمالية.
والفرق بين البيانين، هو عدم ابتناء الأول على التوسط في التنجيز في
مورد الاضطرار.
وهذا الوجه مردود.
أولا: ان الواجب من الالتزام على تقدير ثبوته هو الالتزام بالحكم
الواقعي على واقعه لا بعنوانه الخاص وهو لا ينافي اجراء الأصل لأنه حاصل
فعلا مع اجراء الأصل.
أما الالتزام بالحكم بعنوانه الخاص بما هو وجوب أو حرمة الذي يتنافى
مع اجراء الأصل كما عرفت، فليس وجوبه ثابتا ولا دليل عليه، إذ الدليل على
لزوم الالتزام لو تم لزوم الالتزام بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) وهو لا يقتضي أكثر من الالتزام بالواقع على واقعه.
وثانيا: لو سلم انه يجب الالتزام بالحكم بعنوانه، فصاحب الكفاية (1) ممن
لا يلتزم بالتوسط في التنجيز مع الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه بل يرى
عدم منجزية العلم بالمرة، فالمسألة مبنائية.
وثالثا: ان الالتزام مع الشك تشريع محرم، فلا يحكم العقل بمنجزية العلم
إذا استلزمت موافقته الاحتمالية الوقوع في الحرام القطعي. بل ذهب الأصفهاني

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 360 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
28

(قدس سره) إلى أن الالتزام مع الشك محال لان الايمان بالشئ مع الشك فيه
لا يجتمعان (1).
الوجه الثاني: قياس المقام بمورد تعارض الخبرين الدال أحدهما على
الوجوب والاخر على الحرمة، فإنه يلتزم بالتخيير بينهما، وعبارة الشيخ (2) ههنا لا
تخلو عن غموض وعلى كل فالوجه المصحح للقياس أحد أمور.
الأول: دعوى أن الملاك في الحكم بالتخيير في مورد تعارض الخبرين هو
مجرد ابدائهما احتمال الوجوب والحرمة فيسري الحكم إلى كل مورد كذلك ومنه
ما نحن فيه.
الثاني: دعوى أن الملاك هو نفي الثالث. وما نحن فيه كذلك.
الثالث: ان رعاية الحكم الظاهري وهو الحجية يدل بالفحوى على رعاية
الحكم الواقعي فإذا ثبت التخيير بين الحجتين وعدم طرحهما فثبوت التخيير بين
الحكمين الواقعيين أولى.
ولكن جميع هذه الوجوه ممنوعة.
أما الأول: فلانه تخرص وتحكم على الغيب، بل بناء على السببية لا مجال
له لان التخيير يكون من باب التخيير بين الواجبين المتزاحمين، وأي ربط لذلك
بما نحن فيه.
وأما الثاني: فهو كالأول، مع أن نفي الثالث قد لا يقول به الكل، لا بهما
- كما يراه الشيخ - لتبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجية كتبعيتها لها في
أصل الثبوت. ولا بأحدهما - كما يراه صاحب الكفاية - لعدم تصور ما أفاده في
تقريبه في محله فراجع. مع أن الكل يرى التخيير ولو لم يتكفل الخبران نفي
الثالث.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 2 / 27 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 236 - الطبعة الأولى.
29

وأما الوجه الثالث: فلان الأولوية انما تتم لو فرض ثبوت الموضوع لكل
من الحكمين الواقعيين كثبوته للحكمين الظاهريين، وليس الامر كذلك، بل هو
حكم واقعي مردد بين الحكمين، بخلاف الحكمين الظاهريين فان كلا منهما واجد
لموضوعه وهو الخبر التام الشرائط، وببيان آخر نقول: ان الطريقية بأي وجه
صورت في باب الطرق مشوبة بالموضوعية وإلا لزم اعتبار كل طريق وكاشف،
فللطريق الخاص موضوعية كانت منشأ لجعله حجة ككثرة انضباطه ونحوها، وقد
ادعى صاحب الكفاية (1) ان الموضوع هو احتمال الإصابة.
وأورد عليه الأصفهاني: بأنه شرط للحجية لا موضوع وان الموضوع هو
عنوان التسليم (2).
إذن فموضوع الحكم الظاهري الناشئ من مصلحة معينة ثابت، وتردد
الحال بينهما وأين ذلك مما نحن فيه. فيما هناك موضوع واحد لحكم واقعي واحد
غير معلوم. فلا يقال بعد هذا أنه بناء على الطريقية يكون المدار على الواقع
المنكشف بلا خصوصية للطريق، والواقع المحتمل هو امر واحد، فيكون مورد
الخبرين المتعارضين مثل ما نحن فيه، فيتحقق التخيير فيما نحن فيه. فتدبر
والتفت.
والمتحصل: انه لا وجه للزوم الالتزام بأحدهما، ومنه ظهر انه لا وجه
للالتزام بأحدهما المعين، لأنه يتفرع على لزوم الالتزام بأحدهما فيلتزم بترجيح
جانب الحرمة أو الوجوب على الاخر.
فظهر بطلان القولين الثاني والثالث.
وأما الالتزام بالإباحة، فيوجه بعموم قوله: " كل شئ حلال حتى تعلم
انه حرام " للمورد.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 355 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 235 - الطبعة الأولى.
30

ولكن يرد عليه وجوه:
الأول: انها تجري في المورد بتمامية مقدمتين:
الأولى: ارجاع الوجوب إلى الحرمة بمعنى حرمة الترك كي تشمل
الشبهة الوجوبية.
الثانية: كون الغاية عقلية لا شرعية، لأنها ان كانت شرعية فالعلم
بظاهره أعم من الاجمالي، وهو حاصل فيما نحن فيه، للعلم إجمالا بحرمة الترك
أو الفعل، فلا تجري أصالة الإباحة واما إذا كانت عقلية، فان الغاية هي العلم
المنجز لا ذات العلم، وهو غير متحقق فيما نحن فيه، فيثبت المغيى.
وكل من المقدمتين قابل للمناقشة.
أما الأولى، فقد تقدم الحديث فيها في أخبار البراءة.
وأما الثانية، فلظهور الغاية في كونها شرعية جعلها الشارع، لا انها ارشاد
إلى حكم العقل، فإنه خلاف الظاهر.
الثاني: ما أفاده المحقق النائيني (رحمه الله) في خصوص المقام، من انه
يعتبر في جريان الأصل احتمال مطابقته للواقع لاخذ الشك في موضوعه، اما مع
العلم بعدم مطابقته للواقع فلا يجري.
وبما أن أصل الإباحة ههنا أصل واحد يرجع إلى مساواة الفعل مع الترك
- لا انه يجري في كل من الفعل والترك على حدة نظير أصالة البراءة، إذ اجراؤه
في الفعل يعني انه مع الترك على حد سواء، فلا معنى لاجرائه في الترك -، فلا
يمكن اجراؤه للعلم بخلافها للعلم بالالزام. وعدم تساوي الفعل مع الترك، يعلم
بعدم مطابقتها للواقع (1).
الثالث: ما تقدم منا في نفي إجراء البراءة من أن الحكم الواقعي لا يقبل

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 445 - طبعه مؤسسة النشر الاسلامي.
31

التحريك، فلا يقبل جعل المعذر بلحاظه، وقد عرفت أن جعل الحكم الظاهري
انما هو بلحاظ التعذير على الواقع، بل عرفت أنه لا ثبوت للواقع بعد عدم
قابليته للتحريك. فراجع.
فظهر بذلك بطلان القول الرابع. فيتعين الالتزام بالتخيير لا من قبيل
الوجوب التخييري شرعا، ولا من قبيل التخيير العقلي في باب التزاحم، لان
مرجع التخيير في هذين المقامين إلى الالزام بأحد الامرين، وهو غير متصور فيما
نحن فيه، إذ واحد من الفعل والترك قهري الحصول، فلا معنى للالزام بأحدهما،
فالمراد من التخيير هو عدم الحرجية في الفعل والترك، وهو ما ذهب إليه المحقق
النائيني. فانتبه وتدبر.
هذا كله إذا دار الامر بين الوجوب والحرمة في واقعة واحدة، كما إذا علم
أنه حلف أما على وطء زوجته في ليلة الجمعة خاصة أو على تركه فيها.
واما إذا دار الامر بين الوجوب والحرمة في وقائع متعددة، كما إذا علم أنه
حلف اما على الجلوس في الصحن أو على تركه في صباح كل يوم. فإنه في صباح
كل يوم يدور أمره بين الوجوب والحرمة.
ولا يخفى انه لا يختلف الحال فيما ذكرناه بلحاظ كل واقعة بنفسها.
وإنما الكلام في هذه الصورة في أن التخيير بدوي أو استمراري، بمعنى
انه هل يلزمه في الواقعة الثانية اختيار ما اختاره أولا أو له اختيار خلافه؟.
وجهة الاشكال بدائيا في التخيير الاستمراري هو: انه قد يستلزم
المخالفة القطعية فإنه إذا اختلف اختياره في الواقعتين يعلم أنه خالف الحكم
الشرعي قطعا.
وتحقيق الكلام: ان العلم الاجمالي بالوجوب أو الحرمة في كل واقعة لا أثر
له كما عرفت، لكن لدينا علما إجماليا آخر، وهو العلم إجمالا إما بوجوب الفعل
في هذه الواقعة أو بحرمته في الواقعة الثانية، وهذا العلم الاجمالي تحرم مخالفته
32

القطعية، فإذا اختار الترك في هذه الواقعة كان عليه ان يترك في الواقعة الثانية،
وإلا أدى ذلك إلى المخالفة القطعية للعلم الاجمالي المزبور.
إلا أنه قد يقال: ان هذا العلم الاجمالي ينضم إليه علم اجمالي آخر إما
بحرمة الفعل في هذه الواقعة أو بوجوبه في الواقعة الثانية، وتأثير كل من العلمين
في كل من الطرفين على حد سواء، فلا يكونان منجزين، بل يكونان من قبيل
العلم الاجمالي الأول بلحاظ كل واقعة بحيالها.
ولكننا نقول: إنه يمكن تقريب التخيير البدوي على أساس هذين
العلمين الاجماليين المتعاكسين بأحد وجهين:
الأول: ان الموافقة القطعية لأحدهما تستلزم المخالفة القطعية للاخر.
وبعبارة أخرى: ان التخيير الاستمراري كما يستلزم المخالفة القطعية لأحدهما
يستلزم الموافقة القطعية للاخر، وبما أن حرمة المخالفة القطعية أهم - بنظر العقل -
من لزوم الموافقة القطعية، ولذا قيل بعلية العلم الاجمالي لحرمة المخالفة
القطعية، وتوقف في عليته لوجوب الموافقة القطعية فيتعين رفع اليد عن لزوم
الموافقة القطعية لأحدهما والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية حذرا من الوقوع في
المخالفة القطعية للاخر، فيتعين التخيير البدوي.
الثاني: ان تحصيل الموافقة القطعية لكلام العلمين الاجماليين غير مقدورة
عقلا، فيتنزل العقل عنها إلى الموافقة الاحتمالية. بخلاف الاجتناب عن المخالفة
القطعية، فإنه مقدور لكل من العلمين، فيحكم العقل بحرمتها. فيتعين التخيير
البدوي.
وهذا الوجه يتم حتى بناء على المساواة بين الموافقة القطعية والمخالفة
القطعية في الأهمية، وكون العلم بالنسبة إليهما على حد سواء فلا يؤثر في أحداهما
مع التعارض، إذ الملاك فيه هو عدم القدرة عقلا من الموافقة القطعية، فالعلم
الاجمالي لا يؤثر فيها لعدم القدرة لا للتعارض، كي يقال ان مقتضى المعارضة
33

عدم تأثيره في حرمة المخالفة القطعية أيضا. فتدبر.
وبالجملة: يتعين بهذين الوجهين الالتزام بالتخيير البدوي ومنع التخيير
الاستمراري.
وأما ما أفاده المحقق العراقي (رحمه الله) من الايراد على الوجه الأول:
بأنه خلاف ما هو التحقيق من كون العلم الاجمالي بالنسبة إلى الموافقة القطعية
علة تامة كالمخالفة القطعية، مع أن البحث في الاقتضاء والعلية بالنسبة إلى
الموافقة القطعية انما هو بلحاظ جريان الأصول بمناط عدم البيان، لا بالنسبة
إلى الترخيص بمناط الاضطرار وكبرى لا يطاق، إذ لم يلتزم أحد في هذه الحال
بمنجزية العلم التفصيلي فضلا عن الاجمالي (1).
ففيه ما لا يخفى، فإنه أشبه بالمغالطة، فإنه وان كان البحث عن ذلك
بلحاظ تلك الجهة غير الثابتة فيما نحن فيه لفرض الاضطرار وعدم القدرة، لكن
لا ينافي ذلك الاستشهاد بما يقال في ذلك المقام على ما نحن فيه، لدوران الامر
بين تحصيل الموافقة القطعية لاحد العلمين وترك المخالفة القطعية للعلم الاخر.
فنقول ان: مقتضى ما حرر في ذلك المقام ان الثاني أولى بنظر العقل وأهم،
فيتعين. فالتفت.
ولعل مثله ما أفاده المحقق الأصفهاني (رحمه الله) من: ان لدينا تكاليف
متعددة في الوقائع المتعددة، فلدينا علوم متعددة بتكاليف متعددة بتعدد الوقائع،
وكل علم انما ينجز ما هو طرفه، والمفروض عدم قبول طرفه للتنجيز كما بين.
وهذه العلوم المتعددة لا تستلزم علما اجماليا أو تفصيليا بتكليف آخر يتمكن من
مخالفته القطعية. نعم ينتزع طبيعي العلم من العلوم المتعددة وطبيعي التكليف من
التكاليف المتعددة، وتنسب المخالفة القطعية إلى ذلك التكليف الواحد المعلوم

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 296 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
34

بالعلم الواحد، فتحقق المغالطة المدعاة... إلى آخر ما أفاده (1).
وأنت خبير: بان العلم الاجمالي في واقعتين يستلزم حدوث علمين اجماليين
حقيقيين بتكليف مردد بين الوجوب والحرمة بالنسبة إلى الفعلين في الواقعتين،
وهو مستلزم لتنجيز المعلوم بنحو تحرم مخالفته قطعا، ولا نلحظ العلم الاجمالي في
كل واقعة كي يقال ان المخالفة القطعية للعلم الاجمالي المزبور مخالفة غير مؤثرة،
بل الملحوظ هو العلم الاجمالي الحاصل بضم الواقعتين أحداهما إلى الأخرى،
وهو لا ينافي عدم تنجز العلم الاجمالي بالنسبة إلى كل واقعة بحيالها، وعدم ثبوت
تكليف آخر غير المعلوم بالعلم الاجمالي غير المنجز، ولا يتنافى مع تعلق علم
اجمالي به آخر يستلزم تنجيزه بالنسبة إلى المخالفة القطعية. فلاحظ وتدبر ولا
تغفل.
المسألة الثانية: ما إذا كان أحد الحكمين المعلومين أو كلاهما تعبديا لا
يسقط إلا بقصد القربة.
والكلام فيها في جهتين:
الجهة الأولى: في حكم المسألة.
ولا يخفى ان العلم الاجمالي المزبور وإن لم تمكن موافقته قطعا لكن مخالفته
القطعية ممكنة، إذ لو دار الامر مثلا بين وجوب الصلاة وحرمتها ذاتا، فإنه إذا
جاء بالصلاة بدون قصد القربة كان مخالفا قطعا، إما للوجوب لعدم قصد القربة
أو للحرمة للفعل وعدم الترك.
وعليه، فيقال: إن العلم الاجمالي الذي لا يتمكن الشخص من موافقته
القطعية عقلا، ويتمكن من مخالفته القطعية، يحكم العقل بحرمة مخالفته وإن لم
يحكم بوجوب موافقته، فمثل هذا العلم الاجمالي قابل للتنجيز بحكم العقل

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 236 - الطبعة الأولى.
35

بلحاظ المخالفة القطعية، فلا يجوز ترك امتثال كلا الحكمين المحتملين. ولا يسقط
عن التنجيز بالمرة، كما يأتي في محله. وببيان آخر: ان المكلف مضطر إلى مخالفة
أحد الطرفين لا بعينه، وبمقتضى ما سيجيئ في صورة الاضطرار إلى أحد
الطرفين لا بعينه، هو الالتزام بمنجزية العلم الاجمالي في الطرف الاخر، وحرمة
مخالفته قطعا.
وهذا الامر التزم به صاحب الكفاية ههنا (1). مع أنه لا يرى منجزية العلم
الاجمالي مع الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه، بل يرى سقوطه عن المنجزية
رأسا حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية، ولذا التزم في مبحث دليل الانسداد
سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية للاضطرار إلى بعض الأطراف للزوم اختلال
النظام بالاحتياط التام، وان استفادة الاحتياط في باقي الأطراف لا بد أن يكون
بدليل آخر من اجماع أو غيره (2).
ولأجل ذلك أورد عليه: بان التزامه بحرمة المخالفة القطعية فيما نحن
فيه لا يتلاءم مع مختاره فيما يأتي انشاء الله تعالى، لان المورد من موارد الاضطرار
إلى أحد الأطراف لا بعينه. فلاحظ (3).
الجهة الثانية: فيما ذكره من عموم محل الكلام لهذه الصورة وعدم
اختصاصه بالتوصليين، وقد تقدم نقل كلامه واعتراضه على الشيخ في تخصيصه
الكلام في التوصليين.
والذي نراه ان ما ذكره الشيخ (رحمه الله) هو الصحيح المتعين، فان جميع
الوجوه التي تذكر في التوصليين لا تتأتى في هذه الصورة. بيان ذلك: أما جريان
أصالة البراءة بالتقريب السابق، فهو لا يمكن الالتزام به ههنا لان اجراء

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 356 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 313 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار / 3 / 297 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
36

الأصل في كل من الطرفين يستلزم المنافاة للعلم الاجمالي المنجز بلحاظ المخالفة
القطعية.
ومثله الكلام في اجراء أصالة الإباحة، فإنه يتنافى مع منجزية العلم
الاجمالي.
كما أن ما ذكرناه في منع اجراء البراءة مع قصور الالزام المعلوم بالاجمال
عن التنجيز لا يتأتى ههنا، لما عرفت من قابلية العلم الاجمالي للتنجيز بلحاظ
المخالفة القطعية.
وأما لزوم الالتزام بأحدهما، فهو على تقدير تماميته إنما يلتزم به في مورد
لا يكون للعلم الاجمالي أي تأثير في مقام العمل، بحيث يكون الالتزام بأحدهما
هو الطريق إلى العمل بأحد الطرفين. أما في الموارد التي يكون العلم الاجمالي
منجزا ومؤثرا في مقام العمل، سواء كان تأثيرا تاما أو وسطا، فلا يجئ حديث
لزوم الالتزام بأحدهما.
والشاهد عليه انه لم يخطر في بال أحد أنه يجب الالتزام بأحد الحكمين في
موارد العلم الاجمالي الموجب للتنجز، كالعلم إما بوجوب هذا أو حرمة ذاك، أو
يجب الالتزام بثبوت الحكم في أحد الطرفين، كما لو علم بوجوب هذا أو ذاك، ولم
يقع الكلام في ذلك الا في موارد دوران الامر بين محذورين، لعدم وجود ما يدل
على تعيين الوظيفة الالزامية لاحد الطرفين.
وهذا لا يسرى إلى صورة كون أحدهما تعبديا، لحكم العقل بلزوم الاتيان
بأحدهما، لما عرفت من أن العلم الاجمالي منجز بالنسبة إلى المخالفة القطعية.
وأما التخيير، فقد عرفت أنه في التوصليين، بمعنى اللا حرجية في الفعل
والترك - لا الالزام - بأحدهما لقهرية حصول أحدهما.
وهذا لا يتأتى في ما نحن فيه، لعدم قهرية حصول أحدهما، فالتخيير بين
الفعل والترك فيما نحن فيه بملاك منجزية العلم الاجمالي وحكم العقل بلزوم
37

أحدهما فرارا من المخالفة القطعية.
نعم، التخيير ههنا مع التخيير في التوصليين يتفقان عملا ونتيجة.
فظهر انه لا جامع بين الصورتين ولا تلتقي أحداهما مع الأخرى إلا من
حيث النتيجة العملية بناء على الالتزام بالتخيير، فكيف يدعى عموم الكلام
لكلتيهما؟. فلاحظ وتدبر.
تنبيه: ذكر صاحب الكفاية ان استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا
يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين، ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله
بتعينه، كما هو الحال في دوران الامر بين التخيير والتعيين في غير المقام (1).
وتحقيق المقام فيما أفاده (قدس سره): ان لدوران الامر بين التعيين
والتخيير موارد ثلاثة:
الأول: مورد تعارض النصين مع وجود مزية في أحدهما يحتمل ان تكون
مرجحة لأحدهما على الاخر مع عدم دليل يدل على التخيير يقول مطلق، بل
ليس الثابت سوى العلم بعدم مشروعية التساقط وطرح كلا النصين، بل لا بد من
الاخذ اما بذي المزية أو بأحدهما مخيرا، فإنه يدور أمر الحجية بين التخيير
بينهما وبين تعيين ذي المزية، وفي هذا المورد يلتزم بالتعيين ولزوم الاخذ بذي المزية.
والوجه فيه: هو ان ذا المزية معلوم الحجية على كل تقدير، وغيره مشكوك الحجية،
إذ يحتمل الترجيح بالمزية بلا دليل ينفيه، وقد تقرر ان الشك في الحجية يلازم
الجزم بعدم الحجية، فيتعين لزوم الاخذ بما يعلم جواز الاخذ به والاستناد إليه،
وعدم جواز الاخذ بما يشك في جواز الاستناد إليه.
الثاني: مورد تزاحم الواجبين مع احتمال أهمية الملاك في أحدهما، فان
مقتضى التزاحم هو ترجيح الأهم منهما والتخيير بين الواجبين مع التساوي، فإذا

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 356 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
38

احتمل أهمية أحدهما يدور الامر بين تعيين محتمل الأهمية والتخيير بينهما لو كانا
متساويين واقعا. وههنا يلتزم بالتعيين أيضا بملاك ان مرجع الالتزام بالتخيير مع
التساوي في الملاك إلى الالتزام بتقييد اطلاق كل من الحكمين بحال اتيان
الاخر، لان منشأ التزاحم هو اطلاق دليل كل منهما الشامل لحال الاتيان بالاخر،
فيقع التزاحم لعدم التمكن من اتيانهما معا، فيرفع اليد عن الاطلاق بالمقدار
الموجب لعدم التزاحم، فيقيد اطلاق كل منهما بحال اتيان الاخر، فيكون كل
منهما واجبا عند ترك اتيان الاخر، فلا يتحقق التزاحم. وعليه فإذا احتمل أهمية
أحدهما كان ذلك ملازما لاحتمال تقدمه على الاخر الملازم لعدم تقيد اطلاقه
وبقائه على حاله، بل يتقيد اطلاق الاخر فقط - بنحو الترتب كما حقق -. إذن
فهو يعلم بسقوط اطلاق الاخر على كل تقدير ولا يعلم بسقوط اطلاق محتمل
الأهمية، فيتعين الاخذ به عملا بالاطلاق، ولا يجوز الاخذ بالاخر.
الثالث: مورد تعلق الامر بعمل خاص ثم يشك في التخيير بينه وبين
عمل آخر، كما إذا علم بلزوم الصوم وشك في أن وجوبه تعييني أو انه يتخير بينه
وبين العتق.
وفي هذا المورد مذهبان:
أحدهما: الالتزام بالتخيير بملاك ان الوجوب التخييري حقيقته هو
التعلق بالجامع بين الفعلين. إذن فهو يعلم بتعلق التكليف بالجامع بين الصوم
والعتق ويشك في خصوصية زائدة عليه، وهي خصوصية الصوم، فيكون من موارد
دوران الامر بين الأقل والأكثر والمرجع فيه البراءة.
والاخر: هو الالتزام بالتعيين بدعوى أن التكليف بالجامع غير معلوم،
وانما المعلوم هو تعلقه رأسا بالحصة الخاصة فيشك في الامتثال بغير هذا العمل،
ومقتضى الاشتغال هو التعيين. فالالتزام بالتعيين ههنا استنادا إلى قاعدة
الاشتغال.
39

إذا عرفت ذلك فاعلم: ان ما نحن فيه لا يكون من أحد هذه الموارد،
لدوران الامر بين التعيين والتخيير، فان العلم الاجمالي بثبوت أحد الحكمين،
واحتمال أهمية الوجوب على تقدير ثبوته واقعا ليس من قبيل العلم الاجمالي
بلزوم الاخذ بإحدى الحجتين ويحتمل تعين إحداهما الملازم لعدم حجية الأخرى،
كما أنه ليس من قبيل دوران الامر بين الاطلاقين مع العلم بتقيد أحدهما وعدم
العلم بتقيد الاخر، ولا من قبيل دوران أمر التكليف بين تعلقه بخصوص عمل
أو التخيير بينه وبين غيره، إذ لا يعلم بثبوت الوجوب، فقد لا يكون له ثبوت
بالمرة، فلا يتم فيه أحد هذه الملاكات المتقدمة في دوران الامر بين التعيين
والتخيير، بل لنا ان نقول إن المورد ليس من موارد دوران الامر بين التعيين
والتخيير، فلا وجه للالتزام بتعين محتمل الأهمية فيما نحن فيه.
ودعوى: ان تقديم محتمل الأهمية ليس بأحد هذه الملاكات، كي يقال
بعدم انطباقها على المورد، بل بملاك مستقل في نفسه لا يرتبط بموارد دوران
الامر بين التعيين والتخيير المعهودة، وهو ان حكم العقل بالتخيير انما هو بملاك
ان إلزامه بأحدهما ترجيح بلا مرجح، وهذا البيان لا يتأتى مع احتمال أهمية
أحدهما، فان إلزامه بأحدهما لا يكون من الترجيح بلا مرجح.
مندفعة: بان هذا البيان غير صحيح، لان المنظور في حكمه بالتخيير
لاجل عدم صحة الترجيح بلا مرجح هو عدم المرجح بلحاظ مقام الإطاعة
والعصيان، لعدم تنجز أحد الحكمين بالعلم الاجمالي - كما تقدم -، وإذا لم يترجح
أحدهما بلحاظ هذا المقام كان كل منهما بنظر العقل على حد سواء. ومن الواضح
ان احتمال أهمية الوجوب أو الحرمة، لا يكون موجبا لترجيح جانب الوجوب أو
الحرمة على غيره في مقام الإطاعة، لعدم المنجز، لان نسبة العلم الاجمالي إلى
كليهما على حد سواء، ومجرد الاحتمال لا يكون نافعا في التعيين.
وبالجملة: فما أفاده صاحب الكفاية لا يمكن ان نوافق عليه. فلاحظ.
40

تذنيب: ذكر الشيخ (رحمه الله) - في بعض تنبيهات مبحث الأقل والأكثر -:
ان من دوران الامر بين محذورين دوران الامر في شئ بين كونه شرطا أو جزء
وكونه مانعا، لوجوب الاتيان به لو كان شرطا أو جزء وحرمة الاتيان به، لو كان
مانعا، وبمقتضى ما تقرر من التخيير في دوران الامر بين المحذورين، يكون
المكلف مخيرا بين الاتيان به وبين تركه، لعدم التمكن من الجمع والاحتياط.
ثم أشار (قدس سره) إلى التوقف فيه، ولكن ظاهر كلامه أخيرا هو البناء
عليه (1).
وتحقيق المقام: ان دوران الامر بين الجزئية والمانعية يرجع في الحقيقة إلى
دوران الامر في الوجوب النفسي المتعلق بالمركب بين تعلقه بالمشتمل على الجزء
وتعلقه بالفاقد له، لان الشك في الامر الضمني راجع إلى الشك في كيفية تعلق
الامر النفسي، نظير دوران الامر بين القصر والاتمام، لان الركعتين الأخيرتين
على تقدير القصر مبطلتان، ولذا يفرض المورد من موارد دوران الامر بين
المتباينين.
وعليه، فيجب الاحتياط بتكرار العمل، لان هذا العلم الاجمالي منجز
للتمكن من مخالفته القطعية وموافقته القطعية، والاقتصار على أحد الامرين لا
يصح بعد كون العلم الاجمالي منجزا.
ودعوى: انه إذا كان مانعا يحرم ايجاده في الصلاة نفسيا لحرمة إبطال
العمل الصلاتي، فيدور أمر المشكوك بين حرمته النفسية لو كان مانعا ووجوبه
الضمني لو كان جزء. وهذا العلم الاجمالي غير قابل للتنجيز لعدم التمكن من
مخالفته ولا موافقته القطعيتين، فيكون المكلف مخيرا.
مدفوعة - بعد تسليم حرمة ابطال الصلاة مطلقا وفي خصوص مثل المقام.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 297 - الطبعة الأولى.
41

مما كان الاتيان بالعمل بعنوان الرجاء وعدم الاكتفاء به في مقام الامتثال -: بأن
عدم تنجيز هذا العلم الاجمالي لا ينافي منجزية العلم الاجمالي السابق الذي يدور
تعلقه بين متباينين كما عرفت، فإذا جاز الاقتصار على الموافقة الاحتمالية
بمقتضى العلم الاجمالي الثاني، فلا يجوز ذلك بمقتضى العلم الاجمالي السابق
الذي لا قصور في منجزيته، فيجب تكرار العمل تحصيلا للامتثال اليقيني.
هذا إذا كان الوقت متسعا لتكرار العمل. أما إذا كان ضيقا لا يسع
العملين، كانت الوظيفة هي التخيير بينهما في الوقت لعدم التمكن من الموافقة
القطعية للعلم الاجمالي.
لكن يجب عليه الاتيان بالاخر خارج الوقت. وذلك لأنه يعلم إجمالا،
إما بوجوب أحدهما في الوقت أو بوجوب الاخر خارجه لو تركه في الوقت، فهو
يعلم إجمالا، إما بوجوب القصر في الوقت أو بوجوب التمام خارج الوقت لو تركه
في الوقت، وبالعكس أيضا، فإذا جاء بالقصر في الوقت وجب عليه الاتيان بالتمام
خارج الوقت بمقتضى علمه الاجمالي المزبور، لأنه منجز للتكليف للتمكن من
مخالفته القطعية مع موافقته القطعية. فلاحظ وتدبر.
وبهذا التحقيق عرفت أن مجرد اشتراك المقام مع مقام دوران الامر بين
محذورين في عنوان الدوران بين محذورين لا يستلزم الاشتراك في الحكم. فالتفت.
42

مبحث
الاشتغال
43

فصل: في الشك في المكلف به
لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف..
فتارة: يتردد المكلف به بين المتباينين، كتردد الواجب بين كونه جمعة أو
ظهرا.
وأخرى: بين الأقل والأكثر، كتردد الواجب بين فاقد السورة وواجدها.
فالكلام في مقامين:
45

المقام الأول:
في دوران الامر بين المتباينين.
ولا يخفى ان المراد من التكليف المعلوم أعم من نوع التكليف - كالعلم
بالوجوب المردد متعلقه بين الجمعة والظهر أو القصر والتمام -، أو جنس التكليف
- كالعلم بالالزام وتردده بين أن يكون وجوب شئ أو حرمة آخر -.
والذي أفاده صاحب الكفاية (رحمه الله) في تحقيق الحال في هذا المقام هو:
ان التكليف المعلوم إذا كان فعليا من جميع الجهات، بان يكون واجدا لما هو العلة
التامة للبعث والزجر الفعلي مع ما هو عليه من الاجمال، فلا محيص عن تنجزه
بالعلم وصحة العقوبة على مخالفته، ومعه لا بد عقلا من رفع اليد عن عموم دليل
أصل البراءة والإباحة، لمناقضته للتكليف الفعلي. وإن لم يكن فعليا من جميع
الجهات، لم يكن مانع عقلا ولا شرعا من شمول أدلة البراءة للأطراف. ومنه
ظهر انه لا فرق بين العلم الاجمالي والتفصيلي. إلا في أنه لا مجال للحكم الظاهري
مع التفصيلي، وله مجال مع الاجمالي، فلا يصير الحكم الواقعي فعليا بجعل الحكم
الظاهري في أطراف العلم. هذا ما أفاده (قدس سره) (1).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 358 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
46

وقد أورد عليه: بان ظاهره كون العلم الاجمالي علة تامة للتنجيز كالعلم
التفصيلي، وأن الفرق بينهما من ناحية المعلوم. وهذا يتنافى مع ما تقدم منه في
مباحث القطع من كونه مقتضيا للتنجيز وتأثيره فيه بنحو الاقتضاء لا العلية
التامة.
والتحقيق: انه لا تنافي بين ما أفاده في الموردين، بل هما يتفقان. بيان
ذلك: انه قد عرفت فيما تقدم - في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي (1) -
انه يلتزم بان الحكم الواقعي، تارة يكون فعليا تام الفعلية من جميع الجهات،
فيمتنع جعل الحكم الظاهري على خلافه. وأخرى يكون فعليا ناقص الفعلية
ولو من جهة الجهل به، وهو لا يتنافى مع الحكم الظاهري على خلافه، وذهب إلى أن
الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري يكون بالالتزام بان الحكم الواقعي فعلي
ناقص الفعلية من بعض الجهات، ولم يلتزم بأنه انشائي لبعض المحاذير. وإذا تمت
هذه المقدمة، فبما أن العلم التفصيلي لا مجال للحكم الظاهري معه لاخذ الجهل
فيه ولا جهل مع العلم التفصيلي، كان العلم منجزا لأنه يتعلق بحكم فعلي تام
الفعلية بمقتضى دليله.
أما العلم الاجمالي، فحيث إن كل طرف منه مجهول الحكم، فللحكم
الظاهري مجال فيه، فإذا جرى الأصل كان كاشفا عن عدم فعلية الواقع التامة،
فلا يكون منجزا، لأنه انما يكون منجزا إذا تعلق بحكم فعلي تام الفعلية.
ومن هنا صح أن يقول: ان العلم الاجمالي مقتض للتنجيز لا بمعنى انه
لقصور فيه، بل بمعنى ان أدلة الترخيص حيث لها مجال معه، وهي تستلزم
الكشف عن عدم فعلية الواقع المعلوم التامة، فلا يكون منجزا إلا إذا لم يكن
هناك ترخيص. فهو مقتض للتنجيز بمعنى انه مؤثر فيه لو لم يمنع مانع من فعلية

(1) راجع 4 / 143 من هذا الكتاب.
47

الواقع، فيوجب قصوره - اي الواقع - عن قبول التنجيز، لا انه مقتض لو لم
يمنع مانع منه، كما هو المعنى المألوف للاقتضاء في قبال العلية التامة.
ولا يخفى ان هذا لا يتنافى مع ما ذكره هنا من كونه موجبا للتنجيز مع
تعلقه بالحكم الفعلي التام الفعلية، بل هو متفق معه كلية، فيصح أن نقول: انه
يرى - في كلا المقامين - ان العلم الاجمالي مقتض للتنجيز بالمعنى الذي عرفته.
كما أنه يرى في كلا المقامين ان العلم الاجمالي علة تامة للتنجيز كالتفصيلي إذا
تعلق بحكم فعلي تام الفعلية.
نعم الذي يتوجه على صاحب الكفاية - بملاحظة ما أفاده ههنا - هو: سؤال
كيفية معرفة كون الحكم الواقعي تام الفعلية بحيث يمتنع اجراء الأصول معه
الذي بنى عليه الأبحاث الآتية، مع إنه فرض مجهول، بل يتوجه عليه اشكال
محصله: إن تمامية فعلية الواقع وعدمها معلقة على عدم جريان الأصول في أطراف
العلم وعدمه، وذلك لان مقتضى دليل الحكم الواقعي هو كونه فعليا تام الفعلية
بمجرد حصول موضوعه، لكنه (قدس سره) التزم - كما عرفت - ان ثبوت الحكم
الظاهري في مورد يكشف عن عدم تمامية فعلية الواقع.
وعليه، فالذي يكشف عن عدم فعلية الواقع التامة، هو ثبوت الحكم
الظاهري، كما أن عدمه مستلزم لكون الواقع فعليا تام الفعلية بلا توقف على
شئ بمقتضى دليله.
وإذا ظهر ذلك، فقد التزم (قدس سره) بان مرتبة الحكم الظاهري مع
العلم الاجمالي محفوظة، وهذا يعني عدم المانع من جريان الأصول في أطراف
العلم، فلا يكون العلم منجزا في حال. فكان اللازم عليه البحث في هذه الجهة
وهي انه هل أدلة الأصول تشمل موارد العلم الاجمالي أو لا؟. فإنها هي المهمة -
كما عرفت -، أما مجرد ترديده المزبور فهو لا يغني ولا يسمن من جوع.
إذن فلنا أن نقول: إن صاحب الكفاية ليس له تحقيق في المقام فتدبر.
48

واستيفاء البحث في العلم الاجمالي وشئونه يستدعي التكلم في جهات..
الجهة الأولى: في حقيقة العلم الاجمالي وتعيين متعلقه.
وقد وقع البحث في ذلك، وان العلم الاجمالي هل يغاير العلم التفصيلي
سنخا، أو انه لا يغايره إلا من ناحية المتعلق؟
وقد ادعي ان متعلق العلم هو الفرد المردد، ولكن المشهور خلافه، وان
متعلق العلم هو الجامع والشك في الخصوصية، فالعلم الاجمالي مركب من علم
تفصيلي بالجامع وشك بالخصوصية، وبذلك ينعدم الفرق بين العلم الاجمالي
والتفصيلي من حيث السنخ.
وقد اختار المحقق الأصفهاني ذلك لاجل ذهابه إلى امتناع تعلق العلم
بالفرد المردد لوجهين:
الأول: ان الفرد المردد لا ثبوت له في أي وعاء لا ذهنا ولا خارجا، لا
ماهية ولا هوية، لان كل شئ يفرض يكون معينا وهو هو لا مرددا بينه وبين
غيره، ولا هو أو غيره - كما أشار إليه صاحب الكفاية في مبحث المطلق والمقيد (1) -
وإذا كان الفرد المردد كذلك لم يكن قابلا لتعلق العلم به، بل يمتنع تعلقه به.
الثاني: ان حضور متعلق العلم بنفس العلم فان العلم من الصفات
التعلقية، فلا يمكن دعوى حضور الخصوصية لأنها مجهولة على الفرض. ولا
المردد، إذ لا يمكن أن يكون حاضرا في النفس لأنه خلف تردده. وهذا الوجه
يبتني على فرض عدم تصور حضور الفرد المردد وثبوته في مرحلة تعلق العلم به
مع قطع النظر عن عالم آخر (2).
والتحقيق: أنه يمكن دعوى تعلق العلم بالفرد المردد - في الجملة -،

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 246 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 2 / 242 - الطبعة الأولى.
49

بمعنى أن يكون متعلقه فردا خارجيا ووجودا عينيا، بحيث لا يقبل الانطباق
على أكثر من واحد مع تردده بين أمرين أو أكثر، ولا تنهض هذه الوجوه ولا
غيرها لا ثبات امتناعه.
ويشهد لذلك الوجدان، كما في مورد اخبار المخبر عن مجئ زيد أو
عمرو، فإنه إنما يخبر عن مجئ أحدهما الذي لا يشخصه، لا الجامع بينهما لان
الجائي هو أحدهما الخارجي لا الجامع. وأوضح من ذلك ما إذا رأى شخصا من
بعيد اشتبه أمره بين زيد وأخيه بكر للتشابه الكبير بينهما، وعدم رؤيته العلامة
المميزة بينهما - كالخال في خده - فان الرؤية انما تعلقت بالوجود الخارجي
الشخصي الذي لا يقبل الانطباق على كثيرين لأنها من الأمور الحسية التي
ترتبط بالمحسوسات الخارجية، وهي الوجودات لا المفاهيم المدركة ذهنا، مع أن ما
تعلقت به الرؤية شخص وفرد مردد بين شخصين هما زيد وأخوه بكر، ومن جهة
عدم تمييزه بينهما. فالمرئي هو أحدهما خارجا لا بعنوان الجامع.
وبما أن الرؤية تستتبع الادراك التصوري، فالصورة الذهنية للمرئي هي
صورة الوجود الخارجي، وهي مرددة بين الشخصين، لان الصورة على حد نفس
المرئي، والفرض ان المرئي مردد بينهما. فالعلم التصوري تعلق بصورة خارجية
شخصية لكنها مرددة لدى العالم بين فردين، ولم يتعلق العلم بالجامع بينهما، إذ ما
في ذهنه صورة مماثلة لما رآه وهو الشخص الخارجي المبهم، ويقال لمثل هذا العلم
العلم الاجمالي، فيصح ان نقول إن العلم الاجمالي هو العلم بالشئ بمقدار من
مشخصاته والجهل بمقدار من مميزاته الموجب للتردد في قبال العلم التفصيلي
الذي هو علم بالشخص بمميزاته له عن غيره مطلقا، فهو مركب من علم
تفصيلي بالصورة الشخصية الاجمالية وجهل تفصيلي بمميزاتها، فلا فرق بينه
وبين العلم التفصيلي سنخا وان تعلق بالفرد المردد.
وقد يجئ في الذهن ان العلم الاجمالي بالبيان المزبور يكون مغايرا سنخا
50

للعلم التفصيلي، فهو كالنظر الضعيف الذي لا ينكشف له كل شئ في قبال
النظر القوي الذي تنكشف له خصوصيات الأشياء.
ولكنه خيال فاسد، فان النظر الضعيف لا يختلف عن القوي سنخا، بل
هو في الحقيقة كالنظر القوي إلا أنه لا يتعلق بتمام الخصوصيات، فالضعف يرجع
إلى عدم النظر من بعض الجهات وهي دقائق الأمور أو أباعدها - مثلا -. وبعبارة
أخرى: القوة والضعف فيما به النظر وهو العين لا في النظر نفسه، بل هو -
بالنسبة إلى ما تعلق به - على حد سواء بين القوي والضعيف فانتبه.
وعلى كل فقد ظهر امكان تعلق العلم بالفرد الخارجي المردد بين
شخصين.
وأما الايراد الأول الذي ذكره المحقق الأصفهاني فهو يندفع: بان ما
أفاده من أن الفرد المردد لا ثبوت له، أجنبي عما نحن فيه وما ادعيناه، فان متعلق
العلم - بالنحو الذي ادعيناه - فرد واقعي متعين في نفسه لا تردد في وجوده، وانما
التردد لدى العالم به في أنه أي الشخصين، فلم نلتزم بثبوت المردد في الواقع، بل
التزمنا بثبوت التردد لدى العالم لجهله بالخصوصية المميزة، وهذا أمر ممكن بلا
كلام، ففرق بين التردد لدى العالم والتردد في الواقع.
وايراده ناش من خلط الترديد في الواقع مع الترديد لدى العالم، وبذلك
أفحم الغير، ولم يعرف الغير كيفية التخلص عن ذلك.
ومن هنا ظهر أن ما جاء في بعض الكلمات في تقريب تعلق العلم بالجامع:
بان العلم إما ان يتعلق بالخصوصية المعينة، فهو خلف لفرض الجهل بها. أو يتعلق
بالخصوصية المرددة وهي مما لا تقرر لها في أي وعاء (1). قابل للدفع: بأنه يتعلق
بالخصوصية المعينة واقعا المرددة لدى العالم، وهو مما لا محذور فيه ولا امتناع.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 242 - الطبعة الأولى.
51

وأما الايراد الثاني للمحقق الأصفهاني، فيرد: بانا نتصور شقا ثالثا، وهو
تعلق العلم بالشخص، بلا تشخيص لخصوصيته المميزة، ولا ملازمة بين نفي العلم
بالخصوصية وتعلقه بالجامع، كما في مثال الرؤية الذي عرفته.
وهنا إشكال آخر للمحقق النائيني (رحمه الله) على تعلق العلم بالفرد
المردد: بان العلم لو كان متعلقا بفرد واقعي مردد بين شخصين، لكان له واقع
يرتبط به وقابل للعلم به تفصيلا، بحيث ينكشف انه هو المعلوم إجمالا، مع انا
نرى خلافه في بعض الموارد كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين، ثم ظهر
في علم الله تعالى نجاسة كلا الإناءين، فما هو المعلوم بالاجمال منهما؟، وبأيهما
يرتبط العلم الاجمالي؟. لا يمكن تمييزه لكل أحد حتى علام الغيوب (1)
ويندفع هذا الاشكال: بان العلم الاجمالي..
تارة: ينشأ من تعلق الحس بالصورة الاجمالية المرددة، كالنظر إلى شخص
مشتبه دخل إلى الدار.
ولا يخفى ان المعلوم بالاجمال في مثل ذلك يكون له تميز واقعي لا ترديد
فيه، فلو ظهر إن كلا الشخصين في الدار، كان معلومه بالاجمال من نظر إليه ورآه
دون غيره.
وأخرى: ينشأ من العلم بتحقق منشأ طرو الوصف العارض على أحدهما
لا عن طريق الحس كالاخبار الموجب للعلم، ثم يظهر ان كلا المشتبهين
معروضان للوصف، لكن عروض الاخر، كان بسبب منشأ آخر كان مجهولا لديه،
فان معلومه بالاجمال له تعين واقعي، وهو ما علم بتحقق المنشأ الخاص فيه، كما
لو علم بوقوع قطرة من البول في أحد الإناءين ثم ظهرت نجاسة الاخر بوقوع
الدم فيه.

(1) الفياض محمد إسحاق، محاضرات في أصول الفقه: 4 / 43 - الطبعة الأولى.
52

وثالثة: أن يحصل لديه العلم بتحقق منشأ عروض العارض على أحدهما،
ثم يظهر عروضه بنفس ذلك المنشأ لكليهما، كما لو علم بوقوع قطرة بول واعتقد
انها تصل متصلة فتقع في أحد الإناءين، لكنها - في علم الله تعالى - تجزأت ووقع
الجزءان في الإناءين.
وهذا هو موضع الاشكال، إذ لا ارتباط للمعلوم بالاجمال بأحدهما.
لكن نقول: انه في هذا الفرض يوجد علمان:
أحدهما: العلم بنجاسة ملاقي البول الواقعي - وهو يدور بين الأقل والأكثر -.
وعلم آخر: بأن الملاقي أحد الإناءين خاصة من باب الخطأ في التطبيق،
ففي الحقيقة يكون كلا الإناءين معلوما لديه. وشهد لذلك: أنه يحكم بان نجاسة
كلا الإناءين تكون منجزة واقعا، ولو لم يكن سوى العلم الاجمالي بنجاسة
أحدهما، لم يتنجز كلاهما لأنه جهل مركب.
فعدم ارتباط العلم الاجمالي الموجود بأحدهما واقعا، لكونه جهلا مركبا لا
حقيقة له واقعا. والتنجز ناشئ عن العلم الاجمالي المردد بين الأقل والأكثر
المنحل بدوا بالعلم الاجمالي التخيلي.
إذن فالعلم الاجمالي الحقيقي بالفرد المردد له ارتباط بالواقع لا محالة.
نعم، هنا صورة واحدة لا يكون العلم الاجمالي فيها متعلقا بالفرد المردد
ولا ارتباط له بالواقع إذا انكشف تفصيلا أصلا، وهو ما إذا كان منشأ العلم نسبته
إلى الفردين واقعا على حد سواء، بحيث لا يكون لأحدهما خصوصية بالنسبة
إليه أصلا، كما إذا علم إجمالا بمخالفة أحد الدليلين للواقع من جهة العلم
بامتناع اجتماع الضدين - لا من جهة إخبار المعصوم (عليه السلام) بذلك
لارتباطه في مثل ذلك بأحدهما واقعا، وهو ما يعلم كذبه المعصوم (عليه السلام) -،
فإنه لو انكشف كذب أحد الدليلين لا يمكنه أن يقول إن هذا هو معلومي
53

بالاجمال، لعدم ميزة لأحدهما على الاخر.
وفي مثل ذلك لا يمكننا ان نلتزم بان متعلق العلم هو أحدهما الواقعي
المردد لدينا، بل هو متعلق بالجامع بهذا المقدار - أعني: عنوان: " أحدهما " -، لكن
هذه الصورة إذا اختلفت موضوعا لامتناع تعلق العلم فيها بالفرد المردد، فلا
يستلزم ذلك كون جميع الصور مثلها.
بل قد يكون لها حكم خاص يختلف عن حكم سائر الصور، فقد التزم
صاحب الكفاية في - مبحث التعارض (1) - ان دليل الحجية لا يثبت الحجية لأكثر
من هذا العنوان، وهو عنوان: " أحدهما " لأنه بهذا العنوان لا أكثر محتمل الصدق،
فإنه كما أن أحدهما معلوم الكذب كذلك أحدهما محتمل الصدق، إذ العلم بكذب
أحدهما لا ينافي احتمال صدق أحدهما، فتثبت الحجية لأحدهما بهذا المقدار،
ويثبت أثره وهو نفي الثالث ومن دون اثبات لاثر إحدى الخصوصيتين.
وجملة القول: انه لا مانع من تعلق العلم الاجمالي بالفرد المردد، بمعنى
ان المعلوم بالاجمال أمر متعين واقعي خارجي مردد بين طرفين أو أكثر لدى العالم
نفسه.
وأما تعلق العلم بالجامع، بان يتعلق العلم بطبيعي النجاسة في مثل العلم
بنجاسة أحد الإناءين، فقد يوجه عليه إيرادات:
الأول: ما كنا نورده سابقا من النقض بموارد دوران الامر بين محذورين.
فإنه لا يمكن دعوى تعلق العلم بالالزام بالجامع بين الفعل والترك، لضرورة
تحقق الجامع بواحد من الفعل أو الترك، فلا معنى للالزام به.
ويمكن ان يدفع: بأنه بعد أن عرفت فيما تقدم استحالة ثبوت التكليف
الفعلي في هذا المورد، لعدم ترتب الداعوية عليه، فلا مجال حينئذ لدعوى تعلق

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 439 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
54

العلم بالحكم الفعلي، سواء تعلقه بنحو بالجامع أو بنحو آخر، إذ لا حكم يكون
موردا للعلم، فالعلم الاجمالي على تقدير ثبوته لا بد في تصحيحه من ارجاعه إلى
مرحلة الجعل لا المجعول ومقام الانشاء لا الفعلية، وفي هذا المقام لا محذور في تعلقه
بالجامع، إذ لا ضير في تعلق العلم بانشاء الالزام بالجامع بين الفعل والترك، إذ لا
محذور في الانشاء ما لم يصل إلى مرحلة الفعلية.
الثاني: ما أفاده المحقق العراقي من: ان المعلوم بالاجمال ينطبق على
المعلوم بالتفصيل لو انكشف الحال بتمامه، ولذا يشار إليه فيقال: هذا ما علمته
إجمالا. فلا يمكن أن يكون هو الجامع لعدم انطباقه على الفرد الخارجي بتمامه،
بل بجزء تحليلي منه (1).
ويمكن ان يرد:
أولا: بأنه غير مطرد في جميع موارد العلم الاجمالي، إذ منها ما لا يكون
المعلوم بالاجمال منطبقا على المعلوم بالتفصيل بتمامه، ولا يمكن أن يشار إليه بأنه
هو معلومه الاجمالي، وهو ما تقدم من العلم الاجمالي بكذب أحد الدليلين من
جهة امتناع اجتماع الضدين أو النقيضين.
وثانيا: ان انطباق المعلوم بالاجمال على الخارج المعلوم بالتفصيل خلف
مناف للبديهة، فان الصورة الاجمالية لا تنطبق على الصورة التفصيلية، وإلا
لكان العلم تفصيليا، وهو خلف.
نعم، تصح الإشارة إليه باعتبار ان الصورة الاجمالية تتقوم بالشخص
والوجود، وهو ثابت لا يزول حتى بتغير الأوصاف والاعراض، فيصح ان يقال:
ان هذا ذاك، لكن لا ينطبق عليه بتمام خصوصياته كما هو ظاهر كلامه.
الثالث: ان ما أفيد من أن العلم الاجمالي عبارة عن العلم بالجامع،

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 47 و 299 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
55

كطبيعي النجاسة مع الشك في الخصوصية يتنافى مع الوجدان والبرهان.
أما الوجدان: فلانا ندرك من أنفسنا أن هناك أمرا زائدا على هذا المقدار
من العلم بأصل الجامع، وهو عدم سعة الجامع وشموله لأكثر من الطرفين وحصر
تحققه فيهما.
وأما البرهان: فلان العلم التصديقي هو عبارة عن العلم بثبوت شئ
لشئ لا مجرد تصور الشئ فهو انما يتعلق بالنسبة بين الشيئين، مع أن العلم
الاجمالي انما يكون ذا أثر إذا ارتبط الحكم بشئ، اما مجرد العلم بالجامع فلا أثر
له ما لم يرتبط بالخارج.
ومن هنا قد يلتزم بان معروض الجامع هو عنوان: " أحدهما "، فهو يعلم
إجمالا بنجاسة أحد الإناءين. فلا يخرج عن الطرفين، كما أنه علم بالنسبة وثبوت
شئ لشئ.
ولكن الالتزام بان متعلق العلم هو عنوان أحدهما يتوجه عليه: ان المراد
بأحدهما، هل هو أحدهما المعين أم المردد. والأول خلف. والثاني محل منع على
الفرض وكر على ما فر منه. مع أن القائل يحاول أن لا يلتزم بتعلق العلم
بأحدهما، فان المحقق الأصفهاني سلك مسلكه الخاص فرارا عن ذلك كما لا
يخفى وإلا لصرح به في كلامه.
وكأن المحقق الأصفهاني (قدس سره) تنبه إلى هذا الايراد الثالث،
فذكر: ان العلم الاجمالي عبارة عن علم بالجامع وعلم آخر بأن طرفه لا يخرج
عن الطرفين، فيندفع به الايراد (1).
ولكن يتوجه عليه:
أولا: ان العلم بانحصار الجامع بين الفردين يتعلق بأمر وجودي بحسب

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 242 - الطبعة الأولى.
56

مراجعة الوجدان، ولازمه الامر العدمي الذي أشار إليه (قدس سره)، فان العالم
يرى في نفسه انه يعلم بشئ ثابت بين الإناءين.
وثانيا: ان الأثر العقلي من التنجيز انما يترتب على تعلق العلم بالأمر
الوجودي، وهو ثبوت النجاسة بين الطرفين. أما العلم بان النجاسة ليست في
غير الطرفين، فليس له أثر عقلي بلحاظ نفس الطرفين.
هذا ولكن يمكن ان يدفع الايراد الثالث بالالتزام بتعلق العلم بعنوان
أحدهما. واما الايراد عليه: بان المراد من أحدهما ان كان هو المعين فهو خلف
وإن كان المردد فهو محل منع على الفرض.
فيندفع: بان الذي يلتزم به تعلق العلم بمفهوم أحدهما بلا ملاحظة
المصداق الخارجي، والترديد المزبور بين المعين والمردد انما يتأتى في مصداق الجامع
لا نفس المفهوم كما لا يخفى.
ويتلخص من ذلك أنه لا مانع ثبوتا من تعلق العلم بالجامع الانتزاعي
وهو عنوان أحدهما، بل لذلك شواهد عرفية كثيرة، فإنه كثيرا ما يتعلق العلم
بالشئ بتوسط عنوان كلي يشير إليه.
بيان ذلك: ان العلم..
تارة: يتعلق بالشئ بمميزاته عن طريق الحس، كما إذا رأى زيدا يدخل
الدار فيعلم تفصيلا أنه فيها.
وأخرى: يتعلق به بمميزاته عن طريق العناوين الكلية التي يوجب
انضمام بعضها إلى بعض تميز المصداق لانحصاره بالفرد، فيعلم به تفصيلا، كما إذا
قال القائل: " دخل الدار ابن زيد الطويل المعمم الأبيض " وكانت هذه العناوين
المنضم بعضها إلى بعض ذات مصداق واحد وهو عمرو، مع أنها جميعها عناوين
كلية.
وثالثة: ان يعلم به بعنوان عام ولكنه مردد الانطباق بين فردين، كما إذا
57

قال: " دخل الدار ابن زيد الطويل " وكان مرددا بين بكر وعمرو، فان ما علمه
هو العنوان الكلي المردد الانطباق على شخصين، فيصير العلم إجماليا، وهذه
الصورة هي محل الشاهد فيما نحن فيه.
والذي تحصل لدينا - لحد الآن - هو امكان تعلق العلم بالفرد المردد -
بالنحو الذي صورناه - وتعلقه بالجامع الانتزاعي، وانه لا محذور في كل منهما.
والذي نلتزم به خارجا: ان العلم الاجمالي له صور ثلاث:
الأولى: ان تكون الصورة الحاصلة في الذهن لمتعلق الحكم صورة
شخصية مماثلة للوجود الخارجي، لكنها مرددة بين كونها هذا الفرد أو ذاك،
فيحصل لديه العلم بثبوت الحكم لتلك الصورة المرددة بين شخصين، كما إذا رأى
شخصا يدخل الدار مرددا بين كونه زيدا أو أخاه لعدم رؤيته المائز بينهما، فإنه
يعلم بدخول ذلك الوجود الذي انطبعت صورته في ذهنه من طريق الرؤية، وبما أنه
متردد بين شخصين يكون العلم إجماليا.
الثانية: ان يتعلق العلم بالجامع، ولكن يكون للجامع ارتباط ومساس
بواقع خارجي متعين في نفسه، بحيث يصح ان يشار إليه إذا علم تفصيلا
بمعروض الحكم، فيقول هذا هو معلومي بالاجمال فالصورة الحاصلة في الذهن
صورة كلية لكن لها مطابق في الخارج واقعي متعين في نفسه، كما لو علم اجمالا
بنجاسة أحد الإناءين لوقوع قطرة البول في أحدهما، فان المعلوم بالاجمال هو
نجاسة ما وقع فيه قطرة البول. ولا يخفى ان هذا العنوان وهو: " أحدهما الذي
وقع فيه قطرة البول " عنوان كلي، لكن مطابقه في الخارج شخصي لا يتعدد، الا
انه مردد بين فردين، فإذا حصل العلم التفصيلي بما وقع فيه قطرة البول صح
أن يقول: هذا هو معلومي بالاجمال. وبعبارة أخرى: يكون الجامع ملحوظا
طريقا إلى الخارج وعنوانا مشيرا إليه.
الثالثة: ان يتعلق العلم بالجامع بلا أن يكون للجامع ارتباط ومساس
58

بالخارج أصلا كما إذا تعلق العلم بكذب أحد الدليلين لامتناع اجتماع الضدين،
فإنه لا يعلم سوى كذب أحدهما لا أكثر بلا إضافة أي شئ لهذا العنوان مما
يوجب ربطه بأحد الطرفين واقعا، وهذا العنوان وحده - وهو عنوان أحدهما - لا
يرتبط بواحد منهما على التعيين في الواقع، بل نسبته إلى كل من الطرفين على
حد سواء، ولأجل ذلك لو علم تفصيلا بكذب أحدهما لا يستطيع أن يقول: ان
هذا هو معلومي بالاجمال.
وأثر هذه الصورة قد يختلف عن أثر الصورتين الأولتين اللتين يجمعهما
وجود واقع معين للمعلوم بالاجمال يرتبط به ويحمل عليه.
وبالجملة: المعلوم بالاجمال في الصورة الثالثة لا يمكن تعلق العلم
التفصيلي به وتميزه، لان المعلوم بالاجمال، وهو مجرد عنوان أحدهما، لا واقع له
معين كي يقبل العلم التفصيلي. بخلافه في الصورتين الاخرتين، فإنه قابل لتعلق
العلم التفصيلي، لأنه مما له واقع معين قابل لان ينكشف بالتفصيل، لأنه أمر زائد
على عنوان أحدهما كما لا يخفى، إذ هو أحدهما الخاص كأحدهما الذي وقعت
فيه قطرة البول، ونحوه.
ولعله هو مراد العراقي فيما تقدم حكايته عنه من انطباق المعلوم بالاجمال
على المعلوم بالتفصيل بتمامه. فيريد مجرد صحة حمل المعلوم بالاجمال على المعلوم
بالتفصيل، لا أنه ينطبق عليه بخصوصياته، كي يلزم الكل في قبال الكلي، فإنه
لا يحمل على الفرد على أنه عينه، بل بما أنه فرده. فالتفت.
ولا يخفى عليك ان الغالب في صور العلم الاجمالي هو تعلقه بالجامع مع
ارتباطه بالخارج ومساسه به. ويمكن ارجاع الصورة الأولى إلى الصورة الثانية
بالدقة والتأمل. فيكون للعلم الاجمالي صورتان يجمعهما تعلقه بالجامع، لكنه في
إحداهما مما له ارتباط بواقع خارجي معين، وفي الأخرى لا ارتباط له بالخارج
أصلا. والغالب هو الصورة الأولى.
59

وعليه، فما التزمنا به فيها هو حد وسط بين تعلق العلم بالفرد المردد، لأنه
لم يتعلق بالأمر الشخصي، بل بعنوان كلي، وبين تعلقه بالجامع الانتزاعي، لأنه
لم يتعلق بصرف الجامع بلا ربط له بالخارج، بل تعلق بالجامع المرتبط بالخارج
الساري إليه.
بل لنا أن نقول: إنه متعلق بالجامع بملاحظة المعلوم بالذات، وهو الصورة
الحاصلة في الذهن ومتعلق بالفرد المردد، باعتبار أن مطابق الصورة الكلية فرد
واحد خارجي معين في الواقع مردد لدى العالم نفسه، لما عرفت من سراية الجامع
المعلوم إلى الخارج وارتباطه به.
ولا يخفى ان ما التزمنا به من تعلق العلم الاجمالي بالجامع المرتبط بالخارج
الساري إليه، يختلف من حيث الأثر مع الالتزام بان العلم الاجمالي متعلق
بصرف الجامع بلا سراية إلى الخارج، كما سيظهر في البحث عن الجهات
الأخرى.
وأما ما أفاده العراقي (قدس سره): من أن العلم الاجمالي متعلق
بالصورة الاجمالية المعبر عنها بأحد الامرين، والعلم التفصيلي متعلق بعنوان
تفصيلي للشئ حاك عن شراشر وجوده، فيكون الفرق بينهما من حيث المعلوم
لا من حيث العلم...
فقد يورد عليه: بان المراد بالاجمال في قبال التفصيل..
ان كان هو الاجمال في باب الحدود الراجع إلى ملاحظة المركب من
الاجزاء المتعددة شيئا واحدا بنحو الاجمال، كملاحظة الدار أمرا واحدا مع أنها
في الواقع أمور متعددة. ففيه: ان هذا لا يقابل العلم التفصيلي، فان كثيرا من
موارد العلم التفصيلي يكون المعلوم بالتفصيل الذي لا ترديد فيه ملحوظا إجمالا
بهذا المعنى.
وان كان هو الاجمال بمعنى الابهام الذي يذكر في باب الصحيح والأعم
60

في مقام بيان الجامع وأنه أمر مبهم قابل للانطباق على الزائد والناقص كما تقدم
ذكره. ففيه: انه لا ينطبق على المعلوم بالاجمال بتمامه لابهامه.
لكن الانصاف: انه يمكن أن يكون مراده ما ذكرناه من تعلق العلم
بعنوان جامع مرتبط بالخارج المعين واقعا المردد بين فردين، بحيث ينطبق على
المعلوم بالتفصيل لو تحقق العلم التفصيلي، فلا إشكال عليه، فراجع كلامه تعرف
حقيقة مرامه. هذا تمام الكلام في تحقيق العلم الاجمالي وكيفية تعلقه بالجامع.
الجهة الثانية: في شمول أدلة الأصول لأطراف العلم الاجمالي.
وقد تقدمت الإشارة إلى أهمية البحث في ذلك لمثل صاحب الكفاية
الذي يرى قصور فعلية الواقع مع جريان الأصل في مورده، فان ثبت شمول
دليل الأصل لأطراف العلم الاجمالي منع عن تنجيز العلم لقصور المعلوم، فلا
يكون العلم متعلقا بحكم فعلي كي يتحقق التنجز. كما أنه ان ثبت عدم شمول
الدليل لأطراف العلم لم يكن الحكم المعلوم قاصر الفعلية، لان مقتضى دليله
كونه فعليا بحصول موضوعه لعدم دخل شئ في فعليته غيره.
ثم إنه بعد تحقيق هذه الجهة والالتزام بشمول الأصول لأطراف العلم
الاجمالي، يقع البحث عن أن العلم هل يصلح مانعا من جريانها أو لا يصلح؟.
ومرجعه إلى البحث عن منجزية العلم الاجمالي وعدمها.
فالبحث في هذه الجهة عن شمول الأصول لأطراف العلم الاجمالي مع
قطع النظر عن منجزية العلم الاجمالي.
وتحقيق الكلام في هذه الجهة ان يقال: ان الاحتمالات في المقام ثلاثة:
الأول: عدم شمول أدلة الأصول مطلقا لأطراف العلم الاجمالي.
الثاني: شمول أدلة الأصول مطلقا.
الثالث: التفصيل بين الأصول التنزيلية كالاستصحاب وغيرها، فلا
تجري الأولى في أطراف العلم الاجمالي، وتجري الثانية. وهو مختار المحقق
61

النائيني (1).
أما الاحتمال الأول: فالوجه فيه هو ما أفاده الشيخ (رحمه الله) في باب
الاستصحاب في روايات الاستصحاب (2). وأشار إليه في مبحث البراءة في
روايات البراءة (3) من: ان دليل الأصل مذيل بما ينافي مفاده عند حصول العلم
الأعم من التفصيلي والاجمالي، فيتحقق التهافت بين الصدر والذيل فيتساقطان.
بيان ذلك: ان قوله - في روايات الاستصحاب -: " لا تنقض اليقين بالشك "
يشمل كل طرف من أطراف العلم الاجمالي في حد نفسه، لان الحكم فيه مشكوك
الارتفاع، فمقتضى هذه الفقرة هو حرمة النقض ووجوب البقاء على طبق الحالة
السابقة في كل من الطرفين. إلا أنه مذيل بقوله: " ولكن تنقضه بيقين آخر "، وهو
يقتضي وجوب النقض بالنسبة إلى أحد الطرفين المعلوم بالاجمال لشمول اليقين
الاخر للعلم الاجمالي.
ومن الواضح انه لا يمكن الجمع بين حرمة النقض في كل منهما ووجوب
النقض في أحدهما، ولذلك يتحقق التهافت بين الصدر والذيل في مورد العلم
الاجمالي.
وقد نوقش هذا البيان في محله بوجهين:
أحدهما: ان المنصرف إليه اليقين في الذيل هو اليقين التفصيلي، وانه هو
من سنخ اليقين بالحدوث الذي يراد منه اليقين التفصيلي قطعا، فلا يشمل المذيل
مورد العلم الاجمالي.
وثانيهما: انه لو فرض شمول الصدر والذيل لمورد العلم الاجمالي، فغاية
ما يتحقق هو سقوط النص المشتمل على الذيل عن الاعتبار للتهافت، فيرجع

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 78 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى - فرائد الأصول / 429 - الطبعة الأولى.
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 241 - الطبعة الأولى.
62

إلى نصوص الاستصحاب الخالية عن الذيل الشاملة باطلاقها أطراف العلم
الاجمالي.
وتحقيق الكلام: ان البحث في قوله: " ولكن تنقضه بيقين آخر " من جهتين:
الأولى: ان المراد من اليقين هل هو كل يقين ولو لم يتعلق بما تعلق به
اليقين الأول، لكن بشرط أن يكون قابلا لنقض اليقين السابق. أو خصوص
اليقين المتعلق بما تعلق به اليقين السابق؟.
وعلى الثاني: فهل يراد به اليقين الذي تعلق بما تعلق به اليقين السابق
بخصوصياته ومميزاته، فيختص باليقين التفصيلي، أو يراد الأعم منه ومما تعلق به
بعنوان إجمالي، فيعم اليقين الاجمالي؟.
الظاهر في الترديد الأول هو الثاني، فان الظاهر عرفا وحدة متعلق اليقين
السابق واللاحق الذي يتحقق به النقض، فالمراد اليقين الذي تعلق بما تعلق به
اليقين الأول.
وأما في الترديد الثاني، فالظاهر هو الثاني، إذ لا قرينة على لزوم تعلقه بما
تعلق به أولا بخصوصياته مع اطلاق لفظ اليقين الشامل لليقين التفصيلي واليقين
الاجمالي، فالظاهر هو وحدة المتعلق ذاتا ولو بعنوان آخر.
وعليه، نقول: ان العلم الاجمالي إذا التزم بأنه يتعلق بالجامع الانتزاعي
بلا سراية إلى الخارج ومن دون تعد إليه، لم يكن قوله " ولكن تنقضه بيقين آخر "
شاملا لمورد العلم الاجمالي، لعدم وحدة متعلق اليقين التفصيلي السابق واليقين
اللاحق، إذ اليقين السابق تعلق بكل واحد من الطرفين بخصوصيته، ومتعلق
اليقين اللاحق هو الجامع، وليس لدينا يقين سابق بالجامع الانتزاعي، فاليقين
الاجمالي بالجامع لم يسبق بيقين.
وإن التزم بأنه يتعلق بالجامع مع سرايته إلى الخارج، وان مطابقه هو الفرد
الواقعي المتعين في نفسه الذي يشار إليه بالجامع المنطبق عليه، كان الذيل شاملا
63

لمورد العلم الاجمالي، لان أحد الفردين معلوم الانتقاض حينئذ، فيكون العلم
اللاحق متعلقا بما تعلق به العلم السابق. وهذه إحدى ثمرات الخلاف في تعلق
العلم الاجمالي بالجامع الصرف بلا سراية إلى الخارج، وتعلقه بالجامع الساري
إلى الخارج والمشار به إليه.
الثانية: ان قوله: " ولكن تنقضه بيقين آخر " هل يتكفل حكما شرعيا
تأسيسيا بوجوب رفع اليد عن الحالة السابقة، أو انه حكم ارشادي إلى ما يدركه
العقل من لزوم رفع اليد عن الحالة السابقة، عند حصول اليقين؟. ولا يخفى ان
الكلام فيما نحن فيه يبتني على استظهار الشق الأول من الكلام، إذ لو كان
القول المزبور في مقام الارشاد إلى ما يراه العقل ويحكم به، فلا يمكننا ان نقول
بشمول اليقين لليقين الاجمالي تمسكا باطلاق اللفظ، بل يبتني على تنقيح النقطة
الثانية من البحث في العلم الاجمالي، وهي البحث عن منجزيته عقلا بحيث يمنع
من جريان الأصل. فلا يكون البحث في هذه الجهة منحازا عن البحث في
منجزية العلم الاجمالي وليس فيه جهة زائدة عليها كما هو المفروض. فانتبه.
إذن فشمول الذيل لمورد العلم الاجمالي الذي يحقق التهافت يبتني..
أولا: على الالتزام بسراية المعلوم بالاجمال إلى الخارج.
وثانيا: على استفادة الحكم الشرعي التأسيسي من الذيل.
ثم إن هنا جهة ثالثة ينبغي التنبيه عليها، وهي ان أساس دعوى التهافت
على كون المستفاد من دليل الأصل هو الحكم الفعلي كالحلية الفعلية المطلقة -
في أدلة الإباحة -، كي تتنافى مع الحرمة المعلومة بالاجمال.
وأما لو كان المستفاد هو اثبات الحلية من جهة، فلا تنافي ولا تصادم بين
الصدر والذيل، إذ لا منافاة بين حلية الشئ من جهة وحرمته من جهة أخرى،
فلا تنافي بين عدم النقض ووجوبه. فهذا أمر ثالث يبتني عليه الالتزام بالتهافت.
وإذا عرفت ما حققناه تعرف الخدشة فيما أفاده المحقق العراقي في مقام
64

نفي شمول الذيل لأطراف العلم الاجمالي:
أولا: من دعوى انصراف اليقين في نصوص الاستصحاب والعلم في
نصوص البراءة إلى العلم التفصيلي، ويشهد له إرداف العلم بقيد: " بعينه " في
بعض النصوص الظاهر في إرادة العلم التفصيلي.
وثانيا: ان كلا من الخصوصيتين غير معلومة لا تفصيلا ولا إجمالا، لتوقف
العلم الاجمالي على الجامع بلا سراية إلى الخارج.
وثالثا: بان المعلوم الحرمة هو العنوان الاجمالي المعبر عنه بأحد الامرين،
ونفي السعة من جهته لا يلازم نفيها من غير تلك الجهة (1).
إذ يرد على الأول: انكار دعوى الانصراف لعدم الشاهد لها سوى القيد
المزبور، وهو قوله: " بعينه "، ولكن عرفت فيما تقدم في أدلة البراءة المناقشة فيه
وانه لا يتنافى مع العلم الاجمالي.
ويرد على الثاني: انه خلاف مبنى دعوى التهافت وما نقحه هو (قدس
سره) من سراية المعلوم بالاجمال إلى الخارج، فإحدى الخصوصيتين معلومة
بالاجمال.
ويرد على الثالث: بأنه خلف الفرض، إذ المفروض ان المستفاد من
الصدر هو الحلية الفعلية بقول مطلق.
وبذلك تعرف ان الصدر والذيل يشملان مورد العلم الاجمالي، فيتحقق
التهافت بالتقريب المتقدم.
هذا، ولكن عرفت أن أساس دعوى التهافت على استظهار كون الذيل
- كقوله: " ولكن تنقضه بيقين آخر "، وكقوله: " فتدعه " في نصوص البراءة - في
مقام بيان حكم شرعي تأسيسي.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 300 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
65

وهو غير مسلم، بل ممنوع، لأنه خلاف الظاهر بعد كون النقض باليقين
امرا مرتكزا فيوجب انصراف الامر إلى الارشادي، مضافا إلى أن المتيقن من
اليقين والعلم هو التفصيلي، وهو - كما حقق في محله - مما لا يقبل جعل الحجية
شرعا اثباتا، كما لا يقبل جعل الحكم المماثل في مورده، فلا معنى لجعل الناقضية
شرعا لليقين الراجع إلى جعل الحجية له، أو جعل الحرمة عند العلم بها الراجع
إلى جعل مثل الحكم عند العلم به، فالذيل والغاية يرجعان إلى بيان تقيد جريان
الأصول عقلا بعدم العلم، لأنه منجز ومانع من جريان الأصل، لا بيان حكم
شرعي، كي يتحقق التهافت بين الحكمين في مورد العلم الاجمالي.
وعليه، فالصدر يشمل أطراف العلم الاجمالي في نفسه لتحقق موضوعه
وهو الشك. فلا بد من البحث بعد ذلك في أن العلم الاجمالي بنظر العقل مانع
منه كالعلم التفصيلي أولا؟. فتدبر.
ثم إنه على تقدير الغض عن ذلك والالتزام بشمول الصدر والذيل
لأطراف العلم الاجمالي وتحقق التهافت بينهما وسقوط النص عن الاعتبار، فهل
يصح الرجوع إلى النص الخالي عن الذيل - كما قيل - أو لا؟.
الحق هو التفصيل بين ما كان الذيل قيدا متصلا كقوله: " حتى تعلم انه
حرام فتدعه " في اخبار أصالة الحل، وما إذا كان قيدا منفصلا وجملة مستأنفة وان
كانت في كلام واحد كقوله: " ولكن تنقضه بيقين آخر "، فإنه وإن جاء في رواية
واحدة مع الصدر، لكنه حكم مستقل وليس من القرينة المتصلة، لان: " لكن "
استدراكية.
ففي الأول يصح الرجوع إلى الخالي، إذ الرواية المشتملة على الغاية
تكون مجملة لا يستفاد منها شئ بالنسبة إلى مورد العلم الاجمالي، وهذا لا يضر
بظهور غيرها، فيرجع إلى مثل: " رفع عن أمتي ما لا يعلمون "، لعدم اشتماله على
الغاية الظاهرة في ارتفاع الحكم عند حصولها، كما صرح به بقوله: " فتدعه ".
66

وفي الثاني لا يصح الرجوع إلى الجميع، لان نسبة الذيل إلى الصدر
وسائر النصوص على حد سواء، فيتحقق التهافت بين مدلوله ومدلول جميع
النصوص، فيسقط الجميع عن الاعتبار. فانتبه.
والذي يتلخص مما حققناه: أنه لا مانع اثباتا من شمول أدلة الأصول
جميعها لأطراف العلم الاجمالي، وأساسه كما عرفت على الالتزام بان الحكم
المستفاد من الذيل أو الغاية حكم إرشادي لا تأسيسي.
وأما الاحتمال الثالث: وهو مختار المحقق النائيني، فقد ذكر (قدس سره)
في توجيهه: ان مرجع الأصل التنزيلي إلى إلغاء الشارع الشك وتعبده بان المكلف
محرز للواقع. ومن الواضح منافاة التعبد باحراز الحالة السابقة في كل من
الطرفين مع العلم الاجمالي بانتقاضها في أحدهما، فإنهما لا يجتمعان (1).
ولا يخفى أنه (قدس سره) اكتفى بهذا البيان ونحوه في اثبات مدعاه، مع أن
ما يذكره مجرد دعوى لا تنتهي إلى برهان. ولذا فالرد عليها سهل.
ولأجل ذلك لا حاجة إلى الإطالة في البحث عن ذلك، بل الامر موكول
إلى الوجدان، وهو لا يرى بأسا في التعبد بالاحراز في كلا الطرفين مع العلم
الاجمالي بالخلاف، لان التعبد خفيف المؤنة. فلاحظ.
وننتهي بذلك إلى أن الاحتمال الثاني، وهو الالتزام بشمول أدلة الأصول
مطلقا لأطراف العلم الاجمالي مع قطع النظر عن منجزيته هو المتعين من بين
الاحتمالات الثلاثة المزبورة.
يبقى شئ: وهو ان الشيخ مع التزامه بأن أدلة الاستصحاب لا تشمل
أطراف العلم الاجمالي للزوم المناقضة بين الصدر والذيل، ولذا لم يلتزم بجريان
الاستصحاب في مورد لا يكون جريانه فيه مستلزما للمخالفة العملية، كما لو

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 240 - الطبعة الأولى.
67

علم إجمالا بطهارة أحد الإناءين اللذين تكون حالتهما السابقة هي النجاسة،
فإنه منع من إجراء استصحاب النجاسة في كل منهما للعلم الاجمالي بالخلاف، مع
التزامه بذلك. التزم بجريان الاستصحاب في بعض موارد العلم الاجمالي
بانتقاض الحالة السابقة، كما لو علم اجمالا بأنه توضأ بمائع مردد بين الماء والبول،
فإنه التزم بجريان استصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث، مع أنه يعلم إجمالا
بانتفاض الحالة السابقة لأحدهما (1).
فيساءل الشيخ (رحمه الله): بأنه إن كان المانع من جريان الأصول في
أطراف العلم الاجمالي هو قصور الأدلة عن ذلك فلا وجه لجريانها في هذا المورد.
وان كان المانع هو استلزامها المخالفة العملية، كان اللازم اجراء الاستصحاب
فيما لو علم إجمالا بطهارة أحد الإناءين مع كون الحالة السابقة لهما هي
النجاسة، مع أنه لم يلتزم بذلك، فالتفكيك بين الصورتين غير وجيه.
وهذا الايراد عليه تعرض له الكثير ممن تأخر من الشيخ ولم يستوضح
أحد منهم الجواب عنه.
لكن الشيخ (رحمه الله) في الرسائل - في أواخر الاستصحاب - أشار إلى
جهة الفرق (2).
ومحصل الجواب عن هذا الايراد بملاحظة ما أشار إليه الشيخ هو: ان
المعلوم بالاجمال في هذه الصورة وهو الواحد المردد بين طهارة البدن وبقاء الحدث
ليس بموضوع لاثر شرعي، فلا يكون مشمولا للذيل، وهو وجوب النقض، لأنه
لا يشمل إلا ما كان ذا أثر. وعليه فيبقى الصدر متحكما بلا مزاحم. بخلاف مورد
العلم بطهارة أحد الإناءين، فان طهارة أحدهما المعلومة بالاجمال ذات أثر،
فيصح التعبد بها فيكون الذيل شاملا للمعلوم بالاجمال، فيتحقق التهافت،

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 430 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 430 - الطبعة الأولى.
68

فالتفت والله سبحانه العالم العاصم.
الجهة الثالثة: في منجزية العلم الاجمالي.
وتحقيق الكلام فيها: انه بناء على شمول أدلة الأصول لأطراف العلم
الاجمالي بلا قصور - كما حققناه بضميمة والبناء على قصور فعلية الواقع بجعل
الحكم الظاهري في مورده بحيث لا يكون تام الفعلية، لا وجه للقول بمنجزية
العلم الاجمالي بعد انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في مورده - إما موضوعا أو
موردا - لان جريان الأصل يستلزم قصور المعلوم بالاجمال عن الفعلية التامة،
فلا يكون قابلا للتنجيز، لان الحكم القابل للتنجيز بالعلم هو الحكم الفعلي من
جميع الجهات.
فمثل صاحب الكفاية الذي يلتزم بكلا المبنيين المزبورين لا مجال له
للقول بتنجيز العلم الاجمالي في الموارد المتعارفة أصلا.
وقد مر إيضاح هذا المعنى بنحو مفصل فيما تقدم من مباحث القطع (1) وفي
أول هذه المباحث (2). فراجع.
فالبحث عن منجزية العلم الاجمالي يتفرع على الالتزام بكون الواقع
فعليا في مورده وإن شمله دليل الأصل لعدم استلزام جعل الحكم الظاهري
لقصور فعلية الواقع، لعدم المنافاة بينهما.
ولأجل ذلك أخذ المحقق العراقي (3) والمحقق الأصفهاني (4) في محل
البحث كون الواقع فعليا مفروغا عنه.
وإذا عرفت ذلك فيقع البحث في مقامين:

(1) راجع 4 / 120 من هذا الكتاب.
(2) راجع 5 / 49 من هذا الكتاب.
(3) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 298 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(4) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 31 - الطبعة الأولى.
69

المقام الأول: في منجزية العلم الاجمالي بلحاظ المخالفة القطعية، بمعنى
أنه هل يقتضي حرمة المخالفة القطعية أو لا؟.
وكلمات الاعلام لا تخلو من إطالة، ولكنها إطالة خارجة عن محور البحث
الأساسي ولعله لاجل عدم اقتضاء محور البحث لكثير من التطويل، فالتجأوا
إلى إضافة ما لا مساس له في المقام.
والتحقيق: انه مع عدم ورود ترخيص من المولى في ارتكاب جميع
الأطراف، لا إشكال في كون العلم منجزا، فيحكم العقل باستحقاق العقاب على
المخالفة القطعية لاجل العلم الاجمالي، وليس الحال فيه كالحال في الجهل البدوي
الذي يحكم العقل فيه بعدم استحقاق العقاب، وإن نسب ذلك إلى بعض. لكنه
خلاف البديهية والوجدان.
إنما الاشكال في منجزية العلم مع ورود الترخيص من المولى في المخالفة،
فان ثبت حكم العقل باستحقاق العقاب عند العلم الاجمالي ولو مع ترخيص
المولى، كان ترخيص المولى ممتنعا عقلا لمنافاته لحكم العقل بالقبح. وإن لم يثبت
حكمه بالمنجزية بقول مطلق حتى مع الترخيص، لم يكن مانع من ترخيص
المولى لعدم منافاته لحكم عقلي قطعي.
ومرجع ذلك إلى الاشكال في أن حكم العقل بمنجزية العلم تنجيزي،
فيتنافى مع ترخيص الشارع ويمنع من تحققه، لأنه ترخيص في ما يحكم العقل
بقبحه. أو انه تعليقي معلق على عدم ورود ترخيص الشارع، فلا يتنافى مع
الترخيص.
فالمهم تحقيق هذه الجهة. وقد ذهب المحقق العراقي إلى أنه تنجيزي،
مستدلا عليه بالارتكاز وتحكيم الوجدان (2). ولكن قابل للتشكيك عندنا ولم يثبت

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 306 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
70

لدينا بنحو جزمي، لعدم وجود شاهد عقلائي خارجا كي نميز به صحة ذلك من
سقمه فمن جزم به فهو في راحة وإلا فلا برهان عليه.
وقد يمنع الترخيص في أطراف العلم الاجمالي وتثبت منجزية العلم
الاجمالي بطريق آخر غير هذا الطريق الراجع إلى منافاة الترخيص، لحكم
العقل بالمنجزية وقبح المخالفة.
وذلك بأن يقال: إنه إذا فرض كون الحكم الواقعي فعليا تام الفعلية، كان
الحكم الظاهري منافيا له، فعدم جريان الأصل ليس لاجل مناقضته مع مقتضى
العلم، بل لاجل مناقضته مع نفس التكليف الواقعي المعلوم في مقام الداعوية
الفعلية، لان الحكم الواقعي الفعلي يدعو فعلا بنحو الالزام إلى اتيان متعلقه،
والحكم الترخيصي يطلق العنان للمكلف، فيتحقق التنافي في مقام الداعوية.
وبالجملة: انما لم يلتزم بالتنافي بين الحكم الظاهري والواقعي بلحاظ عدم
الداعوية الفعلية للحكم الواقعي مع الجهل والتضاد بين الاحكام انما هو في هذه
المرحلة، وهذا غير ثابت فيما نحن فيه، لان الحكم الفعلي مع العلم به إجمالا
يكون ذا داعوية فعلية، فيضاد الحكم الظاهري على خلافه.
وهذا الطريق غير موصل. وذلك: لأنه قد تقدم - في مبحث الجمع بين
الحكم الواقعي والظاهري - بيان عدم التنافي بين الحكم الظاهري والحكم
الواقعي الفعلي - لو أمكن تحققه - في مقام الداعوية والامتثال.
ومحصل الوجه في ذلك، هو أن الداعوية الفعلية الالزامية للتكليف إنما
تنشأ بلحاظ ما يترتب على مخالفته من أثر سئ وهو العقاب، فمع الترخيص
والتأمين من العقاب بمقتضى الحكم الظاهري، فلا تتحقق الداعوية الفعلية
للحكم الواقعي، وإن كان يبقى فعليا بمعنى أنه يمكن أن يكون داعيا - كما
بيناه سابقا -. إذن فلا تنافي بين الحكمين بعد ورود الترخيص من الشارع، فهذا
71

الوجه لا يصلح وجها مستقلا قبال الوجه السابق، بل انما يتم بناء على عدم
امكان الترخيص لتتحقق الداعوية الفعلية. فلا بد من نقل الكلام إلى امكان
الترخيص من الجهة السابقة وامتناعه.
ويتحصل: انه لا دليل لدينا على منجزية العلم الاجمالي بنحو يتنافى مع
جعل الأصول في أطرافه، فيكون محذور ثبوتيا في إجراء الأصول.
هذا كله على المسلك المشهور الذي يذهب إلى ثبوت حكم العقل
بالعقاب والمنجزية في باب العلم التفصيلي، وبتبعه العلم الاجمالي على الخلاف
السابق.
أما بناء على ما تقدم منا في مباحث القطع والبراءة من: انه لا مسرح
للعقل في باب العقاب والثواب الأخرويين، لارتباطه بعالم لا يدرك العقل ملاكاته
وخصائصه، كما تقدم توضيحه، فدعوى ثبوت حكم العقل بمنجزية العلم
الاجمالي واضح الفساد، بل العقاب لا بد وان يلاحظ فيه جعل الشارع نفسه،
لأنه بيده يجعله كيف يشاء.
وحينئذ نقول: إن ظاهر بعض الآيات الكريمة ترتيب العقاب على نفس
مخالفة التكليف، لكنه يمكن دعوى اختصاص العقاب شرعا بمورد قيام البيان
العرفي على التكليف الذي خالفه لا مطلق التكليف، إما لدعوى انصراف تلك
الآيات المطلقة إلى صورة قيام الحجة والبيان، أو بملاحظة ما ورد من الآيات
الظاهرة في عدم العقاب مع عدم البيان وثبوته معه، كقوله تعالى: (وما كنا
معذبين حتى نبعث رسولا) (1). وبما أن العلم الاجمالي بيان عرفا للتكليف
بحيث يصح للمولى الاعتماد عليه، كان مقتضى تلك الآيات ثبوت العقاب في
مورده، ومعه لا يصح الترخيص ونفي العقاب من الشارع بمقتضى أدلة الأصول

(1) سورة الإسراء: الآية 15.
72

في المخالفة في مورده، لأنه مناف لحكمه بثبوت العقاب فيه بمقتضى الآية.
فالالتزام بمنجزية العلم الاجمالي من باب استلزام الترخيص مناقضة
الشارع لنفسه.
وتوهم: ان أدلة الأصول مخصصة لحكم الشارع بثبوت العقاب مع البيان
بصورة وجود العلم التفصيلي، وحكم الشارع يقبل التخصيص.
فاسد: لان نسبة أدلة الأصول إلى مثل قوله تعالى: (وما كنا معذبين
حتى نبعث رسولا) نسبة العموم من وجه لا نسبة الخاص إلى العام، لشمول
دليل الأصل موارد عدم العلم بالمرة، وشمول الآية موارد العلم التفصيلي، فلا بد من
تقديم الآية، لان الرواية لا تنهض لمعارضة الآية، لاندراجها فيما خالف
الكتاب، فلا بد من طرحها. فلاحظ.
فالخلاصة: انه لم تثبت منجزية العلم الاجمالي بحكم العقل، لا على
المسلك المشهور ولا على مسلكنا، وانما المنجزية ثابتة بلحاظ حكم الشارع
نفسه. هذا تمام الكلام في المقام الأول.
وأما المقام الثاني: فالبحث فيه في استلزام العلم الاجمالي لوجوب
الموافقة القطعية بعد الفراغ عن استلزامه لحرمة المخالفة القطعية بنحو العلية
التامة.
ومحور البحث هو: أنه هل يصح للمولى الترخيص في بعض الأطراف أو
انه لا يصح له ذلك؟.
فعلى الثاني يكون العلم الاجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية.
وعلى الأول: يكون مؤثرا في وجوب الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء الذي
لا ينافيه وجود المانع، وهو الترخيص في أحد الأطراف.
وقد نسب البعض إلى الشيخ أنه يرى تأثير العلم الاجمالي في الموافقة
73

القطعية بنحو الاقتضاء (1). ونسب إليه بعض آخر القول بالعلية التامة (2).
واستشهد كل منهم على نسبته ببعض كلمات الشيخ (3). وشاهد كل منهما ظاهر في
ما ينسبه إليه، ولأجل ذلك يمكن نسبة التهافت إلى الشيخ في كلامه في المقام
والأمر سهل. وكيف كان فقد اختلف الاعلام في ذلك فمنهم من ذهب إلى القول
بالعلية التامة، كالمحقق العراقي (4) والمحقق الأصفهاني (5). ومنهم من ذهب إلى
القول بالاقتضاء كالمحقق النائيني (6) وتبعه غيره (7).
ولا بد قبل الخوض في تحقيق المطلب من التنبيه على أمرين:
الامر الأول: في ثمرة القولين العملية، وهي تظهر في موردين:
أحدهما: ما إذا كانت في أحد الطرفين متعددة طولية، كاستصحاب
عدم الحرمة والبراءة، وكان في الطرف الاخر أصل واحد كالبراءة.
وقلنا: بعدم معارضة مجموع الأصول الطولية في أحد الطرفين للأصل في
الطرف الاخر، بل المعارضة بين الأصل السابق رتبة وبين الأصل الواحد في
الطرف الاخر، فإنه إذا تعارض الاستصحاب في أحد الطرفين والبراءة في الطرف
الاخر تساقطا، فيبقى أصل البراءة في الطرف الذي كان فيه الاستصحاب بلا
معارض، فان قلنا بامكان الترخيص في أحد الأطراف في مورد العلم الاجمالي

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 36 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 310 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 35 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 310 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(4) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 307 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(5) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 32 - الطبعة الأولى.
(6) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 247 - الطبعة الأولى.
(7) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية 3 / 218 الطبعة الأولى.
74

وان سقوط الأصول جميعا في الأطراف لاجل المعارضة، أمكن اجراء أصالة
البراءة في ذلك الطرف لعدم وجود ما يعارضه. وان قلنا بالعلية التامة وعدم امكان
الترخيص في بعض الأطراف، لم يمكن اجراء أصالة البراءة في ذلك الطرف ولو
لم يكن له معارض، لعدم كون سقوط الأصول بالمعارضة، بل لاجل العلم
الاجمالي.
والاخر: أنه بناء على أن العلم الاجمالي لا يمنع من الترخيص في بعض
الأطراف، والمفروض شمول أدلة الأصول لكلا الطرفين، فيتحقق التعارض،
وحينئذ يقع البحث في أن القاعدة في تعارض الأصول هل تقتضي تساقطهما أو
التخيير بينهما؟.
وهذا مما لا مجال له بناء على القول بالعلية التامة، وامتناع الترخيص في
بعض الأطراف. كما لا يخفى.
الامر الثاني: ان الالتزام بالعلية التامة يصاحبه الالتزام بأمرين لا يرى
فيه منافاة للعلية التامة:
أحدهما: الالتزام بالانحلال في مورد العلم التفصيلي بالحكم في أحد
الطرفين، أو قيام إمارة أو أصل شرعي على التكليف في أحدهما، أو قيام أصل
عقلي موجب لانشغال الذمة بأحد الطرفين، وكونه في العهدة كقاعدة الاشتغال.
والاخر: الالتزام بجعل البدل في مقام الامتثال، بمعنى أنه يصح ان يكتفي
الشارع في مقام الخروج عن العهدة بأحد الطرفين بجعله بدلا عن الواقع.
فإنه سيظهر فيما بعد: ان الالتزام بالانحلال في موارده وجعل البدل ليس
فيه منافاة للالتزام بمنجزية العلم الاجمالي، لوجوب الموافقة القطعية وكونه علة
تامة بالنسبة إليها، إذ الانحلال يرجع إلى رفع أثر العلم الاجمالي بالمرة حتى
بالنسبة إلى المخالفة القطعية.
وجعل البدل فرع الالتزام بتنجز الواقع، ولذا يثبت في موارد العلم
75

التفصيلي بالتكليف الذي لا شبهة في كونه علة تامة للموافقة القطعية، كموارد
جعل قاعدة الفراغ.
ومن هنا يظهر الاشكال فيما جاء في الدراسات في مقام اثبات ان العلم
الاجمالي مقتض لوجوب الموافقة القطعية لا علة تامة.
فإنه ذكر: أن المحقق صاحب الكفاية وبعض الأساطين من تلامذته ذهبا
إلى استحالة الترخيص الظاهري في بعض الأطراف. وما ذكر في وجه الاستحالة
أمران:
أحدهما: ما جاء في الكفاية من أن الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال إذا
كان فعليا تام الفعلية، فكما يمتنع جعل الحكم الظاهري على خلافه في كلا
الطرفين لأنه يستلزم القطع بالمتضادين، كذلك يمتنع جعل الحكم الظاهري في
أحدهما، لان احتمال المتضادين محال كالقطع بهما.
وقد ذكر في مقام توضيح ذلك ما تقدم نقله عن الكفاية من: ان الحكم
الواقعي إذا كان قاصر الفعلية ولو لاجل الجهل به، أمكن جعل الحكم الظاهري
على خلافه في جميع الأطراف فضلا عن بعضها.
والاخر: ما ذكره بعض الأساطين من أن الحكم الواقعي بعد تعلق العلم
به ووصوله إلى المكلف وتنجزه عليه، كما يمتنع جعل الترخيص على خلافه قطعا،
كذلك يمتنع جعل الترخيص على خلافه احتمالا.
وقد تصدى للايراد على صاحب الكفاية بما يرجع إلى انكار قصور فعلية
الواقع مع حصول موضوعه، وتوقف فعليته على العلم التفصيلي، لكونه موضوعا
له، خلف الفرض.
وبالجملة: ركز مناقشته الطويلة على انكار فرض عدم كون الواقع فعليا
تام الفعلية وتعليق فعليته على عدم الجهل به.
كما تصدى لمناقشة الوجه الثاني..
76

بالنقض بموارد قيام الأصل الشرعي المثبت في بعض الأطراف، أو موارد
قيام قاعدة الاشتغال في بعضها. وبموارد الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في مورد
العلم التفصيلي، كمورد قاعدة الفراغ والتجاوز.
وبالحل بان موضوع الأصول هو الشك والتكليف في كل طرف مشكوك،
لان احتمال انطباق ذات المعلوم بالاجمال على كل طرف عين الشك فيه، واحتمال
انطباق المعلوم بالاجمال بوصف المعلومية محال، إذ لا معنى لاحتمال العلم في
مورد، لأنه صفة وجدانية لا تقبل الشك. فراجع كلامه الذي لخصناه جدا (1).
وأنت خبير: بأنه لا مجال للنقض بالموارد المذكورة، لأنها ما بين موارد
الانحلال وموارد جعل البدل، وقد عرفت في الامر الثاني ان محل البحث في
غيرها، وقد تنبه لذلك المحقق العراقي (2)، فتعرض لدفع النقض بموارد
الانحلال وموارد جعل البدل بما تقدم منا في الامر الثاني.
وأما الاشكال الحلي الذي ذكره على الوجه الثاني..
فيندفع: بان المانع من جريان الأصل هو احتمال انطباق ذات المعلوم
بالاجمال، ولكن يوصف تنجزه الثابت بالعلم الاجمالي على جميع المباني في حقيقة
العلم الاجمالي ومتعلقه، من تعلقه بالجامع أو بالفرد المردد أو بالجامع بما هو مشير
إلى الخارج، والترخيص في محتمل المخالفة المنجزة قبيح. فما أفاده لا يخلو عن
غفلة أو إغفال للنكتة التي يلحظها القائل، فلا بد من البحث معه في مرامه لا
في شئ آخر لا يريده ولا نظر له إليه.
وأما ايراده على صاحب الكفاية، فهو أجنبي بالمرة عن محل البحث، وهو
أن الترخيص في أحد الطرفين مع العلم بالتكليف الفعلي يستلزم احتمال
الضدين، وهو محال كالقطع بهما كما لا يخفى جدا.

(1) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية 3 / 222 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 311 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
77

وبالجملة: فما جاء في الدراسات في تحقيق هذه المسألة المهمة لا يجدي ولا
يغني ولا يسمن من جوع كما عرفت.
وبعد ذلك نوقع البحث في تحقيق أصل المطلب، فنقول وعلى الله الاتكال
ومنه نستمد القوة والعون: ان العلم الاجمالي يصلح لان يكون بيانا - في نظر
العرف والعقلاء - للتكليف المعلوم بالاجمال، بحيث يكون في عهدة المكلف
وثابتا عليه في أي طرف كان، ومعه لا يمكن ان تجري قاعدة قبح العقاب بلا
بيان في أحد الطرفين. إذ المخالفة الناشئة عن ارتكاب أحد الطرفين ليست
مخالفة بدون بيان، فموضوع البراءة العقلية غير متحقق في كل طرف من
أطراف العلم الاجمالي، لقيام البيان على التكليف الواقعي على تقدير ثبوته فيه
واقعا.
وأما البراءة الشرعية، فمن يرى ان روايات البراءة لا تتكفل أكثر من
مفاد البراءة العقلية، فالحال فيها كالحال في العقلية.
ومن يرى أنها تتكفل حكما ظاهريا هو الإباحة في ظرف الشك، ويستتبع
ذلك التأمين من العقاب، لان الترخيص والحلية تتنافى مع العقاب واقعا، فيكون
عدم العقاب من باب بيان العدم لا عدم البيان.
فهل نستطيع أن نقول بامكان جريان البراءة في أحد الأطراف أو لا؟.
الحق أنه لا مانع عقلا من الترخيص في بعض الأطراف وتأمين الشارع من
العقاب على تقدير كون الواقع فيه، فللمولى أن يقول لعبده: إنني اقتنع منك
بترك بعض الأطراف وأبيح لك الأطراف الأخرى. وفي مثله لا يحكم العقل
بثبوت العقاب على الطرف المرخص فيه على تقدير المصادفة للواقع.
وبالجملة: لا نرى مانعا عقليا في مقام الثبوت من الترخيص في بعض
الأطراف والتأمين من العقاب عليه، ومن هذا الباب جعل البدل، فإنه وان
اصطلح عليه بهذا العنوان، لكنه في واقعه يرجع إلى الترخيص في بعض
78

الأطراف.
لكن الاشكال في مقام الاثبات، فان أدلة الأصول قاصرة إثباتا عن
التأمين عن العقاب المحتمل في كل طرف المسبب عن العلم الاجمالي بالتكليف.
بيان ذلك: ان كل طرف فيه جهتان: إحداهما: انه مشكوك الحرمة واقعا.
والأخرى: انه أحد طرفي العلم الاجمالي المنجز للتكليف الواقعي فيه لو كان،
والمصحح للعقوبة عليه لو فرض انه حرام واقعا.
ومن الواضح ان أدلة الأصول إنما تتكفل جعل الإباحة والحلية في
المشكوك بما أنه مشكوك الحرمة، أما جهة كونه من أطراف العلم الاجمالي فهي
مما لا نظر فيها إليها.
وعليه: فهي بجعل الحلية فعلا إنما تستتبع التأمين من العقاب من جهة
انه مشكوك الحرمة لا أكثر، لأنها هي الجهة الملحوظة في الحلية المجعولة، وأما
التأمين من العقاب من جهة أخرى فلا نظر للدليل إليها.
لا نقول: بان الدليل يتكفل جعل الحلية من جهة الذي أنكرناه سابقا
على المحقق العراقي.
بل الدليل يتكفل جعل الحلية فعلا، لكن موضوع الحلية هو الشك في
الحرمة، وهذا يستتبع الأمان من العقاب - الذي هو لازم الحلية والذي يهمنا فيما
نحن فيه دون نفس الترخيص - من جهة دون جهة، فلا ينفع في رفع منجزية
العلم الاجمالي.
وعلى هذا، فعدم الالتزام بجريان الأصل من باب ان جعل الحلية لا ينفع
في التأمين من ناحية العلم الاجمالي، لأنه غير منظور إليه في موضوع الحلية، بل
ليس الموضوع سوى الشك في الحرمة، لان دليل الأصل يعم موارد العلم
الاجمالي وغيره، فلا يمكن ان نقول إن له نظرا إلى العلم الاجمالي. ولا يخفى ان
الأمان من جهة الشك في الحرمة بما هو شك لا ينافي عدم الأمان من جهة العلم
79

الاجمالي وبيانيته.
نعم، لو ورد دليل على الترخيص في خصوص موارد العلم الاجمالي كان
مؤمنا من العقاب من جهته، فينفع في عدم وجوب الموافقة القطعية. ومن هذا
الباب جميع موارد جعل البدل، فان مرجع جعل البدل إلى ما عرفت من
الترخيص في بعض الأطراف بملاحظة العلم الاجمالي المستلزم للتأمين من
جهته. فالفرق بين ما دل على الترخيص في موارد جعل البدل وبين أدلة
الأصول: ان الأول يتكفل الترخيص بملاحظة جهة العلم الاجمالي. وأما أدلة
الأصول فهي مما لا نظر لها إلى جهة العلم الاجمالي، فلا تنفع في التأمين من
ناحيته. فتدبر والتفت فإنه لا يخلو من دقة، وهو مما تفردنا به حسب ما نعلم.
وأما ما أفاده العلمان المحققان العراقي (1) والأصفهاني (2) في مقام بيان
امتناع الترخيص في بعض الأطراف، فهو لا يخلو من مناقشة.
هذا كله على المسلك المشهور في باب العقاب وأنه بحكم العقل.
وأما على المسلك الذي سلكناه في هذا الباب، وان العقل لا مسرح له في
باب العقاب، وانما هو أمر شرعي بيد الشارع يجعله كيف يشاء، فقد تقدم ان
ظاهر بعض الآيات وان كان ترتب العقاب على نفس المخالفة، لكن يرفع اليد
عنها إما للانصراف أو بملاحظة آيات أخرى، فتحمل على مورد قيام البيان.
وعليه، فلا يمكن ان تجري الأصول في أطراف العلم لا كلا ولا بعضا،
بعد أن عرفت كون العلم بيانا للتكليف عرفا في كل طرف، لمعارضتها لما دل على
ثبوت العقاب عند تحقق البيان من الآيات. والتقديم للآيات.
نعم، لو ورد دليل بالخصوص في مورد البيان يدل على عدم العقاب في
ذلك المورد التزم به، لعدم المانع من تخصيص الآية بالرواية المعتبرة.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 310 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 34 و 244 - الطبعة الأولى.
80

ومن هذا القبيل موارد جعل البدل كما هو واضح لا يحتاج إلى بيان.
هذا كله بناء على الالتزام بان العلم الاجمالي متعلق بالفرد الواقعي المعين
في نفسه المردد لدى العالم. وبعبارة أخرى: كونه متعلقا بالجامع مع سرايته إلى
الخارج وارتباطه به.
وأما لو التزم بان متعلق العلم الاجمالي هو صرف الجامع بلا سراية له إلى
الخارج - كما التزمنا به في بعض الصور، كالعلم الاجمالي بكذب احدى الروايتين
لاجل امتناع اجتماع الضدين، كما تقدمت الإشارة إليه -، فلا وجه للالتزام
بوجوب الموافقة القطعية، وامتناع الترخيص في بعض الأطراف، في ما كان متعلق
العلم مما يقبل التنجيز كما هو محل الكلام، مثل ما إذا تعلق العلم بحرمة أحد
الشيئين، وذلك لان العلم إذا كان مقصورا على الجامع غير الساري إلى الخارج
بحيث تكون نسبته إلى كل طرف على حد سواء بلا ارتباط له واقعا بطرف دون
آخر، كان موجبا لتنجيز الجامع بمقداره لا أكثر، فلا يمتنع الترخيص في بعض
الأطراف، إذ لا يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه كي يمنع ذلك من
الترخيص. بل كان كل طرف محتمل التكليف بلا قيام منجز عليه بخصوصه،
فيكون كسائر موارد الشبهة البدوية.
نعم، لا يصح الترخيص في مجموع الأطراف، لأنه يستلزم الترخيص في
نفس الجامع المفروض تنجزه بالعلم.
وبالجملة: العلم على هذا المبنى يوجب تنجيز مقدار الجامع بين الطرفين
دون خصوصيتيهما، فالترخيص في أحد الطرفين لا ينافي تنجيز الجامع بينهما، كما
هو واضح لا يخفى بأقل تأمل.
وأما ما ذهب إليه صاحب الكفاية في مورد العلم الاجمالي بكذب أحد
الدليلين للتعارض في المدلول، بحجية أحد النصين بمقدار: " أحدهما "، لأنه كما
يعلم اجمالا بكذب أحدهما يعلم إجمالا بكون أحدهما محتمل الإصابة، مع اجتماع
81

شرائط الحجية فيه، فتثبت حجيته بهذا المقدار، لان المعلوم بالاجمال هو عنوان
أحدهما بلا زيادة خصوصية توجب ربطه بأحدهما المعين في الواقع، ورتب على
ذلك أنه لا يثبت بذلك سوى اثر الجامع وهو نفي الثالث (1).
فقد أوضحنا تصويره في مبحث التعادل والتراجيح بما لا مزيد عليه (2).
ولكن أوردنا عليه إيرادات متعددة. ومن جملتها (3): ان دليل الحجية يتكفل اثبات
الحجية لكل فرد بخصوصه من أفراد الخبر، ولا يتكفل بيان حجية: " أحدهما "،
لأنه في حد نفسه ليس فردا من أفراد الخبر.
وعلى كل فنوكل الكلام في ذلك إلى محله.
والذي يتلخص مما بيناه: ان العلم الاجمالي منجز بالنسبة إلى الموافقة
القطعية، ولا مجال لجريان الأصول في كل طرف من أطرافه بنفسه.
ثم إنه لو بني على أن تأثير العلم الاجمالي في الموافقة القطعية بنحو
الاقتضاء لا العلية التامة، بحيث لم يكن مانعا من جريان الأصول في بعض
أطرافه دون بعض - كما عليه المحقق النائيني (رحمه الله) (4) -، فهل يقتضي ذلك
تساقط الأصول في أطرافه، أو التخيير بينها، فيؤخذ بها في بعض الأطراف دون
بعض؟. توضيح ذلك: انه قد عرفت شمول أدلة الأصول لأطراف العلم الاجمالي
مع قطع النظر عن منجزيته، وبعد فرض امتناع الترخيص في المخالفة القطعية
يمتنع إعمال الأصول في جميع الأطراف لاستلزامه الترخيص في المخالفة
القطعية.
وعليه، فيقع التعارض بين الأصول في أطراف العلم الاجمالي، فهل

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 439 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) في البحث عن الأصل الأول في التعارض.
(3) هو ما ذكره السيد الأستاذ دام ظله في هذا المقام.
(4) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 242 - الطبعة الأولى.
82

يقتضي التعارض تساقط الأصول في جميع الأطراف فتجب الموافقة القطعية
حينئذ، أو انه يقتضي التخيير بينها، فلا تجب الموافقة القطعية؟ - وقد أشرنا
سابقا إلى أن هذا البحث يبتني على عدم الالتزام بعلية العلم الاجمالي لوجوب
الموافقة القطعية، وصحة ترخيص الشارع في أحد الأطراف.
وإلا فلا موضوع للبحث عن التساقط والتخيير، لعدم صحة إعمال
الأصل في بعض الأطراف، كي يتحقق التعارض، إذ الأصل في كل طرف لا
يجري بنفسه -.
وقد ذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى: أن مقتضى التعارض هو
التساقط، وذلك لان إعمال الأصل في كلا الطرفين يستلزم الترخيص في المعصية،
وإعماله في أحد الطرفين معينا ترجيح بلا مرجح، وفي أحدهما لا بعينه غير
صحيح، لان الأصول انما تجري في كل طرف بعينه. فيتحقق التساقط (1).
ولكن الذي نختاره في هذه الجهة هو: ان مقتضى التعارض هو التخيير
لا التساقط. وبيان ذلك: أن التخيير ههنا يتصور بنحوين:
النحو الأول: أن يكون مجرى الأصل هو أحد الطرفين لا بعينه، لان
مقتضى المحذور العقلي هو امتناع اجراء الأصل في كلا الطرفين، اما اجراؤه في
أحدهما لا بعينه فلا محذور فيه فيلتزم به.
وهذا الوجه لا يمكن الالتزام به لا من جهة ان الواحد لا بعينه، أو على
البدل لا ثبوت له، بل من جهة قصور مقام الاثبات عن اثبات هذا الوجه.
وذلك فإنه لو التزمنا بصحة جعل الأصل في أحد الطرفين لا بعينه ثبوتا،
فان دليل الأصل انما يتكفل جعله في كل فرد من افراد موارده بنفسه وبخصوصه
لا في كل فرد لا بعينه وعلى البدل، فهو نظير دليل الحجية يتكفل جعلها لكل

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 241 و 243 - الطبعة الأولى.
83

فرد من افراد الخبر بنفسه لا في كل فرد لا بعينه. وليس لأحدهما لا بعينه واقع
غير واقع سائر افراده المعينة بحيث يكون فرد آخر، كي يكون مما شمله
الاطلاق، بل هو عنوان ينتزع عن ملاحظة الافراد بنحو خاص.
وبالجملة: فدليل جعل الأصول والحجية لا يتكفل بلسانه جعل الأصل
والحجية في أحد الطرفين لا بعينه، فيحتاج ذلك إلى دليل خاص وهو مفقود
بحسب الفرض.
ولعل ما ذكرناه هو مراد الشيخ (رحمه الله) مما ذكره من: ان أحدهما لا
بعينه ليس فردا ثالثا كي يكون مشمولا للدليل، فهو يقصد بيان قصور الدليل
عن ذلك في مقام الاثبات، ولا ينظر إلى كون المحذور في مقام الثبوت. فالتفت.
النحو الثاني: ان يلتزم باجراء الأصل في كل طرف مقيدا بترك الاخر،
فيلتزم بإباحة كل طرف عند ترك الاخر واجتنابه. بتقريب: ان المحذور في
الالتزام باجراء الأصلين في كلا الطرفين من جهة اطلاق دليل الأصل في كل
طرف الشامل لحالتي ترك الاخر وفعله، فيلزم من ذلك الترخيص في المخالفة
القطعية. أما مع رفع اليد عن الاطلاق وتقييده بحالة ترك الاخر، فلا تشمل
إباحة كل طرف صورة ارتكاب الطرف الاخر، فلا محذور فيه. فيتعين الالتزام به
تمسكا بدليل الأصل الذي لا يصح رفع اليد عنه إلا بمقدار المحذور العقلي، لان
الضرورات تقدر بقدرها. فان مقتضى دليل الأصل اجراؤه في كل طرف في كلتا
الحالتين - أعني: حالة فعل الاخر وتركه -، ولما لم يمكن الاخذ به في إحدى
الحالتين، وهي حالة فعل الاخر، لا يرفع اليد عنه الا في تلك الحالة فيبقى دليله في
حالة ترك الاخر محكما.
وبالجملة: مقتضى دليل الأصل بضميمة امتناع الترخيص في المعصية
القطعية هو اجراؤه في كل طرف مشروطا بترك الطرف الاخر.
وقد أورد على هذا الوجه إيرادات ثلاثة:
84

الأول: ان مقتضى ذلك هو ثبوت الترخيص الفعلي في كلا الطرفين عند
ترك كليهما لتحقق شرط جريان الأصل في كل منهما، فيلزم الترخيص في ما علم
حرمته بالفعل وهو قبيح.
الثاني: ان الحكم الظاهري لا بد وأن يكون مما يحتمل مطابقته للواقع،
والإباحة المشروطة لا يحتمل مطابقتها للواقع لأننا إذا كنا نعلم بحرمة أحد
الطرفين وبإباحة الاخر واقعا، فالحرمة المعلومة غير مقيدة بترك المباح، كما أن
الإباحة المعلومة بالاجمال غير مقيدة بترك الحرام، بل هي مطلقة غير مشروطة.
الثالث: ان الإباحة الظاهرية انما لا تكون منافية للحرمة الواقعية إذا لم
تصل الحرمة إلى المكلف، أما مع وصولها إليه صغرى وكبرى، فالمنافاة بينهما
متحققة. وذلك لان المنافاة بين الحكمين انما تنشأ من التنافي بين مبدئيهما، وهو
الإرادة والكراهة ونحوهما، أو من التنافي في مقام الامتثال، ومع الجهل بالحكم
الواقعي الموضوع للحكم الظاهري لا تنافي في شئ من ذلك، أما من حيث
المبدأ، فلان الحكم الظاهري انما ينشأ عن مصلحة في نفسه لا من خصوصية في
متعلقه. واما في مقام الامتثال فلان الحكم الواقعي على تقدير عدم وصوله لا
داعوية له، فلا ينافي الحكم الظاهري. فإذا فرض وصول الحكم الواقعي ولو
بالعلم الاجمالي، كان جعل الحكم على خلافه من الجمع بين المتضادين (1).
وجميع هذه الايرادات مردودة:
أما الأول: فلانه اشكال نظير الاشكال الذي يورد به على الالتزام
بالترتب من الجانبين في طلب الضدين المتساويين في الأهمية. فإنه يورد هناك: ان
لازمه وجب كلا الضدين فعلا عند ترك كل منهما، فيلزم طلب الضدين معا
بالطلب الفعلي.

(1) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية 3 / 228 - الطبعة الأولى.
85

والجواب عنه ما يذكر من أن طلب الضدين في آن واحد لا محذور فيه،
بعد أن كان طلب كل منهما مشروطا بترك الاخر - ومجرد ترك الاخر لا يخرج
الطلب عن كونه مشروطا إلى كونه مطلقا (1). وقد مر الكلام في هذا الامر في
مبحث الترتب فراجع (2) - وذلك لان المحذور في طلب الضدين هو حصول
التنافي، بينهما في مقام الداعوية، وبالتقييد المزبور يرتفع التنافي، لان فرض
داعوية أحدهما لا يكون إلا بفرض عدم داعوية الاخر حتى في فرض ترك
كليهما وفعلية كلا الطلبين، كما يوضح في محله.
وبمثل هذا الجواب يدفع الاشكال فيما نحن فيه، فان محذور الترخيص
في كلا الطرفين هو الترخيص في المخالفة القطعية، وهو يرتفع بتقييد الإباحة في
كل طرف بترك الطرف الاخر، وترك كلا الطرفين لا يخرج الإباحة الثابتة عن
كونها مشروطة، فلا تكون الإباحة في كل طرف فعلية التأثير إلا في فرض عدم
تأثير الأخرى، فلا يلزم الترخيص المؤدي إلى المخالفة القطعية.
وأما ما أفاده من أن المحذور ليس في الترخيص في الجمع، بل في الجمع
بين الترخيصين. ففيه: انه لا محذور في الجمع بين الترخيصين إلا من جهة أنه
يؤدي إلى الترخيص في الجمع، وإلا فمجرد الجمع بين الترخيصين ليس بمحذور.
ودعوى أنه محذور مصادرة.
وأما الثاني: فلان ما ذكر من لزوم احتمال مطابقة الحكم الظاهري
للواقعي صحيح في الجملة، لكن الوجه فيه ليس قيام دليل لفظي عليه كي
يتمسك باطلاقه، بل انما هو لجهة عقلية، وهي ان الحكم الظاهري انما يجعل
لتنجيز الواقع أو التعذير عنه، وهذا إنما يثبت مع احتمال المطابقة، وإلا فلا معنى

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 293 - الطبعة الأولى.
(2) راجع 2 / 411 من هذا الكتاب.
86

للتنجيز ولا التعذير.
ولا يخفى ان غاية ما تتطلبه هذه الجهة هي لزوم احتمال المطابقة في أصل
الحكم لا في خصوصياته من اطلاق أو اشتراط، فان الاختلاف بين الحكم
الظاهري والواقعي في الاشتراط والاطلاق لا ينافي هذه الجهة قطعا. ولا دليل
آخر على عدم جواز مثل هذا الاختلاف، بل الدليل على خلافه، فان الحكم
الظاهري الثابت بالاستصحاب مقيد بثبوت اليقين السابق، مع أن الواقع ثابت
بلا تقيد بذلك كما لا يخفى. فانتبه.
وأما الثالث: فلان مقتضاه عدم صحة الترخيص في بعض الأطراف،
وكون العلم الاجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية. وهو خلف الفرض
وخلاف مبنى القائل بنفسه.
وعلى كل حال فيندفع ما ذكره بان: التنافي في مقام الداعوية مرتفع بعد
الترخيص والتأمين من العقاب لان الداعوية الالزامية تتحقق بلحاظ ما يترتب
على المخالفة من أثر سئ وهو العقاب. كما بيناه سابقا في أول هذا المبحث. فلا
تنافي بين الترخيص في بعض الأطراف والعلم بالحكم في أحدهما. فلاحظ.
ويتلخص لدينا: أن جميع هذه الايرادات مندفعة، فلا مانع من الالتزام
بالتخيير بالتصوير المزبور، وهو الإباحة المشروطة بترك الاخر.
ولكن المحقق النائيني أنكر التخيير غاية الانكار، وأسهب في بيان ذلك.
وخلاصة ما أفاده (قده)، بعد تصوير التخيير بتقييد جريان الأصل في كل طرف
بعدم إعماله في الاخر، لا بتقييده بترك الطرف الاخر كما صورناه، وبعد تقريبه
ببيان طويل لا يعدو في لبه ما تقدم منا في تصويره، هو: أن القول بالتخيير قول
بلا دليل ولا يساعد عليه العقل ولا النقل. وذلك لان الموارد التي يلتزم فيها
بالتخيير مع عدم قيام دليل عليه بالخصوص على نحوين:
الأول: أن يلتزم بالتخيير بلحاظ اقتضاء الدليل الدال على الحكم
87

للتخيير. كما إذا ورد عام كقوله: " أكرم العلماء ". ثم ورد ما يدل على عدم اكرام
زيد العالم وعمرو العالم، ولكن شك في أن خروجهما بنحو الاطلاق بحيث لا
يجب اكرام كل منهما في كل حال أو ان خروجهما بنحو خاص، بان كان عدم
وجوب اكرام كل منهما مقيدا باكرام الاخر. فإنه يلتزم في مثل ذلك بالتخيير، لان
العام يكون حجة في مدلوله إلا بما لمقدار الذي يقوم الخاص عليه. ومع الشك في
مدلول الخاص يقتصر فيه على القدر المتيقن، والمتيقن هو خروج كل من
الفردين عند اكرام الاخر، إذ خروجه مطلقا مشكوك، ونتيجة ذلك هو التخيير
في اكرام أحدهما وعدم اكرام الاخر.
فالتخيير ههنا ناش من ناحية الدليل لا المدلول كما لا يخفى.
الثاني: ان يلتزم بالتخيير بلحاظ اقتضاء نفس المدلول والمنكشف وان
كان الدليل يقتضي التعيينية، كموارد تزاحم الواجبين في مقام الامتثال لعدم
القدرة على امتثالهما معا، فان التخيير ههنا يلتزم به من جهة ان المجعول يقتضي
التخيير وذلك لأنه يعتبر في التكاليف الشرعية القدرة على متعلقاتها وبما أنه
يمتنع على المكلف الاتيان بالضدين وكان المكلف قادرا على اتيان كل منهما عند
ترك الاخر، فالعقل يرى لزوم صرف القدرة في أحدهما تخييرا، إما من جهة تقييد
اطلاق كل من الدليلين بصورة ترك الاخر، وإما من جهة سقوط التكليفين معا
واستكشاف العقل حكما تخييرا لوجود الملاك التام في كل منهما على اختلاف
المسلكين في باب التزاحم.
وبعد ان ذكر نحوي التخيير ذكر: ان التخيير في باب تعارض الأصول
مما لا شاهد عليه لا من ناحية الدليل ولا من ناحية المدلول.
أما عدم الشاهد من ناحية الدليل فلان دليل الأصل يتكفل جريانه عينا
سواء عارضه أصل آخر أم لا وليس في الأدلة ما يوجب التخيير في اجراء أحد
المتعارضين.
88

وأما عدم الشاهد من ناحية المدلول فلان المجعول في باب الأصول
العملية هو الحكم بتطبيق العمل على مؤدى الأصل وهذا الحكم يتقوم باجتماع
قيود ثلاثة الجهل بالواقع وامكان الحكم على المؤدى بأنه الواقع وعدم لزوم
المخالفة العملية وبانتفاء أحد هذه القيود يمتنع جعل الأصل، وبما أنه يلزم من
اجراء الأصول في أطراف العلم الاجمالي مخالفة عملية، فلا يمكن جعلها جمعا،
وأما جعل أحدهما تخييرا فهو بمكان من الامكان لكن لا دليل عليه لا من
ناحية دليل الأصل ولا من ناحية المجعول به.
هذا ملخص ما أفاده (قده) (1). والنقطة التي يبني عليها مختاره هو عدم
الدليل على التخيير لا عدم امكانه.، فإنه يعترف بامكانه كما هو صريح عبارته.
وأنت خبير: ان التخيير بالنحو الثاني الذي صورناه لا يحتاج اثباته إلى
دليل خاص يقوم عليه، بل مجرد دليل الأصل كاف في اثباته لأنه مطلق شامل
لحالتين. فيرفع اليد عن اطلاقه بمقدار المحذور العقلي لان الضرورات تقدر
بقدرها، فيثبت الأصل في كل طرف في صورة ترك الطرف الاخر لعدم المحذور
فيه. فالتخيير فيما نحن فيه من موارد التخيير بلحاظ الدليل والكاشف.
وأما تصويره التخيير بتقييد كل منهما بعدم اعمال الأصل في الاخر فهو
باطل في نفسه، وبيان ذلك في مقام آخر، فالتخيير الذي نلتزم به هو ما صورناه.
ونتيجة جميع ما ذكرناه هو: عدم المانع من الالتزام بالتخيير عند
التعارض، والدليل في مقام الاثبات يقتضيه، فما حاوله بعض الاعلام من اثبات
وجوب الموافقة القطعية من طريق تعارض الأصول في الأطراف وتساقطها مع
التزامه بعدم علية العلم الاجمالي لذلك، إنما هو محاولة فاشلة، فتدبر والتفت.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 25 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
89

الجهة الرابعة: في الانحلال.
وتوضيح الكلام فيه هو: انه إذا تعلق العلم الاجمالي بحكم الزامي مردد
بين طرفين، ويحصل العلم التفصيلي بثبوت الالزام في أحد الطرفين المعين، أو تقوم
الامارة على ذلك أو الأصل المثبت..
فتارة: يتعلق العلم التفصيلي بنفس المعلوم بالاجمال أو تقوم الامارة عليه،
بان يعلم تفصيلا بان ذلك الحكم المردد هو في هذا الطرف، أو تقوم الامارة على
ذلك.
وأخرى: لا يتعلق العلم التفصيلي بهذا النحو. بل يعلم تفصيلا بثبوت
الحرمة - مثلا - في هذا الطرف المعين، بلا بيان انه هو المعلوم بالاجمال، بل مع
احتمال ان تكون هي الحرمة المعلومة بالاجمال.
أما النحو الأول، فلا كلام فيه من حيث الانحلال حقيقة أو حكما،
وسيجئ الإشارة إلى وجه ذلك مؤخرا.
انما الكلام والاشكال في النحو الثاني، وهو ما كان المعلوم بالتفصيل أو
مؤدى الامارة، أو مفاد الأصل الشرعي أو ما قام عليه الأصل المثبت العقلي
محتمل الانطباق على ما هو المعلوم بالاجمال.
ولا يخفى ان تحقيق هذه الجهة لم يعطه الاعلام حقه من الاستيفاء، مع أنه
ذو أهمية كبيرة في بعض المسائل الأصولية المهمة، كمسألة حجية الخبر
الواحد، حيث حاول البعض اثبات حجيته بطريق العلم الاجمالي، وناقشه
الآخرون بانحلاله - كما مرت الإشارة إليه -. ومسألة الانسداد المبتني رد دليل
الانسداد فيها على دعوى الانحلال، ومسألة الاحتياط في الشبهات التحريمية
الحكمية التي ادعى الأخباريون فيها لزوم الاحتياط للعلم الاجمالي وكان ردهم
من الأصوليين يتمحض في دعوى انحلاله.
وكيف كان فالذي يبدو ان الانحلال لدى الاعلام مفروغ منه.
90

وقد ذكرت في تقريبه وجوه لا تخلو من مناقشة. وهي:
الوجه الأول: ان العلم الاجمالي ينحل حقيقة وتكوينا بواسطة العلم
التفصيلي، لأنه إن كان متعلقا بالجامع بين الطرفيين مع الشك في كلتا الخصوصيتين
فهو يرتفع بالعلم التفصيلي بثبوت الحكم في الطرف المعين. وان كان متعلقا بالفرد
المردد، فلا تردد حينئذ بالخصوصية على نحو التعيين.
وأما الامارة، فالعلم الاجمالي ينحل بها حكما وتعبدا، لان دليل الاعتبار
يقتضي تنزيل الامارة منزلة العلم، فيترتب عليها جميع آثاره ومنها الانحلال كما
عرفت.
وأما في صورة قيام الأصل المثبت في أحد الطرفين - شرعيا كان أم عقليا -،
فالانحلال يتحقق من جهة جريان الأصل النافي في الطرف الاخر بلا
معارض، لان عدم جريانه لاجل المعارضة، فإذا لم تكن معارضة فلا مانع من
جريانه.
وهذا الوجه يستفاد من بعض كلمات المحقق النائيني - وإن لم يذكر
صريحا في كلماته المنسوبة إليه، كالتزامه بانحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي
تكوينا، وقياس الامارة عليه بناء، على ما يذهب إليه من جعل الطريقية، وتعليله
ذلك بان الامارة طريق تعبدا (1).
وعلى اي حال، لا يهمنا ذلك، بل المهم تحقيق هذا الوجه صحة وبطلانا.
فنقول: ما ذكره أخيرا في مورد قيام الأصل المثبت يتأتى في جميع الصور. إذ مع
قيام العلم التفصيلي أو الامارة، يمكن أيضا اجراء الأصل النافي في الطرف
الاخر بلا معارض، وسيأتي الحديث عنه انشاء الله تعالى في الوجه الثالث.
وأما ما أفيد في وجه الانحلال الحكمي عند قيام الامارة، فهو غريب،

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 41 و 3 / 17 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
91

لان الذي يترتب على الامارة بدليل التنزيل هو الآثار العملية الجعلية الشرعية
أو العقلية - كالمنجزية -، دون الآثار التكوينية الناتجة عن الأسباب التكوينية
الخارجة عن عالم الجعل والتشريع. ومن الواضح ان انحلال العلم الاجمالي
بالعلم التفصيلي من آثار العلم التكوينية لا الجعلية، فلا يثبت تعبدا بدليل
التنزيل.
وأما دعوى الانحلال التكويني الحقيقي بالعلم التفصيلي، فهي انما تصح
بناء على تعلق العلم الاجمالي بالجامع أو الفرد المردد.
أما بناء على ما اخترناه من تعلقه بالفرد الواقعي المعين في نفسه المردد
لدى العالم بين الطرفين، فلا تصح الدعوى المزبورة، لان العلم التفصيلي
بنجاسة أحد الإناءين المعين لا يزيل العلم بنجاسة ما وقعت فيه قطرة البول
المردد بين الإناءين.
ومن هنا يظهر بطلان دعوى الانحلال الحكمي في الامارة قياسا على
الانحلال الحقيقي في العلم - مع قطع النظر عن الاشكال السابق فيه - لعدم
ترتب الانحلال على العلم.
ثم إن المحقق العراقي (قدس سره) أورد على ما ذهب إليه هذا القائل
من تحقق الانحلال التكويني بالعلم التفصيلي بالتقريب المتقدم. وبدعوى
الوجدان بعدم العلم بأزيد من حرمة أحد الإناءين معينا، أورد عليه: بان
مجرد تعلق الاجمالي بالجامع لا يقتضي انحلاله بقيام العلم التفصيلي على التكليف
في بعض الأطراف، لأنه كما يحتمل انطباقه على الطرف المعلوم تفصيلا يحتمل
بالوجدان انطباقه على الطرف الاخر، ووجود هذا الاحتمال كاشف قطعي عن
بقاء العلم الاجمالي، لأنه من لوازمه، إذ لا يمكن بقاء هذا الاحتمال بلا بقاء
ملزومه وهو العلم الاجمالي (1).

(1) تعليقة فوائد الأصول 4 / 41 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
92

أقول: ايراده (قدس سره) يبتني على مختاره في متعلق العلم الاجمالي، وانه
الصورة الاجمالية القابلة للانطباق على كل من الطرفين على سبيل البدل.
وبذلك يكون ايرادا مبنائيا، وهو خلاف الأسلوب الصناعي، بل كان
ينبغي عليه ان يردد في مقام الايراد بين المباني.
والأمر سهل بعد ما عرفت حقيقة الحال.
الوجه الثاني: ما هو ظاهر المحقق النائيني (رحمه الله) في كلا تقريري
بحثه - وعلى الأخص أجود التقريرات (1) - (وهو يغاير ما هو المعهود منه سابقا
في أذهاننا وهو الوجه السابق).
ومحصل ما أفاده (قدس سره) - كما في تقرير الكاظمي (رحمه الله) -: ان
العلم الاجمالي ينحل بقيام ما يوجب ثبوت التكليف في بعض الأطراف المعين،
سواء كان علما أم امارة أم أصلا شرعيا كان أو عقليا، ولا فرق بين ان يقوم ذلك
قبل العلم الاجمالي وبعده. غاية الامر انه في الأول يوجب عدم تأثير العلم
الاجمالي من رأس. وفي الثاني يوجب انحلاله وعدم تأثيره بقاء. والسر في ذلك:
انه بعد احتمال انطباق ما هو المعلوم بالاجمال على ما قام الدليل المثبت للتكليف
فيه، لا يكون العلم الاجمالي علما بتكليف فعلي على كل تقدير، والعلم الاجمالي
انما يوجب التنجيز إذا كان علما بالتكليف على كل تقدير. وهذا الوجه يتأتى فيما
إذا كان العلم التفصيلي بالتكليف في طرف معين بعد العلم الاجمالي، لكن كان
المعلوم سابقا، لان العلم الاجمالي وان كان منجزا حدوثا، لكنه بقاء ينحل، وذلك
لتبدله وانقلابه عما كان عليه أولا، إذ بعد العلم التفصيلي بالتكليف في طرف معين
من السابق، واحتمال انه هو المعلوم بالاجمال السابق، لا يكون العلم الاجمالي
علما بتكليف فعلي على كل تقدير من الأول.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 245 - الطبعة الأولى.
93

وبالجملة: فتأخر العلم التفصيلي لا يجدي بعد كون المعلوم سابقا، لان
العلم طريقي لا موضوعي.
هذا محصل ما أفاده (قدس سره) في المقام (1).
ولكنه مما لا يمكن الالتزام به. بيان ذلك: ان مراده من الحكم الفعلي..
إن كان هو الحكم المنجز، فهو - مضافا إلى أنه خلاف ما يلتزم به من
التفكيك بين المقامين، وان الفعلية تثبت مع الجهل مع كون قوام التنجز بالوصول -
خلف، إذ الفرض ان التنجيز من قبل العلم لا سابق عليه، فلا معنى لان يؤخذ
في منجزية العلم تعلقه بتكليف منجز.
وإن كان هو الحكم الفعلي بالمعنى الذي يختاره في مبحث الجمع بين الحكم
الواقعي والظاهري، والذي لا ينافيه وجود الحكم الظاهري. ففيه: ان هذا الحكم
لا يرتفع بالجهل، ولا بقيام الامارة على خلافه، فكيف يقال: ان العلم الاجمالي
ليس علما بتكليف فعلي على كل تقدير؟.
وإن كان هو الحكم الفعلي الحادث، كان صحيحا لان العلم الاجمالي لا
يكون متعلقا بتكليف فعلي حادث على كل تقدير.
لكن فيه: انه لا يشترط في منجزية العلم تعلقه بتكليف حادث، بل يكفي
في تنجزه تعلقه بتكليف فعلي ولو كان في مرحلة بقائه
. ولذا لو تعلق علم إجمالي بحدوث حكم أو بقاء آخر، كان منجزا بلا
إشكال.
وقد يوجه ما أفاده (قدس سره): بان مراده ما يذهب إليه المحقق
الأصفهاني (رحمه الله) في الحكم الفعلي من انه البعث الواصل إلى مرحلة
الداعوية، وامكان الداعوية لا يكون إلا بالوصول، فالعلم يكون دخيلا في تحقق

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4 / 36 - 37 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
94

داعويته، فمراده هو العلم بالتكليف الفعلي بنحو يكون دخيلا في فعليته
وداعويته على كل تقدير.
وهذا منتف عند تعلق العلم التفصيلي بالتكليف في أحد الأطراف المعين،
لان التكليف يصل بالعلم التفصيلي لا بالعلم الاجمالي (1).
وهذا التوجيه لو سلم - ولم نخدش فيه: بان ذلك لا يمنع من منجزية
العلم الاجمالي، إذ لا يشترط في منجزيته أن يكون دخيلا في تحقق فعلية الحكم
الذي تعلق به، بل غاية ما يعتبر فيه أن يكون متعلقا بحكم فعلي وقد تحقق ههنا
- فهو انما يتم فيما كان قيام ما يوجب ثبوت التكليف في أحد الأطراف سابقا
على العلم الاجمالي.
أما إذا كان متأخرا عنه، فلا يتم هذا التوجيه، لان العلم الاجمالي حين
حدوثه كان منجزا وموجبا لوصول التكليف في أي طرف كان، والعلم التفصيلي
المتأخر وان كشف عن ثبوت الحكم بآثاره من السابق، إلا أنه لا يصحح فعلية
الحكم إلا حين حدوثه لا من السابق كما لا يخفى. فالعلم الاجمالي يكون منجزا
بلا وجه لانحلاله.
ثم إن الذي يظهر من بعض عباراته (قدس سره) هو تحقق الانحلال
التكويني، وانقلاب القضية المنفصلة المانعة الخلو إلى قضيتين حمليتين إحداهما
معلومة بالتفصيل والأخرى مشكوكة. وههنا لا يلتزم بذلك لالتزامه بقاء العلم
الاجمالي، لكنه ليس علما بتكليف فعلي على كل تقدير.
وهذا نوع من التهافت. فالتفت ولاحظ.
الوجه الثالث: ما يستفاد من بعض كلمات المحقق النائيني - أيضا - من:
ان وجوب الموافقة القطعية وعدم جريان الأصل في بعض الأطراف، بما أنه

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 30 - الطبعة الأولى.
95

مستند إلى تعارض الأصول في أطراف العلم، فعند قيام المثبت للتكليف في طرف
معين، كان الأصل النافي في الطرف الاخر بلا معارض، فلا مانع من جريانه (1).
وهذا الوجه مردود، وذلك: لان عمدة الغرض من الانحلال واثباته، هو
اثبات الانحلال بالعلم المتأخر أو الامارة المتأخرة لرد الأخباريين الذين يدعون
العلم الاجمالي، بانحلاله بالامارات القائمة على التكاليف بعد الفحص. ونحو
ذلك من الآثار المترقبة للانحلال.
وهذا البيان الراجع إلى تحقق الانحلال فيما إذا لم يمكن اجراء الأصل
النافي في أحد الأطراف المعين في مرحلة البقاء لمانع، لجريانه في الطرف الاخر
بلا معارض، لا يمكن الالتزام به، وإلا لجرى في كل مورد يسقط الأصل النافي
في بعض الأطراف بقاء، كموارد الاضطرار إلى معين بعد العلم، والخروج عن محل
الابتلاء وفقدان أحد الأطراف وتطهيرها ونحو ذلك، وهو مما لا يلتزم به القائل
وغيره كما سيجئ أن شاء الله، والبيان الذي يذكر في اثبات بقاء العلم الاجمالي
على صفة المنجزية يتأتى ههنا. فالتفت.
الوجه الرابع: ما يستفاد من كلمات المحقق الأصفهاني (قدس سره) في
الموارد المختلفة، وهو: انه مع قيام العلم التفصيلي على ثبوت تكليف في طرف
معين، لا يكون العلم الاجمالي علما بتكليف فعلي جديد آخر، لاحتمال انطباق
المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل. وهكذا الحال عند قيام الامارة بناء على
جعل الحكم المماثل.
أما بناء على جعل المنجزية فللانحلال بيان آخر، وهو انه بعد تنجز أحد
الأطراف بقيام الامارة لا يصلح العلم الاجمالي لتنجيز ذلك الطرف، لان المنجز
لا يتنجز، فلا يكون منجزا للتكليف على كل تقدير.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 38 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
96

هذا في الامارة السابقة أو المقارنة للعلم.
أما في الامارة المتأخرة عن العلم، فالامر فيها كذلك، لان وجودها
الواقعي في معرض الوصول يوجب تنجز الواقع بها، ولو لم تكن بعد واصلة، ولذا
يجب الفحص عن الشبهة، فالظفر بالامارة ظفر بالمنجز لا أنه قوام تنجيز الامارة،
فقيام الامارة يكشف عن وجود المنجز لاحد الأطراف من السابق، فلا يصلح
العلم الاجمالي للتنجيز.
فالعمدة في هذا الوجه هو ما أفاده من أن المتنجز لا يتنجز (1).
وتمكن الخدشة في هذا الوجه كسوابقه: بأن دعوى أن المتنجز لا يتنجز
صحيحة، بمعنى ان المتنجز فعلا بوصف كونه منجزا لا معنى لتنجزه، لأنه
تحصيل الحاصل.
وأما اشتراك المنجز اللاحق مع المنجز السابق في التنجيز بقاء بحيث
يكون التنجيز في مرحلة البقاء لهما، فلا مانع منه، لأنه ليس من تنجز المنجز
بوصف كونه منجزا.
وحينئذ نقول: انه بعد فرض عدم انحلال العلم الاجمالي تكوينا، وبقائه
على ما كان بعد قيام العلم التفصيلي أو الامارة، فلا قصور فيه عن المنجزية.
وعليه، يكون دخيلا في تنجيز الطرف الذي قامت عليه الامارة، فيكون
التنجيز للمجموع، فهما ينجزان ذلك الطرف في عرض واحد، ولا مانع منه.
ولذا لم يتخيل أحد عدم منجزية العلمين الاجماليين إذا اشتركا في طرف
معا كما لو علم إجمالا بنجاسة الاناء الأبيض أو الأصفر، وعلم إجمالا بنجاسة
الاناء الأصفر أو الأحمر.
مع أن البيان الذي أفاده من عدم تنجيز المنجز يتأتى ههنا.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 200 و 201 - الطبعة الأولى.
97

وليس ذلك إلا لكون التنجيز لكلا العلمين، وبمثله يلتزم فيما نحن فيه،
فيكون التنجيز للامارة والعلم الاجمالي.
وبالجملة: بعد وضوح التنجيز في المثال المزبور لا مجال لما أفاده من أن
المتنجز لا يتنجز.
ولا يخفى إنه لا أثر لأسبقية العلم التفصيلي، لان تأثيره في التنجيز بقاء
بلحاظ حالة بقائه لا حدوثه، لان تنجيز العلم يدور مدار وجوده - ولذلك يشير
الشيخ في أول مبحث القطع بقوله: " ما دام موجودا ". فراجع (1) -.
وعليه، فهو في مرحلة البقاء في عرض العلم الاجمالي الحادث، وليس
العلم الاجمالي في طوله، لان وجوده سابقا لا أثر له في التنجيز بقاء. فلاحظ.
وأما ما أفاده (قدس سره) في صورة تأخر الامارة. ففيه:
أولا: أنه لا يتأتى بالنسبة إلى العلم التفصيلي المتأخر، لعدم تصور تنجيزه
من السابق، لأنه سبب التنجز، والمفروض حدوثه متأخرا، فالتنجيز من حين
حدوثه لا من السابق، فيكون العلم الاجمالي أسبق منه في التأثير، فيمنعه من
التنجيز - بناء على ما أفاده من أن المنجز لا يتنجز -.
وثانيا: انه لا يتم في الشبهات الموضوعية لعدم لزوم الفحص فيها،
والامارة لا تكون حجة فيها بوجودها الواقعي في معرض الوصول، مع أن
حديث الانحلال عام لا يختص بالشبهات الحكمية، كما يظهر من ملاحظة
البحث في مسألة ملاقي أحد أطراف العلم الاجمالي ونحوها.
وثالثا: انه يبتني على المذهب القائل بان الامارة حجة بوجودها الواقعي
إذا كان في معرض الوصول، ولا يتم بناء على مذهب صاحب الكفاية القائل بان
حجية الامارة تتقوم بالوصول (2).

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 2 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 279 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
98

ورابعا: ان الظفر بالامارة ليس ظفرا بالمنجز، بل المنجز ملتفت إليه من
السابق وهو الاحتمال، لان الاحتمال قبل الفحص يكون منجزا. مع أن مقتضى
ذلك كون المنجز في كلا الطرفين لا في أحدهما، لان الشبهة في كلا الطرفين قبل
الفحص تكون سببا للتنجيز. فبملاحظة هذه الخصوصية - أعني خصوصية
الشبهة قبل الفحص - لا يكون المورد من موارد انحلال العلم الاجمالي، بل
العلم الاجمالي لا اثر له من أول الامر، لقيام المنجز على كل طرف من أطرافه
بخصوصه. فتدبر.
الوجه الخامس: ما ذهب إليه المحقق العراقي (قدس سره) من الانحلال
الحكمي بتقريب: ان تنجيز العلم الاجمالي يعتبر فيه أن يكون العلم الاجمالي
صالحا للتنجيز بنحو الاستقلال في كل طرف من أطرافه، ومع قيام المنجز من
علم أو امارة أو أصل على بعض أطرافه يخرج العلم الاجمالي عن تمام المؤثرية
واستقلاله فيها في ذلك الطرف، فيسقط عن التنجيز (1).
وهذا الوجه كسوابقه مردود، فان اعتبار قابليته للتنجيز بنحو الاستقلال
في منجزيته مصادرة مما لا دليل عليه، بل الشاهد على خلافه كما تقدم من مثال
اشتراك العلمين الاجماليين في طرف واحد، فقد عرفت أنه لا اشكال في تنجيز
كلا العلمين، مع أن كلا منهما لا يستقل في التأثير في الطرف المشترك بينهما.
وبالجملة: المثال المزبور كما يدفع دعوى المحقق الأصفهاني ان المنجز لا
يتنجز، كذلك يدفع دعوى المحقق العراقي.
والمتحصل: انه لم ينهض وجه في هذه الوجوه لاثبات الانحلال المتسالم
عليه، والمأخوذ بنحو إرسال المسلمات أصولا وفقها، بحيث يستلزم انكاره تأسيس
فقه جديد.

(1) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين، مقالات الأصول: 2 / 66 - 67 - الطبعة الأولى.
99

والوجه الصحيح الذي نختاره في تقريب الانحلال هو: انك قد عرفت
في البحث عن وجوب الموافقة القطعية أنه لا مانع من الترخيص الشرعي في
بعض الأطراف بنحو يستلزم التأمين من ناحية العلم الاجمالي بأن كان ناظرا
إليه، والى ذلك أرجعنا جعل البدل. وعرفت ان عدم جريان الأصول في بعض
الأطراف من جهة قصور مقام الاثبات لعدم تكفلها التأمين من ناحية العلم
الاجمالي.
وعليه، فنقول: إنه إذا تعلق العلم التفصيلي بتكليف فعلي في أحد
الأطراف المعين، واحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه لا ينحل العلم الاجمالي
حقيقة لثبوته وجدانا، إلا أنه يحصل للمكلف شك في ثبوت تكليف فعلي زائد
على التكليف المعلوم بالتفصيل، ومثل هذا الشك يكون مجرى للبراءة شرعا
فينفي التكليف الزائد بها. ومن الواضح انه بجريانها لا يبقى مجال لمنجزية العلم
في الطرف الاخر، لان أساس منجزيته على تعلقه بتكليف فعلي مردد بين
الطرفين، والمفروض ان أصل البراءة ينفي التكليف الزائد على ما في أحد
الطرفين، فيكون ناظرا إلى العلم الاجمالي قهرا وموجبا للتأمين من ناحيته.
وهذا البيان بنفسه يجري فيما إذا قامت الامارة على التكليف في أحد
الأطراف معينا، أو قام الأصل الشرعي عليه.
فيقال: ان التكليف زائدا على المقدار المنجز في هذا الطرف مشكوك،
والأصل ينفيه.
نعم، يشكل الامر في ما إذا كان القائم في أحد الأطراف أصلا عقليا،
كأصالة الاشتغال، وسيأتي البحث فيها ان شاء الله تعالى.
ومما ذكرنا ظهر انحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي الصغير مع
احتمال الانطباق، لجريان البيان المذكور فيه كما لا يخفى.
ثم إنه لا فرق فيما ذكرناه بين كون قياما ما يوجب ثبوت التكليف في أحد
100

الأطراف قبل العلم الاجمالي أو بعده كما هو واضح. فتدبر جيدا.
هذا تمام الكلام في شؤون العلم الاجمالي من حقيقته وأثره.
ويقع الكلام بعد ذلك في تنبيهات ترتبط به.
101

" تنبيهات المسألة "
التنبيه الأول: فيما إذا اضطر إلى بعض أطراف العلم الاجمالي.
وهو على نحوين:
الأول: ما إذا كان الاضطرار إلى طرف معين.
والثاني: ما إذا كان الاضطرار إلى غير معين.
أما إذا كان الاضطرار إلى طرف معين، فله صور:
الصورة الأولى: ما إذا كان الاضطرار حادثا قبل التكليف والعلم به، كما
لو اضطر إلى شرب هذا الاناء الطاهر، ثم وقعت نجاسة مرددة بينه وبين إناء
آخر، ثم علم إجمالا بها.
ولا اشكال في عدم منجزية مثل هذا العلم، لعدم تعلقه بتكليف فعلي على
كل تقدير، بل لا علم بحدوث تكليف لاحتمال وقوعها في الاناء المضطر إليه فلا
يحرم.
الصورة الثانية: ما إذا حدث الاضطرار بعد التكليف وقبل العلم به، بان
وقعت نجاسة في أحد الإناءين، ولم يكن يعلم بها، ثم اضطر إلى شرب الاناء
المعين، ثم علم بعد الاضطرار بالنجاسة المرددة بين الإناءين.
103

وقد اختار المحقق النائيني (قدس سره) في بعض دورات أبحاثه الأولى
منجزية العلم الاجمالي. بتقريب: انه علم بحدوث تكليف فعلي، ويشك في سقوطه
بالاضطرار، ومقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الخروج عنه (1).
ولكنه عدل عنه في دورات بحثه الأخيرة، فذهب إلى عدم تنجيز مثل هذا
العلم (2).
وجاء في تقريرات الكاظمي - بيانا لوجه العدول - ان العلم تمام الموضوع
في التنجيز، فقبل تحقق العلم لا يكون التكليف منجزا، وبعد حصوله لا يكون
العلم علما بتكليف فعلي على كل تقدير، لاحتمال كون المضطر إليه هو النجس
الواقعي (3).
والحق هو ما ذهب إليه أخيرا من عدم التنجيز، ولأجل تقريبه نقول: ان
العلم المتأخر المتعلق بالتكليف السابق لا يصلح لتنجيز التكليف السابق بما هو
كذلك.
وذلك لان معنى التنجيز إما وجوب الإطاعة والامتثال عقلا، أو استحقاق
المؤاخذة على المخالفة. وكل منهما لا يتصور بالنسبة إلى ما سبق، إذ لا مجال
لإطاعته أو مخالفته فعلا. فما يجري على بعض الألسنة من أن العلم المتأخر ينجز
التكليف في الزمان السابق ليس له وجه معقول.
نعم، إذا كان التكليف السابق موضوعا للتكليف في الزمان اللاحق
كوجوب القضاء أو نحوه، كان العلم به مؤثرا في تنجيز التكليف اللاحق من باب
تعلق العلم به أيضا بعد تعلق العلم بموضوعه.
وبالجملة: العلم إنما يكون منجزا للتكليف المقارن، ولا يصلح لتنجيز ما

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 265 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4 / 95 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 95 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
104

سبق.
وعليه، ففيما نحن فيه، بما أنه عند حدوث العلم لا يعلم بثبوت التكليف
لاحتمال تعلق الاضطرار بمتعلقه فلا يكون منجزا.
الصورة الثالثة: ما إذا حدث الاضطرار بعد العلم الاجمالي بالتكليف،
وهذه الصورة هي محل الكلام والنقض والابرام.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى عدم منجزية العلم الاجمالي بقاء (1). وذهب
الشيخ (2) وتبعه المحقق النائيني (3) وغيره (4) إلى بقاء منجزيته بالنسبة إلى الطرف
الاخر غير المضطر إليه.
والذي أفاده في الكفاية وجها لعدم المنجزية: هو ان التكليف محدود شرعا
بحصول الاضطرار إلى متعلقه.
وعليه، فهو فيما بعد الاضطرار لا يعلم بثبوت التكليف، فينفيه بالأصل.
وبعبارة أخرى: ان العلم الاجمالي ينحل بالعلم بالجامع إلى حد
الاضطرار، وما بعده مشكوك، والمرجع فيه الأصل.
ولأجل ذلك يختلف الاضطرار عن صورة فقد أحد الأطراف، لان
الفقدان ليس من حدود التكليف شرعا، فلا علم بالتكليف الجامع المحدود
بالفقدان، بل التكليف في كلا الطرفين مطلق (5).
وهذا البيان لا نستطيع أن نؤمن به ونلتزمه لوجهين:
الأول: ان التكاليف الشرعية جميعها محددة بالاضطرار. وعليه فلا

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 360 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 254 - الطبعة الأولى.
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 267 - الطبعة الأولى.
(4) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية 3 / 247 - الطبعة الأولى.
(5) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 360 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
105

خصوصية لاحد الطرفين، بل كل من الطرفين يكون التكليف فيه على تقديره
محدد بالاضطرار، سواء تحقق الاضطرار خارجا أم لا.
الثاني: ان المحدد بالاضطرار والمرتفع به ليس هو الحكم الكلي الثابت
بنحو القضية الحقيقة، بل هو الحكم الفعلي الثابت لموضوعه الموجود المردد بين
الطرفين.
ومن الواضح ان التكليف الفعلي يدور بين أن يكون التكليف المحدود،
وبين أن يكون التكليف المستمر - لتردده بين الطرفين -، ولا جامع في البين يكون
هو المتيقن، وما زاد عليه يكون مشكوكا، لتردد الامر بين فردين متباينين.
وبعبارة أخرى: ليس التردد بين الأقل والأكثر في تكليف واحد، كي
يقال: ان الأقل معلوم والزائد عليه مشكوك. بل التردد بين تكليفين أحدهما
قصير الأمد والاخر طويل الأمد، وهذا لا يستلزم الانحلال لعدم العلم بالجامع.
فالتفت.
وقد يقال: إنه إذا علم إما بوجوب الجلوس ساعة في المسجد أو ساعتين في
الصحن، فهو يعلم بوجوب الجلوس ساعة إما في المسجد أو في الصحن، وما يزيد
على الساعة مشكوك، ومثل هذا العلم الاجمالي الصغير يوجب انحلال العلم
الاجمالي الأول.
أو فقل: انه علم بخصوصية زائدة، فيوجب انحلال العلم الاجمالي
المتعلق بالجامع الصرف.
وإذا ثبت هذا المطلب ثبت الانحلال في مورد الاضطرار وغيره من موارد
ارتفاع التكليف في الأثناء كالفقدان، والخروج عن محل الابتلاء، لجريان هذا
البيان فيها جميعها، فهذا البيان مما يقرب مذهب الكفاية لكنه لا يختص بصورة
الاضطرار.
ولكن هذا القول واضح الدفع، لأنه كما يعلم اجمالا بوجوب الجلوس في
106

الساعة الأولى إما في المسجد أو في الصحن، ويشك في وجوبه في الساعة الثانية،
للشك في وجوب الجلوس في الصحن، كذلك يعلم إجمالا اما بوجوب الجلوس في
الساعة الأولى في المسجد أو بوجوبه في الساعة الثانية في الصحن لان الواجب
ان كان الجلوس في الصحن ساعتين كان الجلوس في الساعة الثانية في الصحن
واجبا. فالجلوس في الساعة الثانية طرف العلم الاجمالي أيضا. فيكون منجزا.
فالتفت ولاحظ.
وتحقيق الحال في المقام - بعد أن عرفت وجود العلم الاجمالي بثبوت
التكليف الدائر أمره بين المحدود في طرف والمستمر في طرف آخر -: انه.
إن قيل: بأن العلم الاجمالي علة تامة للتنجيز من حيث الموافقة القطعية،
وعدم جواز الترخيص في بعض أطرافه - كما هو كذلك بالنسبة إلى المخالفة
القطعية -.
فلا إشكال في بقاء العلم الاجمالي على المنجزية بعد عروض الاضطرار.
فلا بد من ترتيب أثرها بالنسبة إلى الطرف الاخر.
وذلك لان العلم إذا حدث على صفة المنجزية للتكليف، لا يزول عن هذه
الصفة حتى يعلم بالموافقة والامتثال، ولا يعتبر في بقاء منجزيته استمرار تعلقه
بالتكليف بقاء، بل تثبت المنجزية مع عدم العلم بالتكليف بقاء حتى بالنسبة إلى
العلم التفصيلي، كما لو علم تفصيلا بوجوب عمل، ثم جاء بعمل يشك في تحقق
الامتثال به، فإنه لا يعلم ببقاء التكليف بعد أن جاء بالعمل المشكوك تحقق
الامتثال به، ومع هذا يحكم بمنجزية علمه السابق ولزوم الخروج عن عهدة
التكليف المعلوم سابقا، وتطبق قاعدة الاشتغال في المورد.
نعم، يعتبر بقاء العلم بالتكليف حدوثا، فلو تبدل إلى الشك الساري لم
تثبت منجزيته.
وبالجملة: إذا حدث العلم بصفة التنجيز لا بد من العلم بامتثاله، والشك
107

في بقاء التكليف من جهة الشك في الامتثال لا يخرجه عن صفة التنجيز. وما نحن
فيه كذلك: لان العلم الاجمالي قد تعلق بتكليف مردد بين المحدود في هذا الطرف
والمستمر في ذلك الطرف، وهو حين حصل كان منجزا للتكليف، ومما يلزم العلم
بالخروج عن عهدته، فمع عروض الاضطرار وإن حصل الشك في بقاء
التكليف، لكنه لا يجدي في رفع أثر العلم بعد أن كان عدم الاجتناب عن الطرف
الاخر موجبا للشك في تحقق امتثال التكليف المعلوم بالاجمال المنجز به الذي
يلزم الخروج عن عهدته.
وإن قيل: بان تأثير العلم الاجمالي في الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء وان
تنجز الموافقة القطعية من جهة تعارض الأصول في أطراف العلم، وإلا فلا مانع
من الترخيص في بعض أطرافه.
فالامر فيما نحن فيه مشكل. وتحقيق ذلك: ان أصالة الطهارة الثابتة
للأشياء بما هي مشكوكة الطهارة..
تارة: نلتزم بأنها تتكفل الحكم بالطهارة الظاهرية حدوثا وبقاء وبنحو
الاستمرار، بمعنى: أن يكون هناك حكم واحد ودلالة واحدة وتطبيق واحد
بالنسبة إلى مشكوك الطهارة بلحاظ جميع أزمنة الشك، نظير الحكم بالملكية عند
تحقق موضوعها، فان المحكوم به هو ملكية واحدة مستمرة ولا تعدد فيها.
وأخرى: نلتزم بأنها تتكفل الحكم بالطهارة بعدد الآنات التي يتصور فيها
الحكم بالطهارة وترتب الأثر عليها، بحيث تكون الطهارة في كل آن فردا غير
الطهارة في الآن السابق لا إنها استمرار لما سبق. فهناك احكام متعددة وتطبيقات
متعددة ودلالات متعددة.
وباختلاف النظر في كيفية تطبيق أصالة الطهارة ونحو دلالتها يختلف
الحال فيما نحن فيه.
فان التزم بالاحتمال الأول، أمكن دعوى بقاء منجزية العلم الاجمالي بعد
108

عروض الاضطرار - على مسلك الاقتضاء - وذلك لأنه في الآن الأول لحصول
العلم الاجمالي بنجاسة أحد الإناءين المرددة بين المحدودة والمستمرة - والا
فالنجاسة لا ترتفع بالاضطرار بلحاظ وجوب الاجتناب - وقبل عروض
الاضطرار، يتحقق التعارض بين الأصلين الجاريين في الطرفين، فيتساقطان، وبعد
عروض الاضطرار لا يمكن اجراؤه في الطرف الاخر، لان المفروض أنه أصل
واحد يجري حدوثا ويثبت الطهارة بقاء، وقد سقط بالمعارضة.
وإن التزم بالثاني، كان مقتضاه عدم منجزية العلم الاجمالي بعد عروض
الاضطرار، لان الأصل الجاري في الطرف الاخر بعد الاضطرار لا معارض له،
نعم تتحقق المعارضة قبل عروض الاضطرار لقابلية الطرفين لجريان الأصل
فيهما، إلا أن المفروض تعدد الأصول والتطبيقات في كل طرف بتعدد الآنات،
فتطبيق أصالة الطهارة بعد الاضطرار غير تطبيقها قبله، والتطبيق الساقط
بالمعارضة هو ما يكون قبل الاضطرار أما بعده فلا معارض لجريان الأصل في
الطرف الاخر، لعدم جريانها، في ما اضطر إليه.
هذا بحسب مقام الثبوت.
وأما بحسب مقام الاثبات: فالذي نختاره هو الاحتمال الثاني ضرورة ان
موضوع الحكم بالطهارة هو الشك ويراد به الشك الفعلي -، بمعنى الحاصل فعلا -
والحكم بالطهارة يكون بلحاظ آن الشك وظرفه، والحكم يتعدد بتعدد موضوعه.
وعليه فيتعدد الحكم بتعدد الشك، فكل شك في آن يكون موضوعا للحكم
بالطهارة.
وبالجملة: ظاهر الدليل فعلية الحكم بفعلية موضوعه، فلا يثبت الحكم
بالطهارة إلا مع فعلية الشك، فالحكم بالطهارة في ظرف بلحاظ الشك في ذلك
الظرف.
ولا مجال لدعوى إمكان الحكم فعلا بالطهارة للذات في الآن المستقبل
109

بلحاظ الشك الفعلي بالطهارة في الآن المستقبل، لأنه إذا زال الشك في الاذن
المستقبل يزول الحكم بالطهارة، وهو يكشف عن دخالته فيه.
كما لا مجال لدعوى أن موضوع الحكم الفعلي بالطهارة للذات في الآن
المستقبل هو الشك الفعلي المستمر، فإذا زال الشك يكشف عن عدم تحقق
موضوعه، لأنه إذا فرض حصول الشك في آن ولم يكن الشك في الآن الذي قبله
ثبت الحكم بالطهارة، مما يكشف عن أن الشك الفعلي تمام الموضوع للحكم
بالطهارة، وكما لا يجوز الحكم بالطهارة فعلا بالنسبة إلى الامر الاستقبالي، لذلك
لا يجوز الحكم بها بالنسبة إلى الامر السابق كما سيأتي التعرض إليه في تنبيه
الملاقاة للنجس فانتظر. وتدبر فإنه دقيق.
ثم إن ما ذكرناه في أصالة الطهارة يجري في أصالة الحل. وإن كان الامر
في أصالة الطهارة أظهر، لان جعل الطهارة فعلا للامر في الآن المستقبل فيه
محذور ثبوتي يضاف إلى عدم مساعدة دليل الاثبات عليه. وهو ان نسبة الطهارة
إلى متعلقها نسبة العنوان إلى المعنون فيستحيل جعلها للمعدوم.
بخلاف جعل الحلية فإنه يتصور تعلقها بالمعدوم من قبيل الوجوب
المعلق المتعلق بأمر استقبالي، إلا أن مقام الاثبات لا يساعد عليه كما بيناه.
وعلى هذا فمقتضى ما ذكرناه: هو انه بناء على الالتزام بالاقتضاء لا
يكون العلم الاجمالي منجزا بقاء بعد عروض الاضطرار لجريان الأصل في
الطرف الاخر بلا معارض.
وظهر مما ذكرناه ان ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) في مقام بيان
ما اختاره من بقاء العلم الاجمالي على صفة التنجيز بعد عروض الاضطرار، من
عدم جريان الأصل في الطرف الاخر بعد سقوطه بالمعارضة، لان الساقط لا يعود (1).

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 96 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
110

غير متين، لان الأصل الذي يجري في الطرف الاخر هو الأصل بلحاظ
حال ما بعد الاضطرار، وهو لا معارض له، وقد عرفت أنه أصل بنفسه غير
الأصل الجاري في مرحلة الحدوث الساقط بالمعارضة، فليس إجراء الأصل من
عود الساقط كي يقال: إن الساقط لا يعود.
ثم إنه جاء في الدراسات بعد الالتزام بعدم جريان الأصل، لان الساقط
لا يعود. الايراد على نفسه بأنه: لا مانع من اجراء الأصل بعد إطلاق الدليل
لجميع الحالات، غاية الامر ترفع اليد عنه بمقدار المعارضة، لان الضرورات تقدر
بقدرها، فإذا ارتفعت المعارضة لسقوط التكليف في أحد الأطراف لم يكن مانع
من التمسك باطلاق الدليل في الطرف الاخر.
وأجاب عنه: ان المحذور العقلي في اجراء الأصلين في كلا الطرفين، وهو
لزوم الترخيص في المعصية، كما يقتضي عدم شمول دليل الأصل لكلا الطرفين
في زمان واحد، يقتضي عدم شموله لها في زمانين.
وما نحن فيه كذلك، للعلم الاجمالي بحرمة أحد الإناءين المرددة بين
المحدودة والمستمرة، فهو يعلم إجمالا إما بحرمة هذا الاناء قبل الاضطرار إليه
أو بحرمة ذاك الاناء بعد الاضطرار إلى الطرف الاخر. فلا يمكن اجراء أصالة
الحل في كلا الطرفين لاستلزامه الترخيص في المعصية. لان الحكم بحلية هذا
الاناء فعلا لا يجتمع مع الحكم بحلية ذاك الاناء فيما بعد، بعد العلم الاجمالي بدوران
التكليف بينهما (1).
أقول: الوجه في تعارض الأصول المستلزم لتنجيز العلم الاجمالي من
حيث الموافقة القطعية، ليس هو مجرد استلزام جريانها الترخيص في المعصية، بل
بضميمة شئ آخر، وهو استلزام اجراء الأصل في أحدهما المعين الترجيح بلا

(1) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية 3 / 236 - الطبعة الأولى.
111

مرجح، فيقال: انه إذا جرى الأصل في كلا الطرفين، كان ذلك ترخيصا في
المعصية. وجريانه في هذا الطرف خاصة ترجيح بلا مرجح، وكذا جريانه في ذاك
الطرف خاصة. فيتحقق التعارض والتساقط.
وعليه، نقول: انه في آن ما قبل الاضطرار قد يدعى ان اجراء الأصل في
هذا الطرف لا يجتمع مع اجرائه في الأطرف الاخر، ولو بلحاظ ما بعد الاضطرار،
لاستلزامه الترخيص في المعصية وتعين أحدهما بلا معين. أما بعد عروض
الاضطرار فلا مانع من اجراء الأصل في الطرف الاخر. لعدم قابلية الطرف
الأول لاجراء الأصل فيه بعد تصرم وقته، فلا يلزم الترخيص في المعصية ولا
الترجيح بلا مرجح.
وبمثل هذا البيان تصدى القائل إلى رد المحقق النائيني، حيث ذهب إلى
معارضة الأصل في أحد الأطراف مع جميع الأصول الطولية في الطرف الاخر،
فتسقط جميعها، باعتبار أن المحذور هو جعل ما ينافي المعلوم بالاجمال، بلا خصوصية
للمتقدم رتبة من الأصول، فلا يصح التعبد بالأصول مطلقا.
فقد رده القائل بان المحذور في اجراء الأصول هو استلزام اجراء كلا
الأصلين الترخيص في المعصية، واجراء أحدهما في الطرف المعين يستلزم الترجيح
بلا مرجح.
وهذا لا يتأتى بالنسبة إلى مورد تعدد الأصول الطولية في طرف ووحدة
الأصل في الطرف الاخر، لان الأصل الطولي لا مجال له مع وجود الأصل المتقدم
عليه رتبة، فلا تتحقق المعارضة بينه وبين غيره، فيتحقق التعارض بدوا بين
الأصل السابق في الرتبة في هذا الطرف والأصل المنفرد في ذلك الطرف،
فيتساقطان فيبقى الأصل الطولي بلا معارض، فيعمل به ولا يكون من الترجيح
بلا مرجح.
فهو في ذلك المبحث نبه على هذه الجهة - أعني: تقوم المعارضة بضميمة
112

محذور الترجيح بلا مرجح إلى محذور الترخيص في المعصية -، ولكنه فيما نحن
فيه أغفلها تماما (1).
نعم لو التزم بالاحتمال الأول في مدلول دليل أصالة الطهارة تم ما ذكره
من المعارضة، لكنه خلاف التحقيق أولا وخلاف مبناه ثانيا، لظهور التزامه
بالمبنى الثاني من كلامه، لتعبيره بالحكم بالحلية في الزمان الاخر، الظاهر في أن
ظرف الحكم هو الزمان الاخر. فانتبه.
وجملة القول: انه على مسلك الاقتضاء يشكل الامر في كثير من الفروع
كالاضطرار إلى المعين أو الخروج عن محل الابتلاء أو فقدان بعض الأطراف، أو
تطهير بعض الأطراف، فان الأصل يجري في الطرف الاخر - في جميع ذلك -
بلا محذور ولا معارض. بل لو علم اجمالا بوجوب احدى الصلاتين إما لجمعة أو
الظهر، فجاء بالجمعة، صح له اجراء الأصل بالنسبة إلى الظهر، لعدم معارضته
بالأصل الجاري في الجمعة لاتيانه بها.
فهو قبل الاتيان بإحداهما وإن لم يتمكن من اجراء الأصل في كلا
الطرفين، لكنه بعد الاتيان بإحداهما يتمكن من ذلك لما عرفت. مع أن هذا من
الفروع المسلم فيها بقاء تنجيز العلم الاجمالي، كمسألة تطهير بعض الأطراف
أو فقدانه.
ويمكن ان يجعل هذا وجها من وجوه الاشكال على الالتزام بالاقتضاء،
وتعين القول بالعلية التامة فرارا عن الوقوع في ذلك.
هذا كله إذا كان الاضطرار إلى طرف معين.
وأما إذا كان الاضطرار إلى طرف غير معين.
فقد ذهب فيه صاحب الكفاية إلى: عدم تنجيز العلم الاجمالي سواء

(1) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية 3 / 230 - الطبعة الأولى.
113

حصل قبل العلم أم بعده، لان الاضطرار يستلزم الترخيص في أحد الأطراف
تخييرا، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم فعلا، لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال على
ما يختاره، فلا يعلم بثبوت التكليف الفعلي على كل تقدير (1).
وخالفه المحقق النائيني تبعا للشيخ (2) (رحمه الله)، فذهب إلى منجزية
العلم الاجمالي، لعدم تعلق الاضطرار بالحرام، لأنه لو فرض علمه التفصيلي
بالحرام لم ترتفع حرمته بالاضطرار وبما جاز له ارتكابه.
وعليه، فللمكلف ارتكاب أحد الأطراف رفعا للاضطرار. وأما الطرف
الاخر فيلزمه اجتنابه للعلم الاجمالي الذي ترفع اليد عن تأثيره بمقدار
الضرورة. وهو ما أسماه بالتوسط في التنجيز (3).
وتحقيق الكلام بوجه يتضح به الحق وتزول به بعض الشبهات، هو انه
تارة: يقال بان العلم الاجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة
القطعية، بحيث ينافيه الترخيص في بعض الأطراف. وأخرى: يقال بأنه بالنسبة
إلى الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء فلا يمتنع الترخيص في بعض أطرافه، وإنما
تثبت الموافقة القطعية من جهة تعارض الأصول.
فعلى مسلك العلية التامة: لا اشكال في سقوط العلم الاجمالي عن
المنجزية، لان الاضطرار إلى أحد الامرين يستلزم الترخيص في أحدهما، وهو ما
يختاره المكلف رافعا للاضطرار، إما ترخيصا شرعيا واقعيا أو ظاهريا أو ترخيصا
عقليا. وعلى جميع التقادير - التي سيأتي البحث فيها مفصلا - يسقط العلم عن
التنجيز.
أما إذا كان الترخيص شرعيا واقعيا أو ظاهريا، فلعدم اجتماعه مع

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 360 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 254 - الطبعة الأولى.
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 242 - الطبعة الأولى.
114

الحرمة، لا يكون العلم متعلقا بالتكليف الفعلي على كل تقدير، لاحتمال ان
تكون الحرمة فيما يختاره، وهي مرتفعة على الفرض.
وأما إذا كان الترخيص عقليا فلمنافاته حسب الفرض مع منجزية العلم
الاجمالي، إذ المفروض انه بنحو العلة التامة الذي ينافيه الترخيص في بعض
أطرافه فلو ثبت الترخيص عقلا كما فيما نحن فيه، فلا بد من الالتزام بعدم كونه
منجزا إما لقصور الحكم المعلوم أو عدم كونه منجزا بعد وجود المؤمن العقلي.
فتدبر.
وأما على مسلك الاقتضاء: فقد تقدم انه لا مانع من الترخيص الظاهري
في بعض الأطراف، فيبقى العلم منجزا بالنسبة إلى الطرف الاخر. نعم لا يصح
الترخيص في كلا الطرفين لأنه مستلزم للمخالفة القطعية.
وعليه، نقول: انك عرفت أن الاضطرار إلى أحد الامرين يستلزم
الترخيص في ارتكاب أحدهما رفعا للاضطرار، فإن كان الترخيص عقليا أو
شرعيا ظاهريا لم يمنع من منجزية العلم الاجمالي، لعدم منافاته له بحال، إذ هو لا
يصادم تأثيره بالنسبة إلى المخالفة القطعية، لان الترخيص في أحدهما لا يتنافى
مع حرمة ارتكابهما معا، كما لا يخفى جدا.
وأما بالنسبة إلى الموافقة القطعية فالمفروض انه ليس علة تامة لها، ولا
يمنع من الترخيص في عدمها، فلا ينافيه الترخيص في أحدهما لاجل الاضطرار،
فعدم اخلال الاضطرار بمنجزية العلم واضح جدا.
وأما إذا كان الترخيص شرعيا واقعيا، فبما انه يتنافى مع حرمة ذلك
الطرف واقعا ولا يجتمع معها كالحلية الظاهرية، فالعلم الاجمالي يسقط عن
المنجزية، لاحتمال كون الحرام هو ما يختاره المكلف المفروض ارتفاع حرمته،
فلا يكون العلم متعلقا بحكم فعلي على كل تقدير، إذ أحد التقديرين لا حكم فيه.
ولأجل اختلاف الحال باختلاف نحو الترخيص الثابت في المقام، لا بد
115

من تحقيق الحال في ذلك.
فنقول: إن الدليل المتوهم دلالته على اثبات الحلية شرعا في مورد
الاضطرار هو قوله (عليه السلام): " ما من شئ حرمه الله إلا وأحله في حال
الضرورة " (1).
وهذا الكلام يحتمل - ثبوتا - وجهين:
الأول: أن يكون في مقام بيان ان الضرورة لها اقتضاء للحلية وتأثير فيها،
حتى في الموارد التي يكون فيها مفسدة شديدة تقتضي الحرمة، فيدل على ثبوت
الحلية في موارد الاضطرار الأخرى التي ليست متعلقا للحرمة بالأولوية ومفهوم
الموافقة.
الثاني: أن يكون في مقام بيان مانعية الاضطرار عن تأثير مقتضى الحرمة،
وان مقتضى الحرمة لا تأثير له في مورد الاضطرار، فلا يكون متكفلا سوى
ارتفاع الحرمة في مورد الاضطرار، لا جعل الإباحة والحلية كما هو مقتضى الوجه
الأول.
ولا يخفى أن الاضطرار فيما نحن فيه لم يتعلق بنفس الحرام، لان الحرام
هو أحدهما المعين واقعا، وهو مما لم يتعلق به الاضطرار، وانما تعلق بالجامع بين
الطرفين وهو أحدهما بلا خصوصية أصلا، الذي يقبل أن ينطبق على كل منهما.
وعلى هذا فإذا كان مدلول الرواية هو الوجه الأول كان الاضطرار إلى
الجامع مشمولا له، لأنه يتكفل جعل الحلية لكل ما يضطر إليه المكلف، ولو لم
يكن في نفسه حراما، فتثبت الحلية شرعا للجامع.
فيقع الكلام بعد ذلك في أن الحلية السارية من الجامع إلى الفرد الذي

(1) وسائل الشيعة: 16 / 137 باب 12 من كتاب الايمان حديث: 18.
عن أبي عبد الله عليه السلام:... وقال: ليس شئ مما حرم الله الا وقد أحله لمن اضطر إليه.
ومثله في 4 / 690 باب 1 من أبواب القيام حديث 6 و 7.
116

يختاره المكلف، هل هي حلية واقعية أو ظاهرية؟.
وأما إذا كان مدلول الرواية هو الوجه الثاني، لم يكن الاضطرار إلى
الجامع مشمولا له، لعدم كونه اضطرارا إلى الحرام كي يتكفل رفع الحرمة عنه،
نعم يذهب العقل إلى جواز دفع الاضطرار بأحدهما والأمان من العقاب لو
صادف الحرام واقعا، للجزم بعدم الفرق بين هذا المورد من الاضطرار وبين سائر
الموارد المحرمة في أنفسها والتي يتعلق بها الاضطرار، لكن لا يثبت فيما نحن فيه
أكثر من الترخيص عقلا الذي لا يتنافى مع ثبوت الحرمة الفعلية واقعا.
ولأجل ذلك لا يختل تنجيز العلم الاجمالي بالنسبة إلى المخالفة القطعية
كما عرفت، لأنه لا يخرج عن كونه علما بالتكليف الفعلي على كل تقدير المستلزم
لحرمة المخالفة القطعية، فلا يصح اجراء الأصل في الطرف الاخر، لأنه وإن لم
يكن بلا معارض، لكنه مستلزم للترخيص في المخالفة القطعية للمعلوم بالاجمال.
هذا بحسب مقام الثبوت.
وأما بحسب مقام الاثبات، فالمختار في مدلول النص المزبور هو الوجه
الثاني، وهو تكفله لبيان مانعية الاضطرار من تأثير مقتضى الحرمة، وانه لا حرمة
عند الاضطرار بلا تكفل لجعل الحلية في مورده.
وذلك لظهور هذا المعنى من الدليل المزبور، فان ظاهره ان الحرمة
الثابتة للشئ ترتفع عند الضرورة، وان المكلف في حل منها بعد أن كان مقيدا،
والوجه الأول خلاف الظاهر جدا.
ويشهد لما استظهرناه هو: تطبيق هذه الكبرى الكلية في موارد وجوب
الاقدام على ما هو الحرام لاجل الضرورة، وعدم جواز تركه كبعض موارد التقية،
وموارد حفظ النفس من الهلاك. ومن الواضح انه لا معنى لتطبيق جعل الإباحة
في تلك الموارد، وانما المناسب هو بيان ارتفاع الحرمة الذي يتلاءم مع الوجوب
واقعا.
117

وعلى هذا، فلا يثبت في مورد الاضطرار إلى غير المعين سوى الترخيص
العقلي، لعدم الاضطرار إلى ما هو الحرام واقعا كي ترتفع حرمته بواسطة هذا
النص.
وقد عرفت أن مقتضى الترخيص العقلي هو الالتزام بالتوسط في التنجيز،
لعدم منافاة الترخيص في بعض الأطراف لمنجزية العلم الاجمالي على مسلك
الاقتضاء.
ولذا لم يكن الاشكال في جريان الأصل في أحدهما بنحو التخيير ثبوتيا
بل إثباتيا، فيبقى العلم الاجمالي منجزا بالنسبة إلى الطرف الاخر لان اجراء
الأصل فيه مستلزم للترخيص في المخالفة القطعية وهي محرمة.
ثم إنه لو التزمنا بان دليل رفع الاضطرار يتكفل جعل الحلية شرعا - كما
هو مقتضى الوجه الأول -، كان الاضطرار إلى الجامع مستلزما الحلية له
شرعا، وحينئذ تثبت لاحد الطرفين، وهو ما يختاره المكلف رفعا للاضطرار باعتبار
سراية الحكم من الجامع إلى افراده. فان الحلية وان تعلقت بالجامع لأنه مورد
الاضطرار دون الفرد الخارجي، لأنه غير مورد الاضطرار، لكن تطبيق الجامع
على فرد في الخارج يستلزم اتصاف الفرد بالحلية، لان الحكم لا يتعلق بالجامع بما
هو هو، بل بلحاظ وجوده وبما هو سار في أفراده، نظير اتصاف الفرد الخارجي
للصلاة بالوجوب مع تعلق الوجوب بالطبيعي لا بالفرد، لكن الفرد الذي يتحقق
به الامتثال يقع على صفة الوجوب كما لا يخفى.
وعليه، فيقع الكلام في أن الحلية الثابتة للفرد واقعية أو ظاهرية..
أما كونها واقعية، فلأجل ان الحلية الثابتة للجامع حلية واقعية، والمفروض
انها تسري إلى الافراد كما عرفت، فتكون الحلية الثابتة للفرد واقعية.
ولكن الصحيح كونها ظاهرية، لان الحرام الواقعي لم يتعلق به الاضطرار
كما هو الفرض وإنما تعلق بالجامع، فلو فرض العلم التفصيلي بما هو الحرام لم
118

ترتفع حرمته ولم يجز له دفع الاضطرار به، بل يتعين عليه اختيار الفرد الاخر،
فثبوت الحلية لاي من الفردين شاء - مع حرمة أحدهما واقعا - المكلف ناشئ
من جهل المكلف بما هو الحرام واقعا، فالحلية الثابتة يكون الجهل دخيلا في
ثبوتها، وهو معنى الحلية الظاهرية، إذ الحكم الظاهري ما كان الجهل بالواقع
مأخوذا فيه.
وأما ما أفاده المحقق النائيني - كما في تقريرات الكاظمي - في تحقيق هذه
الجهة من أن الاضطرار والجهل دخيلان في ثبوت الحلية، فلا بد من
تشخيص الجزء الأخير من العلة التامة لثبوت الحكم، فهل هو الاضطرار أم
الجهل؟ فإن كان الجزء الأخير الذي تترتب عليه الحلية بلا فصل هو الاضطرار
كانت الحلية واقعية وان كان الجزء الأخير هو الجهل كانت الحلية ظاهرية (1).
فهو غير صحيح، لان مجرد أخذ الجهل بالواقع في موضوع الحكم يقتضي
كونه ظاهريا، سواء كان جزء أخيرا أم لا، فان ذلك ليس بذي اثر. فما أفاده وان
كان ذا صورة علمية، لكنه لا واقع له.
هذا، ولكن الحق هو ان الجهل ههنا لم يؤخذ في موضوع الحكم شرعا
وسابقا في الرتبة عليه، بل هو في مرتبة نفس الحكم، وذلك لأنك عرفت أن الحرمة
الواقعية مع العلم بها تمنع من سراية الحلية من الجامع إلى الفرد الحرام، بل يتعين رفع
الاضطرار بالفرد الاخر، لعدم امكان اجتماع الحكمين المتضادين. أما مع الجهل
بالحرام، فلا تكون الحرمة مانعة من تعلق الحلية بالفرد إذا صادف اختيار المكلف
له، وهذا يقتضي أن يكون اثر الجهل هو نفس اثر عدم الحرمة واقعا، لأنه يرفع
مانعية الحرمة من ثبوت الحلية. ومن الواضح ان مانعية الحرمة وتأثير عدم
الحرمة انما هي في رتبة نفس الحكم بالحلية وليس في رتبة موضوعه، فيكون في رتبة

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4 / 106 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
119

نفس الحكم ويلحظ مقارنا له، نظير عدم الضد المأخوذ في رتبة نفس الضد
الاخر، كعدم الحرمة المأخوذ في ثبوت الحكم بالوجوب.
ولكن هذا المعنى لا يمنع من كون الحكم ظاهريا، بل يكون نظير الحكم
الظاهري في باب الامارات، لان الجهل لم يؤخذ في موضوعه، بل أخذ بنحو
الموردية كما هو مذكور في محله فراجع (1).
ثم إن الثمرة المتوخاة من تحرير هذه الجهة هو ما أشرنا إليه في صدر
البحث من: انه لو كانت الحلية الثابتة واقعية كانت مستلزمة للاخلال في منجزية
العلم الاجمالي، لاحتمال مصادفة ما اختاره الحرام الواقعي فترتفع حرمته الواقعية
لعدم اجتماعها مع الحلية الواقعية لمكان التضاد.
وحينئذ فلا يكون لديه علم بتكليف فعلي على كل تقدير، فلا يكون
منجزا.
أما إذا كانت الحلية ظاهرية فهي تجتمع مع الحرمة الواقعية ولا تنافي مع
فعليتها - على مسلك الاقتضاء -، فلا تستلزم انحلال العلم الاجمالي، بل يكون
منجزا بالنسبة إلى المخالفة القطعية، نظير الترخيص الظاهري في أحد الطرفين
بدليل الأصل، بناء على القول بالتخيير.
وبالجملة: مع كون الترخيص ظاهريا يكون حاله حال اجراء الأصل في
أحد الطرفين غير مصادم للعلم الاجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير، لعدم
منافاة الحكم الظاهري لفعلية الواقع على القول بالاقتضاء، ولذا لم يمنع من
صحة الترخيص في أحد الأطراف.
هذا ولكن التحقيق: ان الحلية الثابتة فيما نحن فيه وان كان الجهل دخيلا
في ثبوتها - موضوعا أو موردا -، لكنها ليست على حد الحلية الظاهرية - في

(1) راجع مبحث تعارض الامارات مع الأصول في أواخر الاستصحاب.
120

الاصطلاح - غير المنافية مع الواقع، بل هي تصادم الواقع أيضا فتستلزم عدم
منجزية العلم الاجمالي.
وذلك أما على المسلك القائل بمنافاة الترخيص الظاهري الثابت بأصالة
الحل لفعلية الواقع، واستلزامه قصور فعلية الواقع - كما هو مسلك الكفاية وتقدم
تقريره وتقريبه -، فالامر فيما نحن فيه واضح.
وأما على مسلك المحقق النائيني من عدم منافاة الحكم الظاهري لفعلية
الواقع، فلان الترخيص الظاهري الذي لا ينافي الواقع وفعليته هو الترخيص
الثابت بعنوان التعذير عن الواقع، ورفع الحيرة من جهته، والترخيص الثابت
فيما نحن فيه ليس كذلك.
والوجه الذي يذكر في تصحيح الجمع بين الترخيص الظاهري وفعلية
الواقع لا يتأتى في مثل الترخيص الثابت فيما نحن فيه، فراجع تعرف.
والذي يتلخص انه على مسلك الاقتضاء نلتزم بالتوسط في التنجيز
بالبيان المتقدم المرتكز على ما قربناه من عدم ثبوت أكثر من الترخيص العقلي.
وأما لو التزم بثبوت الحلية الشرعية - واقعية كانت أو ظاهرية -، فلا بد من
الالتزام بعدم منجزية العلم الاجمالي، لعدم كونه علما بحكم فعلي على كل
تقدير. فتدبر جيدا.
ويحسن بنا ان نتعرض بعد هذا إلى بعض ما أفاده المحقق النائيني (رحمه
الله) في المقام، والمهم منه نقاط ثلاث:
الأولى: ما أفاده في مقام تقريب التوسط في التنجيز من: ان الاضطرار
يقتضي رفع التكليف عما يرفع به الاضطرار. وأما الطرف الاخر، فهو باق على
حكمه ولا موجب للترخيص فيه، فلا بد من الاجتناب عنه لعدم المؤمن عقلا
ولا شرعا (1).

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 101 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
121

وهذا البيان لا يخلو عن قصور، فان اللازم بيان الوجه في عدم جريان
البراءة في الطرف الاخر مع عموم دليلها وعدم المعارض، وهي صالحة للتأمين لو
جرت. فلا بد ان يضيف إلى ما ذكره ان اجراء البراءة في الطرف الاخر يستلزم
الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم. فتدبر جيدا.
الثانية: ما أفاده في مقام رد صاحب الكفاية في التزامه بان الترخيص في
بعض الأطراف تخييرا ينافي فعلية الحكم، فيستلزم عدم منجزية العلم الاجمالي،
لعدم تعلقه بالتكليف الفعلي على كل تقدير. فقد ذكر في رده بأن فعلية الحكم
تدور مدار وجود موضوعه، وموضوع التكليف في مورد الاضطرار إلى غير المعين
موجود على كل حال، لعدم وقوع الاضطرار على موضوع التكليف للتمكن من
رفعه بغيره. إذن فالاضطرار إلى غير المعين لا يستلزم انتفاء موضوع التكليف بما
له من القيود الوجودية والعدمية، فيكون الحكم فعليا، فلا يكون الترخيص
منافيا لفعلية الواقع بهذا المعنى.
نعم الفعلية بمعنى آخر - كما هو مبناه - ينافيها الترخيص، وهي كون
المولى بصدد تحصيل مراده بأي وجه اتفق ولو برفع الجهل تكوينا أو ايجاب
الاحتياط تشريعا، فان الترخيص يتنافى مع هذا المعنى من الفعلية كما لا يخفى.
لكن دعوى كون الحكم الفعلي عبارة عن وصول الحكم إلى هذه المرتبة
ضعيفة، لعدم كون رفع الجهل من وظيفة الشارع، بل وظيفته هو انشاء الحكم
على الموضوع المقدر الوجود، فيكون الحكم فعليا بفعلية موضوعه خارجا (1).
أقول: قد تقدم في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بيان ان
مراد صاحب الكفاية من الحكم الفعلي هو المعنى الأول، وهو وصول الحكم إلى
مرحلة البعث والزجر لا المعنى الثاني، ولكنه يلتزم هناك ان الترخيص الظاهري

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4 / 100 - 101 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
122

يتنافى مع فعلية الواقع ويستلزم قصورها (1).
فما أفاده هنا ليس أمرا جديدا، بل هو يبتني على ما نقحه هناك، وقد تقدم
منا تقريبه واختياره. فلا إيراد عليه على مبناه، والحكم على كلامه هنا بأنه واضح
الفساد ليس على ما ينبغي.
الثالثة: ما أفاده تحت عنوان: " كشف القناع " في مقام بيان ان مقتضى
الاضطرار إلى غير المعين هو التوسط في التكليف - بمعنى ثبوت التكليف
الواقعي على تقدير وعدم ثبوته على تقدير آخر -، أو التوسط في التنجيز، بمعنى
بلوغ التكليف إلى مرتبة التنجيز على تقدير دون آخر، مع ثبوت الحكم الواقعي
على كل تقدير. فقد أفاد (قدس سره) ان الاضطرار إلى المعين يقتضي التوسط
في التكليف، لكون الترخيص واقعيا رافعا للحرمة الواقعية لو صادفها
الاضطرار.
أما الاضطرار إلى غير المعين، فتعيين أحد الوجهين فيه يتوقف على تعيين
كون الحلية الثابتة ظاهرية أو واقعية، فان كانت ظاهرية كان الاضطرار مقتضيا
للتوسط في التنجيز، لعدم منافاة الترخيص الظاهري مع فعلية الواقع، وإن
كانت واقعية كان الاضطرار مقتضيا للتوسط في التكليف لمنافاتها للحرمة
الواقعية. ثم استقرب ان تكون الحلية واقعية - بعد بنائه ذلك على كون
الاضطرار هو الجزء الأخير لعلة الترخيص، أم الجهل الذي تقدم الحديث عنه
والخدشة فيه -. ورتب على ذلك اختيار التوسط في التكليف. ثم ذكر المقرر
عدول أستاذه في فذلكة البحث عن ذلك، واختيار الترخيص الظاهري والتوسط
في التنجيز، وذكر بعد ذلك أنه لا ثمرة تترتب على الوجهين (2).

(1) راجع 4 / 144 من هذا الكتاب.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 104 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
123

أقول: التوسط في التكليف لا نتصوره فيما نحن فيه، لان لازمه هو عدم
منجزية العلم الاجمالي، لأنه لم يتعلق بالحكم الفعلي على كل تقدير.
ودعوى: ان الاضطرار وان كان سابقا على العلم، لكن الحلية لا تتعلق
بأحد الفردين إلا حين ارتكابه، لأنه زمان دفع الاضطرار، فالحلية لا تثبت عند
الاضطرار، بل عند دفعه باختيار أحد الفردين، فيكون الحال فيه كالاضطرار
إلى المعين بعد العلم الاجمالي، لان الحلية وارتفاع الحرمة بعد العلم وان كان
الاضطرار سابقا عليه، لما عرفت من أن الاضطرار إلى غير المعين ليس اضطرارا
إلى الحرام نفسه. نعم يجوز دفع الاضطرار بأي طرف شاء، فالحلية تثبت حين
دفع الاضطرار لا قبله.
فاسدة: لان ارتفاع الحرمة وثبوت الحلية في ظرف العمل يقتضي لغوية
ثبوت الحرمة من أول الامر، لعدم تأثيرها في الزجر عن الفعل أصلا، ولازم ذلك
ارتفاع الحرمة من أول الامر، فلا يتعلق العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير،
فيكون ما نحن فيه نظير الاضطرار إلى المعين قبل حصول العلم الاجمالي. فتدبر
جيدا.
هذا كله إذا كان الاضطرار إلى غير المعين سابقا على العلم.
وأما إذا كان متأخرا عنه..
فعلى القول بالعلية التامة: ان التزم باقتضاء الاضطرار إلى غير المعين
للترخيص العقلي فقط، يبقى العلم الاجمالي منجزا كما كان بالنسبة إلى الطرف
الاخر، كما تقدم تقريبه في الاضطرار إلى المعين المتأخر عن العلم. وان التزم
باقتضائه جعل الحلية شرعا للجامع، كان اللازم القول بانحلال العلم الاجمالي
بقاء، لان حلية الجامع بما هو جامع تسري إلى كلا الفردين فيكون كل منهما
حلالا واقعا، لامتناع حلية الجامع بما هو جامع، والملحوظ فيه جهة السراية إلى
الخارج مع حرمة أحد أفراده، فيزول العلم بالتكليف بالمرة.
124

وبذلك يختلف حال الاضطرار إلى غير المعين، وحال الاضطرار إلى المعين
إذ لا يتأتى هنا العلم الاجمالي التدريجي.
وعلى القول بالاقتضاء، فالكلام فيه نفس الكلام فيما إذا كان سابقا على
العلم من كونه منجزا لو التزم بثبوت الترخيص العقلي، وارتفاع منجزيته لو التزم
بثبوت الترخيص شرعا. فلاحظ وتأمل جيدا والله سبحانه العاصم الموفق وهو
حسبنا ونعم الوكيل.
التنبيه الثاني: فيما إذا كان أحد أطراف العلم الاجمالي خارجا عن محل
الابتلاء عادة. والمهم في هذا الامر هو تحقيق مانعية الخروج عن محل الابتلاء
من فعلية التكليف.
وأما أثر ذلك في منجزية العلم الاجمالي، فهو واضح لا يحتاج إلى بيان،
فإنه إذا ثبت ان الخروج عن محل الابتلاء يمنع من فعلية التكليف، كان الحال
فيه هو ما ذكر في الاضطرار إلى المعين بلا اشكال.
وعليه، فلا بد من صرف الكلام إلى ما هو المهم فيه، فنقول: ذهب الشيخ
(رحمه الله) إلى أن الفعل إذا كان خارجا عن محل ابتلاء المكلف عادة، لم يصح
تعلق التحريم به (1)، فلا يصح الامر بالاجتناب عن النجس أو الخمر الموجود في
أقاصي بلاد الهند أو الصين.
وظاهره تخصيص الشرط بالمحرمات. وقد صرح بذلك المحقق النائيني -
كما في تقريرات الكاظمي - فذهب إلى: ان الامر بالفعل الخارج عن محل
الابتلاء لا محذور فيه، إذ قد تكون فيه مصلحة ملزمة تستدعي الامر به وتحصيل
مقدماته البعيدة الشاقة، لان المفروض هو القدرة عليه عقلا (2).

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 251 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 51 - 52 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
125

وخالفه في ذلك المحقق العراقي، فذهب إلى استهجان الامر بمثل ذلك،
كالامر المتوجه إلى سوقي فقير بتزويج بنات الملوك، أو بالأكل من طعام الملك
الموضوع قدامه (1).
والذي يبدو لنا: ان الامر اختلط على المحققين (قدس سرهما) فان
الفرض في الامر لا بد أن يكون على عكس الفرض في النهي، فإذا كان موضوع
البحث في النهي هو خروج الفعل عن محل الابتلاء، بحيث يكون المكلف تاركا
له بحسب العادة، فلا بد ان يفرض موضوع البحث في الامر هو خروج الترك
عن محل الابتلاء، بحيث يكون الفعل قهري الحصول عادة كخروج التاجر
إلى دكانه يوميا أو اعطاء الوالد الشفيق الدواء لولده المريض الذي يحبه ونحو
ذلك.
فالفرض الذي اختلف فيه المحققان - والذي نؤيد فيه المحقق النائيني -
ليس فرضا للمقام، بل فرض المقام هو ما ذكرناه، فإنه يتأتى فيه البحث كما
يتأتى في فرض النهي بلا اختلاف.
وقد أشار إلى عطف الواجبات - بالفرض الذي ذكرناه - على المحرمات
صاحب الكفاية في حاشيته على متن الكفاية (2).
كما تنبه المرحوم الكاظمي إلى ما يرد على أستاذه من الايراد الذي تقدم،
فأشار إلى ذلك في حاشية مختصرة وجيزة فراجع (3).
ثم إن الامتناع.
تارة: يكون عقليا، ويقابله القدرة العقلية، وهي مما لا شبهة في اعتبارها

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 339 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 361 هامش رقم 1 - طبعة مؤسسة آل البيت
(ع).
(3) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 52 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
126

في التكليف.
وأخرى: يكون عاديا ويراد به هو امتناع الفعل عقلا بحسب الوضع
العادي للانسان، وان كان الفعل ممكنا عقلا بطريقة غير عادية، وذلك كالطيران
إلى السماء. وهذا ما أرجعه صاحب الكفاية إلى الامتناع العقلي والقدرة
العقلية (1). وهي بحكم النحو الأول.
وثالثة: يكون عاديا بمعنى ما لا يلتزم به خارجا بحسب العادة، كالخروج
إلى السوق بلا نعل، وهذا لا يمنع من التكليف قطعا.
وجميع ذلك ليس محل كلامنا، بل محل الكلام فيما نحن فيه هو: ما كان
الفعل لا يتحقق من المكلف عادة لعدم ابتلائه به، مع امكان ان يصدر منه عقلا،
كشرب الماء في الاناء الموجود في أقاصي الهند.
ويصطلح على اعتبار الدخول في محل الابتلاء باعتبار القدرة العادية.
وقد وقع الكلام في اعتبارها في التكليف. فذهب الشيخ (2) وتبعه غيره (3)
إلى اعتبارها فيه.
وقد اختلف التعبير عن بيان وجه الاعتبار، فامتناع التكليف بغير ما هو
محل الابتلاء.
والعمدة فيه هو اللغوية الواضحة المعبر عنها في بعض الكلمات بالاستهجان
العرفي، إذ الغرض من التكليف هو ايجاد الداعي إلى الفعل أو الترك، وهذا
المعنى لا يتحقق فيما إذا كان الفعل خارجا عن محل الابتلاء كما لا يخفى.
وقد وقع الخلط بين ما نحن فيه وبين بعض الموارد، فتخيل البعض سراية
هذا الاشكال إلى موردين.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 92 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 251 - الطبعة الأولى.
(3) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 50 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
127

أحدهما: تكليف العصاة.
والاخر: في الواجبات التوصلية التي تصدر من المكلف بحسب طبعه
بداع آخر.
وذلك ببيان: ان التكليف وإن كان هو عبارة عن جعل ما يمكن أن يكون
داعيا أو زاجرا، إلا أن الغرض الأقصى منه هو تحقق الداعوية والزاجرية،
بحيث يكون له تأثير فيهما، وإلا كان لغوا محضا.
فمع العلم بعدم تحقق الداعوية أو الزاجرية يمتنع جعل التكليف، ومورد
العصاة كذلك للعلم بعدم انزجارهم بالنهي وتحركهم بالأمر. فيكون تكليفهم
لغوا. وهكذا في الواجبات التوصلية التي يكتفي فيها بمجرد الفعل، إذا علم
بتحقق الفعل من المكلف بداع آخر، فان التكليف في مثل ذلك لا يترتب عليه
غرضه الأقصى من التحريك نحو الفعل، فيكون لغوا. ولا يخفى ان اللغوية
المدعاة ههنا هي لغوية دقية لا عرفية، ولذا لا يتخيل أحد من العرف استهجان
تكليف العاصي ونحوه (1).
وعلى كل حال، فتحقيق الكلام في هذين الموردين ان يقال:
أما مورد العصيان: فلا يخفى ان الغرض الأقصى من الشئ ليس غرضا
فلسفيا، بحيث يكون من علل الشئ الذي يوجب تخلفه تخلف المعلول، بل هو
فائدة وأثر الشئ، فهو غرض عرفا.
وعليه، فمجرد احتمال ترتبه على الفعل يكفي في صحة الفعل والاقدام
عليه، بل أعمال العقلاء جلا تبتني على احتمال ترتب الفوائد عليها، كتصدي
التجار للبيع، فإنه لا يقطع بتحقق البيع أو الربح، مع إقدامهم عليه وليس هو
إلا من جهة كفاية احتمال الفائدة.
ففي مورد العصاة إذا احتمل الامتثال كفى ذلك غرضا أقصى للتكليف.
ومع عدم احتماله والعلم بعدم امتثال الأمر والنهي يمكن ان يقال بان
128

فائدة التكليف والغرض الأقصى منه هو القاء الحجة وقطع العذر، ليهلك من
هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. نظير التاجر الذي يتصدى للبيع، وهو
يعلم بعدم تحقق الربح أو البيع دفعا لملامة الناس ونسبة الخمول والكسل إليه.
وأما مورد الواجبات التوصلية فيكفي في رفع اللغوية احتمال صدور
الفعل عن التكليف.
نعم، في المورد الذي يعلم بصدوره بداع آخر لا بداعي الامتثال، لا
مناص من الالتزام بعدم صحة الوجوب، لأنه لغو لا أثر له.
ودعوى: ان الغرض من التكليف تكميل النفوس الحاصل بالاتيان
بالفعل بقصد الامتثال والإطاعة الموجبة لقرب العبد من مولاه. وحينئذ يمكن
ان تكون فائدة التكليف التوصلي في الغرض المزبور هو تمكين المكلف من
الاتيان به بداع الامر الموجب لكمال النفس وتطهيرها.
مندفعة: بان الغرض الملزم في الواجبات التوصلية ليس إلا ما يترتب على
الفعل ذاته من مصلحة، والمفروض ان ذلك يتحقق ولو لم يكن أمر.
أما الاتيان بالفعل بداعي الامر، فهو لم يصل إلى حد الالزام في
الواجبات التوصلية، بحيث يكون منشئا للإيجاب، ولذا كان الواجب توصليا لا
عباديا. فالتفت.
ولا يخفى عليك ان ما ذكر في حل الاشكال في هذين الموردين لا يتأتى
فيما نحن فيه، وهو ما إذا كان الفعل خارجا عن محل الابتلاء، فان التكليف لا
فائدة فيه أصلا لعدم ترتب الداعوية عليه، ولا ترتب غيرها من الفوائد.
ولأجل ذلك يكون التكليف مستهجنا عرفا.
فالوجه في امتناع التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء هو
الاستهجان العرفي المسبب عن لغويته وعدم الأثر له.
وقد ذهب المحقق الأصفهاني (قدس سره) إلى: عدم صلاحية
129

الاستهجان العرفي لمنع ثبوت التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء، لعدم
ارتباط حقيقة التكليف بالعرف بما هم أهل العرف. وليس الكلام في مفهوم
الخطاب كي يكون المرجع فيه هو العرف كما تقرر، بل الكلام في واقع التكليف
وصحته ثبوتا فلا مسرح لنظر العرف (1).
وفيه:
أولا: ان الاستهجان العرفي المدعى ههنا لا يرجع إلى تحكيم نظر العرف
المبنى على المسامحة كي لا يعتمد عليه، بل المحذور المدعى هو لغوية التكليف،
وهي من الواضح بنحو يدركها العرف فيستهجن ثبوت التكليف. فالاستهجان
العرفي راجع إلى وضوح اللغوية لدى الجميع، والعمل اللغو مستهجن من
الحكيم، في قبال اللغوية التي لا تدرك إلا بالدقة، كاللغوية المدعاة في تكليف
العصاة.
وبالجملة: المحذور فيما نحن فيه عقلي يلتفت إليه الجميع. فالتفت.
وثانيا: ان التكليف إذا كان مستهجنا عرفا يكفي ذلك في امتناع ثبوته
وتوجهه إلى عامة الناس، لأنهم لا يؤمنون بصدوره مع بنائهم على أنه مستهجن،
فلا يصلح الداعوية أصلا، والمفروض ان من يتوجه إليه التكليف هو الجميع.
وأما ما جاء في الدراسات في مقام نفي اعتبار الدخول في محل الابتلاء،
وعدم اعتبار أزيد من القدرة العقلية، من: ان الغرض من التكليف الشرعي
ليس مجرد حصول متعلقه فعلا أو تركا كالتكليف العرفي، بل الغرض منه هو
تكميل النفوس البشرية بجعل التكليف داعيا للعبد إلى الفعل أو الترك،
فيحصل له القرب من مولاه ويرتفع مقامه (2).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 253 - الطبعة الأولى.
(2) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية 3 / 254 - الطبعة الأولى.
130

ففيه: ان هذا لو تم، فإنما يتم في خصوص الواجبات دون المحرمات، إذ
الفعل المحرم إذا كان خارجا عن محل الابتلاء بنحو لا تحدثه نفسه بارتكابه لم
يصلح النهي لزجر المكلف عنه وصرفه عن ارتكابه، إلا بعد تصدي المكلف
لا يجاد الرغبة النفسية في فعله، كي ينصرف عنه ببركة النهي الشرعي، فلو كان
الغرض من النهي ما ذكر، للزم في مثل هذه الحال على المكلف ايجاد الرغبة إلى
فعل المحرم وتهيئة مقدماته، ثم ينصرف عنه بزاجرية النهي.
وهذا لا يمكن أن يتفوه به، فان ايجاد مقدمات الحرام بما هي مقدمات له
مرجوح، بل ثبت تحريم بعضها نفسيا كمقدمات عمل الخمر.
هذا مع عدم تماميته في الواجبات التوصلية كما عرفت. فراجع.
وجملة القول: انه لا اشكال في عدم صحة التكليف في مورد الخروج عن
محل الابتلاء وجوبيا كان أو تحريميا للاستهجان العرفي، الذي تقدم بيانه.
والمراد بالخروج عن محل الابتلاء المانع من التكيف ليس كون الشئ
خارجا عنه فعلا بحيث لا ابتلاء للمكلف به بحسب وضعه الفعلي، بل هو كون
الشئ خارجا عن ابتلائه بحسب العادة بنحو لا يكون في معرض الدخول في
محل الابتلاء عادة.
فمثل الاناء في بيت جاره وإن لم يكن محل ابتلائه فعلا، لأنه لا يرفع
احتياجه بشرب ماء جاره، بل بشرب ماء داره، ولكنه في معرض كونه في محل
الابتلاء عادة، لحصول التزاور بين الجيران، ففي مثل ذلك لا يمتنع التكليف،
لعدم كونه مستهجنا عرفا لاحتمال ترتب الفائدة عليه وهو كاف في رفع اللغوية.
نعم، الاناء في بلد لا يذهب إليه عادة يكون خارجا عن محل ابتلائه،
فيمتنع التكليف في مورده.
وهذا أفضل ما يمكن أن يقال في تحديد ضابط الخروج عن محل الابتلاء
المانع من التكليف. فالتفت.
131

ثم إنه لو تحقق الشك في مورد في كونه خارجا عن محل الابتلاء أو ليس
بخارج عنه، فتارة يكون الشك من جهة الشبهة المفهومية. وأخرى من جهة
الشبهة المصداقية.
فإن كان الشك من جهة الشبهة المفهومية، بان كان لا يعلم ان الخروج
عن محل الابتلاء بمفهومه هل يشمل مثل الاناء الموجود في البلد الفلاني أو لا؟
وهل يقال لمثله عرفا انه خارج عن محل الابتلاء أو لا؟. فقد وقع الكلام في صحة
التمسك باطلاق الدليل في اثبات التكليف فيه وعدمها.
والذي نراه هو صحة التمسك بالاطلاق، إذ عرفت أن عدم صحة
التكليف من جهة الاستهجان العرفي الناشئ عن عدم ثبوت الفائدة فيه،
وعرفت أيضا ان احتمال ترتب الفائدة يرفع الاستهجان العرفي ويصحح
التكليف.
وهذا يقتضي ان يختص الامتناع بصورة العلم بعدم الفائدة.
وعليه، فمع الشك في الخروج عن محل الابتلاء يشك في ترتب الفائدة
للتكليف، فيثبت احتمالها ولا يعلم بعدمها، وهو كاف في صحة التكليف.
وبالجملة: على ما ذكرناه لا يكون المورد من موارد الشك في التقييد، بل
من موارد العلم بعدمه، لان الخارج هو ما علم بعدم الفائدة فيه. فالتفت.
هذا تحقيق الحال على ما سلكناه في تحقيق اعتبار الدخول في محل
الابتلاء.
وأما على ظاهر مسلك الاعلام من كون التقييد بأمر واقعي يتعلق به
العلم والجهل، وهو الخروج عن محل الابتلاء.
فقد ذهب الشيخ (رحمه الله) إلى صحة التمسك بالاطلاق. بتقريب: ان
المورد من موارد دوران الامر في المخصص بين الأقل والأكثر، وقد تقرر في محله
الاقتصار في التخصيص على القدر المتيقن، والرجوع في مورد الشك إلى
132

العموم (1).
ويرد عليه: ان ما تقرر في محله من الاقتصار على القدر المتيقن والرجوع
في المشكوك إلى العموم، انما هو فيما إذا كان المخصص منفصلا. وأما إذا كان
متصلا، فلا يتم لسراية اجمال المخصص إلى العموم كما بين في محله. وما نحن فيه
من قبيل المتصل، لان امتناع التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء من
الواضحات لدى العرف التي يمكن ان يعتمد المتكلم عليها، وتكون من القرائن
الحالية الموجبة للتصرف في الظهور.
وقد أورد على هذا الايراد بوجهين:
الأول: ما ذكره المحقق النائيني (2) والعراقي (3) (قدس سرهما) من: ان
الحكم باعتبار الدخول في محل الابتلاء من الاحكام النظرية التي تحتاج إلى
اعمال فكر ونظر، ولا يدركها كل أحد، فيكون المورد من قبيل المخصص
المنفصل الذي يصح الرجوع فيه إلى العام، لعدم انثلام ظهوره.
وفيه: ما عرفت من أن امتناع التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء
واضح لدى العرف، وإذا كان محذوره هو الاستهجان العرفي، فيكون المورد من
قبيل التخصيص بالمتصل.
الثاني: ما ذكره المحقق النائيني - بعد تنزله وتسليمه كون المورد من قبيل
التخصيص بالمتصل لا بالمنفصل - من: ان اجمال الخاص انما يسري إلى العام
فيما إذا كان الخاص عنوانا واقعيا غير مختلف المراتب مرددا بين الأقل والأكثر،
كعنوان الفاسق المردد بين خصوص مرتكب الكبيرة ومطلق مرتكب الذنب ولو
صغيرة.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 252 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 59 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 342 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
133

وأما إذا كان الخاص ذا مراتب متعددة، فلا يسري اجماله إلى العام، لان
المتيقن تخصيصه ببعض مراتبه المعلومة. واما تخصيصه بغيرها فهو مشكوك فيرجع
إلى العموم لأنه شك في تخصيص زائد. وما نحن فيه من هذا القبيل، لان عدم
الابتلاء ذو مراتب عديدة كما لا يخفى، ويشك في تخصيص العام ببعض مراتبه (1).
وأورد عليه المحقق العراقي (قدس سره): بان ما أفيد إنما ينفع في انحلال
العلم الاجمالي، لا في عدم اجمال العام، لأنه يكفي في اجمال العام احتفافه بما
يصلح للقرينية، ولو كان بنحو الشك البدوي، وما نحن فيه من هذا القبيل نظير
مورد الاستثناء من الجمل المتعددة فإنهم يحكمون باجمال العموم في جميع الجمل
وإن كان رجوعه إلى الأخيرة متيقنا (2).
وبالجملة: فما وجهناه من الايراد على الشيخ موجه. لكنه انما يتوجه على
التقريب المتقدم لكلامه.
ولكن الانصاف انه يمكن توجيه كلامه بنحو لا يرد عليه ما ذكر. بيان
ذلك: ان المخصص تارة يكون لفظا حاكيا عن مفهوم مردد بين الأقل والأكثر،
كما في مثل: " لا تكرم فساق العلماء "، وأخرى يكون حكما عقليا كحكم العقل
بقبح تكليف العاجز الموجب لتخصيص أدلة التكاليف العامة.
ففي مثل الأول، يتصور الترديد في التخصيص للتردد في المفهوم الذي
يحكي عنه اللفظ، فيشك في مورد أنه محكوم بحكم الخاص أو بحكم العام.
وأما الثاني، فلا يتصور فيه التردد في مقام، لان الحاكم لا يتردد في حكمه،
فإذا شك في تحقق مناط حكمه لا يصدر منه الحكم جزما، لا انه يشك في ثبوت
حكمه كما هو واضح جدا.
وما نحن فيه من قبيل الثاني لان التخصيص كان بحكم العقل والعرف

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 60 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 344 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
134

بقبح التكليف في مورد الخروج من محل الابتلاء.
ولا يخفى ان العقل انما يحكم بقبح التكليف في المورد الذي يعلم انه من
موارد الخروج عن محل الابتلاء، بنحو يعلم بثبوت مناط القبح فيه.
أما مع الشك، فلا حكم له بالقبح جزما، لا انه يتردد ويشك في ثبوت
حكمه، لعدم معقولية ذلك بالنسبة إلى الحاكم نفسه.
إذن فالقدر المعلوم تخصيص العام به هو ما يعلم اندراجه في محل الابتلاء.
أما مورد الشك، فيعلم بعدم حكم العقل بالقبح فيه، لعدم احراز مناط
حكمه فيه، فكيف يحكم بالقبح فيه والتردد غير معقول؟، فيعلم بعدم
التخصيص، فيصح التمسك بالاطلاق.
وهذا التوجيه لا يأباه صدر كلامه، بل يلائمه كمال الملائمة. نعم ذيل
كلامه قد يظهر في التوجيه الأول لقوله: " فمرجع المسألة إلى أن المطلق المقيد
بقيد مشكوك.... " ولكن يمكن حمله على تنظير ما نحن فيه بذلك المقام لا تطبيق
ذلك المقام على ما نحن فيه.
ثم إنه من الممكن أن يكون مراد المحقق النائيني من كلامه السابق هو
هذا الوجه، وإن كان خلاف ظاهر كلامه.
وبالجملة: بهذا البيان يصح الرجوع إلى الاطلاق فيما نحن فيه.
وخالف في ذلك صاحب الكفاية فذهب إلى عدم صحة التمسك
بالاطلاق، واختلفت في ذلك بياناته في الكفاية (1) والفوائد (2) وحاشيته على
الرسائل (3).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 361 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول / 320 - المطبوعة ضمن الحاشية - الطبعة
الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول / 146 - الطبعة الأولى.
135

ونحن نذكر ما أورده في الكفاية، وهو: ان التمسك بالاطلاق يتفرع على
صحة الاطلاق في حد نفسه ثبوتا، كي يكون مقام الاثبات كاشفا عن مقام
الثبوت.
أما مع الشك في صحة ثبوت الحكم في حد نفسه، فلا مجال للتمسك
بالاطلاق في اثباته.
وبعبارة أخرى: ان الاطلاق إنما يتكفل مقام الاثبات دون مقام الثبوت،
فلا بد من إحراز صحة ثبوت الحكم كي يتمسك بالاطلاق لاثباته.
وهذا الكلام بحسب ظاهره صار موردا للهجوم العلمي. فقد ذكر في رده:
ان الدليل على ثبوت الحكم يكون دليلا على إمكانه مع الشك، لأنه ملازم له،
فالشك في الامكان وعدمه يرفع بالدليل الدال على الوقوع، كما التزم صاحب
الكفاية وغيره في أول مباحث الظن، ولولا ذلك لا شكل التمسك بالاطلاق في
جل موارد الشك في التقييد ولو كان المقيد لفظيا، لان الشك في التقييد يلازم
الشك في ثبوت الملاك للحكم المطلق في الفرد المشكوك. وواضح انه يستحيل
ثبوت الحكم بلا ملاك، فيكون الشك في التقييد مستلزما في إمكان الحكم
وعدمه.
ولأجل ذلك تصدى المحقق العراقي (قدس سره) إلى توجيه مراده بما
يدفع عنه هذا الايراد الواضح، فذكر: ان الحكم الواقعي كما هو مقيد بعدم
الخروج عن محل الابتلاء، كذلك الامر في الحكم الظاهري الثابت بالامارات
والأصول، فإنه لغو أيضا، مع خروج مورده عن محل الابتلاء.
وعليه، فكما يشك في ثبوت الحكم واقعا في مورد الشك في الخروج عن
محل الابتلاء، كذلك يشك في صحة ثبوت الحكم الظاهري الثابت بالاطلاق -
بمقتضى دليل حجية الظهور -. ومن الواضح انه لا وجه للتمسك بالاطلاق مع
وجود هذا الشك، ولا يتكفل الاطلاق نفيه. فمراد الكفاية هو عدم صحة
136

التمسك بالاطلاق لاجل الشك في صحة ثبوت الحكم الاطلاقي الظاهري، لا
لاجل الشك في صحة ثبوت الحكم الواقعي، كي يقال إن الاطلاق دليل على
إمكانه. فالتفت.
ثم إنه (قدس سره) بعدما وجه كلام الكفاية بما عرفت، أورد عليه: بأنه
لا يتم بناء على الطريقية الراجعة إلى مجرد الامر بالبناء العملي على مطابقة
الظهور للواقع بلا جعل تكليف حقيقي في البين، فان الامر المزبور أمر صوري
يعبر عنه بالحكم الأصولي يتكفل تنجيز الواقع على تقدير المصادفة. وهو لا
محذور فيه مع الشك في القدرة (1). فتأمل.
وتحقيق الكلام: هو ان المورد ليس من موارد التمسك بالاطلاق لنفي
الشك، إذ من شرائط ذلك هو كون المتكلم في مقام البيان من تلك الجهة
المشكوكة، كي يكون عدم بيانه دليلا على إرادة الحكم المطلق. ومن الواضح ان
المتكلم ليس بصدد البيان من جهة شرطية الخروج عن محل الابتلاء، إذ لم يرد
منه في الخطابات الشرعية عين ولا أثر، مما يكشف عن إغفال المولى هذه الجهة
وإيكال الامر فيها إلى غيره، فلا يصح التمسك بالاطلاق في مورد الشك لنفيه،
بل لا بد من الرجوع إلى العقل نفسه. وقد عرفت فيما تقدم - بيانين - عدم
حكمه بالقبح في مورد الشك، فلا يثبت التخصيص والتقييد، ومع الشك في ذلك
لا يمكننا الرجوع إلى الاطلاقات لما عرفت، بل لا بد من الرجوع إلى الأصول
العملية.
وقد وجدنا المحقق الأصفهاني قد نبه على هذه النكتة بنحو مختصر (2).
فالتفت.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 346 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 2 / 255 - الطبعة الأولى.
137

ثم إنه إذا وصلت النوبة إلى الأصول العملية، فهل الأصل في المقام هو
البراءة، كما ذهب إليه صاحب الكفاية. أو الاشتغال كما ذهب إليه المحقق
العراقي؟.
والوجه في البراءة واضح لأنه من موارد الشك في ثبوت التكليف شرعا
وهو مجرى البراءة.
واما الرجوع إلى قاعدة الاشتغال، فوجهه: هو ان المورد من موارد الشك
في القدرة، مع العلم بثبوت الملاك الملزم. فكما يحكم العقل في مورد العلم بتوجه
التكليف وشك المكلف في قدرته عقلا على الامتثال بلزوم الفحص والتصدي
للامتثال للزوم تحصيل غرض المولى إلا مع عجزه حقيقة - ولا يلتزم أحد في مثل
ذلك باجراء البراءة -. كذلك الحال في مورد الشك في القدرة العرفية، لأنها
كالقدرة العقلية ليست دخيلة في ملاك الحكم، بل دخيلة في حسن توجهه
للمكلف، فمع الشك في تحققها يحكم العقل بالاشتغال.
وهذا المطلب ذكره المحقق النائيني (رحمه الله) أيضا. لكن المقرر
الكاظمي أشار في تعليقة له على المقام بعدول أستاذه عنه بعد مذاكرته في ما يرد
عليه من اشكال، فراجع (1).
وتحقيق الكلام: ان الذي يبدو وقوع الخلط في كلمات الاعلام بين الشبهة
المصداقية والشبهة المفهومية، فان ما يذكر في بيان جريان قاعدة الاشتغال عند
الشك في القدرة، وما يضرب لذلك من الأمثلة، يختص في الشبهة المصداقية دون
الشبهة المفهومية.
ومن الواضح ان كلامنا فيما نحن فيه إنما هو في الاشتباه من حيث
المفهوم لا من حيث المصداق، فالتفت ولا تغفل.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 57 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
138

هذا كله إذا كان الشك في الخروج عن محل الابتلاء من جهة الشبهة
المفهومية.
وأما إذا كان من جهة الشبهة المصداقية، كما إذا شك في أن إناء زيد
النجس هل هو في البلد الكذائي الذي يكون داخلا في محل الابتلاء، أو في البلد
الاخر الذي لا يكون محل الابتلاء؟.
فعلى ما اخترناه من أن التكليف مقيد بالعلم بالخروج عن محل الابتلاء،
بل بواقع الخروج عن محل الابتلاء، فلا اشكال في الرجوع إلى الاطلاق للعلم
بعدم كون المورد من موارد التخصيص.
وأما على المسلك القوم من تقيد التكليف بنفس الخروج عن محل الابتلاء،
يكون المورد من موارد التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص اللبي.
وقد تقدم الحديث فيه واختلاف المباني فيه. فراجع.
ولو وصلت النوبة إلى الأصل العملي، فقد قيل: إنه الاشتغال بالتقريب
المتقدم.
وتحقيق الحال في صحة ما قيل من أن الأصل في موارد الشك في القدرة
هو الاشتغال له مجال آخر. فانتظر.
التنبيه الثالث: في الشبهة غير المحصورة. وقد وقع الكلام في تحديدها
وحكمها من حيث المخالفة القطعية والموافقة القطعية.
وقد ادعي الاجماع، بل الضرورة الفقهية على عدم وجوب الموافقة
القطعية فيها.
ولا يخفى ان مثل هذا الاجماع لا يمكن ان يركن إليه، لعدم العلم بأنه
اجماع تعبدي، بل المظنون قويا خلافه، لكثرة ما ورد من التعليلات لنفي وجوب
الموافقة القطعية.
وكيف كان، فقد عرفت انها حددت بحدود متعددة، وأكثرها لا يخلو عن
139

إشكال، كتحديدها بما يعسر عده، أو بما بلغ آلافا، فلا نطيل الكلام بذكرها.
إنما المهم من ذلك ضابطان نتعرض إليهما وما يدور حولهما من كلام وما يترتب
عليهما من أثر. وهما ما أفاده الشيخ (رحمه الله) وما أفاده المحقق النائيني (قدس
سره).
أما ما أفاده الشيخ (رحمه الله)، فهو: ان تكون الكثرة بحد يكون احتمال
التكليف في كل طرف موهوما لا يعتني به العقلاء، ويرون الاعتناء به نوعا من
الوسوسة، ولازم ذلك عدم وجوب الموافقة القطعية (1).
وفيه: ان ضعف الاحتمال إن وصل إلى حد الاطمئنان بالعدم فما أفاده
صحيح، لكنه خارج عما نحن فيه، لأنه من موارد قيام العلم العادي على عدم
التكليف في طرف. وإن لم يصل إلى حد الاطمئنان، فلا يصح كلامه لعدم العبرة
بظن عدم التكليف مهما بلغ من القوة ما لم يقم الدليل على حجيته - كما يلاحظ
ذلك في الشبهة المحصورة -، فلا بد من الموافقة القطعية لعدم المؤمن بعد قيام
العلم الاجمالي المنجز.
وأما ما أفاده المحقق النائيني (رحمه الله)، فهو: ان تكون كثرة الأطراف
بحد يستلزم عدم القدرة العادية على المخالفة القطعية، وان كان كل طرف في حد
نفسه مقدورا عادة وداخلا في محل الابتلاء. وحينئذ تسقط حرمة المخالفة القطعية
لعدم القدرة عادة عليها، وبتبعها يسقط وجوب الموافقة القطعية، لأنه متفرع
على حرمة المخالفة القطعية المستلزم لتعارض الأصول في أطراف العلم، فإذا لم
تحرم المخالفة القطعية لم تجب الموافقة القطعية.
وأفاد (قدس سره): ان هذا الضابط يختص بالعلم بالحرمة، ولا يتأتى في
موارد العلم بالوجوب بين أطراف كثيره، لامكان المخالفة القطعية في باب

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 261 - الطبعة الأولى.
140

الواجبات مهما بلغت الأطراف من الكثرة، إذ المخالفة في باب الواجبات تحصل
بترك جميع المحتملات وهو سهل المؤونة، بخلاف المخالفة القطعية في باب
المحرمات، فإنها لا تحصل إلا باتيان جميع المحتملات وهو ليس بالأمر اليسير
مع كثرة الأطراف (1).
وقد أورد عليه وجوه:
الأول: ان هذا الضابط لا يختص بالشبهة غير المحصورة، إذ قد يتحقق
مع قلة الأطراف وكون الشبهة محصورة، كما لو علم بحرمة جلوسه في وقت
الزوال إما في هذه الغرفة أو في تلك الغرفة، فإنه لا يتمكن من المخالفة القطعية
ههنا (2).
وفيه: انه (قدس سره) قد تنبه إلى ذلك، فذكر ان الشبهة غير المحصورة
هي ما كانت الكثرة فيها سببا لعدم التمكن من المخالفة القطعية بحيث ينشأ
عدم التمكن من الكثرة، لا مطلق عدم التمكن من المخالفة القطعية.
وبالجملة: اعتبر في الشبهة غير المحصورة أمرين: كثرة الأطراف. وعدم
التمكن من المخالفة القطعية. فلا وجه لهذا الايراد حينئذ (3).
وهو مما أشار إليه في الكفاية حيث ذكر: ان موانع التنجيز في الشبهة
غير المحصورة غير مختصة بها (4). لكنه لا يتوجه ممن جاء بعد المحقق النائيني لما
عرفت من تقييده الضابط بالكثرة. فالتفت.
الثاني: انه تحديد بأمر مبهم، لاختلاف ذلك باختلاف المعلوم بالاجمال،

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 117 - 119 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 374 - الطبعة الأولى.
(3) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 117 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(4) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 359 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
141

فلم يحدد في الضابط أمر كلي يكون جامع لهذه الموارد (1).
وهذا الايراد كسابقه في الوهن، لان القدرة العادية كالقدرة العقلية أمر
متميز في نفسه لا إبهام فيه، وانما يختلف تحققه باختلاف المتعلق، فيلحظ كل شئ
بحسبه. وكما لا يتأتى هذا الكلام في اعتبار القدرة العقلية، فلا يقال إنه لا ضابط
له لاختلافه باختلاف الحالات، وكذلك لا يتأتى في القدرة العادية.
وبعبارة أخرى: لا إبهام في مفهوم القدرة عادة أو عقلا، إنما الاختلاف في
مصاديقها. وهذا لا يضر في الضابط، ويلحظ في المصاديق كل شئ بحسبه وما
يفرض له من ظرف خاص. فتدبر.
الثالث: ان عدم التمكن من المخالفة القطعية لا يتصور مع ملاحظة
تطاول المدة والارتكاب التدريجي، للتمكن من المخالفة تدريجيا.
وهذا مما أشار إليه المحقق العراقي أيضا (2).
وفيه: ان هذا إنما يتم في ما لو كانت الأطراف قارة لا تزول بتطاول المدة،
كما لو علم بحرمة دخوله في احدى دور النجف، فإنه يتمكن من المخالفة تدريجيا
وفي مدة عشرين سنة. ولا يتم فيما لو كانت الأطراف مما يتلف بطول المدة،
كالمأكل، فإذا علم بحرمة لحم في أحد أسواق النجف، فهو لا يتمكن من المخالفة
القطعية لا دفعة كما هو الفرض، ولا تدريجيا ولمدة سنة - مثلا - لعدم بقاء اللحم
وتلفه في هذه المدة. ومثله الجبن وغيره. وهكذا لو علم بنجاسة ثوب من بين ألف
ثوب مثلا، لأنه وان أمكن ان يلبس الألف في ضمن سنين، لكنه لا يبقى على
كيفيته في ضمن هذه المدة، بل يغسل قطعا، فيطهر.
وبالجملة: أمثلة الشبهة غير المحصورة بهذا الضابط كثيرة. فتدبر. إذن

(1) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية 3 / 243 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 329 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
142

فالضابط الذي افاده النائيني لا بأس به.
الرابع: وهو يرجع إلى ما رتبه من عدم منجزية العلم الاجمالي، وعدم
وجوب الموافقة القطعية، لا إلى الاشكال في نفس الضابط.
وقد ذكره المحققان العراقي (1) والأصفهاني (2) (قدس سرهما) وهو: ان
غير المقدور هو العلم بالمخالفة وليس هو مخالفة التكليف المعلوم، إذ هي مقدورة
بعد فرض التمكن من الاتيان بكل طرف في حد نفسه، والمحذور العقلي يترتب
على المخالفة نفسها لا على العلم بها، لان ضم غير الحرام إلى الحرام غير دخيل
في ثبوت العقاب على مخالفة الحرمة.
وقد أضاف المحقق العراقي إلى ذلك النقض بالشبهة المحصورة، إذا لم
يتمكن من المخالفة القطعية، كما لو علم بان أحد الإناءين خمر ولم يتمكن من
شربهما، فإنه لا يلتزم بعدم وجوب الموافقة القطعية ههنا جزما.
وأنت خبير: بان هذا الايراد يبتني على القول بعلية العلم الاجمالي للتنجيز
من حيث الموافقة القطعية الذي يبتني على حكم العقل بقبح مخالفة التكليف
المعلوم بالاجمال بنفسه ولو لم يحصل العلم بها، كما في مورد المخالفة الاحتمالية.
وأما على القول بالاقتضاء، بحيث يكون القبيح هو المخالفة القطعية لا
نفس المخالفة، ولذا لا تحرم المخالفة الاحتمالية، ويكون وجوب الموافقة القطعية
لاجل تعارض الأصول، فلا يتأتى هذا الكلام. وقد تقدم ان المحقق النائيني لا
يلتزم بالعلية التامة، وإنما يلتزم بالاقتضاء، فلا يتجه هذا الايراد عليه، بل يكون
ايرادا مبنائيا.
وتحقيق الكلام في حكم الشبهة غير المحصورة بالضابط الذي ذكره

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 334 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 256 - الطبعة الأولى.
143

المحقق النائيني هو: انه يقتضي عدم منجزية العلم الاجمالي بالمرة حتى على
القول بالعلية التامة بالنسبة إلى المخالفة القطعية والموافقة القطعية.
بيان ذلك: ان التكليف مقيد بالقدرة على متعلقه بحيث لا يكون فعليا
إلا في ظرف القدرة عليه، وإذا فرض ان كثرة الأطراف بحد لا يتمكن المكلف
على الجمع بينها وارتكاب جميعها - الذي عبر عنه بالمخالفة القطعية - كانت
القدرة على كل طرف من الأطراف مقيدة بترك سائر الأطراف وعدم ارتكابها،
لان ارتكاب سائر الأطراف يلازم العجز عن هذا الطرف. وعليه فيكون
التكليف بتركه مقيدا بحال ترك سائر الأطراف، لأنه حال القدرة عليه. إذن
فالتكليف لا يكون فعليا بالنسبة إلى كل طرف إلا على تقدير ترك الباقي،
فالتكليف لا يكون فعليا على كل تقدير - أي على ثبوته في كل طرف - إلا في
ظرف ترك جميع الأطراف.
وفي مثل ذلك يستحيل أن يكون العلم بالتكليف موجبا للزوم الترك
عقلا، إذ العلم به يتفرع على تحقق الترك، فكيف يكون منجزا بالنسبة إلى
لزومه؟!.
ومثل هذا البيان لا يجئ في مثال النقض بالعلم بحرمة أحد الضدين
اللذين لهما ثالث كالعلم بحرمة الجلوس أو القيام عند الزوال، باعتبار انه لا
يتمكن من المخالفة القطعية أيضا.
والسر في ذلك: ان عدم أحد الضدين لم يؤخذ في موضوع الاخر - كما
حرر في محله -، إذ لا مقدمية لعدم أحد الضدين لوجود الضد الاخر، بل هما
متقارنان فلا يكون التكليف بأحدهما مقيدا بعدم الاخر، فالعجز الناشئ من كثرة
الأطراف غير العجز الناشئ من وجود أحد الضدين.
وبعبارة أخرى أدق: ان القدرة المعتبرة في صحة التكليف، والتي تكون
نسبتها إلى الحكم نسبة الموضوع إلى الحكم هي القدرة على الفعل في الظرف
144

المتصل بآن الامتثال والعصيان، لا القدرة في حال الامتثال، ولذا لا يكون سلب
القدرة في ظرف الامتثال اختيارا من نفي التكليف بنفي موضوعه، بل من
عصيان التكليف وعدم امتثاله.
وعليه، ففعل أحد الضدين في ظرف التكليف وان استلزم العجز عن
الضد الاخر، لكنه عجز عنه في ظرف امتثاله وعصيانه، فيكون فعله عصيانا
للتكليف بضده لو كان في الواقع متعلقا به، كما يكون امتثالا للتكليف المتعلق به
لو كان متعلقا به واقعا، فظرف فعل أحدهما هو ظرف الامتثال والعصيان. ولذا
لو علم بأنه كلفه بالقيام فقط فجلس، فإنه يكون عاصيا مع أنه غير قادر على
القيام عند الجلوس.
ومع قطع النظر عن هذا الظرف، يكون المكلف قادرا على كل منهما،
فيكون التكليف فعليا على كل تقدير وليس مقيدا بعدم الضد الاخر.
ولا يقال بمثله في مورد كثرة الأطراف، لان العجز لم ينشأ من وجود ما
يمنع من تحقق المكلف به في ظرف الإطاعة أو العصيان، بل هو ناش من وجود
ما يمنع منه في زمان سابق على ظرف اطاعته وعصيانه، وذلك لان امتناع الجمع
من جهة كثرة الأطراف ليس إلا، وهي تقتضي تدريجية حصول الأفعال، فلا
يكون ظرف حصول أحدهما هو ظرف حصول الاخر كي يكون من باب سلب
القدرة في ظرف الامتثال، وليس كالضدين اللذين يمتنع اجتماعهما لا نفسهما
بلحاظ زمان واحد هو ظرف امتثال كل منهما.
وعليه، فيصح أخذ ترك سائر الأطراف في موضوع النهي عن كل طرف،
لأنه إذا جاء بسائر الأطراف يكون عاجزا عن الاتيان بهذا الطرف في الظرف
المتصل بآن الامتثال، فلا يصح التكليف.
وهذا هو توضيح ما ذكرناه من أن العجز الناشئ عن كثرة الأطراف غير
العجز الناشئ عن تضاد الطرفين، فتدبره فإنه دقيق.
145

نعم مثال الضدين، يصلح ايرادا على القول بالاقتضاء وتفرع وجوب
الموافقة القطعية على حرمة المخالفة القطعية، فليضم إلى سائر الايرادات على
ذلك القول.
ثم إن الوجه الذي ذكرناه في عدم منجزية العلم الاجمالي لا يختص
بالتحريميات، بل يشمل الواجبات أيضا، فان الامر فيها أوضح، لان العلم
بالتكليف الفعلي على كل تقدير يتوقف على ترك الكل، لان القدرة على كل
طرف المصححة للتكليف تحصل بترك سائر الأطراف.
ومع ذلك، كيف يكون العلم الاجمالي موجبا للزوم الاتيان بالكل؟!.
فنقطة الفرق بين المسلك الذي سلكناه ومسلك المحقق النائيني، هو: ان المحقق
النائيني جعل الضابط هو عدم التمكن من المخالفة القطعية - بهذا العنوان -،
فلذلك اختص ضابطه بالمحرمات كما بيناه. وأما نحن، فقد جعلنا الضابط هو
عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف، ولو لم يتعنون بعنوان المخالفة القطعية،
فلم يختص بالمحرمات، بل شمل الواجبات أيضا. فالتفت.
ثم إنه على ما بيناه من ملاك عدم تنجيز العلم الاجمالي، لا مجال للبحث
عن حرمة المخالفة القطعية عند عدم وجوب الموافقة القطعية، إذ عرفت عدم
منجزية العلم لعدم كونه علما بتكليف فعلي على كل تقدير.
مع أن المفروض عدم التمكن من المخالفة القطعية.
وأما على مسلك الشيخ في ضابط غير المحصورة، فغاية ما يقتضيه كلامه،
هو نفي وجوب الموافقة القطعية لضعف احتمال التكليف في كل طرف.
وهذا لا يقتضي جواز المخالفة القطعية، لأنها تتصادم مع العلم نفسه،
والمفروض عدم اعتناء العقلاء بالاحتمال لا بنفس العلم.
وأما على مسلك المحقق النائيني (قدس سره)، فالامر واضح في الشبهة
التحريمية. وأما في الشبهة الوجوبية، فتحرم المخالفة القطعية للتمكن منها. واما
146

الموافقة القطعية، فهي غير ممكنة. فيكون المورد من موارد الاضطرار إلى أحد
الأطراف لا بعينه، وقد تقدم الكلام فيه مفصلا. فراجع.
تذنيب: في شبهة الكثير في الكثير.
إذا كانت أطراف العلم الاجمالي كثيرة، ولكن كانت نسبة المعلوم
بالاجمال إلى مجموع الأطراف نسبة الواحد إلى الثلاثة - مثلا -، كما إذا علم
بحرمة خمسمائة اناء في ضمن الف وخمسمائة، فهل يجري عليها حكم الشبهة غير
المحصورة، أو حكم الشبهة المحصورة؟.
التحقيق: انه إن اخترنا في تحديد الضابط للشبهة غير المحصورة ما أفاده
الشيخ (رحمه الله) فلا يجري فيما نحن فيه، لقوة احتمال التكليف في كل طرف
من الأطراف، فيكون حكمها حكم الشبهة المحصورة.
وإن اخترنا ما ذهب إليه المحقق النائيني، كان مقتضاه الحاق المورد
بالشبهة غير المحصورة، لعدم التمكن من المخالفة القطعية عادة، لأنها في مثل
المثال المزبور تتوقف على ارتكاب الف اناء وإناء وهو غير مقدور عادة.
وهكذا الحال بناء على ما حققناه في حكم الشبهة غير المحصورة، لعدم
القدرة على كل طرف إلا بترك سائر الأطراف.
اللهم إلا أن يقال: إنه - في مثل هذه الموارد - عندما تحصل أي مجموعة
كبيرة - كمائة إناء في المثال المتقدم - يحصل الاطمئنان بوجود الحرام فيها، ولا
يحتمل عادة ان جميع الحرام في الأطراف الأخرى، فيلزمه الاجتناب عن المائة.
فهناك علوم إجمالية متعددة صغيرة بضم بعضها إلى بعض تحصل شبهة الكثير
في الكثير. فتدبر.
التنبيه الرابع: في حكم ملاقي أحد أطراف العلم الاجمالي بالنجاسة.
والمهم في البحث في هذا التنبيه هو جهتان: إحداهما فقهية. والثانية
أصولية.
147

أما الجهة الأولى الفقهية، فهي البحث عن كيفية تنجس ملاقي
النجس، وانه ينحو يكفي في تنجيزه العلم الاجمالي الذي يدور طرفه بين الملاقي
- بالفتح - وطرفه الاخر، أو أنه بنحو لا يتنجز إلا بمنجز آخر غير العلم الاجمالي
المتعلق بالمردد بين الملاقي والطرف الاخر؟.
وأما الجهة الأصولية، فهي البحث - على التقدير الثاني من الجهة الفقهية -
عن أن الملاقي هل هو طرف لعلم إجمالي منجز آخر، فيجب الاجتناب عنه كما
يجب الاجتناب عن الملاقي أو ليس كذلك فلا يجب الاجتناب عنه كسائر ما شك
في طهارته ونجاسته بالشبهة البدوية؟.
أما الجهة الأولى: فتحقيق الكلام فيها: أنه لا إشكال في نجاسة ملاقي
النجس. إنما الكلام في كيفية تنجسه فيه. وهي ثبوتا تحتمل وجوها أربعة:
الأول: أن يكون من جهة سراية النجاسة إلى الملاقي حقيقة وواقعا،
وانبساطها بنحو تشمله، فلا يكون الحكم باجتناب الملاقي حكما جديدا، بل هو
عين الحكم الأول، وإنما اتسعت دائرة متعلقه، ونظيره في التكوينيات انحلال
الجوهر النجس بالماء، فيتلون جميع الماء بلون الجوهر بالسراية الحقيقية، ويكون
الحكم باجتناب الجوهر مستلزما لاجتناب جميع الماء لاتساع دائرة الجوهر، بعد
أن كانت ضيقة عند انكماشه وجموده.
الثاني: أن يكون من جهة ان الاجتناب عن ملاقي النجس من شؤون
وتبعات الاجتناب عن النجس، بحيث لا يتحقق الاجتناب عن النجس إذا لم
يجتنب عن ملاقيه، كاكرام خادم العالم أو ابنه الذي يعد اكراما للعالم نفسه عرفا.
الثالث: أن يكون لزوم الاجتناب عن الملاقي حكما تعبديا مستقلا، لكن
فعليته بفعلية لزوم الاجتناب عن الملاقي - بالفتح -، ولا تتوقف على تحقق
الملاقاة.
الرابع: أن يكون حكما مستقلا ولا يصير فعليا إلا بفعلية موضوعه وهو
148

الملاقاة.
ولا يخفى عليك ان العلم الاجمالي بنجاسة أحد الإناءين يقتضي بنفسه
لزوم الاجتناب عن ملاقي أحدهما على الوجوه الثلاثة الأولى دون الرابع.
وذلك..
أما على الأول، فلان الملاقي يكون أحد طرفي الشبهة، لسراية النجاسة
حقيقة إليه - على تقدير نجاسة ملاقاة -، فهو نظير ما لو قسم أحد الإناءين
قسمين، فالاجتناب عن النجس المعلوم أولا لا يتحقق جزما إلا بالاجتناب عن
الملاقي أيضا.
وأما على الثاني، فلان امتثال التكليف المحتمل في الملاقي - بالفتح -
المفروض لزومه لتنجزه بالعلم، لا يتحقق إلا بالاجتناب عن ملاقيه، لأنه من
شؤون وتبعات الاجتناب عن نفس الملاقي - بالفتح -.
وأما على الثالث، فلان العلم بالحكم الفعلي الثابت في الملاقي يصاحبه
العلم بالحكم الفعلي الثابت فعلا في الملاقي لان المفروض فعليته من الآن وقبل
تحقق الملاقاة.
وأما على الرابع، فلا يتأتى ما ذكر، لان فعلية الحكم لا تتحقق إلا بتحقق
الملاقاة، فلا يكون طرفا للعلم من الأول، وقبل الملاقاة.
فيقع الكلام على هذا الوجه في الجهة الأصولية، وهي ان الملاقي طرف
لعلم إجمالي جديد منجز أو ليس بطرف؟. هذا بحسب مقام الثبوت.
وأما بحسب مقام الاثبات..
فالوجه الأول لا يمكن الالتزام به، لأنه..
إن أريد من السراية الحقيقية سراية النجاسة إلى الملاقي. ففيه: ان يبتنى
على أساس واه، وهو كون النجاسة من الأمور الحقيقية الواقعية التي كشف
عنها الشارع، وهو غير صحيح، فان النجاسة من الاحكام الاعتبارية الوضعية،
149

ولا معنى للسراية إذا لم تكن من الأمور الحقيقية.
وان أريد سراية ذات النجس لا نفس النجاسة. فيدفعه: انه خلاف
الوجدان والعيان غالبا.
كما أن الوجه الثالث لا يمكن البناء عليه، لمنافاته لظهور الأدلة في دوران
الحكم مدار موضوعه، وهو الملاقاة، فلا يصير فعليا قبل حصول الملاقاة.
وأما الوجه الثاني فيمكن تقريبه بوجهين:
الأول: ان المستفاد من ملاحظة اعتبار الرطوبة في الانفعال، واعتبار
العصر في التطهير، وعدم كفاية مجرد النضح، مع عدم النص عليه بالخصوص،
وعدم الانفعال فيما كان الماء متدافعا من العالي إلى السافل النجس الا موضع
الملاقاة، وانفعال المائع بمجموعه دون الجامد، فإنه ينفعل فيه خصوص موضع
الملاقاة - المستفاد من مجموع ذلك -، وتعليل البعض الحكم في تلك الموارد
بالسراية العرفية وعدمها، مع عدم التزامهم بالسراية الحقيقية جزما، كون المحكم
في احكام النجاسة من كيفية التطهير والانفعال هو نظر العرف، وهو يستلزم
كون الملحوظ في الاجتناب عن النجس هو نظر العرف أيضا.
ولا يخفى ان العرف يرى ان الاجتناب عن ملاقي القذر من شؤون
الاجتناب عن نفس القذر ولو تعددت الوسائط، بحيث يرى ان من ارتكب
ملاقي القذر لم يجتنب عن نفس القذر، لا انه لم يجتنب عن خصوص ملاقيه،
فإذا لاقت اليد العذرة الرطبة، يجتنب عن الأكل بها ويعد ذلك اجتنابا عن
العذرة، فلو أكل بها قيل إنه لم يستقذر العذرة.
وبالجملة: هذا الامر عرفا ثابت في باب القذارات الصورية، فايكال
الامر في النجاسات الشرعية إلى النظر العرفي يستلزم ثبوت نظره في القذارات
الصورية فيها، ويترتب على ذلك أن الاجتناب عن الملاقي من شؤون نجاسة
الشئ.
150

وهذا المعنى ثابت عرفا في خصوص الملاقاة، فلا يتأتى في مطلق
الملابسات كالنظر إلى القذارة.
فلا يتوهم: ان فرض كون الاجتناب عن ملاقي النجس من شؤون
الاجتناب عن النجس، يقتضي فرض كون الاجتناب عمن نظر إلى النجس -
أو نحوه من انحاء الملابسات - من شؤون الاجتناب عن النجس أيضا.
الثاني: ان العناوين المتعددة إذا اشتركت عرفا في أثر جامع، لكن كانت
تختلف باختلاف نحو خصوصيات ذلك الأثر، بمعنى ان نحو الأثر المترتب على
أحدها كان يختلف عن نحو الأثر المترتب على الاخر.
مثلا: العرف يجتنب عن الأسد والسم والقذر، لكن اجتنابه عن الأسد
يرجع إلى عدم التقرب منه أو عدم إثارته. واجتنابه عن السم يرجع إلى عدم
استعماله ما يلاقيه في باب الأكل والشرب - كما بيناه -. فإذا نزل الشارع شيئا
منزلة أحد هذه الأمور وأمر باجتنابه فإنه ظاهر في كون مراده النحو المتداول
عرفا للاجتناب عن المنزل عليه. فلو قال: هذا أسد فاجتنبه، فإنه ظاهر في الامر
باجتنابه بالنحو الذي يجتنب الأسد، لا بالنحو الذي يجتنب السم أو القذر.
وعليه، فإذا قال: هذا نجس فاجتنبه، كان ظاهرا في أمره باجتنابه بالنحو
الذي يجتنب العرف للقذارات الحقيقية الصورية لأنه نزله منزلته. وقد عرفت أن
اجتناب العرف القذارات الصورية يعم الاجتناب عن ملاقيها، بنحو يكون
الاجتناب عن الملاقي من شؤون الاجتناب عن القذر. فلاحظ.
وقد أورد على هذا الالتزام - أعني: الالتزام بأن الاجتناب عن الملاقي
من شؤون الاجتناب عن الملاقي - بالفتح - بايرادات:
الأول: ما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره) في حاشيته على الكفاية،
من: انه لا شبهة في وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس المعلوم مع فقد الملاقي
151

نفسه، وعدم ثبوت وجوب الاجتناب بالنسبة إليه، وهذا يكشف عن عدم كونه
من شؤونه وتبعاته، وإلا لكان تابعا له حدوثا وبقاء.
وناقشه (قدس سره) بان الملاقي له حيثيتان، إحديهما كونه بنفسه نجسا.
والثانية كونه من شؤون عين النجس. وله بكلتا الحيثيتين حكم، فإذا انتفى كونه
من شؤون النجس، كان ما يجب الاجتناب عنه بالحيثية الأولى، كما لو كان ابن
العالم أو خادمه عالما أيضا (1).
أقول: في الاشكال والجواب عنه مناقشة.
أما الجواب عنه، فلانه إذا ثبت ان الاجتناب عن النجس من شؤونه
وتوابعه الاجتناب عن ملاقيه، كان الامر المتعلق بالاجتناب عن الملاقي بعنوانه
الخاص محمولا عرفا على الارشاد إلى جهة التبعية وإن كان ظاهرا في حد نفسه
في الاستقلال.
فهو نظير ما لو قال: " أكرم خادم العالم " مع الالتزام بان اكرام خادم العالم
مما يستتبعه وجوب اكرام العالم، فإنه لا يحمل على أن خادم العالم موضوع مستقل
لوجوب الاكرام، بل يحمل على الارشاد إلى جهة التبعية، كما لا يخفى.
إذن فليس للملاقي حكمان. بل حكم واحد بعنوان التبعية.
وأما نفس الاشكال، فلان الاجتناب عن الملاقي إذا كان من شؤون
الاجتناب عن الملاقي، بحيث يكون الاجتناب عن الملاقي اجتنابا عن الملاقي،
فلا يكون انعدام الملاقي مخلا بوجوب الاجتناب عن الملاقي، للتمكن على
اجتناب الملاقي والحال هذه ببعض مراتبه، وهو بالاجتناب عن ملاقيه، فيجب
الاجتناب عن الملاقي من باب انه اجتناب عن الملاقي، نظير ما إذا غاب العالم
الذي يجب اكرام خادمه لوجوب اكرامه، فإنه لا يرتفع وجوب إكرام العالم،

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 258 - الطبعة الأولى.
152

للتمكن منه ببعض مراتبه باكرام خادمه.
وبالجملة: بناء على هذا الالتزام يكون وجوب الاجتناب عن الملاقي ثابتا
بعد فقدانه ووجود ملاقيه، فلاحظ والتفت.
الثاني: ما أورده المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية أيضا: من أنه إذا
اجتنب المكلف عن النجس ولم يجتنب عن ملاقيه، فقد اجتنب حقيقة عن فرد
من النجس ولم يجتنب عن فرد آخر منه، لا أنه لم يجتنب أصلا، ولو كان
الاجتناب عن ملاقي النجس من شؤون الاجتناب عنه لم يتحقق الاجتناب عنه
بعدم الاجتناب عن ملاقيه (1).
وفيه أن الاجتناب عن الشئ القذر - بناء على هذا الالتزام - له
مرتبتان: إحداهما المرتبة القصوى، وهي الاجتناب عنه مع الاجتناب عن كل
ما لاقاه ولو بوسائط. والأخرى المرتبة الدنيا، وهي الاجتناب عنه خاصة دون
الاجتناب عن ملاقيه. فإذا اجتنب عنه خاصة يصدق انه اجتنب النجس ولكن
ببعض مراتبه، كما يصدق انه لم يجتنبه ببعض مراتبه الأخرى. ولا يصدق انه لم
يجتنب أصلا، لأنه أجتنب النجس ببعض مراتبه. وذلك نظير ما لو أكرم العالم
ولم يكرم ابنه أو خادمه، فإنه يصدق انه أكرم العالم بمرتبة ما ولم يكرمه بالمرتبة
القصوى. فتدبر.
الثالث: ما جاء في كلمات المحقق العراقي (قدس سره) من أن ظاهر
الأدلة ثبوت الحكم عند تحقق الملاقاة وفعلية الحكم بفعلية موضوعه غير قابلة
للانكار، فيكون مقتضى الأدلة ان الحكم بوجوب الاجتناب لا يصير قطعيا إلا
عند تحقق الملاقاة، وهو انما يتلاءم مع الوجه الرابع دون هذا الوجه (2).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 258 - الطبعة الأولى.
(2) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول 2 / 95 - الطبعة الأولى.
153

ويندفع هذا الوجه: بان الملاقاة ليست دخيلة في أصل ثبوت الحكم
بوجوب الاجتناب، وإنما هي دخيلة في حدوث مرتبة من مراتب الاجتناب
المتعلق للحكم، فيثبت لها الحكم السابق الثابت في حد نفسه بنحو العموم
والاستغراق لجميع المراتب، بمعنى: ان وجوب الاجتناب ثابت لكل مرتبة من
مراتب اجتناب النجس مطلقا، فإذا حدثت مرتبة لم تكن موجودة سابقا تعلق
بها الحكم الثابت، لا أنه يثبت لها حكم جديد مستقل.
وعليه، فان وجوب الاجتناب وإن لم يتعلق بالملاقي قبل تحقق الملاقاة،
لكن تحقق الملاقاة ليس دخيلا في موضوع الحكم بوجوب الاجتناب، وانما هو
دخيل في تحقق مرتبة من مراتب متعلق الحكم الثابت، فيتعلق بها الحكم، نظير
ما إذا استخدم العالم خادما جديدا، فإنه يثبت وجوب اكرامه بنفس وجوب اكرام
العالم الفعلي الثابت من السابق، فحدوث مرتبة من مراتب المتعلق انما توجب
سعة دائرة الحكم وازدياد انبساطه، ولا توجب ثبوت حكم جديد.
واما ظهور الدليل الدال على الحكم في كونه حكما مستقلا جديدا، فهو
ليس بأزيد من ظهور كل أمر في التأسيس الذي يرفع اليد عنه ويحمل على
الارشاد إلى غيره ببعض القرائن. وما نحن فيه من هذا الباب. فإنه إذا ثبت
كون الاجتناب عن الملاقي من شؤون الاجتناب عن النجس، كان الامر
بالاجتناب عنه - اي عن الملاقي - محمولا عرفا على الارشاد، وان كان في حد
نفسه ظاهرا في التأسيس. فلاحظ.
ثم إنه قد يشكل الالتزام بهذا المعنى: بان لازمه لزوم الاجتناب عن
مشكوك الملاقاة لقاعدة الاشتغال بحكم النجس نفسه.
ويندفع: بان مقتضى أصالة عدم الملاقاة هو نفي تحقق الملاقاة، فلا مجال
لقاعدة الاشتغال حينئذ. فالتفت.
والذي يتحصل: ان جميع هذه الايرادات لا تصلح لرد هذا الالتزام الذي
154

قربناه إثباتا بالوجهين المزبورين.
لكن التحقيق: هو ان الالتزام بالوجه الثاني بالتقريبين المتقدمين يبتني
على شئ واحد مفقود خارجا، فإنه يبتني على وجود دليل يدل على لزوم
الاجتناب عن النجاسة بهذا العنوان - أعني: بعنوان اجتنب وما شاكله -. وهو
مفقود، إذ الذي ورد في النصوص هو الامر بالغسل أو النهي عن الشرب، ولم يرد
فيها أمر بالاجتناب أصلا (1). والامر بالغسل لا ظهور له في غسل الملاقي عرفا.
وأما الكتاب الكريم فالذي يتخيل دلالته على الامر بالاجتناب منه آيتان:
إحداهما: آية الخمر والميسر، للتعبير فيها بقوله: (فاجتنبوه) (2).
ولكن الامر بالاجتناب ههنا ليس من جهة النجاسة قطعا، لكون
موضوعه أمورا أربعة وكلها ليس بنجس عدا الخمر، فلا يمكن أن يكون
الملحوظ هو جهة النجاسة، بل لا بد أن تكون جهة أخرى جامعة، وقد عرفت أن
مجرد الامر بالاجتناب عن الشئ لا ظهور له في الاجتناب عن ملاقيه، ولذا
لم يحتمل ذلك في باب الغصب ونحوه، وإنما قلنا إن الامر بالاجتناب بعنوان
النجاسة والقذارة ظاهر في ذلك لا غير.
والأخرى: قوله تعالى: (والرجز فاهجر) (3). ودلالتها تبتني على إرادة
النجس من الرجز، وهي محل نظر، لان الرجز في تفسير اللغويين بمعنى الرجز
- بالكسر -، وهو العذاب، فيكون المراد الامر بالاجتناب عن العذاب، وهو
كناية عن الامر باجتناب سببه كالامر بالمسارعة إلى المغفرة، ويراد بها سبب

(1) وسائل الشيعة 2 / أبواب النجاسات. ك‍: ح 2 ب 8 قال أبو عبد الله عليه السلام: اغسل ثوبك
من أبوال ما لا يوكل لحمه. و ح 2 باب 82: عن أبي عبد الله عليه السلام (في حديث) قال كل شئ
من الطير يتوضأ مما يشرب منه الا ان ترعا في منقاره دما فان رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا
تشرب. وغيرهما.
(2) سورة المائدة، الآية: 90.
(3) سورة المدثر، الآية: 5.
155

المغفرة.
ولو تنزل عن ذلك، فالذي قيل في تفسيره أيضا: انه بمعنى الرجس، ولا
ظهور له في إرادة النجس منه، بل يمكن ان يراد منه ما يساوق الرجس في الآية
الأولى المحمول على غير النجس، فيكون الامر امرا بهجر الاثم ونحوه مما
يرجع إلى القذارات المعنوية لا الصورية، وهو لا يدل على لزوم هجر الملاقي.
وجملة القول: ان الوجه الثاني لا دليل عليه في مقام الاثبات.
وظاهر الأدلة بدوا هو الوجه الرابع. فتدبر.
يبقى الكلام في جهتين:
الجهة الأولى: فيما أفاده الشيخ في المقام، قال (قدس سره): "... وهل
يحكم بتنجس ملاقيه؟ وجهان، بل قولان مبنيان على أن تنجس الملاقي انما جاء
من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس بناء على أن الاجتناب عن النجس يراد
به ما يعم الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط، ولذا استدل السيد أبو المكارم في
الغنية على تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة بما دل على وجوب هجر
النجاسات في قوله تعالى: (والرجز فاهجر)... فإذا حكم الشارع بوجوب هجر
كل واحد من المشتبهين، فقد حكم بوجوب هجر كل ما لاقاه، وهذا معنى ما
استدل به العلامة (قدس سره) في المنتهى على ذلك بان الشارع أعطاهما حكم
النجس، وإلا فلم يقل أحد ان كلا من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره.
أو ان الاجتناب عن النجس لا يراد به إلا الاجتناب عن العين، وتنجس الملاقي
للنجس حكم وضعي سببي يترتب على العنوان الواقي من النجاسات... ثم
قال: والأقوى هو الثاني. أما أولا، فلما ذكر، وحاصله منع ما في الغنية من دلالة
وجوب هجر النجس على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز إذا لم يكن عليه
أثر من ذلك الرجز، فتنجيسه حينئذ ليس إلا لمجرد تعبد خاص، فإذا حكم
الشارع بوجوب هجر المشتبه في الشبهة المحصورة، فلا يدل على وجوب هجر
156

ما يلاقيه " انتهى موضع الحاجة في كلامه (1).
وقد حمل الاعلام كلامه على الترديد بين كون لزوم الاجتناب عن الملاقي
من شؤون لزوم الاجتناب عن ما لا قاه، وبين كونه حكما مستقلا له دليله
الخاص، وانه اختار الثاني.
وهذا ما كنا نجري عليه سابقا في توضيح كلامه.
لكن الذي يبدو لنا فعلا ان مراده ليس ذلك..
فليس مراده بناء لزوم الاجتناب عن ملاقي أحد المشتبهين بالنجس على
كون لزوم الاجتناب عن الملاقي من شؤون لزوم الاجتناب عن الملاقي - بالفتح -.
وإلا لما صح التفريع عليه بقوله: " فإذا حكم الشارع... "، إذ لا حاجة
إلى بيان ذلك، بل مجرد العلم بالحكم الواقعي بين المشتبهين يكفي في لزوم هجر
الملاقي على المبنى المزبور كما عرفت، ولو لم يكن هناك حكم شرعي بلزوم هجر
كل من المشتبهين، كما أنه - على هذا المبنى - لا معنى لقوله: " وهذا معنى ما
استدل به العلامة (قدس سره)... "، بل الذي يظهر بملاحظة مجموع كلامه
صدرا وذيلا: أنه ليس إلا في مقام بيان الملازمة ثبوتا واثباتا بين لزوم الاجتناب
عن الشئ ولزوم الاجتناب عن ملاقيه، بحيث يكون الدليل الدال على لزوم
الاجتناب عن الشئ دالا بنفسه على لزوم الاجتناب عن ملاقيه بلا حاجة إلى
دليل آخر.
وحينئذ، فإذا دل الدليل على لزوم هجر كل واحد من المشتبهين، فهو يدل
بنفسه على هجر ملاقيه، وهو معنى كون الشارع أعطاهما حكم النجس، ولا
نظر له (قدس سره) إلى بيان كيفية انفعال الملاقي ووجهه.
والاشكال على هذا البيان واضح لوجهين - غير ما أورده الشيخ الظاهر

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فوائد الأصول / 253 - الطبعة الأولى.
157

في انكار الملازمة -:
الأول: ان لزوم هجر كل واحد من المشتبهين ليس حكما شرعيا نفسيا،
بل هو حكم عقلي يرجع إلى الحكم بتنجيز الحكم الواقعي المردد بين الطرفين في
أي طرف كان، والامر الشرعي على تقدير ثبوته ههنا أمر ارشادي لا استقلالي
تأسيسي.
الثاني: ان الذي يدعى في المقام هو الملازمة بين لزوم هجر النجس ولزوم
هجر ملاقيه، لا الملازمة بين وجوب هجر كل شئ ولزوم هجر ملاقيه، إذ لم يتوهم
متوهم ثبوت الملازمة بين لزوم الاجتناب عن الغصب ولزوم الاجتناب عن
ملاقيه. إذن فلزوم هجر كل من المشتبهين بما هو مشتبه وبعنوان الاحتياط لا
يلازم لزوم هجر ملاقيه، فتدبر والتفت.
الجهة الثانية: في ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) قبل الدخول في
مسألة الملاقاة.
ومحصل ما أفاده: ان مقتضى العلم الاجمالي هو ترتيب كل أثر يكون
المعلوم بالاجمال بالنسبة إليه تمام الموضوع.
أما إذا لم يكن المعلوم بالاجمال تمام الموضوع للأثر، بل كان جزءه لم
يترتب ذلك الأثر على ارتكاب أحد المشتبهين، لعدم العلم بتحقق موضوعه التام،
وذلك نظير جواز إقامة الحد على شارب الخمر، فان موضوعه هو شرب الخمر مع
علم الحاكم به، ومع شرب أحد الإناءين المشتبهين بالخمر لا يعلم تحقق شرب
الخمر منه، فلا يجوز إقامة الحد عليه، لان الحدود تدرأ بالشبهات، أو لأصالة
عدم شربه الخمر - بل لعدم جواز الاضرار بالغير بعد عدم العلم بشمول عموم
إقامة الحد عليه -.
ثم إنه ذكر لما كان الأثر مترتبا على نفس المعلوم بالاجمال الواقعي
مثالين. وحكم فيهما بترتب الأثر بمجرد تحقق العلم على كل من المشتبهين.
158

الأول: العلم الاجمالي بخمرية أحد المائعين بالنسبة إلى عدم جواز بيع
كل منهما. فإنه ذكر: انه كما لا يجوز شرب كل من الإناءين لا يجوز بيعه أيضا،
للعلم بعدم السلطنة على بيع أحد الإناءين فلا تجري أصالة الصحة في بيع
أحدهما لمعارضتها بأصالة الصحة في بيع الاخر فيتساقطان، ومع تساقطهما يحكم
بفساد البيع في كل منهما لعدم الدليل على الصحة حينئذ.
ثم أورد على نفسه: بان الحكم بالفساد بالنسبة إلى بيع الخمر يتقوم
بأمرين: وقوع البيع خارجا. وخمرية البيع. فمجرد الخمر ليس تمام الموضوع
للحكم بفساد البيع، بل له جزء آخر، وهو وقوع البيع خارجا لان الصحة
والفساد من أوصاف البيع اللاحقة له بعد فرض صدوره في الخارج.
إذن، فمع وقوع البيع على أحد الإناءين يحكم بصحته بمقتضى أصالة
الصحة، ولا تعارضها أصالة الصحة في الطرف الاخر لعدم وقوع البيع عليه فلا
موضوع لها.
وأجاب عن ذلك: بان الخمر المعلوم تمام الموضوع لعدم السلطنة على
بيعه، وهو ملازم للفساد، بل هو عينه لأنه ليس المجعول شرعا سوى حكم
واحد يعبر عنه بعدم السلطنة قبل صدور البيع وبالفساد بعد صدوره، كما أن
السلطنة على البيع وصحته كذلك شئ واحد.
وعليه، فأصالة الصحة تجري في كل طرف قبل صدور البيع وتسقط
بالمعارضة، كما عرفت.
الثاني: العلم الاجمالي بغصبية أحد الدارين أو الشجرتين. فإنه كما يكون
مقتضى العلم الاجمالي هو لزوم الاجتناب عن كل من الدارين أو الشجرتين،
كذلك مقتضاه الاجتناب عن ثمرات ومنافع كل من العينين، لان لزوم الاجتناب
عن إحدى العينين واقعا يقتضي بنفسه لزوم الاجتناب عن الثمرات والمنافع لها
سواء المتصلة منها أم المنفصلة، والموجودة حال العلم أم المتجددة، وسواء أكانت
159

كلتا العينين من ذوات المنافع والثمار أم كانت إحداهما كذلك... إلى غير ذلك من
الصور، فان مقتضى العلم الاجمالي لزوم التجنب عن المنافع مطلقا، لان النهي
عن المغصوب يقتضي النهي عنه وعن توابعه ومنافعه الموجودة فعلا والمتجددة.
فالتجنب عن المنفعة المتجددة يكفي فيه النهي السابق الفعلي المتعلق بنفس
العين ويصير بالنسبة إلى الثمرة المتجددة فعليا عند تجددها.
ثم أورد على نفسه: بالفرق بين منافع الدار وثمرة الشجرة ونحوها مما لها
وجود مستقل منحاز، فإن تبعية الثمرة للشجرة انما تكون في الوجود، وهي لا
تستلزم التبعية في الحكم، بل لا يعقل ذلك بعد أن كانت الثمرة ذات وجود
مستقل، ويدخل تحت اليد بنفسه في قبال الشجرة، فلا بد أن يكون كل من
الأصل والفرع له حكم مستقل يتحقق عند وجوده. وعليه فلا يعقل ان يتقدم
حكم الثمرة على وجودها، لان الحكم تابع لوجود موضوعه، فقبل تحقق الثمرة
لا حكم إلا بلزوم الاجتناب عن نفس الشجرة المغصوبة، ثم بعد حصول الثمرة
يثبت حكم آخر بحرمة التصرف موضوعه الثمرة. ولكن هذا إذا علم تفصيلا
بحرمة الشجرة. أما مع العلم الاجمالي، فحيث لا يعلم ان هذه الثمرة ثمرة
لشجرة مغصوبة لا علم بثبوت الحكم فيها، فيجري فيها الأصل بلا مزاحم، إلا
إذا كانت طرفا لعلم اجمالي آخر كما يأتي تحقيقه.
نعم، مثل منافع الدار مما لا وجود له مستقل منحاز عن الدار يكون تابعا
في الحكم للدار، فيتنجز فيه الحكم بتنجز الحكم الثابت للدار نفسها.
وأجاب (قدس سره) عن هذا الايراد: بان المقصود من تبعية حكم الثمرة
للشجرة ليس هو فعلية وجوب الاجتناب عنهما قبل وجودهما، فإنه من فعلية
الحكم قبل وجود موضوعه وهو محال، حتى في مثل منافع الدار، إذ يستحيل فعلية
وجوب الاجتناب عن منافع الدار للسنة المقبلة، بل المقصود بالتبعية هو ان النهي
عن التصرف في الشجرة المغصوبة يقتضي بنفسه وجوب الاجتناب عن ثمرتها
160

عند حصولها بلا حاجة إلى تعبد آخر، لان حرمة التصرف في المنافع - سواء أكانت
مستقلة في الوجود كالثمرة أو غير مستقلة كمنفعة الدار - من شؤون حرمة
التصرف في ذي المنفعة، فلا يتحقق امتثال المعلوم بالاجمال إلا بالاجتناب عن
الثمرة عند تجددها. فتدبر.
ثم إنه (قدس سره) التزم بان الحال في الحكم الوضعي هو الحال في الحكم
التكليفي، فان دخول الأصل تحت اليد يستلزم ضمان المنفعة المتجددة بنفسه، كما
يستلزم حرمة التصرف في الأصل حرمة التصرف في المنفعة هذا ما أفاده المحقق
النائيني (رحمه الله) في كلا الموردين (1). وفي كلاهما كلام..
أما مثال بيع أحد المشتبهين بالخمر ونحوه مما لا يصح بيعه شرعا، فالامر
كما ذكره (قدس سره) من الحكم بفساد البيع وعدم ترتيب أثره بالنسبة إلى كل
واحد من المشتبهين.
والسر فيه: انه لا يصح التمسك بعمومات الصحة والنفوذ بالنسبة إلى
بيع أحد المشتبهين لتخصيصها بغير بيع الخمر مثلا، والمفروض ان البيع الواقع
يشك في أنه بيع خمر أو لا، فيكون التمسك بالعمومات الدالة على الصحة من
التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. وهو غير جائز، وإذا لم يتمسك بالعموم
فالمرجع هو الأصل العملي، وهو يقتضي الفساد في باب المعاملات، لأصالة عدم
ترتب الأثر كما يقرر ذلك في محله.
وأما ما أفاده (قدس سره) من جريان أصالة الصحة في حد نفسه
وسقوطها بالمعارضة، فلا نعلم وجهه، لان الأصل العملي في باب المعاملات هو
الفساد لا الصحة.
نعم، تجري أصالة الصحة في العقد الصادر من الغير المشكوك واجديته.
(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 68 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي. (*)
161

لبعض شرائط الصحة، وهو غير ما نحن فيه كما لا يخفى.
وأما ما ذكره من جعل السلطنة، وانها ملازمة لجعل الصحة أو عينها وان
عدم السلطنة ملازم للفساد أو عينه ففيه: ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في نفي
امكان جعل السببية، بان الجاعل ان اقتصر على جعل السببية بل جعل المسبب
عند حصول السبب، فلا أثر لجعل السببية، لعدم تحقق المسبب بدون الجعل،
وان جعل المسبب عند حصول السبب كان جعل السببية لغوا مستغنى عنه (1) فإنه
يرد مثله في جعل السلطنة، فان الجاعل ان اقتصر على جعل السلطنة على البيع
بلا جعل الأثر عند حصوله، فلا أثر لجعل السلطنة. وإن جعل الأثر عند حصول
البيع، كفى ذلك عن جعل السلطنة، فكان جعلها لغوا محضا. إذن فلا وجه
للالتزام بجعل السلطنة أو نفيها شرعا، بل السلطنة وعدمها ينتزعان من جعل
الأثر عند حصول البيع وعدمه. فالتفت.
وأما مثال النماء المتصل أو المنفصل لاحدى العينين المشتبهتين بالغصبية،
فحديث ضمان المنفعة المتجددة بمجرد جعل اليد على العين له مجال آخر، فنوكله
إلى محله، وانما نتكلم فيه من جهة الحكم التكليفي، وان لزوم الاجتناب عن النماء
بنفس لزوم الاجتناب عن العين، أو انه حكم آخر ذو موضوع مستقل آخر؟.
وقد أشار المحقق العراقي (قدس سره) إلى هذا المثال، ورد فيه بين
الاحتمالين، ولم يرجح أحدهما على الاخر، بل أهمل ذلك بالكلية (2).
ولا يخفى ان الالتزام بأحد الاحتمالين يبتني على ظهور ان الاجتناب عن
النماء هل هو من شؤون الاجتناب عن العين أو ليس من شؤونه؟. فإذا ثبت كونه
من شؤون الاجتناب عن العين كان وجوب الاجتناب عن العين بنفسه يقتضي

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 350 و 351 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 2 / 262 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
162

الاجتناب عن النماء. وإلا فلا.
والظاهر هو الأول، فان النهي عن التصرف في العين والامر باجتنابها
ظاهر عرفا فيما يعم الاجتناب عن نمائها حتى المتجددة، ويعد ذلك من شؤون
الاجتناب عن نفس العين عرفا. وعليه فكلما تتجدد ثمرة للعين تتسع دائرة
وجوب الاجتناب عن العين، ويثبت وجوب الاجتناب عن ثمرة العين بنفس
الوجوب الثابت من الأول، لأنه من مراتبه وشئونه. وهذا يقتضي تنجز الحكم
باجتناب الثمرة لا حدى المشتبهين بنفس العلم الاجمالي بغصبية أحدهما ولزوم
الاجتناب عن أحدهما بلا حاجة إلى علم آخر، كما أوضحناه جيدا في مسألة
ملاقي أحد المشتبهين بالنجس.
ومما ذكرنا يظهر: انه لا وقع لما جاء في الدراسات من الايراد على المحقق
النائيني في ما ذكره في مثال النماء من " انا لا نتعقل ثبوت ملاك تحريم المنافع قبل
وجودها خارجا، فان حرمة التصرف في مال الغير انما تثبت بعد ثبوت موضوعه
في الخارج، ومع عدم تحققه لا معنى لتحقق ملاك التحريم، كما لا معنى لثبوت
نفسه " (1). فان المحقق النائيني (قدس سره) قد تنبه إلى ذلك على ما نقلناه من
كلامه، وذهب إلى عدم فعلية الحكم بالاجتناب عن النماء إلا عند حصوله، لكن
الحكم بالاجتناب عنه ليس حكما جديدا، بل هو بنفس الحكم بلزوم الاجتناب
عن الأصل، لان الاجتناب عن النماء من شؤونه وتوابعه عرفا، فتتسع دائرته
بحصول مرتبة من مراتب متعلقه. فلاحظ تعرف.
هذا تمام الكلام في الجهة الأولى الفقهية.
وأما الجهة الثانية الأصولية: فتحقيق الكلام فيها: انه قد يدعى ان
لزوم الاجتناب عن ملاقي النجس وإن كان حكما مستقلا غير وجوب

(1) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية 3 / 262 - الطبعة الأولى.
163

الاجتناب عن النجس نفسه، لكن هذا لا يضر في لزوم الاجتناب عن ملاقي
أحد المشتبهين بالنجس، وذلك لأنه يكون طرفا لعلم إجمالي آخر يقتضي تنجز
التكليف فيه، فإنه عند تحقق الملاقاة يحصل عند المكلف علم إجمالي اخر بنجاسة
أحد الإناءين، إما الملاقي - بالكسر - أو الطرف الاخر للملاقى - بالفتح -،
وهذا العلم الاجمالي يوجب تنجز التكليف في الملاقي، كاستلزام العلم الاجمالي
الذي طرفاه الملاقي والاناء الاخر لتنجيز طرفيه.
وقد تصدى الاعلام إلى دفع هذه الدعوى، وبيان عدم منجزية العلم
الاجمالي الاخر.
فذكر الشيخ (رحمه الله) في هذا المقام: ان أصل الطهارة والحل في الملاقي
يمكن اجراؤه بلا ابتلائه بالمعارض الموجب للتساقط. وذلك لان الشك في نجاسة
الملاقي ناشئ ومسبب عن الشك في نجاسة الملاقي، فالشك في الملاقي سببي
وفي الملاقي مسببي، وقد تقرر في محله انه لا مجال لجريان الأصل في الشك
المسببي مع جريانه في الشك السببي، سواء كان موافقا أم مخالفا، لحكومة أو
ورود الأصل السببي على الأصل المسببي.
وعليه، فظرف جريان الأصل المسببي هو ظرف امتناع جريان الأصل
السببي لمانع منه، ولا يكونان في رتبة واحدة.
وهذا يقتضي انه لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي إلا بعد
سقوط الأصل في الملاقي وعدم جريانه، وهو انما يسقط بمعارضته بالأصل
الجاري في الطرف الاخر. فإذا تساقطا معا كان الأصل في الملاقي جاريا بلا
معارض.
وبالجملة: لا يلزم من جريان الأصل المرخص في الملاقي محذور لعدم
معارضته بمثله في الطرف الاخر، لسقوط الأصل فيه في مرحلة سابقة على
جريانه في الملاقي، وهي مرحلة جريان الأصل في الملاقي الذي عرفت تقدمه
164

رتبة على الأصل في الملاقي، هذا ما أفاده الشيخ (رحمه الله) (1).
وقد أفاد صاحب الكفاية في دفع الدعوى المزبورة: ان الملاقي على تقدير
نجاسته بسبب نجاسة الملاقي يكون فردا آخر من أفراد النجس يشك في تحققه،
كما يشك في نجاسة فرد آخر بسبب آخر غير الملاقاة، فان العلم الاجمالي كما لا
يقتضي الاجتناب عن الفرد المشكوك النجاسة بسبب آخر كذلك لا يقتضي
الاجتناب عن الملاقي (2).
وهذا البيان مقتضب جدا وهو يختلف عن بيان الشيخ (رحمه الله).
ولعل الوجه في سلوك صاحب الكفاية هذا المسلك وعدوله عن مسلك
الشيخ (رحمه الله) هو: أن مسلك الشيخ (رحمه الله) في الجواب يبتني على القول
بالاقتضاء في العلم الاجمالي، وان وجوب الموافقة القطعية ناشئ من تعارض
الأصول، فيصح اجراء الأصل في أحد الطرفين لو لم يكن له معارض.
وهذا القول لا يرتضيه صاحب الكفاية ولا يذهب إلى صحته، بل هو
يرى القول بالعلية التامة، بحيث يمتنع اجراء الأصل في أحد الطرفين في حد
نفسه ومع قطع النظر عن المعارضة، ولأجل وضوح هذه الجهة أهمل الإشارة إلى
كلام الشيخ، بل سلك في دفع الدعوى مسلكا يتلاءم مع مسلكه، لكن بيانه لا
يخلو عن اجمال كما عرفت.
ومن الممكن أن يكون نظره (قدس سره) إلى بيان عدم منجزية العلم
الاجمالي الاخر لانحلاله بالعلم الاجمالي السابق. والوجه فيه - بنظره -..
إما أن العلم الاجمالي المتأخر ليس علما بتكليف فعلي آخر غير التكليف
المعلوم بالعلم الأول، فلا يكون حينئذ منجزا.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 253 الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 362 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
165

وإما ما أشار إليه المحقق الأصفهاني من: أن العلم الاجمالي انما يكون
منجزا للتكليف إذا لم يقم على أحد طرفيه منجز، لان المنجز لا يتنجز، وما نحن
فيه كذلك لان الطرف الاخر طرف لعلم اجمالي منجز سابق على العلم الاجمالي
بينه وبين الملاقي وهو العلم الاجمالي بينه وبين الملاقي. وحينئذ فلا يكون العلم
الاجمالي المتأخر قابلا لتنجيز طرفيه (1).
ولكن فيه كلا الوجهين منع تقدم إيضاحه في مبحث الانحلال.
فقد تقدم: ان دعوى اعتبار تعلق العلم بتكليف فعلي آخر في منجزيته.
مدفوعة: بأنه لا دليل عليها، بل ينافيها ما هو واضح من منجزية العلمين
الاجماليين المشتركين في طرف واحد الحاصلين في آن واحد، مع بان كلا منهما ليس
علما بتكليف آخر جديد، لاحتمال كون المعلوم بالاجمال فيهما هو الطرف
المشترك.
كما تقدم: ان دعوى أن المنجز لا يتنجز وجه صوري لبيان الانحلال،
لان العلم الاجمالي السابق لا يكون منجزا في مرحلة البقاء إلا بلحاظ بقائه لا
بلحاظ حدوثه، وحينئذ فتكون نسبة العلمين بقاء إلى الطرف المشترك على حد
سواء، فيشتركان في التنجيز. فراجع.
إذن فهذان الوجهان لا يصلحان لاثبات دعوى الانحلال في المقام.
ثم إن صاحب الكفاية بعد ما ذكر ما نقلناه عنه قال: " ومنه ظهر: انه لا
مجال لتوهم ان قضية تنجز الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أيضا،
ضرورة ان العلم به انما يوجب تنجز الاجتناب عنه لا تنجز الاجتناب عن فرد
آخر لم يعلم حدوثه وان احتمل " (2). وهذا القول منه يحتمل أن يكون إشارة إلى

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 259 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 363 - طبعة مؤسسة آل البيت.
166

أحد أمرين:
الأول: نفي دعوى أن الاجتناب عن الملاقي من شؤون الاجتناب عن
الملاقي، بحيث يكون تنجز الاجتناب عن الملاقي موجبا لتنجز الاجتناب عن
الملاقي التي عرفت ذهاب البعض إليها.
وبيان ان نجاسة الملاقي فرد آخر من النجاسة له حكمه الخاص من
حيث التنجز، فلا ينجز إلا بمنجز يقوم عليه خاصة، ولا يتنجز بتنجز غيره.
الثاني: نفي توهم ان الامارة إذا قامت على نجاسة شئ كان مقتضاها
هو الحكم بنجاسة ملاقيه، مع أنها لا تفيد سوى تنجيز الواقع كالعلم - كما يراه
صاحب الكفاية -.
وهذا يقتضي أن يكون تنجز الاجتناب عن شئ بعنوان النجاسة موجبا
لثبوت الحكم بالاجتناب عن ملاقيه، فيثبت ذلك في مورد العلم الاجمالي لتنجز
حكم النجاسة في كلا الطرفين.
والوجه في دفعه: ان الاخبار بأحد المتلازمين إخبار بالملازمة بالاخر، فإذا
قامت البينة على نجاسة شئ قامت أيضا على نجاسة ملاقيه بالملازمة، فالحكم
بنجاسة الملاقي ليس من جهة التلازم في التنجيز بينهما، بل من جهة قيام الامارة
على نجاسته بالخصوص، وليس كذلك الحال في مورد العلم الاجمالي، فان العلم
الاجمالي بنجاسة أحد الإناءين واقعا لا يكون علما بنجاسة الملاقي لأحدهما
المشكوك، بل لا يكون في البين الا مجرد الاحتمال وهو لا يصلح للتنجيز.
وبعد هذا نعود إلى أصل المطلب، فنقول: ان عدم تنجيز العلم الاجمالي
الحادث بين الملاقي والطرف الاخر يبتني على الالتزام بالانحلال.
وقد عرفت فيما تقدم عدم ارتضاء جميع الوجوه المذكورة للانحلال من
الانحلال الحقيقي التكويني وغيره.
نعم، ذكرنا هناك وجها للانحلال اختصصنا به، وهو الالتزام باجراء
167

الأصل المؤمن فيما عدا ما قام عليه المنجز من علم أو أمارة - بهذا العنوان أعني:
عنوان غير ما قامت عليه الامارة مثلا -، إذ يشك في ثبوت التكليف في غيره،
فإذا نفي التكليف بالأصل كان هذا الأصل ناظرا إلى التأمين من جهة العلم
الاجمالي وموجبا لانحلاله.
وقد تقدم انه لا مانع من جريان الأصل إذا كان ناظرا إلى العلم
الاجمالي. وانما التزمنا بوجوب الموافقة القطعية باعتبار قصور مقام الاثبات،
فراجع تعرف، وبالوجه الذي ذكرناه صححنا جعل البدل وأرجعناه إليه.
ولكن تقدم ان الوجه المذكور نلتزم به فعلا في مورد قيام العلم أو الامارة
أو الأصل الشرعي المثبت في أحد الأطراف.
أما موارد ثبوت قاعدة الاشتغال في أحد الأطراف، أو كون أحد الطرفين
طرفا لعلم اجمالي آخر، كما فيما نحن فيه، فقد أوكلناه إلى محل آخر، ونحن الآن
لا نريد تحقيق ذلك، بل نقصر الكلام على المورد الذي نحن فيه مما كان العلم
الاجمالي ناشئا من العلم الاجمالي السابق ومتفرعا عليه. فنقول: إن الوجه
المتقدم يتأتى فيما نحن فيه بوضوح لأنا نقول: نحن نعلم اجمالا بثبوت التكليف
بين الملاقي وطرفه، ونشك في ثبوت تكليف زائد على ذلك التكليف، فننفيه بأصالة
البراءة، فيتصرف في موضوع العلم الاجمالي القائم بين الملاقي والطرف الاخر
ويكون مؤمنا منه لأنه ينظر إليه. ولا يمكن دعوى العكس، بان يقال: انا نعلم
بثبوت التكليف بين الملاقي وطرفه، ونشك في ثبوت تكليف زائد عليه فينفي
بأصالة البراءة، ونتيجته التأمين من الملاقي.
لتفرع نجاسة الملاقي على نجاسة الملاقي فمع قطع النظر عن الملاقي
لا علم بالتكليف في الملاقي، فكيف يقال: إنا نعلم بالتكليف بين الملاقي والطرف
الاخر ونشك في الزائد عليه وننفيه بالأصل؟. فلاحظ.
ثم إن صاحب الكفاية فصل بين صور الملاقاة من حيث الحكم بلزوم
168

الاجتناب عن الملاقي وعدمه، فذكر: ان الصور ثلاث:
الأولى: ما إذا حصلت الملاقاة بعد العلم الاجمالي المنجز القائم بين
الملاقي والطرف الاخر، وهي موضوع الكلام السابق. وقد عرفت أنه اختار عدم
لزوم الاجتناب عن الملاقي.
الثانية: ما إذا حصل العلم الاجمالي بعد العلم بالملاقاة، واختار فيها لزوم
الاجتناب عن الملاقي والملاقي معا، للعلم الاجمالي إما بنجاستهما أو نجاسة
الطرف الاخر.
الثالثة: ما إذا علم بنجاسة الملاقي أو شئ آخر، ثم بعد ذلك علم
بالملاقاة وعلم بنجاسة الملاقي أو ذلك الشئ. واختار فيها لزوم الاجتناب عن
الملاقي دون الملاقي وان حال الملاقي في هذه الصورة حال الملاقي في الصورة
الأولى.
وعطف عليها في الحكم ما إذا علم بالملاقاة ثم حدث العلم الاجمالي
بنجاسة الملاقي أو الطرف الاخر، وكان الملاقي عند حدوث العلم الاجمالي
خارجا عن محل الابتلاء، ثم صار داخلا فيه (1).
وقد فند المحقق النائيني (قدس سره) هذا التفصيل بشدة، وذهب إلى
عدم صحته، لأنه يبتني على أن حدوث العلم بما هو علم وصفة قائمة بالنفس تمام
الموضوع لحكم العقل بالتنجيز وان انقلبت صورته وانقلبت عما حدثت عليه،
وهذا المبنى فاسد، لان المدار في تأثير العلم على المعلوم والمنكشف لا على العلم
والكاشف، فإذا كان المعلوم بالعلم المتأخر أسبق زمانا من المعلوم بالعلم المتقدم،
كان العلم المتأخر موجبا لانحلال العلم المتقدم. والسر فيه هو: ان العلم المتأخر
المتعلق بالمعلوم السابق زمانا يستلزم تنجيز معلومه من السابق، فيكون العلم

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 362 - 363 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
169

المتقدم متعلقا بما هو منجز، فلا يصلح لتنجيز أطرافه (1).
أقول: إن صاحب الكفاية حيث بنى كلامه في دعوى الانحلال على أن
المنجز لا يتنجز، كما وجهت به عبارته من قبل المحقق الأصفهاني، كان التفصيل
الذي ذكره بين هذه الصور في غاية المتانة، إذ المدار حينئذ على تأخر العلم
وتقدمه، لا تأخر المعلوم وتقدمه، فالعلم المتأخر لا يكون منجزا، لأنه يتعلق بما
هو منجز وهو لا يقبل التنجيز ثانيا، وليس هذا من جهة أخذ العلم موضوعا لا
طريقا كما لا يخفى.
وعليه، فيرد على المحقق النائيني: انه على تقدير تمامية ما أفاده، فهو لا
يصلح ايرادا على صاحب الكفاية فيما نحن فيه، لأنه ايراد مبنائي وهو خارج
عن الأسلوب العلمي في مقام النقض والابرام.
هذا، مع أن ما أفاده غير تام في نفسه، لان دعوى تنجيز العلم المتأخر
معلومه من السابق خالية عن السداد، لان المعلوم إذا كان في ظرفه غير منجز
في حق المكلف، ثم بعد حين تعلق به العلم، لم يصلح العلم لتنجيزه في ظرفه
السابق، فان الشئ لا ينقلب عما وقع عليه، مع أنه لا معنى لتنجيزه بعد مضي
ظرفه. نعم العلم يكون منجزا من حين حدوثه، كما تقدم بيان ذلك في مبحث
الانحلال والاضطرار فراجع.
ثم إنك حيث عرفت أن بناء الانحلال على عدم صلاحية المنجز للتنجيز
لا ترجع إلى محصل، فلا بد من معرفة حكم هذه الصور على الوجه الذي
اخترناه في تقريب الانحلال.
والحق ان الوجه الذي ذكرناه لتقريب الانحلال في الصورة الأولى يأتي
في سائر الصور، لأنه يصح ان نقول في جميعها ان التكليف بين الملاقي والطرف

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 86 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
170

الاخر معلوم، والزائد عليه مشكوك ينفى بالأصل. فالتفت ولا تغفل.
هذا تحقيق الكلام في أصل المطلب. يبقى الكلام في أمور:
الامر الأول: ذكر الشيخ (رحمه الله): انه لو تحققت الملاقاة لاحد
المشتبهين قبل العلم الاجمالي وفقد الملاقي بعد الملاقاة، ثم حصل العلم الاجمالي
بنجاسة المفقود أو طرف آخر، كان الملاقي قائما مقام الملاقي المفقود في وجوب
الاجتناب عنه، لمعارضة أصالة الطهارة فيه بأصالة الطهارة في الطرف الاخر، إذ
لا يجري الأصل في الملاقي المفقود حتى يعارض الأصل في طرفه، ويبقى الأصل
في الملاقي سليما عن المعارض، لان الأصل لا يجري فيما لا يبتلي به المكلف
لعدم الأثر بالنسبة إليه (1).
وأورد عليه: بان خروج الشئ عن محل الابتلاء ولو كان بسبب عدم
القدرة عليه، لا يكون مانعا عن جريان الأصل فيه إذا كان له أثر فعلي، كما لو
غسل الثوب النجس بماء مع الغفلة عن طهارته ونجاسته، ثم انعدم ذلك الماء،
وبعد ذلك شك في طهارته ونجاسته، فإنه لا اشكال في جريان أصالة الطهارة فيه
أو استصحابها، فيثبت بها طهارة الثوب المغسول به.
وما نحن فيه كذلك، لان الملاقي وإن كان معدوما إلا أن اجراء أصالة
الطهارة فيه مما يترتب عليه أثر، وهو طهارة ملاقيه، فلا مانع من اجراء الأصل
فيه في نفسه، لكنه بواسطة العلم الاجمالي معارض بأصالة الطهارة في الطرف
الاخر، فتبقى أصالة الطهارة في الملاقي سليمة عن المعارض (2).
وهذا الايراد لا يمكننا الالتزام به لوجهين:
الأول: ان معارضة الأصول في أطراف العلم الاجمالي ناشئة - على ما

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 254 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 363 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
171

تقدم - من استلزام اجرائها في الطرفين الترخيص في المعصية واجراء أحدهما
ترجيح بلا مرجح.
ولا يخفى ان هذا المحذور يرتبط بالعلم الاجمالي بالحكم التكليفي
الالزامي.
أما العلم الاجمالي بحكم وضعي مردد بين طرفين، فلا يصادم اجراء
الأصل النافي لذلك الحكم الوضعي في كلا الطرفين، إذ ليس فيه ترخيص في
معصية.
وعليه، فنقول: مع العلم الاجمالي بنجاسة أحد الشيئين لا مانع من
جريان أصالة الطهارة في كليهما في حد نفسها، وإنما المانع من جهة ما يترتب
على جريان أصالة الطهرة فيهما من مخالفة التكليف المعلوم المترتب على
النجاسة، لان أصل الطهارة يترتب عليه الترخيص في استعمال الطاهر، وهو
ينافي العلم بالمنع في أحدهما.
وعلى هذا، ففيما نحن فيه يعلم بنجاسة أحد الإناءين المفقود أو الموجود،
لكن هذا العلم ليس علما بتكليف الزامي مردد بين الطرفين، إذ النجاسة على
تقدير كونها في الطرف المفقود لا يترتب عليها وجوب الاجتناب لخروجه عن
محلا الابتلاء المانع من ثبوت التكليف.
وعليه، فلا معارضة بين أصالة الطهارة في المفقود - على تقدير جريانها -،
وأصالة الطهارة في الموجود، لان العلم بالنجاسة بنفسه لا يمنع من إجراء أصالة
الطهارة ما لم يكن علما بتكليف إلزامي. فليس لدينا حينئذ علم منجز سوى
العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف الاخر الموجود، لأنه علم بتكليف
الزامي مردد بين الطرفين، فيمنع من جريان كلا الأصلين في طرفيه.
الثاني: ان ظاهر دليل قاعدة الطهارة هو الحكم بالطهارة عند تحقق
الشك، بحيث يكون ظرف الحكم بالطهارة هو ظرف فعلية الشك - كما هو ظاهر
172

قضية كل حكم وموضوع، فان ظاهرها كون فعلية الحكم عند فعلية موضوعه -.
وعليه، فلا دلالة له على الكم بالطهارة السابقة للاناء في الزمان السابق،
بحيث تثبت له الطهارة سابقا، فان مقام الاثبات لا يساعد عليه.
فأصالة الطهارة لا تجري في المعدوم بلحاظ ظرف وجوده السابق، بحيث
تتكفل جعل الطهارة له في الزمان السابق لأنه ليس ظرف الشك. وإنما ظرف
الشك فعلي، ولم يؤخذ الشك بنحو الشرط المتأخر للحكم، فغاية ما تتكفله جعل
الطهارة له فعلا ومن الآن ولكنه معدوم الآن، فلا يقبل جعل الطهارة له. اذن
فجريان أصالة الطهارة في المعدوم لاثبات طهارة ملاقيه أو المغسول به مما لا
محصل له.
ودعوى: انه يمكن ان تتكفل جعل الطهارة فعلا لكن للموجود السابق
على العكس من الواجب - المعلق بدعوى أن المحكوم بالطهارة فعلا هو متعلق
الشك، ومتعلق الشك فيما نحن فيه هو الوجود السابق للشئ، فيحكم فقط
بطهارته - فالحكم فعلي والمتعلق سابق كما أنه في الواجب المعلق يكون الحكم
فعليا والمتعلق استقبالي.
مندفعة: بأنها - على تقدير معقوليتها - لا تنفع في اثبات طهارة الملاقي،
لان الذي ينفع هو اثبات الطهارة في ظرف الملاقاة، أما بعد ذلك فلا ينفع في
اثبات طهارة الملاقي أو المغسول به. فالتفت.
نعم، هذا الكلام لا يجري في مثل الاستصحاب، إذ يلتزم فيه بأنه يتكفل
جعل الحكم في الزمان السابق واللاحق، كموارد الاستصحاب الاستقبالي، ولذا
يلتزم بجريانه في المعدوم بلحاظ وجوده السابق وتعلق الشك فيه.
وعلى ما ذكرناه، نقول: انه إذا غسل الثوب باناء مع الغفلة عن طهارته
ونجاسته ثم انعدم، وبعد ذلك حصل الشك..
فان كانت الحالة السابقة للماء هي النجاسة جرى استصحاب النجاسة
173

فيه وحكم ببقاء نجاسة الثوب المغسول به.
وان كانت الحالة السابقة له هي الطهارة جرى استصحاب الطهارة فيه
وحكم بطهارة الثوب المغسول به.
وإن لم تعلم حالته السابقة، أو كان مما تواردت عليه الحالتان مع الجهل
بتأريخهما، لم يمكن جريان الاستصحاب فيه، كما أنه لا يمكن جريان قاعدة
الطهارة فيه بلحاظ زمان وجوده، لما عرفت من قصور دليلها، فيتعين اجراء
استصحاب النجاسة في الثوب المغسول به، فيعامل معاملة النجس.
هذا تحقيق الكلام في هذا الامر.
الامر الثاني: إذا حصل العلم بالملاقاة ثم حصل العلم الاجمالي بنجاسة
الملاقي والملاقى أو الطرف الاخر، بحيث اتحد زمان الملاقاة مع زمان المعلوم
بالاجمال، كما إذا كان ثوب في إناء فيه ماء فوقعت قطرة بول إما في ذلك الاناء
أو في إناء آخر، فإنه يحصل العلم الاجمالي بنجاسة الثوب والماء المشتمل عليه
أو الماء في الاناء الاخر.
فهل يجب الاجتناب عن الملاقي والملاقي معا، كما عليه صاحب الكفاية.
أو يجب الاجتناب عن خصوص الملاقي دون الملاقي، كما نسب إلى الشيخ،
وتبعه المحقق النائيني؟.
والوجه في الثاني هو: ان الأصل المرخص في الملاقي لما كان في رتبة
متأخرة عن الأصل الجاري في الملاقي لمكان السببية والمسببية، فالمعارضة تقع
بين الأصل الجاري في الملاقي والطرف الاخر، لعدم جريان الأصل في الملاقي
قبل سقوط الأصل في الملاقي. وعليه فيبقى الأصل في الملاقي سليما عن
المعارض.
وأورد على ذلك: بان الأصل في الملاقي وان كان في رتبة متأخرة على
الأصل في الملاقي، لكن ذلك لا يستلزم عدم وقوعه طرفا للمعارضة لوجهين:
174

الأول: ان التقدم والتأخر الرتبي انما يؤثران في مثل الاحكام العقلية
المترتبة على الشئ بلحاظ رتبته، دون الأحكام الشرعية المنوطة بالموجودات
الخارجية، سواء من حين موضوعاتها أم من حيث متعلقاتها ولا دخل للتقدم
والتأخر الرتبي فيها.
وعليه، فالأصل في الملاقي لما كان متحدا زمانا مع الأصول الأخرى كان
معارضا لها وان تأخر عنها رتبة. واستشهد على ذلك بالحكم بإعادة الوضوء
وصلاتي الظهر والغداة إذا علم اجمالا ببطلان وضوئه لصلاة الغداة أو بطلان
صلاة الظهر لفقد ركن منها. والسر فيه: تعارض قواعد الفراغ في جميع هذه
الأمور الثلاثة وتساقطها، مع أن قاعدة الفراغ في صلاة الغداة متأخرة رتبة عن
قاعدة الفراغ في الوضوء. فلاحظ.
الثاني: ان الأصل الجاري في الملاقي وان كان في طول الأصل في الملاقي،
لكنهما معا في عرض الأصل الجاري في الطرف الاخر فيعارضهما معا ويوجب
تساقطهما.
ومجرد كون الأصل في الطرف الاخر في عرض الأصل في الملاقي السابق
رتبة على الأصل في الملاقي لا يستدعي تقدمه رتبة على الأصل في الملاقي من
باب ان المتأخر عن أحد المتساويين في الرتبة متأخرة عن الاخر بالضرورة، فإنه
انما يتم في السبق بالزمان لا في السبق بالرتبة، ولذا لا يكون المعلول متأخرا عن
عدم علته رتبة مع أن عدم العلة في رتبة العلة السابقة على المعلول رتبة. فتدبر (1).
وكلا هذين الوجهين مردودان:
أما الأول: فلان الامر في تأثير التأخر والتقدم الرتبي في الاحكام العقلية
دون الأحكام الشرعية مسلم في الجملة، فإنه قد تقرر عندهم أن الطبيعة بما هي

(1) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية 3 / 267 - الطبعة الأولى.
175

ليست إلا هي لا موجودة ولا معدومة، فالتزم بارتفاع المتناقضين فيها مع كون
المقرر لديهم ان ارتفاع المتناقضين محال، فلا يمكن سلب الوجود والعدم عن
الشئ الواحد في الآن الواحد، فالطبيعة اما موجودة أو معدومة.
والتزم في دفع هذا الاشكال بان للطبيعة نحوين من الملاحظة، فتارة:
تلحظ بما هي بحيث يقصر النظر فيها على ذاتها وذاتياتها من دون ملاحظة أمر
خارج عن ذاتها وذاتياتها. وأخرى: تلحظ بالإضافة إلى ما هو خارج عن ذاتها
وذاتياتها. وهي بالملاحظة الأولى أسبق رتبة منها بالملاحظة الثانية. فقيل بان
الحكم بأنها لا موجودة ولا معدومة انما هو بلحاظ الطبيعة بما هي هي، وان الحكم
بأنها إما موجودة أو معدومة انما هو بلحاظها بالملاحظة الثانية، فالمصحح
للاختلاف هو تعدد الرتبة.
ولكن هذا لا ينفع في الأحكام الشرعية، ولذا لا يلتزم بصحة جعل الحرمة
للفعل بملاحظة ذاته، وجعل الوجوب لذلك الفعل بملاحظة وصف عارض عليه،
بحيث يجتمع الوجوب والحرمة في آن واحد، مع أن الملاحظة الثانية في طول
الملاحظة الأولى.
ولكن في الوقت الذي يسلم عدم تأثير الاختلاف في الرتبة في اجتماع
الحكمين الشرعيين المتضادين، هناك أمر لا يقبل الانكار، وهو تقدم نوبة الأصل
الجاري في الموضوع على الأصل الجاري في الحكم، وارتفاع محذور التزاحم بين
الحكمين بالالتزام بالترتب بينهما، فالاختلاف الرتبي في مثل هذين الموردين له
التأثير الكامل والمفعول النافذ الذي يلتزم به في محله. وكيف كان الحال، فقضية
الطولية في جريان الأصل المسببي وتأخره عن الأصل السببي لا تقبل الانكار،
كيف؟ وعليها أساس حكومة أو ورود الأصل السببي كما يبين في محله.
وإن شئت قلت: لا يهمنا التعبير بالطولية والعرضية. وإنما المهم هو واقع
الحال، فان لدينا أمرا واقعيا ثابتا، وهو انه لا مجال لجريان الأصل الجاري في
176

الحكم مع جريان الأصل في الموضوع، سواء كانا متوافقين أم متخالفين. وما نحن
فيه من هذا الباب، فلا يمكن إعمال المعارضة بين الأصل الجاري في الملاقي
والأصل في الطرف الاخر، إذ لا تصل النوبة إليه إلا بعد سقوط الأصل في
الموضوع وهو الملاقي، وهو انما يسقط بالمعارضة مع الأصل في الطرف الاخر
فيكون الأصل في الملاقي عند وصول النوبة إليه سليما عن المعارض.
ومن هنا ظهر الاشكال في الوجه الثاني، فان عدم معارضة الأصل في
الملاقي للأصل في الطرف الاخر ليس من جهة دعوى تقدم الأصل الجاري في
الطرف الاخر على الأصل في الملاقي رتبة، بل من جهة أن دليل الأصل لا
يشمل الملاقي إلا بعد سقوط الأصل في الملاقي بالمعارضة مع الأصل في الطرف
الاخر، لأنه مانع عنه كما عرفت، وحينئذ فحين تصل النوبة إلى الأصل في
الملاقي لا يكون له معارض.
إذن، فما أفاده الشيخ متين بناء على اختياره من كون المانع من جريان
الأصول هو التعارض.
نعم بناء على مسلك صاحب الكفاية من علية العلم الاجمالي التامة ومنعه
لجريان الأصل في طرفه مع قطع النظر عن المعارضة، يكون الصحيح هو الوجه
الأول كما تقدم بيانه. فراجع.
الامر الثالث: قد عرفت في البحث الفقهي - لهذا التنبيه - انه بناء على
الالتزام بان نجاسة الملاقي لاجل السراية الحقيقية، أو لاجل ان الاجتناب عنه
من شؤون الاجتناب عن الملاقي، يكون العلم الاجمالي الأول منجزا للحكم في
الملاقي. واما بناء على الالتزام بأنها فرد آخر من النجاسة ثبتت بالدليل الخاص،
فلا يكون العلم الاجمالي الأول منجزا، ولذا يقع الكلام في الجهة الأصولية كما
تقدم.
فلو شك في أن النجاسة للملاقي هل هي حكم مستقل آخر، أو انها
177

لاجل السراية، أو كونها من شؤون نجاسة الملاقي، فما هو مقتضى الأصل
العملي؟ فهل يقتضي الاحتياط أم البراءة؟.
ذهب المحقق النائيني - كما في تقريرات الكاظمي (1) وعدل عنه في أجود
التقريرات (2) - إلى الأول قياسا على مسألة دوران الامر بين مانعية شئ
وشرطية عدمه في الضدين اللذين لا ثالث لهما، فان الشرطية والمانعية تشتركان
في الآثار ولا تختلفان الا في أثر عقلي عند الشك في تحقق الشرط أو وجود المانع،
وهي انه مع الشك في تحقق الشرط يحكم العقل بالاحتياط. بخلاف مورد الشك
في وجود المانع، فان العقل يحكم بعدم الاحتياط لأصالة عدم المانع، فإذا شك في أن
الشئ هل أخذ مانعا في الصلاة أو ان عدمه أخذ شرطا فيها، لا يمكن نفي
الأثر المترتب على الشرطية بأصل البراءة، لأنه أثر عقلي لا شرعي، والبراءة
انما تتكفل رفع المجعولات الشرعية.
وما نحن فيه كذلك، لعدم الاختلاف بين المسلكين في الجهة الشرعية وهي
نجاسة الملاقي على كل تقدير، وانما الاختلاف بين المسلكين في أثر عقلي في موارد
العلم الاجمالي والشك في ملاقاة النجس، إذ على القول بالسراية أو التبعية لا
يتحقق امتثال الحكم في الملاقي إلا بالاجتناب عن الملاقي فيكون العلم منجزا
بالنسبة إليه. وعلى القول بالاستقلالية لا يتوقف امتثال الحكم في الملاقي على
اجتناب الملاقي فلا يكون العلم منجزا بالنسبة إليه، فمع الشك لا يمكن نفي
هذا الأثر - أعني: وجوب الاجتناب عن الملاقي - بأصالة البراءة، لان وجوبه
على تقديره عقلي وهو لا يرتفع بالبراءة. هذا محصل ما أفاده (قدس سره).
وفيه: انك قد عرفت في مقام بيان السراية ان مرجعها إلى انبساط متعلق

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 89 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 261 - الطبعة الأولى.
178

الحكم وسعة دائرته، نظير الجوهر المنحل بالماء، فالالتزام بالسراية التزام بسعة
دائرة الحكم لسعة متعلقه. وهكذا الامر بناء على الالتزام بالتبعية، وان الاجتناب
عن النجس من شؤونه الاجتناب عن ملاقيه، بحيث يجب الاجتناب شرعا عنه
بنفس لزوم الاجتناب عن الملاقي لأنه من مراتبه.
وعلى هذا، فمرجع الشك في ذلك إلى الشك في أنه عند تحقق الملاقاة هل
ينبسط الحكم الشرعي ويتعلق بالملاقي أو لا؟، فالشك في أمر شرعي لا عقلي،
فيرفع بالأصل، نظير موارد دوران الامر بين الأقل والأكثر. فتدبر.
هذا تمام الكلام في مسألة الملاقي لاحد أطراف الشبهة المحصورة.
التنبيه الخامس: في تنجيز العلم الاجمالي في التدريجيات.
وقد بحث الشيخ (قدس سره) في ذلك فقال: " لو كان المشتبهات مما
يوجد تدريجا، كما إذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها بان تنسى وقتها وان
حفظت عددها، فيعلم اجمالا انها حائض ثلاثة أيام مثلا، فهل يجب على الزوج
الاجتناب عنها في تمام الشهر ويجب على الزوجة أيضا الامساك عن دخول
المسجد وقراءة العزيمة تمام الشهر أم لا؟. وكما إذا علم التاجر إجمالا بابتلائه في
يومه أو شهره بمعاملة ربوية، فهل يجب عليه الامساك عما لا يعرف حكمه من
المعاملات في يومه أو شهره أم لا؟. التحقيق أن يقال: إنه لا فرق بين الموجودات
فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردد بينها إذا كان
الابتلاء دفعة وعدمه، لاتحاد المناط في وجوب الاجتناب. نعم قد يمنع الابتلاء
دفعة في التدريجيات، كما في مثال الحيض، فان تنجز تكليف الزوج بترك وطء
الحائض قبل زمان حيضها ممنوع، فان قول الشارع (فاعتزلوا النساء في
المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) (1) ظاهر في وجوب الكف عند

(1) سورة البقرة، الآية: 222.
179

الابتلاء بالحائض، إذ الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء، فلا يطلب
بهذا الخطاب، كما أنه مختص بذوي الأزواج ولا يشمل العزاب إلا على وجه
التعليق، فكذلك من لم يبتل بالمرأة الحائض. ويشكل الفرق بين هذا وبين ما إذا
نذر أو حلف على ترك الوطء في ليلة خاصة ثم اشتبهت بين ليلتين أو أزيد، ولكن
الأظهر هنا وجوب الاحتياط، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدمين " (1). هذا
نص ما أفاده الشيخ في المقام.
وقد حمل كلامه على التفصيل في التدريجيات بين ما إذا لم يكن للزمان
اللاحق دخل في فعلية الخطاب، وانما كان ظرفا أو قيدا للمتعلق، بحيث يكون
التكليف فعليا على كل تقدير في زمان حصول العلم. وبين ما إذا كان الزمان
اللاحق دخيلا في فعلية الخطاب والملاك بحيث لا يصير الخطاب ولا الملاك فعليا
إلا عند حصول الزمان اللاحق كمثال الحيض، ففي مثله لا يكون العلم
الاجمالي منجزا، لأنه لم يتعلق بتكليف فعلي على كل تقدير، فمراده من الابتلاء
دفعة وعدمه هو الإشارة إلى هذين الموردين.
وقد وجه المقرر الكاظمي عدم تنجيز العلم الاجمالي في الصورة الثانية
بعدم تعارض الأصول المؤمنة والنافية للتكليف فيها، وذلك لان ظرف جريان
الأصل في كل طرف غير ظرف جريانه في الطرف الاخر، فلا يتحد زمانها كي
تتحقق المعارضة. فمثلا إذا علمت المرأة بحصول الحيض لها في ثلاثة أيام من
الشهر، فهي تحتمل الحيض في كل يوم من أيام الشهر.
ولا يخفى ان الأصل النافي للتكليف في آخر أيام الشهر إنما يجري عند
مجئ تلك الأيام، لأنها ظرف احتمال التكليف فيها، لعدم ثبوت التكليف قبلها
كما هو المفروض، فالأصل المنافي في أول الشهر يجري بلا معارض. وهكذا

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 255 - الطبعة الأولى.
180

الأصل الجاري في آخر الشهر، إذ لا معنى لجريان الأصل النافي للتكليف أول
الشهر في آخر الشهر. إذن فلا تعارض بين الأصلين (1).
وأورد عليه: بان هذا البيان وإن كان موافقا لمقتضى الصناعة العلمية،
لكن يمكن منعه، لان العقل مستقل بقبح الاقدام على ما يؤدي إلى تفويت مراد
المولى، فان المقام لا يقصر عن مقام المقدمات المفوتة التي بين فيه استقلال العقل
بحفظ القدرة عليها مع عدم فعلية الخطاب والملاك، بل ما نحن فيه أولى من
المقدمات المفوتة، لاحتمال أن يكون ظرف الوطء في كل زمان هو ظرف الملاك
والخطاب.
وجملة القول: انه ذهب (قدس سره) إلى أن تنجيز العلم الاجمالي من باب
وجوب حفظ الغرض والملاك الملزم الذي يعلم بتحققه اجمالا في أحد الزمانين،
وإن لم يعلم فعلا بثبوت تكليف فعلي على كل تقدير (2).
أقول: إن كان مراده (قدس سره) ان العلم بالغرض الملزم المردد بين
الزمانين يوجب امتناع جريان الأصل في كل من الطرفين في نفسه مع قطع النظر
عن المعارضة، بحيث يكون العلم الاجمالي علة تامة للتنجيز ونفي الترخيص في
أحد الطرفين، فهذا البيان جار في جميع موارد العلم الاجمالي بالتكليف، لان العلم
بالتكليف يلازم العلم بالغرض الملزم، مع أنه (قدس سره) لم يلتزم بالعلية التامة.
وإن كان نظره إلى أن العلم المزبور يوجب المعارضة، فقد عرفت تسليمه
عدم تحقق المعارضة، لان الزمان الحالي ليس ظرف كلا الأصلين، فظرف أحدهما
غير ظرف الاخر، فلا معارضة.
وتحقيق الكلام في المقام: انه قد عرفت أنه نسب إلى الشيخ انه فصل بين

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4 / 109 - 110 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 111 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
181

الصورتين - أعني صورة ما إذا كان الزمان الاستقبالي غير دخيل في فعلية
الخطاب كمثال الربا، وصورة ما إذا كان الزمان دخيلا في فعلية الخطاب والملاك
كمثال الحيض -. ونسب له القول بالتنجيز فيما إذا كان الزمان دخيلا في فعلية
الخطاب دون الملاك، ولعله لاجل تفريقه بين مثال الحيض ومثال الربا والنذر
أو الحلف على ترك الوطء، مع فرض كون المحذور في التكليف الفعلي بالفعل
الاستقبالي ثبوتيا، فلا يمكن حمل المثالين في كلامه على الواجب المعلق وفعلية
الخطاب، بل على ما كان الملاك فعليا فقط دون الخطاب. فانتبه والأمر سهل.
أما صورة ما إذا كان الزمان دخيلا في فعلية الخطاب والملاك كمثال
الحيض.
فالتحقيق: عدم منجزية العلم الاجمالي فيها.
أما على القول بالاقتضاء والالتزام بوجوب الموافقة القطعية من جهة
تعارض الأصول، فواضح لما عرفت من عدم تعارض الأصول لاختلاف ظرف
جريانها، سواء من جهة العلم بالتكليف أم العلم بالملاك والغرض الملزم الذي
يحكم العقل بلزوم تحصيله وقبح تفويته.
وأما على القول بالعلية التامة، فلان العلم الاجمالي المردد بين التكليف
والملاك الفعلي والاستقبالي لا يصلح للتنجيز.
وذلك، لان التكليف اللاحق لا يقبل ان يتنجز بواسطة العلم التفصيلي
الفعلي، فإذا علم تفصيلا في هذا اليوم بثبوت تكليف فعلي في غد، فلا يكون العلم
التفصيلي في هذا اليوم منجزا للتكليف في غد وموجبا لترتب العقاب عليه، بل
التنجز انما يكون للعلم في ظرف التكليف والمقارن له، ولذا لو تبدل علمه إلى
شك في ظرف التكليف أو الغرض، لا يكون منجزا، مع أنه لو فرض تنجزه سابقا
يمتنع ارتفاعه، لان الشئ لا ينقلب عما وقع عليه.
نعم، بما أنه عند علمه التفصيلي في هذا اليوم بالتكليف في غد لا يتأتى
182

لديه احتمال الشك في غد، لأنه خلف فرض حصول العلم لديه، فهو يرى فعلا
ان التكليف في غد منجز عليه، لكنه انما يتنجز عليه بالعلم في ظرفه، فهو يرى أنه
في ظرفه منجز لا انه فعلا منجز.
ولذا لو فرض ان المنجز الفعلي مما يطرأ فيه فعلا احتمال الزوال لا يمكن
الحكم بالتنجيز فعلا، كما لو قامت الامارة فعلا على ثبوت التكليف في غد، وكان
هناك احتمال زوال حجية الامارة في غد أو زوالها نفسها، لم يحكم بان التكليف
في غد منجز فعلا. إذن فالتكليف الاستقبالي يستحيل ان يتنجز بالعلم الفعلي.
وعليه، فالعلم الاجمالي بتكليف مردد بين الفعلي والاستقبالي ليس علما
فعليا بما يقبل التنجيز على كل تقدير، إذ لا يصلح لان يكون بيانا على التكليف
الاستقبالي، لان شأنه لا يزيد على العلم التفصيلي. وقد عرفت أنه لا يصلح
لتنجيز التكليف الاستقبالي.
نعم، لو كان للتكليف الاستقبالي مقدمات وجودية مفوتة، كان العلم
التفصيلي موجبا لتنجزه بلحاظ مقدماته، لان التكليف الاستقبالي قابل للتنجز
فعلا بهذا المقدار ومن هذه الحيثية، فكان العلم صالحا للتأثير فيه فعلا.
وهذا يختلف عما نحن فيه، إذ المفروض انه ليس للطرف الاستقبالي
مقدمة وجودية فعلية، بل ليس هناك إلا مقدمة علمية، ولزومها يتوقف على تنجيز
ذي المقدمة، وهو غير منجز كما عرفت.
ومن هنا ظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين مورد حكم العقل بوجوب
المقدمة المفوتة من جهة قبح تفويت الغرض الملزم، وانه لا ملازمة بين وجوب
المقدمات المفوتة وبين تنجيز العلم الاجمالي فيما نحن فيه بلحاظ الغرض الملزم
فضلا عن الأولوية التي ادعاها في تقريرات الكاظمي. فالتفت.
وأما صورة ما إذا لم يكن للزمان دخل في فعلية الخطاب، بل كان الخطاب
فعليا وانما الزمان قيد المتعلق.
183

فقد ذهب الكل إلى منجزية العلم الاجمالي، لأنه علم بتكليف فعلي على
كل تقدير فيكون منجزا، كما أن حديث المعارضة يأتي فيها لاتحاد ظرف الأصل
في كل طرف من ظرفه في الطرف الاخر. إذن فالعلم منجز على كلا المسلكين في
العلم الاجمالي: - أعني: مسلك العلية التامة ومسلك الاقتضاء -.
لكن الانصاف هو عدم منجزية العلم في هذه الصورة كسابقتها لنفس
البيان السابق، فان العلم بالتكليف لا يصلح لتنجيزه إلا إذا كان متحققا في
ظرف العمل نفسه، ولذا لو علم بالتكليف الفعلي وكان زمان المكلف به متأخرا
وزال العلم في وقت العمل لم يكن التكليف منجزا.
وبالجملة: العلم المنجز هو العلم بالحكم أو بالغرض الملزم في ظرف
الطاعة والامتثال لا السابق عليه ولا المتأخر عنه، لان الحكم المتنجز هو الحكم
بثبوت العقاب على تقدير مخالفة الحكم، وهو انما يكون بلحاظ قيد المنجز في
ظرف المخالفة. فالتفت.
وعليه، فالعلم الاجمالي فيما نحن فيه ليس علما بما يقبل التنجيز فعلا
عل كل تقدير، إذ هو لا يصلح للبيانية وتنجيز التكليف المتعلق بما يكون زمانه
متأخرا.
ومن هنا ظهر حكم صورة ما إذا كان الزمان دخيلا في الخطاب دون
الملاك. فلاحظ ولا تغفل.
ومحصل القول: هو انه لنا ان نقول إن العلم الاجمالي في التدريجيات غير
منجز بقول مطلق.
هذا بحسب وجوب الموافقة القطعية.
وأما من جهة حرمة المخالفة القطعية، فالامر فيه كذلك، إذ عرفت عدم
قابلية العلم الاجمالي للتنجيز، فكما لا تجب الموافقة القطعية لا تحرم المخالفة
القطعية، سواء قلنا بالعلية التامة أم بالاقتضاء.
184

نعم، من يقرب نفي وجوب الموافقة القطعية بعدم تعارض الأصول لا
ينبغي له القول بجواز المخالفة القطعية، إذ لا ملازمة بينهما، فان حرمة المخالفة
القطعية - على هذا المبنى - ليست من جهة تعارض الأصول كي تنتفي بانتفاء
التعارض، بل العلم علة تامة لها.
فتعليل عدم حرمة المخالفة القطعية بعدم تعارض الأصول - كما جاء في
تقريرات الكاظمي - غير وجيه.
ثم، إنه إذا لم يكن العلم الاجمالي فيما نحن فيه منجزا كما عرفت، كان
المرجع في كل طرف الأصل الجاري فيه.
وعليه، ففي مثال العلم الاجمالي بابتلائه بمعاملة ربوية إما في يومه أو غده
يقع الكلام في جهتين أشار الشيخ (رحمه الله) إلى كلتيهما:
الجهة الأولى: في أنه حيث يشك في صحة المعاملة وفسادها، فهل المرجع
عمومات الصحة أو أصالة الفساد؟.
ذكر الشيخ (رحمه الله) أولا: ان المرجع هو أصالة الفساد لا عمومات
الصحة، للعلم بخروج بعض الشبهات التدريجية عن العموم، لفرض العلم
بفساد بعضها، فيسقط العام عن الظهور بالنسبة إليها ويجب الرجوع إلى أصالة
الفساد. ثم قال بعد ذلك: " اللهم إلا أن يقال: ان العلم الاجمالي بين المشتبهات
التدريجية كما لا يقدح في إجراء الأصول العملية فيها كذلك لا يقدح في الأصول
اللفظية، فيمكن التمسك فيما نحن فيه لصحة كل واحد من المشتبهات بأصالة
العموم، لكن الظاهر الفرق بين الأصول اللفظية والعملية، فتأمل " (1).
أقول: إن عدم صحة التمسك بالعموم في مورد الشك فيما نحن فيه ليس
من جهة العلم الاجمالي بفساد إحدى المعاملتين كي يتأتى ما ذكره من الحديث،

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 256 - الطبعة الأولى.
185

بل من جهة انه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص، وهو غير
جائز، ولذا يمتنع التمسك بالعموم حتى في الشبهة البدوية.
وظاهر الشيخ (رحمه الله) وإن كان إناطة المحذور في ما نحن فيه بوجود
العلم الاجمالي. لكن يمكن أن يكون قوله: " فتأمل " إلى ما ذكرناه من كون
المورد من موارد الشبهة المصداقية، فلا يتأتى فيه حديث العلم الاجمالي والفرق
بين الأصول اللفظية والعملية.
وعلى هذا فلا يتجه رمي كلامه بالفساد كما جاء في تقريرات الكاظمي (1).
فالتفت ولا تغفل.
الجهة الثانية: انه حيث يشك في حلية المعاملة وحرمتها لاحتمال انها
ربوية، فتكون مجرى لأصالة الحل. وحينئذ يقع الكلام في أن أصالة الحل هل
تكون حاكمة على أصالة الفساد أو لا؟ ذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى
الأول في عموم المعاملات، وإن لم يلتزم به في فرض المسألة، باعتبار ان فساد الربا
ليس ناشئا من الحكم التكليفي.
وبالجملة: التزم (قدس سره) بان الحلية التكليفية تلازم الحلية الوضعية.
ومحصل ما جاء في تقريرات الكاظمي في تقريبه يرجع إلى وجهين:
الأول: ان حرمة المعاملة بما انها آلة لا يجاد النقل والانتقال لا بما هي
عقد لفظي. وبعبارة أخرى: حرمة المعنى الاسم المصدري باعتبار صدوره من
العاقد بما انها تستتبع الفساد، لأنها تستلزم نفي السلطنة شرعا، كان نفيها
بأصالة الحل موجبا لنفي أثرها وهو الفساد أو عدم السلطنة.
الثاني: انه كما أن حرمة المعاملة تستلزم الفساد كذلك الحلية التكليفية
للمعاملة بالنحو المزبور تقتضي الصحة.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4 / 113 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
186

ولأجل ذلك يلتزم بدلالة آية: (أحل الله البيع) (1) على صحة البيع ولو
مع إرادة الحلية التكليفية منها (2).
وفي كلا الوجهين منع.
أما الأول: ففيه - بعد تسليم ما أفاده من اقتضاء النهي للفساد -.
أولا: ان الترتب بين الفساد والنهي أو عدم السلطنة والنهي ليس ترتبا
شرعيا كي ينتفي بانتفاء موضوعه، بل هو - بحسب ما أفاده - ترتب عقلي نظير
التلازم بين حرمة الشئ وعدم وجوبه. فدليله انما يتكفل الملازمة عقلا بين الحرمة
وعدم السلطنة باعتبار عدم امكان تصور الجمع بينهما، إذن فلا ينتفي الفساد
بانتفاء الحرمة بالأصل.
وثانيا (3): انه لو فرض كون الترتب شرعيا، فأصالة الحل انما تنفع في نفي
الفساد لو فرض ان دليلها يتكفل جعل الحلية بلحاظ جميع آثارها.
أما لو فرض ان دليلها انما يتكفل جعل الحلية ونفي الحرمة بلحاظ
خصوص المعذرية وعدم العقاب، كما يحتمل قويا ذلك، فلا يترتب عليها نفي
الفساد.
وأما الثاني: ففيه - مضافا إلى ما ورد على الأول -: انه لا تلازم بين الحلية
التكليفية والصحة - لو سلمت الملازمة بين الحرمة والفساد - للقطع بحلية كثير
من المعاملات الفاسدة كالمعاملة الغررية ونحوها، فإنه يكشف عن عدم الملازمة
بين الحلية والصحة.
وأما فهم جعل الصحة من آية حل البيع، فهو من جهة ان نفس التصدي

(1) سورة البقرة. الآية: 275.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 115 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) قد يقال بامكان الرجوع إلى استصحاب عدم الحرمة في نفي الفساد، فلا حاجة إلى أصالة الحل كي
يأتي الشكال المذكور. فتأمل. منه عفى عنه.
187

لبيان حليته تكليفا ظاهر عرفا في أنه نافذ وصحيح، كما لا يخفى. فتدبر.
التنبيه السادس: في الكلام عما إذا كان في أحد الأطراف أصول طولية
دون الاخر. فإنه بناء على الالتزام بتعارض الأصول ومنجزية العلم الاجمالي من
جهة الموافقة القطعية بسبب المعارضة، يقع الكلام في أن المعارضة هل تكون بين
مجموع الأصول الطولية في طرف والأصل المنفرد في الطرف الاخر، أو انها تكون
بين الأصل المنفرد في طرف والأصل المتقدم رتبة في الطرف الاخر، فيكون
الأصل المتأخر في ذلك الطرف رتبة سليما عن المعارض، فلا مانع من جريانه؟.
ومثال ذلك: ما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين، وكان أحدهما متيقن
الطهارة قبل العلم الاجمالي دون الاخر، فان متيقن الطهارة مجرى لأصلين
الاستصحاب وقاعدة الطهارة، وهي في طول الاستصحاب لحكومته أو وروده
عليها. وأما الاناء الاخر، فهو ليس مجرى إلا لقاعدة الطهارة.
وقد ذهب المحقق النائيني (رحمه الله) إلى القول الأول، فالتزم بمعارضة
مجموع الأصول الطولية المرخصة في طرف للأصل المنفرد في الطرف الاخر.
ببيان: ان تعارض الأصول بتعارض مؤدياتها وما هو المجعول فيها الذي ينافي
بنفسه المعلوم بالاجمال، والمجعول في كل من استصحاب الطهارة وقاعدتها أمر
واحد وهو طهارة المشكوك، والمفروض عدم امكان جعل الطهارة لكلا الإناءين.
إذن فمؤدى الاستصحاب وقاعدة الطهارة في طرف يعارض مؤدى قاعدة الطهارة
في الطرف الاخر فيتساقطان في عرض واحد.
وبالجملة: المحذور في عدم جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي
يرجع إلى مقام الثبوت، وهو منافاة الترخيص في كلا الطرفين للمعلوم بالاجمال،
فلا ينفع حديث الحكومة والطولية، وليس يرجع إلى مقام الاثبات، حتى ينفع
حديث حكومة أحد الأصلين على الاخر.
نعم لو كان أحد الأصلين سببيا والاخر مسببيا، كان طرف المعارضة
188

خصوص الأصل السببي، فلا مانع من جريان الأصل المسببي عند سقوط
السببي بالمعارضة، لعدم المعارض، كما تقدم في مسألة الملاقي لاحد أطراف
الشبهة المحصورة،. لان المحذور في جريان الأصلين هناك إثباتي لا ثبوتي (1).
وهذا البيان مندفع، وذلك لان المحذور في جريان كلا الأصلين المنتهي
إلى المخالفة القطعية العملية وإن كان ثبوتيا، لكن المحذور في جريان أحدهما
المنتهي إلى عدم الموافقة القطعية ليس ثبوتيا، إذ لا محذور فيه عقلا بنظره (قدس
سره)، وإنما هو ناشئ من المعارضة بين إطلاقي الدليلين الشاملين لكلا الطرفين
الناشئة من عدم الترجيح بلا مرجح.
ومن الواضح أن التعارض انما يكون بين الأدلة بما هي أدلة، فالمحذور
المستلزم لسقوط الأصلين إثباتي لا ثبوتي، وحينئذ ينفع فيه حديث الطولية، إذ
مع وجود الأصل الحاكم لا تصل النوبة إلى الأصل المحكوم ولا يكون اطلاق
دليله شاملا للمورد في حد نفسه، فلا معنى لان يكون طرف المعارضة، فلا تصل
النوبة إليه إلا بعد سقوط الأصل الحاكم بالمعارضة مع الأصل في الطرف الاخر.
وعليه، فهو يجري بلا معارض. وبذلك يظهر أن القول الثاني هو المتعين.
وهذا البيان يختلف عما تقدم منا في مناقشة المحقق النائيني في مبحث الاضطرار
إلى المعين، فراجع. وكلاهما صالح لرد ما التزم به (قدس سره). فتدبر.
التنبيه السابع: في الكلام عن استصحاب الاشتغال.
لا يخفى عليك ان ما ذكرناه في أحكام العلم الاجمالي وخصوصياته يتأتى
في مطلق العلم الاجمالي بالتكليف تحريما كان أو إيجابا. إلا في بعض الخصوصيات
التي نبهنا عليها في بعض التنبيهات (2).

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 48 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) راجع بحث الشبهة غير المحصورة.
189

ولكن العلم الاجمالي بالحكم الايجابي بين طرفين - كالعلم بوجوب صلاة
القصر أو التمام عليه - يختص ببحث تعرض له الشيخ (1) وغيره، وهو انه إذا جاء
بأحد الطرفين كصلاة القصر، فهل يمكن إجراء استصحاب الوجوب المعلوم
سابقا ثبوته عليه والمشكوك في بقائه فعلا بعد اتيان أحد الطرفين أولا يمكن (2)؟.
فنقول - وعلى الله سبحانه الاتكال -: ان الحديث يقع في جهتين:
الأولى: في استصحاب الفرد المردد من الوجوب، بحيث تترتب عليه آثار
الفرد.
والثانية: في استصحاب كلي الوجوب المتحقق في ضمن أحد الفردين.
أما استصحاب الفرد المردد، فهو مما لا يصح إجراؤه، وذلك لان
الاستصحاب يتقوم بركنين أحدهما اليقين بالحدوث. والاخر الشك في البقاء.
وكلاهما مفقودان في المقام.
أما الشك في البقاء فلوجهين - أشار إليهما المحقق النائيني في كلامه -.
الأول: ان البقاء عبارة عن الوجود بعد الوجود وعلى تقدير الحدوث، ولا
شك في المقام في بقاء الفرد الحادث المردد على أي تقدير من تقديري حدوثه،
لأنه على أحد تقديريه مقطوع العدم وعلى التقدير الثاني مقطوع البقاء.
الثاني: ان المطلوب في باب الاستصحاب هو تحقق الشك في بقاء الحادث
على ما هو عليه وعلى جميع تقادير حدوثه، بحيث يحاول في الاستصحاب الحكم
ببقاء ذلك الحادث على ما هو عليه، ومن الواضح انه لا شك في الحادث

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 268 - الطبعة الأولى.
(2) وقد أطال المحقق النائيني (رحمه الله) في تحقيق هذا المبحث، وتعرض سيدنا الأستاذ (مد ظله) في
مجلس الدرس أولا إلى كلامه، ثم عقبه بتحقيق المطلب، ونحن لا نرى لزوما في نقل ما أفاده النائيني
(قدس سره)، بل المهم بيان تحقيق المبحث وبه يتضح كلام الاعلام صحة وفسادا.
190

- المطلوب ابقاؤه - على كل تقديريه، لأنه على أحد تقديريه مرتفع قطعا، وعلى
التقدير الاخر باق قطعا. فلا شك في بقاء ما تحقق سابقا على ما هو عليه وكيفما
كان.
وأما اليقين بالحدوث، فعدمه واضح، بناء على الالتزام بان العلم الاجمالي
متعلق بالجامع وعدم سرايته إلى الخصوصية أصلا، إذ الفرد لا يقين به كما لا
يخفى.
ولا ندري لماذا لم يتعرض المحقق النائيني (رحمه الله) إلى هذا الايراد مع
التزامه بالمسلك المزبور.
وأما بناء على ما اخترناه من تعلق العلم بالجامع وسرايته إلى الخارج
وارتباطه بواقع معين خارجا، بحيث يكون الجامع مشيرا إليه، ويمكن أن يقول
العالم إجمالا: ان هذا هو معلومي بالاجمال لو انكشف له الحال، بناء على هذا
المسلك قد يتخيل تعلق اليقين بالفرد المردد. لكنه تخيل فاسد، لما عرفت سابقا
من أن الفرد المردد لا علم به بخصوصياته، بل بمقدار الجامع المشير إليه.
وعليه، فالفرد الواقعي متعلق لليقين من جهة واحدة مجملة ومجهول من
سائر الجهات المميزة لها.
ومن الواضح: ان ظاهر اليقين بالشئ المأخوذ في موضوع الاستصحاب
هو اليقين به بقول وبجهاته المميزة، بحيث يصح ان يقال له عرفا انه
معلوم، والمعلوم بالاجمال لا يقال له انه معلوم، بل يقول القائل انه لم يكن يدري
به، ولذا قلنا إنه مردد لدى العالم، وهو يعني انه ليس بعالم به، فالحرمة الثابتة
للاناء النجس الواقعي المردد بين إناءين لا يقال عرفا إنها معلومة.
وبعبارة أخرى: ان المعلوم شخصا هو الكلي المرتبط بواقع معين خاص،
والمنطبق على أحد الفردين خاصة واقعا والمتشخص به في الواقع.
أما المنطبق عليه فليس معلوما وان ارتبط به المعلوم، إذ عرفت أن العلم
191

الاجمالي هو العلم بالجامع. غاية الامر انه يرتبط بالخارج وينطبق عليه، وهذا لا
يصحح تعلق العلم بالخارج، بحيث يقال عرفا انه معلوم. بخلاف موارد العلم
التفصيلي، فإنه يقال إنه معلوم بنفسه وان كان مجهولا من سائر جهاته.
فالواقع في مورد العلم الاجمالي معلوم لكنه بالاجمال، وهو كما عرفت
يرجع إلى تعلق العلم بالصورة الاجمالية الجامعة، فالعلم لم يتعلق بالفرد، بل تعلق
بالكلي وهو غير الفرد.
والنتيجة: ان استصحاب الفرد المردد مما لا يمكن الالتزام به لفقدانه
ركني الاستصحاب.
وأما استصحاب الكلي المتحقق في ضمن أحد الفردين، فلا اشكال فيه
من جهة اليقين بالحدوث والشك في البقاء فإنهما متوفران فيه.
ولكن يشكل من جهة أخرى، وهي: ان المقصود به.
إن كان اثبات وجوب الفرد الباقي الذي لم يأت به المكلف فهو أصل
مثبت.
وان كان المقصود به اثبات لزوم الخروج عن عهدة التكليف، فهو ثابت
بقاعدة الاشتغال الثابت بمجرد الشك، فلا حاجة في ذلك إلى الاستصحاب لأنه
لغو، أو تحصيل للحاصل، بل قيل إنه أردأ انحاء تحصيل الحاصل، لأنه من باب
احراز موضوع الأثر الثابت لما هو محرز بالوجدان بالتعبد.
وهذا إشكال ذكره المحقق النائيني على الاستصحاب هنا، وفي موارد
البراءة، فذهب إلى: انه لا مجال لاجراء استصحاب البراءة لاثبات عدم العقاب
لترتبه على مجرد الشك، فيكون الاستصحاب لاثبات ذلك تحصيلا للحاصل، بل
من أردأ أنحائه.
وقد يقال: ان الاستصحاب ههنا وارد على قاعدة الاشتغال، لان موضوع
القاعدة هو الضرر المحتمل، وهي ثابتة بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل.
192

ومن الواضح انه باستصحاب التكليف يرتفع احتمال الضرر للقطع به
بعد القطع بالتكليف تعبدا. فالأثر وان اتحد، لكن لا مانع من جريانه بعد انتفاء
قاعدة الاشتغال به لارتفاع موضوعها، وإلا لأشكل الامر في كل وارد ومورود
متفقين في الأثر وهو خلاف المتسالم عليه عند الكل.
وبمثل ذلك يقال في استصحاب عدم التكليف وانه وارد على قبح العقاب
بلا بيان، لأنه يكون بيانا على العدم فيرتفع اللا بيان. إذن فلا لغوية فيه وليس
هو من تحصيل الحاصل، فضلا عن أن يكون من أردأ أنحائه.
ويمكن المناقشة في هذا القول:
أولا: بان قاعدة الاشتغال ليست بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل، لما
عرفت - في مبحث البراءة العقلية في تفسير كلام الشيخ - من أن وجوب دفع
الضرر المحتمل على تقدير ثبوته يتفرع على تنجيز التكليف الموجب لاحتمال
الضرر، إما بالعلم الاجمالي أو بالاحتمال قبل الفحص أو بقيام الدليل على
وجوب الاحتياط في الشبهة، فالتنجيز في مرحلة سابقة على وجوب دفع الضرر
المحتمل، وقاعدة الاشتغال ترجع إلى الحكم بتنجز التكليف وثبوت العقاب على
مخالفته.
ومن الواضح ان تنجز التكليف في كل من الطرفين فيما نحن فيه ناشئ
من العلم الاجمالي بالتكليف واحتمال انطباقه على كل طرف من أطرافه - سواء
أقلنا بالعلية التامة أم بالاقتضاء وتعارض الأصول -، فمجرد حدوث العلم يوجب
الحكم بالتنجيز وترتب العقاب على مخالفته، وهذا هو معنى قاعدة الاشتغال فيما
نحن فيه. ولا يخفى ان الاستصحاب لا يرفع موضوعها، إذ هو لا يرفع العلم
السابق، كيف؟ وهو يتقوم بثبوته. كما لا ينفي أو يثبت الانطباق، بل غاية ما
يثبت هو التعبد بثبوت الحكم بقاء، وهو لا يزيد على العلم به، وقد عرفت أن
العلم الحادث دخيل في تحقق القاعدة لا رافع لها. مع أن الأثر العقلي يترتب على
193

مجرد حدوث العلم بالتكليف للزوم الخروج عن عهدته ولو حصل الشك بعد ذلك
في بقائه كما عرفت ذلك في مبحث الاضطرار فراجع. ولعل هذا هو مقصود
المحقق النائيني من أن الأثر يترتب على مجرد الحدوث، فاحراز البقاء لا فائدة
فيه.
وثانيا: لو سلمنا ان قاعدة الاشتغال بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل
لا بملاك التنجيز، فالاستصحاب لا يوجب القطع بالضرر.
أما بناء على أنه لا يتكفل سوى التنجيز والتعذير فواضح جدا، إذ هو
يتكفل بيان ثبوت العقاب على الواقع لو كان ثابتا، وهذا لا يزيد على ما هو ثابت
في نفسه بواسطة العلم الاجمالي واحتمال الانطباق، فلا يرفع موضوع قاعدة
الاشتغال.
وأما بناء على تكفله جعل حكم ظاهري مماثل للواقع، فلان العقاب في
مورده على مخالفة الواقع لو صادفه، ولا عقاب على مخالفة الظاهر لو لم يصادف
الواقع. وعليه فهو لا يفيد أكثر من تنجيز الواقع، فلا يكون واردا على قاعدة
الاشتغال.
نعم، قد يتوهم حكومة الاستصحاب على قاعدة الاشتغال، لأنها وان
تكفلت بيان احتمال الضرر، لكن بلسان اثبات الواقع وثبوته.
ولكنه توهم فاسد، إذ لا معنى للحكومة في باب الاحكام العقلية، بل هي
تختص بالأدلة اللفظية الشرعية.
نعم، إذا التزم بثبوت العقاب على مخالفة الحكم الظاهري وعدم تعدد
العقاب مع موافقة الواقع للظاهر، يكون المورد - بالاستصحاب - من موارد
القطع بالعقاب - إذ لو التزم بالتعدد، فالعقاب على الواقع يكون محتملا لا
مقطوعا، كما لا يخفى وجهه فانتبه -، نظير موارد العلم التفصيلي بالحكم الشرعي
فلا موضوع لقاعدة الاشتغال حينئذ، ولكنه مبنى فاسد لا نلتزم به.
194

وجملة القول: ان مبنى قاعدة الاشتغال على حدوث اليقين بالتكليف
واحتمال انطباقه على كل طرف، والاستصحاب لا يتصرف في شئ من ذلك. ولو
فرض كون الشك في البقاء دخيلا أيضا في قاعدة الاشتغال، بمعنى عدم الدليل
على التكليف وجودا أو نفيا، فهو انما يسلم في مورد العلم التفصيلي بالحكم
الشخصي، فان قاعدة الاشتغال تنشأ من الشك في الفراغ، إذ قبل الشروع في
الامتثال لا معنى لقاعدة الاشتغال للعلم بالحكم. لا فيما نحن فيه مما كانت قاعدة
الاشتغال تتقوم بالعلم الاجمالي والشك في الانطباق، فان قاعدة الاشتغال لا
تتقوم بعدم الدليل على ثبوت التكليف كالاستصحاب، إذ الاستصحاب غاية ما
يثبت التكليف الاجمالي ويرفع الشك في بقاء الكلي، أما تعيين انطباقه فلا يتكفله
فلا يستغنى به عن قاعدة الاشتغال بل نحتاج إليها، ولذا قلنا إنه لا يزيد على
العلم بالحدوث. نعم هي تتقوم بعدم الدليل على ارتفاع التكليف، وهو محرز
بالوجدان ولا ربط للاستصحاب فيه كما لا يخفى. هذا مضافا إلى أن
الاستصحاب لا يرفع الشك في العقاب لأنه إنما يتكفل تنجيز الواقع لا أكثر.
فظهر بذلك: ان الاستصحاب لا مجال له فيما نحن فيه - وفاقا للشيخ -
لأنه من تحصيل الحاصل، أو أردأ أنحائه كما قيل.
نعم، لو فرض ان للاستصحاب أثرا آخر غير أثر قاعدة الاشتغال، فلا
مانع من جريانه بلحاظ ذلك الأثر، إذ لا يكون حينئذ لغوا، كما التزم به الشيخ
في استصحاب البراءة إذا ترتب عليها اثر غير الأثر العقلي بملاك قبح العقاب
بلا بيان (1).
ومن هنا يظهر أنه لا وقع للايراد على الشيخ في التزامه باجراء
الاستصحاب في مورد الشك في بقاء التكليف الشخصي، كاستصحاب وجوب

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 204 - الطبعة الأولى.
195

الظهر عند الشك في أدائها. ببيان: انه يكفي في لزوم الخروج عن عهدتها قاعدة
الاشتغال المترتبة على حدوث اليقين بالوجوب والشك في الامتثال.
وجه ظهور فساد هذا الايراد: ما أشار إليه الشيخ (رحمه الله) في ذيل
كلامه من: انه يترتب على استصحاب التكليف الشخصي أثر آخر، وهو جواز
الاسناد والاستناد بحيث يصح له الاتيان بصلاة الظهر بنية الظهر جزما، وهذا
مما لا يترتب على قاعدة الاشتغال، كما لا يثبت في موارد استصحاب الكلي الذي
هو محل الكلام.
هذا غاية ما يمكن أن نقوله في هذا المجال، فتدبره فإنه لا يخلو من دقة.
196

المقام الثاني:
في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين
الكلام في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين يقع في صورتين:
الصورة الأولى: في الشك في الجزئية.
كتردد الواجب بين كونه واجد السورة أو فاقدها.
ولا يخفى عليك ان البحث في الأقل والأكثر يكون بعد الفراغ عن
جهتين:
الأولى: الالتزام بالبراءة في الشبهات البدوية.
الثانية: الالتزام بمنجزية العلم الاجمالي عند دوران الامر بين المتباينين.
وذلك، لان غاية ما يحاوله القائل بالاحتياط في مورد الدوران بين الأقل والأكثر، هو دعوى عدم انحلال العلم الاجمالي والحاق الأقل والأكثر بالمتباينين،
فإذا لم يثبت الاحتياط في المتباينين فلا يثبت فيما نحن فيه ولا مجال لتوهمه.
كما أن غاية ما يحاوله القائل بالبراءة هو دعوى انحلال العلم الاجمالي،
وكون شبهة وجوب الأكثر بدوية، فإذا لم تثبت البراءة في الشبهات البدوية فلا
مجال لتوهمها فيما نحن فيه.
197

إذن، فلا بد من فرض هاتين الجهتين مفروغا عنهما، والبحث في أن الأقل والأكثر من قبيل المتباينين فيجب الاحتياط، أم من قبيل الشبهة البدوية فلا
يجب الاحتياط.
وبعد ان عرفت ذلك، نقول: إن الوجه الذي يرتكز عليه القائل
بالاحتياط هو أمران:
الامر الأول: العلم الاجمالي بوجوب العمل المردد بين الأقل والأكثر،
إذ العلم الاجمالي يوجب تنجيز كلا طرفيه فيجب الاتيان بالأكثر.
وأساس القول بالبراءة على الالتزام بانحلال العلم الاجمالي وعدم تأثيره.
وقد اختلفت كلمات الاعلام في هذا المجال تفصيلا واطلاقا.
ويمكننا ان نشير إلى المسالك المذكورة في تقريب الانحلال بأربعة
وجوه:
الأول: الانحلال في حكم العقل - بمعنى الانحلال الحكمي الراجع إلى
عدم تأثير العلم الاجمالي في التنجيز - بقيام العلم التفصيلي بتنجز الأقل وعدم
تنجز الأكثر.
الثاني: الانحلال الحقيقي في حكم الشرع بقيام العلم التفصيلي بوجوب
الأقل والشك في وجوب الأكثر.
الثالث: الانحلال الحكمي بجريان الأصل المؤمن في الأكثر بلا معارض،
وهو يبتني على القول بالاقتضاء.
الرابع: الانحلال بواسطة حكومة دليل البراءة على أدلة الأجزاء والشرائط
، وهو ما ذهب إليه صاحب الكفاية (رحمه الله).
وقد نسب إلى الشيخ (رحمه الله) القول بالانحلال في حكم الشرع.
ببيان: ان الأقل معلوم الوجوب تفصيلا إما بالوجوب النفسي أو المقدمي
الغيري، والأكثر مشكوك الوجوب فينحل العلم الاجمالي.
198

واستشكل فيه: بعدم الأثر العملي العقلي للوجوب الغيري لعدم قابليته
للتنجز، وبأنه (قدس سره) لا يلتزم باتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري (1).
والذي يظهر لنا ان نظر الشيخ (رحمه الله) إلى الانحلال في حكم العقل
لا في حكم الشرع.
وقد يقرب الانحلال في حكم العقل بدوا: بان الأقل منجز على المكلف
وفي عهدته قطعا سواء كان هو الواجب أم كان الأكثر هو الواجب. بخلاف
الأكثر. فإنه لا يعلم بوجوبه فلا يكون منجزا، وبذلك ينحل العلم الاجمالي
بلحاظ أثره العقلي وهو التنجيز، فلا يؤثر في تنجيز الأكثر.
ولكن صاحب الكفاية ذهب إلى استحالة الانحلال المزبور، لأنه يستلزم
الخلف، كما أنه يستلزم من فرض وجوده عدمه. وذلك..
أما استلزامه الخلف، فلان تنجز الأقل على كل حال يتوقف على فرض
تنجز الأكثر، إذ لا يكون الأقل منجزا مطلقا الا إذا كان التكليف المعلوم
بالاجمال منجزا مطلقا حتى لو فرض تعلقه بالأكثر، فلو كان تنجز الأقل مطلقا
مستلزما لعدم تنجز الأكثر كان خلفا، لأنه خلاف المفروض، أو لأنه يلزم أن يكون
المعلول للتنجز مانعا عنه، فيكون الشئ سابقا ولاحقا في آن واحد.
وأما استلزام عدمه من فرض وجوده، فلانه إذا كان تنجز الأقل على كل
حال مستلزما لعدم تنجز الأكثر كان ذلك مستلزما لعدم تنجز الأقل مطلقا لعدم
تنجز التكليف على كل حال، وهو يستلزم عدم الانحلال، لان أساس الانحلال
بتنجز الأقل مطلقا. فيلزم من الانحلال عدمه (2).
هذا ما افاده في الكفاية، وعليه بنى عدم انحلال العلم الاجمالي وعدم

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 262 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 364 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
199

جريان البراءة العقلية من الأكثر لقيام البيان.
وهو ينظر إلى ما سلكه الشيخ (رحمه الله) من دعوى الانحلال في حكم
العقل التي تظهر من كلماته الأخيرة، حيث ذهب إلى العلم التفصيلي بثبوت
العقاب على ترك الأقل، إما لوجوبه لنفسه أو لأنه سبب لترك الأكثر، بخلاف
الأكثر فيكون العقاب عليه عقابا بلا بيان.
ولكن كلام الشيخ ودعواه تبتني على أمر غفل عنه صاحب الكفاية
وغيره، فكان نتيجته هو ايراد الكفاية على دعوى الانحلال بما عرفت.
بيان ذلك: ان التكليف بمركب ذي أجزاء عديدة..
تارة: يلتزم بان له تنجيز واحد بلحاظ مجموع الاجزاء، فاما ان يتنجز
مطلقا واما أن لا يتنجز كذلك.
وأخرى: يلتزم بأنه قابل للتبعض في التنجيز بلحاظ تعدد أجزائه، فيكون
منجزا من جهة بعض أجزائه، ولا يكون منجزا من جهة بعض آخر - نظير
بطلان العمل، فإنه تارة يستند إلى ترك الكل، وأخرى يستند إلى ترك أحد
الاجزاء خاصة -. فإذا علم المكلف بوجوب بعض اجزاء المركب وجهل البعض
الاخر، فلو ترك الاجزاء المعلومة وظهر وجوب الكل المركب منها ومن المجهول،
كان للمولى ان يعاقبه على ترك الأكثر المستند إلى ترك الاجزاء المعلومة له، لان
المركب بذلك المقدار مما قام عليه البيان. أما إذا جاء بها فليس له أن يعاقبه على
ترك الأكثر المستند إلى ترك الاجزاء المجهولة لأنه عقاب بلا بيان.
ولا يخفى عليك انه مع الالتزام بالتبعض في التنجيز بالتقريب الذي
عرفته، يتم الانحلال في حكم العقل بلا تأتي محذور الكفاية عليه.
وذلك، لأنه إذا علم إجمالا بوجوب الأقل أو الأكثر فقد علم بوجوب
الأقل تفصيلا، إما لنفسه أو لكونه جزء الأكثر، وهذا يستلزم العلم بان ترك الأقل
موجب للعقاب إما لوجوبه لنفسه أو لتنجز الأكثر من جهته، فمخالفة الأقل
200

معلومة القبح تفصيلا، فهو منجز على كل حال كان هو الواجب أو كان الواجب
الأكثر.
أما الزائد على الأقل، فلا علم بقبح مخالفته وبترتب العقاب على تركه،
فيكون موردا للبراءة عقلا، لان العقاب عليه - يعني على الأكثر من جهته -
عقاب بلا بيان، لسقوط العلم الاجمالي عن صلاحيته للبيانية والتنجيز بعد العلم
التفصيلي بقبح المخالفة في أحد طرفيه وتنجزه.
ولا يخفى انه حينئذ لا مجال لايراد الكفاية على دعوى الانحلال بما
تقدم، إذ لا خلف في فرض منجزية الأقل على كل حال، إذ هو مستلزم لفرض
تنجز الأكثر من جهة الأقل خاصة لا تنجزه بقول مطلق، كي يكون فرض عدم
تنجزه خلفا. كما أنه لا يستلزم من فرض وجود الانحلال عدمه، إذ الانحلال
يبتني على فرض منجزية الأكثر من جهة الأقل المستلزم لعدم تنجز الأكثر من
جهة الزائد المشكوك وهو لا يستلزم عدم الانحلال.
نعم، ايراد الكفاية متجه على تقدير الالتزام بعدم التبعض في التنجيز،
وأن الأكثر إما أن يفرض تنجزه من حيث المجموع أو يفرض عدم تنجزه كذلك،
ولا معنى للتنجيز من جهة دون أخرى.
إذا عرفت ذلك. فاعلم أن أساس كلام الشيخ هو الالتزام بالتبعض في
التنجيز كما هو ظاهر صدر كلامه (1) فلاحظه.
وعليه، فلا يرتبط به اشكال الكفاية، لما عرفت من انه يبتني على عدم
فرض التبعض في التنجيز، وهو غفلة من صاحب الكفاية عن أساس كلام
الشيخ (رحمه الله).
ولعله مما يؤيد غفلة الكفاية عن نظر الشيخ إلى التبعض في التنجيز هو:

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول 273 - الطبعة الأولى.
201

ان المحقق الأصفهاني - وهو تلميذ صاحب الكفاية - ينقل كلاما لصاحب
الحاشية (1) يشير فيه إلى التبعض في التنجيز ويرده ولا يشير إلى احتمال ذلك
من كلام الشيخ (2). مما يظهر منه انه قد أخذ عدم التبعض في التنجيز مفروغا
عنه في كلام الشيخ. فالتفت.
ثم إنه إذا ظهر لك ان مدار صحة تقريب الانحلال في حكم العقل على
الالتزام بالتبعض في التنجيز، فلا بد من تحقيق هذه الجهة. فان الذي نراه هو
انحصار مستند القول بالبراءة على الانحلال في حكم العقل بالبيان المتقدم،
وإلا أشكل الامر في باب الأقل والأكثر، إذ ستعرف ما في الوجوه المذكورة من
الضعف. وعلى كل حال فالذي نبني عليه - تبعا للشيخ - هو التبعض في التنجيز
إذ هو مما يشهد له بناء العقلاء في مقام امتثال الاحكام، ولا مجال لانكاره.
وعلى هذا فالذي نبني عليه في مسألة الأقل والأكثر هو الانحلال في حكم
العقل بالتقريب الذي عرفته المستلزم لجريان البراءة عقلا ونقلا من الأكثر من
جهة الزائد المشكوك جزئيته.
وهذا هو العمدة في هذه المسألة كما سيتضح.
وقد حمل المحقق النائيني (رحمه الله) كلام الشيخ على إرادة الانحلال في
حكم الشرع، لكن لا بالتقريب المتقدم، بل بتقريب آخر وهو: انه يعلم تفصيلا
بوجوب الأقل إما نفسيا استقلاليا أو ضمنيا، فلا مجال لجريان أصل البراءة فيه
لا عقلا ولا شرعا، بخلاف وجوب الأكثر، فإنه مشكوك، فلا مانع من اجراء
البراءة فيه عقلا وشرعا، إذ العلم الاجمالي لا يصلح للمانعية بعد انحلاله.
ثم إنه أورد عليه: بان العلم التفصيلي بوجوب الأقل هو عين العلم

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد تقي، هداية المسترشدين: / 448 - الطبعة الأولى. 2 / 262.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 2 / 262 - الطبعة الأولى.
202

الاجمالي بين الأقل والأكثر، إذ التردد بين الأقل والأكثر يرجع إلى التردد بين
أخذ الأقل لا بشرط من جهة الجزء الزائد، وبين أخذه بشرط شئ الذي هو
عبارة عن الأكثر، والعلم التفصيلي بوجوب الأقل إما لنفسه أو ضمنا هو عين
ذلك العلم الاجمالي، فيلزم أن يكون العلم الاجمالي موجبا لانحلال نفسه.
هذا خلاصة ما أفاده في نقل كلام الشيخ والايراد عليه (1).
وهو متين، لكن عرفت أن منظور كلام الشيخ ليس إلى الانحلال في
حكم الشرع، بل إلى الانحلال في حكم العقل بالتقريب الذي عرفته، فالتفت.
وقد ذهب المحقق الأصفهاني إلى الانحلال في حكم الشرع ببيان محصله:
ان الاجزاء لا تكون واجبة بالوجوب الغيري المقدمي، بل ليس هناك إلا وجوب
واحد نفسي منبعث عن إرادة نفسية واحدة منبعثة عن غرض واحد قائم
بالاجزاء بالاسر التي هي عين الكل. وعليه فهذا الوجوب النفسي الشخصي
المعلوم أصله منبسط على تسعة اجزاء مثلا بتعلق واحد وانبساطه بغير ذلك
التعلق على الجزء المشكوك غير معلوم، فالتكليف بالمقدار المعلوم يكون فعليا
منجزا وبالمقدار المجهول لا مقتضي لفعليته وتنجزه. وبما أن التكليف المتعلق
بالأقل هو الوجوب النفسي الذي يترتب الثواب والعقاب على مخالفته وموافقته
فلا تتوقف فعليته وتنجزه على تكليف آخر غير معلوم.
هذا خلاصة ما أفاده (قدس سره) (2) ومرجعه كما يظهر إلى
انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل بالوجوب النفسي
الاستقلالي أو الضمني، كما أن مبناه على الالتزام بقابلية الامر الضمني - في حد
نفسه - للتنجز، بحيث تكون له إطاعة مستقلة. فيكون الأقل معلوم التنجز على

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 152 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 264 - الطبعة الأولى.
203

كل حال، والزائد مشكوك فيكون مجرى للبراءة.
وبذلك يختلف عما ذكرناه في تقريب الانحلال، لأنا وان التزمنا بتنجز
الأقل على كل حال لكن من باب تنجز الأكثر من جهة الأقل، لا تنجزه على
كلا تقديريه ولنفسه مع قطع النظر عن تنجز الأكثر كما هو مبنى كلام
الأصفهاني.
ونحن لا نريد أن نطيل في مناقشته والتعرض إلى جهات كلامه كلها
فذلك مما لا يهمنا فعلا.
بل نقتصر في مقام المناقشة على بيان ان الامر الضمني لا إطاعة له
مستقلة، فلا يقبل التنجيز المستقل، فلا ثواب ولا عقاب على موافقته ومخالفته
خاصة، كما عرفت ذلك في مبحث التعبدي والتوصلي. كما أنه قد تقدم منه هناك
ما ينافي ما التزم به هنا، فراجع.
وعليه، فالعلم بوجوب الأقل على كل حال لا ينفع في حل العلم
الاجمالي، إذ أحد تقديري وجوبه وهو الوجوب الضمني لا أثر له عقلا ولا معنى
لتنجزه، فلا يكون العلم به موجبا لانحلال العلم الاجمالي. فتدبر والتفت.
وقد ذهب المحقق العراقي (رحمه الله) إلى الانحلال في حكم الشرع
أيضا، بل ادعى انه ليس لدينا علم اجمالي في الحقيقة إلا وهما، وانما الموجود ليس
إلا العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك بدوا في وجوب الأكثر. ببيان محصله:
ان الاختلاف بين الأقل والأكثر ليس ناشئا من اختلاف الوجوب المتعلق
بالأقل مع الوجوب المتعلق بالأكثر، بل الوجوب المتعلق بالأقل لا يختلف سنخا
ووجودا، سواء سرى الوجوب إلى الأكثر أم لم يسر، وانما الاختلاف ناشئ من
اختلاف حد التكليف من حيث وقوفه على الأقل أو سرايته إلى الجزء الزائد،
ومرجع الضمنية والاستقلالية إلى ذلك.
وهذا نظير الخط القصير والطويل، فإنه إذا رسم الشخص الخط القصير
204

ثم أضاف إليه ما يوجب طوله فان واقع الخط القصير لم يختلف في كلا الحالين،
وانما الاختلاف نشأ من جهة الحد الخاص وثبوت الزيادة، وهي لا توجب تغيرا
في واقع القصير عما كان عليه قبل الزيادة.
وإذا ظهر ذلك، فعند الشك بين الأقل والأكثر يكون مرجع الشك إلى
الشك في ثبوت الزيادة على المقدار الأقل وعدمه ليس إلا، واما وجوب الأقل
فهو معلوم بالتفصيل سواء أكانت الزيادة أم لم تكن، إذ المفروض ان حقيقته
ووجوده واحد لا يختلف على كلا التقديرين، فلا شك لدينا في وجوب الأقل
أصلا وإنما الشك في ثبوت الوجوب للجزء الزائد المشكوك. إذن فليس لدينا إلا
علم تفصيلي وشك بدوي (1).
وما أفاده (قدس سره) - مع قطع النظر عن دعوى عدم اختلاف سنخ
الوجوب الضمني والاستقلالي - لا يمكن المساعدة عليه لوجهين:
الأول: ان الوجوب الضمني للأقل لو كان الواجب هو الأكثر يختلف
وجودا عن الوجوب الاستقلالي له لو كان الواجب هو الأقل، إذ ما أفاده من
عدم الاختلاف وجودا نظير الخط القصير والطويل انما يتم لو فرض رسم الخط
تدريجا، فان ضم الزيادة إليه لا يغير منه شيئا أصلا. لا ما إذا رسم الطويل دفعة،
كما لو كان بواسطة الطابعة، فان وجود الأقل في ضمن الأكثر يختلف وجوده عن
وجوده بنحو الاستقلال. فمع الشك يكون الدوران بين وجودين، فلا علم
تفصيلي بوجود خاص للأقل، بل يشك بأنه بأي نحو وجد.
والأوامر الشرعية من هذا القبيل، لان تعلقها بالمجموع دفعي لا
تدريجي، فلا يحصل العم التفصيلي بالوجود الخاص للأقل، بل يتردد أمره بين
نحوي وجوده من الاستقلالي أو الضمني.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 380 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
205

الثاني: انه سلمنا وحدة وجود وجوب الأقل الضمني والاستقلالي، لكن
نقول: ان الوجود الضمني لا أثر له في مقام الطاعة، فالعلم التفصيلي بوجوب
الأقل على كلا التقديرين لا ينفع حينئذ في اثبات الانحلال، إذ لا اثر له عقلا
على تقدير كون الواجب هو الأكثر، الا إذا كان الأكثر منجزا، ولكن يثبت
محذور الكفاية المتقدم. نعم إذا التزم بالتبعض في التنجيز - كما يصرح به في أواخر
كلامه - يتم الانحلال، ومعه لا حاجة إلى اتعاب النفس في اثبات الانحلال
بالنحو المزبور، بل يتحقق الانحلال ولو اختلفت حقيقة الوجوب الضمني مع
حقيقة الوجوب الاستقلالي ووجوديهما.
وبالجملة: الانحلال يتوقف على الالتزام بالتبعض في التنجيز، وإلا فلا
وجه له. فتدبر.
أما المحقق النائيني (قدس سره)، فقد ذهب إلى عدم صحة الرجوع إلى
البراءة العقلية للعلم الاجمالي الصالح لتنجيز كلا طرفيه، ودعوى انحلاله بالعلم
التفصيلي بوجوب الأقل مدفوعة بما تقدم منه، من أن العلم التفصيلي المدعى هو
عين العلم الاجمالي، فلا معنى للانحلال به. ولكنه ذهب إلى صحة الرجوع إلى
البراءة الشرعية وانحلال العلم الاجمالي حكما بواسطتها، وذلك لوجهين:
الأول: ان العلم الاجمالي ينحل حكما بجريان الأصل المثبت في طرف
والنافي في طرف آخر كما تقدم، وما نحن فيه كذلك. غاية الامر ان الأصل غير
متعدد، بل هو أصل واحد يتكفل كلتا الجهتين، أعني: نفي التكليف في طرف
واثباته في طرف آخر، وهو أصالة البراءة من الجزء الزائد المشكوك، فإنه بنفسه
يثبت اطلاق الامر ظاهرا وعدم تقيد متعلقه بالجزء المشكوك، وهو معنى وجوب
الأقل، لان وجوبه يرجع إلى أخذه لا بشرط وعدم لحاظ شئ زائد معه، وهذا
بنفسه يثبت بأصالة البراءة، لأنه مفادها لا من باب الملازمة كي يرد عليه أنه
يكون من الأصل المثبت. فأصل البراءة كما ينفي الأكثر يثبت الأقل، واطلاق
206

الامر ظاهرا من جهة الجزء المشكوك.
وهذا هو معنى ما يعبر عنه بالاطلاق الظاهري.
الثاني: ان لزوم الاحتياط في باب العلم الاجمالي من جهة تعارض
الأصول النافية في أطرافه، وليس الامر فيما نحن فيه كذلك لجريان الأصل في
الأكثر بلا معارض. أما جريانه في التكليف بالأكثر فلانه مشكوك.
وأما عدم معارضته بجريانه في الأقل، فلان الأقل معلوم الوجوب على
كل تقدير، فلا تكون رتبة الحكم الظاهري محفوظة فيه، فينحل العلم الاجمالي
بذلك (1).
هذا توضيح ما أفاده في المقام، وعبارته من حيث كون مجرى الأصل هو
وجوب الأكثر أو جزئية المشكوك مختلفة لا يمكن ان يستفاد منها شئ واحد.
وما أفاده لا يمكننا الالتزام به..
أما الوجه الأول، ففيه: ان مجرى البراءة اما أن يكون جزئية المشكوك،
واما أن يكون وجوب الأكثر.
فإن كان المقصود اجراء البراءة في جزئية المشكوك. فيدفعه: انه انما يتم
لو التزم بالتبعض في التنجيز.
أما إذا لم يلتزم به - كما هو ظاهر كلامه، ولذا منع من اجراء البراءة
العقلية -، فلا يصح إجراء البراءة في الجزئية ونفي اعتبار الجزء المشكوك
بالأصل، لان مجرى البراءة على المسالك المختلفة في مفاد حديث الرفع من
تكفله رفع الاحتياط أو جعل الإباحة ونفي الالزام كناية، لا بد أن يكون مما
يقبل التنجيز ومما يكون فيه إلزام وكلفة بنفسه على المكلف.
ومن الواضح ان الجزء لا تنجيز فيه ولا معنى للاحتياط من قبله، كي

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 163 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
207

ينفى بحديث الرفع، كما لا إلزام من جهته نفسه، بل الالزام به من جهة الامر
بالكل وأنه بعضه، فلا معنى لجعل الإباحة ونفي الالزام به كناية.
نعم لو فرض الالتزام بالتبعض في التنجيز كان الجزء قابلا للتنجز وعدمه
فيقبل الرفع، لكن عرفت أنه خلاف مبناه، إذ لازم التبعض هو اجراء البراءة
العقلية وهو لا يلتزم به.
وإن كان المقصود إجراء البراءة في وجوب الأكثر، فهي معارضة باجرائها
في وجوب الأقل استقلالا لأنه مشكوك أيضا، كما أن اجراء البراءة في وجوب
الأكثر لا يثبت وجوب الأقل إلا بالملازمة، وليس حالها حال البراءة من جزئية
المشكوك. فانتبه.
وأما حديث إطلاق الامر وثبوت وجوب الأقل باجراء البراءة من الزيادة
المشكوكة، فهو غير سديد، لان نفي الجزئية ظاهرا - كما التزم به (قدس سره) -
يرجع إلى عدم وجوب الاحتياط من جهة الجزء المشكوك، وهذا لا يتكفل
اثبات اطلاق الامر ونفي تعلقه بالمقيد الراجع إلى وجوب الأقل، لان عدم
وجوب الاحتياط لا يتنافى مع وجود الواقع وثبوته.
هذا، مضافا إلى أن الرفع الظاهري إنما يثبت اطلاق الامر إذا كان الامر
ثابتا بدليل ظاهري بأن كان الامر ظاهريا، كوجوب الاحتياط إذا تردد بين
الأقل والأكثر.
أما إذا كان الامر المردد واقعيا، فرفع الجزئية ظاهرا في مرحلة الشك
وبلسان الغض عن الواقع وقطع النظر عنه، لا يثبت اطلاق الامر الواقعي
ظاهرا، إذ الفرض انه لم ينظر فيه إلى الواقع، بل أغفل أمر الواقع فيه وقطع
النظر عنه، فتدبر فإنه لا يخلو عن دقة (1).

(1) وبذلك يختلف عن الاطلاق الثابت بالامارة، فإنه اطلاق ظاهري ويحكم على الواقع بأنه مطلق ظاهرا،
إذ حكم الامارة وان ثبت عند الشك لكن لوحظ فيه اثبات الواقع لا قطع النظر عنه، ومثل الامارة
الحكم الاستصحابي، فافهم.
208

وأما الوجه الثاني، ففيه: ان العلم بوجوب الأقل على كل حال لا يمنع
من اجراء البراءة فيه، لان وجوبه الضمني لا اثر له عقلا وبلحاظه هو، بل الأثر
العقلي في مقام الإطاعة يترتب على الوجوب النفسي الاستقلالي، وهو مشكوك،
فتجري فيه البراءة وتعارض البراءة في الأكثر. فالتفت.
وأما صاحب الكفاية فقد أشرنا إلى أنه سلك في هذا المقام مسلكا يختلف
عن مسالك القوم، فإنه بعد ما نفى البراءة العقلية لعدم انحلال العلم الاجمالي
التزم بجريان البراءة الشرعية، فتتكفل رفع جزئية المشكوك.
وأورد على نفسه: بان الجزئية لا يمكن أن يشملها حديث الرفع لأنها
ليست بمجعولة ولا أثر لها مجعول وحديث الرفع انما يتكفل المجعول أو ذي الأثر
المجعول.
وأجاب عن ذلك: بأنها وإن لم تكن مجعولة بنفسها إلا أنها مجعولة بمنشأ
انتزاعها، وهو الامر الضمني، وهو يكفي في صحة تعلق الرفع بها.
ثم أورد على نفسه: بان رفع الامر الضمني انما يكون برفع الامر بالكل،
إذ لا استقلال له في الوضع، وإذا تكفل الحديث رفع الكل فلا دليل على ثبوت
الامر بالفاقد.
وأجاب عن ذلك: بان نسبة حديث الرفع إلى أدلة الاجزاء نسبة
الاستثناء، فكما انه لو ورد ما يدل على جزئية شئ وقيده بحال دون حال لا
تثبت الجزئية إلا في ذلك الحال ويثبت الامر بالفاقد في غيره، فكذلك أدلة
الاجزاء بضميمة حديث الرفع الناظر إليها، يثبت الجزئية في حال دون حال،
ففي حال الجهل لا جزئية للسورة مثلا. فتدبر.
209

ثم إنه جاء في عبارته الأصلية لفظ: " السورة المنسية ".
وأبدلت في بعض النسخ بلفظ: " المجهولة "، لان البحث في مورد الجهل
لا النسيان، ولكن يمكن فرض صحة العبارة الأولى، بان يكون ناظرا إلى بيان
مورد من موارد الجهل بالجزئية، وهي جزئية المنسي، بان شك في ثبوت الجزئية
حال النسيان، فمقصوده تطبيق فقرة: " رفع ما لا يعلمون " على المورد، لا تطبيق
فقرة: " رفع النسيان " فان له مبحثا آخر يأتي التعرض إليه ان شاء الله تعالى،
وعلى كل فالأمر سهل.
وما أفاده (قدس سره) غير وجيه، وذلك لأنه إما ان يلتزم بتكفل حديث
الرفع في صورة عدم العلم للرفع الواقعي على حد سائر الفقرات. أو يلتزم بتكفله
للرفع الظاهري.
فعلى الأول - كما قربناه في محله - يرد عليه:
أولا: ان الجزئية لا تقبل الرفع، لان المرفوع في حديث الرفع ما كان قابلا
للوضع شرعا، فان المراد به على ما حرر في محله هو رفع ما له اقتضاء الوضع لا
رفع ما كان ثابتا، وهذا ظاهر في إرادة رفع ما يقبل الوضع، والجزئية ليست من
الأمور المجعولة، لان جعلها مع عدم تعلق الامر بالمجموع المشتمل على الجزء
لا ينفع في لزوم الامتثال، لأنه من توابع الحكم التكليفي. ومع تعلق الامر
بالمجموع المشتمل على الجزء لا أثر لجعلها ولا حاجة إليه لانتزاعها من تعلق
الامر بالمركب.
وثانيا: لو سلمنا قابلية الجزئية للرفع ولو لم تكن قابلة للوضع، بدعوى أنه
لا يعتبر في صحة الرفع سوى كون المرفوع بيد الشارع ولو بالواسطة، ولا
يعتبر قابليته لوضعه مباشرة. فما أفاده من كون حديث الرفع بمنزلة الاستثناء
لحكومته على أدلة الاجزاء إنما يسلم فيما إذا كان الدليل الدال على رفع الجزئية
خاصا بان يأمره بمركب ثم يقول له إذا عجزت أو عسر عليك الجزء الفلاني فانا
210

لا أريده فان مثل هذا الدليل ظاهر عرفا في ثبوت الامر بالباقي عند العجز عن
الجزء الخاص.
أما مثل حديث الرفع مما كان دليلا عاما يدل على رفع المجهول بهذا
العنوان بقول مطلق لا بعنوان الجزئية، فلا ظهور له في بقاء الامر بالفاقد لو
شمل الجزء المجهول، بل هو ظاهر في رفع الجزئية برفع الامر بالكل.
وأما ثبوت الامر بالأقل الفاقد، فهو مما يحتاج إلى دليل خاص.
فما أفاده (رحمه الله) من كون دليل الرفع مخصصا لدليل الجزئية، بحيث
يثبت الامر بالفاقد غير تام، لان رفع الجزئية ملازم لرفع الامر بالكل ولا ظهور
للدليل حينئذ في ثبوت الامر بالفاقد.
وعلى الثاني: ففيه:
أولا: ان رفع الحكم في مرحلة الظاهر لا يتنافى مع ثبوته واقعا - كما قرره
في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية -. وعليه فكيف يكون دليل
الرفع حاكما على أدلة الجزئية الواقعية وموجبا لتخصيصها في غير حال الجهل؟.
وثانيا: ان مرجع الرفع الظاهري إلى عدم وجوب الاحتياط - كما تقدم
تقريبه في محله - فرفع الجزئية يرجع إلى نفي تنجزها.
ومن الواضح انه بناء على عدم التبعض في التنجيز - كما هو مبنى كلامه -
لا معنى لمنجزية الجزئية أو رفعها، بل التنجيز بلحاظ الكل. وعليه فمرجع
الرفع ظاهرا إلى نفي منجزية الأكثر، وهي معارضة بنفي منجزية الأقل، لأنها
مشكوكة على مبنى عدم التبعض في التنجيز (1).

(1) ثم إن سيدنا الأستاذ (دام ظله) عدل عن تفسير عبارة الكفاية بما فسرها به الاعلام والتي صارت محط
الاشكال من الكل وهو أحدهم.
فذهب إلى أن المنظور في كلامه ليس هو اثبات تعلق الامر بالباقي بواسطة دليل البراءة، بل مقصوده ليس إلا دفع ما استشكله المستشكل من أن رفع الامر بالجزء يلازم رفع الامر بالكل فلا دليل
على الامر بالباقي.
فإنه أجاب عنه بعد الفراغ عن امكان توجه الرفع إلى الجزئية وعدم المناقشة فيه، بأن حديث الرفع
يتكفل النظر إلى أدلة الاجزاء، فيوجب تخصيصها بحال العلم - مثلا -، أو بحال الاختيار بحسب
اختلاف فقراته. ومن الواضح ان ارتفاع الجزئية لازم أعم من ارتفاع الامر بالمرة ومن تعلقه بالباقي في
الحال الخاص. إذن فالدليل الدال على رفع الجزئية لا يدل على ارتفاع الامر بالكل بالمرة. وهذا هو ما
يريد اثباته قبالا للمستشكل، إذ يضم إليه العلم التفصيلي بوجوب الأقل ويترتب عليه الأثر حينئذ.
وجملة القول: ان النكتة التي يحاول صاحب الكفاية التنبيه عليها، هو عدم ملازمة رفع الجزئية
لارتفاع الامر بالعمل حتى يحتاج في اثباته إلى أمر جديد، لا انه يريد اثبات تعلقه بالباقي بواسطة
رفع الجزئية كي يرد عليه ما تقدم، لأنه في مقام دفع الاشكال على نفسه، وقد عرفت أن الاشكال يرجع
إلى ملازمة رفع الجزئية لرفع الامر بالكل.
نعم، ينحصر الايراد عليه بأن ما أفاده لا يتم إلا بناء على الالتزام بالتبعض في التنجيز وهو واضح،
فالتفت.
211

وخلاصة ما تقدم: ان جميع ما قيل في وجه الانحلال غير صحيح إلا ما
ذهب إليه الشيخ على الوجه الذي ذكرناه، وهو يبتني على الالتزام بالتبعض في
التنجيز، فان الأقل يكون معلوم التنجز، والأكثر من جهة الزائد مشكوك،
فيكون مجرى لأصالة البراءة عقلا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وشرعا لأدلة
البراءة الشرعية، فإنه لا قصور في شمولها إما للجزئية بنفسها لتصور التنجيز
فيها لو قلنا بصحة رفعها، أو لوجوب الأكثر من جهة الزائد خاصة، لأنه
مشكوك التنجز من جهته خاصة.
وظهر ان الوجوه المذكورة في رد لزوم الاحتياط لاجل العلم الاجمالي
متعددة:
أحدها: ما ذهب إليه المحقق العراقي من عدم العلم الاجمالي أصلا، وانه
ليس لدينا سوى العلم التفصيلي والشك البدوي.
212

والثاني: ما ذهب إليه بعض من انحلال العلم حقيقة إلى علم تفصيلي
وشك بدوي - كما استظهر ذلك من عبارة الشيخ أولا -.
والثالث: ما وجهنا به كلام الشيخ من الانحلال في حكم العقل.
والرابع: الانحلال بواسطة جريان البراءة الشرعية خاصة في طرف
الأكثر، إما لاجل عدم المعارضة كما ذهب إليه النائيني. واما لحكومة دليلها على
أدلة الاجزاء كما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية.
وقد جاء تحقيق المطلب في الدراسات متشتتا لا يخلو من خلط بين
الكلمات. فقد قرب أولا الانحلال في حكم الشرع كالوجه الثاني، ثم ذكر
الانحلال في حكم العقل بنحو الذي ذكره الشيخ بعنوان انه عبارة أخرى. ثم
تعرض لكلام الكفاية ونفاه بدعوى الانحلال بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل
بالنحو الذي يظهر منه اختيار مذهب العراقي المتقدم (1).
وهذا يرد عليه:
أولا: انه قد عرفت أن نكتة الخلاف بين الشيخ وصاحب الكفاية هي
الالتزام بالتبعض في التنجيز وعدمه لا غير. وان المنظور في كلماتهما الانحلال
في حكم العقل خاصة، فاهمال هذه الجهة مستدرك.
وثانيا: انه لا يلتزم بمستلزمات مختار العراقي، لأنه نفى تنجيز العلم
بجريان الأصل في طرف الأكثر بلا معارض، مما يكشف عن انه يختار وجود العلم
الاجمالي.
ثم إنه ذكر في مقام بيان جريان الأصل بلا معارض: ان الامر يدور بين
اطلاق الواجب وتقييده بالزائد، والأصل يجري في التقييد لأنه كلفة زائدة، ولا
يجري في الاطلاق لعدم الكلفة فيه.

(1) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية 3 / 271 - الطبعة الأولى.
213

وهذا البيان ممنوع، وذلك لان الاطلاق والتقييد وان كانا طرفي العلم
الاجمالي، لكن هذا العلم الاجمالي لا يرتبط بالعلم الاجمالي المدعى تنجزه، إذ
العلم الاجمالي المدعى تنجزه هو العلم بتكليف والزام مردد. ومن الواضح أنه لا
موهم لاخذ الاطلاق في متعلق الالزام، بحيث يتحقق الالزام به، لان مرجع
الاطلاق إلى عدم دخالة شئ في متعلق التكليف ولا معنى للالزام بذلك. إذن
فالعلم المدعى تنجزه هو العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر، وهذا وان لازم
العلم الاجمالي بالاطلاق أو التقييد لكن لا ربط له بمحل الكلام، فهو نظير
العلم الاجمالي بان الزمان فعلا إما ليل أو نهار. إذن فمجرى البراءة على تقديرها
هو وجوب ذات الأقل لا نفس الاطلاق، وهي مما لا مانع من جريانها فيه،
فتعارض البراءة في وجوب الأكثر. فالتفت ولا تغفل. ونكتفي بهذا المقدار من
التنبيه على بعض المؤاخذات على الدراسات، والله سبحانه ولي العصمة.
وجملة القول: ان رد القول بالاحتياط لاجل العلم الاجمالي ينحصر في
دعوى الانحلال في حكم العقل المبتني على الالتزام بالتبعض في التنجيز. فتأمل
جيدا (1).
الامر الثاني: من وجهي القول بالاحتياط - ما أشار إليه الشيخ في
كلامه، وهو انه لا اشكال في لزوم تحصيل غرض المولى الملزم بحكم العقل،
فيجب الاتيان بما يحققه، وبما أن الواجبات الشرعية تنشأ من مصالح وأغراض

(1) ثم إن سيدنا الأستاذ (دام ظله) ذكر في بداية هذا البحث ضرورة التعرض إلى تحقيق نحو نسبة
وجوب الكل إلى اجزائه، وانه هل يقبل التبعض بحيث يتصف كل جزء بحصة من الوجوب، نظير اتصاف
الجسم الأبيض بالبياض فان كل جزء منه يقال إنه أبيض. أو لا يقبل التبعض بحيث لا يتصف كل جزء
بالوجوب نظير الحمى العارضة على الجسم، فإنها وان سرت إلى جميع اجزاء الجسم لكن كل جزء منه لا
يصلح ان يتصف بالحمى، فيقال انه محموم؟. ولعل في بعض كلمات الكفاية في مبحث التعبدي والتوصلي ما
يشير إلى التزامه بهذا المبنى. ولكنه (دام ظله) أغفل تحقيق ذلك، لاجل عدم أهميته فيما نحن فيه، وذكر أنه
سيتعرض له في المحل المناسب الذي يكون لتحقيقه فيه أثر فانتظر.
214

واقعية ملزمة في متعلقاتها، فمع العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر يعلم
اجمالا بوجود غرض ملزم واحد يدور أمره بين ترتبه على الأقل أو على الأكثر،
فيجب الاتيان بالأكثر للزوم تحصيل الغرض الملزم، وهو لا يعلم الا باتيان
الأكثر وهو غرض واحد بسيط، فالشك بين الأقل والأكثر إنما هو فيما يحققه لا
فيه نفسه، وهو مجرى الاحتياط بالاتفاق، لأنه من موارد الشك في المحصل.
وقد استشكل الشيخ في هذا الوجه باشكالين:
الأول: ان مسألة البراءة والاحتياط لا تبتني على مذهب المشهور من
العدلية القائلين بنشوء الواجبات الشرعية عن مصالح ملزمة واجبة التحصيل
عقلا، بل هي يبحث فيها حتى على مذهب الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح،
وعلى من يكتفي بثبوت المصلحة في نفس الامر من العدلية، فهذا البيان
للاحتياط لا ينفع الجميع.
الثاني: عدم التمكن من احراز تحقق الغرض الملزم باتيان الأكثر، وذلك
لان الغرض إنما يترتب على العمل إذا جئ به بقصد الامتثال. وعليه فيحتمل
أن يكون الغرض متوقفا على الاتيان به بقصد الوجه لاحتمال اعتباره، وهو
متعذر فيما نحن فيه للجهل بما هو الواجب، فاحراز تحقق الغرض غير متحقق،
فلم يبق سوى التخلص من تبعة الامر الموجه إليه، وقد عرفت الانحلال
بلحاظه (1).
وقد التزم صاحب الكفاية بالوجه المزبور، ورد وجهي الشيخ..
أما الأول، فبأن ما أفاده (قدس سره) لا ينفي لزوم الاحتياط على من
يذهب مذهب المشهور من العدلية كالشيخ (رحمه الله)، وعموم الحديث في مسألة
البراءة لجميع المذاهب لا ينافي ذلك كما لا يخفى.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 273 - الطبعة الأولى.
215

وأما الثاني، فقد رده بوجوه عديدة...
أهمها: إنكار اعتبار قصد الوجه في العبادة لما أشار إليه في مبحث
التعبدي والتوصلي، من انه من الأمور التي يغفل عنها العامة غالبا. فعدم بيان
اعتبارها من الشارع دليل على عدم اعتبارها.
كما أنه ذكر امكان الاتيان بالأكثر بداعي الوجوب، إذ لا يعتبر تمييز
الاجزاء، إذ المراد وجه الواجب لا وجه الاجزاء، والأكثر واجب ولو بلحاظ كون
الأقل في ضمنه، إذ الأقل مأخوذ لا بشرط.
وكيف كان فما أفاده الشيخ (رحمه الله) لا يخلو عن مسامحة وهو لا
يتناسب مع مقامه العلمي (1).
وقد تصدى المحقق النائيني (قدس سره) إلى حل هذه الشبهة - أعني:
شبهة الغرض - والتخلص من وجوب الاحتياط، ببيان مفصل محصله: ان
الغرض من المأمور به.
تارة: تكون نسبته إلى المأمور به نسبة المعلول إلى علته التامة، وهذا
كمطلق موارد المسببات التوليدية إذا تعلق الامر بأسبابها، كالامر بالالقاء في
النار لغرض تحقق الاحراق.
وأخرى: تكون نسبته إليه نسبة المعلول إلى مقدمته الاعدادية، فلا
يترتب الغرض مباشرة على المأمور به، وانما يحتاج إلى انضمام مقدمات أخرى
لا تكون اختيارية، كالامر بالزرع لغرض صيرورة الزرع سنبلا. فان ما يصدر
من الفاعل من أفعال اختيارية من الحرث والبذر والسقي لا يكفي في حصول
السنبل، بل يحتاج إلى مقدمات أخرى غير اختيارية كاشراق الشمس ونحوها
من الأمور الإلهية. نعم فعل المأمور مقدمة اعدادية للغرض.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 364 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
216

فإذا كان الغرض بالنحو الأول، كان واجب التحصيل، بل قد يقال ان
التكليف متعلق به حقيقة. بخلاف النحو الثاني، فإنه لا يجب تحصيله لخروجه
عن الاختيار فلا يتعلق به الامر.
وبما أن الأغراض والمصالح التي تبتني عليها الأحكام الشرعية من قبيل
الثاني الذي يصطلح عليه بالعلل الغائية، فإنها مما لا تترتب مباشرة على فعل
المأمور به بل تتحقق بتوسط مقدمات غير اختيارية، فتكون نسبة الفعل إليها
نسبة المقدمة الاعدادية، لم يلزم تحصيلها لعدم تعلق الإرادة التشريعية بها. ومما
يكشف عن ذلك عدم وقوع الامر بتحصيل الملاك أصلا، ولو كانت من
المسببات التوليدية لتعلق الامر بها في غير مقام، لان المسبب التوليدي هو
المأمور به حقيقة، وتعلق الامر بسببه لكونه آلة ايجاده.
ثم إنه لا أقل من الشك في ذلك، وهو يكفي في عدم لزوم تحصيلها. هذا
محصل ما أفاده (قدس سره) (1).
ويرد عليه: ما ذكره جملة من الاعلام من سابق الأيام من أن المأمور به
له غرضان غرض أقصى وغرض أدنى. والأول ما تكون نسبته إليه نسبة المعد.
والثاني ما تكون نسبته إليه نسبة السبب التوليدي، وهو تهيئة المكلف واعداده
لحصول الغرض الأقصى، وهذا مما يلزم تحصيله باعترافه (قدس سره)، فإذا شك
فيما يحصله بين الأقل والأكثر لزم الاحتياط، لأنه شك في المحصل، كما إذا شك
في أن الاعداد لحصول السنبل هل يتحقق بمجرد البذر أو يتوقف على ضميمة
الحرث إليه، فإنه لا بد من الاحتياط. فالتفت.
فالتحقيق أن يقال في حل شبهة الغرض: انه لا وجه لدعوى لزوم
تحصيل غرض المولى الملزم إذا لم يكن المولى بصدد تحصيله بالأمر به مع التمكن.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 165 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
217

وما جئ به شاهدا على حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الملزم من أنه لو وجد
عبد المولى ولد مولاه في حالة الغرق وكان أبوه المولى نائما فلم يتصد العبد
لانقاذ ولد مولاه مع قدرته على الانقاذ استحق العقاب والملامة والذم بنظر
العقل. لا يصلح شاهدا على الدعوى، إذ المفروض في المثال عدم تمكن المولى
من الامر لنومه أو غفلته. ولذا لو علم المولى بحالة ولده، كما إذا كان بمرأى منه
ولم يأمر عبده بانقاذه لم يجب - بحكم العقل - على العبد انقاذ ولد مولاه وتحصيل
غرضه، وليس للمولى والحال هذه ان يلوم عبده ويؤاخذه على عدم تحصيل
غرضه.
وبالجملة: إذا كان الامر متمكنا من الامر فلم يأمر لم يكن تحصيل غرضه
الملزم واجبا عقلا، ولا شاهد عليه.
وعليه، ففيما نحن فيه لا بد من ملاحظة الامر ومقدار فعليته، فان المولى
وإن تصدى فيما نحن فيه لتحصيل غرضه بالأمر لثبوت الامر واقعا، لكن عرفت أن
الامر بالأكثر - لو كان واقعا - لا يصلح للداعوية إلا بالمقدار الذي تعلق به
العلم، واما الزائد عليه فهو مجهول، يكون مجرى البراءة عقلا وشرعا في حد
نفسه، ولا معنى لنفي البراءة بواسطة لزوم تحصيل الغرض المردد لعدم لزومه مع
تمكن المولى من ايصاله في حال الجهل بجعل ايجاب الاحتياط، فلا يلزم تحصيل
غرض المولى على تقدير كونه يترتب على الأكثر لتمكنه من الامر بما يحصله ولو
بواسطة جعل الاحتياط عند الجهل فلم يفعل، فلا يلزم تحصيله. وأمره الواقعي
لا ينفع بعد عدم العلم به وعدم تنجزه في حق المكلف وعدم داعويته إلا بمقدار
خاص وهو الأقل. فتدبر واعرف.
هذا تمام الكلام في إجراء أصالة البراءة في الأقل والأكثر.
ويقع الكلام بعد ذلك في التمسك لاثبات عدم لزوم الأكثر
بالاستصحاب.
218

وقد تعرض له الشيخ (رحمه الله) ههنا، كما تعرض له في ذيل الكلام في
البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية.
وكما منع جريانه هناك منع جريانه هنا. وتوضيح ما أفاده ههنا: انه قد
يتمسك لاثبات عدم وجوب الأكثر باستصحاب عدم وجوبه. لكنه منعه: بان
التمسك بأصالة عدم وجوب الأكثر ان قصد به نفي العقاب على ترك الأكثر،
فقد عرفت فيما تقدم ان انتفاء العقاب لا يحتاج فيه إلى الاستصحاب، بل مجرد
الشك فيه كاف في نفيه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فيكون الاستصحاب من
تحصيل الحاصل. وان قصد به نفي آثار الوجوب النفسي الاستقلالي للأكثر، فهو
معارض بأصالة عدم وجوب الأقل كذلك.
ثم إنه (قدس سره) تعرض بعد ذلك إلى وجهين آخرين للاستصحاب.
الأول: أصالة عدم وجوب المشكوك في جزئيته، وحكم بان حاله أردأ من
حال سابقه، لان المقصود به ان كان نفي وجوبه الضمني، فهو يرجع إلى نفي
وجوب الكل، لان الوجوب الضمني هو عين وجوب الكل وليس مغايرا له. وان
كان نفي الوجوب المقدمي، بمعنى اللابدية، فهي ليست حادثة، بل من لوازم
ذات الجزء كزوجية الأربعة. وان كان نفي وجوبه المقدمي، بمعنى الطلب
الغيري، فهو وإن كان حادثا مغايرا، لكنه لا ينفع في اثبات كون الواجب هو
الأقل إلا بنحو الأصل المثبت.
الثاني: استصحاب عدم جزئية الشئ المشكوك للمركب. ومنعه (قدس
سره) بان المقصود إن كان نفي جزئية السورة - مثلا - للمركب الواقعي. فهي
ليست من الأمور الحادثة المسبوقة بالعدم كي يستصحب، بل من الأمور
الأزلية. وإن كان نفي جزئية السورة للمأمور به، فمرجعه إلى نفي وجوب
الأكثر المشتمل على هذا الجزء، وهو لا يثبت تعلق الامر بالأقل إلا على القول
بالأصل المثبت.
219

ولكنه حاول تقريب هذا الأصل بارجاع الجزئية إلى مرحلة ثالثة وسط
بين مرحلة دخالته في المركب الواقعي وبين مرحلة دخالته في المأمور به. ببيان:
ان الماهيات المركبة كالصلاة انما يكون تركبها جعليا، إذ هي في حد ذاتها اجزاء
متباينة ومتنوعة المقولات لا ارتباط بينها في أنفسها، وانما تصير شيئا واحدا
بالاعتبار. بان يلحظ الامر مجموع هذه الأمور المتباينة أمرا واحدا، فيكون كل
من هذه الأمور جزء، بمعنى انه لوحظ مع غيره أمرا واحدا.
وعليه، فإذا شك في جزئية شئ، فيكون مرجع الشك إلى الشك في
ملاحظته مع غيره شيئا واحدا، وفي تعلق اللحاظ به كذلك، فيجري استصحاب
عدمه، ويترتب عليه ثبوت كون الماهية هي الأقل، وذلك لان الأقل يتقوم
بأمرين جنس وجودي، وهو ملاحظة الاجزاء المعلومة. وفصل عدمي وهو عدم
ملاحظة غيرها. واحد هذين الامرين ثابت بالوجدان وهو الجنس والاخر يثبت
بالأصل وهو الفصل، فيثبت في مرحلة الظاهر كون الواجب هو الأقل (1).
ولا يخفى عليك ان فائدة التمسك بالاستصحاب لاجل اثبات وجوب
الأقل ونفي وجوب الأكثر والاهتمام بهذه الجهة، انما هي دفع من يذهب إلى
الاحتياط بواسطة ان العلم الاجمالي وان انحل إلى العلم التفصيلي بوجوب
الأقل والشك في وجوب الأكثر، لكن وجوب الأقل المعلوم تفصيلا مردد بين كونه
استقلاليا وكونه ضمنيا، وإذا كان ضمنيا لا يتحقق امتثاله إلا باتيان الأكثر.
وعليه فمقتضى العلم التفصيلي باشتغال الذمة بالأقل هو لزوم تحصيل الفراغ
التفصيلي عن الأقل، وهو لا يكون الا باتيان الأكثر. وقد ينسب هذا البيان إلى
صاحب الفصول (2).

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 279 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 387 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
220

ولا يخفى انه إذا قام دليل على كون الواجب هو الأقل دون الأكثر لا
يبقى مجال لهذا القول، لتشخيص ما هو الواجب الذي يلزم الخروج عن عهدته،
ولا طريق إلى ذلك فيما نحن فيه سوى الاستصحاب.
وقد عرفت توجيه الشيخ (رحمه الله) للاستصحاب بالنحو المتقدم،
ويظهر منه ارتضاؤه، وإن استشكل فيه تحت عنوان " اللهم الا ان يقال... ".
ولكن يمكن ان يورد على استصحاب عدم الجزئية بالتقريب المتقدم: بأن
المقصود..
إن كان نفي الجزئية في مقام اللحاظ بحيث يرجع التركيب إلى لحاظ
المجموع امرا واحدا، فيقصد من نفي الجزئية نفي تعلق لحاظ المولى بالجزء
المشكوك.
ففيه: ان اللحاظ ليس من الأمور الجعلية للمولى، وانما هو من أفعاله
التكوينية كما أنه ليس موضوعا لحكم شرعي، والاستصحاب يعتبر أن يكون
مجراه امرا مجعولا أو موضوعا لامر مجعول، إذ التعبد انما يتصور في الأمور الجعلية
لا الأمور التكوينية.
وإن كان المقصود من البيان السابق للتركيب كون التركيب اعتباريا لا
لحاظيا، كما قد يظهر ذلك من التعبير بالمركبات الاعتبارية، بمعنى ان يعتبر
الوحدة للأمور المتباينة لا انها تلحظ شيئا واحدا فقط. فنفي الجزئية يرجع إلى
نفي اعتباره جزء.
ففيه: ان اعتبار جزئية الجزء عين اعتبار كلية الكل، فنفي اعتبار الجزئية
يرجع إلى نفي اعتبار كلية الأكثر، وهو لا يثبت كلية الأقل إلا بالأصل المثبت.
وبالجملة: يرد على هذا التقدير ما يورد على نفي تعلق الامر الضمني من
انه راجع إلى نفي الامر بالكل.
ولعله هو المقصود مما أفاد الشيخ (رحمه الله) تحت عنوان: " اللهم إلا أن
221

يقال... " فراجع. وسيأتي توجيه كلامه بنحو آخر بعد التعرض لكلام النائيني.
وقد تصدى المحقق النائيني للبحث عن استصحاب عدم الأكثر بصورة
مفصلة، ونحن نذكر جملة من كلامه فنقول: ذكر (قدس سره) ان المستصحب
تارة يكون عدم وجوب الجزء المشكوك. وأخرى يكون عدم وجوب الأكثر
المشتمل على المشكوك.
وعلى كلا التقديرين اما ان يراد من العدم هو العدم الأزلي السابق على
تشريع الاحكام. واما ان يراد به العدم السابق على حضور وقت العمل في
الموقتات، كقبل الزوال بالنسبة إلى صلاة الظهر. واما ان يراد به العدم السابق
على البلوغ.
وعلى جميع التقادير لا يجري استصحاب العدم، لكن يختلف الوجه في
عدم الجريان باختلاف الوجوه، إذ منها ما لا يكون له متيقن سابق. ومنها لا
يكون لبقائه اثر شرعي. ومنها ما يجتمع فيه الأمران.
أما استصحاب عدم وجوب الجزء المشكوك بالعدم الأزلي، فان أريد به
العدم النعتي وما هو مفاد ليس الناقصة، فيقال الأصل عدم تعلق الجعل واللحاظ
بالمشكوك في ظرف تشريع المركب، فهو مما لا حالة سابقة له، إذ لم يسبق زمان
شرع المركب فيه بدون لحاظ الجزء، بل المركب عند تشريعه إما شرع الجزء
المشكوك في ضمن اجزائه أولا. وان أريد به العدم المحمولي وما هو مفاد ليس
التامة فهو وان كان متيقنا لان اللحاظ والجعل أمر حادث مسبوق بالعدم، إلا أنه
يرد عليه:
أولا: ان المقصود باستصحاب العدم هو اثبات تعلق الجعل بالأقل وإلا
فلا أثر له. ومن الواضح انه لا يمكن اثبات ذلك بالأصل المزبور إلا على القول
بالأصل المثبت.
وثانيا: ان عدم الجعل مما لا أثر له أصلا، لان الآثار الشرعية بل العقلية
222

من الإطاعة والعصيان واستحقاق الثواب والعقاب وغير ذلك، انما تترتب وجودا
وعدما على الحكم المجعول لا على الجعل بما هو جعل الا بلحاظ استتباعه
للمجعول.
وعليه، فأصالة عدم الجعل لا أثر لها إلا إذا أريد بها اثبات عدم المجعول،
وهو مما لا يمكن إلا بناء على حجية الأصل المثبت - إذ المجعول ليس من الآثار
الشرعية للجعل بل من لوازمه - أو دعوى خفاء الواسطة.
وبالجملة: استصحاب العدم المحمولي لوجوب الجزء المشكوك مثبت من
جهتين.
وأما استصحاب عدم وجوب الأكثر بالعدم الأزلي. بتقريب: ان تعلق
الجعل بما يشتمل على السورة مثلا أمر حادث فالأصل عدمه. فيرد عليه:
أولا: ما تقدم من عدم الأثر لأصالة عدم الجعل إلا بلحاظ اثبات عدم
المجعول فيكون الأصل مثبتا.
وثانيا: معارضته بأصالة عدم وجوب الأقل، لان لحاظ الأقل لا بشرط
يباين لحاظه بشرط شئ وكل من اللحاظين مسبوق بالعدم.
ثم إنه ذكر: أن هذا لا ينافي ما تقدم في رد المحكي عن صاحب الحاشية
من أن الماهية لا بشرط لا تباين الماهية بشرط شئ، فان ذلك باعتبار نفس
الملحوظ لا باعتبار نفس اللحاظ، والا فهما متباينان، وكل منهما حادث والأصل
عدمه. ثم تعرض إلى سائر صور الاستصحاب، ونكتفي فعلا بهذا المقدار من
كلامه (1).
ولا بد من البحث في جهات عديدة في كلامه:
الأولى: - وهي أهمها - في ما أفاده من عدم جريان استصحاب عدم الجعل

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 395 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
223

لعدم الأثر المترتب عليه، فإنه لا بد من البحث في ذلك، فإنه محل كلام، وعلى
جريان هذا الاستصحاب يبتني عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية
لابتلائه بالمعارض دائما وهو أصالة عدم الجعل، كما ذهب إليه المحقق النراقي (1)
وتبعه عليه غيره (2).
الثانية: فيما افاده من عدم جريان أصالة عدم لحاظ الجزء بنحو العدم
المحمولي، من دون تعرض لكلام الشيخ حيث قربه بما عرفت من تقوم الأقل
بجنس وجودي وفصل عدمي، وان استشكل فيه بعد ذلك. فلا بد من الكلام في
هذه الجهة ومعرفة مقدار ارتباطها بكلام الشيخ.
الثالثة: في ما أفاده من معارضة استصحاب عدم جعل وجوب الأكثر
باستصحاب عدم جعل وجوب الأقل، مع التزامه سابقا بعدم معارضة أصالة
البراءة في الأكثر بأصالة البراءة في الأقل، فلا بد من معرفة انه هل هناك فرق
بين الاستصحاب والبراءة أو لا؟.
أما الكلام في الجهة الأولى - وقد عرفت أنها ذات أهمية جدا -، والذي
نتعرض للكلام فيه فعلا هو خصوص أصالة عدم الجعل وانها هل تجري أو لا
تجري لعدم الأثر أو لغيره؟.
أما الجهات الأخرى التي ترتبط باستصحاب الأحكام الكلية، فالكلام
فيها موكول إلى محله.
وكيف كان، فقد عرفت توقف المحقق النائيني من جريان أصالة عدم
الجعل لعدم أثر عملي يترتب عليه، إذ الأثر العملي الشرعي أو العقلي انما يترتب
على المجعول وجودا وعدما، وعدمه لا يثبت بأصالة عدم الجعل الا بالملازمة

(1) النراقي المحقق ملا أحمد، المستند / 156 - الطبعة القديمة.
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 36 - الطبعة الأولى.
224

وبنحو الأصل المثبت.
وقد قيل في دفع ما افاده (قدس سره) وجهان:
الأول: ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره) من أن الأثر غير الشرعي
انما لا يترتب على المستصحب الثابت بالاستصحاب إذا كان أثرا لخصوص
الوجود الواقعي للمستصحب، فيقال إن ثبوته بالاستصحاب يبتني على القول
بالأصل المثبت لأنه لازم غير شرعي للمستصحب. أما إذا كان لازما وأثرا
للمستصحب بوجوده المطلق أعم من الواقعي والظاهري، ترتب على
الاستصحاب قهرا، إذ يثبت المستصحب ظاهرا فيترتب عليه الأثر، وذلك نظير
وجوب الإطاعة العقلي، فإنه يترتب على الحكم الشرعي الثابت واقعا أو ظاهرا،
فإذا ثبت الحكم بواسطة الاستصحاب ترتب عليه وجوب الإطاعة عقلا.
ولا يخفى ان ترتب المجعول على الجعل كذلك، فإنه يترتب على الجعل
بوجوده الواقعي والظاهري، فالجعل الظاهري يستتبع المجعول ظاهرا.
وعليه، فنفي الجعل ظاهرا يستتبع نفي المجعول، لأنه من آثار عدم الجعل
الواقعي والظاهري. فلا يكون ثبوته من باب الأصل المثبت.
ولولا ذلك لما صح استصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ لاثبات المجعول،
مع أن جريانه وترتب المجعول عليه عند تحقق الموضوع من المسلمات، وذلك
كاستصحاب بقاء جعل وجوب الحج على المستطيع مع كون الشخص مستطيعا
فعلا، فإنه يترتب عليه ثبوت الوجوب عند تحقق الاستطاعة.
وليس ذلك إلا لما ذكر من أن المجعول لازم للجعل أعم من وجوده
الواقعي والظاهري (1).
الثاني: ان الجعل والمجعول متحدان وجودا مختلفان اعتبارا، كالايجاد

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 395 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
225

والوجود، فليس أحدهما غير الاخر. وعليه فاستصحاب الجعل بنفسه اثبات
للمجعول، كما أن استصحاب عدم الجعل بنفسه اثبات لعدم المجعول، ولا ملازمة
ولا ترتب بينهما.
ولولا ذلك لما صح استصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ لغرض اثبات
المجعول في ظرفه، مع أنه من المسلمات غير القابلة للانكار، بل عليه يبتني بقاء
الشريعة (1).
أقول: الوجهان يشتركان في النقض باستصحاب بقاء الجعل وعدم
النسخ، ويختلفان في الحل.
ولكن كلاهما قابل للدفع..
أما استصحاب عدم النسخ، فهو - على ما حققناه - لا يرجع إلى
الاستصحاب المصطلح، بل يرجع إلى التمسك باطلاق دليل كل حكم الدال
بنفسه على الاستمرار، حتى أنه لا حاجة أيضا إلى التمسك بما ورد من: " ان
حلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة " (2).
ولو سلم انه يرجع إلى الاستصحاب المصطلح كما بنى عليه المحقق
النائيني، فإنه بنى على أن طريق اثبات استمرار الاحكام هو استصحاب عدم
النسخ (3). فهناك فرق بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم.
ولا وجه لكلا الوجهين:
أما ما أفاده المحقق العراقي من أن المجعول وجودا وعدما يلازم الجعل
وجودا وعدما أعم من الواقعي والظاهري.
ففيه: انه مسلم في طرف الوجود دون العدم،

(1) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية 3 / 169 - الطبعة الأولى.
(2) أصول الكافي: كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقائيس الحديث 19.
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 511 - الطبعة الأولى.
226

وذلك لان مرجع الجعل إلى انشاء الحكم. ومن الواضح ان الانشاء بلا
منشأ محال، فالانشاء يتقوم تكوينا بالمنشأ.
وعليه، فيمكن ان يقال: كما أن الجعل والانشاء الواقعي يلازم المنشأ
والمجعول واقعا، كذلك الانشاء والجعل ظاهرا يلازم المنشأ والمجعول ظاهرا، إذ
لكل انشاء منشأ ولكل جعل مجعول. فالانشاء الظاهري يلازم المنشأ ظاهرا،
فاستصحاب الجعل الذي يرجع إلى ثبوت الجعل ظاهرا يترتب عليه ثبوت
المجعول ظاهرا، فتترتب عليه آثاره العملية العقلية والشرعية.
أما عدم الجعل ظاهرا، فهو أيضا يلازم عدم المجعول ظاهرا، كالملازمة
بين عدم الجعل واقعا وعدم المجعول واقعا، لكن مجرد عدم الجعل والمجعول ظاهرا
لا ينفع في اثبات المعذورية من الواقع المحتمل، إذ العقاب المحتمل عند احتمال
الواقع انما هو على نفس الواقع، فعدم جعل الظاهر جزما لا أثر له في نفي
العقاب على الواقع المحتمل.
كما أن مفاد استصحاب العدم ليس مجرد ثبوت عدم الجعل ظاهرا، إذ هو
مقطوع به فلا حاجة إلى الاستصحاب. فيحتاج في مقام المعذورية من الواقع
المحتمل إلى التعبد ظاهرا بعدمه باستصحاب أو غيره. ومن الواضح ان التعبد
ظاهرا بعدم الجعل في الواقع لا يمكن ان يثبت به عدم المجعول واقعا، كي
يتحقق العذر، وذلك لان ثبوت عدم المجعول واقعا بواسطة التعبد بعدم الجعل
إما من جهة ان التعبد بعدم الجعل عين التعبد بعدم المجعول، أو من جهة الملازمة
بين التعبد بعدم الجعل والتعبد بعدم المجعول، أو من جهة الملازمة الواقعية بين
عدم الجعل وعدم المجعول.
والأول باطل قطعا كما لا يخفى. والثاني لا وجه له، إذ أي ملازمة بين
التعبد بعدم الجعل والتعبد بعدم المجعول، إذ يمكن التفكيك بين التعبدين.
والثالث يرجع إلى الأصل المثبت وهو باطل.
227

وبالجملة: إشكال الأصل المثبت يتأتى في استصحاب عدم الجعل دون
استصحاب بقائه، فلا يصح النقض، كما لا يصح ما أفيد من أن عدم المجعول
أثر لعدم الجعل الأعم من الظاهري والواقعي، إذ عرفت أن التعبد بعدم الجعل
لا يترتب عليه التعبد بعدم المجعول، إذ لا ملازمة بين التعبدين، فينحصر وجه
ترتب عدم المجعول على الاستصحاب عدم الجعل بالملازمة الواقعية بينهما
فيرجع إلى الأصل المثبت. نعم عدم المجعول يترتب على عدم الجعل، لكن
عرفت أنه لا ينفع في المعذورية، وان مفاد الاستصحاب هو التعبد بعدم الجعل لا
نفس عدم الجعل. فانتبه.
فما أفاده المحقق النائيني من أن أصالة عدم الجعل لا أثر لها إلا بناء على
الأصل المثبت متين جدا.
وأما حديث وحدة الجعل والمجعول كوحدة الايجاد والوجود، فهو يبتنى
على الالتزام بان الانشاء ليس هو التسبيب للاعتبار العقلائي في ظرفه، كما هو
مسلك المشهور، بل هو ابراز للاعتبار النفساني الشخصي، فليس لدينا اعتبار
عقلائي، بل لدينا اعتبار شخصي يبرزه الانشاء. ومن الواضح عدم انفكاك
الاعتبار عن المعتبر، فالمعتبر موجود من حين الانشاء لكنه على تقدير، بمعنى
ان مورد الاعتبار هو الامر على تقدير خاص، فالموصي حين يوصي بداره لزيد
بعد موته، يعتبر الملكية فعلا لكن لزيد بعد موته، فالملكية متحققة من الآن.
وهكذا الوجوب على تقدير شرط خاص، فان الوجوب فعلي قبل حصول
الشرط بفعلية الانشاء والاعتبار، لكن متعلقه امر على تقدير خاص.
وبالجملة: الجعل والمجعول يراهما هذا القائل بمعنى الاعتبار والمعتبر.
ومن الواضح وحدتهما وجودا وتغايرهما اعتبارا.
ونحن نتكلم في مناقشة هذا القول من قطع النظر عن أصل مبناه
وبطلانه، فان له محلا آخر قد تقدم اسهاب الكلام فيه فراجع. فنقول: ان
228

الاعتبار الشخصي يطرأ على الموضوع الكلي كوجوب الحج على المستطيع.
ويثبت الوجوب من حين الاعتبار وإن لم يكن للموضوع وجود أصلا، فالوجوب
ثابت فعلا قبل صيرورة الشخص مستطيعا، وبعد الاستطاعة يتصف الشخص
بأنه من وجب عليه الحج. ولا يخفى ان هذا الوجوب الحادث غير الوجوب
الثابت بمجرد الاعتبار، إذ ذلك كان ثابتا ولم يكن الشخص متصفا به. وهذا
يكشف عن وجود مرحلة أخرى للوجوب هي مرحلة التطبيق الحاصلة عند
حصول الموضوع خارجا. ومن الواضح ان هذه المرحلة هي محط الآثار العملية
العقلية، إذ لا أثر لمجرد اعتبار الحكم الكلي مع قطع النظر عن انطباقه على
موضوعه الخارجي.
وعليه، نقول: إن استصحاب عدم الجعل الكلي لا ينفع في اثبات عدم
المجعول بمرحلته الثانية ذات الأثر العملي إلا من باب الأصل المثبت. كما أن
استصحاب عدم اللون الأبيض لا ينفع في اثبات عدم المرتبة الخاصة من اللون
الأبيض المشكوكة إلا من باب الأصل المثبت.
وبالجملة: يتأتى ههنا نفس البيان الذي ذكرناه على تقدير الالتزام بتغاير
الجعل والمجعول.
والمتحصل: ان ما أفاده المحقق النائيني (رحمه الله) من أن استصحاب
عدم الجعل لا أثر له إلا بناء على القول بالأصل المثبت مما لا محيص عنه. هذا
مع قطع النظر عن عدم قابلية العدم للتعبد، وإلا فالاشكال فيه أوضح. فانتبه.
ثم إنه قد أشرنا إلى ارتباط هذا البحث بجريان الاستصحاب في الشبهة
الحكمية. وبيان ذلك بنحو الاجمال: ان الشك في الحكم الشرعي ايجابا كان أو
تحريما تارة: يكون في ثبوته لحصة في عرض سائر الحصص، كالشك في حرمة
الصوت مع عدم الترجيع أو الطرب، مع العلم بحرمة الفرد المشتمل على الترجيع
والطرب. وأخرى: يكون في ثبوته لحصة في طول سائر الحصص من حيث الزمان،
229

ومرجعه إلى الشك في استمرار الحكم المتيقن حدوثه، كالشك في بقاء النجاسة
للماء المتغير إذا زال تغيره من قبل نفسه.
ولا يخفى ان الشك بالنحو الأول لا مسرح للاستصحاب فيه، لان
موضوع الاستصحاب هو الشك في بقاء الحكم واستمراره، وإنما يجري حديث
الاستصحاب بالنسبة إلى الشك بالنحو الثاني، فيتكلم في إمكان جريان
استصحاب النجاسة الثابتة سابقا - مثلا -، وفي هذا المقام يقع حديث
استصحاب عدم الجعل، فيقال بأنه يعارض استصحاب بقاء الحكم المجعول
دائما. ببيان يذكر في محله. ونتيجته يلتزم بعدم جريان استصحاب المجعول لاجل
المعارضة دائما.
فإذا ثبت انه لا مجال لاستصحاب عدم الجعل كان استصحاب بقاء
المجعول سليما عن المعارض.
إذن فتحقيق صحة جريان استصحاب عدم الجعل وعدم صحته له الأثر
المهم في صحة جريان استصحاب بقاء الأحكام الكلية عند الشك في استمرارها
وعدم صحته.
وكما يكون لاستصحاب عدم الجعل ارتباط بتلك المسألة، فان له ارتباطا
أيضا بمسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، وهي: انه هل يمكن اثبات وجوب
الأقل بأصالة عدم الجعل الجارية في خصوص الجزء المشكوك أو لا؟. وسبب
الاهتمام في ذلك يبتني على الالتزام بعدم انحلال العلم الاجمالي وجريان قاعدة
الاشتغال عقلا في حد نفسها، فإنه إذا كان مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الاتيان
بالأكثر لعدم العلم بالامتثال بمجرد الاتيان بالأقل لفرض كون الواجب
ارتباطيا، فلا رافع لذلك إلا قيام الدليل التعبدي على تعيين كون الواجب هو
الأقل دون الأكثر، لكي يرتفع موضوع قاعدة الاشتغال، إذ بعد حكم الشارع
بان الواجب هو الأقل وتعيين تعلق الامر بالأقل دون الأكثر لا مجال حينئذ
230

لحكم العقل بالاحتياط، بل يكون المورد من قبيل موارد جريان قاعدة الفراغ
مع العلم التفصيلي بالتكليف.
ولا يخفى ان هذا يختص بالأقل والأكثر الارتباطيين، إذ لا مجرى لقاعدة
الاشتغال في الاستقلاليين، كي يحتاج إلى تعيين الواجب في ضمن الأقل.
فالتفت.
وعلى كل حال. فقد عرفت أن المحقق النائيني ذهب إلى أن استصحاب
عدم الجعل لا يتكفل هذه المهمة، لأنه أصل مثبت بلحاظ هذه الجهة. ولكنه
ذهب سابقا إلى اثبات تعيين الواجب هو الأقل بأصالة البراءة، وانها تتكفل
اثبات الاطلاق الظاهري للمأمور به. ومن هنا قد يورد عليه بالتهافت في كلامه،
إذ كيف تتكفل البراءة تعيين الواجب، ولا يتكفله الاستصحاب الا على القول
بالأصل المثبت؟.
ولكن يمكن بيان الفرق بين البراءة والاستصحاب: بان المفروض في
الاستصحاب كون المستصحب هو العدم بنحو العدم المحمولي، ومن الواضح
انه لا يتكفل تعيين الواجب في الأقل الا بالملازمة العقلية. نعم لو جرى
الاستصحاب في العدم النعتي ثبت تعيين الأقل، لان مفاده ذلك رأسا، إذ مفاده
عدم اخذ الجزء في المركب المأمور به، ولكن عرفت المناقشة باختلال اليقين
السابق الذي هو ركن من أركان الاستصحاب.
أما البراءة، فمفادها مفاد الاستصحاب الجاري في العدم النعتي. وقد
عرفت أنه لا اشكال عليه من جهة انه أصل مثبت، بل الاشكال فيه من جهة
أخرى، وذلك لان مفادها عدم جعل الجزء المشكوك في المركب المأمور به وعدم
ارتباط التكليف المعلوم بالاجمال فيه، وهذا بنفسه يرجع إلى تعيين كون المأمور
به هو الأقل. إذن فلا تهافت في كلامه.
وبذلك يظهر ان ما أفاده المحقق النائيني من عدم جريان أصالة عدم
231

الجعل فيما نحن فيه للوجهين المتقدمين متين جدا بكلا وجهيه.
ثم إنه ظهر مما ذكرناه ههنا: ان محط نظره (قدس سره) في حديثه عن
اجراء البراءة الشرعية هو اثبات تعيين الواجب، وانه الأقل، ليرتفع بذلك حكم
العقل بلزوم الاحتياط، وان غرضه من اثبات الاطلاق الظاهري ذلك، لا ما
سبق منا في بيان كلامه من رجوع مقصوده إلى انحلال العلم بجريان الأصل
المثبت في أحد أطرافه والنافي في الطرف الاخر، أو انحلاله بعدم تعارض
الأصول. بل النكتة التي ينظر إليها (قدس سره) هو بيان ان مقتضى أصالة
البراءة تعيين الشارع المأمور به ظاهرا مما يستلزم ارتفاع حكم العقل بلزوم
الاحتياط، نظير موارد جريان قاعدة الفراغ الراجع إلى اكتفاء الشارع بما جاء
به المكلف، ولو لم يكن مصادفا للواقع. فانتبه ولا تغفل.
وأما ما أفاده (قدس سره) من أن جريان أصالة العدم في وجوب الأكثر
يعارضه جريان أصالة العدم في وجوب الأقل، لتباين لحاظ الشئ لا بشرط مع
لحاظه بشرط شئ، فقد أشرنا إلى أنه مثار ايراد عليه: بأنه قد تقدم منه ان اجراء
البراءة في الأكثر لا يعارضه اجراء البراءة في الأقل، فأي فرق بين المقامين؟.
وكأنه انتبه إلى هذا الايراد فذكر: ما تقدم منا في عدم تباين لحاظ الأقل
لا بشرط مع لحاظه بشرط شئ لا يتنافى مع ما ذكرناه هنا من تنافي اللحاظين.
وذكر في وجه التنافي وجها مجملا ولأجله أورد عليه المقرر بما يرجع إلى عدم
الفرق بين الموردين وان الحق عدم المعارضة.
والصحيح في الجواب عن هذا السؤال: انك عرفت أخيرا ان محط نظره
في اجراء البراءة ليس هو نفي وجوب الأكثر، بحيث يكون وجوب المجموع
مجرى البراءة، بل مجرى البراءة هو نفي اعتبار الجزء المشكوك في المركب المأمور
به الذي يحاول به تعيين كون الواجب هو الأقل.
ومن الواضح ان جريان البراءة في الجزء المشكوك لا يعارض جريان
232

البراءة في الأقل، لأنه معلوم الجعل على كل حال، وانما الشك في اخذه لا بشرط
وبنحو الاطلاق، أو أخذه بنحو التقييد وبشرط شئ.
وهذا بخلاف فرض الاستصحاب، إذ المفروض ان مجراه عدم وجوب
الأكثر بنحو المجموع، ونفي احتمال وجوب الأكثر بنحو الاستقلال يقابله
احتمال وجوب الأقل بنحو الاستقلال وهو مشكوك، فيكون مجرى لأصالة العدم
أيضا. ولا فرق في هذه الجهة بين أصالة البراءة أو الاستصحاب.
فعمدة الفرق بين المقامين ليس راجعا إلى الاختلاف بين البراءة
والاستصحاب بل إلى أن المفروض في مجرى الأصل ههنا يختلف عن مجراه فيما
تقدم، وذلك سبب تحقق المعارضة في ما نحن فيه وعدم تحققها فيما تقدم. فانتبه.
يبقى أمر واحد في كلام المحقق النائيني وعدنا بالتنبيه عليه وهو مدى
ارتباط كلامه بكلام الشيخ، حيث ذهب إلى تقريب جريان أصالة عدم الجزئية
بالبيان المتقدم.
وتوضيح ما أفاده الشيخ (رحمه الله) هو: انك عرفت أنه فرض للجزئية
مرحلة وسطى بين مرحلة الجزئية للمركب الواقعي الراجع إلى دخالة الجزء في
المصلحة وبين مرحلة الجزئية للمأمور به، وهي الجزئية في مقام اللحاظ.
وقد عرفت الاشكال فيه: بان اللحاظ ليس من المجعولات الشرعية كي
يصح التعبد بها، وانما هو من أفعال الشارع التكوينية فلا معنى لاستصحابه.
ولكن يمكن توجيه كلامه بما أشار إليه المحقق العراقي (قدس سره) (1)
بارجاع ما افاده إلى استصحاب عدم الجعل أو التعبد به، ببيان: ان للأحكام الشرعية
مرحلتين مرحلة الانشاء والجعل. ومرحلة الفعلية. ولا يخفى ان موضوع
الانشاء والجعل هو لحاظ المركب بنحو الوحدة لتقومه به. فاذن لحاظ كل جزء

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 394 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
233

مأخوذ في موضوع جعل الحكم له، فاستصحاب عدم اللحاظ إما يقصد به
استصحاب عدم الجعل، أو يقصد به التعبد بأثر اللحاظ، وهو الجعل، فينتفي
بواسطة استصحاب عدم الموضوع، إذ مرجع استصحاب الموضوع إلى التعبد
بحكمه.
ونتيجة هذا البيان: انه لا اشكال في استصحاب عدم اللحاظ من الجهة
التي عرفتها، لرجوعه إلى التعبد بعدم الجعل.
أما تقريب اثبات وجوب الأقل به، فقد تقدم بيانه بان الأقل مركب من
جنس وجودي وفصل عدمي، والجنس الوجودي وهو تعلق الحكم بغير المشكوك
من الاجزاء محرز بالوجدان، والفصل العدمي وهي عدم جعل الجزء المشكوك
يثبت بأصالة عدم الجعل بنحو العدم المحمولي. ولكن هذا البيان إنما يتأتى لو
تم ما ذكر من تقوم الأقل بأمر وجودي وأمر عدمي بنحو التركيب.
أما إذا ادعى بان الأقل يتقوم بأمرين وجوديين: أحدهما ثبوت الجعل
للاجزاء التسعة - مثلا -. والاخر لحاظ كونها لا بشرط بالنسبة إلى العاشر، لا
مجرد عدم لحاظ الجزء العاشر المشكوك. فأصالة عدم جعل الجزء العاشر لا يثبت
تقيد الاجزاء الأخرى بالقيد الوجودي إلا بالملازمة العقلية فيكون الأصل مثبتا.
كما تقدم بيانه في كلام المحقق النائيني.
وبما أن الامر في الأقل كذلك - أعني انه يتقوم بأمرين وجوديين -، وذلك
لان الاجزاء التسعة إما ان تلحظ مقيدة بالعاشر أو تلحظ غير مقيدة به، إذ الاهمال
ثبوتا ممتنع عقلا، فلا يصح أن لا تلحظ مقيدة ولا غير مقيدة.
وعليه، فيكون الأقل هو المركب الملحوظ عدم تقيده بالجزء العاشر،
فأصالة عدم الجعل بالنسبة إلى الجزء المشكوك لا يتكفل اثبات وجوب الأقل
إلا بالملازمة والأصل المثبت. والى هذا يرجع ما افاده الشيخ تحت عنوان: " اللهم
إلا أن يقال... ".
234

والذي يتحصل مما ذكرناه ان ما أفاده المحقق النائيني يوافق مختار الشيخ
أخيرا، فلا اختلاف بينهما.
هذا جميعه حول ما يرتبط بما أفاده المحقق النائيني بالنسبة إلى
استصحاب عدم الأكثر بنحو العدم الأزلي.
وأما ما أفاده في استصحاب العدم قبل الوقت في الموقتات، فلا يهمنا فعلا
التعرض إليه لعدم الأثر العملي له فيما نحن فيه. والجهة المهمة فيما ذكره في هذا
المقام هو بيان اختصاص الاستصحاب بلحاظ الوقت باستصحاب عدم
المجعول، ولا يتأتى استصحاب عدم الجعل، واختصاص استصحاب العدم
الأزلي باستصحاب عدم الجعل، ولا يتأتى فيه استصحاب المجعول لاختلاف
رتبة الجعل والمجعول، ومقام كل منهما غير مقام الاخر. وهذه الجهة سنتعرض لها
في المحل المناسب ان شاء الله تعالى. وهكذا الحال فيما افاده في استصحاب العدم
الثابت قبل البلوغ والمنع من جريانه لاجل ان العدم الثابت قبل البلوغ لا
يستند إلى الشارع، لامتناع جعل التكليف في حق الطفل، فلا يستند العدم إلى
الشارع، بل هو عدم عقلي، وهو مرتفع قطعا بعد البلوغ إما بجعل التكليف أو
بتبدله إلى العدم المستند إلى الشارع، فلا مجال على هذا لاستصحابه. فان تحقيقه
فيما نحن فيه ليس بذي أثر كبير. فنوكل البحث فيه إلى محله ان شاء الله تعالى.
هذا كله فيما إذا كان الشك في الجزئية.
الصورة الثانية: في الشك في الشرطية:
وفيما إذا كان الشك في شرطية شئ للمركب.
فقد فصل الشيخ الكلام في الشروط بين ما كان منشأ الشرط فعلا
خارجيا مغايرا للمقيد في الوجود الخارجي، كالطهارة المنتزعة عن الوضوء وبين
ما كان متحدا مع المقيد في الوجود الخارجي، كالايمان بالنسبة إلى الرقبة في قوله:
235

" أعتق رقبة مؤمنة " وقرب أولا الحاق القسم الأول بالجزء، فيكون المرجع عند
الشك فيه هو البراءة، والحاق القسم الثاني بالمتباينين، فيكون الشك فيه موردا
للاحتياط. ثم اختار أخيرا أن حكم القسمين واحد وان الأقوى فيه الحاقهما
بالجزء، فالمرجع عند الشك في الشروط هو البراءة (1).
وذهب صاحب الكفاية إلى: أن الشك في الشرط لا يكون مورد البراءة
العقلية للعلم الاجمالي، وان الوجه في الانحلال المتوهم عند الشك في الجزئية لا
يتأتى ههنا (2). وسيتضح كلامه إن شاء الله تعالى.
وتحقيق الكلام أن يقال: إنه بناء على ما سلكناه في الشك في الجزء تبعا
للشيخ (رحمه الله) من الالتزام بالانحلال في حكم العقل المبتني على الالتزام
بالتبعض في التنجيز، وإمكان تنجز التكليف من جهة دون جهة وبمقدار دون
آخر. فحكم الشك في الشرط بجميع أنحائه حكم الجزء، إذ المقدار المنجز من
التكليف هو التكليف بالمطلق. أما خصوصية الشرط، فلا يعلم اعتبارها،
فالتكليف غير منجز من جهتها فيكون العقاب على اهمالها عقابا بلا بيان، كما
أنه يمكن اجراء البراءة الشرعية في التكليف من تلك الجهة، لان مرجعها إلى
عدم ايجاب الاحتياط، وهو متصور بعد تصور التبعض في التنجيز.
وأما بناء على الالتزام في مورد الشك في الجزء بالانحلال الحقيقي في حكم
الشرع، بدعوى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك في وجوب الزائد. فقد
أشير إلى أنه يبتني على القول بانبساط الوجوب النفسي المتعلق بالكل على
الاجزاء، بحيث يكون كل جزء متصفا بالوجوب، بأن يكون الوجوب نظير
الاعراض الخارجية كالبياض التي يتصف بها مجموع الجسم وفي الوقت نفسه

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 284 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 367 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
236

يكون كل جزء منه متصفا به، وبتعبير أوضح: يكون نظير الغطاء الواحد الذي
يغطي مجموع البدن، ويتصف كل جزء من البدن بأنه تحت الغطاء أو مغطى.
أما على القول بعدم الانبساط وكون الوجوب نظير الحمى العارضة على
مجموع البدن ولا يتصف كل جزء منه بها، فلا يقال للرأس انه محموم، فلا مجال
لدعوى الانحلال كما لا يخفى.
وإذا ظهر أن الانحلال المدعى يبتني على القول بانبساط الوجوب فيقع
الكلام في أن انبساطه هل يختص بالاجزاء أو يعم الشروط؟. ولا يخفى ان الشرط
بنفسه لا يكون موردا للامر النفسي، وانما هو طرف للإضافة، فما يتوهم اتصافه
بالأمر النفسي الضمني هو التقيد بالشرط.
وقد ذهب صاحب الكفاية - كما أشرنا إليه - إلى عدم قابليته للاتصاف
بالوجوب النفسي. بدعوى أن الجزء التحليلي لا يتصف به.
ويمكن ان يوجه ما أفاده (قدس سره) ويقرب: بأن التقيد إذا لوحظ
بنحو المعنى الاسمي كان كسائر المفاهيم الاسمية مما يمكن أن يتصف
بالوجوب. اما إذا كان ملحوظا بنحو المعنى الحرفي الراجع إلى ملاحظة ذي القيد
بنحو خاص، لان حقيقة المعنى الحرفي - كما مر ايضاحها - هي الوجود الرابط
الذي عبر عنه بالربط بين المفاهيم الكلامية ونحو ذلك، وهو كيفية من كيفيات
وجود المفهوم الاسمي المرتبط به. فليس له وجود غير وجود المعنى الاسمي
المتقوم به، بل هو نحو خاص من وجود المعنى الاسمي.
فإذا كان التقيد ملحوظا بنحو المعنى الحرفي، كان فانيا في المقيد، وكان
الواجب في الحقيقة هو الحصة الخاصة من المطلق. فلا يكون الوجوب منبسطا
على التقيد.
ولا يخفى أن الشرط على تقدير اعتباره انما يلحظ التقيد به بنحو المعنى
237

الحرفي، فيلحظ واقع التقيد به لا مفهومه، فلا وجه حينئذ للانحلال، لعدم القدر
المتيقن في البين، بل الامر يدور بين تعلق الحكم بالحصة الخاصة أو بغيرها. هذا
ما يمكن ان يقرب به كلام الكفاية.
ويمكن الاشكال فيه: بان كون المعنى الحرفي كذلك لا ينافي تعلق
التكليف به وكونه موردا للأثر الشرعي، ولا ينافي لحاظه الاستقلالي في مقام
ترتيب الأثر عليه. وان اشتهر بان المعنى الحرفي آلي لا استقلالي، إذ معنى الالية
فيه ليس هو المرآتية والفناء في مقام التصور والملاحظة، بل بمعنى انه سنخ معنى
يتقوم بالغير ويفنى فيه ولا ينحاز عنه، فيصح تعلق التكليف به كما بين ذلك في
العبادات المكروهة. فقد أفيد في محله: ان الكراهة - في الصلاة في الحمام مثلا -
راجعة إلى تقيد الصلاة بالكون في الحمام وايقاعها فيه من دون حدوث حزازة في
نفس الصلاة. كما أن الكون في الحمام لا كراهة فيه في نفسه لو لم يكن راجحا.
وهكذا في مثل استحباب الصلاة في المسجد، فان المرغوب للمولى هو ايقاع
الصلاة في المسجد وتقيدها بالمكان الخاص، وهو محط نظره في قوله: " صل في
المسجد ".
وبالجملة: كون التقيد ملحوظا بنحو المعنى الحرفي لا ينافي تعلق التكليف
به وانبساط التكليف عليه وسرايته إليه.
فالمتجه أن يقال: إن كل مورد تكون الخصوصية المشكوكة فيه راجعة إلى
نفس متعلق التكليف، بحيث توجب سعة التكليف وزيادته عرفا ودقة كانت
مجرى البراءة شرعا، لأنها تقبل انبساط التكليف، فالشك فيها يكون شكا في
تكليف زائد مع وجود قدر متيقن في البين هو ذات المقيد. فيتحقق الانحلال
المدعى، وذلك نظير الطهارة مع الصلاة، فان الصلاة مع الطهارة والصلاة بدونها
بنظر العرف من الأقل والأكثر، فالصلاة مع الطهارة صلاة وزيادة، وترك الطهارة
واتيان الصلاة بدونها يكون ايجادا للفرد الناقص دقة وعرفا.
238

أما إذا كانت الخصوصية المشكوكة غير راجعة إلى متعلق التكليف، بل
إلى موضوع المتعلق بنحو لا يستلزم وجودها زيادة في المتعلق ولا فقدها نقصا فيه
- وذلك نظير عتق الرقبة المؤمنة، فان ايمان الرقبة أو عدم ايمانها لا يلازم زيادة
في العتق أو نقصا، بل نفس العتق على كلا التقديرين بنحو واحد لا اختلاف
فيه -، فالشك فيها لا يكون مجرى البراءة، إذ لا يتصور الانبساط ههنا، إذ لا
يكون المتعلق مقيدا بتلك الخصوصية، إذ هي ليست من خصوصياته المضيقة له.
وبالجملة: لا متيقن في البين - في متعلق التكليف - يشار إليه ويقال انه
معلوم الوجوب والشك في الزائد عليه، بل الفعل بدون الخصوصية مباين للفعل
المنضم للخصوصية، فلا يتحقق الانحلال.
فالحق هو التفصيل بين الصورتين في مقام الانحلال المبتني على القول
بانبساط الوجوب.
هذا، ولكنك عرفت إننا في غنى عن الالتزام بالانحلال الحقيقي في حكم
الشرع كي نضطر إلى التفصيل بين قسمي الشروط، ولنا فيما سلكناه من طريق
الانحلال الحكمي المبتني على التبعض في التنجيز غنى وكفاية فإنه يوصلنا إلى
المطلوب.
وقد عرفت أن الحال فيه لا يختلف بين قسمي الشروط، إذ الشك في كلا
القسمين شك في اعتبار خصوصية زائدة لم يقم عليها المنجز، فتكون موردا
للبراءة العقلية والشرعية، بمعنى عدم ايجاب الاحتياط شرعا من الجهة
المشكوكة.
239

يبقى الكلام في موارد:
المورد الأول: في دوران الامر بين العام والخاص.
ولا يخفى انهما بحسب اللغة لا يختلفان عن المطلق والمقيد، وانما الفرق
بينهما اصطلاحي بحسب مقام الدال، فإذا كان الدال على العموم وضعيا سمي
عاما، وإذا كان الدال عليه بمقدمات الحكمة سمي مطلقا.
والذي يبدو من المحقق العراقي (قدس سره) انه جمع بين المطلق والمقيد
وبين العام والخاص في الحكم ولم يفرز لكل منهما بحثا خاصا به (1).
وقد ذهب البعض في مقام بيان الفرق موضوعا فيما نحن فيه إلى: ان
المراد بالعام والخاص هو ثبوت الحكم لعنوان عام، ثم ثبوته لعنوان خاص من
حيث الصدق مباين من حيث المفهوم، نظير مفهوم الصلاة ومفهوم الجمعة.
فيختلف عن المقيد، لأنه ما أخذ فيه نفس العنوان المطلق بإضافة القيد الزائد،
نظير الصلاة وصلاة الجمعة (2).
وهذا الوجه لا يهمنا التعرض إلى تفنيده وبيان انه يرتبط بمقام الاثبات
لا مقام الثبوت كما لا يخفى جدا.
وإنما المهم بيان الفرق الصحيح بين الموردين - أعني: مورد العام
والخاص. ومورد المطلق والمقيد -، بحيث يصحح افراد كل منهما بالبحث والكلام
فيه على حدة.
فنقول: ان المراد بالخاص ما كانت الخصوصية فيه متحدة في الوجود مع
ذي الخصوصية بمعنى ان وجودها بعين وجوده واقعا ولا تعدد في وجودهما، نظير

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 399 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 208 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
240

الجنس والفصل، فأن وجود الجنس والفصل واحد. فالحيوان عام والانسان
خاص.
وبذلك يختلف عن المطلق والمقيد، إذ الخصوصية في المقيد ليست موجودة
بنفس وجود ذي الخصوصية وإن كانت متقومة به تقوم العارض بالمعروض، لكن
وجودها مغاير لوجود ذي الخصوصية، فان وجود الايمان غير وجود الرقبة ووجود
العدالة غير وجود العالم، كما أن الربط بينهما موجود بوجود انتزاعي غير وجود
ذي الربط وان تقوم به.
وإذا اتضح المراد بالخاص يتضح حكمه من حيث الانحلال وعدمه، مع
الشك في اعتبار الخصوصية، فإنه لا مجال لدعوى الانحلال، إذ لا انبساط
للتكليف على تقدير اعتبار الخصوصية بعد فرض وحدة الوجود دقة وعدم تعدده،
فليس الدوران بين العام والخاص من الدوران بين الأقل والأكثر في متعلق
التكليف. فلا وجه للانحلال فيه حتى إذا قيل بالانحلال في مورد الشك في القيد
ودوران الامر بين المطلق والمقيد.
إذن، لا بد من الاحتياط لمن يذهب إلى البراءة من باب الانحلال
الحقيقي في حكم الشرع.
نعم، على مسلكنا في اجراء البراءة لا مانع من جريانها ههنا، إذ التكليف
من جهة الخصوصية الزائدة المشكوكة غير منجز، لعدم العلم، فيكون مجرى
البراءة العقلية والشرعية الراجعة إلى عدم وجوب الاحتياط - كما أشرنا إليه -.
هذا، ولكن لا يذهب عليك ان هذا البحث فرضي بحت، إذ الخصوصيات
المأخوذة في متعلقات التكاليف ليست من قبيل الفصل إلى الجنس، لان
المتعلقات أفعال المكلفين، وهي من الاعراض، وهي بسائط لا تركب فيها كي
يجري فيها حديث العام والخاص والجنس والفصل.
وأما موضوعها، فهو وان أمكن أن يكون من الجواهر المركبة من الجنس
241

والفصل، لكن عرفت عدم الانحلال فيها حتى إذا كانت من قبيل المطلق
والمقيد، فلا أثر لكونها من قبيل العام والخاص.
ومن يدعي الانحلال في المطلق والمقيد من جهة ثبوت التقيد بين الفعل
وخصوصية موضوعه، فهو يقول به في العام والخاص أيضا، لان الفعل أيضا مقيد
بخصوصية الموضوع في مورده وان اتحد وجود الخصوصية مع ذي الخصوصية.
وبالجملة: لا فرق بين العام والخاص والمطلق والمقيد من هذه الجهة.
فلاحظ. هذا حكم دوران الامر بين الطبيعي ونوعه.
وأما لو دار الامر بين الطبيعي وفرده الجزئي، كدوران الامر بين الانسان
وزيد. فان قلنا: بان التفرد يحصل بنفس الوجود، فالنوع والفرد متحدان وجودا
لا تغاير بينهما أصلا، لان وجود الطبيعي بوجود فرده، وليس لكل منهما وجود
منحاز عن وجود الاخر، فالحكم فيهما من حيث الانحلال المبتني على الانبساط
حكم الطبيعي ونوعه. وان قلنا: بان التفرد لا يحصل بمجرد الوجود، بل بلوازم
الوجود من من المكان والزمان وسائر العوارض، فبما ان هذه من المقولات التي يلتزم
بان لها وجود مستقل عما تقوم به، فيكون الشك في الفرد نظير الشك في اعتبار
شرط زائد، وقد عرفت الكلام فيه. فتدبر.
المورد الثاني: في دوران الامر بين التعيين والتخيير.
ولا يخفى ان لدوران الامر بين التعيين والتخيير موارد متعددة:
الأول: دوران الامر بين التعيين والتخيير في المسألة الأصولية، كمورد
تعارض النصين مع ثبوت مزية في أحدهما يحتمل ان تكون مرجحة لذيها، وعدم
اطلاق يدل على التخيير حتى في هذه الصورة، فإنه يدور الامر بين حجية ذي
المزية خاصة وبين حجية أحدهما بنحو التخيير، وفي مثل ذلك يلتزم بالتعيين، لان
ذا المزية مقطوع الحجية على كلا التقديرين. وأما غيره فهو مشكوك الحجية،
وقد تقرر ان الشك في الحجية يلازم القطع بعدمها. فيتعين الالتزام بذي المزية.
242

الثاني: دوران الامر بين التعيين والتخيير في باب التزاحم، كما إذا تزاحم
واجبان كان أحدهما محتمل الأهمية، فإنه يدور الامر بين تعيين محتمل الأهمية
والتخيير بينه وبين غيره. وفي مثل ذلك يلتزم بالتعيين أيضا، لان مرجع التخيير
إلى الالتزام بتقييد اطلاق كل منهما بصورة عدم الاتيان بالاخر - إذ المزاحمة تنشأ
من تعارض الاطلاقين -.
وعليه، فمع احتمال أهمية أحدهما، يعلم بتقييد اطلاق الاخر، على كلا
التقديرين كما هو واضح. وأما محتمل الأهمية فلا يعلم بتقييد اطلاقه، فيكون
اطلاقه محكما، وهو معنى الترجيح.
الثالث: دوران الامر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال، كدوران
الامر في مقام الطاعة مع التمكن من الإطاعة التفصيلية بين تعينها عقلا أو
التخيير بينها وبين الإطاعة الاجمالية. والحكم هو التعيين أيضا، للشك في تحقق
الامتثال وسقوط التكليف بالاقتصار على الإطاعة الاجمالية، وقاعدة الاشتغال
تستدعي الفراغ اليقيني.
وجميع هذه الموارد الثلاثة ليست محل كلامنا فيما نحن فيه من البراءة
والاحتياط. وانما محل الكلام هو المورد..
الرابع: وهو ما إذا علم بتعلق التكليف بأمر معين وشك في أنه واجب
بنحو التعيين أو بنحو التخيير بينه وبين غيره، كما إذ علم بوجوب العتق عند
القدرة عليه على تقدير الافطار عمدا، وشك في أنه واجب عليه خاصة أو انه
مخير بينه وبين الصوم - مثلا -.
ومن هنا يظهر انه ليس من محل الكلام ما إذا تعلق الامر بطبيعة وشك
في أخذ خصوصية فيها، فيشك في تعيين ذي الخصوصية أو التخيير بينه وبين غيره،
فان جميع موارد الأقل والأكثر في الجزئية والشرطية كذلك، بل محل الكلام ما إذا
علم ملاحظة ذي الخصوصية - كالعتق في المثال - وشك في اعتباره بخصوصه أو
243

مخيرا بينه وبين غيره. فتدبر ولا تغفل.
وقد تعرض الشيخ (رحمه الله) إلى هذا المبحث بنحو مجمل (1). وأهمله
صاحب الكفاية (رحمه الله). وأسهب الكلام فيه المحقق النائيني (رحمه الله) (2).
وتحقيق الكلام فيه بنحو يرتفع عنه الغموض ويتضح به كلام الاعلام في
المقام صحة وسقما، أن يقال: ان حديث جريان البراءة وعدمه يختلف باختلاف
الأقوال في حقيقة الوجوب التخييري، فلا بد من الإشارة إليها ومعرفة أثر كل
منها من ناحية جريان البراءة وعدمه. وعمدتها أربعة أقوال:
الأول: انه عبارة عن وجوب كل من العدلين مشروطا بترك الاخر.
الثاني: انه عبارة عن وجوب أحدهما، فمتعلق الوجوب التخييري هو
عنوان انتزاعي في قبال موارد التخيير العقلي، فان متعلق الوجوب فيه هو الجامع
الحقيقي كالصلاة والصيام ونحوهما.
الثالث: انه سنخ خاص من الوجوب متعلق بكل من العدلين يعرف
بآثاره. وهو ما ذهب إليه صاحب الكفاية (3). وقد عرفت تصويره بأنه مرتبة
وسطى بين الاستحباب غير المانع من الترك مطلقا وبين الوجوب التعييني المانع
من الترك مطلقا.
الرابع: انه عبارة عن وجوب أحدهما المردد مصداقا. وبعبارة أخرى: انه
وجوب الفرد المردد وعلى سبيل البدل كما قربناه، ودفعنا ما توجه من الاشكال
فيه.
أما على القول الأول: فالشك في التعيين والتخيير يرجع إلى الشك في
اطلاق الوجوب المعلوم واشتراطه بترك العدل المشكوك. فيمكن إجراء البراءة

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى، فرائد الأصول / 285 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 417 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 141 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
244

في إطلاقه، لان مرجع الاطلاق إلى ثبوت تكليف زائد. وبعبارة أخرى: المكلف
شك في ثبوت الوجوب على تقدير اتيان العدل المحتمل، والأصل هو البراءة.
ولا يختلف فيما ذكرناه بين كون أساس جريان البراءة في الأقل والأكثر
هو انحلال العلم الاجمالي حقيقة على مبنى الانبساط في التكليف وبين كونه ما
ذكرناه من انحلاله حكما على مبنى التبعض في التنجيز.
إذ الشك كما عرفت يرجع إلى الشك في زيادة التكليف وثبوته على كلا
التقديرين، وقلته وثبوته على أحد التقديرين، وهو تقدير عدم الاتيان بالعدل
المشكوك، فتكون الزيادة مجرى للتكليف، للعلم التفصيلي بثبوته على تقدير ترك
الاخر، أما على تقدير اتيان الاخر فالتكليف مشكوك فيكون مجرى البراءة.
وأما على القول الثاني: فمرجع الشك في التعيين والتخيير إلى الشك في أن
الواجب هل هو الجامع الانتزاعي - أعني: عنوان أحدهما - أو انه الامر المعين
بعنوانه الخاص، كالصوم - مثلا -، فهو يعلم اجمالا بوجوب أحد الامرين عليه؟.
لا مجال حينئذ لدعوى انحلال العلم الاجمالي حقيقة المبني على انبساط
التكليف، لعدم كون الدوران بين الأقل والأكثر، فلا متيقن في البين.
وان توهم ذلك بدعوى: ان ثبوت التكليف بنحو التعيين يرجع إلى تعلق
التكليف بالجامع وهو عنوان أحدهما وزيادة الخصوصية، إذ عنوان أحدهما ينطبق
على الصوم. إذن فيصح ان يقال ان تعلق التكليف بالجامع معلوم على كلا
التقديرين والشك في اعتبار خصوصية زائدة عليه، فيكون المورد من موارد
دوران الامر بين الأقل والأكثر في باب الشروط، فيثبت الانحلال كما تقدم.
فان هذا الوهم باطل: لان الجامع الانتزاعي لا يكون مأخوذا في متعلق
التكليف لو ثبت الوجوب التعييني، بل متعلق الوجوب ليس إلا المفهوم المعين
الخاص كالصوم - مثلا -، وانما يلتزم به على تقدير ثبوت الوجوب التخييري من
باب ضيق الخناق في تصوير الواجب التخييري، فليس الواجب على تقدير
245

تعلق التكليف بالصوم بنحو التعيين سوى الصوم، لا انه عنوان أحدهما
المتخصص بخصوصية الصوم، قياسا على الحال في الجامع الحقيقي كالصلاة مع
الطهارة.
فالشك على هذا ليس شكا في كون متعلق التكليف هو المطلق أو المقيد،
بل الامر دائر بين متباينين. وما نبهنا عليه واضح لكل من له قليل التفات
وفضل.
ولأجل ذلك التزم المحقق العراقي بالاشتغال ههنا (1) مع التزامه بالانحلال
الحقيقي في الأقل والأكثر على ما عرفت (2).
وأما الانحلال الحكمي الذي قربناه مبنيا على التبعض في التنجيز، فله
على هذا القول مجال، وذلك لان العلم الاجمالي إنما يوجب تنجيز الجهة المشتركة
بين طرفيه، وترتب الأثر العقلي في مقام الإطاعة بالمقدار المتيقن ثبوته على كلا
التقديرين إذا كانت هناك جهة جامعة. ولا يخفى ان المقدار الثابت الجامع بين
الطرفين هو تنجيز التكليف المعلوم بالاجمال على تقدير ترك العدل الاخر
المحتمل.
أما مع الاتيان به، فلا يعلم بثبوت اقتضاء للتكليف في مقام العمل،
لاحتمال كون الواجب هو أحدهما. والعلم الاجمالي لا يصلح أن يكون بيانا
لذلك، لأنه يكون بيانا بالمقدار المعلوم ثبوته، فيكون التكليف على هذا التقدير
غير منجز، فتجري فيه البراءة.
وبالجملة: بعد فرض امكان التبعض في التنجيز من جهة متعلقه،
فالتبعض في التنجيز من جهة تقادير الوجوب ممكن أيضا، بل الامر فيه أوضح،
فيمكن أن يكون التكليف منجزا على تقدير وغير منجز على تقدير.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 288 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) راجع 4 / 202 من هذا الكتاب.
246

وعليه، فالعلم بثبوت الوجوب التعييني أو التخييري انما ينجز التكليف
على تقدير عدم الاتيان بالاخر المحتمل، وأما على تقدير الاتيان به، فليس
الحكم منجزا فيكون موردا للبراءة. فانتبه.
وأما على القول الثالث: فمرجع الشك في التعيين والتخيير إلى الشك في
ثبوت أي السنخين من الوجوب وتعلقه بالفعل الخاص.
ومن الواضح انه لا مجال أيضا لدعوى الانحلال الحقيقي المزبور، لان
الدوران بين المتباينين، والشك لا يرجع إلى الشك في زيادة التكليف وقلته، بل
إلى أن الثابت هذا النحو أم ذاك، فليس في المقام قدر متيقن يكون معلوم الثبوت
تفصيلا ويشك في ثبوت الزائد عليه، بل المورد من قبيل دوران الامر بين ثبوت
الوجوب للعمل أو الاستحباب، فإنه لا يقول أحد بأنه من موارد الدوران بين
الأقل والأكثر.
نعم، لدعوى الانحلال الحكمي الذي بنينا عليه مجال، وذلك لان المقدار
المعلوم ثبوته هو تأثير الحكم المعلوم بالاجمال في مقام الطاعة عند عدم الاتيان
بالمحتمل الاخر.
أما على تقدير الاتيان به، فلا علم بما له تأثير في مقام العمل من
التكليف، لاحتمال أن يكون الثابت هو الوجوب التخييري الذي يكون قاصرا
عن التأثير والمحركية على تقدير الاتيان بالعدل الاخر، فالتكليف على هذا
التقدير لا يكون منجزا، فيكون موردا للبراءة.
وقد عرفت عدم صلاحية العلم الاجمالي للتنجيز لا كثر من الجهة الجامعة
بين الطرفين في مقام الأثر العقلي في باب الإطاعة.
وأما على القول الرابع: فمرجع الشك في التعيين والتخيير إلى الشك في
تعلق الوجوب بالفرد المعين أو تعلقه بالفرد المردد، وهما متباينان، وليس هناك قدر
متيقن في البين.
247

وعليه، فلا مجال لدعوى الانحلال الحقيقي المبني على الانبساط لدوران
الامر بين المتباينين.
وأما الانحلال الحكمي الذي قربناه، فله مجال أيضا بعين التقريب على
الأقوال السابقة، فان التكليف المعلوم اجمالا لا علم بتأثيره على تقدير الاتيان
بالعدل المحتمل، والعلم الاجمالي انما ينجز التكليف المعلوم بالاجمال بمقدار ما
يعلم تأثيره في مقام الطاعة على كلا تقديريه. فلا يكون التكليف منجزا على
تقدير الاتيان بالعدل المحتمل، فيكون مورد البراءة.
ويتلخص من جميع ما ذكرناه: ان جريان البراءة في الأقل والأكثر..
ان كان مبناه هو الانحلال الحقيقي المبتني على انبساط الوجوب ووجود
القدر المتيقن، فلا يمكن اجراء البراءة في دوران الامر بين التعيين والتخيير على
جميع الأقوال في الوجوب التخييري إلا على القول الأول.
وإن كان مبناه هو الانحلال الحكمي المبتني على التبعض في التنجيز،
أمكن اجراء البراءة على جميع الأقوال. بل عرفت أن الالتزام بالتبعض في
التنجيز ههنا أوضح منه في متعلق التكليف، لأنه ههنا بلحاظ تقادير التكليف
نفسه. فلاحظ. هذا غاية التحقيق في دوران الامر بين الأقل والأكثر.
المورد الثالث: في دوران الامر بين الأقل والأكثر في المحصل، بمعنى أن
المأمور به يكون معلوما بحدود وقيوده، وإنما يشك فيما يحققه وما يكون سببا
لحصوله في أنه الأقل أو الأكثر، كما لو فرض تعلق الامر النفسي بالطهارة، وقيل إنها
أمر بسيط مسبب عن الأفعال الخاصة من الوضوء والغسل والتيمم، وليس
الامر متعلقا بنفس الأفعال المركبة كما هو ظاهر بعض النصوص الدالة على
وجود أمر مستمر، يتعلق به النقض والبقاء، وهذا لا يتصور بالنسبة إلى نفس
الأفعال لأنها تتصرم وتنعدم كما هو واضح.
248

ولا يخفى ان الأصل ههنا هو الاشتغال، فإذا شك في أن السبب المحصل
للمسبب هل هو الأقل أم الأكثر فلا بد من الاحتياط باتيان الأكثر، وذلك لان
التكليف بالمسبب معلوم منجز، والتردد في السبب يكون من التردد في تحقق
الامتثال وحصول الواجب، وقاعدة الاشتغال تلزم بتحصيل العلم بحصوله
باتيان الأكثر.
ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون السبب والمحصل شرعيا أو غير
شرعي، إذ السببية غير مجعولة شرعا بجعل مستقل، بل هي منتزعة من الحكم
بحصول الواجب عند اتيان ذات السبب، فلا موهم لجريان حديث الرفع فيها
عند الشك.
نعم لو التزم بأنها مجعولة بجعل مستقل كان للحديث في جريان حديث
الرفع مجال وإن كان ممنوعا. وتحقيقه في مقام آخر.
ثم إن ههنا بحثا صغرويا في خصوص الطهارة والوضوء أو الغسل. وهو:
ان الشك في اعتبار جزء زائد في الوضوء والغسل إنما يكون مجرى لأصالة
الاحتياط لو فرض ان نسبة الوضوء إلى الطهارة المأمور بها نسبة السبب إلى
المسبب، بحيث يكون للطهارة وجود غير وجود نفس الوضوء، نظير الملكية
المسببة عن العقد، فان العقد لا يقال عنه انه ملكية. وليس الامر كذلك، بل
نسبة الطهاة إلى الوضوء نسبة العنوان إلى المعنون، نظير التعظيم الحاصل
بالقيام، ولكنه عنوان له، فالقيام بنفسه تعظيم لا أن التعظيم شئ وراء القيام،
فيقال للقيام انه تعظيم. ونظير الاستيلاء الاعتباري على الأرض الشاسعة
الحاصل بمجرد ملك المفتاح وكونه مطلق العنان فيها، فان نفس ذلك يقال عنه
انه استيلاء اعتبارا لا حقيقة، إذ الاستيلاء الحقيقي يحصل بالإحاطة الحقيقية
وكون الشئ تحت قبضته حقيقة، وهذا لا يتصور في مثل الأرض الشاسعة.
ويدل على ذلك ما ورد من النصوص مما ظاهره اطلاق الطهارة على نفس
249

الوضوء وترتيب بعض آثارها عليه، كقوله: " الوضوء نور " ونحو ذلك (1)، فإنه
ظاهران الطهارة هي الوضوء ونسبتها إليه نسبة العنوان إلى المعنون.
وإذا فرض أن الامر كذلك، فالشك في اعتبار جزء زائد في الوضوء يكون
مجرى البراءة لاتحاده مع المأمور به وجودا. هذا ما ذهب إليه بعض الاعلام (2).
وفيه: - مع الغض عن عدم تعقل كون الطهارة عنوانا للوضوء، كما تقدم
تفصيل الكلام فيه في مبحث مقدمة الواجب - ان كون نسبة الطهارة إلى الوضوء
نسبة العنوان إلى المعنون لا يقتضي جريان البراءة مع دوران الوضوء بين الأقل والأكثر، بل الحال فيه هو الحال على القول بكون نسبتها إليه نسبة المسبب إلى
السبب.
والوجه في ذلك: انه بعد فرض ان المأمور به هو الطهارة: وهي أمر
اعتباري بسيط يتحقق بالأفعال الخاصة، وليست نسبته إلى الأفعال الخاصة
نسبة اللفظ إلى المعنى كي يكون الامر به أمرا بها حقيقة، بل هي عنوان
اعتباري يتحقق بالأفعال، فمع اتيان الأقل يشك في تحقق ذلك العنوان، فيكون
من الشك في الامتثال، نظير ما إذا أمر المولى عبده بتعظيم زيد فشك العبد ان
التعظيم هل يحصل بمطلق القيام أم القيام بضميمة التحية، فإنه ليس له الاكتفاء
بمجرد القيام للشك في حصول الامتثال به.
نعم، لو التزم بان الطهارة ذات مراتب يتحقق كل مرتبة منها بحصول
جزء من الوضوء أو الغسل، كما قد يظهر ذلك من بعض الروايات الواردة في
الغسل، كان الشك في اعتبار جزء زائد في الوضوء أو الغسل شكا في اعتبار
المرتبة الزائدة في الطهارة، فيكون الشك في متعلق التكليف، فيكون مجرى

(1) وسائل الشيعة 1 / باب 8 من أبواب الوضوء الحديث: 8 وفيه: (الوضوء على الوضوء نور على نور)
وسائل الشيعة 1 / باب 1 من أبواب الوضوء الحديث: 5 (الوضوء شطر الايمان).
(2) الغروي الشيخ ميرزا علي. التنقيح 4 / 61 - كتاب الطهارة - الطبعة الأولى.
250

البراءة.
لكن هذا خلاف المفروض في الكلام من أنها أمر وحداني بسيط لا تعدد
فيه ولا تشكيك.
المورد الرابع: في دوران الامر بين الأقل والأكثر في المحرمات، كما لو دار
أمر الغناء المحرم بين كونه خصوص الصوت المطرب أو انه الصوت المطرب
المشتمل على الترجيع.
وقد يقال: أن الامر فيه على عكس الامر في دوران الامر بين الأقل والأكثر في الواجبات، إذ الأقل في مورد المحرمات غير معلوم التحريم، والأكثر
معلوم التحريم، فلذا لا يلزم ترك الأقل.
ولكن لا يخفى ان الالتزام في باب الواجبات بالانحلال إذا كان من باب
الانحلال الحقيقي المبتني على الانبساط، باعتبار ان الأقل معلوم الوجوب إما
نفسيا استقلاليا أو ضمنيا، والزائد مشكوك، فهو بعينه يجري في باب المحرمات،
إذ حرمة المجموع تستلزم حرمة كل جزء جزء ضمنا. وعليه فمع دوران أمر المحرم
بين الأقل والأكثر يصح ان يقال: إن الأقل معلوم الحرمة على كل حال اما
استقلالا أو ضمنا. وأما الخصوصية الزائدة فهي مشكوكة الاعتبار.
نعم، على مسلكنا في مقام الانحلال وهو الالتزام بالانحلال الحكمي
المبتني على التبعض في التنجيز، يكون الامر في المحرمات على عكسه في
الواجبات. وذلك لان فعل الأكثر مما يعلم بترتب العقاب عليه على كل حال،
وأما فعل الأقل فلا يعلم بترتب العقاب عليه على كل حال، لاحتمال كون
المحرم هو الأكثر، فلا يكون فعله موجبا للعقاب، إذ المخالفة في باب المحرمات
إنما تتحقق بفعل المجموع. وأما في باب الواجبات، فهي تتحقق بترك بعض
الاجزاء، لان ترك البعض سبب لترك الكل دون فعل البعض، فإنه لا يكون
سببا لفعل الكل. فلاحظ والتفت.
251

المورد الخامس: ما إذا كان منشأ الشك في الشرطية هو الشك في حكم
تكليفي مستقل. كما لو كان منشأ اعتبار الشرطية حكما تكليفيا مستقلا، نظير
ما يقال في اشتراط عدم الغصب في الصلاة من جهة حرمة الغصب وثبوت
التضاد بين الحرمة والوجوب، فإذا شك في جواز الصلاة في مكان للشك في أنه
غصب أو لا، فمنشأ الشك في جواز الصلاة في ذلك المكان هو الشك في حرمة
الكون فيه.
وقد التزم الشيخ (رحمه الله): بان جريان أصالة البراءة في الحكم
التكليفي يكون حاكما على الأصل في الشرطية المشكوكة من براءة أو احتياط،
لان نسبة الشك في الحكم التكليفي المستقل إلى الشك في الشرطية نسبة الشك
السببي إلى المسببي، والأصل الجاري في الشك السببي يكون حاكما على الأصل
الجاري في الشك المسببي (1).
وقد استشكل فيه المحقق النائيني - بعد أن بين ان الشرطية قد تكون
منتزعة عن تكليف غيري مع قطع النظر عن الحكم التكليفي، سواء كان في
موردها حكم تكليفي كلبس الحرير في الصلاة، أو لم يكن كالصلاة فيما لا يؤكل
لحمه. وقد تكون ناشئة من الحكم التكليفي، وعلى الأخير تارة: يكون منشأ
الشرطية هو الحكم الواصل، كاشتراط عدم الغصب في الصلاة باعتبار حرمته
بناء على التزاحم. وأخرى: يكون منشؤها هو الحكم بوجودها الواقعي، كالمثال
المتقدم بناء على التعارض. وان محط نظر كلام الشيخ هو الصورة الأخيرة، إذ
الصورة الأولى لا يحتاج فيها إلى الأصل عند الشك، بل مجرد عدم الوصول
والشك يكفي في عدم المزاحمة وارتفاع الشرطية.
بعد أن بين ذلك استشكل (قدس سره) -: بأن الأصل الجاري في الحكم

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 286 - الطبعة الأولى.
252

التكليفي انما يكون حاكما على الأصل في الشرطية إذا كان من الأصول
المحرزة، كالاستصحاب، لأنه يتكفل نفي الواقع ظاهرا، فيرتفع به موضوع
الشك المسببي. واما إذا لم يكن محرزا كالبراءة فلا ينفع في الحكومة، لان غاية
مدلول البراءة هو الترخيص في الفعل والترك بلا تصرف في الواقع، فيبقى
الشك في الشرطية على حاله فلا بد من علاجه باجراء الأصل فيه (1).
والذي يبدو لنا: انه لا مجال لجريان الأصل في الحكم التكليفي النفسي،
لاجل رفع الشك في الشرطية، إذا كان التكليف بوجوده الواقعي منشأ للشرطية،
سواء كان الأصل احرازيا أم لم يكن.
وذلك لان الحرمة الثابتة للغصب وان كانت منشأ لاعتبار شرطية عدم
الغصب في الصلاة من جهة التعارض وغلبة ملاك الحرمة، إلا أن الشرط ليس
هو عدم الحرمة كي يكون اجراء الأصل في الحرمة رافعا للموضوع ونافيا للشك
في الشرط، إذ عدم الضد لا يؤخذ في متعلق الضد الاخر، فلا معنى لان يقيد
الواجب بعدم كونه حراما. وإنما الشرط هو عدم متعلق الحرمة، وهو الغصب،
فالمعتبر في الصلاة هو عدم الغصب، ومنشأ اعتبار عدمه هو حرمته، فإذا شك في
الحرمة فالأصل فيها لا ينفي الشرط وهو عدم الغصب إلا بالملازمة العقلية.
وبعبارة أخرى: إذا شك في مكان انه غصب أم لا، يشك في اعتبار عدمه
في الصلاة من جهة الشك في الحرمة، ونفي حرمته واقعا وإن استلزم انتفاء اعتبار
عدمه، لكن ذلك لا يثبت بالأصل إلا على القول بالأصل المثبت، لان الملازمة
بين الحرمة والشرطية ملازمة عقلية، وترتب اعتبار العدم على حرمة الفعل مما
يحكم به العقل لا الشارع. فمجرد منشئية الحرمة للشرطية لا يصحح الاقتصار
على اجراء الأصل في الحرمة، بل لا بد من اجراء الأصل في الشرطية المشكوكة

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 193 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
253

أيضا. فالتفت ولا تغفل.
المورد السادس: في دوران الامر بين الأقل والأكثر من جهة الشبهة
الموضوعية.
وقد تعرض الشيخ (رحمه الله) لذلك. وفرض موضوع الكلام ما إذا أمر
بمفهوم مبين مردد مصداقه بين الأقل والأكثر، ومنه ما إذا وجب صوم شهر هلالي،
وهو ما بين الهلالين، فشك في أنه ثلاثون أو ناقص، ومثل ما إذا أمر بالطهور
لاجل الصلاة وهو الفعل الرافع للحدث أو المبيح للصلاة، فشك في جزئية شئ
للوضوء أو الغسل الرافعين.
كما أنه حكم (قدس سره) بلزوم الاحتياط هنا لتنجز التكليف بمفهوم
مبين معلوم تفصيلا، والشك انما هو في تحققه بالأقل، وهو مجرى قاعدة الاشتغال (1).
وقد ذهب المحقق النائيني (رحمه الله) - كما في تقريرات الكاظمي - إلى أن
الشيخ (رحمه الله) أرجع الشبهة الموضوعية إلى ما يرجع إلى الشك في
المحصل، كما يظهر من تمثيله بالشك في جزئية شئ للطهور الرافع للحدث، ومن
التزامه بأصالة الاشتغال خلافا لما التزم به في الشبهة الحكمية.
وذهب إلى أن ذلك منه (قدس سره) لعله للغفلة أو لتخيله عدم إمكان
وقوع الشك في نفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر لاجل الشبهة
الموضوعية. ثم ذكر: انه يمكن تصور الشبهة الموضوعية في نفس متعلق التكليف.
ببيان طويل محصله: ان التكليف تارة: يكون له تعلق بموضوع خارجي كوجوب
اكرام العالم. وأخرى: لا يكون له تعلق بموضوع خارجي كوجوب السورة.
ومن الواضح ان التكليف في المورد الأول يختلف سعة وضيقا باختلاف
سعة الموضوع وضيقه، فإذا ثبت وجوب اكرام مطلق افراد العالم بنحو العموم

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 283 - الطبعة الأولى.
254

المجموعي كان هناك تكليف واحد باكرام مجموع العلماء فإذا شك في فرد انه
عالم أولا، يشك في سراية الحكم إليه وكون اكرامه جزء من متعلق الحكم أولا،
فيكون من موارد دوران الامر بين الأقل والأكثر في نفس متعلق التكليف، ومنشأ
الشك هو اشتباه الموضوع الخارجي. نعم إذا لم يكن للتكليف تعلق بموضوع
خارجي، فلا يمكن ان تتحقق فيه الشبهة الموضوعية، بل الشبهة فيه لا بد وان
تكون حكمية.
وبالجملة: فالشبهة الموضوعية لدوران الامر بين الأقل والأكثر
الارتباطيين متصورة فيما كان للتكليف تعلق بموضوع خارجي.
وذكر (قدس سره) بعد ذلك: ان أمثلتها في الفقه كثيرة. ومنها: تردد لباس
المصلي بين كونه من مأكول اللحم أو غيره بناء على مانعية غير مأكول اللحم لا
شرطية كونه من مأكول اللحم، إذ كل فرد فرد من اجزاء غير المأكول منهيا عن
الصلاة فيه بالنهي الغيري، ويكون عدمه مأخوذا في الصلاة، فالشك في أن هذا
اللباس من مأكول اللحم أو لا يستلزم الشك في أخذ عدمه في الصلاة، فيكون
من دوران الامر بين الأقل والأكثر من جهة الشبهة الموضوعية.
نعم، لو أخذ كون اللباس من مأكول اللحم شرطا في الصلاة لم يتأت
البيان المزبور، إذ التكليف في الشروط لا ينحل إلى تكاليف متعددة بعدد ما
للموضوع من أفراد، إذ لا معنى للامر بايقاع الصلاة في كل فرد من افراد
مأكول اللحم، بل التكليف متعلق بصرف الوجود. وهذا معلوم لا شك فيه، فلا بد من
احراز امتثاله باحراز كون اللباس من مأكول اللحم، ولا مجال لجريان
البراءة هنا، لان الشك في المحصل لا في نفس متعلق التكليف. فالحال يختلف
بين أخذ كون اللباس من مأكول اللحم شرطا وبين أخذ كونه من غير مأكول
اللحم مانعا.
فعلى الأول: لا يرجع الشك في كون هذا اللباس من المأكول وعدمه إلى
255

الشك في الأقل والأكثر.
وعلى الثاني: يرجع إلى الشك بين الأقل والأكثر.
ولذا كان الشك على الأول مجرى الاشتغال. وعلى الثاني مجرى البراءة.
كما يحقق ذلك في مبحث اللباس المشكوك. هذا ملخص ما أفاده المحقق النائيني
(رحمه الله) في المقام (1).
وقد ذهب المحقق العراقي إلى تقسيم صور الشك في المصداق إلى ما
يكون من جهة الشك في اتصاف الموجود بعنوان الكبرى، كالشك في اتصاف
زيد بعنوان العالم في مثال: " أكرم العالم ". والى ما يكون من جهة الشك في وجود
ما هو المتصف بعنوان الكبرى.
وذكر ان الأول على قسمين، لان الخطاب تارة يكون مبهما من جهة حدود
الموضوع، بحيث يقبل الانطباق على الكثير والقليل، مثل اكرام العالم وأخرى:
يكون معينا بلا ابهام فيه من هذه الجهة أصلا، كالامر باكرام عشرة علماء.
ثم ذكر: ان الشك في المصداق في مثل الأول يستلزم الشك في مقدار إرادة
المولى وشمولها للمشكوك فيه وعدمه. وعليه يكون المورد من دوران الامر بين
الأقل والأكثر.
ولكنه أفاد: بان نظر الشيخ (رحمه الله) إلى غير هذا الفرض، كما يظهر
من تمثيله بالأمر بصوم ما بين الهلالين والشك في المحقق، فإنه ظاهر في كون محط
نظره ما إذا لم يكن في الخطاب ابهام من حيث مقدار دائرة الحكم، بل الابهام في
مقام التطبيق.
وذكر: ان الفرض الأول مما لا يخفى على أصاغر الطلبة فضلا عن مثل
الشيخ (رحمه الله) الذي هو أستاذ هذا الفن، فلا ينبغي نسبة الغفلة إليه أو تخيل

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 200 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
256

عدم امكان فرض الشبهة الموضوعية في الأقل والأكثر. ثم تعرض لبيان عدم
تصور دوران الامر بين الأقل والأكثر في الفرضين الآخرين، ولا يهمنا التعرض
إليه فعلا (1).
ولا يخفى عليك، ان ما أفاده العراقي اعتراف بما أفاده المحقق النائيني
في واقعه، وإن جعل نظر الشيخ (رحمه الله) مقصورا على غيره، إذ لا يرتفع
التساؤل عن سبب اغفال الشيخ للفرض الأول مع أنه هو المثال الواضح
للشبهة الموضوعية، والفرض ان موضوع كلامه فيها.
ومثاله الأول وان أمكن ارجاعه إلى الشبهة الموضوعية ودوران الامر بين
الأقل والأكثر في نفس متعلق التكليف كما لا يخفى، لكن مثاله الثاني وتعليله
لزوم الاحتياط بالعلم بتعلق التكليف بمفهوم مبين مردد مصداقه بين الأقل والأكثر يأبى عن ذلك، ويظهر منه ان المفروض كون الشك في المحصل.
وكيف كان، فقد عرفت أن تصور الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر
بمكان من الامكان، والحكم فيها من حيث جريان البراءة العقلية والنقلية هو
الحكم في الشبهة الحكمية، لجريان نفس البيان ههنا بجميع شؤونه. فالتفت ولا
تغفل.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 408 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
257

يبقى الكلام في تنبيهات المسألة.
التنبيه الأول: في الشك في ركنية الجزء مع العلم بأصل الجزئية.
وقد ذكر الشيخ (رحمه الله): أن عنوان الركن لم يرد في النصوص كي يقع
البحث في تشخيص مفهومه العرفي، وانما هو اصطلاح فقهي يعبر به عن بعض
الاجزاء التي يختل العمل بتركها سهوا - كما هو تعريف بعض الفقهاء للركن -،
أو التي يختل العمل بتركها سهوا وزيادتها عمدا وسهوا - كما هو تعريف بعض
آخر للركن -. إذن فالمهم هو البحث عن هذه الجهات في الجزء، فيقال انه إذا
ثبت جزئية شئ وشك في اختلال العمل بتركه سهوا أو بزيادته عمدا وسهوا فما
هو مقتضى الأصل العملي؟. فالكلام يقع في جهتين:
الجهة الأولى: في بطلان العمل بتركه سهوا.
ولا يخفى ان مفروض الكلام إنما في مورد يكون هناك أمر جزمي بالعمل.
بحيث لو غفل عنه أو نام ثم التفت إلى وجوده لثبت في حقه قطعا.
وبعبارة أخرى: ان النافي للصحة والمثبت يلتزم كلاهما بأنه لو لم يقم دليل
على الصحة كان اللازم إعادة العمل لوجود الامر في حق المكلف والشك في
الخروج عن عهدته.
والوجه في تصحيح العمل منحصر في طريقين:
أحدهما: إثبات ان عمل الناسي للجزء هو المأمور به في حقه.
والاخر: اثبات ان عمل الناسي مسقط للامر وإن لم يكن مأمورا به،
بلحاظ وفائه بغرض المأمور به، فان سقوط الامر بغير المأمور به غير عزيز.
فإذا لم يثبت كلا الطريقين تعين الالتزام ببطلان العمل عملا بقاعدة
الاشتغال.
وقد يتوهم ان قاعدة الاشتغال انما تتم لو كان المكلف ملتفتا في حال
258

دخول الوقت للتكليف المتعلق بالتام، بحيث يتنجز في حقه ثم يطرأ عليه
النسيان، فإنه يشك في الخروج عن عهدة ذلك التكليف المعلوم بالمأتي به
الناقص، فالأصل يقتضي الاشتغال. ولا تتم فيما إذا كان المكلف ناسيا من أول
الوقت ثم استمر نسيانه إلى حين العمل، إذ لا أمر بالتام قبل العمل وفي
أثنائه للنسيان، وأما بعد العمل فهو يشك في حدوث الامر بالتام ومقتضى الأصل
البراءة لا الاشتغال.
ولكنه توهم فاسد، لأنه في مثل هذا الفرض وإن لم يكن هناك أمر، إلا أنه
يعلم بوجود غرض ملزم في العمل التام وكان المولى بصدد تحصيله، وانما ارتفع
الامر لمانع عقلي وهو النسيان، وهو لا يعلم بأن ما أتى به هل يحصل الغرض أو
لا؟. والعقل يلزم بتحصيل العلم بحصوله، فمع الشك يكون مقتضى قاعدة
الاشتغال لزوم الاتيان بالتام ليحصل العلم بحصول الغرض الملزم.
وإذا ظهر لك ما ذكرنا، فيقع الكلام في الوجه الذي يحاول به تصحيح
العمل واثبات سقوط الامر بواسطة المأتي به الفاقد للجزء عن نسيان، وقد
عرفت أنه ينحصر في طريقين، فيقع البحث في كل واحد منهما على حدة.
أما الطريق الأول: وهو اثبات تعلق الامر بالعمل الفاقد، وأنه مأمور به
في حق الناسي. فتحقيق الكلام فيه يدعو إلى التكلم في مقامين:
الأول: في امكان تعلق التكليف بالناقص بالنسبة إلى الناسي وعدمه.
الثاني: انه على تقدير إمكانه فيقع البحث في الدليل على ثبوت الامر
بالناقص.
فالمقام الأول بلحاظ مقام الثبوت. والمقام الثاني بلحاظ مقام الاثبات.
أما المقام الأول: فقد ذهب الشيخ (رحمه الله) إلى استحالة تعلق التكليف
بالناسي بعنوانه. والوجه فيه: ان التكليف لا يمكن أن يكون باعثا ومحركا للعبد
نحو العمل إلا مع الالتفات إليه والى موضوعه، فالتكليف بالحج المأخوذ في
259

موضوعه الاستطاعة لا يصلح للمحركية إلا مع الالتفات إلى الاستطاعة. ومن
الواضح ان الناسي لا يمكن أن يلتفت إلى موضوع التكليف وهو كونه ناسيا
مع بقاء النسيان، بل بمجرد الالتفات إليه يزول النسيان، فالتكليف المأخوذ في
موضوعه الناسي غير صالح للمحركية في حال من الأحوال. أما مع الغفلة عن
النسيان فواضح. وأما مع الالتفات إليه فلزواله (1).
وهذا الوجه مما لم نجد من استشكل فيه، بل الكل اتفق مع الشيخ في
استحالة تكليف الناسي بعنوانه.
ولكن ذهب صاحب الكفاية إلى إمكان تعلق التكليف بالناسي
واختصاصه به لكن لا بعنوانه، وذكر في ذلك طريقين:
الأول: ان يتعلق التكليف بما عدا الجزء المنسي بمطلق المكلف أعم من
الذاكر والناسي للجزء، ثم يثبت تكليف آخر للذاكر خاصة بالجزء الذي يذكره،
فيختص الناسي بالتكليف بما عدا الجزء المنسي بلا لزوم المحذور المزبور، إذ لم
يؤخذ عنوان الناسي في موضوع الحكم بالمرة.
الثاني: ان يوجه التكليف بالناقص للناسي بعنوان ملازم للنسيان، بحيث
يمكن الالتفات إليه مع عدم زوال النسيان، كعنوان بلغمي المزاج ونحوه، فيكون
مثل هذا التكليف صالحا للداعوية في حال النسيان (2).
ويرد عليه (قدس سره) ان التكليف المتعلق بالناقص بكلا نحويه لا
يكون هو الداعي لاتيان المركب الناقص، بل المكلف الناسي يأتي بالفاقد على
كل حال ثبت هناك أمر في الواقع أو لم يثبت، والشاهد على ذلك هو انه قد يأتي
بالعمل الفاقد الباطل الذي لا أمر به كفاقد الركن، بنفس النحو الذي يأتي به

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 286 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق محمد كاظم. كفاية الأصول / 368 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
260

بالعمل الفاقد الصحيح أو ما يتكلم في صحته.
والسر فيه: هو انه ينبعث عن الامر المتعلق بالتام لغفلته عن نقصان
العمل وعن ارتفاع الامر، بل هو يرى نفسه كالذاكر، فالامر بالناقص لا يترتب
عليه التحريك والانبعاث بالنسبة إلى الناسي فيكون لغوا.
هذا مع ما يرد على الوجه الأول من: ان التكليف المختص بالذاكر بالجزء
الذي يذكره إما أن يكون تكليفا نفسيا استقلاليا غير التكليف بما عدا المنسي
من الاجزاء، واما أن يكون تكليفا ضمنيا متحدا مع التكليف بما عدا المنسي،
بحيث يكون للذاكر تكليف واحد لا تكليفان.
فالأول أجنبي عن محل الكلام، فإنه ليس من تخصيص التكليف
بالناقص بالناسي، بل من تخصيص الذاكر بتكليفه بشئ وعدم تكليف الناسي
به.
وعلى الثاني كما هو المفروض، إما أن يكون التكليف بما عدا المنسي ثبوتا
عاما للناسي والملتفت. أو يكون مهملا. أو يكون خاصا بالناسي.
فالأول خلف الفرض، لان الذاكر مكلف بالعمل التام دون الفاقد.
والثاني محال لاستحالة الاهمال في مقام الثبوت. فيتعين الثالث، فيعود المحذور.
ويرد على الطريق الثاني: انه مجرد فرض ووهم لا واقع له، إذ ليس لدينا
من العناوين ما هو ملازم لنسيان الجزء بلحاظ جميع المكلفين مع فرض عدم
التفات الناسي إلى الملازمة وإلا لالتفت إلى نسيانه فيزول، خصوصا بملاحظة
اختلاف المنسي، فتارة يكون هذا الجزء. وأخرى يكون ذاك وهكذا، ولأجل ذلك
لا نطيل البحث فيه.
وقد التزم المحقق النائيني (قدس سره) بالوجه الأول من وجهي الكفاية.
ولكنه التزم بتعدد التكليف حقيقة لا وحدتهما، وان كانا في مقام الامتثال مرتبطين
لارتباط حصول الغرض في كل منهما بحصول الاخر. فهو نظير الالتزام بتعدد
261

الامر في أخذ قصد القربة في متعلق التكليف، فان التكليف وان تعدد لكنه ناشئ
من غرض واحد ينحصر طريق تحصيله بتعدد الامر، ولأجل ذلك كان لهما امتثال
وعصيان واحد (1).
وبهذا البيان يتلخص عن الايراد الذي ذكرناه على صاحب الكفاية
ثانيا، إذ هو يلتزم بان التكليف بما عدا المنسي عام للذاكر والناسي، وهناك
تكليف آخر يختص بالذاكر بخصوص الجزء الذاكر له.
لكن يرد عليه: ان داعوية الامر الضمني بالجزء لا تتحقق إلا في ظرف
الاتيان بالجزء الاخر وداعوية الامر به إليه، فالامر بالناقص لا يصلح للداعوية
إلا في ظرف داعوية الامر بالجزء الاخر، أو في ظرف عدم تعلق الامر بجزء آخر.
فعدم تعلق الامر بجزء آخر مأخوذ في موضوع داعوية الامر بالناقص،
وهذا مما لا يمكن الالتفات إليه إلا بالالتفات إلى الجزء والجزم بعدم الامر به،
وهو ملازم لزوال النسيان عنه، فداعوية الامر بالناقص المتوجه إلى الناسي لا
تتحقق إلا في ظرف زوال نسيانه، وهو المحذور المزبور. فالتفت.
وقد ذهب المحقق الأصفهاني في تصحيح اختصاص التكليف بالناسي -
بعد مناقشته صاحب الكفاية في وجهه الأول، بأنه خلاف ما وصل الينا من أدلة
الاجزاء ودليل المركب، فان الامر فيها بالتمام لا بما عدا المنسي مطلقا، مضافا
إلى عدم تعين المنسي حتى يؤمر بما عداه ذهب - إلى: ان الامر بما عدا الاجزاء
الركنية متعلق بالاجزاء على تقدير الالتفات إليها، واما الاجزاء الأركانية،
فالامر متعلق بها بقول مطلق بلا تقييد بالالتفات (2).
وكلامه بحسب ظاهره يرجع إلى نفس وجه الكفاية الأول، ولا يظهر لنا

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 213 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 280 - الطبعة الأولى.
262

وجه الفرق بينهما أصلا، فما أورده على الكفاية يرد عليه. ولعل في نظره نكتة لا
تظهر من كلامه، فتأمل فيه تعرف.
وجملة القول: ان اختصاص الناسي بالتكليف بالناقص مما لا يمكن
الالتزام به تبعا للشيخ (رحمه الله). وخلافا لصاحب الكفاية ومن تأخر عنه.
وعلى هذا فلا موضوع للبحث في المقام الثاني وتحقيق مقام الاثبات، وانه
هل هناك دليل على ثبوت الامر بالعمل الذي أتى به الناسي أو لا؟.
ومنه ظهر أن التمسك بحديث: " رفع ما لا يعلمون " في نفي جزئية المنسي
وتعلق الامر به واثبات الامر بالباقي لا وجه له، ولأجل ذلك نفى الشيخ جريان
الحديث في نفي الجزئية، والتزم ببطلان العمل.
ولكن يقع الكلام في المقام الثاني تنزلا، فيبحث عن الدليل العام الدال
على تعلق الامر بما عدا المنسي على تقدير إمكان ذلك. فنقول: الدليل المتوهم
دلالته على ذلك بنحو عام هو حديث الرفع بكلتا فقرتيه - أعني: " رفع ما لا
يعلمون " و: " رفع النسيان " -. وتحقيق الكلام فيهما:
أما: " رفع ما لا يعلمون "، فقد يقال فيه: ان جزئية المنسي في حال النسيان
مجهولة، فيتكفل الحديث رفعها فيثبت ان الواجب هو الأقل في حق الناسي.
ولكن فيه: ان إجراء حديث الرفع إن كان بلحاظ حال النسيان، فلا
معنى له، إذ لا جهل في حال النسيان للغفلة فلا موضوع للرفع. وان كان بلحاظ
ما بعد زوال النسيان، فيقال: ان جزئية السورة المنسية - مثلا - مجهولة فعلا، فهي
مرفوعة، فهو مما لا محصل له، إذ حديث الرفع يتكفل بيان المعذورية وعدم تنجيز
التكليف في حال الجهل.
ومن الواضح انه لا معنى له بعد ظرف العمل، فلا معنى لبيان المعذورية
فعلا بالنسبة إلى العمل السابق، إذ العمل السابق حين صدر إما كان صادرا
بنحو يعذر فيه المكلف فلا حاجة إلى حديث الرفع. واما كان صادرا بنحو لا
263

يعذر فيه، فهو لا ينقلب عما وقع عليه، فلا مجال لحديث الرفع. فالتفت.
وأما: " رفع النسيان "، فهو بلحاظ حال النسيان لا مجال لجريانه لاجل
الغفلة عن موضوعه فلا يكون الرفع فعليا، كما لا يصح الوضع في حال الغفلة.
وأما بعد زوال النسيان، فقد يتمسك به في اثبات الرفع الواقعي في حال
العمل، إذ هو حال النسيان وان التفت إليه متأخرا، فليس الحال فيه كرفع
الجهل، إذ الجهل متأخر عن العمل.
لكن يشكل التمسك بحديث رفع النسيان أيضا: بأنك قد عرفت فيما
تقدم من مباحث الانحلال ان الحكم السابق لا معنى لتنجيزه في الزمان اللاحق،
ولا معنى لاثباته أو نفيه بلحاظ كونه حكما شرعيا مجعولا يترتب عليه الداعوية
والتحريك، لفوات ظرف التحريك.
وعليه، فلا معنى لتكفل حديث رفع النسيان تعلق الامر بالمأتي به بعد
مضي وقته. نعم بلحاظ كون ثبوت الامر في الزمان السابق موضوعا لاثار شرعية
متأخرة لا مانع من جريان الحديث فيه.
وبالجملة: فبما أنه حكم شرعي مجعول لا معنى لاثباته بالحديث فعلا، إذ
لا يترتب عليه أي أثر من هذه الجهة. وبما أنه موضوع لحكم شرعي له كلام
آخر.
والذي يبدو لنا ان النكتة في نظر الشيخ هي ما ذكرناه، ولذا اخذ عدم
جريان الحديث في اثبات الامر مفروغا عنه لوضوحه، وانما تكلم في رفع الحكم
بلحاظ أثره من وجوب الإعادة والقضاء. ومن الغريب عدم تفصيل القول في
الكفاية، بل فرض جريان الحديث مفروغا عنه بلا إشارة إلى اختلافه مع الشيخ
في ذلك.
وجملة القول: ان حديث الرفع لا مجال لجريانه في نفي جزئية المنسي
واثبات الامر بالباقي، لاستحالة تعلق الامر بالناقص أولا، وقصور دليل الرفع
264

عن إثبات الامر بعد زوال النسيان ثانيا.
ثم إنه قد يفصل فيما نحن فيه بين ما إذا كان الدليل الدال على الجزئية
بلسان الاخبار والوضع كقوله (ع): " لا صلاة الا بفاتحة الكتاب " (1). وما إذا كان
الدليل بلسان التكليف كقوله: " اركع في الصلاة ". فيلتزم بعموم الجزئية في القسم
الأول لحالتي الذكر والنسيان عملا باطلاق الدليل، ومقتضاه بطلان العبادة بترك
الجزء نسيانا. ويلتزم باختصاص الجزئية في القسم الثاني بحالة الذكر،
لاختصاص التكليف به بالذاكر فتختص الجزئية به.
ويرجع في غير الذاكر إلى اطلاق دليل المركب الذي يقتضي نفي اعتبار
الجزء الزائد. ويلحق بذلك ما إذا كان دليل الجزئية هو الاجماع، فان القدر
المتيقن منه هو الجزئية حال الذكر، ويرجع في غير حالة الذكر إلى اطلاق دليل
المركب، أو أصالة البراءة.
وقد نفى الشيخ (رحمه الله) هذا التفصيل: بان التكليف الذي يتكفله
دليل الجزئية هو التكليف الغيري لا النفسي، إذ التكليف النفسي لا يستلزم
جزئية متعلقه. ومن الواضح ان التكليف الغيري معلول للجزئية لا علة لها،
فارتفاعه في حال النسيان لا يكشف عن ارتفاع الجزئية فيها (2).
وهذا النفي من الشيخ (رحمه الله) انما يتم لو كان منظور المدعي هو
ظهور الدليل في اختصاص الجزئية بحال الذكر كاختصاص التكليف نفسه،
ولكن نظره ليس إلى ذلك، بل نظره إلى أنه لا دليل على الجزئية في غير حال
الذكر، لان الكاشف عن الجزئية هو التكليف الغيري وهو يختص بحال الذكر،
فيرجع في غير حال الذكر إلى إطلاق دليل الواجب، نظير ما إذا ثبتت الجزئية

(1) مستدرك الوسائل 4 / باب 1 من أبواب القراءة الحديث: 8 - تحقيق مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 287 - الطبعة الأولى.
265

بالاجماع. فجواب الشيخ قاصر.
ولا يخفى عليك ان البحث في هذه الجهة انما هو بعد الفراغ عن امكان
تعلق التكليف بالناسي واختصاصه به، وإلا فلا مجال له كما هو أوضح من أن
يخفى.
وقد عرفت أن الشيخ نفى التفصيل المزبور والتزم بعموم الجزئية في كلا
القسمين، الا انك عرفت قصور كلامه في تحقيق ذلك.
فالصحيح ان يقال في نفي التفصيل والالتزام بعموم الجزئية في كلا
القسمين: ان التكليف المتعلق بالجزء ظاهر في كونه تكليفا ارشاديا إلى جزئية
متعلقه، فان ذلك هو الظاهر من الأوامر الواردة في باب المركبات.
وعليه، فيكون حالها حال الدليل المتكفل للجزئية بلسان الاخبار. وذلك..
أما على المسلك القائل بان الأوامر الارشادية حقيقتها الاخبار والاعلام،
وانها انشاء بداعي الاعلام فواضح، لرجوع الامر الارشادي ههنا إلى الاخبار
عن جزئية متعلقه للمركب، وإن كان انشاء بحسب الصورة. فيكون حاله حال
الدليل بلسان الاخبار رأسا.
وأما على ما استقربناه تبعا للفقيه الهمداني من أن الامر الارشادي أمر
حقيقة على حد سائر الأوامر الحقيقية المولوية، لكنه في فرض خاص وموضوع
معين وهو فرض إرادة الاتيان بالعمل الصحيح وكون المكلف بصدد اتيان العمل
التام بجميع اجزائه وشرائطه. ومن هنا كان ارشاديا، إذ لا استقلالية فيه، بل هو
ثابت لاجل التوصل إلى الغير، فالدليل يعم الذاكر والناسي أيضا. وذلك، لان
المراد بذلك ليس هو تكفل الامر الارشادي للبعث والتحريك كي يدعى أنه لا
يصح إلا بالنسبة إلى المتمكن دون غيره، بل المراد انه أمر حقيقة وطلب واقعا
في قبال من يذهب إلى أنه في واقعه اخبار وانما صورته صورة انشاء، فاللفظ في
الحقيقة مستعمل في النسبة الطلبية حقيقة والمراد الواقعي ذلك واقعا، لكن لم
266

يصدر ذلك بداعي التحريك والبعث كما هو الحال في الأوامر الانشائية، بل صدر
بداعي بيان لا بدية متعلقه في العمل ولزومه فيه.
وبالجملة: تترتب على الامر الارشادي جميع آثار الامر المولوي غير
التحريك والداعوية من انتزاع اللزوم واللا بدية والثبوت.
ومن الواضح انه بهذا المعنى يصح عمومه للمتمكن وغيره. فالامر
الارشادي على هذا المبنى حد وسط بين كونه اخبارا حقيقة وبين كونه بعثا في
موضوع معين. فان البعث في موارد الأوامر الارشادية لا يترتب على الامر
الارشادي وانما يترتب على الامر بالمركب. فانتبه.
وقد ذهب المحقق الأصفهاني (رحمه الله) إلى نفي التفصيل المزبور، لكنه
التزم باختصاص القسم الأول بالذاكر كالدليل المتكفل للتكليف. ببيان: ان
مثل قوله: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " يتكفل الاخبار عن جزئية الفاتحة
للمأمور به.
ومن الواضح ان الامر بالتام في حال النسيان محال، فالجزء المنسي ليس
جزء للمأمور به قطعا.
نعم، لو كان يتكفل بيان جزئيته لما هو الدخيل في الغرض لكان للعموم
وجه ولكنه ليس في هذا المقام (1).
وما افاده (قدس سره) لا يمكن الالتزام به، إذ ليس مفاد قوله: " لا صلاة
الا بفاتحة الكتاب " هو جزئية الفاتحة لما هو مأمور به فعلا وما يفرض تعلق الامر
به فعلا، كي يقال: إن التام ليس بمأمور به في حال النسيان فلا تكون الفاتحة
جزء له قطعا. بل مفاده انه لا يكون العمل مأمورا به ومتعلقا للامر إلا إذا
انضمت إليه الفاتحة، أما انه أي ظرف يثبت الامر وأي ظرف لا يثبت فذلك خارج

(1) الأصفهاني الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 281 - الطبعة الأولى.
267

عن مدلول الكلام.
ومن الواضح ان المفاد المزبور يعم حالتي النسيان والذكر، فيدل على عدم
تعلق الامر بما لا يشتمل على الفاتحة مطلقا في حالة الذكر وحالة النسيان.
فالتفت ولا تغفل.
وأما ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) في مطاوي هذا البحث من:
ان المرجع بعد قصور دليل الجزئية وعدم اطلاق دليل الامر بالمركب هو أصالة
البراءة (1)، فقد تقدم البحث فيه مفصلا وعرفت أنه محل خدشة ومنع، فراجع.
وأما الطريق الثاني: وهو اثبات مسقطية المأتي به للامر مع قطع النظر
عن كونه مأمورا به أو ليس بمأمور به.
والذي ذكره الشيخ وجها لذلك هو حديث رفع النسيان ببيان: ان الترك
إذا كان عن عمد يستلزم وجوب الإعادة، وبما أن حديث رفع النسيان يتكفل
رفع الآثار المترتبة على الامر العمدي إذا صدر عن نسيان، فيكون متكفلا لرفع
وجوب الإعادة المترتب على الترك لصدور الترك عن نسيان.
ولا يخفى ان أثر ذلك هو اثبات صحة العمل فيما لم يقم دليل على الصحة
أو البطلان.
وناقش الشيخ (رحمه الله) هذا البيان بان وجوب الإعادة ليس من آثار
ترك الجزء رأسا، بل هو من آثار ترك الكل المسبب عن ترك الجزء. وحديث الرفع
انما يتكفل رفع الآثار الشرعية المترتبة على المنسي، لا الآثار العقلية ولا الآثار
الشرعية المترتبة على ما هو ملازم عقلا للمنسي. وشبهه بالاستصحاب الذي لا
يكون حجة إلا في الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب، كما يقرر ذلك في
مبحث الأصل المثبت (2).

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 220 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 288 - الطبعة الأولى.
268

وقد يتساءل بان حديث رفع النسيان من الأدلة الاجتهادية وهي مما يلتزم
بثبوت الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية لمجاريها، فكيف جعله الشيخ
كالاستصحاب الذي هو أصل عملي؟.
والجواب عنه: ان الذي يلتزم به هو ان الدليل الاجتهادي على تقدير
جريانه يكون مقتضاه ثبوت الآثار الشرعية ولو كانت بوسائط عقلية متعددة.
والذي يدعيه الشيخ ههنا هو قصور دليل الرفع عن شمول مثل هذا المورد
واستظهاره انه انما يتكفل رفع الآثار الشرعية المترتبة على نفس المنسي خاصة.
لأنه ناظر إلى الأدلة الدالة على ثبوت الاحكام في موارد المنسي، فمع عدم ثبوت
الأثر للمنسي يكون الدليل قاصرا، فعدم شمول حديث الرفع ههنا ليس لاجل
عدم حجيته في اللوازم العقلية كي يقال ان هذا شأن الأصل العملي لا الدليل
الاجتهادي، وانما لاجل قصور دليله، ولذلك جعله الشيخ نظير الاستصحاب لا
أنه بحكمه. فالتفت.
وبذلك يظهر انه لا دليل على صحة العمل المأتي به الفاقد للجزء عن
نسيان. وقد عرفت أن القاعدة تقتضي الاشتغال ولزوم الإعادة للشك في الخروج
عن عهدة الامر أو الغرض الملزم وهذا هو مراد الشيخ من أن كل ما ثبتت
جزئيته في حال الالتفات تثبت جزئيته في حال الغفلة، لا أن مراده ثبوت جزئيته
قطعا، كيف؟ والمفروض هو الشك، بل المقصود ثبوتها حكما بلحاظ لزوم الإعادة.
وان النتيجة العملية هي نتيجة ثبوت الجزئية بقول مطلق. فانتبه.
ومن مجموع ما تقدم تعرف ما في كلام الكفاية من التزامه بجريان حديث
الرفع في نفي جزئية المنسي في حال النسيان مرسلا إرسال المسلمات، إذ عرفت أنه
لا مجال له بالمرة بكلتا فقرتيه. فتدبر.
الجهة الثانية: في بطلان العمل بزيادته مطلقا عمدا أو سهوا.
ولا يختص الكلام بالزيادة السهوية، كما هو الحال في النقص، إذ بطلان
269

العمل بالنقص العمدي هو المتيقن من مقتضى الجزئية، فلا مجال للبحث عن
بطلان العمل بترك الجزء عمدا وعدم بطلانه. وهذا بخلاف الزيادة العمدية، فان
عدم بطلان العمل بها لا يتنافى مع مقتضى الجزئية، كما لا يخفى.
ووضوح الكلام في هذه الجهة يستدعي أولا تحديد موضوع البحث.
فنقول: ان الجزء..
تارة: يؤخذ بشرط عدم الزيادة عليه، فالزيادة تكون مبطلة، لكن لا من
جهة زيادة الجزء بل من جهة نقصه، ولفقدان شرطه وقيده بالزيادة فلا يكون
الجزء وهو الذات المقيدة بالعدم محققا فلنا ان نقول إن زيادة الجزء غير مقصودة
في هذا الفرض.
وأخرى: يؤخذ لا بشرط من حيث الوحدة والتعدد، بمعنى أن يكون الجزء
هو الطبيعة الصادقة على الواحد وعلى المتعدد. وفي هذا الفرض لا تتصور
الزيادة أيضا، إذ كل ما يؤتى به من الافراد يكون مقوما للجزء لا زائدا عليه
لصدق الجزء على المجموع.
وثالثة: يؤخذ لا بشرط من حيث الزيادة وعدمها بالمعنى الاصطلاحي
للا بشرطية الراجع إلى رفض القيود، وهو أن يكون الجزء هو ذات العمل -
كالسورة مثلا - وصرف وجودها بلا دخل لتكراره وعدمه في جزئيته، فسواء كرر
أو لم يكرر يكون هو جزء ولا يكون التكرار مضرا بجزئيته كما لا يكون دخيلا
فيها. فتكون زيادة الجزء وتكراره بالنسبة إلى الجزئية كسائر الاعمال الأجنبية
عن الجزء غير الدخيل عدمها ولا وجودها في جزئية الجزء، كالنظر إلى الجدار أو
حركة اليد أو غير ذلك.
وفي هذا الفرض تتصور زيادة الجزء لتحققه بصرف الوجود، فالاتيان به
ثانيا يكون زيادة له، ولو كانت الزيادة مانعة فهي ليست من جهة اخلالها بنفس
الجزء ومنافاتها لجزئية الجزء، بل من جهة اخلالها بالصلاة نظير التكلم المانع، فإنه
270

مانع من الصلاة، ولا يكون مضرا بجزئية ما تحقق من الاجزاء، لأنها مأخوذة
بلحاظه لا بشرط بالمعنى الاصطلاحي.
ومن هنا يتضح ان محل الكلام في بطلان الصلاة بزيادة الجزء هو هذا
الفرض خاصة دون الفرضين الأولين، لما عرفت من عدم تصور الزيادة فيهما.
مضافا إلى بطلان العمل في الفرض الأول بالزيادة قطعا وعدم بطلانه في الثاني
قطعا فلا شك فيهما. بخلاف الفرض الأخير، لتصور الزيادة فيه ويأتي احتمال
مبطليتها وكونها مانعة من الصلاة أو غيرها كسائر الموانع.
والى هذا التقسيم لاعتبارات الجزء وتحديد موضوع البحث فيما نحن فيه
أشار الشيخ (رحمه الله) في الرسائل بقوله: " وانما يتحقق - يعني الزيادة - في الجزء
الذي لم يعتبر فيه عدم الزيادة، فلو أخذ بشرطه فالزيادة عليه موجب لاختلاله
من حيث النقيصة، لان فاقد الشرط كالمتروك. كما أنه لو اخذ في الشرع لا
بشرط الوحدة والتعدد لا اشكال في عدم الفساد " (1). فإنه وإن لم يصرح بالفرض
الثالث، لكنه يشير إليه باخراج الفرضين الأولين.
ومع هذا البيان لا يبقى مجال لتوهم عدم صدق الزيادة، والاشكال في
ذلك: بان الجزء إما ان يؤخذ بشرط لا واما ان يؤخذ لا بشرط ولا ثالث لهما. وعلى
الأول ترجع زيادته إلى النقيصة، وعلى الثاني لا يكاد تتحقق الزيادة، لان
الضمائم لا تنافي الماهية لا بشرط ولا تكون زيادة فيه بل المجموع يتصف
بالجزئية.
لما عرفت من أن اللا بشرطية من حيث الوحدة والتعدد غير اللا بشرطية
الاصطلاحية، فهناك فرض ثالث غفل عنه المستشكل. بل مثل هذا الاشكال
لا ينبغي أن يسطر، فان منشأه عبارة الشيخ المتقدمة والغفلة عن مراد الشيخ

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 288 - الطبعة الأولى.
271

وتعبيره باللا بشرطية من حيث الوحدة والتعدد لا اللا بشرطية الاصطلاحية. فلا
وجه لذكره في تقريرات المرحوم الكاظمي.
كما أن الجواب عنه: بان مقام الامكان الثبوتي غير مقام الصدق العرفي،
ولا اشكال في صدق الزيادة عرفا على الوجود الثاني فيما إذا كان الواجب صرف
الوجود - كما جاء في تقريرات الكاظمي - (1).
غير سديد، إذ ليس البحث فيما نحن فيه في مدلول دليل لفظي وارد على
عنوان الزيادة كي يبحث في مفهوم الزيادة عرفا، بل البحث فيما هو مقتضى
الأصل العملي عند تكرار الجزء من حيث الابطال وعدمه، فصدق الزيادة عرفا
لا اثر له بعد الجزم بعدم الاضرار بالتكرار على تقدير والجزم باضراره على تقدير
آخر كما هو مقتضى الاشكال. فالمتعين في الجواب عنه ما ذكرناه. فانتبه.
ثم إن الشيخ (رحمه الله) أشار إلى اعتبار قصد الجزئية في صدق الزيادة،
وان الاتيان بصورة الجزء بلا قصد الجزئية لا يحقق الزيادة، وإن ورد في بعض
الاخبار (2) اطلاق الزيادة على سجود العزيمة في الصلاة، مع أنه لا يؤتى به
بعنوان الزيادة.
وقد فصل القول في ذلك ههنا بعض الاعلام (3).
والذي نراه: انه لا مجال لهذا الحديث ههنا بالمرة، إذ ليس البحث عن
مفاد الأدلة الدالة على مانعية الزيادة - بمفهومها -، كي يبحث عن حدود مفهوم
الزيادة، وانه هل تتحقق الزيادة بكل عمل خارج عن الصلاة ولو لم يقصد به
الجزئية، أو انها تتقوم بما إذا قصد الجزئية فيه، أو غير ذلك؟. بل البحث عن
مقتضى الأصل العملي عند الشك في مانعية الزيادة. ومن الواضح انه

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 230 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) وسائل الشيعة 4 / 779 باب 40 من أبواب القراءة في الصلاة. الحديث 1.
(3) الشاهرودي السيد علي، دراسات في الأصول العملية 3 / 293 - الطبعة الأولى.
272

لا خصوصية لعنوان الزيادة بملاحظة الأصل العملي، بل المدار على كونها
مشكوكة المانعية، فلو شك في مانعية تكرار الجزء بذاته ولو بدون قصد الجزئية،
نظير التكلم الذي يكون مانعا مع عدم قصد الجزئية كان موردا للبحث أيضا.
فالذي ينبغي ان يجعل مورد البحث ههنا، هو انه مع العلم بالجزئية والشك في
مانعية تكرار الجزء - بقصد الجزئية أو لا بقصدها - للمركب، فما هو مقتضى
الأصل؟. فموضوع الكلام هو تكرار الجزء لا زيادته.
وإذا عرفت موضوع الكلام، فيقع الحديث في حكم الشك فيما نحن فيه،
ومن مطاوي ما تقدم تعرف ان مرجع الشك ههنا إلى الشك في اعتبار عدم تكرار
الجزء في المركب، بحيث يكون وجوده مانعا من صحة المركب.
وحكم هذا الشك واضح، فإنه مجرى البراءة شرعا وعقلا على ما تقدم
بيانه في الشك في الشرطية. فلا حاجة إلى الإطالة.
ومقتضى نفي مانعية الزيادة صحة العمل معها وعدم بطلانه بها بأي نحو
تحققت.
نعم، قد يكون وجودها - ببعض صورها - مخلا بالعمل العبادي، لكن لا
من جهة كونها من موانع العمل، بل من جهة منافاتها لقصد التقرب على ما
سيتضح بيانه. وهذه جهة أخرى لا ترتبط بما نحن فيه.
ثم إن الشيخ (رحمه الله) - بعد أن فرض تقوم الزيادة بقصد الجزئية -
ذكر انها تتصور على وجوه ثلاثة:
الأول: ان يأتي بالزيادة بقصد كونها جزء مستقلا، كما لو اعتقد شرعا أو
تشريعا ان الواجب في كل صلاة ركوعان كالسجود.
الثاني: ان يأتي بالزيادة وبقصد كون المجموع من المزيد والمزيد عليه
جزء واحد، كما لو اعتقد ان الواجب في الصلاة طبيعة الركوع الصادقة على
الواحد والمتعدد.
273

الثالث: ان يأتي بالزائد بدلا عن المزيد عليه، إما اقتراحا أو لفساد
الأول.
وحكم (قدس سره): بفساد العبادة في الصورة الأولى إذا نوى ذلك قبل
الدخول في العمل أو في أثنائه، لان ما أتى به وقصد الامتثال به وهو المجموع
المشتمل على الزيادة لم يكن مأمورا به، وما هو مأمور به، واقعا لم يقصد الامتثال
به.
وحكم في الصورتين الأخيرتين: بان مقتضى الأصل عدم البطلان لرجوع
الشك فيهما إلى الشك في مانعية الزيادة والأصل عدمها (1).
وقد توقف صاحب الكفاية في البطلان في الصورة الأولى بقول مطلق،
والتزم بالتفصيل بين ما إذا جاء بالمجموع المشتمل على الزيادة بنحو التقييد،
وما إذا جاء به بنحو الخطأ في التطبيق.
بيان ذلك: ان المكلف تارة: يأتي بالمجموع المشتمل على الزيادة بداعي
الامر المتعلق به بخصوصيته بنحو لو كان الامر الثابت غيره لم يكن في مقام
امتثاله، فهو لم يقصد سوى امتثال الامر الخاص الذي يعتقد ثبوته شرعا أو
تشريعا بخصوصيته وليس في مقام امتثال غيره. وأخرى: يأتي بالمجموع بداعي
الامر الواقعي الموجود، فهو يقصد اتيان الواجب الواقعي على واقعه، لكنه بما أنه
يعتقد انه هو المجموع المشتمل على الزيادة جهلا أو تشريعا فهو يقصد
الخصوصية.
ففي الصورة الثانية يكون عمله صحيحا، لأنه أتى بالواجب الواقعي،
وقصده الزيادة لا يضر بعد أن كان قصد امتثال الامر الخاص ينحل إلى
قصدين، ومن جهة الخطأ أو التشريع في التطبيق، فهو يقصد امتثال الامر

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 288 - الطبعة الأولى.
274

الواقعي على واقعه ولكنه يعتقد انه هو الامر الخاص خطأ أو تشريعا، وهذا لا
يضر في الامتثال والتقرب، فيبقى احتمال مانعية الزيادة وهو منفي بالأصل.
وبالجملة: لا يتأتى ما أفاده الشيخ من أن ما قصده لا وجود له وما له
الوجود لم يقصد.
فهذا الفرض نظير من صلى خلف امام المسجد معتقدا انه زيد العادل،
فبان انه عمرو العادل وكان بحيث لا يختلف الحال لديه بين زيد وعمرو، فإنه
يحكم بصحة صلاته لان قصده ينحل إلى قصدين قصد الصلاة خلف العادل
وقصد الصلاة خلف زيد، فإذا تخلف الثاني ولم يتخلف الأول كان عمله صحيحا،
لان المدار في الصحة على الأول.
وأما في الصورة الأولى، فقد التزم ببطلان العمل فيها، إذ هو لم يقصد
امتثال الامر الواقعي الموجود على ما هو عليه، وما قصده لا ثبوت له. فما أفاده
الشيخ يتم في الصورة الأولى خاصة.
ثم إن صاحب الكفاية ردد - في هذه الصورة - بين الالتزام بالبطلان في
صورة عدم دخله واقعا وبين الالتزام به مطلقا ولو ثبت ان المزيد جزء واقعا.
ومبنى الترديد المزبور على الالتزام بدخل الجزم في النية في صحة العبادة
وعدمه..
فعلى القول باعتبار الجزم في النية، يلتزم بالبطلان مطلقا، لعدم تحقق الجزم
بها، إذ الفرض انه لم يقصد امتثال الامر على كل حال، بل على تقدير تخصصه
بالخصوصية المعينة.
وعلى القول بعدم اعتبار الجزم بالنية، يلتزم بالبطلان في خصوص صورة
عدم دخله واقعا، إذ في صورة الدخل لا قصور في الامتثال لقصد الامر في المأتي
به ولا مانع من صحة العمل.
ثم إن ههنا شبهة قد تثار حول صحة العمل في الصورة الثانية إذا كان
275

قصد الزيادة عن تشريع، إذ التشريع حرام فينافي المقربية. وقد دفعها في
الكفاية: بان حرمة التشريع لا تسري إلى العمل الخارجي، لأنه فعل من أفعال
القلب فحرمته أجنبية عن المأمور به خارجا. فلا تنافي صحة العمل.
هذا توضيح ما جاء في الكفاية بقوله: " نعم لو كان عبادة... " (1). وهو كما
يتكفل الاشكال على الشيخ من الجهة أوضحناها يتكفل الإشارة إلى
اشكال آخر، وهو ان الكلام فيما نحن فيه لا يختص بالواجبات العبادية، بل يعم
التوصليات، فكان ينبغي تعميم الكلام للواجبات بقول مطلق. والبحث فيها عن
الأصل العملي من جهة مانعية الزيادة، وافراد البحث عن العبادات من جهة
أخرى. فالجزم بالبطلان في الوجه الأول من وجوه الزيادة - كما ارتكبه الشيخ -
لا يصلح بقول مطلق، إذ لا يتم في الواجبات التوصلية، لأنه لا يعتبر فيها قصد
الامتثال.
ثم إنه لا بد من الكلام في نقاط ثلاثة فيما أفاده صاحب الكفاية:
الأولى: ان مفروض الكلام هو الاتيان بالزيادة بحيث يكون الشك في أن
المزيد هل هو مانع أو لا؟، ولا يحتمل أنه جزء للمركب، وإلا لم يكن زيادة.
وبعبارة أخرى: ان مورد البحث هو الشك في مانعية التكرار، ولا شك في جزئيته.
وعليه، فلا وجه لما جاء في الكفاية من الترديد بين تخصيص البطلان في
الصورة الأولى بصورة عدم دخل الزائد واقعا، أو تعميمه لصورة الدخل واقعا
أيضا، إذ فرض الدخل واقعا خلاف المفروض في محل الكلام.
الثانية: ان فرض الخطأ في التطبيق مع التشريع لا يمكن الالتزام به
وبعبارة أخرى: ان فرض التشريع في قصد الزيادة مساوق للتقييد في مقام
الامتثال، وذلك لان مرجع التشريع إلى البناء على أن الواجب الواقعي الشرعي

(1) الخراساني المحقق محمد كاظم. كفاية الأصول / 369 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
276

هو المشتمل على الزيادة، وان الامر الثابت هو الامر المتعلق بما يشتمل على
الزيادة. وهذا لا يجتمع مع قصده امتثال الامر الواقعي على واقعه، إذ مرجعه إلى
إلغاء ثبوت الامر والمأمور به بنحو آخر وكيفية ثانية، فكيف يتصور انه يقصد
الواقع على واقعه، وكيف يكون الامر الواقعي محركا له بوجوده الواقعي؟.
الثالثة: قد أشرنا أخيرا إلى حديث حرمة التشريع وسرايته إلى العبادة،
ولا بأس بتفصيل القول فيه شيئا ما. فنقول: ان التشريع كما يفسر، هو ادخال
ما ليس في الدين في الدين. ومن الواضح انه بهذا المفهوم يكون فعلا من أفعال
النفس لا يرتبط بالفعل الخارجي المجعول له الحكم ولا ينطبق عليه. فمفهوم
التشريع أو مفهوم ادخال ما ليس في الدين في الدين ونحو ذلك، ليس مما ينطبق
على الأفعال الخارجية، بل هو يساوق مفهوم جعل القانون وسن الشريعة، وهو
يتمحض في انشاء الاحكام ولا ينطبق على متعلقاتها.
ولكنه بهذا المفهوم لم يرد في لسان دليل شرعي، بل ورد في الأدلة حرمة
البدعة والافتراء والقضاء بغير العلم (1).
ولا يخفى ان هذه المفاهيم أيضا ليست منطبقة على الخارجيات، إذ
الابتداع في الدين يساوق التشريع، والبناء على ثبوت حكم شرعا لا ثبوت له
واقعا، وهكذا القضاء بغير علم فإنه الحكم بشئ بغير علم، واما الافتراء فهو
راجع إلى الكذب وهو أجنبي عن الفعل المشرع فيه.
إلا أن التشريع - كما قيل - من المحرمات العقلائية بلحاظ انه تصرف
في سلطان المولى، فلا بد من ملاحظة ما عليه بناء العقلاء والارتكاز العرفي من

(1) سورة يونس، الآية: 59.
وسورة المائدة، الآيات 44 و 45 و 47.
وسائل الشيعة 8 / 575، باب: 129 من أبواب أحكام العشرة من كتاب الحج.
وسائل الشيعة 18 / 9، باب: 4 من أبواب صفات القاضي.
277

ان المحرم هو فعل النفس وما يساوق مفهوم التشريع خاصة، أو ان الحرمة
تسري إلى الفعل الخارجي المأتي به بعنوان موافقة أمر المولى؟. ولا يمكننا الجزم
بالثاني، والقدر المتيقن هو الأول. وعليه فلا دليل على قبح الفعل الذي يشرع
فيه، فلا تسري حرمة التشريع إلى العمل الخارجي، فلا يلزم من حرمته بطلان
العمل. فتدبر.
التنبيه الثاني: فيما إذا علم بجزئية شئ أو شرطيته للمركب في الجملة،
ودار الامر بين كونه كذلك مطلقا حتى في حال العجز عنه، ولازمه سقوط الامر
بالمركب في حال العجز لعدم القدرة عليه. وبين كونه كذلك في خصوص حال
التمكن منه فلا يكون جزء في حال العجز عنه، ولازمه ثبوت الامر بالباقي عند
العجز عنه، للقدرة على المركب، لأنه خصوص الباقي في هذا الحال. ولا يخفى
ان مرجع الشك المزبور إلى الشك في وجوب الباقي بعد العجز عن الجزء.
والكلام ههنا تارة في ما هو مقتضى الأصل العملي. وأخرى في قيام دليل
اجتهادي يدل على ثبوت الامر بالباقي.
أما الكلام فيما هو مقتضى الأصل العملي، فهو انما يقع بعد فرض عدم
وجود اطلاق لدليل الجزئية ظاهر في ثبوت الجزئية في جميع الحالات. وعدم اطلاق
لدليل الامر بالمركب - لو لم يكن لدليل الجزئية اطلاق - يدل على ثبوت الامر
به في مطلق الحالات ولو مع تعذر الجزء.
وإلا فعلى الأول يكون مقتضى اطلاق دليل الجزئية ثبوت الجزئية المطلقة،
ومقتضاها سقوط الامر بالباقي.
كما أنه على الثاني يكون مقتضى الاطلاق ثبوت الامر بالباقي، فلا مجال
حينئذ للأصل العملي.
وإذا عرفت محل الكلام في الأصل العملي، فاعلم أن الأصل العملي في
المقام هو البراءة عن وجوب الباقي، للشك في وجوبه بعد العجز عن الجزء،
278

فدليل البراءة محكم من عقل ونقل.
وقد يتوهم عدم جريان البراءة في وجوب الباقي لوجهين:
الوجه الأول: ان مقتضى حديث الرفع - إذا يمكن ان يجري الحديث
بلحاظ رفع الاضطرار وبلحاظ رفع ما لا يعلمون، لان جزئية المتعذر مجهولة حال
التعذر، فيكون مقتضى الحديث - هو عدم جزئية المتعذر في حال التعذر، ومقتضى
ذلك ثبوت الامر بالباقي.
وأورد عليه في الكفاية بان حديث الرفع وارد مورد الامتنان، فيختص
جريانه في مورد يستلزم نفي التكليف لا اثباته، فإذا كان جريانه مستلزما لاثبات
التكليف كما فيما نحن فيه لم يجر لمنافاته للامتنان (1).
وزاد على هذا الايراد بعض المحققين (رحمه الله) وجهين آخرين:
أحدهما: ان الجزئية للمأمور به المجعولة بالأمر المركب مقطوعة بالانتفاء
للقطع بانتفاء الامر بالمركب لاجل التعذر. والجزئية بلحاظ مقام الغرض وان
كانت مشكوكة الثبوت، لكنها واقعية لا مجعولة، فالجزئية القابلة للجعل والرفع
غير مشكوكة، والجزئية المشكوكة غير قابلة للرفع. إذن فلا مجال لحديث الرفع.
والاخر: ان دليل الواجب إما أن يكون له اطلاق أو لا يكون له اطلاق،
فإن كان له اطلاق يدل على ثبوت الامر بالباقي كفى ذلك في نفي الجزئية ولا
مجال معه لحديث الرفع كما عرفت. وإن لم يكن له اطلاق، فحديث الرفع لا ينفع
في اثبات الامر بالباقي، لأنه إنما يتكفل الرفع دون الاثبات (2).
وبهذه الوجوه تعرف انه لا مجال للالتزام باجراء حديث الرفع في جزئية
المتعذر.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 369 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 296 - الطبعة الأولى.
279

الوجه الثاني: الرجوع إلى الاستصحاب في اثبات وجوب الباقي، ومعه
لا مجال لجريان البراءة منه، لتقدم الاستصحاب على البراءة - كما حقق في محله -.
وقد قرر الاستصحاب بوجوه عديدة:
الأول: ما ذكره الشيخ (رحمه الله) وصاحب الكفاية، وهو استصحاب كلي
الوجوب الثابت سابقا للاجزاء المقدورة، فان الباقي كان معلوم الوجوب لتعلق
الوجوب الغيري به، وهو وإن زال بزوال وجوب الكل، لكن يحتمل تعلق
الوجوب النفسي به فيكون سببا للشك في بقاء الوجوب الجامع فيستصحب.
وأورد عليه:
أولا: بأنه يبتنى على تصحيح القسم الثالث من استصحاب الكلي، وهو
ما إذا كان الشك في بقاء الكلي ناشئا من الشك في حدوث فرد آخر، مع العلم
بزوال الفرد السابق الذي حدث به الكلي. والتحقيق على بطلانه، إلا إذا كان
الفرد الحادث المشكوك يعد عرفا من مراتب الفرد السابق لا مباينا له، كالشك
في تبدل السواد إلى مرتبة أضعف منه مع العلم بزوال مرتبته الحادثة أولا. وليس
الاختلاف بين الوجوب الغيري والوجوب النفسي في الشدة والضعف، بل هما
متباينان عرفا.
وثانيا: انه يبتني على تعلق الوجوب الغيري بالاجزاء، وقد ثبت امتناعه،
كما مر في مبحث المقدمة الداخلية والخارجية من مسألة مقدمة الواجب.
وثالثا: بان الجامع بين ما لا أثر له عقلا في مقام الإطاعة وما له الأثر لا
ينفع اثباته في الحكم بلزوم الإطاعة عقلا. والامر كذلك في الوجوب الجامع بين
النفسي والغيري، إذ الوجوب الغيري - كما مر تحقيقه - مما لا إطاعة له ولا
امتثال، فاستصحاب الجامع لا يجدي فيما هو المهم من لزوم الاتيان بالباقي عقلا،
ولزوم الخروج عن عهدة التكليف به، فاثبات كلي الوجوب يكون بلا اثر عملي،
فيكون لغوا.
280

الثاني: ما ذكره الشيخ (رحمه الله) وأشار إليه في الكافية، وهو استصحاب
الوجوب النفسي الشخصي الثابت سابقا بدعوى المسامحة عرفا في موضوعه،
إذ العرف يرى الباقي والمركب التام شيئا واحدا، ولذا يرى عدم ثبوت الحكم
للباقي ارتفاعا للحكم السابق كما أنه ثبوته بقاء له. فيقال حينئذ: هذا - ويشار
إلى الباقي - كان واجبا والآن كذلك. ونظيره استصحاب كرية الماء الذي كان
كرا وأريق منه بعضه فشك في كريته (1).
وقد أورد عليه: بأنه يبتني على المسامحة في الموضوع مع كون الباقي مما
يتسامح فيه عرفا، كما إذا كان المتعذر جزء واحدا - مثلا - لا ما إذا تعذرت كمية
من الاجزاء معتد بها، لعدم صدق الوحدة عرفا بين الباقي والمركب حينئذ (2).
وهذا، ولكن الذي نراه عدم تأتي المسامحة في مثل ما نحن فيه. وبيان ذلك:
ان المراد بالمسامحة العرفية والنظر العرفي هو ما يراه العرف بحسب مرتكزاته
وبحسب ربطه بين الحكم وموضوعه موضوعا للحكم، فهو يرى ان الموضوع في
مثل: " أطعم العالم " ذات العالم، وجهة العلم جهة تعليلية، إذ لا ربط للاطعام
بجهة العلم، بل يرتبط بالذات نفسها، فإذا زال العلم لا يزول الموضوع بنظر
العرف، وانما يرى أنه قد زالت بعض حالاته، فيصح استصحاب وجوب الاطعام
مع الشك.
أما في مثل: " قلد العالم " فإنه يرى ان الموضوع العالم بما هو عالم، لارتباط
التقليد واخذ الاحكام بجهة علمه لا بذاته خاصة. فمع زوال العلم يزول
الموضوع عرفا. فلا مجال للاستصحاب مع الشك.
ومن الواضح انه هذا الاختلاف في النظر انما يتأتى في موضوعات

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 294 - الطبعة الأولى.
الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 370 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 297 - الطبعة الأولى.
281

الاحكام، إذ ارتباط الحكم بها بلحاظ متعلقه وارتباط المتعلق بها ارتباط تكويني،
فيمكن ان يختلف نظر العرف في تشخيصه بحسب اختلاف الموارد وان اتحد
لسان الدليل كما عرفت في المثالين.
أما بالنسبة إلى متعلقات الاحكام، فلا يتأتى فيها المسامحة العرفية، إذ
ارتباط الحكم بمتعلقه جعلي يرتبط بالمولى الجاعل نفسه وان كان المولى عرفيا،
فإذا أثبت الحكم لمركب ذي أجزاء عشرة لا يرى العرف وجوب التسعة وان
متعلق الحكم هو الجامع بين العشرة والتسعة، بل نظر العرف ههنا يتبع ما قرره
المولى داعيا إلى أي مقدار كان من الاجزاء. فإذا أوجب المولى المركب ذي
الاجزاء العشرة، كان المركب ذو الاجزاء التسعة مباينا لمتعلق الحكم عرفا لا
متحدا معه، وإن كان الجزء المفقود ضئيلا جدا.
وإذا ظهر ذلك تعرف بطلان دعوى تأتي المسامحة العرفية فيما نحن فيه،
إذ موضوع الكلام فيما نحن فيه هو تعذر الجزء من متعلق الحكم لا موضوعه.
وما ذكرناه كما يكون اشكالا على نفس تقرير الاستصحاب بهذا الوجه
يكون اشكالا على الاعلام (قدس سرهم)، حيث التزموا بهذا الاستصحاب في
الجملة مبنيا على المسامحة في الموضوع. فلاحظ.
الثالث: ما ذكره المحقق الأصفهاني (رحمه الله) في حاشيته على الكفاية
وهو استصحاب شخص الوجوب الثابت سابقا للباقي مع قطع النظر عن كونه
نفسيا أو غيريا لعدم الفرق والتمايز بينهما بنظر العرف، إذ العرف لا يرى جهة
الغيرية والنفسية من الجهات المقومة للوجوب وانما هي من طوارئ الوجوب،
فالتسامح الموجود في هذا الاستصحاب في المستصحب لا في الموضوع، كما أنه
لا يرجع إلى اخذ الجامع (1).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 297 - الطبعة الأولى.
282

وقد ناقشه (قدس سره) بما لا يخلو عن نظر ولا يهمنا التعرض إليه.
والعمدة في مناقشة هذا الوجه هو انه يبتني على تعلق الوجوب الغيري بالاجزاء،
وقد عرفت امتناعه، فأساس هذا الوجه غير مسلم.
الرابع: ما أشار إليه المحقق الأصفهاني أيضا في حاشيته، وهو استصحاب
الوجوب النفسي مع قطع النظر عن تعلقه بالباقي، نظير استصحاب وجود الكر
في اثبات كرية الموجود، فيقال: إن الوجوب النفسي للصلاة كان ثابتا والآن
يشك في بقائه، فيحكم به بمقتضى الاستصحاب. وبعبارة أخرى: المستصحب
هو وجوب الصلاة بمفاد كان التامة، لا الناقصة (1).
وفيه: ان نسبة الصلاة إلى مجموع الاجزاء ليست نسبة المسبب إلى
السبب، بل نسبة اللفظ إلى المعنى، فالمراد بالصلاة هو الاجزاء الخاصة.
وعليه، فالمراد بالصلاة في استصحاب وجوب الصلاة، إن كان المركب
التام، فهو مما لا أشكال في ارتفاع وجوبه فلا معنى لاستصحابه. وان كان المراد
الأعم من المركب التام والناقص بدعوى المسامحة العرفية في موضوع الوجوب،
فهو راجع إلى الوجه الثاني الذي قد عرفت الاشكال فيه.
هذا ان أريد بالاستصحاب استصحاب الوجوب الشخصي السابق
المتعلق بشخص الصلاة والحصة الخاصة منها. وإن أريد به استصحاب الوجوب
المتعلق بكلي الصلاة، فلا يرد عليه ما تقدم، إذ لا يتوقف على المسامحة وتنزيل
الفاقد منزلة الواجد عرفا، إذ الكلي ينطبق على الفاقد والواجد حقيقة. لكن يرد
عليه: انه من القسم الثالث من استصحاب الكلي، لان وجوب الكلي كان
متحققا في ضمن فرد خاص، وهو قد ارتفع قطعا ويشك في حدوث فرد جديد،
ولا مجال لتوهم ان الفرد الجديد هو نفس الفرد السابق لتباينهما بتباين موضوعهما

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 297 - الطبعة الأولى.
283

الشخصي، فتدبر جيدا.
وأما الايراد على هذا الوجه بأنه مثبت بلحاظ اثبات وجوب الباقي. فهو
قابل للمنع. فتأمل. فالعمدة في الايراد ما ذكرناه.
الخامس: ما ذكره المحقق الأصفهاني (رحمه الله) أيضا تحت عنوان:
" يمكن ان يقال ". وتوضيحه مع شئ من التصرف فيه: ان الأجزاء الباقية كانت
متعلقة للوجوب النفسي المنبسط على الكل، فهي متيقنة الوجوب سابقا، لكن
وجوبها وجوب ضمني، إذ الوجوب الاستقلالي انما يتعلق بالكل، وبملاحظة
المسامحة العرفية في الوجوب الضمني والاستقلالي، فان العرف لا يرى تعددهما،
بل يرى الضمنية والاستقلالية من الحالات الطارئة. يمكن ان يستصحب
الوجوب النفسي المتعلق بالاجزاء لليقين بحدوثه مع الشك في بقائه، والجزم
بارتفاع صفة الضمنية بارتفاع الامر بالكل لا يضر بعد دعوى المسامحة
المزبورة (1).
وهذا الوجه قابل للمناقشة أيضا كسوابقه، وذلك لان وجود الوجوب
الضمني للاجزاء متقوم بوجود الوجوب الاستقلالي للكل، ولا يمكن فصله عن
وجوب الكل، وبما أن وجوب الكل متقوم بالمركب التام لتقوم الصفة التعلقية
بمتعلقها، فان نسبته إليه نسبة الوجود إلى الماهية، كان الوجوب الضمني متقوما
بالتام، فمع تعذر التام ينعدم الوجوب الضمني، فإذا ثبت الوجوب للاجزاء
الباقية بعد التعذر فهو فرد آخر للوجوب، فلا يكون استمرارا لذلك الوجوب
لاختلاف الموضوع.
نعم، إذا بنى على التسامح في متعلق الوجوب النفسي الثابت أولا وتنزيل
الباقي منزلة التام عرفا، فيتحد الموضوع بلحاظ المسامحة في المتعلق. كان أمرا

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 298 - الطبعة الأولى.
284

آخر، لكن عرفت المناقشة فيها في رد الوجه الثاني الذي تقدمت المناقشة فيه.
فراجع.
والذي يتحصل من مجموع ما ذكرناه: انه لا مجال لجريان الاستصحاب
فيما نحن فيه، فلا مانع من جريان البراءة من الباقي من جهة الاستصحاب.
هذا فيما يرتبط بالأصل العملي.
285

" قاعدة الميسور "
وأما فيما يرتبط بالدليل الاجتهادي، فقد ادعي ثبوت الاخبار الدالة على
وجوب الباقي عند تعذر بعض الاجزاء. واستفيد من هذه الأخبار قاعدة
يصطلح عليها ب‍: " قاعدة الميسور ". وهذه الأخبار ثلاثة مروية في غوالي اللئالي:
الأول - النبوي الشريف وهو -: انه خطب رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) فقال: " ان الله كتب عليكم الحج. فقام عكاشة أو سرافة بن مالك
فقال: في كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى أعاد مرتين أو ثلاثا، فقال:
ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم، والله لو قلت نعم لوجب ولو وجب ما استطعتم،
ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، وانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم
واختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم
عن شئ فاجتنبوه " (1).
والثاني - العلوي الشريف وهو -: قول علي (عليه السلام): " الميسور لا
يسقط بالمعسور " (2).
والثالث - العلوي الشريف أيضا وهو -: قوله (عليه السلام): " ما لا
يدرك كله لا يترك كله " (3).
ويقع الكلام في كل واحد من هذه الأخبار على حدة.
أما النبوي: فمحل الاستشهاد به هو قوله (ص): " إذا أمرتكم بشئ
فأتوا منه ما استطعتم ". فإنه ظاهر في وجوب الاتيان بالاجزاء التي يتمكن منها،

(1 - 3) عوالي اللئالي 4 / 58.
286

مع تعذر الباقي.
وقد استوضح الشيخ (رحمه الله) دلالتها على المدعى جدا، وبنى ذلك
على ظهور لفظ: " من " في التبعيض (1).
وتوضيح ذلك كما أشار إليه المحقق الأصفهاني (قدس سره): ان لفظ:
" شئ " اما ان يراد منه المركب أو العام أو الكلي والطبيعة. ولفظ: " من " إما ان
يراد بها معنى التبعيض أو تكون بيانية أو بمعنى الباء.
ومن الواضح انها انما تفيد المدعى لو أريد من الشئ المركب وكانت:
" من " تبعيضية، فإنها تكون ظاهرة في أنه إذا تعلق الامر بمركب ذي اجزاء فأتوا
بعضه الذي تستطيعونه.
أما إذا أريد من: " من " معنى الباء، فتكون ظاهرة في إرادة انه إذا تعلق
الامر بشئ فأتوا به مدة استطاعتكم، ومن الواضح انه أجنبي عما نحن فيه.
كما أنه إذا كان المراد من: " من " البيان، كانت ظاهرة في أنه إذا تعلق
الامر بكلي فأتوا من افراده ما استطعتم. وذلك أجنبي عن المدعى بالمرة.
وقد أفاد المحقق الأصفهاني في تقريب كلام الشيخ: انه لا معنى لكون
" من " بيانية في خصوص الرواية، ضرورة ان مدخولها لا يصلح بيانا للشئ، لأنه
الضمير وهو مبهم.
وأما كونها بمعنى الباء، فالذي يوهمه عدم تعدي الاتيان بنفسه، وانما
يتعدى بالباء، فيقال: " أتيت به " بمعنى أوجدته. ولكن الامر ليس كذلك، إذ
الاتيان يتعدى بنفسه تارة كقوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة) (2) وقوله
تعالى: (ولا يأتون البأس إلا قليلا) (3). ويتعدى بالباء أخرى كقوله تعالى:

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 294 - الطبعة الأولى.
(2) سورة النساء الآية: 15.
(3) سورة الأحزاب الآية: 18.
287

(يأتين بفاحشة مبينة) (1). وعليه فلا يتعين كونها بمعنى الباء في الرواية.
وأما لفظ: " الشئ "، فلا يراد به العام الاستغراقي، لأنه يعبر به عن
الواحد ولا يعبر عن المتعدد، وانما يعبر عنه بأشياء، فلو أراد العام لناسب أن
يعبر بأشياء.
كما أن إرادة الطبيعة والكلي في: " منه " ممكنة في حد نفسه، إلا أن إرادة
الكلي في المقام ممتنعة، الا انه لا يناسب التبعيض، إذ الفرد مصداق للكلي لا
بعضه، فيتعين ان يراد به المركب ذو الاجزاء. فتكون دالة على المدعى (2).
هذا تقريب دلالة الرواية على المدعى.
لكن ههنا اشكالا نبه عليه في الكفاية (3) وتبعه عليه غيره (4) وهو: أن مورد
الرواية لا يتلائم مع المركب ذي الاجزاء، بل يلائم الكلي ذي الافراد، إذ
المسؤول عنه هو وجوب تكرار الحج وعدمه بعد تعلق الامر به، وبمقتضى البيان
المزبور للجواب لا يكون الجواب مرتبطا بالسؤال، ولأجل ذلك ذهب البعض
إلى اجمال الرواية أو التصرف في لفظ: " من " بحمله على معنى الباء أو كونها
بيانية، إذ يرتفع التنافي بذلك كما لا يخفى.
واما المحقق الأصفهاني، فقد ذهب إلى كون مقتضى التحقيق: ان: " من "
ليست بمعنى التبعيض بعنوانه كي لا يتلاءم مع إرادة الكلي من الشئ، بل هي
لمجرد اقتطاع مدخولها من متعلقه، وهذا الاقتطاع قد يوافق التبعيض أحيانا،
وبما أن الفرد منشعب من الكلي لانطباقه عليه، صح اقتطاع ما يستطاع منه، فلا
يتعين مع ذلك إرادة المركب، بل يراد من: " الشئ " الكلي ويراد من لفظ: " منه ".

(1) سورة النساء الآية: 19.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 298 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق محمد كاظم كفاية الأصول / 370 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(4) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4 / 254 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
288

من افراده، وتكون ما موصولة لا مصدرية ظرفية. فيتلاءم مع مورد الرواية
والسؤال (1).
أقول: ما أفاده (قدس سره) وان استلزم حل المشكلة، لكن كون: " من "
بمعنى الاقتطاع لا بمعنى التبعيض لا طريق إلى اثباته، وانما هو مجرد تصور
وفرض، فلا نستطيع الجزم به كما لا نجزم بعدمه، ومثله لا يكفينا في حل المشكلة.
فالمتعين أن يقال في معنى الرواية: انه لا يحتمل أن يكون المراد من قوله
(ص): " إذا امرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم " هو الامر بتكرار المأمور به
قطعا إذ ظاهر الصدر انه ليس بواجب - بملاحظة قوله: " ويحك... ". وبذلك
يظهر غفلة الاعلام (قدست أسرارهم) عن هذا الامر الواضح، إذ تصوروا دلالة
الرواية على التكرار لو حملت: " من " على معنى الباء أو البيانية، فلاحظ كلماتهم
- مضافا إلى أن عدم وجوب تكرار الحج من القطعيات، بل الذي يراد به هو
الامر به في حال الاستطاعة.
ولا يخفى ان عدم عموم قوله المزبور - على هذا التفسير -، للامر
بالطبيعة والامر بالمركب إنما ينشأ من تخيل ان مقتضى حمله على المركب يقتضي
تقييد الموضوع بصورة تعذر بعض اجزائه، ومقتضى حمله على الكلي يقتضي عدم
تقييده، إذ المفروض تعلق الامر به والبعث نحوه بلا نظر لمرحلة تعذر بعض
اجزائه. ولكنه تخيل فاسد، إذ لا داعي لهذا التقييد لو أريد به المركب، إذ ليس
المراد هو الامر بالمستطاع من الاجزاء مع تعذر البعض، بل المراد هو الامر
بالمركب بمقدار ما يستطيعه المكلف منه، فإن كان مستطيعا على الكل وجب
الجميع، وإلا وجب البعض.
وهذا نظير أن يقول المولى لعبده بعد أمره بمجموعة أجزائه: " إئت

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 299 - الطبعة الأولى.
289

بالذي تستطيعه " فإذا استطاع على الكل وجب عليه الكل. إذن فقوله: " إذا
امرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم "، يمكن ان يعم حالتي التعذر وعدمه،
فيمكن ان يعم الكلي وهو مورد الرواية، وانه يلزم الاتيان به، ويعم المركب الذي
تعذر بعض أجزائه مع التحفظ على ظهور " من " في التبعيض.
وبالجملة: يكون قوله المزبور كناية عن أن الامر بالمركبات بنحو تعدد
المطلوب. إذن فهذه الجملة قابلة لدلالة على المدعى مع عدم منافاتها لمورد
الرواية.
يبقى شئ وهو: ان هذا الجواب بهذا المقدار لا يرتبط بالسؤال عن
وجوب التكرار في الحج وعدمه، إذ وجوب الاتيان بالمأمور به معلوم لدى السائل،
ولزوم الاتيان ببعض اجزائه مع تعذر غيرها لم يقع موردا للسؤال.
فنقول: ان الجواب مرتبط بالسؤال بلحاظ إفادته الحصر الدال على نفي
التكرار، فان النبي (ص) بعدما وبخ السائل على تطفله والحاحه وطلب منه
الانصراف عن كثرة السؤال، ذكر له انه عند الامر بشئ يلزم الاتيان به خاصة
وبهذا المقدار ولا يلزم شئ آخر.
وهذه الجهة - أعني: جهة الحصر - لا بد من ملاحظتها على أي تقدير،
سواءا أريد من: " من " التبعيض كما قربناه، أم كونها بمعنى الباء أو غير ذلك، إذ
لو كانت بمعنى الباء كان معنى قوله: " إذا أمرتكم... " هو انه يجب الاتيان
بالشئ المأمور به عند الاستطاعة، وهذا ليس محل سؤال بل مما لا يجهله
السائل، فلا يرتبط الجواب بالسؤال، إلا بتضمين الجواب جهة الحصر. نعم لو
احتمل كونه في مقام لزوم التكرار بمقدار الاستطاعة لم نحتج إلى الحصر، إذ
الجواب يرتبط بالسؤال بوضوح. ولكن عرفت أنه لا مجال لتوهم إرادة ذلك، بل
الجواب اما يتكفل الامر بالشئ حال الاستطاعة لو أريد من لفظ: " من " معنى
الباء أو يتكفل ما ذكرناه لو أريد من لفظ: " من " التبعيض. وعلى اي تقدير لا
290

يرتبط بالسؤال إلا بتضمينه معنى الحصر. فهذه الجهة مما نحتاج إليها على كل
تقدير بملاحظة السؤال، وهي مستفادة على ما عرفت من كيفية الجواب
ومقدماته، وليست أمرا خفيا في الكلام.
ومحصل ما ذكرناه: ان الرواية تتكفل بيان أمرين:
أحدهما: لزوم الاتيان بالشئ خاصة عند الامر به وعدم لزوم شئ آخر
وراءه.
والاخر: ان الامر بالشئ المركب بنحو تعدد المطلوب والمراتب.
وبلحاظ هذه الجهة الثانية تكون دالة على المدعى بوضوح.
وما ذكرناه واضح بنظرنا من الرواية وظاهر بقليل من التأمل، وبذلك
تنحل المشكلة، ونجمع بين تكفل الرواية لما نحن فيه مع ارتباطها بمورد السؤال.
فالتفت وتدبر، فإنه لم يسبق بيانه فيما تقدم.
وأما قوله (ع): " الميسور لا يسقط بالمعسور ". فجهة الاستدلال بها
واضحة، لكن نوقش في دلالتها: بان المراد بها ان حكم الميسور لا يسقط بسبب
سقوط حكم المعسور. وذلك لان السقوط لا يحمل على نفس الميسور، لأنه فعل
المكلف، ولا معنى لسقوطه وبقائه، وانما الذي يقبل السقوط هو الحكم، فيراد
من النص ما عرفت. ولا يخفى ان مرجع ذلك إلى الحكم ببقاء الحكم الثابت
للميسور واستمراره.
ومن الواضح ان النص بهذا المعنى لا يشمل المركب الذي يتعذر بعض
اجزائه، إذ الحكم الذي كان ثابتا للميسور من الاجزاء هو الامر الضمني، وهو
مرتفع قطعا بتعذر الكل لسقوط الامر بالكل، فلا مجال للحكم بعدم سقوطه.
وببيان آخر: ان الامر الذي كان ثابتا للميسور من الاجزاء هو الامر الضمني،
وهو مرتفع بارتفاع الامر بالكل، فإذا فرض ثبوت أمر للميسور بعد التعذر كان
أمرا استقلاليا، وهو لا يعد بقاء للامر الأول. وقد عرفت أن مفاد النص هو الحكم
291

ببقاء الحكم الأول وعدم سقوطه.
وعليه، فلا بد ان تحمل الرواية على موارد الاحكام المستقلة التي يتوهم
سقوط بعضها بسقوط الاخر، كما إذا كانت منشأة بدليل واحد، نظير: " أكرم كل
عالم " مع تعذر اكرام بعض افراد العالم، فتحمل على مورد العموم الافرادي.
والجواب عن هذه المناقشة بما ذكره الشيخ (رحمه الله):
أولا: من امكان التحفظ على اسناد السقوط إلى الميسور نفسه بلا حاجة
إلى تقدير الحكم، بان يراد من عدم سقوطه بقاؤه في العهدة وفي عالم التشريع
والجعل، فإنه وظيفة الشارع، فيدل على تعلق الامر به بقاء، ولو كان أمرا آخر
غير الأول، إذ تعدد الامر لا يغير ثبوت المتعلق في العهدة ويصدق معه بقاء
المتعلق في العهدة حقيقة.
وعليه، فتكون الرواية شاملة للمركب إذا تعذر بعض اجزائه.
وثانيا: لو سلم ان المسند إليه السقوط هو الحكم بتقديره في الكلام، فهي
تشمل المركب أيضا، لان بقاء الحكم صادق عرفا عند ارتفاع الامر الضمني عن
الميسور من الاجزاء وتعلق الامر المستقل بها، لمسامحة العرف في النفسية
والغيرية، فلا يرونهما إلا من حالات الوجوب لا من مقوماته، ولذلك يعبرون عن
تعلق الوجوب بالميسور ببقاء وجوبه وعن عدم تعلقه بارتفاع وجوبه. وقد تقدم
نظير هذا الكلام في استصحاب الوجوب (1).
والحاصل: ان الرواية ظاهرة في بقاء الميسور في عهدة المكلف، لا بهذا
اللفظ - أعني: لفظ العهدة كي يدعى عدم شمولها للمستحبات، لأنها لا عهدة
لها، وإن كان هذا الكلام محل نظر -، بل بما يساوقه من كونه مجعولا على المكلف
ونحو ذلك، فيدل على بقائه بما له من الحكم سابقا من وجوب أو استحباب، فيعم

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 294 - الطبعة الأولى.
292

الواجبات والمستحبات.
ولوضوح الكلام في هذه الرواية تماما لا بد من التنبيه على جهتين:
الجهة الأولى: قد عرفت في مقام بيان معنى الرواية تفسير السقوط
وعدمه بما يساوق الارتفاع والبقاء الظاهر في لزوم تحقق الحكم حدوثا كي يرتفع
أو يبقى، نظير مفاد دليل الاستصحاب.
هذا ولكن المراد بالسقوط ههنا عدم الثبوت أعم من الارتفاع بعد
الحدوث ومن عدم الحدوث، نظير ما يقال في حديث الرفع من أن المراد بالرفع
أعم من الدفع والرفع، فلا يراد من عدم السقوط هو الحكم بالبقاء، بل أعم من
الحكم بالبقاء ومن الحكم بالحدوث. وذلك لوجهين:
الأول: ان السقوط عرفا يستعمل في الأعم من الارتفاع بعد الحدوث
ومن عدم الحدوث رأسا، فيقال للنائم قبل الوقت إذا استغرق نومه جميع الوقت
ان التكليف بالصلاة عنه ساقط - بلا أي مسامحة في التعبير -، مع أنه لم يسبق
حدوث التكليف في حقه. وهكذا للمسافر قبل الوقت، يقال له إن التكليف
بالتمام عنه ساقط مع أنه لم يحدث في حقه. ويقال للحائض ان التكليف بالصلاة
ساقط عنها، مع عدم حدوثه في حقها. والأمثلة على ذلك كثيرة مما يدل على أن
السقوط بنظر العرف أعم من الارتفاع بعد الحدوث ومن عدم الحدوث رأسا.
الثاني: ان العلماء جميعا يتمسكون بالقاعدة في موارد تحقق التعذر من أول
الوقت ولم يعهد من أحد منهم تخصيص النص بما إذا طرأ العذر بعد دخول
الوقت، والتوقف فيه فيما إذا تحقق العذر من أول الوقت، وهذا الامر أوضح من
أن يخفى، فيدل على أن المرتكز في أذهانهم ما ذكرناه من عموم السقوط، وإن
جاء في كلماتهم في مقام بيان معنى الرواية على إفادة الحكم بالبقاء كدليل
الاستصحاب. فتدبر.
هذا، ولكن مجرد عدم الحدوث لا يصحح صدق السقوط، إذ كثيرا ما لا
293

يصدق السقوط عند عدم حدوث التكليف، بل انما يصدق السقوط على عدم
الحدوث فيما كان هناك مقتض للثبوت، سواء كان مقتضيا بلحاظ مقام الثبوت
أم بلحاظ مقام الاثبات، وانما لا يثبت الحكم لوجود مانع - مثلا -.
أما مع عدم المقتضي فلا يصدق السقوط على عدم ثبوت الحكم، كما لا
يخفى على من لاحظ الأمثلة العرفية.
ومن هنا قد يشكل صدق السقوط على عدم ثبوت التكليف بالاجزاء
الميسورة مع تعذر بعضها، لعدم إحراز المقتضي ثبوتا فيها وهو الملاك، إذ لا يعلم
انها واجدة لملاك الوجوب أولا. وعدم وجود المقتضي اثباتا وهو الدليل، إذ
الموجود من الدليل على ثبوت الحكم هو الدليل على الامر بالكل وهو مرتفع
قطعا بالتعذر، فلا دليل على ثبوت الحكم في الميسور كي يكون عدم ثبوته
سقوطا.
ولكن يمكن التفصي عن هذه المشكلة بوجهين - بعد الجزم بصدق
السقوط وعدمه بالنسبة إلى الاجزاء في هذا الحال عند عدم ثبوت التكليف بها
أو ثبوته -:
أحدهما (1): الالتزام بالاكتفاء بالمقتضي على تقدير عدم التعذر وعدم لزوم
وجود المقتضي الفعلي، فان ملاك الحكم في الاجزاء الميسورة ثابت عند عدم تعذر
غيرها. وهذا الملاك الثابت يصحح صدق السقوط عند حصول التعذر.
والاخر: ان نفس المقتضي لثبوت التكليف بالكل المصحح لصدق
سقوطه، يكون مقتضيا لثبوت التكليف بالميسور من الاجزاء، بنحو من المسامحة

(1) لعله إلى ذلك ينظر الشيخ في قوله (يعني ان الفعل الميسور إذا لم يسقط...) خصوصا بملاحظة قوله
عند التكلم في الشروط: " واما الثانية فاختصاصها كما عرفت سابقا بالميسور الذي كان له مقتضى للثبوت
... " إذ لم يسبق منه ما يشير إلى ذلك غير تلك العبارة. وان كان بعيدا لعله ينظر إلى ما رامه السيد
الأستاذ في تعميم القاعدة لصورة التعذر من أول الوقت فتأمل في كلامه. منه.
294

في متعلق الحكم النفسي وفرضه الأعم من الواجد والفاقد - كما تقدم نظيره في
الاستصحاب -.
والفرق بين هذين الوجهين من الناحية العملية، هو انه ان بنينا على
الثاني وصححنا صدق السقوط بناء عليه، لم تجر القاعدة إلا في ما كان الميسور
معظم الاجزاء، بحيث تصح المسامحة فيه عرفا بفرضه نفس الواجب النفسي،
دون ما كان الباقي اجزاء قليلة من المركب، إذ لا يرى العرف وحدته مع الكل،
فلا يثبت له المقتضي لثبوت الحكم فيه.
وأما إن صححنا صدق السقوط بناء على الوجه الأول، كانت القاعدة
جارية ولو مع كون الميسور قليلا جدا، لثبوت المقتضي التقديري فيه، فيصح
نسبة السقوط وعدمه إليه.
وبما انا نرى صدق السقوط عرفا على الاجزاء الميسورة ولو كانت قليلة،
كان ذلك كاشفا عن كون الملحوظ في المصحح هو الوجه الأول لا الثاني. فانتبه.
الجهة الثانية: قد عرفت تقريب دلالة الرواية على بيان عدم سقوط
الميسور من الاجزاء عند تعسر بعضها. وقد ناقشها صاحب الكفاية باحتمال
إرادة عدم سقوط الميسور من افراد العام بالمعسور منها (1).
وهذه المناقشة بهذا المقدار خارجة عن الأسلوب العلمي، ومجرد الاحتمال
لا ينفع في قبال الظهور المدعى، فمع الاعتراف بالظهور لا معنى للتوقف لمجرد
الاحتمال. ولو كان هو في مقام التشكيك في الظهور - كما يظهر من كلامه -
فكان يلزمه أن يبين جهة التشكيك وينبه عليها ولا معنى للاكتفاء بالقاء
الاحتمال فقط.
ثم إنه لا مانع من شمول النص لكلا الموردين، فيدل على عدم سقوط

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 371 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
295

الميسور من الاجزاء بمعسورها، كما يدل على عدم سقوط الميسور من افراد العام
بالمعسور منها، فلا وجه لترديده بينهما وتوقفه عن الجزم بأحدهما.
وكيف كان لا بد من تحقيق هذه الجهة - أعني الالتزام بعموم النص
للمركب الذي تعذر بعض اجزائه وللطبيعة التي يتعذر بعض افرادها. وبعبارة
أخرى: للاحكام المستقلة التي يتعذر بعضها - بنحو يرتفع الغموض عن بعض
جهاتها. فنقول: إنه كما يتأتى احتمال سقوط الاجزاء الميسورة عند تعذر غيرها،
كذلك يتأتى هذا الاحتمال لبعض في الاحكام الاستقلالية، بأن يكون هناك
حكمان استقلاليان مجعولان بنحو يتوهم الارتباط بينهما في الثبوت والسقوط.
وهذا لا ينافي استقلاليتهما إذ الارتباط بين الحكمين لا يلازم الارتباط في
متعلقيهما، بل يكون لكل منهما إطاعة وعصيان على حدة، لكن لا يثبت أحدهما
بدون الاخر لمصلحة تقتضي جعلهما كذلك، فإذا تعذر امتثال أحدهما جاء احتمال
سقوط الاخر.
وإذا تصورنا هذا ثبوتا في الاحكام الاستقلالية. فنقول: ان الحكم
الميسور امتثاله من الحكمين إن كان له دليل اثباتي بعد التعذر واضح، فهو يدفع
احتمال سقوطه، فلا تكون القاعدة ناظرة إليه.
وذلك نظير الاحكام التي يتكفلها دليل واحد بنحو العموم - مثل: " أكرم
كل عالم " -، فإنه مع تعذر اكرام بعض العلماء يكون العام حجة ودليلا على ثبوت
الحكم للباقي، وحجيته في الباقي عرفا لا تقبل التشكيك والانكار، وإن اختلف
العلماء في وجهها، من كونه أقرب المجازات، أو بالدلالة الضمنية، أو غير ذلك
على ما تقدم تحقيقه في محله.
ففي مثل ذلك يستبعد جدا نظر الرواية إليه، لعدم توهم السقوط بلحاظ
الدليل الاثباتي الواضح على عدمه، فلا نقول بأنه ممتنع - كما جاء في كلمات
296

المحقق الأصفهاني (1) -، بل نقول بأنه مستبعد جدا.
وأما إذا لم يكن له دليل اثباتي بعد التعذر، فالرواية ناظرة إليه، نظير ما
لو قال: " أكرم العشرين عالما " بنحو يكون كل فرد محكوما بحكم مستقل وتعذر
اكرام زيد العالم منهم، فاحتمل سقوط الباقي، فان لفظ: " العشرين " ليس من
ألفاظ العموم كي يكون حجة فيما بقي، بل هو عنوان يعبر عن المجموع، فلا
يمكن ان يصدق على الأقل منه.
وعليه، فلا يكون حجة فيما بقي كما حققناه في مبحث العموم والخصوص.
ولذا التزمنا هناك، بان الدليل الدال على عدم اكرام أحد العشرين يكون
معارضا للدليل الدال على اكرام العشرين لا مخصصا له. إذن فتوهم السقوط لا
دافع له في مثل ذلك، فالرواية تنظر إليه وتفيد عدم سقوط الميسور من الافراد
بسبب المعسور. ومثله ما لو قال: " صم شهر رجب " فتعذر صوم بعض أيامه، وكان
صوم كل يوم ملحوظا واجبا مستقلا، لا ان المجموع محكوم بحكم واحد.
فظهر مما حققناه: ان الرواية كما تشمل المركبات إذا تعذر بعض
اجزائها، تشمل موارد الاحكام الاستقلالية التي يتكفلها دليل واحد بعنوان يعبر
عن عدد خاص لا بعنوان عام. فالتفت وتدبر.
وأما العلوي الاخر، وهو قوله (عليه السلام): " ما لا يدرك كله لا يترك
كله ". فجهة الاستدلال به على المدعى واضحة، وقد نوقش الاستدلال به
بمناقشات تعرض إليها الشيخ وأجاب عنها فلا يهمنا التعرض إليها (2).
وإنما المهم تحقيق المراد بالرواية، وهو يظهر بمعرفة المراد من الموصول
ولفظ: " كل " في الموضعين. فنقول:

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 2 / 299 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 295 - الطبعة الأولى.
297

أما الموصول، فهو - كما أفاد الشيخ - لا يكنى به عن المتعدد، وانما يكنى
به عن الواحد، فيراد به الفعل الواحد لا الأفعال المتعددة كي يدعى أنه يكون
دالا على أن الأفعال المتعددة لا يسقط بعضها إذا تعذر البعض الاخر، فيكون
مختصا بمورد تعلق الحكم بافراد العام بنحو العموم الاستغراقي، فلا يشمل
صورة تعذر بعض أجزاء المركب الذي هو موضوع الكلام فيما نحن فيه. فالمراد
بما هو فعل المكلف، أعم من الطبيعة والمركب، فيكون النص دالا على عدم
سقوط بعض افراد الطبيعة عند عدم ادراك البعض الاخر، كما يكون دالا على
عدم سقوط بعض اجزاء المركب إذا تعذر البعض الاخر.
واما لفظ: " كل ". فقد ذكر الشيخ (رحمه الله) ان المراد به المجموع، ولا
يمكن ان يحمل على العموم الاستغراقي، إذ إرادة العموم الاستغراقي منه
تقتضي أن يكون المفاد: ان الافراد والاجزاء التي لا يدرك شئ منها لا يترك
كل واحد واحد منها، وهذا مما لا معنى له، إذ مع عدم التمكن من كل فرد فرد
كيف يؤمر بكل فرد فرد؟.
ولكن نقول: انه كما لا يمكن ان يراد ب‍: " كل " ما أفاده الشيخ (رحمه
الله) لا يمكن ان يراد به المجموع أيضا، إذ بعد فرض عدم التمكن من
المجموع كيف يؤمر به؟، فإنه متعذر على الفرض.
وحل المشكلة بما أفاده المحقق العراقي وتوضيحه: ان الامتناع إرادة
العموم الافرادي من لفظ: " كل " انما يتم لو فرض ان العموم وارد على السلب
- المعبر عنه اصطلاحا بعموم السلب - بحيث يراد سلب القدرة عن كل فرد
فرد، ومعه لا معنى للنهي عن ترك كل فرد فرد - كما أفاد الشيخ -. وليس الامر
كذلك بل السلب وارد على العموم، فالمراد هو سلب العموم الذي يتحقق بانتفاء
بعض الافراد، نظير قولنا: " ليس كل عالم عادل "، فان النفي لم يتوجه
للمجموع، إذ العدالة ليست من صفات المجموع، كما أنه لا يراد نفي العدالة
298

عن كل فرد فرد من افراد العالم، بل المقصود بيان نفي العدالة عن عموم الافراد
وبيان انها ليست ثابتة لكل فرد فرد.
وعليه، فالمراد في قوله: " ما لا يدرك كله " عدم أدرك عموم الافراد أو
الاجزاء بنحو سلب العموم. وهكذا المراد بقوله: " لا يترك كله " يراد به النهي
عن الترك بنحو سلب العموم الراجع بحسب الظهور العرفي إلى النهي عن
الجمع بين التروك، فلفظ: " لا " متعلق بالترك بنحو سلب العموم لا عموم
السلب.
ومثل هذا الاستعمال كثير عرفا، ويراد به ما ذكرناه من انه إذا لم يدرك
المكلف اتيان جميع الافراد والاجزاء فلا يترك الجميع بنحو لا يأتي بأي فرد
أصلا.
وقد عرفت أن أساس ذلك على توجه النفي إلى ترك الجميع، ونفي ترك
الجميع يتحقق بالاتيان بالبعض. فالتفت ولا تغفل (1).
وكيف كان فقد عرفت دلالة النص على المدعى بحسب الظهور العرفي.
وقد استشكل فيه صاحب الكفاية: بأنه لا ظهور له في حرمة الترك لعموم
الموصول للمستحبات، وتخصيص الموصول بالواجبات ليس بأولى من حمل
النهي عن الكراهة أو مطلق الطلب (2).
وقد تعرض الشيخ (رحمه الله) إلى هذا الاشكال، ودفعه: بان الموصول في
نفسه يشمل المباحات بل المحرمات، وانما خصصناه بالراجح بقرينة قوله: " لا
يترك "، فإذا كان قوله: " لا يترك " قرينة على المراد بالموصول لزم حمل الموصول
على خصوص الواجبات عملا بظهور القرينة، ولا مجال لتخيل تقدم ظهور

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار / 3 / 457 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 372 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
299

الموصول، إذ ظهور القرينة هو المحكم والمقدم عرفا (3). وهذا الكلام للشيخ متين
جدا.
لكن الذي نستظهره من الرواية عموم الموصول للمستحبات، مع
التحفظ على ظهور: " لا يترك " في الوجوب. بيان ذلك: ان الانسان قد يطلب
منه شئ وتعرض حالة يتوهم فيها المأمور عدم لزوم العمل، فيقول له القائل
لا تترك العمل في هذه الحالة، أو لا يسوغ لك ترك العمل لاجل هذه الجهة،
ومقصود القائل ليس انشاء الامر والالزام، بل قد لا يكون ممن شأنه الامر
والالزام، بل مقصوده الكناية عن بقاء الامر السابق وعدم سقوطه في هذه الحالة،
ويتأتى هذا حتى فيما كان الامر السابق هو الاستحباب لا الوجوب، فيقول له
- مثلا - ان التعب لا يسوغ لك ترك صلاة الليل، أو لا تترك صلاة الليل لاجل
التعب، إذا تخيل المكلف سقوط استحبابها لاجل التعب. ومن الواضح ان: " لا
يسوغ " صحيح في الالزام. لكن قد عرفت أن هذا الالزام لا يعدو مجرد اللفظ
وليس القصد انشاء الالزام حقيقة في هذا الكلام، وانما القصد إلى بيان بقاء الامر
وعدم سقوطه.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فان قوله: " لا يترك كله " وان أنشئ به
الالزام لكن ليس المراد الأصلي به في هذا الكلام هو الالزام بعدم الترك كي
يختص بالواجبات، بل يراد به بيان ان تعذر بعض الاجزاء لا يسوغ ترك
المطلوب بالكلية وهو كناية عن بقاء الامر الأول، فلا مانع من عمومه
للمستحبات، فيكون مثل العلوي الأول الذي يعم الواجبات والمستحبات.
وبالجملة: الامر ههنا لا يراد به إلا المدلول الكنائي وهو لازمه من بقاء
الامر الأول على ما كان وعدم سقوطه، فلا مانع من استعماله في الوجوب وعموم

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 295 - الطبعة الأولى.
300

الموصول للمستحبات، فهو نظير الامر الواقع عقيب الحظر أو توهمه، أو النهي
الواقع عقيب الامر أو توهمه، في عدم إرادة المدلول المطابقي منهما، بل يراد
الكناية عن ارتفاع التحريم في الأول وارتفاع الايجاب في الثاني. فتدبر.
هذا تمام الكلام في دلالة الروايات على المدعى، وقد عرفت تقريب
دلالتها بأجمعها، فهي من حيث الدلالة لا كلام فيها.
وأما من حيث السند، فهي ضعيفة السند، ولكن ادعي انجبارها بعمل
المشهور.
أقول: لو ثبت شهرتها بين القدماء كشهرتها بين المتأخرين حتى قيل إن
القاعدة مما يعرفها الأطفال والنسوان، كان ذلك موجبا لليقين بصحتها، ولو لم
نبن على انجبار الضعف بعمل المشهور كلية، إذ التسالم على هذه النصوص يزيد
على الشهرة. وبما أنه لم يثبت ذلك لدينا، وهو محتاج إلى مزيد فحص، فالاحتياط
في مواردها مما لا بأس به.
يبقى التنبيه على امرين:
التنبيه الأول: في عموم القاعدة لتعذر الشرط أو الركن، وفي
اختصاصها بصورة القدرة على معظم الاجزاء.
وتحقيق الكلام في ذلك: ان الميسور تارة: يراد به الميسور من المراتب، بان
يكون الشئ ذا مراتب متعددة فيقال ان الميسور من المرتبة لا يسقط بالمعسور
منها. وأخرى: يراد به الميسور من الاجزاء. والفرق بين اللحاظين، انه يعتبر على
الأول أن يكون الميسور مصداقا من مصاديق الطبيعة، وإلا لم يكن من مراتبها.
وليس الامر كذلك على الثاني، إذ جزء الشئ لا يلزم أن يكون مصداقا له وفردا
من أفراده.
ثم إنه..
301

تارة: يلتزم بتقدير أمر في قوله: " الميسور لا يسقط بالمعسور "، فيلتزم..
إما بإضافة الميسور إلى عنوان: " شئ "، فيكون المراد ميسور الشئ لا
يسقط بمعسوره، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف مع وحدته، فكأنه قال:
" الصلاة الميسورة لا تسقط بالصلاة المعسورة " فيكون المراد بالميسور والمعسور
شيئا واحدا.
وإما بتقدير: " من الشئ " بعد الميسور والمعسور، فيراد: الميسور من
الشئ لا يسقط بالمعسور منه، على أن تكون: " من " تبعيضية، فيكون المراد من
الميسور غير المراد بالمعسور، فيراد من الميسور اجزاء ومن المعسور اجزاء
أخرى، فلا تسقط الاجزاء الميسورة بواسطة الاجزاء المعسورة من العمل
الواحد.
وأخرى: لا يلتزم بالتقدير أصلا، بل يراد كل ما هو ميسور لا يسقط
بسبب ما هو المعسور.
فالاحتمالات المتصورة ثلاثة:
وعلى الاحتمال الأول، يختص جريان القاعدة بما إذا كان الباقي المقدور
مما ينطبق عليه عنوان العمل، إذ المفروض لحاظه مقسما لليسر والعسر، فتكون
القاعدة مساوقة لبيان الميسور بلحاظ المراتب، فلا تشمل فاقد الركن إذا
فرض تقوم المسمى به، كما لا تشمل فاقد المعظم لعدم صدق الصلاة - مثلا -
عليه. كما انها تشمل فاقد الشرط مع صدق المسمى عليه على اشكال يأتي دفعه.
وعلى الاحتمال الثاني، فيمكن ان يراد بها الميسور من الاجزاء والمراتب.
وعليه فتعم فاقد الركن أو المعظم وإن لم يصدق المسمى عليه، لأنه ميسور من
اجزاء العمل، وإن لم يكن من مراتبه.
نعم لا يشمل فاقد الشرط إلا بتصور التبعيض فيه عرفا، وكون فاقد
الشرط وواجده من قبيل الأقل والأكثر والبعض والكل، وهو على تقديره انما
302

يتصور في بعض الشروط كما سننبه عليه.
وعلى الاحتمال الثالث، تشمل فاقد الركن والمعظم، إذ هو ميسور في
نفسه كما تشمل فاقد الشرط أيضا، فإنه ميسور في نفسه، فلا يسقط بواسطة
المعسور وهو واجد الشرط، ولا يتوقف ذلك على تصور التبعيض لعدم أخذه
فيها.
نعم هنا شئ، وهو انه قد عرفت أن السقوط لا يصدق الا في مورد يكون
للميسور مقتض للثبوت فلا يثبت، فلا يصدق في مطلق موارد عدم الثبوت. ومن
الواضح ان فاقد الشرط بما أنه يباين واجد الشرط فلا يكون له مقتض للثبوت،
فلا يصدق سقوط الفاقد على عدم ثبوت الحكم له.
والجواب عن هذا الاشكال: ان الشروط على قسمين..
فمنها: ما يكون مقوما لذات المشروط، بحيث يكون الفاقد للشرط مباينا
بالمرة لواجد الشرط، والمصداق الواضح لذلك ما كان مثل الناطقية للحيوان،
فإذا تعذر الحيوان الناطق، كان الحيوان غير الناطق مغايرا لمتعلق الحكم عرفا.
ومنها: ما لا يكون مقوما لذات المشروط عرفا، بل يرى أنه من حالاته
وزوائده وكمالاته، نظير الصلاة مع الاستقبال، فان الصلاة بدون الاستقبال لا
تكون مغايرة عرفا للصلاة معه، بل يرى ان الصلاة بدونه صلاة ناقصة والصلاة
معه صلاة وزيادة.
والاشكال المزبور انما يتم في النحو الأول من الشروط لا النحو الثاني،
إذ يقال: ان الصلاة المتعذر فيها الاستقبال، كان لها مقتض للثبوت لولا التعذر،
ويشهد لذلك صدق السقوط عرفا في مثل ذلك بلا إشكال أصلا في الموارد
العرفية كما لا يخفى على من لاحظها.
التنبيه الثاني: قد عرفت أن موضوع الكلام في الأصل العملي ما إذا لم
يكن لدليل الجزئية اطلاق ولم يكن لدليل المأمور به اطلاق، بل كان كلا الدليلين
303

مجملين.
ولا يخفى انه مع تمامية قاعدة الميسور لا مجال للأصل العملي المتقدم.
وهذا لا اشكال فيه.
انما الاشكال فيما إذا كان لدليل الجزئية اطلاق يقتضي ثبوتها في حالتي
التمكن والتعذر، نظير قوله: " لا صلاة الا بفاتحة الكتاب "، فهل يتأتى في مثله
الالتزام بقاعدة الميسور أو لا؟.
ومنشأ الاشكال هو وجود التنافي بين دليل الجزئية والقاعدة، لان مقتضى
دليل الجزئية المطلقة هو سقوط الامر عند التعذر، ومقتضى القاعدة ثبوت الامر
بالباقي عند التعذر.
وقد يتخيل حكومة القاعدة على دليل الجزئية. ببيان: ان القاعدة ناظرة
إلى دليل الجزئية وتفيد تقييدها بحال التمكن، فتكون حاكمة على أدلة الجزئية
ومقدمة عليها. ولكن هذا ممنوع (1)، فان تفرع قاعدة الميسور على ثبوت الامر
بالمركب ذي الاجزاء مسلم لا يقبل الانكار.
وهذا لا يلازم سوى انها متفرعة عن الدليل الدال على الامر بالمركب
في الجملة، فتفيد عدم سقوطه بتعذر بعض اجزائه، فهي حاكمة عليه.
لكن دليل الجزئية المطلقة - مثل لا صلاة إلا بطهور - أيضا حاكم على
دليل الامر بالصلاة، ويفيد سقوطه بتعذر الطهور، ولا حكومة لقاعدة الميسور
عليه لعدم تعرضها بمدلولها إليه وعدم تفرعها عليه، بل هما متعارضان بلحاظ
المدلول الالتزامي لكل منهما ومنافاته للمدلول المطابقي للاخر، فدليل الجزئية
يثبت الجزئية المطلقة ولازمه سقوط الامر بالمركب عند تعذره. وقاعدة الميسور

(1) ذكر السيد الأستاذ دام ظله في مجلس البحث وجها آخر للمنع لكنه صار محلا للاشكال والرد والبدل،
وبعد المذاكرات المتعددة اختار هذا الوجه وإن لم يظهر منه العدول عن ذلك الوجه لكنه لا يبعد ذلك
ولأجل ذلك لم نذكره ههنا. (منه عفي عنه).
304

تثبت عدم السقوط عند التعذر ولازمه الجزئية المقيدة. بل يمكن ان يقال: انهما
متعارضان بلحاظ مدلولهما المطابقي في مثل: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو
بطهور "، إذ المدلول المطابقي لهذا الدليل هو سقوط الامر وعدم ثبوته بدون
الفاتحة وهو ينافي مدلول القاعدة رأسا.
وبالجملة: هما متعارضان بلا حكومة لأحدهما على الاخر لعدم تفرع
أحدهما عن الاخر فلاحظ ولا تغفل.
ثم إن الشيخ (رحمه الله) بعد تمامية القاعدة تعرض إلى ذكر فرعين من
فروع قاعدة الميسور (1):
الفرع الأول: ما لو دار الامر بين ترك الجزء وترك الشرط، فهل يتعين
ترك الشرط أو يتخير بينهما؟.
والذي يظهر من الشيخ فرض المورد من موارد القاعدة ولزوم الاتيان
بالباقي، وانما يدور الامر بين ترك الجزء أو ترك الشرط.
ولكن يخطر في الذهن اشكال في ذلك سواء في ذلك دوران الامر بين ترك
الجزء أو الشرط، أو دورانه بين ترك أحد جزءين.
وذلك، لان كل جزء جزء مقدور في نفسه فلا يقال إنه معسور، وما هو
المعسور - وهو الجمع بينهما - ليس متعلق الحكم الشرعي، وظاهر النص إرادة
المعسور مما كان متعلقا للحكم الشرعي، فرواية: " الميسور لا يسقط بالمعسور " لا
تشمل هذا المورد، ومثلها رواية: " إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم "، لان
كلا من الجزئين في حد نفسه متعلق الاستطاعة.
نعم، رواية: " ما لا يدرك كله لا يترك كله " تشمل هذا الفرض.
وكيف كان، فمع الغض عن هذا الاشكال الصناعي، فيرد على الشيخ

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 296 - الطبعة الأولى.
305

(رحمه الله):
أولا: ان المورد ليس من موارد التزاحم كي تلاحظ فيه الأهمية، بل من
موارد التعارض لما تقدم من أن موارد تزاحم الواجبات الضمنية خارجة عن
احكام التزاحم، بل هي من موارد التعارض. فراجع.
وثانيا: انه لو فرض ان المورد من موارد التزاحم، فالالتزام بتقديم الجزء
على الشرط بقول مطلق ليس كما ينبغي، إذ قد يكون من الشروط ما هو أهم
بنظر الشارع والعرف من بعض الاجزاء، فالكلية ممنوعة.
واما ما ذكره من التعليل العرفي من أن فوات الوصف أولى من فوات
الموصوف، فهو أجنبي عما نحن فيه، لأنه يرتبط بما إذا دار الامر بين الشرط
والمركب بتمامه، والعمل العرفي غالبا على تقديم ترك الشرط لأنه مفقود على كل
حال، وذلك نظير دوران الامر بين تحصيل دار مبنية بالاسمنت لا الطابوق وبين
عدم الدار بالمرة، فان البناء العرفي على القناعة بفاقد الشرط، وما نحن فيه
دوران الامر بين ترك الشرط وترك الجزء، نظير ما لو دار الامر بين دار من
الاسمنت ذات ست غرف ودار من الطابوق ذات خمس غرف. ولم يثبت من
العرف تقديم الأولى على الثانية. فانتبه.
الفرع الثاني: ما لو كان للكل بدل اضطراري كالتيمم في باب الوضوء،
فهل يقدم على العمل الناقص، أو يقدم الناقص عليه؟.
ذكر الشيخ في وجه الأول: ان مقتضى البدلية كونه بدلا عن التام في جميع
آثاره، فيقدم على الناقص كما يقدم التام عليه.
وذكر في وجه الثاني: ان البدل انما يجب عند تعذر التام، والناقص
بمقتضى قاعدة الميسور تام لانتفاء جزئية المفقود فيقدم على البدل.
أقول: في كلا الوجهين ما لا يخفى، فان دليل التيمم ليس فيه لعنوان
البدلية عين ولا أثر كي يتمسك باطلاقه بلحاظه في ترتيب جميع الآثار. كما أن
306

قاعدة الميسور لا تفيد ان الميسور تام كالواجد، بل غاية ما تفيد تعلق الامر به
لا غير.
فالتحقيق ان يقال: ان دليل التيمم..
تارة: يكون مفاده تشريع التيمم عند تعذر المرتبة العليا التامة للوضوء.
وأخرى: يكون مفاده تشريع التيمم عند تعذر الوضوء بجميع مراتبه
المأمور بها. وبعبارة أخرى: يفيد مشروعية التيمم عند تعذر الوضوء المشروع،
وما هو الوظيفة الفعلية للمكلف لولا التعذر.
فعلى الثاني: تكون قاعدة الميسور حاكمة على دليل التيمم، لأنها تتكفل
تشريع الوضوء وتوظيف المكلف به فعلا، فيرتفع موضوع مشروعية التيمم.
وعلى الأول: يتصادم دليل التيمم مع قاعدة الميسور، إذ دليل التيمم يثبت
مشروعية التيمم عند تعذر الوضوء التام، وقاعدة الميسور تثبت مشروعية
الوضوء الناقص، وبما أنه يعلم بعدم مشروعية الجمع بينهما، إذ الطهارة إذا
حصلت بأحدهما لا مجال لتحصيلها بالاخر يتحقق التصادم.
وعلاج التعارض هو الالتزام بالتخيير، وذلك لان منشأ التصادم هو ظهور
اطلاق الدليلين في مشروعية كل منهما بنحو التعيين، ومقتضى تعارض الاطلاقين
هو تساقطهما، فيرفع اليد عن ظهور كل من الدليلين في التعيين، وينحفظ على
ظهور كل منهما في أصل المشروعية والوجوب. ونتيجة ذلك هو التخيير بينهما.
فتدبر. هذا تمام الكلام في قاعدة الميسور بشؤونها (1).
التنبيه الثالث: في دوران الشئ بين كونه شرطا وكونه مانعا، أو دورانه
بين كونه جزء أو زيادة مبطلة. وقد تعرض صاحب الكفاية للكلام فيه هنا. وبما
أنه قد تقدم منا البحث فيه في مبحث دوران الامر بين محذورين فلا نعيد. فراجع
البحث هناك.

(1) تم البحث في يوم الخميس 13 / 6 / 91.
307

فصل: في دوران الامر بين المحذورين
في دوران الامر بين الواجب والحرام، بان كان هناك فعل واجب وفعل
حرام واشتبه أحدهما بالاخر. فهو يعلم إجمالا بوجوب أحد الفعلين، كما أنه يعلم
إجمالا بحرمة أحدهما. وفي الوقت نفسه يدور أمر كل فعل منهما بين محذورين،
فيعلم المكلف بأنه إما واجب أو حرام.
وقد ذهب الشيخ (رحمه الله) إلى لزوم الاتيان بأحدهما وترك الاخر بنحو
التخيير، لان الموافقة القطعية لاحد العلمين تستلزم المخالفة القطعية للاخر،
فيتعين الموافقة الاحتمالية لكل منهما، لأنها أولى من الموافقة القطعية لأحدهما
والمخالفة القطعية للاخر. وذكر ان منشأه ان الاحتياط لدفع الضرر المحتمل لا
يحسن بارتكاب الضرر المقطوع (1).
وقد وافق المحقق النائيني (رحمه الله) الشيخ (قدس سره) في الالتزام
بتنجيز العلم الاجمالي في المورد، لكنه خالفه في الحكم بالتخيير مطلقا، فذكر: انه
لا يخلو عن اشكال، بل لا بد من ملاحظة مرجحات باب التزاحم، فتقدم
الموافقة القطعية للأهم منهما ملاكا وان استلزم ذلك المخالفة القطعية للاخر، لان

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 298 - الطبعة الأولى.
309

المورد من صغريات باب التزاحم، وان كان يختلف التزاحم هنا عن التزاحم في
موارده المعروفة، فان التزاحم فيها يرجع إلى عدم القدرة على الجمع بين
المتعلقين، والتزاحم هنا يرجع إلى ناحية تأثير العلم الاجمالي، لان العلم الاجمالي
يقتضي تنجيز التكليف وتأثيره في لزوم القطع بامتثاله، وبما أنه لا يمكن تحصيل
القطع بالموافقة بالنسبة إلى كلا العلمين - هنا -، فلا محالة يقع التزاحم في تأثير
العلم في وجوب الموافقة القطعية، فيقدم الأقوى ملاكا بلحاظ متعلقه ويسقط
الاخر عن التأثير. والنوبة إلى التخيير الذي ذكره لا تصل إلا عند فرض عدم
الأهمية لاحد الحكمين على الاخر (1).
أقول: لا بد من البحث في جهات:
الجهة الأولى: في الفرق بين هذا المقام وبين مورد دوران الامر بين
محذورين في الوقائع المتعددة.
بيان ذلك: انه قد تقدم (2) في دوران الامر بين محذورين البحث في التخيير
البدوي أو الاستمراري مع تعدد الواقعة، وقد مر هناك انه كما يوجد علم إجمالي
بحرمة أو وجوب كل من الواقعتين كذلك يوجد علم إجمالي بحرمة هذه الواقعة
أو وجوب تلك الواقعة، وعلم إجمالي بوجوب هذه الواقعة أو حرمة تلك الواقعة،
وهذان العلمان الاجماليان المنعقدان بلحاظ تعدد الواقعة مما لا يمكن موافقتهما
القطعية معا، بل الموافقة القطعية لأحدهما مستلزمة للمخالفة القطعية للاخر،
ولأجل ذلك يدور الامر بين ترجيح أحد العلمين أو الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية
لكل منهما ونتيجته التخيير البدوي.
ولا يخفى ان هذا المقام يشابه ما نحن فيه - أعني: دوران الامر بين

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 263 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) راجع 5 / 32 من هذا الكتاب.
310

الواجب والحرام - من حيث تعدد العلم الاجمالي وعدم التمكن من الموافقة
القطعية لكل منهما.
والمحقق النائيني (رحمه الله) في ذلك اختار التخيير الاستمراري، لاجل
عدم منجزية العلم الاجمالي، فلا مانع من المخالفة القطعية (1). وههنا التزم
بمنجزية العلم وان اختلفت مع الشيخ في تقديم الأهم.
فلا بد من معرفة جهة الفرق وانها صالحة للتفريق بين المقامين أو لا؟.
وقد أفاد المحقق النائيني في مقام بيان عدم تنجيز العلم الاجمالي في
الوقائع المتعددة لدوران الامر بين محذورين ما يمكن ارجاعه إلى ما أوضحه
المحقق الأصفهاني - في ذلك المبحث - من: ان العلم لا ينجز سوى طرفه مع
القدرة على امتثاله. ومن الواضح ان لدينا تكاليف متعددة بتعدد الوقائع، فهناك
علوم متعددة في الوقائع المتعددة، وكل علم لا ينجز سوى طرفه، والمفروض ان
كل علم بلحاظ كل واقعة غير منجز لدورانه بين محذورين، وانضمام العلوم
المتعددة بعضها إلى بعض لا يوجب علما آخر بتكليف آخر. نعم ينتزع من انضمام
الوقائع تكليف انتزاعي يتصور فيه المخالفة القطعية، فليس هناك تكليف مجعول
غير التكليف في كل واقعة المفروض عدم تنجزه (2).
وبالجملة: العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الواقعتين ناشئ من العلم
الاجمالي الموجود في كل واقعة بحيالها، وهو غير منجز على الفرض. فلا يكون
العلم الاجمالي بالتكليف المردد منجزا، لأنه ليس تكليفا آخر وراء التكليف
الموجود في كل واقعة.
وهذا البيان لا يتأتى ههنا، إذ العلم الاجمالي متعلق أولا بوجوب أحد

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 453 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 236 - الطبعة الأولى.
311

الامرين وبحرمة أحدهما. وكل منهما قابل للتنجيز في نفسه، ويتصور فيه المخالفة
القطعية. والعلم الاجمالي بدوران كل فعل بين الوجوب والحرمة لا أثر له لأنه
ناشئ من انضمام العلمين المزبورين أحدهما إلى الاخر، فلا يضر بتنجيزهما.
فحاصل الفرق بين الموردين: ان العلم الاجمالي المردد بين الواقعتين -
هناك - متفرع على العلم الاجمالي بالوجوب أو الحرمة في كل واقعة المفروض
عدم تنجيزه.
وههنا الامر بالعكس، فان العلم بوجوب أو حرمة كل من الفعلين من
فروع العلم الاجمالي المردد بين الواقعتين والفعلين، وقد عرفت قابليته للتنجيز
في نفسه.
هذا غاية ما يمكن أن يوجه به الفرق بين الموردين. لكنك عرفت فيما
تقدم الاشكال فيما أفاده المحقق الأصفهاني. وان عدم تنجيز التكليف بالعلم
الاجمالي بلحاظ كل واقعة بحيالها لا ينافي حدوث علم اجمالي حقيقي آخر يستلزم
تنجيز التكليف بلحاظ تعدد الواقعة، فراجع ما ذكرناه هناك، ولولا ذلك لتأتي
نفس البيان ههنا، فان كل فعل في نفسه واقعة لها تكليفها الخاص، والعلم
الاجمالي بلحاظه غير منجز، لان الامر يدور بين محذورين، وضم أحد الفعلين إلى
الاخر وان استلزم حدوث علم إجمالي آخر، لكنه لا ينفع في التنجيز بعد أن كان
التكليف في كل واقعة بحيالها غير منجز.
وبالجملة: ظهر مما ذكرنا أنه لا فرق في التنجيز بين المقامين، وان الالتزام
به ههنا وعدم الالتزام به هناك بلا موجب.
ثم إنه قد جاء في تقريرات المرحوم الكاظمي في مقام بيان عدم منجزية
العلم الاجمالي في دوران الامر بين محذورين مع تعدد الواقعة التعبير: بتفرع
وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية عقلا عن تنجز التكليف
312

عقلا (1).
وهذا لا يخلو من مسامحة، إذ الامر بالعكس، فان الحكم بالمنجزية يرجع
إلى الحكم باستحقاق العقاب على المخالفة، وهذا متفرع عن الحكم عقلا بقبح
المخالفة القطعية ولزوم الموافقة القطعية، ويتضح ذلك بمراجعة أول مباحث
القطع. فراجع تعرف والأمر سهل.
الجهة الثانية: قد عرفت عدم الفرق بين محل الكلام وبين دوران الامر
بين محذورين مع تعدد الواقعة من حيث تنجز العلم الاجمالي، لكن هناك فرقا
من جهة أخرى وهي: عدم تأتي التقييد الذي ذكره المحقق النائيني في محل
الكلام - عدم تأتيه - في ذلك المورد، وهو ما أفاده (قدس سره) من: انه إذا كان
أحد التكليفين المعلومين بالاجمال ههنا أهم من الاخر لزم موافقته القطعية ولو
استلزم ذلك المخالفة القطعية للاخر (2).
فان هذا المعنى لا يتأتى - صغرويا - في مورد دوران الامر بين محذورين.
وذلك لعدم تصور أهمية متعلق أحد العلمين من الاخر، إذ ما هو متعلق كل علم
من التكليف المردد بين وجوب إحدى الواقعتين وحرمة الأخرى هو نفسه متعلق
العلم الاخر مع تبديل ظرف متعلق الحكم. فالوجوب والحرمة في قولنا: " يعلم
إجمالا بحرمة الجلوس يوم الجمعة أو وجوبه يوم السبت " هما أنفسهما في قولنا:
" يعلم إجمالا بوجوب الجلوس يوم الجمعة أو حرمته يوم السبت ". وانما اختلف
ظرف المتعلق وزمانه، لأنه ليس لدينا إلا حكم واحد مردد بين الطرفين.
وعليه، فلا معنى لدعوى أهمية المتعلق في أحدهما، لكي يدعى تقدمه في
مقام التأثير.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 453 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 263 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
313

وهذا بخلاف ما نحن فيه مما كان هناك حكمان ثابتان لا يعرف متعلقهما.
فالتفت ولا تغفل.
الجهة الثالثة: في حكم دوران الامر بين الواجب والحرام على تقدير عدم
أهمية أحدهما.
وقد عرفت أن الشيخ ذهب إلى لزوم الاقتصار على الموافقة الاحتمالية في
كل منهما وعدم جواز الموافقة القطعية لأحدهما لاستلزامها المخالفة القطعية
للاخر، ولا يحسن دفع الضرر المحتمل بالوقوع في الضرر المقطوع.
وهذا التعليل بظاهره لا يخلو من خدش، إذ المراد بالضرر هو العقاب،
ومن الواضح انه بحكم العقل المتفرع على حرمة المخالفة القطعية، فإذا فرض
انه يحكم بجواز الموافقة القطعية لأحدهما وان استلزمت المخالفة القطعية للاخر،
فمقتضاه انه لا يرى حسن العقاب على المخالفة القطعية فلا ضرر أصلا.
فلا معنى لتعليل حرمة المخالفة القطعية هنا بأنه ارتكاب للضرر
المقطوع، إذ القطع بالضرر من توابع الحكم بالحرمة ومتفرعاته فالتفت ولا تغفل.
ويمكن توجيه كلامه: بان المراد من الضرر ليس هو العقاب، بل المراد
المفسدة الواقعية التي يحكم العقل بلزوم التحرز عنها، أو نحوها مما له وجود
واقعي مع قطع النظر عن التنجيز، فإذا دار الامر بين دفع الضرر المحتمل - بهذا
المعنى - أو الضرر المقطوع، قدم الثاني بنظر العقل. وبعبارة أخرى: ان كلا من
الموافقة القطعية وعدم المخالفة القطعية لازم بنظر العقل بأي ملاك كان، مع قطع
النظر عن المزاحمة. فكل من العلمين تلزم موافقته قطعا وتحرم مخالفته قطعا مع
قطع النظر عن التزاحم. إذن فهناك ملزم عقلي يستلزم حكم العقل بدفع احتمال
عدم الموافقة، ويستلزم حكم العقل لعدم المخالفة. فإذا دار الامر بينهما في مقام -
كما فيما نحن فيه - كان الترجيح لعدم المخالفة على تحصيل الموافقة، لان ما
يستلزم تحصيل الموافقة القطعية لا يستلزمها مع حصول المخالفة القطعية.
314

هذا توضيح ما أفاده الشيخ. وقد مر في مبحث دوران الامر بين محذورين
بيان رجحان دفع المخالفة القطعية على تحصيل الموافقة القطعية عند دوران الامر
بينهما، بوجهين. فراجع.
هذا تمام الكلام في مباحث قاعدتي البراءة والاشتغال ويبقى مبحث واحد
في شرائط العمل بالأصول العملية ذكره الاعلام بعنوان الخاتمة (1).

(1) كما في كفاية الأصول / 374، وفوائد الأصول 4 / 264، ومصباح الأصول 1 / 488، ونهاية الأفكار
3 / 461 القسم الثاني وفرائد الأصول / 298.
315

" خاتمة: في شرائط الأصول "
والكلام يقع في مقامات:
المقام الأول: في الاحتياط.
وقد ذكر صاحب الكفاية - تبعا لمن تقدمه وتبعه من تأخر عنه -: انه لا
يعتبر في حسن الاحتياط شئ أصلا، بل هو حسن على كل حال بلا تفاوت بين
الموارد ولا استثناء.
نعم إذا كان مستلزما لاختلال النظام لم يكن حسنا، ولعل منه الاحتياط
في باب الطهارة والنجاسة لندرة حصول العلم الجزمي بالطهارة فيما هو محل
الابتلاء من المأكول والملبوس ونحوهما (1).
ثم إنه وقع الكلام في الاحتياط في العبادات مع التمكن من العلم لا من
جهة حسنه كبرويا، بل من جهة الاشكال في تحققه صغرويا فيها. فالاشكال في
الاحتياط في العبادة صغروي لا كبروي.
وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في أواخر مباحث القطع (2).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 374 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) راجع 4 / 127 من هذا الكتاب.
317

ونتكلم الآن فيما أفاده المحقق النائيني (رحمه الله) من الاشكال في
الاحتياط، وما يدور حوله من كلام ونقض وإبرام.
فقد تعرض (قدس سره) أولا لبيان شبهة تحوم حول الاحتياط في
العبادة، وهي: شبهة لزوم قصد الوجه في العبادة، ومع الاتيان بالعبادة بعنوان
الاحتياط لا يتحقق قصد الوجه فيختل العمل، فلا بد من الفحص وتحصيل
العلم ليتحقق قصد الوجه لأنه يتوقف على العلم بوجه الامر من وجوب أو
استحباب. ودفعها:
أولا: بالقطع بعدم دخل قصد الوجه في تحقق الامتثال والطاعة، بل يكفي
مجرد العلم بالأمر وقصده بلا لزوم قصد وجهه من وجوب أو استحباب.
وثانيا: بأنه لا اثر لاعتبار قصد الوجه في الاخبار التي بأيدينا، مع أنها
من الأمور العامة البلوى، مع غفلة عموم الناس عن دخله في العبادية، وليست
من الأمور الارتكازية عند العموم كي يصح للشارع الاعتماد على ارتكاز العامة،
فلو كان معتبرا للزم تنبيه الشارع وتأكيده عليه، فحيث لم يثبت ذلك أصلا كان
ذلك دليلا على عدم اعتباره.
ثم ذكر: انه لو تنزل عن دعوى القطع بعدم اعتبار قصد الوجه، فلا أقل
من الشك فيه، فتجري أصالة البراءة فيه، لأنه مما يمكن اخذه في متعلق الامر بنحو
نتيجة التقييد، فيكون اعتباره بيد الشارع، فيصح اجراء البراءة فيه. خلافا
للشيخ حيث التزم بالاشتغال مع الشك بدعوى أنه ليس من قيود متعلق
الامر (1).
ودعوى احتمال دخل قصد الوجه في حصول الطاعة عقلا، بحيث لا
تتحقق بدونه.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 268 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
318

تندفع: بأنه ليس من وظيفة العقل اعتبار شئ في حسن الطاعة
والامتثال، بل هو وظيفة الشارع، والمرجع عند الشك فيه هو البراءة.
وبعد ان تعرض لما عرفت ذكر: انه يعتبر في حسن الاحتياط عقلا
عدم التمكن من إزالة الشبهة. بتقريب: ان مراتب الامتثال عقلا أربعة: الأولى:
الامتثال التفصيلي. الثانية: الامتثال الاجمالي. الثالثة: الامتثال الظني. الرابعة:
الامتثال الاحتمالي. وهذه المراتب مترتبة عقلا، فلا يجوز الانتقال إلى المرتبة
اللاحقة إلا بعد تعذر المرتبة السابقة.
وقد علل تقدم المرتبة الأولى: بان المعتبر في العبادة قصد الإطاعة، وهي
كون إرادة العبد تابعة لإرادة المولى وانبعاث العبد عن بعث المولى، وهذا يتوقف
على العلم بالأمر، والانبعاث عن الامر المحتمل ليس انبعاثا عن الامر حقيقة.
نعم الانبعاث عن البعث المحتمل مرتبة من العبودية ونحو من الطاعة، لكن لا
يكون حسنا إلا عند عدم التمكن من الانبعاث عن الامر المعلوم.
وذكر بعد ذلك: انه على تقدير الشك في ذلك وانتهاء الامر إلى الأصول
العملية، فالمرجع قاعدة الاشتغال لا البراءة، لان الامر يدور بين التعيين
والتخيير، والأصل يقتضي التعيين، ولا جامع بين الامتثال التفصيلي والاحتمالي
كي يجري فيه حكم الشك بين الأقل والأكثر، بل حكم الشك فيه حكم الشك
بين المتباينين.
ولأجل التزامه بتقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاحتمالي،
ذهب إلى: انه في مورد توقف الاحتياط على التكرار إذا قامت الحجة الشرعية
المعتبرة على تعيين الواجب في أحد المحتملين، فطريقة الاحتياط ان يأتي أولا بما
قامت عليه الحجة ثم يأتي بالمحتمل الاخر، ولا يجوز له العكس، لأنه مع التمكن
من الامتثال التفصيلي بواسطة الحجة لا يحسن له الامتثال الاحتمالي.
كما علله بوجه آخر، وهو: ان مؤدى دليل اعتبار الامارة هو إلغاء احتمال
319

الخلاف، والاتيان بالمحتمل الاخر أولا بداعي الامر المحتمل ينافي ذلك، لأنه
اعتناء باحتمال الخلاف. هذا ملخص ما أفاده (قدس سره) في هذا المقام (1).
ولا بد من تنقيح جهات عديدة في كلامه:
إحداها: الفرق بين الامتثال التفصيلي وقصد الوجه، حيث نفى دخالة
العقل في الحكم باعتبار قصد الوجه في الطاعة وانه من وظائف الشارع، مع
التزامه بحكم العقل باعتبار الامتثال التفصيلي في الطاعة، لأنه إذا فرض ان
تشخيص ما يعتبر في الطاعة بيد الشارع فكيف انعكس الامر في الامتثال
التفصيلي؟!.
الثانية: حكمه بالاشتغال مع وصول النوبة للشك في اعتبار الامتثال
التفصيلي لاجل دوران الامر بين التعيين والتخيير، إذ قد يورد عليه: بان الجامع
بين الامتثال التفصيلي والاحتمالي موجود وهو طبيعي الامتثال، والشك في
خصوصية زائدة، فالمرجع هو البراءة.
الثالثة: ما ذكره من لزوم تقديم المحتمل الذي قامت عليه الحجة
الشرعية على المحتمل الاخر وعدم جواز العكس، فإنه فيه شبهة، بل المقرر
نفسه توقف فيه.
وتحقيق الكلام في ذلك يقتضي أولا بيان مراد المحقق النائيني ودليله، فان
ما جاء في التقريرات في مقام بيان مراده أشبه بالدعوى المصادرة التي لم يذكر
لها دليل، ولعل كثيرا من الايرادات عليه ناشئ من عدم تشخيص مراده كما
سيتضح إن شاء الله تعالى.
فنقول: قد تكرر في الكلمات أخذ داعي الامر في العبادة، وانه يعتبر فيها
الاتيان بها بداعي الامر. وهذا التعبير لا يخلو عن مسامحة، وذلك لان الداعي

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 269 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
320

هو ما يترتب على الشئ بحيث يكون بوجوده الخارجي معلولا للشئ،
وبوجوده التصوري علة وسابقا على الشئ.
ومن الواضح ان الامر ليس مما يترتب على العمل، بل هو سابق بوجوده
على العمل، ويكون سببا للتحرك نحو متعلقه. فالذي يراد من ذلك ليس هذا
المعنى، بل المراد دخل قصد الإطاعة في العبادية، بمعنى انه يعتبر ان يؤتى
بالعمل بداعي إطاعة الامر وموافقته، فإنها مما تترتب على العمل. ولا يخفى
عليك ان الطاعة عبارة عن موافقة إرادة المكلف لإرادة المولى والتحرك
بتحريكه، كما يقال هذا طوع ارادته بمعنى ارتباط ارادته بإرادته وطواعيته له.
وقصد الطاعة بهذا المعنى مما يتوقف على العلم بالأمر، فإنه في فرض
العلم يمكن صدور العمل بداعي الموافقة والمطاوعة لإرادة المولى، أما مع عدم
العلم بالأمر ومجرد الاحتمال، فلا يمكن ان يصدر العمل بداعي الإطاعة، لان
الامر غير معلوم فكيف يقصد تحقق اطاعته؟، إذ هو لا يعلم بتحقق موضوعها.
وقصد احتمال الامر غير معقول كقصد الامر، لأنه سابق في الوجود على
نفس العمل. نعم هو يقصد الموافقة احتمالا، نظير سائر موارد الدواعي العقلائية
غير المقطوع حصولها كشرب الدواء للاستشفاء، وفتح الدكان للربح. ومرجع
القصد في مثل ذلك إلى قصد الاتيان بما يكون معرضا لحصول الغاية.
وبالجملة: المقصود في مورد احتمال الامر ليس هو الطاعة، بل التعرض
للطاعة والتهيؤ لها بالعمل. فإذا فرض اعتبار الطاعة لم يصح الاتيان مع
الاحتمال عند التمكن من العلم وتحصيل الشرط. نعم مع عدم التمكن من العلم،
يكتفى بقصد الموافقة احتمالا لاجل قيام الاجماع والتسالم - بل النص (1) - على
تحقق العبادة بالقصد الاحتمالي، وإن لم ينطبق عليه عنوان الطاعة.

(1) كإخبار من بلغ وسائل الشيعة 1 / 59. باب: 18.
321

هذا غاية ما يمكن ان يقرب به مختار المحقق النائيني، وبه يتضح الفرق
بين اعتبار الامتثال التفصيلي واعتبار قصد الوجه.
فان اعتبار قصد الوجه - على تقديره - ليس لاجل تقوم مفهوم الطاعة
به، وانما هو خصوصية زائدة تعتبر في المأمور به، وقد ثبت جزما عدم اعتبارها -
كما تقدم -.
أما الامتثال التفصيلي، فاعتباره من جهة تقوم مفهوم الإطاعة به،
والمفروض اعتبار الإطاعة في العبادة بلا كلام.
كما أنه ليس من جهة دخله في حسن الطاعة، كي يرد عليه ما أورده على
قصد الوجه من عدم دخل العقل في ذلك، بل من جهة دخله في أصل تحققها،
وهو أمر عقلي.
كما ظهر الوجه في اختيار اجراء الاشتغال لو وصلت النوبة إلى مرحلة
الشك. وذلك إما من جهة ان الشك يرجع إلى تحقق الإطاعة المعتبرة في العبادة
بغير الامتثال التفصيلي، فيكون من الشك في المحصل، وهو مجرى الاشتغال.
واما من جهة ما أفاده (قدس سره) من أن الشك يرجع إلى الشك في التعيين
والتخيير لعدم الجامع بين الامتثال التفصيلي وغيره، إذ عرفت بالبيان السابق ان
الامتثال الاحتمالي ليس من مصاديق الإطاعة، فاعتباره لو فرض يكون في
عرض اعتبار الامتثال التفصيلي، فيدور الامر عند الشك بين تعيين الامتثال
التفصيلي وعند التخيير بينه وبين غيره. والأصل في مثل ذلك يقتضي التعيين.
وبذلك يختلف عن قصد الوجه، إذ الشك فيه يرجع إلى الشك في اعتبار
خصوصية زائدة في المأمور به وهو مجرى البراءة - على مختاره -.
وأما تعبيره (قدس سره): بان الامتثال الاحتمالي مرتبة من مراتب
الإطاعة، فلا يريد به انه إطاعة حقيقة، بل مسامحة، نظير قول القائل: " النصف
الأكبر للشئ " مع أن أحد النصفين لا يمكن أن يكون أكبر من النصف الاخر،
322

فهو يريد انه يكتفي به في مقام العبادية عند تعذر الامتثال التفصيلي.
وعلى هذا فلا يصلح قوله المزبور سندا للاشكال عليه: بان المورد ليس
من موارد الشك في التعيين والتخيير، لوجود الجامع بين الامتثالين كما صرح به
(قدس سره)، نظير سائر الطبائع التي تصدق على أفرادها بالتشكيك. فالتفت
ولا تغفل.
هذا غاية توضيح ما اختاره المحقق النائيني (رحمه الله) بنحو يدفع عنه
كثير من الايرادات الناشئة من عدم تشخيص مراده.
وقد يورد عليه بوجوه:
الأول: ان أساس ما أفاده هو اعتبار قصد الإطاعة في العبادة، وهو مما
لا دليل عليه ولا ملزم به، بل الامر المعتبر في العبادة هو الاتيان بالعمل المأمور
به بقصد القربة، وهو يتحقق بالامتثال الاحتمالي لأنه انقياد فيتحقق به التقرب.
وفيه: ان قصد التقرب أو القربة لا يصلح أن يكون مأخوذا في العبادة،
لان التقرب لا يمكن أن يكون داعيا إلى نفس العمل، لأنه لا يترتب على ذات
العمل، لان ذات العمل لا يكون مقربا كي يؤتى به بداعي القربة، بل المقرب
هو العمل المأتي به بداعي الموافقة ونحوها من الدواعي الموجبة للقرب. فقصد
القربة يكون داعيا للداعي لا انه داع لنفس العمل.
نعم لو أريد من قصد القربة الداعي الموجب للقربة، فيلتزم بان المعتبر
في العبادة الاتيان بها بداع مقرب، بمعنى انه يتحقق بسببه التقرب، لا أن
الداعي نفس التقرب.
لو التزم بذلك لم يرد عليه ما تقدم. لكن هذا مما لا يلتزم به المخالفون
للمحقق النائيني (رحمه الله)، لان مقتضاه ان المرجع عند الشك في تحقق القربة
بشئ هو الاشتغال، لان الشك في المحصل، كما لو شك في أن الامتثال الاحتمالي
موجب للقربة أولا؟. مع أن بناءهم على اجراء البراءة في مثل ذلك مما يكشف
323

عن عدم أخذهم الداعي المقرب في المأمور به.
الثاني: ان أساس ما أفاده (قدس سره) على اعتبار قصد الطاعة بنحو
الداعي في العبادة، وهو مما لا ملزم به، لعدم تقوم مفهوم الإطاعة بذلك، بل
الإطاعة تتحقق بالاتيان بالمأمور به عن قصد واختيار. وهو كما يتحقق مع العلم
بالأمر كذلك يتحقق مع احتماله والاتيان بالعمل الموافق على تقدير ثبوت الامر.
فإنه مع احتمال تحقق المسبب عند حصول السبب إذا التفت الفاعل إلى
هذه الجهة وصدر منه السبب يكون وقوع المسبب اختياريا، نظير ما إذا رمى
زيدا بسهم وهو يحتمل انه يصيبه، فان اصابته تكون قصدية - على تقدير تحققها -
ويترتب عليها آثار العمل الاختياري.
ففيما نحن فيه مع احتمال ترتب الموافقة على العمل لاجل احتمال الامر،
إذا جاء المكلف بالعمل قاصدا للموافقة على تقدير الامر، فصادف تحقق الامر،
كانت الموافقة اختيارية فيتحقق ما هو المعتبر في المأمور به - وهو الإطاعة -
اختيارا.
وفيه: انه ليس المعتبر تحقق الإطاعة عن قصد واختيار فقط، بل المعتبر
تحقق الإطاعة بنحو تكون داعيا للعمل ليتحقق التقرب، لوضوح بطلان العمل
مع الموافقة الاختيارية بداع دنيوي كالرياء مثلا، وهو ثابت بالضرورة. فيكشف
عن اعتبار الإطاعة بنحو الداعي.
وقد عرفت عدم صلاحيتها للدعوة إلا في مورد العلم بالأمر.
الثالث: ما أفاده المحقق الأصفهاني (رحمه الله) من أن الاتيان بالعمل
بداعي الامر المحتمل يوجب التقرب، لأنه انقياد، بل حسنه أكثر من حسن
الانقياد للامر المعلوم. بنظر العرف والعقلاء (1).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 305 - الطبعة الأولى.
324

وفيه:
أولا: ما سبق تحقيقه من أن الانقياد وان كان حسنا، لكنه ليس من
العناوين المنطبقة على الفعل بحيث توجب صيرورة الفعل حسنا، بل حسنه
وتحقق التقرب به من جهة كشفه عن الحسن الفاعلي، فهو نظير التجري الذي
يلتزم بأنه لا يسرى قبحه إلى الفعل لأنه ليس من عناوينه، بل هو قبيح من
جهة القبح الفاعلي، وهو كون الشخص بصدد الطغيان وهتك المولى. فما أفاده
من حسن الانقياد، بل أهميته من الإطاعة، أمر مسلم لكن لم يثبت انه لاجل
خصوصية في الفعل، بل انما هو لخصوصية في الفاعل.
وثانيا: انه إذا فرض كون الإطاعة معتبرة في العبادة، وعرفت ان الاتيان
بالفعل بداعي الامر المحتمل لا يمكن ان يؤتى به بقصد الإطاعة، لم ينفع فرض
الفعل بالانقياد حسنا، إذ التوقف فيه ليس من جهة حسنه، بل من جهة فقدانه
لما يعتبر في المأمور به. وإجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل.
الرابع: ما ذكره المحقق الأصفهاني (رحمه الله) أيضا من أن القائل نفسه
قد اعترف بحسن الانقياد والإطاعة الاحتمالية. غاية الامر انه قيد ذلك بصورة
عدم التمكن من الإطاعة التفصيلية. ومن الواضح ان الشئ إذا كان حسنا
بذاته لا يمكن ان يزول حسنه إلا بعروض عنوان قبيح عليه. كالضرر في
الصدق الذي يكون في نفسه حسنا ومقتضيا للحسن.
ومن الواضح انه ليس التمكن من الامتثال التفصيلي من العناوين
الموجبة للقبح كي تستلزم زوال حسن الانقياد، فيكون الانقياد حسنا في كلتا
الصورتين. هذا ما أفاده (قدس سره) بتلخيص (1).
وفيه: انه مع الغض عما سنذكره في مناقشة المحقق النائيني (رحمه الله)،

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 304 - الطبعة الأولى.
325

يمكن التقضي عن هذا الاشكال بدعوى دخالة عدم التمكن من الإطاعة
التفصيلية في حسن الإطاعة الاحتمالية، لا ان التمكن مانع، بل يكون اقتضاؤها
للحسن قاصرا في صورة التمكن بان نقول: انه في موارد استلزام الاحتياط
للتكرار، بما أن كل عمل لا يمكن ان يصدر بداعي الموافقة لعدم العلم بترتبها
عليه، فلا محالة يصدر عن داعيين أحدهما دنيوي والاخر إلهي - كما أوضحناه
سابقا في مبحث القطع، ونشير إليه عن قريب في مناقشة النائيني - فيحصل
التشريك في الداعي. ومن الواضح ان التشريك لا يحسن من التمكن من
انحصار داعي العمل بداع إلهي كما في مورد العلم بالأمر.
نعم مع عدم التمكن تحسن الإطاعة الاحتمالية ولو كان لها شريك في مقام
الداعوية. لأنها أولى من ترك الإطاعة بالمرة، وقد قامت الضرورة الفقهية
والاجماع على الاكتفاء بها. فتدبر جيدا.
الخامس: ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره) - وتبعه عليه السيد
الحكيم (رحمه الله) في المستمسك (1) - من أن الفعل في مورد الاحتمال يؤتى به
بداعي امتثال الامر المحتمل، فالمقصود هو امتثال الامر في كلتا صورتي العلم
والاحتمال، وليس الداعي هو احتمال الامر ونحوه (2).
وأنت خبير: بأنه عند احتمال الامر يمتنع قصد الإطاعة لعدم العلم
بتحققها، كما بيناه في توضيح مراد النائيني (رحمه الله)، وعرفت ان المأخوذ في
المأمور به هو الإطاعة. فانتبه.
ونتيجة ما تقدم: أن ما وجه على المحقق النائيني بعد بيان كلامه بما عرفت
غير وارد عليه.

(1) الحكيم الفقيه السيد محسن. مستمسك العروة الوثقى 1 / 8 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 463 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
326

والعمدة في الايراد عليه أن يقال: ان المعتبر في العبادة أمران: أحدهما
الإطاعة والاخر الاتيان بها بنحو عبادي من طريق قصد الإطاعة. وكلاهما
متحقق في مورد الاحتمال، وذلك بالاتيان بالعمل بداعي الموافقة على تقدير تعلق
الامر به.
وتوضيح ذلك: ان كلا من العملين المحتمل تعلق الامر به في مورد العلم
الاجمالي يترتب عليه عنوان الموافقة على تقدير، لان هذا المعنى - أعني: الموافقة
على تقدير الامر - ذو ثبوت حقيقي واقعي، نظير الحكم التعليقي الثابت على
تقدير المعلق عليه، كالحرمة المعلقة على الغليان، فإنها حكم على تقدير ولها نحو
ثبوت، ولذا تكون مجرى الاستصحاب وغيره من الآثار.
ويمكن ان نعبر عن ذلك بالملازمة بين المعلق والمعلق عليه. فالفعل الذي
يحتمل تعلق الامر به يترتب على اتيانه - والموافقة على تقدير الامر -. وبتعبير
آخر: الملازمة بين الموافقة والامر. وهذا مما لا تحقق له قبل العمل، إذ بدون العمل
لا يترتب هذا المعنى، فلا يحكم بتحقق الموافقة على تقدير الامر.
وإذا فرض ترتب هذا العنوان عليه صح الاتيان به بداعي حصول هذا
العنوان، وترتبه عليه متيقن لا شك فيه. وانما المشكوك هو الموافقة الواقعية
الخارجية التنجيزية، وهي غير مقصودة بنحو الداعي، بل الداعي هو الموافقة
التقديرية، والاتيان بالعمل بداعي الموافقة على تقدير الامر موجب للتقرب
والعبادية، فإذا صادف الفعل الواقع وكان متعلقا للامر واقعا، تحققت الإطاعة
والموافقة الواقعية. فيتحقق كلام الامرين المعتبرين في العبادة، فلا اخلال بقصد
الإطاعة المعتبر في العبادة بهذا البيان.
وبهذا البيان يندفع ما تقدم منا في مباحث القطع في مقام المنع عن الامتثال
الاحتمالي المقتضي للتكرار من: ان كلا من العملين بما أنه لا يعلم بتعلق الامر
به، فالجمع بينهما لا بد ان ينشأ من داعيين أحدهما موافقة الامر والاخر داع
327

دنيوي، كالتخلص من التعب في تحصيل العلم. ونسبة كلا الداعيين إلى كل من
الفعلين على حد سواء، ولا يتعين الداعي الإلهي لما هو الموافق للامر واقعا.
فيكون كل من الفعلين صادرا عن داعيين فيتحقق التشريك في الداعي، ويبطل
العمل.
وجه الاندفاع: ان الملتزم به ليس هو صدور الفعل عن داعي الموافقة
الواقعية كي يمتنع ان تكون داعيا إلا بنحو التشريك، بل هو صدوره بداعي
الموافقة على تقدير، وهي كما عرفت مما تترتب على كل من العملين جزما، فلا
تشريك في الداعي.
كما اتضح أيضا اندفاع ما أوردناه سابقا على دعوى امكان الاتيان
بالعمل بداعي موافقة الامر على تقدير ثبوته، فعلى تقدير ثبوت الامر يكون قد
أتى بالعمل بداعي الموافقة، لان حصول المقدر عليه يقتضي حصول المقدر. فقد
أوردنا عليه: ان الإرادة التنجيزية يمتنع ان تصدر عن مجرد الموافقة على تقدير
الامر، إذ من المحتمل أن لا يحصل التقدير، والحال ان الإرادة حاصلة، فلا بد
ان تتحقق بلحاظ كلا تقديري الفعل، والداعي يختلف باختلاف التقديرين،
فيصدر الفعل عن داعيين، فيلزم التشريك في الداعي.
ووجه اندفاعه بما ذكرناه هنا: ان الداعي ليس هو الموافقة الواقعية
التنجيزية كي يقال إنها لا تحقق لها إلا على تقدير دون آخر، بل الداعي هو
الموافقة على تقدير بهذا العنوان - وبمفاد الحكم التعليقي -، وهذه مما تترتب على
العمل جزما بلا تردد. فتدبر والتفت.
هذا تمام الكلام في العمل بالاحتياط. وقد ظهر انه حسن عقلا وشرعا،
ولا يعتبر في حسنه شئ سوى عدم اختلال النظام.
328

المقام الثاني: في العمل بالبراءة.
وقد قيل: انه يعتبر في اجرائها الفحص.
والكلام تارة في اجراء البراءة في الشبهة الموضوعية وأخرى في اجرائها
في الشبهة الحكمية.
أما البراءة في الشبهة الموضوعية: فقد قيل بعدم اعتبار الفحص في
اجرائها بل يجوز اجراؤها بدون فحص.
وتحقيق ذلك يستدعي الكلام في جهتين:
الأولى: في البراءة العقلية بملاك قبح العقاب بلا بيان.
الثانية: في البراءة الشرعية.
أما البراءة العقلية: فالكلام في اعتبار الفحص في جريانها يتفرع عن
أصل الالتزام بجريانها في الشبهة الموضوعية، إذ قد تقدم بيان شبهة عدم جريان
قبح العقاب بلا بيان في الشبهة الموضوعية، وقد تقدم منا دفع تلك الشبهة تبعا
للمحقق النائيني (رحمه الله).
ولكن في النفس منه شئ، فلا بد من تحقيق ذلك قبل تحقيق اعتبار
الفحص وعدمه.
فقول: انه قد عرفت سابقا الاشكال في أصل قاعدة قبح العقاب بلا
بيان، بل انكار القاعدة بقول مطلق.
وعلى تقدير الالتزام بتمامية هذه القاعدة يقع الاشكال في جريانها في
موارد الشبهة الموضوعية، ولوضوح الاشكال في ذلك لا بد من الإشارة إلى
محتملات مفاد العمومات بلحاظ افراد الموضوع. بيان ذلك: ان العام الذي
يتكفل اثبات الحكم على الموضوع العام نظير: " اكرام كل عالم ".
تارة: يلتزم بان حجيته في مدلوله منوطة بوجود الموضوع، فكل فرد يوجد
من افراد الموضوع يكون العام حجة في ثبوت الحكم له عند وجوده، وعلى هذا
329

الاحتمال تكون أصالة العموم منحلة إلى حجج متعددة تدريجية بعدد ما يوجد من
افراد الموضوع تدريجا.
والى هذا الاحتمال يشير التعبير المألوف عند وجود أحد افراد الموضوع
وتكونه، بأنه صار الآن مشمولا للعام وان العام شمله فعلا.
وأخرى: يلتزم بان حجيته في مدلوله فعلية لا تناط بوجود الموضوع، بل
قد يكون حجة ولا موضوع له أصلا، وانما يكون وجود الموضوع منشئا لحصول
الأثر العملي بانضمامه إلى العموم.
وهذا الاحتمال هو الصحيح، ويساعد عليه الارتكاز والسيرة على الالتزام
بتخصيص العام وحجيته في الباقي ونحو ذلك، والالتزام بالاحتمال الأول يستلزم
الالتزام بطريقة جديدة في احكام العموم والخصوص وتأسيس أسلوب جديد في
ذلك.
والالتزام بالاحتمال الثاني..
تارة: بدعوى أن مفاد العموم ليس إلا الملازمة بين الحكم والموضوع،
فمفاده قضية شرطية، وهي كما قيل لا يتوقف صدقها على صدق طرفيها، فهو
حجة في الملازمة ولو لم يكن موضوع. نعم إذا وجد الموضوع يتحقق الأثر العملي
لثبوت الحكم بثبوته.
وأخرى: بدعوى أن مفاده الحكم على تقدير الموضوع، وهو...
تارة: يراد به انشاء الحكم على تقدير فعلا، بحيث يكون له وجود فعلي
من حين الانشاء، لكن الموجود فعلا هو الحصة الخاصة من الوجوب، وهي
الوجوب على تقدير، إذ الوجوب مفهوم عام يقبل التقييد وينشأ المفهوم المقيد
خاصة، فيكون للحكم وجود فعلي قبل وجود موضوعه، نعم وجود موضوعه.
يكون منشئا للآثار العملية من الداعوية أو وجوب الإطاعة. ولعل هذا يستفاد
من كلمات المحقق العراقي الذي يلتزم بان ظرف فعلية الحكم ظرف الانشاء
330

والجعل نفسه، وانما وجود الموضوع ظرف فاعلية الحكم (1).
وأخرى: يراد به انشاء الحكم الفعلي في ظرف وجود الموضوع، فلا يكون
الحكم فعليا، إلا عند وجود الموضوع، والعام يكون حجة فيه من الأول وقبل
وجود الموضوع. فيلاحظ ثبوت الحكم عند حصول الموضوع وينشأ بواسطة
العموم فيكون حجة في الحكم من حينه.
فظهر ان محتملات العام أربعة.
إذا عرفت ذلك. فاعلم: انه بناء على الاحتمال الأول يكون إجراء
قاعدة قبح العقاب بلا بيان في مورد الشبهة الموضوعية واضحا، لأنه مع الشك
في الموضوع يشك في قيام الحجة على الحكم في مورده، لان المفروض ان الحجية
منوطة بوجود الموضوع، ولا يكون العام حجة في الحكم إلا عند وجود الموضوع،
فمع الشك في تحقق الموضوع يشك في ثبوت الحجة على الحكم فيه، والشك في
الحجية مستلزم للقطع بعدمها - كما قيل -. إذن فلا حجة على الحكم في مورد
الشك في الموضوع، فيتحقق موضوع القاعدة وتثبت البراءة العقلية.
وهكذا الحال بناء على الاحتمال الثاني - وهو كون العام متكفلا لبيان
الملازمة بين الحكم والموضوع لا أكثر، من دون تعرض لثبوت الحكم ولا لثبوت
الموضوع -، وذلك لان العام لا يكون حجة على الحكم عند وجود الموضوع، بل
هو حجة على الملازمة لا أكثر، وبواسطة العلم بالملازمة يتحقق العلم بالحكم عند
حصول الموضوع، فالحجة على الحكم هو العلم به بواسطة العلم بالملازمة. ومع
الشك في الموضوع لا علم بالحكم، فلا حجة عليه، فيكون المورد من موارد عدم
البيان.
وأما على الاحتمالين الآخرين، فيمتنع جريان القاعدة، وذلك لان

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 69 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
331

المفروض ان العام حجة على الحكم الشرعي مع قطع النظر عن وجود الموضوع،
ووجود الموضوع انما هو دخيل في ترتب الأثر العملي. فمع العلم بالموضوع
يكون الحجة على الحكم هو نفس العموم من الأول.
وعليه، فمع الشك في وجود الموضوع لا يشك في قيام الحجة على الحكم
كي يكون مستلزما للقطع بعدمها فيتحقق موضوع البراءة العقلية - كما هو الحال
على الاحتمالين الأولين -، بل يشك في انطباق ما قامت عليه الحجة على المورد،
ومثل ذلك لا يكون موردا للبراءة العقلية، بل هو مورد للاشتغال تحصيلا للعلم
بالفراغ عما قامت عليه الحجة، نظير مورد العلم الاجمالي، فان كل طرف من
أطرافه مما يشك في كونه مما قامت عليه الحجة وهو العلم. ولذا لا يكون مجرى
للبراءة عقلا. فلاحظ وتدبر.
والى روح هذا الاشكال أشار المقرر الكاظمي (رحمه الله) - وإن كنا لا
نجزم بأنه ملتفت إلى خصوصيته الدقيقة -، فقد ذكر في تقريب الاشكال على
البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية: بأنه ليس الشك في قيام الحجة كبرويا. بل
الشك في صغرى ما قامت عليه الحجة إلى الشك في الانطباق.
ولكنه أجاب عنه بما لا يخلو عن خدش، فإنه ذكر في مقام الجواب: ان
الحجية تتقوم بأمرين: العلم بالكبرى والعلم بالصغرى. وذلك لان الحكم القابل
للتنجيز هو الحكم الفعلي، وهو متقوم بأمرين أصل الجعل ووجود الموضوع
خارجا، فبدون العلم بوجود الموضوع لا يعلم بالحكم الفعلي فلا حجة عليه. وقد
تقدم منا بيان كلامه بنحو التفصيل.
وأنت خبير: بان ما أفاده لا يدفع به الاشكال، إذ المستشكل لا يختلف
معه في أن الحكم القابل للتنجيز هو الحكم الفعلي دون غيره، وان الحكم الفعلي
منوط بوجود الموضوع - كما هو الاحتمال الرابع -، لكنه يرى ان الحجة على
الحكم الفعلي في ظرفه هو نفس العموم بلا ضميمة شئ آخر، فكان ينبغي في
332

مقام الرد أن يرد بان الحجة ليس هو خصوص العموم، بل بضميمة العلم
بالموضوع، فمع عدمه لا حجة على الحكم. لا أن يرد بان موضوع الحجية هو
الحكم الفعلي، وهو منوط بوجود الموضوع. فإنه لا يدفع الاشكال بحال.
وجملة القول على هذين الاحتمالين في باب حجية العموم يكون منع
جريان القاعدة متجها، لما عرفت من أن العموم حجة في الحكم الفعلي مع قطع
النظر عن فعلية وجود الموضوع، فيكون الشك في الموضوع شكا في انطباق ما
قامت عليه الحجة لا في أصل قيام الحجة، وهو مورد قاعدة الاشتغال - كما عرفت -،
نظير كل طرف من أطراف العلم الاجمالي.
وقد عرفت أن الاحتمال الأول من الاحتمالات الأربعة غير صحيح، وان
تعارف على الألسن من التعبير ما يتلاءم معه، لأنه خلاف المرتكز. ويلحق به
الاحتمال الثاني. لان جعل الملازمة غير معقول، بل المجعول هو نفس الحكم
الشرعي، كما سيتضح في مبحث الأحكام الوضعية.
فيكون الامر دائرا بين الاحتمالين الأخيرين، وقد عرفت امتناع جريان
البراءة العقلية بناء عليهما.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: بمنع جريان البراءة العقلية في
الشبهة الموضوعية.
ومعه يرتفع موضوع البحث عن اعتبار الفحص عن جريانها وعدمه.
نعم لا بأس بالبحث عنه تنزلا، فيكون البحث عن لزوم الفحص فرض
في فرض في فرض، فانتبه.
وكيف كان، فالوجه في عدم وجوب الفحص عن قيام الحجة على
الموضوع، هو ما سبق في مبحث تأسيس الأصل في باب الحجية من: ان الشك
في الحجية يستلزم القطع بعدمها لتقوم الحجية بالوصول، فمع الشك في قيام الحجة
على كون زيد عالما - مثلا - يقطع بعدم الحجة عليه، فيتحقق موضوع البراءة
333

عقلا وهو عدم البيان، بلا توقف على الفحص.
لكن هذا الوجه لا يمكن ان يلتزم به من يرى ان الحجة إذا كانت في
معرض الوصول، كفى ذلك في حجيتها وصحة الاحتجاج بها - كما تقدم ايضاحه
في مبحث تأسيس الأصل -. وعلى هذا الأساس بنى لزوم الفحص في موارد
الشبهات الحكمية.
وذلك، لأنه لا فرق حينئذ بين الشبهات الموضوعية والحكمية. فإذا كانت
الحجة على الموضوع في معرض الوصول بحيث يظفر بها عند الفحص عنها كفى
ذلك في حجيتها.
وعليه، فمع احتمال قيام الحجة على الموضوع في مورد الشك والظفر بها
لو تفحص عنها يحتمل أن يكون المورد من موارد قيام الحجة، فلا يجزم بعدم
البيان قبل الفحص، فلا يمكنه اجراء البراءة بدون الفحص، لان الشبهة
مصداقية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وهكذا الحال لو احتمل تحصيل العلم بالموضوع بالفحص - مع جزمه
بعدم وجود حجة شرعية معتبرة أصلا -، فان العلم وان كانت حجيته بحصوله،
وليس حجة إذا كان في معرض التحقق بدون أن يحصل ويتحقق، فقبل العلم لا
حجة جزما. لكن نقول: كما أنه يكفي في الحجية كون الحجة في معرض الوصول،
كذلك يكفي في تنجيز الحكم عقلا وصحة المؤاخذة عليه كونه في معرض
الوصول، فلا يحكم العقل بقبح العقاب عند مخالفه الحكم إذا كان الحكم في
معرض الوصول أو كانت الحجة عليه في معرض الوصول.
وعليه، فمع احتمال تحصيل العلم بالموضوع والحكم، لا يقين بتحقق
موضوع القاعدة، فلا يمكن تطبيقها لان الشبهة مصداقية.
وبالجملة: فمع احتمال تحصيل العلم أو قيام الحجة لا يمكن اجراء البراءة
العقلية، بل لا بد من الفحص وإزالة هذ الاحتمال.
334

نعم من يرى ان الحجية تتقوم بالوصول وانه لا أثر لمعرضية الوصول
للحجة أو الحكم، له ان يجري البراءة العقلية قبل الفحص.
ولا يخفى عليك ان تحقيق أحد الوجهين في ذلك لا يقوم على أساس
البرهان، بل على أساس الوجدان وما يراه العاقل ويدركه إذا راجع وجدانه.
فلاحظ.
هذا كله في البراءة العقلية.
وأما البراءة الشرعية: فالذي يظهر من صاحب الكفاية انها جارية في
الشبهة الموضوعية بلا تقييد بصورة الفحص، بل تجري مع عدم الفحص
لاطلاق أدلتها بلا مخصص، بل فرض ذلك من المسلمات، كما يظهر ذلك من
قوله: " كما هو حالها في الشبهات الموضوعية " (1).
وأما الشيخ (رحمه الله)، فقد أفاد: ان الشبهة..
إن كانت تحريمية، فلا إشكال ظاهرا في عدم وجوب الفحص، ويدل
عليه اطلاق الاخبار، كقوله (ع): " كل شئ لك حلال حتى تعلم انه حرام " (2)
وغيره، مع عدم وجود ما يصلح للتقييد.
وإن كانت وجوبية، فمقتضى الأدلة عدم وجوب الفحص. لكن قد
يتراءى ان بناء العقلاء على الفحص في بعض الموارد، كما إذا أمر المولى باحضار
علماء البلد أو أطبائها.
كما أن بعض الفقهاء يظهر منه وجوب الفحص في موردين:
أحدهما: مورد الشك في تحقق الاستطاعة للحج، فإنه لا يجوز له أجراء
البراءة قبل الفحص لعدم العلم بالوجوب، بل يجب عليه المحاسبة.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 374 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) وسائل الشيعة 12 / 60 حديث: 4.
335

الاخر: مورد العلم ببلوغ الخالص من الفضة المغشوشة النصاب والشك
في مقداره، فإنه تجب التصفية للعلم بمقدار الفضة الخالصة أو الاحتياط بما
يحصل اليقين بالبراءة (1).
وقد استشكل الشيخ (رحمه الله) في وجوب الفحص في هذه الموارد، وذكر:
ان الامر أشكل في التفرقة بين الشك في بلوغ الخالص النصاب وبين العلم
ببلوغه والشك في مقداره حيث حكم بعدم لزوم الفحص في الأول ولزومه في
الثاني، مع أنهما من واد واحد، لان العلم بأصل النصاب لا ينفع بعد كون الموارد
من موارد دوران الامر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، وثبوت الانحلال فيه لا
ينكر، ولذا لا يتوقف في اجراء البراءة قبل الفحص لو دار أمر الدين بين الأقل والأكثر.
ثم إنه (قدس سره) بعد أن ذكر ذلك ذكر تفصيلا في وجوب الفحص،
ومحصله: انه إذا كان العلم بالموضوع يتوقف غالبا على الفحص بحيث يكون
إهمال الفحص واجراء البراءة مستلزما للوقوع في مخالفة التكليف كثيرا، وجب
الفحص قبل العمل بالبراءة.
وذكر: ان من موارده مثال الاستطاعة، فان العلم بالاستطاعة في أول
أزمنة حصولها يتوقف غالبا على الحساب، فيكون تركه واجراء البراءة مستلزما
لتأخير الحج عن أول أزمنة الاستطاعة بالنسبة إلى غالب الاشخاص، وهو ينافي
وجوب الفورية فيه (2).
أقول: الاستشهاد بالمثال العرفي على وجوب الفحص في الشبهة
الموضوعية لا يرتبط بما نحن فيه، لان الكلام في البراءة الشرعية لا البراءة

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 309 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 310 - الطبعة الأولى.
336

العقلية، فالمثال انما يصلح شاهدا على عدم جريان البراءة العقلية، لا ما إذا
صرح المولى نفسه بالبراءة عند الجهل، فإنه في مثل ذلك لم يعلم من حالهم لزوم
الفحص على العبد بل يتمسك باطلاق كلام المولى ويجري البراءة بلا فحص.
نعم لو أوكل المولى عبده إلى ما يراه عقله، كان هذا المثال صالحا للاستشهاد
على لزوم الفحص. فانتبه.
وأما ما أفاده من التفصيل فهو متين، والوجه فيه هو: انه في الموارد التي
يتوقف العلم بالموضوع غالبا على الفحص يكون جعل الحكم في مثل ذلك
ظاهرا بالملازمة العرفية في لزوم التفحص عن أفراد الموضوع وعدم إيكال الامر
إلى حصول العلم به من باب الاتفاق، فإنه خلاف الظاهر عرفا في مثل هذا
المورد، بل يكون جعل الحكم العام مع عدم الالزام بالفحص المستلزم للمخالفة
الكثيرة أشبه بتخصيص الأكثر من حيث الاستهجان.
لكن تطبيقه على موارد الشك في الاستطاعة فيه منع، لان الامر في باب
الاستطاعة ليس كذلك، إذ يغلب العلم بها بلا فحص ولا محاسبة، لمعرفة غالب
الكسبة - ذوي الشأن الكبير منهم والصغير - مقدار أرباحهم من السلعة ومقدار
مصرفهم، بحيث يعرف مقدار ما يحصله في السنة بنحو التخمين، فليس العلم
بالاستطاعة مما يتوقف غالبا على الفحص.
وبالجملة: ما أفاده الشيخ (رحمه الله) مسلم كبرويا ممنوع صغرويا، ولعله
يشير إلى المناقشة الصغروية بقوله في آخر كلامه: " ولكن الشأن في صدق هذه
الدعوى ".
وقد أضاف المحقق النائيني (رحمه الله) إلى هذا التفصيل تفصيلا آخر
وهو: انه...
تارة: تكون مقدمات العلم حاصلة بحيث لا يحتاج حصول العلم
بالموضوع إلى أزيد من التوجه والنظر إلى تلك المقدمات.
337

وأخرى لا تكون المقدمات حاصلة، فتحصيل العلم يحتاج إلى تحصيلها
والفحص عنها.
ففي الصورة الأولى يجب النظر ولا يجوز الاقتحام في الشبهة وجوبية
كانت أو تحريمية إلا بعد النظر لعدم صدق الفحص على مجرد النظر وانما يصدق
على تمهيد مقدمات العلم وتحصيلها.
وعليه، فإذا كان العلم بطلوع الفجر لا يتوقف على أزيد من رفع الرأس
والنظر إلى الأفق فلا يجوز الأكل اعتمادا على استصحاب الليل كما أنه لا يجوز
شرب المائع المردد بين الخمر والخل إذا كان يتوقف العلم به على مجرد النظر إلى
الاناء.
نعم يستثنى من ذلك باب الحكم بالطهارة، لظهور الأدلة في البناء على عدم
الفحص بأي نحو كان بل ظاهر بعض الأدلة جواز ارتكاب ما يوجب
التشكيك في التنجس، كترطيب البدن حتى يحتمل إذا وجد على بدنه رطوبة ان
تكون من الماء لا من البول. ونحو ذلك (1).
أقول: الذي يبدو من هذا البيان الذي نقلناه عن تقريرات الكاظمي
هو التفرقة بين ما إذا كان الفحص لا مؤونة فيه أصلا وبين ما فيه مؤونة ومشقة،
فلو توقف العلم بالفجر على مجرد النظر إلى الأفق وجب الفحص، أما لو توقف على
الصعود من السرداب العميق إلى السطح للنظر فلا يجب.
ولكن يستبعد جدا أن يكون مراده (قدس سره) ذلك فإنه تفصيل بلا
وجه ظاهر. بل القريب أن يكون نظره إلى التفصيل بين ما كان الموضوع
بحسب وعائه المناسب له واضحا وجودا أو عدما، بحيث يتضح لكل أحد إذا طلبه
في وعائه المناسب له كالفجر في الأفق الصافي الذي لا علة فيه، وكرؤية الهلال

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 302 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
338

إذا كانت شايعة جدا، وبين ما لم يكن الموضوع بهذه المثابة من الوضوح،
فالفحص واجب في الأول وان كانت فيه مشقة ومؤونة ولا يجب في الثاني.
والوجه فيه: ان الموضوع إذا كان من النحو الأول، يصدق عليه عرفا
إنه معلوم وواضح ومعروف فيقال عن الفجر عرفا أنه معلوم.
والغاية المأخوذة في موضوع البراءة وان كانت هي العلم الظاهر بدوا في
إرادة العلم الدقي الحقيقي، فلا عبرة بالصدق العرفي.
إلا أنه، بملاحظة هذا الصدق العرفي يكون العلم المأخوذ غاية للأصول
منصرفا إلى المصداق العرفي منه. فيثبت وجوب الفحص في مثل ذلك حينئذ.
هذا تمام الكلام في اجراء البراءة في الشبهة الموضوعية ولزوم الفحص
فيها.
واما البراءة في الشبهة الحكمية: فقد اتفق الكل على لزوم الفحص
قبل اجرائها وعدم جواز العمل بها قبل الفحص وإن كانت أدلتها بحسب
الظاهر مطلقة من هذه الجهة.
وقد وقع الكلام في الدليل على لزوم الفحص وتقييد اطلاق أدلة البراءة
الشرعية به.
وقد ذكر لذلك وجوه متعددة:
الأول: الاجماع القطعي على اعتبار الفحص في الشبهات الحكمية.
ونوقش الاجماع في الكفاية وغيرها بأنها غير صالح للحجية بعد وجود
الوجوه الأخرى التي أقيمت على اعتبار الفحص. لاحتمال استناد المجمعين
إليها فلا يكون اجماعا تعبديا كاشفا عن قول المعصوم " عليه السلام " (1).
الثاني: حكم العقل بلزوم الفحص فيما كان بناء المولى على تبليغ أحكامه

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 375 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
339

بالطرق المتعارفة العادية. بحيث لا يصل المكلف عادة إلى الحكم إلا بعد
الفحص. ويكون ترك الفحص موجبا لاستحقاق العقاب على المخالفة. وبما أن
بناء الشارع في تبليغ أحكامه على هذه الكيفية، فيلزم الفحص عن الحكم
الشرعي عند احتماله في مظان وجوده.
ولا يخفى عليك ان هذا الوجه يصلح لانكار جريان البراءة العقلية قبل
الفحص، فان العقل لا يحكم بقبح العقاب إذا ترك العبد الفحص عن الاحكام
التي بنى المولى على تبليغها بالطرق المتعارفة، بل يحكم بحسن عقابه على تقدير
المخالفة. ولكنه لا يصلح لتقييد البراءة الشرعية، وذلك لأنه لو فرض تصريح
المولى بالخصوص لعبده بأنه لا يعاقب على المخالفة إذا كانت عن جهل ولو لم
يتصد العبد للفحص، فلا اشكال في عدم حكم العقل بحسن العقاب عند ترك
الفحص.
ومن الواضح ان اطلاق أدلة البراءة يقوم مقام التنصيص الخاص،
لشمول الاطلاق مورد الفحص وعدمه، فيكون رافعا لحكم العقل. فانتبه.
الثالث: العلم الاجمالي بثبوت تكاليف في الشريعة وهو لا ينحل الا
بالفحص، فالعمل بالبراءة قبل الفحص غير جائز للعلم الاجمالي المنجز المانع
من جريان البراءة في أطرافه.
وقد ناقشه صاحب الكفاية: بان هذا العلم الاجمالي البدوي منحل - بعد
الشروع في الاستنباط - بالعلم بمقدار من التكاليف في أبواب الفقه المتفرقة
يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليها. وحينئذ فيلزم أن لا يجب الفحص في
الشبهات الحكمية بعد تحقق الانحلال، مع أن المفروض هو لزوم الفحص في
جميع الشبهات بلا استثناء (1).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 375 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
340

والى هذا الجواب أشار الشيخ (رحمه الله) في كلامه (1).
وقد تعرض المحقق النائيني (رحمه الله) إلى هذا الوجه، وذكر: بان العلم
الاجمالي بثبوت احكام في الشريعة ينحل بعلم اجمالي صغير آخر، وهو العلم
الاجمالي بوجود تكاليف واقعية تؤديها الامارات الموجودة في ضمن الكتب التي
بأيدينا، وهي بمقدار يحتمل انطباق ما في الشريعة عليها، فينحل العلم الاجمالي
العام بالعلم الاجمالي الخاص، ومقتضى ذلك لزوم الفحص في خصوص ما بأيدينا
من الكتب لا أزيد وقد بنى بهذا الوجه على لزوم الفحص في الكتب التي بأيدينا
الذي هو المدعى.
ثم إنه تعرض إلى مناقشة في العلم الاجمالي الصغير: بأنه لا يستدعي
الفحص في مطلق الشبهات، لان العلم الاجمالي المزبور ينحل باستعلام جملة من
الاحكام يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيها. فيكون هذا الوجه أخص من
المدعى.
ودفع هذه المناقشة بإنكار الانحلال باستعلام جملة من الاحكام بالنحو
المزبور، ببيان: ان الانحلال انما يتحقق إذا كان متعلق العلم الاجمالي مرددا من
أول الامر بين الأقل والأكثر، كما لو علم بوجود الموطوء في القطيع من الغنم
وتردد بين الأقل والأكثر، لان العلم الاجمالي لا يوجب سوى تنجيز الأقل، فإذا
علم، موطوئية هذه العشرة من هذا القطيع ينحل العلم الاجمالي.
ولا يتحقق الانحلال فيما إذا كان متعلق العلم الاجمالي عنوانا واقعيا بما
له من الافراد وتردد أفراده بين الأقل والأكثر، كما لو علم بموطوئية البيض في
هذا القطيع وترددت بين العشرة والعشرين. فإنه بالعلم بموطوئية عشرة من
الغنم لا ينحل العلم الاجمالي، لأنه يستلزم تنجيز متعلقه بما له من العنوان على

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 301 - الطبعة الأولى.
341

واقعه، فهو يوجب - في المثال - تنجيز التكليف المتعلق بافراد الغنم البيض
الواقعية، فلا يتحقق الانحلال بالعثور على جملة من الافراد يحتمل انها تمام افراد
المعلوم بالاجمال، بل لا بد من الفحص التام في جميع الافراد.
وما نحن فيه من قبيل الثاني، لان المعلوم بالاجمال هو الاحكام الموجودة
في الكتب التي بأيدينا، فيستلزم تنجيز جميع الاحكام الموجودة في الكتب على
واقعها، ولازمه الفحص التام عن جميع ما في الكتب التي بأيدينا وعدم انحلال
العلم الاجمالي باستعلام جملة من الاحكام يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيها.
واستشهد على ذلك: بأنه لو علم المكلف باشتغال ذمته لزيد بما في
الطومار وتردد ما في الطومار بين الأقل والأكثر، لا يجوز للمدين الاقتصار على
القدر المتيقن، بل لا بد من الفحص التام، وهو مما يشهد به بناء العرف والعقلاء،
فلا يرى العقلاء أن المدين معذور إذا ترك الفحص واقتصر على الأقل (1).
أقول: الحديث في ثبوت الانحلال الحقيقي بالعلم التفصيلي ببعض
الأطراف قد مر مفصلا وعرفت منا إنكاره، وان الثابت ليس إلا الانحلال
الحكمي بوجه تفردنا به. فراجع تعرف. وهذا ليس بمهم.
إنما المهم ما أفاده من عدم انحلال العلم الاجمالي بثبوت التكاليف في
الكتب المعتبرة، بواسطة العلم بمقدار من التكاليف يحتمل انطباق المعلوم
بالاجمال عليه.
فان ما أفاده في مقام بيان عدم الانحلال مردود.
أما ما ذكره شاهدا - أخيرا -، فهو لا يرتبط بما نحن فيه بالمرة، لان لزوم
الفحص ثابت لدى العقلاء حتى مع عدم العلم بأنه مدين أصلا، وإنما كان

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 279 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
342

يحتمل ذلك بدوا، فإنه إذا كان البناء على تسجيل كونه مدينا لزيد في دفتره،
فجاءه زيد وطلب منه فحص دفتره ليجد أنه مدين له أم لا؟ ليس له رفض ذلك
والتمسك بالأصل، وبناء العرف والعقلاء على لزوم الفحص في مثل ذلك مما لا
ينكر. إذن فلزوم الفحص في مثال الدين أجنبي عن عدم انحلال العلم الاجمالي
للزومه في الشبهة البدوية، بل له وجه آخر غير مرتبط بما نحن فيه.
وأما ما أفاده من انه إذا تعلق العلم الاجمالي بعنوان، وترددت افراده بين
الأقل والأكثر، فلا ينحل العلم الاجمالي بالعلم بجملة من الافراد يحتمل انطباق
المعلوم بالعلم الاجمالي عليها، فهو مسلم فيما إذا كان الفرد المعلوم بالتفصيل غير
معلوم المصداقية للعنوان المعلوم بالاجمال، كما لو علم بان اناء زيد نجس. واشتبه
اناء زيد بغيره، ثم عثر على اناء نجس لا يعلم انه اناء زيد أم لا، فإنه لا ينحل
العلم الاجمالي الذي استلزم تنجيز التكليف المتعلق باناء زيد.
وأما إذا كان الفرد المعلوم بالتفصيل من افراد العنوان المعلوم بالاجمال،
كان ذلك موجبا للانحلال، لان العلم الاجمالي بالعنوان وان أوجب تنجيزه، لكنه
انما ينجزه بما له من الافراد المعلومة لا غير، فإذا عثر على مقدار من افراده
يحتمل انها تمام أفراده ينحل العلم الاجمالي، إذ لا علم بتكليف زائد على أكثر مما
عثر عليه، فتكون سائر الأطراف مجرى الأصل المؤمن - على ما بيناه في وجه
الانحلال -. وما نحن فيه من هذا القبيل، إذ التكاليف المعلومة بعد الفحص
معلومة بعنوان انها تكاليف واقعية لا بعنوان آخر، فيلزم انحلال العلم الاجمالي،
وهو ما نبه عليه في الكفاية.
وجملة القول: ان الاستدلال بالعلم الاجمالي على لزوم الفحص، استدلال
بما هو أخص من المدعى. فتدبر جيدا.
الرابع: الاخبار الدالة على وجوب التعلم، مثل الخبر المروي عن أمالي
343

الشيخ في تفسير: (فلله الحجة البالغة) (1) من: أنه يقال للعبد يوم القيامة هل
كنت عالما؟ فان قال: نعم. قيل له: لماذا لم تعمل بما علمت؟. وان قال: كنت
جاهلا. قيل له: هلا تعلمت حتى تعمل. فيخصم. فتلك الحجة البالغة (2).
وتقريب الاستدلال بها: أنها تدل على ترتب العقاب عند ترك التعلم.
فتدل على عدم معذورية العبد عند ترك التعلم والفحص.
وتحقيق الكلام في دلالة هذه الأخبار، هو: انه قد يستشكل في دلالتها
باعتبار أنها تتكفل الاخبار عن ترتب العقاب على مخالفة الواقع عند ترك
التعلم، وهذا يستلزم أن يكون الحكم منجزا في نفسه ومع قطع النظر عن هذه الأخبار
، إذ لو لم يكن الحكم منجزا في نفسه لما اتجه ترتب العقاب عليه الذي
تتكفل هذه النصوص الاخبار به.
وبالجملة: الحال في هذه الأخبار كالحال في اخبار التوقف التي مر في
مناقشة دلالتها على وجوب الاحتياط بأنها لا تتكفل تنجيز الواقع، بل هي
متفرعة عن تنجزه لفرض ترتب العقاب مفروغا عنه فيها، فتختص بموارد قيام
المنجز على الواقع من علم اجمالي ونحوه، فان اخبار التعلم قد اخذ فيها ترتب
العقاب مفروغا عنه، فلا تتكفل تنجيز الواقع قبل الفحص، بل تختص بموارد
يثبت المنجز للواقع قبل الفحص من علم اجمالي ونحوه، على ما سنشير إليه.
وقد يدفع هذا الاشكال: بان الجملة وان كان خبرية تتكفل الاخبار
بثبوت العقاب عند ترك التعلم، لكنها مسوقة في مقام انشاء الحكم بالتنجيز عند
ترك التعلم، نظير كثير من الاخبار التي ينشأ فيها الحكم ببيان لازمه من ترتب
الثواب على الفعل أو العقاب عليه، لان ترتب الثواب والعقاب ملازم للحكم

(1) سورة الأنعام، الآية: 149.
(2) الطوسي المحقق الشيخ محمد بن الحسن، الأمالي: 1 / 8 - باب 1، حديث 10.
344

عرفا، فيكون المقصود الأصلي من الاخبار بهما انشاء الحكم على سبيل
الاستعمال الكنائي حتى أنه يصح ذلك ولو علم المولى من نفسه انه لا يرتب
الأثر من ثواب أو عقاب. إذن فيكون النص فيما نحن فيه دالا على وجوب
التعلم وتنجيز الواقع به.
وتحقيق الحال في ذلك: ان الاخبار عن ترتب العقاب تارة يكون مسبوقا
بأمر المولى بالفعل أو نهيه عنه. وأخرى لا يكون مسبوقا به، بل يكون اخبارا
ابتداء عن العقاب.
ففي مثل الأول: لا ظهور للكلام في الانشاء وإرادة المدلول الالتزامي
وهو جعل الحكم، بل يكون محمولا على ظاهره من الاخبار ارشادا إلى ثبوت أمر
المولى أو نهيه، نظير ما يتصدى له الواعظ من بيان أثر العمل المحرم من العقاب
والمؤاخذة، فإنه ليس بصدد انشاء الحكم أصلا، بل بصدد محض الاخبار عن لازم
الحكم ترهيبا.
وأما في مثل الثاني: فيكون للكلام ظهور في جعل الحكم وانشائه على
سبيل الكناية على ما تقدم، كقوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه
جهنم...) (1)، فإنه ظاهر في حرمة القتل، لعدم الوجه في ترتب العقاب سوى
الحرمة.
وإذا ظهر ذلك، فالشبهة التي يترك المكلف فيها الفحص ذات فردين:
أحدهما: يكون الحكم فيه منجزا مع قطع النظر عن وجوب التعلم كموارد العلم
الاجمالي. والاخر: لا يكون منجزا في نفسه ومع قطع النظر عن وجوب التعلم
كالشبهة البدوية.
وأخبار ترتب العقاب عند ترك التعلم إن كانت ناظرة إلى النحو الأول،

(1) سورة النساء، الآية: 93.
345

كانت ظاهرة في مجرد الاخبار بلا تكفل لانشاء وجوبه، بل هي نظير اخبار
الواعظين تتكفل الارشاد إلى تنجيز الواقع في حد نفسه والتحذير عن مخالفته.
وان كانت ناظرة إلى النحو الثاني، كانت ظاهرة في انشاء وجوب التعلم لتنجيز
الواقع، والجمع بين كلتا الشبهتين لا دليل عليه ولا وجه له إذا أمكن صرف
الكلام إلى ما يبقي الاستعمال معه على ظاهره من الاخبار.
وعليه، فيدور الامر بين نظرها إلى النحو الأول أو النحو الثاني، ولا معين
لأحدهما فتكون مجملة، فتكون قاصرة عن الدلالة على التنجيز في الشبهة
البدوية، وقد مر نظير هذه المناقشة ودفعها في اخبار التوقف فراجع.
وقد يدعى: ان ظاهر الخبر المؤاخذة والتأنيب من جهة ترك التعلم، إذ
التكبيت والتنديم على ترك التعلم، وهذا لا يتناسب مع نظرها إلى موارد العلم
الاجمالي، إذ المؤاخذة فيه من جهة العلم ومنجزيته ولم تنشأ عن ترك التعلم.
ولعل هذا هو نظر صاحب الكفاية في قوله: " لقوة ظهورها في أن المؤاخذة
والاحتجاج بترك التعلم فيما لم يعلم، لا بترك العمل فيما علم وجوبه ولو
إجمالا... " (1).
ولكن هذه الدعوى تندفع بان العلم الاجمالي..
تارة: يتعلق بعنوان معين مردد بين أمرين، نظير العلم بوجوب صلاة
الجمعة أو الظهر، ففي مثله يكون التنديم على ترك العمل لاجل العلم ولا يقال
له هلا تعلمت لتعمل.
وأخرى: يتعلق بثبوت احكام بنحو الاجمال بلا تعينها بعنوان خاص، كما
يحصل لمن يدخل في الاسلام حديثا. أو للشخص في أول بلوغه وقبل تعلمه. فإنه
إذا ترك الجاهل بعض الاعمال في مثل هذا الحال، كان له أن يقول لم أكن أعلم

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 375 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
346

به، وصح ان يقال له لماذا لم تتعلم.
وعليه، فيمكن ان تكون الرواية ناظرة إلى هذا النحو من الشبهة
المقرونة بالعلم الاجمالي المنجز. ولا تكون ناظرة إلى الشبهة البدوية التي هي محل
الكلام.
والنتيجة: ان هذا الوجه كسوابقه قابل للمناقشة.
الخامس - وهو عمدة الوجوه -: ان الغرض من انشاء التكليف هو جعل
ما يمكن أن يكون داعيا ومحركا للمكلف.
ومن الواضح ان هذا إنما يصح إذا كان للمكلف طريق عادي للوصول
إليه، بحيث يمكن ان يعتمد عليه المولى في وصول حكمه، إذ مع عدم الطريق
العادي للوصول إليه يكون جعل التكليف مستهجنا عرفا للغويته.
وعليه، فإذا جعل المولى أحكاما على عبده فليس له أن يسد باب طريق
وصولها العادي عليه، فإنه عرفا يعد مستهجنا منه، وأشبه بالتناقض.
وعلى ذلك ليس للمولى أن يرخص عبده في ترك الفحص عن أحكامه
المحتملة وايكال الامر إلى الصدفة والاتفاق في تحصيل العلم، خصوصا مع علمه
بعدم تحقق الاتفاق، فان جعل الاحكام واقعا مع الترخيص في ترك الفحص يعد
عرفا من المستهجنات، لان الطريق العادي لوصول الحكم هو الفحص عنه
وبدونه لا يصل عادة بل من باب الاتفاق. وقد عرفت أن جعل الحكم مع عدم
الطريق إليه عادة مستهجن لدى العرف فإنه من المستهجن جدا ان يجعل المولى
احكاما على عبده ويبينها إلى شخص زيد مثلا، ثم يقول لعبده لا يلزم ان
تفحص عن احكامي إذا احتملتها ولا يجب عليك ان تسأل زيدا عنها، ولا
يوجب على زيد بيانها لعبده.
نعم قد يكون الغرض الباعث نحو التكليف والمصلحة الداعية إليه بنحو
لا يكون لازم التحصيل كيفما كان، بل إذا وصل من باب الصدفة والاتفاق، وفي
347

مثله لا يجب الفحص بلا اشكال. لكن اللازم في مثله انشاء الحكم مقيدا بما يلازم
الوصول الاتفاقي، فإنه لا مانع منه ولا محذور فيه ولا معنى لانشائه مطلقا،
والالتزام بعدم ايجاب الفحص لأنه مستهجن كما عرفت.
كما أنه قد يكون الغرض الباعث نحو التكليف بمكان من الأهمية بنحو
يلزم على المولى إيصاله للمكلف بأي نحو كان، ولو بمثل ايجاب الاحتياط وعدم
الاعتماد على الطرق العادية، كما هو الحال في باب الشبهات المتعلقة بالدماء
والفروج.
لكن نوع الأحكام الشرعية حد وسط بين هذين، فان الغرض من
التكليف بنحو يلزمه تحصيله بايصاله بالطرق العادية. وفي مثله يمتنع تجويز ترك
الفحص لاستلزامه تفويته.
والسر في ذلك: هو عدم تصدي الشارع لجعل الاحتياط في الشبهات
حتى يستكشف منه أنه من قبيل الثاني. كما أن الاحكام لم تقيد بصورة الوصول
اتفاقا كي يستكشف أنها من قبيل الأول. بل جعلها مطلقة غير مقيدة، وقد
عرفت أن لازم ذلك منع سد الطريق العادي، فلا بد من ايجاب الفحص
لاستهجان العرف عدم ايجابه والحال هذه، فيكشف عن أن نحو الغرض ما
ذكرناه.
نعم بعد نصب الطرق العادية وفحص المكلف، وعدم عثوره على الحكم،
لا يعد جعل الحكم مستهجنا مع وجود الطريق العادي وقصور المكلف عن
الوصول إليه لجهة خاصة.
ومما ذكرنا يظهر ما في كلام المحقق الأصفهاني من الاشكال فراجع
تعرف (1).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 307 - الطبعة الأولى.
348

وهذا الوجه هو الذي ينبغي ان يعتمد عليه، ويؤيده جعل الطرق
الشرعية إلى الاحكام، والحث والترغيب على طلب العلم وحفظ الاحكام وارشاد
الجهال، فإنه يؤكد كون الغرض من الحكم بنحو يلزم إيصاله بالطرق الاعتيادية،
لا انه بنحو لا يلزم إلا إذا وصل من باب الصدفة والاتفاق.
ولعل نظر الشيخ (رحمه الله) في الركون إلى لاجماع - في آخر كلامه -
إلى ذلك، وان هذا الامر من المسلمات العقلائية، لا انه يحاول الاستناد إلى
الاجماع تعبدا (1). فالتفت.
هذا تمام الكلام في أصل وجوب الفحص.
وأما مقدار الفحص اللازم، فالمعتبر فيه بحسب ما تقدم من الأدلة هو
الوصول إلى حد اليأس عن الظفر بالدليل، وهو عقلائيا يحصل بالاطمئنان بعدم
الدليل.
أما على دعوى عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان قبل الفحص
بعد ملاحظة كون بناء المولى على تبليغ أحكامه بالطرق الاعتيادية، ان الطريق
حينئذ إذا كان في معرض الوصول كان حجة، فلانه مع الاطمئنان بعدم الدليل
يتحقق موضوع القاعدة، وهو عدم الحجة والبيان.
وأما على دعوى العلم الاجمالي بالتكاليف قبل الفحص فيما بأيدينا من
الكتب فلان الطرق يخرج عن أطرافه مع الاطمئنان بعدم الدليل في الكتب التي
بأيدينا.
وأما بناء على دلالة الاخبار على وجوب التعلم، فمع حصول الاطمئنان
بعدم الدليل يحصل العلم العادي بعدمه، فيتحقق التعلم بالفحص، وسيأتي ان
المنظور في اخبار التعلم تنجيز الطرق لا الواقع مباشرة.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 201 - الطبعة الأولى.
349

كما أنه لو كان المنظور هو تنجيز الواقع، فوجوب التعلم انما يثبت مع
التمكن منه، ومع اليأس عن الدليل يحصل الاطمئنان بعدم التمكن منه فلا
يجب.
وأما بناء على دعوى الاجماع، فهو لم يقم على أكثر من ذلك.
وأما على المختار من الوجه الذي ذكرناه أخيرا، فلانه مع الاطمئنان بعدم
الطريق واليأس عنه لا مخصص لأدلة البراءة، إذ غاية ما يدل عليه هو وجوب
الفحص عن الطرق الاعتيادية للحكم. فتدبر.
ثم إن ههنا شبهة أشير إليها في الرسائل، وهو: انه بناء على دعوى لزوم
الفحص لاجل العلم الاجمالي بالتكاليف لا يكون اليأس عن الدليل على
الحكم مؤثرا في إجراء البراءة، وذلك لان احتمال التكليف لا يزول بالفحص
واليأس عن الظفر بالدليل، فيكون منجزا بالعلم الاجمالي لكونه من أطرافه،
فهو نظير ما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين وفحص عن النجس فلم يعثر
عليه ولم يستطع تشخيصه وتعيينه، فإنه لا إشكال في منجزية العلم الاجمالي ولزوم
الاجتناب عن الإناءين.
وتندفع هذه الشبهة: بان المعلوم بالاجمال فيما نحن فيه بنحو يكون
الفحص وعدم العثور على الدليل موجبا لخروج المحتمل عن أطرافه، فان العلم
الاجمالي لم يتعلق بثبوت تكاليف واحكام بنحو الاجمال، بل تعلق بثبوت تكاليف
فيما بأيدينا من الكتب - كما أشرنا إليه في انحلال العلم الكبير -، أو تعلق بثبوت
تكاليف لو تفحص عنها لظفر بها. ومن الواضح انه مع الفحص واليأس عن
الدليل يكون التكليف المحتمل خارجا عن أطراف العلم الاجمالي، إذ يعلم إنه
ليس من الاحكام الموجودة في الكتب التي بأيدينا، كما أنه ليس مما لو فحص
عنه لظفر. فلاحظ جيدا.
هذا تمام الكلام في لزوم الفحص ومقداره.
350

ويقع الكلام بعد ذلك في ما يترتب على العمل بالبراءة قبل الفحص،
والبحث عنه في جهتين:
الجهة الأولى: في حكمه من حيث العقاب وعدمه.
والجهة الثانية: في حكمه من حيث صحة العمل وفساده.
أما الجهة الأولى: فترتب العقاب على العمل بالبراءة قبل الفحص في
الجملة، كما إذا انكشف انه مخالف للواقع، مما لا إشكال فيه على جميع وجوه لزوم
الفحص لتنجز التكليف وعدم قيام المؤمن عقلا ولا شرعا.
إنما الكلام في موضوع العقاب، فهل هو مخالفة الواقع، أو انه ترك التعلم
المؤدي إلى المخالفة، أو انه ترك التعلم مطلقا ولو لم يؤد إلى المخالفة؟.
وتحقيق ذلك: انه بناء على وجوب الفحص بملاك عدم جريان قاعدة
قبح العقاب بلا بيان قبل الفحص وثبوت قاعدة الاشتغال بملاك دفع الضرر
المحتمل، يكون العقاب على مخالفة الواقع، لان قاعدة الاشتغال لا تنجز غير
الواقع المحتمل كما لا يخفى.
كما أنه بناء على وجوب الفحص بملاك العلم الاجمالي يكون العقاب
على مخالفة الواقع أيضا، لان العلم ينجز الواقع المعلوم. وهكذا الحال بناء على
المختار، لأنه يرجع إلى تقييد الأدلة الشرعية على البراءة بصورة الفحص، فلا
يحكم الشارع بالمعذرية قبل الفحص، فالمنظور فيه هو الواقع نفسه.
وبالجملة: بناء على هذه الوجوه لا موهم لثبوت العقاب على ترك الفحص
والتعلم، لعدم كونه واجبا شرعيا.
وإنما الموهم لثبوت العقاب على ترك التعلم - في صورة عدم المخالفة -
أحد وجهين:
الأول: التجري، فان الاقدام على ما يحتمل معه مخالفة المولى مع عدم
351

المؤمن شرعا ولا عقلا تجر على المولى. وقد تقدم الكلام في التجري بشؤونه في
مبحث القطع. فراجع.
الثاني: ما دل من الاخبار على وجوب التعلم، فإنه قد يدعى ظهورها في
الوجوب النفسي، فيترتب العقاب على مخالفته مع قطع النظر عن الواقع.
ولكن هذا الوجه قابل للمناقشة، ببيان: ان محتملات مفاد اخبار وجوب
التعلم متعددة، أحدها: أن يكون الوجوب غيريا مقدميا. والثاني: أن يكون
الوجوب ارشاديا. والثالث: أن يكون الوجوب طريقيا. والرابع: أن يكون
الوجوب نفسيا استقلاليا. والخامس: أن يكون الوجوب نفسيا تهيئيا.
والذي نستظهره منها هو الاحتمال الأول، فان ظاهر الخبر هو ثبوت
العقاب على مخالفة الواقع وكون سببه هو الجهل، وان ترك العمل كان ناشئا
عن الجهل، فالتنديم وان كان موضوعه ترك التعلم، لكنه بلحاظ ان التعلم مقدمة
للواقع لا لموضوعية نفسه، فهو نظير ما لو أمر المولى عبده بشراء اللحم، فلم
يشتر العبد اللحم واعتذر بأنه لم يدخل السوق، فان المولى يقول له مستنكرا:
لماذا لم تدخل السوق لتشتري اللحم، فان المنظور الأصلي هو الواجب النفسي.
وبالجملة: ظاهر الرواية خصوصا بملاحظة قوله: " هلا تعلمت حتى
تعمل " فرض التعلم مقدمة للعمل، فلا ظهور في الاستنكار على تركه في كونه
واجبا نفسيا، بل يكون ظاهرا في كونه بلحاظ مقدميته، وهو كثيرا ما يقع كما
عرفت في المثال العرفي.
يبقى سؤال وهو: انه كيف يكون العلم مقدمة وفي أي حال؟. والجواب
عنه: ان له موردين:
الأول: مورد الجهل بمتعلقات الاحكام المستحدثة شرعا، كالصلاة
والحج والوضوء والغسل، فان ترك التعلم فيها يؤدي إلى عدم أدائها بالنحو المطلوب.
الثاني: مورد العلم الاجمالي بثبوت احكام في الشريعة بنحو الاجمال من
352

دون تمييز متعلقاتها، كما أشرنا إليه سابقا. فان ترك التعلم قد يؤدي إلى الوقوع
في خلاف الواقع لاجل الغفلة عنه بالمرة.
ولو تنزلنا عن البناء على هذا الاحتمال، فالذي نلتزم به من
الاحتمالات الأخرى هو الثاني - أعني: كون مفادها الوجوب الارشادي -، لما
عرفت من أن الاخبار بالعقاب لا ظهور له في الانشاء إذا كان مسبوقا بقيام
المنجز على العمل، بل يبقى على ظاهره من الاخبار ويكون ارشادا إلى وجود
المنجز، وقد عرفت قيام الدليل على التنجيز قبل الفحص في الشبهة، ولو لم يكن
الدليل تاما في مطلق موارد الشبهة، فقد عرفت تماميته في بعض افرادها، فراجع
ما تقدم تعرف.
ولو تنزلنا عن هذا الاحتمال أيضا والتزمنا ان الاخبار تتكفل جعل حكم
مولوي لا إرشادي، فهو يدور بين كونه طريقيا بداعي تنجيز الواقع، وبين كونه
نفسيا. والأول هو المعين.
ولكن الذي نلتزم به أنه ليس لتنجيز الواقع المحتمل بل لتنجيز الطريق
المحتمل. وذلك لأنه وإن لم نعتبر أن يكون الوجوب الطريقي المنشأ بداعي
التنجيز، أن يكون بمضمونه مطابقا للحكم المنجز على تقدير المصادفة كوجوب
الاحتياط، أو كوجوب تصديق العادل والعمل بقوله الذي يكون منجزا للواقع،
الا انا نعتبر أن يكون له نحو ارتباط بالحكم المنجز بحيث يتناسب مع تنجيزه
وكونه في عهدته، كي يدل الحكم التنجيزي على تنجيز الحكم الذي يراد تنجيزه.
ومن الواضح ان وجوب التعلم لا ربط له بالواقع المحتمل، إذ متعلق
الوجوب فيه أمر غير متعلق الوجوب الواقعي على تقدير ثبوته، فليس هو كوجوب
الاحتياط. كما أن التعليم ليس من آثار تنجز الواقع، كي يكون ايجابه مقتضيا
لتنجيز الواقع بالملازمة، ويصح ايجابه بهذا الداعي لاجل وجود هذا الربط، إذ
لو فرض تنجز الواقع المحتمل فلا يكون باعثا عادة للتعلم، بل يكون باعثا
353

نحو الاحتياط. إذن فهو لا يصلح أن يكون تنجيزا للواقع، وإنما هو منجز
للطريق. ببيان: ان الطريق الواقعي للحكم الشرعي إذا فرض انه ليس منجزا
بوجوده الواقعي وإلا كان وجوب التعلم إرشاديا، والمفروض التنزل عنه. وإنما
يكون منجزا بوجوده الواصل، فمع احتمال وجود الطريق في الواقع - لو فرض
ثبوت تنجزه بمعنى انه فرض ان الطريق المحتمل منجز - لا اشكال في أنه
يكون باعثا نحو الفحص والتعلم تحصيلا للمنجز أو دفعا له. إذن فالتعلم من
لوازم تنجيز الطريق المحتمل عادة، فيصح انشاء وجوبه بداعي تنجيز الطريق
الواقعي المحتمل لكفاية هذا المقدار من الربط في تصحيح ايجاب التعلم بداعي
التنجيز، وإن لم يكن التعلم عين الواجب الواقعي المنجز على تقدير ثبوته،
فيكون مقتضى وجوب التعلم تنجيز المنجز للواقع.
يبقى سؤال، وهو: ان هذا البيان لا يعدو كونه تصويرا لكون وجوب
التعلم تنجيزيا طريقيا في قبال من أنكر صحة ذلك - كالمحقق العراقي (1) -،
بدعوى: ضرورة كون الواجب الطريقي المنجز عين الواجب المنجز على تقدير
الموافقة. فان هذه الدعوى عرفت انها مردودة بالتصوير المزبور، لكفاية وجود
نحو ارتباط بين الواجب الطريقي وذي الطريق، بحيث يناسب الوجوب
الطريقي كون ذي الطريق في العهدة ولو بنحو الملازمة.
ولكن ما الوجه في كون الوجوب طريقيا لا نفسيا؟.
والجواب عن هذا السؤال: بان استفادة كون الوجوب طريقيا لا نفسيا
إنما هو باعتبار المناسبة العرفية التي يجدها العرف بملاحظة الحكم والموضوع،
فإنه يرى ان الملحوظ في وجوب التعلم هو الوصول إلى الواقع بطريقه بعد أن
عرفت المناسبة بينهما، فالايجاب هنا نظير ايجاب تصديق العادل والعمل بقوله،

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 476 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
354

فإنه وان أمكن كونه ايجابا نفسيا مستقلا، لكن العرف لا يستظهر ذلك، بل
يستظهر انه ايجاب طريقي يكون الغرض منه الوصول إلى الواقع والتحفظ
عليه.
والمتحصل: ان اخبار وجوب التعلم لا تقتضي ترتب العقاب على ترك
التعلم نفسه، بل غاية ما يقتضيه هو ترتب العقاب على مخالفة الواقع. فالذي
ينتج أن جميع أدلة وجوب الفحص لا تقتضي ترتب العقاب إلا على ترك
الواقع.
وهذا السلوك الذي التزمناه في تحقيق هذه الجهة من ملاحظة أدلة وجوب
الفحص وملاحظة مقتضاها، هو الذي ينبغي أن يلتزم. لا ما نهجه المحقق
الأصفهاني (رحمه الله في تحقيق هذه الجهة والتزامه ترتب العقاب على الواقع،
وردد وجهه بين وجوه ثلاثة نفى اثنين منها وعين الثالث فإنه فرض كون الاحتمال
منجزا، وردد ذلك بين محتملات ثلاثة ثم نفى الأولين، وعين الثالث بتقريب عقلي.
ومن الواضح انه لا ملزم لاخذ الاحتمال هو المنجز، وأي وجه لذلك حتى
يدور الامر بين هذه المحتملات؟. بل قد فرض (قدس سره) أولا كون المنجز
هو الطريق في معرض الوصول ثم انتقل إلى هذا البحث فلاحظ كلامه تعرف
حقيقة الحال (1).
ثم إن الشيخ (رحمه الله) تعرض في هذه الجهة إلى اختيار صاحب
المدارك وأستاذه الأردبيلي (قدس سرهما) من كون العقاب في حال الغفلة
عن الواقع على ترك التعلم لا الواقع، وحاول نفيه وتوجيه ترتب العقاب على
الواقع، ولكن من حين الغفلة، ولكنه ذكر أنه خلاف ظاهر المشهور من التزامهم
بثبوت التكليف في حال الغفلة وتعرض إلى بعض فروع الصلاة في المغصوب

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 308 - الطبعة الأولى.
355

جهلا بالحكم والموضوع أو نسيانا، أو اضطرارا عن اختيار (1).
ولا يخفى ان التعرض لهذه الفروع له محل آخر مر سابقا، وهو مبحث
اجتماع الأمر والنهي. فليراجع.
كما أن كون ظرف العقاب حين الغفلة أو حين العمل مر تحقيقه في مبحث
مقدمة الواجب في ترتب الثواب على الواجب الغيري.
وأما صاحب الكفاية، فقد يبدو من كلامه في هذه الجهة لأول وهلة انه
خلط بين بحثين وأقحم أحدهما في الاخر (2)، بيان ذلك: ان لدينا بحثا ههنا،
وهو أن المكلف إذا ترك التعلم والفحص وعمل بالبراءة، فهل يستحق العقاب
على ترك التعلم أو على ترك الواقع لو صادف عمله بالبراءة مخالفة الواقع؟.
وبعبارة أخرى: ان الواقع المحتمل هل يكون منجزا عند ترك التعلم أو لا؟.
وعلى تقدير تنجزه فهل يثبت العقاب على تركه أو ترك التعلم؟. من دون ان
يفرض في هذا المبحث كون التعلم من مقدمات امتثال الواقع، ولم ينظر إلى ذلك
أصلا.
كما أنه قد مر في مبحث مقدمة الواجب بحث آخر، وهو أن التكليف إذا
كان منجزا، وفرض ان له مقدمات مفوتة بحيث يلزم من تركها ترك الواجب في
ظرفه وعدم التمكن منه، نظير الغسل قبل الفجر لاجل الصوم، فهل يلزم
الاتيان بمقدماته المفوتة أو لا؟. وعلى تقدير اللزوم فما هو الوجه فيه؟.
ومن الواضح انفصال المبحثين موضوعا ومحمولا وملاكا ولا ربط لأحدهما
بالاخر.
والذي يظهر من صاحب الكفاية ههنا خلطه بين المبحثين، لاستدلاله

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 302 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 376 - طبعة مؤسسه آل البيت (ع).
356

على ثبوت العقاب ههنا عند ترك التعلم بما يرجع إلى الاستدلال على لزوم
المقدمة المفوتة من: ان تركها يؤدي إلى ترك الواجب وامتناعه بالاختيار لا ينافي
الاختيار، ثم استدراكه بقوله: " نعم يشكل في الواجب المشروط والموقت... "، وهو
إشكال راجع إلى لزوم المقدمة المفوتة، وانه لا يتم في الواجبات المشروطة والموقتة
بالبيان الذي أشار إليه، ولا يرتبط بما نحن فيه من المبحث.
نعم، في بعض الحالات قد يكون التعلم من المقدمات المفوتة بحيث
يكون تركه موجبا لترك الواجب، لكن البحث عنه فيما نحن فيه ليس من جهة
مقدميته، بل من جهة منجزيته للواقع كما عرفت، ولا مضايقة في البحث عنه من
جهة مقدميته أيضا، لكن لا بنحو يخلط بين الجهتين وتدرج إحداهما في الأخرى.
ولم أجد من تنبه إلى هذا الخلط في ظاهر كلامه (قدس سره).
هذا، ولكن يمكن ان يصحح كلامه بربط إحدى الجهتين بالأخرى،
ببيان: انه إذا التزم بان العقاب عند ترك التعلم على مخالفة الواقع لا على ترك
التعلم نفسه، فقد يتوجه سؤال، وهو ان التعلم قد يكون في بعض الأحيان من
المقدمات التي يفوت الواجب بفواتها، وذلك في موردين:
أحدهما: ما إذا كان الوقت مضيقا ولم يكن يعرف متعلق الحكم
بخصوصياته، فان ترك التعلم خارج الوقت يستلزم ترك الواجب في وقته لجهله
به وضيق الوقت عن التعلم في ظرفه.
والاخر: ما إذا كان وقت الواجب موسعا، لكن كان عدم تعلم الواجب
يستلزم الغفلة عنه في وقته بالمرة، فلا يتمكن من الاتيان به لاجل غفلته عنه.
وإذا فرض ان التعلم كان من المقدمات المفوتة، فيشكل وجوبه قبل
الوقت في الواجبات الموقتة أو قبل الشرط في الواجبات المشروطة، كسائر
المقدمات المفوتة التي استشكل في وجوبها في مثل ذلك، وقد تصدي إلى حل هذا
الاشكال بوجوه، كالالتزام بالواجب المعلق أو الواجب المشروط بالشرط
357

المتأخر، فتكون المقدمات المفوتة واجبة فعلا قبل الوقت لفعلية وجوب ذيها.
وكالالتزام بلزوم حفظ الغرض الملزم في ظرفه ممن لا يرى إمكان الواجب المعلق
والمشروط كالمحقق النائيني (1).
ومنهم من لم يرتض جميع هذه الوجوه والتزم بوجوب المقدمة المفوتة وجوبا
نفسيا تهيؤيا، بمعنى كون الغرض التهيؤ لامتثال الواجب الاخر.
ومن الواضح انه بناء على هذا الالتزام يشكل الامر في التعلم فيما نحن
فيه، فإنه إذا التزم ان التعلم إذا كان مقدمة مفوتة كان وجوبه نفسيا فيعاقب
المكلف على تركه، لا يمكن الالتزام بوجوبه الطريقي حينئذ في سائر موارده مما
لا يكون فيه مقدمة أصلا، أو كان ولكن لم يكن من المقدمات المفوتة، وذلك: لأنه
من الواضح ان اخبار وجوب التعلم تشمل مورد ما إذا كان التعلم مقدمة مفوتة.
ومن الواضح انه لا يمكن ان تتكفل غير وجوبه النفسي لامتناع وجوبه
الطريقي في ذلك الحال، لعدم قابلية الواقع للتنجز بعد أن كان مشروطا بشرط
لم يحصل بعد. فإذا كان مفاد الاخبار في هذا المورد هو خصوص الوجوب
النفسي، فهو ثابت في جميع موارده لامتناع التفكيك بين الموارد في انشاء واحد.
إذن، فالالتزام بثبوت العقاب على الواقع مشكل على هذا البناء في
المقدمات المفوتة الملازم لكون وجوب التعلم وجوبا نفسيا بقول مطلق وفي جميع
موارده.
وبذلك يتضح الربط جيدا بين المسألتين، ويكون نظره في قوله: " نعم
يشكل... " أنه يشكل الامر بملاحظة بعض الوجوه في حل مشكلة المقدمات
المفوتة، وهو الالتزام بالوجوب النفسي التهيؤي بضميمة شمول اخبار التعلم لمورد
ما إذا كان من المقدمات المفوتة، ووحدة الوجوب المنشأ فيها.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 281 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
358

ولقد كان من الجدير ببعض مدققي المحشين التعرض إلى ايضاح نظر
الكفاية وكلامه. وكيف كان فقد عرفت مراده. وقد مر منا في محله تحقيق الحال
في المقدمة المفوتة والوجه في لزومها بما لا يرجع إلى الوجوب النفسي التهيؤي
كي يقع الاشكال فيما نحن فيه بما عرفت. فراجع.
نعم ههنا أمر يحسن التنبيه عليه - وقد مر منا في محله ذكره - وهو: انه إذا
كان ترك التعلم موجبا لفوات الواجب من جهة الغفلة عنه لا من جهة ضيق
الوقت، فيشكل الالتزام بوجوبه لاجل مقدميته، وذلك لان التعلم في مثل ذلك
يكون من مقدمات التحفظ وعدم الغفلة، فيكون مقدمة للمقدمة.
وقد نبه - في حديث الرفع - على أن مرجع رفع النسيان إلى رفع ايجاب
التحفظ على المكلف، فإذا كان التحفظ ليس بواجب بحكم الشارع لم تكن
مقدمته وهي التعلم واجبة. فالالتزام بوجوب التعلم لاجل التحفظ من الغفلة
الموجبة لفوات الواجب بملاك الوجوب المقدي غير سديد، فالالتزام بالواجب
المعلق أو المشروط بالشرط المتأخر لا ينفع في اثبات وجوب التعلم في مثل ذلك.
فانتبه.
ثم إنك قد عرفت أن أدلة وجوب الفحص انما تنهض على ترتب العقاب
على مخالفة الواقع لا على ترك الفحص، فيقع الكلام في أن العقاب هل يترتب
على مخالفة الواقع مطلقا، أو في خصوص ما كان عليه طريق قائم واقعا؟. فلو
فرض انه خالف الواقع ولكن لم يكن عليه طريق في الواقع، بحيث لو كان
يتفحص لا يصل إلى الواقع فلا عقاب.
الحق هو الثاني خلافا للشيخ (رحمه الله) حيث إنه اختار الأول (1).
والوجه فيما ذكرناه: أن أدلة وجوب الفحص لا تقتضي أكثر من تنجيز

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 307 - الطبعة الأولى.
359

الواقع إذا كان في معرض الوصول بالعلم أو بالطريق.
أما إذا لم يكن في معرض الوصول، فلا يكون منجزا بأدلة وجوب
الفحص، فيكون العقاب على مخالفته عقابا على تكليف غير منجز وهو قبيح.
أما إذا كان الدليل على وجوب الفحص هو العلم الاجمالي بثبوت
الأحكام الشرعية، فلأنك عرفت أن متعلق العلم الاجمالي - المدعى - هو
التكاليف التي لو فحص عنها لعثر عليها، أو التكاليف في ما بأيدينا من الكتب.
والمفروض ان الواقع الذي خالفه ليس في الكتب، وليس بنحو لو فحص عنه
لعثر عليه، فهو ليس من أطراف العلم الاجمالي فلا يكون منجزا به. نعم هو قبل
الفحص يحتمل أن يكون التكليف المحتمل من أطراف العلم، فيكن منجزا
عليه، لكنه بعد انكشاف الحال يعلم انه ليس من أطراف العلم وان الحكم الثابت
لم يقم عليه منجز، نظير ما لو علم بنجاسة اناء زيد أو اناء عمرو، فاشتبه اناء
زيد باناء بكر، فان اناء بكر بما هو مشتبه وان صار فعلا من أطراف العلم
بالنجاسة، لكنه واقعا ليس من أطراف تلك النجاسة المعلومة، فلو ارتكب اناء
بكر فظهر انه نجس بنجاسة أخرى لم يكن منجزا عليه، لان العلم انما استلزم
تنجيز ما تعلق به لا مطلق الأحكام الواقعية. فالتفت.
وأما إذا كان الدليل هو أخبار وجوب التعلم، فقد عرفت انها تتكفل
تنجيز الطريق المحتمل، والمفروض انه لا طريق واقعا، فلا تشمل اخبار وجوب
التعلم هذا المورد، فلا منجز للواقع.
وأما إذا كان الدليل ما ذهبنا إليه من التنافي بين عدم وجوب الفحص
وجعل الحكم، فتتقيد أدلة البراءة بالفحص عند احتمال الطريق، فهو غاية ما
يتكفل تقيد أدلة البراءة، فيرجع إلى سلب جعل الحكم الظاهري قبل الفحص،
وهو لا ينافي ثبوت العذر العقلي بواسطة البراءة العقلية، كما يأتي بيانها. فعلى هذا
البناء وإن لم يكن منجزا، لكن لا معذر شرعي أيضا لتقيد أدلة البراءة بوجوب
360

الفحص الثابت بمجرد احتمال الطريق وإن لم يكن طريق واقعا.
وهكذا الكلام على البناء على اخبار التعلم، فإنها وان كانت قاصرة عن
تنجيز الواقع الذي لم يقم عليه طريق واقعا، لكنها مقيدة لاخبار البراءة بمجرد
احتمال الطريق، ولا يناط الحكم الظاهري بقيام الطريق واقعا، بل بمجرد
احتماله. وعليه فلا بد من الحكم بالمعذورية من الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب
بلا بيان - التي سيجئ الحديث عنها - أو ما هو بمفادها من النصوص الشرعية
على تقدير انكار الحكم العقلي، على ما تقدم.
وأما إذا كان الدليل حكم العقل بالاشتغال، لعدم جريان قاعدة قبح
العقاب بلا بيان إذا كان الحكم في معرض الوصول، إذ الطريق إذا كان في
معرض الوصول كان حجة في نفسه، فلا يحرز قاعدة قبح العقاب بلا بيان، قبل
الفحص، فلان المفروض ان الحكم ليس في معرض الوصول ولا طريق واقعا،
فلا حجة ولا بيان، فيكون المورد مجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
ودعوى: انه يكفي في العقاب عدم وجود المؤمن منه على تقدير المخالفة،
فإنه بنفسه منجز للواقع.
ومن الواضح ان المكلف إذا أقدم على اجراء البراءة قبل الفحص لا
يعلم ان المورد من موارد البيان والحجة، أو انه ليس من موارد البيان والحجة،
فهو لا يحرز موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلا يحرز ثبوتها، فلا مؤمن
من مخالفة التكليف، فيكون ذلك كافيا في التنجيز لوجوب دفع الضرر المحتمل.
تندفع: بان وجوب دفع الضرر المحتمل قد عرفت أنه لا يصلح لتنجيز
الواقع، بل هو متفرع عن التنجيز. وعليه. فنقول: ان قبح العقاب بلا بيان حكم
عقلي وارد على موضوع واقعي وهو عدم الحجة، سواء أحرزه المكلف أم لم يحرزه.
وعليه فإذا تردد المكلف بين قيام الطريق الواقعي المصحح للعقاب وعدمه، فهو
يتردد بين كون المورد من الموارد التي يستحيل فيها العقاب لعدم البيان والتي لا
361

يستحيل فيها العقاب لوجود البيان، فالعقاب مردد بين كونه محالا وكونه ليس
بمحال.
وفي مثل ذلك لا يكون التكليف منجزا على كل حال، وان كان العقاب
محتملا، بل يتبع الواقع، فإذا انكشف عدم الطريق الواقعي انكشف ان المورد
من موارد قبح العقاب، فكيف يلتزم بالعقاب حينئذ؟. ومجرد عدم المؤمن لا
يصحح العقاب إذا لم يكن منجزا للواقع، بل لا بد أن يكون المصحح ما ينجز
الواقع ويجعله في عهدة المكلف.
وبهذا التحقيق تعرف ما في كلام الشيخ (رحمه الله) مما يرتبط بمحل
الكلام. فراجع تعرف.
هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.
وأما الكلام في الجهة الثانية: وهو الكلام في حكم العمل بالبراءة قبل
الفحص من حيث الصحة والفساد.
وقد أوقع الشيخ (رحمه الله) الكلام في المعاملات وفي العبادات (1).
وقد أهمل صاحب الكفاية التعرض للمعاملات، ولعله لاجل وضوح
الحال فيها، وهو ما ذكره الشيخ (رحمه الله) من. ان الحكم بصحة المعاملة
وفسادها يناط بالواقع، وذلك لان موضوع ترتب الأثر على المعاملة وعدم ترتبه
شرعا هو المعاملة الواقعية الخاصة من دون مدخلية للعلم والجهل، فإذا أوقعها
المكلف ترتب عليها حكمها وإن كان المكلف جاهلا بصحتها وفسادها.
وأما العبادات، فقد توقف الشيخ في صحة العمل إذا جئ به مع التردد
في صحته، بل ظاهره المنع عن الصحة ولو فرض مطابقة العمل للواقع.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 303 - الطبعة الأولى.
362

ولا منشأ للاشكال في الصحة الا ما تقدم من الاشكال في الاحتياط مع
التمكن من العلم باعتبار عدم تحقق قصد الإطاعة مع التردد. وهذا ما أشار إليه
الشيخ (رحمه الله) ههنا وبنى عليه المحقق النائيني (رحمه الله) باصرار (1).
وقد تقدم منا تحقيق هذه الجهة، واختيار صحة الاتيان بمحتمل الامر مع
التمكن من تحصيل العلم، فلا نعيد.
وعليه، فإذا كانت العبادة التي جاء بها قبل الفحص بقصد احتمال الامر
- بالنحو الذي قربناه - مطابقة للواقع كانت صحيحة، وإن كانت غير مطابقة
كانت باطلة.
وقد ذكر صاحب الكفاية: ان العبادة تقع باطلة في صورة المخالفة، بل في
صورة الموافقة أيضا فيما إذا لم يتأت منه قصد القربة (2).
وما أفاده (قدس سره) لا يمكن أن يكون إشارة إلى مذهب الشيخ
والنائيني (قدس سرهما)، لأنه حكم بمنعه في محله.
ولأجل ذلك حمل كلامه على مورد تكون العبادة محرمة واقعا، فلا يصح
قصد القربة لعدم صلاحية الفعل للمقربية بعد أن كان الجهل عن تقصير، كما
في بعض موارد اجتماع الأمر والنهي. فلاحظ.
ثم إن الاعلام (قدس سرهم) تعرضوا في هذا المقام إلى فرع فقهي وهو:
مسألة ما إذا أتم في موضع القصر عن جهل بالحكم، وما إذا جهر في موضع
الاخفات أو أخفت في موضع الجهر، فإنه يلتزم بصحة صلاة الجاهل في هذه
المقامات، وفي الوقت نفسه يلتزم بعدم معذوريته من العقاب إذا كان جهله عن
تقصير.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 72 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 377 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
363

وجعلوا هذه المسائل مما استثني من مقتضى القاعدة في العمل بالبراءة
قبل الفحص، من دوران صحة العمل وبطلانه مدار الواقع.
وقد وقع الاشكال في الجمع بين صحة العمل وترتب العقاب على ترك
الواقع.
وبينه الشيخ (رحمه الله): بأنه إذا لم يكن معذورا من جهة العقاب كشف
ذلك عن استمرار تكليفه بالواقع، وحينئذ فما أتى به إن لم يكن مأمورا به فكيف
يسقط معه الواجب؟. وإن كان مأمورا به فكيف يجتمع مع الامر بالواقع، إذ
المفروض عدم الامر إلا بصلاة واحدة.
وقد تصدى الاعلام (قدس سرهم) إلى حله، والجمع بين الامرين صحة
العمل وثبوت العقاب على ترك الواقع.
وذكر الشيخ في حله وجوها ثلاثة:
الوجه الأول: الالتزام بعدم تعلق التكليف الفعلي بالواقع المتروك..
إما بدعوى: كون القصر - مثلا - واجبا على المسافر العالم بالحكم،
وهكذا في الجهر والاخفات.
وإما بدعوى: كونه معذورا فيه، نظير الجاهل بالموضوع الذي يحكم عليه
ظاهرا، بخلاف الواقع. والجهل ههنا وإن لم يحكم في مورده بخطاب ظاهري
كجاهل الموضوع، لكنه مستغنى عنه باعتقاده وجوب الشئ في الواقع، فلا
حاجة إلى انشاء وجوبه ظاهرا.
واما بدعوى: عدم تكليفه بالواقع المجهول، لاجل الغفلة عنه. والمؤاخذة
انما تترتب على ترك التعلم كما بنى عليه صاحب المدارك.
وإما بدعوى: انه وان كان مكلفا بالواقع لكن ينقطع تكليفه به عند
الغفلة لقبح تكليف الغافل لعجزه، ولكن بما أن العجز عن اختياره يعاقب على
ترك الواقع من حين الغفلة، وإن لم يكن مأمورا به في حال الغفلة.
364

وقد نفي (قدس سره) هذا الوجه بشقوقه: بأنه خلاف ظاهر المشهور،
حيث إن ظاهرهم بقاء التكليف بالواقع المجهول وعدم ارتفاعه.
ثم إنه يمكن المناقشة في الدعوى الأولى بان لازمها عدم ترتب العقاب
على ترك القصر لعدم حصول شرط وجوبه.
وفي الدعوى الثانية بذلك أيضا، إذ الحكم بالمعذورية يستلزم انتفاء
العقاب، وهو خلف فرض المسألة.
وفي الدعوى الثالثة والرابعة: بان مفروض الكلام بالنسبة إلى من
أجرى البراءة قبل الفحص، وهذا يستلزم فرض المكلف ملتفتا لا غافلا.
نعم، الحكم المزبور يتأتى بالنسبة إلى الغافل أيضا، لكن ما يرتبط بما
نحن فيه هو الملتفت، ولذا جعل استثناءه من مقتضى القاعدة في العمل بالبراءة
قبل الفحص.
الوجه الثاني: الالتزام بعدم تعلق الامر بالمأتي به، ولكنه مسقط للواجب
الواقعي، وسقوط الواجب بغير المأمور به لا محذور فيه.
وناقشه الشيخ (رحمه الله) بان ظاهر الأدلة فيما نحن فيه تعلق الامر
بالمأتي به للتعبير في النصوص بتمامية الصلاة وصحتها، وهو ظاهر في تعلق الامر
بها.
الوجه الثالث: ما ذكره كاشف الغطاء من تعلق الامر بالتمام مترتبا على
معصية الامر بالقصر، فيكون كل من العملين مأمورا به، ولكن بنحو الطولية لا
في عرض واحد، فيرتفع التنافي بينهما حينئذ، لان الامر بالضدين انما يمتنع إذا
كانا في عرض واحد لا بنحو الترتب (1).
ورده الشيخ بعدم معقولية الترتب، وانما المعقول هو حدوث التكليف

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 308 - الطبعة الأولى.
365

بالضد بعد تحقق معصية التكليف بالضد الاخر وسقوطه بحيث لا يجتمعان في
زمان واحد.
وقد اكتفى الشيخ (رحمه الله) في تحقيق هذه الجهة بهذا المقدار (1).
ولا يخفى عليك ان مقتضى ما نقلناه عنه انه لم يتصد له حل الاشكال
بنفسه وأنه ملتزم به، إذ هو ذكر الاشكال ورد الحلول المذكورة له، فليتنبه.
وكيف كان، فلا بد من تحقيق الحال في المسألة بنحو يرتفع عنها الاجمال،
فنقول:
قد عرفت تصدي كاشف الغطاء (رحمه الله) إلى حل الشبهة بالالتزام
بتعلق الامر بكل من التمام والقصر بنحو الترتب، وهذا وجه بنى عليه في مسألة
الضد، فالتزم بصحة تعلق الامر بالمهم في طول الامر بالأهم.
والكلام في كبرى الترتب طويل دقيق، والذي يظهر من الشيخ مناقشته
كبرويا. وقد مر تحقيق صحة الترتب ومعقوليته.
ولكن قد يستشكل في صحة تطبيق كبرى الترتب على المورد، فيكون
الاشكال صغرويا.
وقد ذكر لتقريب الاشكال وجوه:
الأول: ما أفاده المحقق النائيني (رحمه الله) من: ان موضوع الترتب ما
إذا كان كل من الحكمين واجدا للملاك في متعلقه وانما كان المانع هو عدم القدرة
على الجمع بين المتعلقين في الامتثال، بحيث لولا ذلك لكان اطلاق كل من
الدليلين محكما، فيرفع اليد عن الاطلاق بمقدار ما يرتفع به التنافي.
ولذا ثبت - هناك - ان الالتزام بمعقولية الترتب مساوق للالتزام بوقوعه
بلا حاجة إلى دليل خاص يدل على وقوعه.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 309 - الطبعة الأولى.
366

وما نحن فيه ليس كذلك، إذ لا دليل على الامر بكل من القصر والتمام
في نفسه حتى ترفع اليد عنه بمقدار ما يرتفع به التنافي، فمعقولية الترتب لا
تجدي فيما نحن فيه بعد عدم احراز الملاك وعدم قيام الدليل على ثبوت الحكمين
في حد أنفسهما.
الثاني: ما أفاده (قدس سره) أيضا من: ان الملتزم به في الترتب هو تعليق
الامر بالمهم على عصيان الامر بالأهم، وهو غير معقول في المقام، إذ لا يعقل ان
يعلق وجوب التمام على عصيان الامر بالقصر، لغفلته عن الموضوع وهو العصيان
لفرض جهله بالحكم، ولو التفت إليه خرج عن كونه جاهلا بالحكم فلا تصح
منه الصلاة التامة فيرتفع عنه الامر بالتمام.
وبالجملة: تعليق الامر بالتمام على عصيان الامر بالقصر يستلزم عدم
فعلية الحكم أصلا (1).
الثالث: ما أفاده المحقق الأصفهاني (رحمه الله) من: ان تعليق الامر
بالمهم على عصيان الامر بالأهم إنما يصح إذا لم يكن عصيان الأهم بنفس اتيان
المهم، وإلا فالامر به غير معقول لأنه طلب الحاصل.
وما نحن فيه كذلك، لان عصيان الامر بالقصر وفوات امتثاله انما يحصل
باستيفاء مصلحته بفعل التمام، إذ بدون فعل التمام لا يسقط القصر مع بقاء
الوقت.
وعليه، فيلزم من تعليق الامر بالتمام على عصيان الامر بالقصر تعليق
الامر بالتمام على فعله فيكون طلبا للحاصل (2).
وجميع هذه الوجوه قابلة للمناقشة..

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 293 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 315 - الطبعة الأولى.
367

أما الأول: فلان موضوع الكلام في الترتب وان كان مورد ثبوت الاطلاق
لكل من الحكمين، لكنه لا ينافي تأتيه في مورد آخر إذا فرض قيام الدليل الخاص
على تعلق الامر بالضدين.
وعليه، فإذا فرض معقولية الترتب فيما نحن فيه ثبوتا، فيبقى الاشكال
بحسب مقام الاثبات، ويرتفع ذلك بملاحظة نفس الدليل الدال على الامر
بالتمام مع الجهل بالقصر، فإنه كاشف عن ثبوت الملاك في كل من العملين. كما أنه
إذا انحصر الجمع بينهما بطريق الترتب كانت معقوليته مساوقة لوقوعه كسائر
الموارد. فلاحظ.
وأما الثاني: فلأنك قد عرفت في مبحث الترتب انه لا ملزم للالتزام بتعليق
الامر بالمهم على عصيان الأهم، بل يجوز أخذ الشرط كل ما يصحح الطولية
ويرفع التنافي في مقام الداعوية الفعلية، ولذا قلنا بجواز أخذ الشرط ترك الأهم
لا عصيانه.
وعليه، فيمكننا ان نلتزم بان الامر بالتمام مشروط بالعلم بعدم وجوب
القصر، وهو مما يلتفت إليه المكلف، ومما يصحح الترتب ويرفع التنافي بين الامرين
في مقام الداعوية، إذ مع العلم بعدم وجوب القصر، لا يكون وجوب القصر داعيا
فعلا نحو متعلقه.
ومن هنا يظهر ما في الوجه الثالث، إذ لا ملزم لاخذ الشرط عصيان
القصر، بل يؤخذ الشرط هو العلم بعدم وجوب القصر ولا محذور فيه.
فالمتجه أن يقال: إنه إما ان يؤخذ في موضوع الامر بالتمام عصيان الامر
بالقصر. ففيه ما عرفت من استلزامه طلب الحاصل، لان العصيان يتحقق بفعل
التمام.
وإما أن يؤخذ في موضوعه العلم بعدم وجوب القصر. ففيه: انه في هذا
الحال لا يتصور ثبوت الامر الفعلي بالقصر، لعدم إمكان داعويته. هذا في مورد
368

الجهل المركب.
وأما مورد الجهل البسيط فالامر بالقصر قابل للداعوية للالتفات إليه،
فلا يصح الامر بالتمام، للتزاحم. فتدبر.
والمتحصل: ان تطبيق كبرى الترتب على المقام غير صحيح، فهذا الوجه
مما لا يمكن رفع الاشكال فيه.
وأما الوجه الثاني (1): - أعني: الالتزام بان التمام ليس بمأمور به، لكنه
مسقط عن الواجب -، فقد عرفت أن الشيخ ناقشه بان ظاهر النصوص صحة
العمل وتماميته، ولازم ذلك تعلق الامر به. ولعل السر فيه: ان العمل إذا كان
عباديا فصحته تتوقف على تعلق الامر به، والمفروض ان التمام يقع عبادة، فلا بد
أن يكون مأمورا به إذا كان صحيحا، كما هو ظاهر النصوص.
ولكن صاحب الكفاية (رحمه الله) التزم بهذا الوجه ودفع إشكال الشيخ
(رحمه الله) ببيان: ان الصحة كما تنشأ من تعلق الامر بالعبادة كذلك تتحقق
باشتمال العبادة على ملاك ومصلحة يوجب المحبوبية وإن لم تكن مأمورا بها لمانع.
وعليه، فيلتزم باشتمال التمام في حال الجهل بوجوب القصر على مصلحة
تامة ملزمة في نفسها، كما أن صلاة القصر تشتمل على مصلحة ملزمة ولكنها أهم
من مصلحة التمام.
ولأجل التضاد بين المصلحتين بحيث لا يمكن استيفاء إحداهما مع
استيفاء الأخرى، تعلق الامر بالقصر لأهميته، ولم يأمر بالتمام لأنه أمر بالقصر
ذي المصلحة الأهم، ولا يمكن استيفاؤهما معا كي يأمر بكلا الفعلين. فإذا جاء
بالتمام جهلا بوجوب القصر كانت الصلاة صحيحة لاشتمالها على الملاك المقرب،
ولا يجب عليه الاتيان بعد ذلك بالقصر لعدم التمكن من استيفاء مصلحته، فلا

(1) من الوجوه الثلاثة التي ذكرها الشيخ (قده) وقد تقدمت المناقشة في الوجهين الأول والثالث منها.
369

تقع صحيحة حينئذ، وإذا كان مقصرا في ترك التعلم كان معاقبا لتفويته الواجب
وهو صلاة القصر.
وبهذا البيان يجمع بين صحة المأتي به وتعلق الامر بالواقع وترتب العقاب
على مخالفته.
وقد أورد على هذا البيان بوجهين:
الوجه الأول: ما أشار إليه الشيخ في رسائله (1)، وصرح به في الكفاية،
من: ان التمام - على هذا البيان - يكون سببا لتفويت الواجب الفعلي وهو
القصر، وما يكون سببا لتفويت الواجب الفعلي يكون حراما فيكون فاسدا
للملازمة بين حرمة العبادة وفسادها.
وقد رده صاحب الكفاية: بان فعل التمام ليس سببا، وإنما يكون مضادا
لفعل القصر، وقد تقدم في مبحث اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده بيان
عدم توقف وجود الضد على عدم ضده، بل هما متلازمان لا أكثر (2).
وقد يورد على صاحب الكفاية: بان الذي حققه في مبحث الضد عدم
وجود التوقف بين الضد وعدم ضده، ولكنه التزم بان عدم علة أحد الضدين
يكون من مقدمات الضد الاخر، لان علة أحد الضدين تكون مانعة من الضد
الاخر ومزاحمة لتأثير مقتضيه فيه.
وعليه، فنقول: انه لا تضاد - فيما نحن فيه - بين صلاتي القصر والتمام
لامكان الجمع بينهما، وإنما التضاد بين مصلحتيهما، ونسبة كل منهما إلى مصلحته
نسبة السبب التوليدي لمسببه.
وعليه، فكل من فعل التمام والقصر مانع من تحقق مصلحة الاخر، فيكون

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 309 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 378 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
370

عدمه مقدمة لتحقق مصلحة الاخر، فيكون عدم التمام من مقدمات حصول
المصلحة الملزمة، فيكون مطلوبا لان مقدمة الواجب واجبة. أو فقل: أنه يكون
منهيا عنه بمقتضى ان الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده الخاص بملاك
المقدمية.
ويمكن دفع هذا الايراد: بان ما يكون دخيلا في ترتب المصلحة على
الواجب يكون مأخوذا في الواجب إما بنحو الجزئية إذا كان جزء المؤثر، أو بنحو
الشرطية إذا كان شرطا لتحقق التأثير. وبما أن عدم المانع يكون دخيلا في تأثير
المقتضي في مقتضاه كان مأخوذا في الواجب بنحو الشرطية، ففيما نحن فيه يكون
عدم التمام قيدا للواجب وهو القصر، لان عدم التمام دخيل في تأثير القصر في
المصلحة، فالوجوب متعلق بصلاة القصر المقيدة بعدم وقوع التمام.
وعلى هذا يكون ترك التمام من مقدمات الواجب كسائر مقدماته
الوجودية والعدمية.
فان لم نقل بوجوب المقدمة، فلا محذور في فعل التمام، إذ الفرض ان التمام
واجد للملاك والمحبوبية في نفسه، وتركه لم يتعلق به أمر شرعي كي ينافي صحة
العمل. وان قلنا بوجوب المقدمة، فالملتزم به ليس هو تعلق طلب شرعي وأمر
انشائي مولوي بالمقدمة كي تكون مخالفته عصيانا ومبغوضة للمولى، بل الملتزم
به ان المقدمة تكون متعلقة للمحبوبية الشرعية ليس إلا، فيكون كل من الترك
والفعل محبوبا، ومحبوبية الترك لا تنافي امكان التقرب بالفعل لمحبوبيته. كما مر
نظير ذلك في العبادات المكروهة. فراجع.
وجملة القول ان الوجه الأول من وجهي الايراد غير وارد.
نعم، هنا شئ وهو: أن تفويت المصلحة مبغوض للمولى، فإذا كان
الاتيان بالتمام مانعا من تحقق مصلحة القصر كان سببا لتفويت المصلحة فيكون
سببا للمبغوض. فلو لم نقل بان سبب الحرام حرام لا بالحرمة النفسية ولا
371

الغيرية فلا اشكال. وإن قلنا بأنه حرام ومبغوض إما بالحرمة النفسية بدعوى أن
النهي عن المسبب نهي عن السبب حقيقة، كما مر في مبحث مقدمة الواجب.
أو بالحرمة الغيرية من باب المقدمية. فقد يستشكل في صحة التمام حينئذ لأنه
حرام ويمتنع التقرب به، فلا يقع عبادة. ونظيره ما يقال في حمل المغصوب في
الصلاة. فان الحركة الصلاتية تكون سببا للتصرف فيه بتحريكه فتكون محرمة.
لكن نقول بعد قيام الدليل على صحة التمام والحال هذه - أعني: مع كونها
مفوتة لمصلحة القصر -، نستكشف انه بالتمام لا تفوت مصلحة القصر وتتدارك
بفعل التمام - والا لكانت باطلة لمبغوضيتها -، وهذا ملازم لعدم ترتب العقاب
على ترك القصر لعدم فوات مصلحته. ولا محذور في الالتزام بذلك على هذا
التقدير بملاحظة دليل الصحة. فلاحظ.
ولا يخفى ان هذا الاشكال - أعني حرمة التمام لكونه مفوتا للواجب
الواقعي وسبب الحرام حرام - لا يرد على خصوص صاحب الكفاية، بل على
جميع المسالك، فلو تم لا محيص عن الالتزام بعدم العقاب، بملاحظة دليل
الصحة، إذ بدون ذلك لا مجال للصحة. فانتبه.
وأما الوجه الثاني: فهو ما يمكن أن يستفاد من كلام المرحوم النائيني
(رحمه الله)، وإن كان كلامه في كلا تقريري بحثه لا يخلو عن اختلاف (1).
وقد ذكر هذا الوجه في الدراسات، وبيانه: ان المصلحتين المفروضتين التي
تقوم إحداهما بالطبيعي والأخرى بخصوص القصر - مثلا -، اما ان تكونا
ارتباطيتين بحيث لا يمكن حصول إحداهما بدون الأخرى، فلا وجه للحكم
بصحة التمام لعدم ترتب أي مصلحة عليه بعد أن لم تحصل المصلحة الزائدة. واما
ان تكونا استقلاليتين، فلازمه تعدد الواجب كون القصر واجبا في واجب، وهو

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 298 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 339 - الطبعة الأولى.
372

يستلزم تعدد العقاب عند ترك أصل الصلاة، مع أنه مناف للضرورة وظواهر
الاخبار (1).
وهذا الوجه كسابقه قابل للمنع بكلا شقيه.
فان لنا ان نختار الشق الأول ونلتزم بارتباطية المصلحتين، ولكن نقول إن
المترتب على التمام مصلحة وغرض غير ما يترتب على القصر من مصلحة
وغرض، وان كان بينهما جامع نوعي.
وعليه، فمصلحة القصر بما لها من المرتبة الزائدة على مصلحة التمام
مصلحة ارتباطية لا يتصور حصول جزء منها وحده، وهذا لا ينافي ترتب مصلحة
ارتباطية أخرى على التمام تمنع من حصول مصلحة القصر للتضاد بينهما.
ونظيره في العرفيات: أن يكون الشخص مبتلى بألمين ألم في أذنه وألم أشد
في عينه، وفرض ان الثاني أهم، وكان هناك كأسان من الدواء يترتب على أحدهما
رفع ألم الاذن وعلى الاخر رفع ألم العين، وكان استعمال أحدهما موجبا لانتفاء
الانتفاع بالاخر، فإنه إذا استعمل الكأس الرافع لألم الأذن يصح ان يقال
بحصول مقدار من المصلحة بملاحظة المصلحة الجامعة، فيقال ان بعض الالم
ارتفع، وان كان ارتفاع الالم في كل واحد من العين والاذن بنحو الارتباط لا يقبل
التخفيف، بل اما أن يرتفع كله أو يبقى كله.
وجهة التوهم المزبور هو: فرض وجود مصلحة واحدة تترتب بالنحو الأتم
على القصر وبالنحو الناقص على التمام، مع أنه لا ملزم له، بل يمكن الالتزام
بتعدد نوع المصلحة مع التضاد بينهما. فانتبه.
ثم إن لنا ان نختار الشق الثاني: بان نلتزم باستقلالية المصلحتين، ولكن
نقول: إن ترتب مصلحتين في عرض واحد - لا بنحو الطولية كباب النذر للصلاة.

(1) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية 3 / 315 - الطبعة الأولى.
373

أول الوقت، فان التداخل فيه محل كلام - لا يستلزم تعدد الحكم، بل يكون هناك
حكم واحد، لكنه يكون آكد من الحكم الثابت للفعل ذي المصلحة الواحدة.
وعليه، فالقصر وان كانت فيه مصلحتان لكن لا يدعو ذلك لتعلق
وجوبين به، بل يثبت وجوب واحد بنحو أكيد، نظير المحرمات التي يترتب عليها
مفاسد متعددة.
وعلى هذا فلا يتعدد العقاب بترك القصر، لان تعدد العقاب فرع تعدد
التكليف لا فرع تعدد المصلحة.
نعم، لا محذور في الالتزام بان العقاب عليه أشد من العقاب على ترك
القصر لأهميته، إذ لم تقم الضرورة على عدم ذلك. إذن فما أفاده المحقق النائيني
ممنوع أيضا.
فيتحصل: ان ما أفاده صاحب الكفاية في دفع الاشكال في المسألة لا
محذور في الالتزام به في مورد التمام والقصر والجهر والاخفات.
وأما الايراد عليه: بان التضاد في الملاكات مع إمكان الجمع بين الفعلين
في الخارج بعيد، بل يكاد ان يلحق بأنياب الأغوال (1).
فهو مندفع:
أولا: بان الملاكات الشرعية غير معلومة لدينا كي نستطيع الحكم عليها
بعدم التضاد.
وثانيا: ان الأمثلة العرفية على التضاد في الملاكات مع امكان الجمع بين
الفعلين أكثر من أن تحصى، خصوصا في مثل باب الأطعمة والأشربة والأدوية.
فان منافاة الطعام السابق لحصول الانتفاع باللاحق ملموسة في كثير من الموارد،
فلاحظ تعرف، ولسنا بحاجة إلى الإطالة.

(1) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية 3 / 315 - الطبعة الأولى.
374

ثم إنك عرفت أن أساس الاشكال في هذه الموارد هو ترتب العقاب على
ترك العمل الواقعي مع الالتزام بصحة المأتي به. ولأجل ذلك ذهب المحقق
النائيني في مقام دفعه إلى إنكار ترتب العقاب على العمل المتروك، وذكر: ان
الاجماع المدعى لا يمكن ان يعتمد عليه، لان استحقاق العقاب ليس حكما
شرعيا، والاجماع انما يعتمد عليه في كشفه عن رأي المعصوم (ع) إذا كان إجماعا
على حكم شرعي لا على أمر عقلي (1).
وهذا البيان لا يمكن الموافقة عليه بوجه من الوجوه، لأنه لا يحتمل أن يكون
إجماع المجمعين مستندا إلى مراجعة البحوث الفلسفية، والالتزام بالعقاب
على أساس فلسفي أو كلامي أجنبي عن ثبوت الحكم الشرعي، وإنما هو مستند
إلى التزام ثبوت الحكم الشرعي في هذا المورد، فيترتب العقاب على مخالفته قهرا،
فاجماعهم على ترتب العقاب يرجع في الحقيقة إلى الاجماع على ثبوت حكم
شرعي، وهو وجوب العمل المتروك بنحو التعيين، بحيث يكون تركه مستلزما
لاستحقاق العقاب. فلا وجه لما أفاده (قدس سره)، وتابعه على ذلك السيد
الخوئي في الدراسات (2).
والحاصل: انه في المورد الذي يلتزم بثبوت التكليف الفعلي بالفعل المتروك
وعدم تدارك مصلحته بالمأتي به يكون تفصي صاحب الكفاية هو المتعين، بعد
عدم امكان الالتزام بالترتب في المقام، فان ما أفاده (قدس سره) يدفع جميع
جهات الاشكال. والله سبحانه العالم العاصم.
هذا تمام الكلام في هذه الجهة.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 295 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية 3 / 317 - الطبعة الأولى.
375

وقد نقل الشيخ (1) وغيره (2) - بعد ذلك - عن الفاضل التوني اشتراط
العمل بالبراءة بشرطين:
أحدهما: أن لا يكون مستلزما لاثبات حكم تكليفي، ومثاله إجراء أصالة
البراءة من الدين، فيثبت بها وجوب الحج لعدم المزاحم.
والاخر: أن لا يكون مستلزما للاضرار بالغير، كفتح قفص طائر يستلزم
طيرانه، فإنه لا مجال للتمسك بأصالة البراءة في اثبات جواز فتح القفص.
وقد توجهت المناقشات على الفاضل التوني..
فنوقش الوجه الأول: بأنه لا مانع من جريان البراءة إذا كانت موضوعا
للحكم الشرعي، واما إذا لم تكن موضوعا للحكم الشرعي فلا تتكفل البراءة
اثبات الحكم إلا على القول بالأصل المثبت.
ونوقش الوجه الثاني: بان المورد ان كان من موارد دليل نفي الضرر،
فعدم جريان البراءة لاجل وجود دليل اجتهادي مقدم عليها لا من جهة الضرر.
وإن لم يكن من موارد دليل نفي الضرر، فلا مانع من إجراء البراءة.
هذه خلاصة بعض المناقشات.
وقد تصدى المحقق النائيني (قدس سره) في مناقشة الوجه الأول إلى
بيان الموارد التي ينفع اجراء البراءة في اثبات التكليف فيها، والموارد التي لا ينفع
اجراء البراءة في اثبات التكليف فيها، وذكر تفصيلا رشيقا وإن كان لا يخلو عن
بحث في بعض أمثلته وخصوصياته - كمثال الحج، فإنه التزم ان إجراء البراءة
لا ينفع في اثبات وجوبه، لان الحي مقيد بعدم اشتغال الذمة واقعا، والبراءة لا

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 311 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 302 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 512 - الطبعة الأولى.
376

تتكفل نفي الشغل الواقعي. وفيه: انه لم يقم دليل خاص على اخذ عدم الشغل
واقعا في موضوع وجوب الحج، وانما يعتبر من باب اخذ الاستطاعة الشرعية في
موضوعه، وهي لا تتحقق مع وجوب أداء الدين، بل مع مزاحمة أقل الواجبات،
ومن الواضح ان سلب القدرة شرعا يناط بفعلية وجوب أداء الدين، واصل
البراءة ينفيه، فلاحظ -. لكن لا يخفى ان هذا التفصيل العلمي الرشيق أجنبي
عن كبرى دعوى الفاضل التوني، وإنما هو تحقيق راجع إلى الصغرى.
فالمهم تحقيق الكبرى التي ادعاها الفاضل التوني.
ويمكن توجيه ما أفاده - مع قطع النظر عما ينقل من كلامه في توجيهها -:
بان المعروف بين الأصحاب كون حديث الرفع واردا مورد الامتنان وبملاكه
نظير رفع الضرر، فلا يجري في مورد يكون في جريانه منافاة للامتنان، كما لو
كان اجراؤه مستلزما لثبوت تكليف شرعي أكثر كلفة ومشقة من التكليف المنفي،
كمثال براءة الذمة من الدين الذي يترتب عليه وجوب الحج، فإنه لا امتنان في
رفع التكليف بالدين لوقوع المكلف بسببه في كلفة الحج.
وهكذا لو كان اجراؤه مستلزما للاضرار بالغير، بملاحظة ان الملحوظ هو
الامتنان على الأمة والنوع لا خصوص من يجري في حقه حديث الرفع، فإنه لا
امتنان في اجراء البراءة مع استلزامها ضرر الغير، فهي لا تجري مع قطع النظر
عن أدلة نفي الضرر.
فاشتراط هذين الشرطين انما هو بملاك عدم الامتنان في جريان البراءة.
فلا بد في تحقيق صحة ذلك من ملاحظة ان الملحوظ هل هو الامتنان في
نفسه أو الامتنان الفعلي بملاحظة خصوصيات الواقعة وملازماتها؟. فإذا كان
الملحوظ هو الأول لم يتوجه اعتبار هذين الشرطين، إذ في اجراء البراءة امتنان
في نفسه. وإذا كان الملحوظ هو الثاني توجه اعتبارهما كما عرفت. وظاهر
الأصحاب هو الثاني، نظير ما يلتزم به في حديث نفي الضرر كما سيأتي.
377

وقد تقدم منا في مبحث حديث الرفع انكار هذا الاستظهار من أساسه،
وأنه لا وجه لدعوى كون حديث الرفع واردا بملاك الامتنان، ولو سلم أن يكون
للامتنان فلم يظهر أنه علة، بل غايته أن يكون حكمة.
هذا مع أنه لا ينعقد الامر في مثال الحج لو فرض عدم جريان أصالة
براءة الذمة من الدين لاجل عدم الامتنان، إذ في استصحاب عدم التكليف غنى
وكفاية، وقد عرفت أنه لا مانع من جريانه إذا كان موضوعا لحكم شرعي.
فلاحظ.
هذا تمام الكلام في شروط العمل بالبراءة.
وقد تعارف لدى الاعلام تذييل مباحث البراءة والاشتغال بالبحث عن
قاعدة نفي الضرر، ونحن نجاريهم في هذا الامر ونوقع البحث فيها، ومن الله
سبحانه نستمد المعونة والعصمة وهو حسبنا ونعم الوكيل (1).

(1) تم البحث في يوم الأحد 5 / 8 / 91 ه‍.
378

قاعدة
نفى الضرر
379

" قاعدة نفي الضرر "
لا يخفى انه لا أهمية للبحث عن كون هذه القاعدة أصولية أو فقهية،
فإنه ليس بذي جدوى.
وإنما المهم تحقيق الحال في ثبوت القاعدة وحدودها وقيودها. ولا بد من
سرد الاخبار التي تكفلت نفي الضرر بنحو العموم، ثم البحث عن المستفاد من
متونها.
وهي متعددة.
فمنها: رواية عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)،
قال: " ان سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل
الأنصاري بباب البستان، فكان يمر إلى نخلته ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري
ان يستأذن إذا جاء فأبى سمرة فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) فشكا إليه وخبره الخبر. فأرسل إليه رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) وخبره بقول الأنصاري وما شكا، وقال: إذا أردت الدخول
فاستأذن. فأبى. فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله، فأبى ان يبيع.
فقال: لك بها عذق يمد لك في الجنة. فأبى ان يقبل. فقال رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا
381

ضرار " (1).
ومنها: رواية عبد الله بن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)
نحو ما تقدم، إلا أنه قال: " فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): انك
رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن. ثم قال: ثم أمر بها فقلعت ورمي بها
إليه. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): انطلق فاغرسها حيث
شئت " (2).
ومنها: رواية أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام) نحو ما تقدم،
ولكن في آخرها قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما أراك يا سمرة الا رجلا
مضارا، اذهب يا فلان فاقلعها - فاقطعها - واضرب بها وجهه " (3).
ومنها: رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قضى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أهل المدينة في مشارب النخل انه لا
يمنع نفع الشئ، وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء،
فقال: لا ضرر ولا ضرار " (4).
وفي الكافي، بدل قوله: " فقال " قوله: " وقال لا ضرر... ".
ومنها: رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قضى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن
وقال: لا ضرر ولا ضرار. وقال: إذا أرفت الأرف وحدث الحدود فلا شفعة " (5).

(1) الكافي 5 / 292، حديث: 2.
التهذيب 7 / 146، حديث: 36. من لا يحضره الفقيه 3 / 233، حديث: 3859.
(2) الكافي 5 / 294، حديث: 8.
(3) من لا يحضره الفقيه 3 / 103. حديث: 3423.
(4) الكافي 5 / 263، حديث: 6.
(5) الكافي 5 / 280، حديث: 4.
التهذيب 7 / 164، حديث: 4. من لا يحضره الفقيه 3 / 76، حديث: 3368.
382

ومنها: رواية الصدوق في الفقيه في مقام بيان ان المسلم يرث من الكافر
والكافر لا يرث من المسلم قال: " وان الله عز وجل انما حرم على الكفار الميراث
عقوبة لهم لكفرهم، كما حرم على القاتل عقوبة لقتله، فاما المسلم فلاي جرم
وعقوبة يحرم الميراث؟! وكيف صار الاسلام يزيده شرا؟! مع قول النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم): الاسلام يزيد ولا ينقص، ومع قوله عليه السلام: لا ضرر
ولا اضرار في الاسلام. فالاسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرا (1). ومع قوله
عليه السلام: الاسلام يعلو ولا يعلى عليه... " (2).
ومنها: ما حكي عن المستدرك عن دعائم الاسلام عن أبي عبد الله (عليه
السلام: " انه سئل عن جدار الرجل وهو سترة بينه وبين جاره سقط عنه فامتنع
من بنائه، قال: ليس يجبر على ذلك إلا أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار
الأخرى بحق أو بشرط في أصل الملك، ولكن يقال لصاحب المنزل اشتر على
نفسك في حقك إن شئت. قيل له: فإن كان الجدار لم يسقط ولكنه هدمه أو أراد
هدمه اضرارا بجاره لغير حاجة منه إلى هدمه؟. قال: لا يترك، وذلك أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا ضرر ولا ضرار، وان هدمه كلف أن
يبنيه " (3).
وهذه جملة من النصوص الواردة في هذا المقام.
ويقع الكلام فيها تارة من ناحية السند وأخرى من ناحية المتن.
أما ناحية السند: فالظاهر أنه لا يحتاج إلى اتعاب النفس لان السند في
بعض ما تقدم وإن لم يكن تاما، لكن يحصل من المجموع مما رواه الخاصة والعامة
الوثوق بصدور هذا المضمون من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

(1) من لا يحضره الفقيه 4 / 334، حديث 5718.
(2) من لا يحضره الفقيه 4 / 334، حديث 5719.
(3) دعائم الاسلام 2 / 504، حديث: 1805.
383

واما ناحية المتن فالكلام فيها من جهات عديدة:
الجهة الأولى: ان كثيرا من النصوص المتقدمة المروية بطرقنا ومثلها
المروي بطرق العامة ورد فيها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا ضرر ولا
ضرار " من دون تقييد بكلمة: " في الاسلام " وإنما ورد التقييد بذلك في رواية
الصدوق خاصة، ونقل أيضا عن نهاية ابن الأثير من كتب العامة (1).
فيقع الكلام في أنه هل يمكن البناء على ورود هذا القيد أم لا؟.
ولا يخفى ان للبناء على ثبوته وعدمه اثرا عمليا في ما يستفاد من الهيئة
التركيبية لنفي الضرر.
فقد جعله الشيخ من القرائن على ما استفاد من تكفل الرواية نفي
الحكم المستلزم للضرر من باب نفي السبب بلسان نفي السبب، ومن مبعدات
احتمال إرادة النهي عن الضرر من نفي الضرر (2).
وكيف كان، فالحق انه لا يمكننا البناء على ثبوت هذا القيد وصدوره من
الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولا يخفى أن محور الكلام هو رواية الصدوق دون مرسلة ابن الأثير في
النهاية، إذ لا يحتمل ان يستند إلى رواية النهاية في البناء على صدور هذا القيد،
بعد أن كانت مرسلة لعامي.
والذي نستند إليه في التوقف عن العمل برواية الصدوق (رحمه الله) هو
وجهان:
الوجه الأول: الوثوق أو قوة احتمال كون كلمة: " في الاسلام " زيادة من
الصدوق لا قولا للنبي (ص).

(1) ابن الأثير. النهاية 3 / 81 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 314 - الطبعة الأولى.
384

والوجه الثاني: عدم تمامية السند.
أما الوجه الأول: فلنا عليه قرائن ومؤيدات:
أولا: ان النقل..
تارة يكون باللفظ مع قطع النظر عن معناه، بل قد لا يفهم الناقل معنى
اللفظ وانما ينقله بنصه لغرض هناك.
وأخرى: يكون بالمضمون والمعنى. فلا يلحظ فيه نقل النص اللفظي
للمنقول عنه، بل نقل ما يفهمه الناقل من كلام المنقول عنه.
ومن الواضح ان الصدوق (رحمه الله) في روايته ليس في مقام النص
اللفظي لكلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل في مقام حكاية المضمون
والمعنى، لأنه في مقام الاستدلال على ارث المسلم من الكافر، وهو يرتبط بمفاد
قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بنفس اللفظ.
وإذا اتضحت هذه الجهة نضم إليها جهة أخرى، وهي: ان صاحب
القانون والتشريع إذا شرع حكما بانشاء معين صح ان ينقل عنه تشريع ذلك
الحكم في القانون ولو لم يكن لفظ - في القانون - واردا عند تشريعه.
فيصح ان يقال: ان الله حرم الغيبة في الاسلام مع أن انشاء تحريم الغيبة
لم يكن مشتملا على كلمة: " في الاسلام ".
كما يصح ان يقال: ان الحكومة شرعت السجن في العراق، ولو لم يكن
الانشاء مشتملا على كلمة: " في العراق ".
ويصح أن يقال: ان زيدا يقول لا أرضى باللعب في بيتي، والحال انه لم
ينه إلا عن اللعب بلا أن يقول: " في بيتي "، ولكن كان ظاهر حاله باعتبار سلطنته
على بيته كون تحريمه بلحاظ بيته.
ولا يعد مثل هذا خيانة في النقل، بل هو أمر يجري عليه الكل بعد أن
كان النقل بالمعنى لا بنص اللفظ. والناقل للمعنى لا يتقيد بخصوص اللفظ
385

وحدوده، بل له ان ينقل المعنى بما يستفيده من ملاحظة الحال.
وبما أن الشارع بما هو شارع انما ينفي الضرر بلحاظ تشريعه ودينه،
فنسبة نفي الضرر في الاسلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما تتلاءم
مع نطقه بها كذلك تتلاءم مع عدم نطقه بها بملاحظة حاله وشأنه.
فبملاحظة هاتين الجهتين لا يثبت ظهور لنقل الصدوق (رحمه الله) في أنه
يريد بيان ان كلمة: " في الاسلام " جزء قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
بل يمكن أن يكون نقلا بحسب ملاحظته ظاهر حال الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) وشأنه.
وثانيا: ان ارتكاز الأشباه والنظائر قد يوقع في الغفلة، وبما أن لهذه الجملة
أشباها كثيرة مثل " لا رهبانية في الاسلام "، و: " لا مناجشة في الاسلام "، و: " لا
اخصاء في الاسلام "، فقد يكون ذلك منشئا لاشتباه الصدوق (رحمه الله) في
رواية: " لا ضرر " لأنها شبيهة بتلك النصوص.
وأصالة عدم الغفلة لا يبنى عليها إذا كان احتمال الغفلة معتدا به عرفا
كما في المورد، فيكون نظير مورد معلومية كثرة الغفلة من الناقل، فإنه لا يبني
على أصالة عدم الغفلة في نقله.
وثالثا: ان كلمة: " في الاسلام " لو كانت جزء من كلام الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم)، فلا يصح إلا بتقدير، إذ الظرفية لا تصح بلحاظ نفس الضرر
إذ لا معنى له كما لا يخفى. كما لا تصح بلحاظ نفي الضرر، لان النفي ههنا مفاد
الحرف وهو لا يصلح لان يكون طرفا للربط، فلا بد من تقدير. بخلاف ما لو
كانت راجعة إلى كلام الصدوق، بحيث يكون: " في الاسلام " مرتبطا ب‍: " قوله "
فيكون المراد: " وقوله في الاسلام لا ضرر... " ويراد من القول التشريع والجعل.
ورابعا: ان الظاهر أن هذه الجملة - أعني: " لا ضرر ولا ضرار " - غير مستقلة
بالبيان، بل هي من ذيول قصة سمرة أو غيرها، ولا ظهور لكلام الصدوق في أنها
386

واردة ابتداء، لأنه ليس في مقام نقل الرواية، بل في مقام الاستدلال بهذه الفقرة
فلا ينافي كونها من ذيول واقعة معينة كواقعة سمرة.
ولا يخفى ان رواية سمرة بجميع صورها لم ترو بهذا النحو - أعني:
بإضافة قيد: " في الاسلام " -، وهكذا غير رواية سمرة المذيلة بنفي الضرر.
وعليه، فيدور الامر بين احتمال النقص فيها واحتمال الزيادة في رواية
الصدوق.
والثابت في محله وان كان تقديم أصالة عدم الزيادة مع التعارض، لقوة
احتمال الغفلة الموجبة للنقص من الغفلة الموجبة للزيادة.
إلا أن تظافر النقل مع النقيصة، مع قوة احتمال الزيادة بملاحظة الوجوه
الثلاثة المتقدمة يبعد جريان أصالة عدم الزيادة.
والحاصل: انه بملاحظة هذه الوجوه لا يبقى مجال للبناء على ثبوت هذا
القيد في كلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدم كونه من كلام الصدوق،
لعدم الاطمئنان بذلك وعدم ما يصحح البناء عليه تعبدا.
وأما الوجه الثاني: فان رواية الصدوق (رحمه الله) وإن لم تكن مرسلة كأن
يقول: " روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)... "، لأنه أسند القول إلى
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بصورة باتة جزمية، وهكذا يكشف عن بنائه
على صدور هذا الكلام من النبي (ص).
إلا أن هذا لا ينفع في صحة البناء على حكايته، وذلك لأنه لم يظهر من
حكايته انه قد اعتمد على رواية تامة السند كي يكون ذلك منه شهادة على صحة
السند، إذ يمكن ان تكون الرواية الواصلة إليه غير تامة السند لكنه اطمئن
بصدورها اعتمادا على قرائن قد لا توجب الوثوق لنا لو عثرنا عليها. فلا يمكن
الاعتماد على حكايته. فالتفت.
الجهة الثانية: في إمكان البناء على ثبوت قيد: " على مؤمن " بعد قوله:
387

" لا ضرر ولا ضرار " وعدم إمكانه.
ولا يخفى عليك ان جميع الروايات التي نقلناها خالية عن هذا القيد ما
عدا رواية ابن مسكان عن زرارة الواردة في قصة سمرة بن جندب.
ولكنها لا تصلح للاستناد إليها، فإنها مضافا إلى ورود الوجه الرابع الذي
ذكرناه بالنسبة إلى رواية الصدوق المتكفلة لإضافة قيد: " في الاسلام ". ضعيفة
السند، لان بعض أفراد سلسلة السند مجهول للتعبير عنه ب‍: " بعض أصحابنا "،
فلا تكون حجة. ومن الغريب ان الشيخ (رحمه الله) في الرسائل ذكر هذه الرواية
وجعلها من أصح ما في الباب سندا (1). فانتبه.
والذي يتحصل لدينا من مجموع ما تقدم: ان الشئ الثابت من
النصوص هو خصوص جملة: " لا ضرر ولا ضرار " بلا زيادة كلمة: " في الاسلام "
أو: " على مؤمن ".
الجهة الثالثة: في أن جملة: " لا ضرر ولا ضرار " هل وردت مستقلة كما
وردت جزء، أو انها لم ترد إلا جزء كلام آخر؟.
والحق: انه لا يمكن الالتزام بورودها مستقلة لوجهين:
الأول: انه لا طريق إلى اثبات ذلك لا من طرق العامة ولا من طرق
الخاصة.
أما العامة، فإنهم وإن أوردوها في أحاديثهم مستقلة فقط، فلم يرووا سوى
هذه الجملة فقط، لكنا نعلم بأنهم حذفوا مواردها للقطع بورودها في بعض الموارد
الخاصة، ومنها واقعة سمرة بملاحظة نصوصنا، فإنه يكشف عن اغفالهم لمواردها
سهوا أو عمدا.
وعليه، فلا يمكن ان يعتمد على نقلها مستقلة في اثبات انها وردت كذلك.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 314 - الطبعة الأولى.
388

نعم، لو رويت بطرقهم بنحوين مستقلة وغير مستقلة، لأمكن دعوى
ظهور ذلك في الاستقلال.
وأما الخاصة، فلم ترد في الروايات مستقلة إلا في رواية الصدوق ورواية
دعائم الاسلام المتقدمتين.
ولكن لا ظهور لرواية الدعائم في كونها مستقلة الورود، لأنه ليس في مقام
الحكاية ابتداء، بل في مقام الاستدلال على الحكم الذي بينه، فمن الممكن أن يكون
نظره (عليه السلام) إلى ورود هذه الفقرة في رواية سمرة مثلا، فذكرها
شاهدا.
وأما رواية الصدوق (رحمه الله)، فقد عرفت أنه في مقام الاستدلال على
فتواه، فلا ظهور لحكايته في ورودها مستقلة كما لا يخفى.
الثاني: انه لا يظهر لهذه الجملة بنفسها وابتداء معنى محصل من دون
سابق ولاحق كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام. نعم لو كانت ملحقة
بقيد: " في الاسلام " أو: " على مؤمن " لكانت ذات معنى، إلا انك عرفت عدم
ثبوت أحد هذين القيدين. فتدبر.
الجهة الرابعة: في تطبيق قاعدة: " لا ضرر ولا ضرار " في مورد الحكم
بالشفعة ومورد النهي عن المنع عن فضل الماء ليمنع فضل كلاء، في روايتي عقبة
بن خالد.
فقد وقع البحث فيه من ناحيتين:
الناحية الأولى: في صحة تطبيق نفي الضرر والضرار في هذين الموردين.
وعمدة الاشكال في صحة ذلك في مورد الحكم بالشفعة وجهان:
أحدهما: عدم تحقق الضرر فعلا في بيع حصة الشريك لغير شريكه. نعم
قد يتحقق الضرر في المستقبل، كما إذا كان الشريك الجديد سئ الخلق وغير
ذلك، فالبيع يكون مقدمة اعدادية للضرر التي قد يترتب عليها الضرر، وقد لا
389

يترتب وفي مثله لا يصدق الضرر فعلا كي يصح نفيه بالقاعدة، فهل يقال لبيع
السكين أو امضائه انه ضرري لأنه مقدمة اعدادية للاضرار بالغير بالجرح؟!.
والاخر: ان نفي الضرر لا يتكفل على تقدير انطباقه سوى نفي اللزوم
واثبات الجواز الحكمي من دون أن يثبت حقا للشريك على حد سائر الحقوق،
مع أن الثابت في مورد الشفعة هو الجواز الحقي، فان الشفعة تعد من الحقوق.
واما الاشكال في صحة تطبيق نفي الضرر على مورد منع فضل الماء، فهو
وجهان أيضا:
أحدهما: ان منع المالك فضل مائه عن الغير لا يعد اضرارا به، بل هو
عدم ايصال للنفع إليه، فلا ربط له بنفي الضرر.
والاخر: ان الملتزم به في هذا المورد هو كراهة المنع لا حرمته.
ومن الواضح ان مقتضى نفي الضرر ههنا هو حرمة منع الماء، إذ الضرر
- على تقديره - انما يترتب على الجواز بالمعنى الأعم لا خصوص الإباحة.
ولو ادعى ان مفاد نفي الضرر تحريم الضرر. فالاشكال من هذه الجهة
أوضح.
وبالجملة: هذان الموردان لا يصلحان لتطبيق نفي الضرر فيهما بأي معنى
فرض له من المعاني التي سيأتي البحث فيها إن شاء الله تعالى.
ومن هنا التجأ البعض إلى دعوى: ان ذكر لا ضرر في كلتا الروايتين من
باب الجمع في الرواية لا في المروي (1).
كما التجأ المحقق النائيني إلى حمل تطبيق نفي الضرر في الموردين من
باب الحكمة لا العلة (2).

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 1 / 521 - الطبعة الأولى.
(2) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر / 195 - المطبوعة ضمن غنية الطالب.
390

والتحقيق: إنا لا نرى اشكالا في صحة تطبيق نفي الضرر في هذين
الموردين بنحو العلية، فلا تصل النوبة إلى ما أشرنا إليه بيان ذلك:
أما في مورد الشفعة...
فالوجه الأول من الاشكال يندفع: بان بيع الحصة من شخص آخر
يكون معرضا لترتب الضرر على مشاركته للشريك الأول، للجهل بحاله
وخصوصياته وما يترتب على اشتراكه في الملك والتصرف. مثل هذا البيع يوجب
نقصا في مالية حصة الشريك الأول بلا إشكال، وهو ضرر واضح. فالضرر
مترتب مباشرة على البيع بملاحظة ان المعرضية للابتلاء بشخص آخر مجهول
الحال يستلزم نقص المالية وهو ضرر فعلي، وليس بملاحظة ترتب الضرر
الخارجي، كي يقال ان نسبة البيع إليه نسبة المعد لا السبب.
فالاشكال نشأ من ملاحظة الضرر الصادر من الشريك نفسه، والغفلة
عن الضرر الحاصل من الشركة نفسها، فانتبه.
وهذا البيان وان تأتي نظيره في موارد القسمة بلحاظ ان جوار مجهول
الحال أيضا يوجب نقص المالية، لكن بعد قيام الدليل الخاص على عدم الشفعة
فيها، ولو بملاحظة اختلاف مرتبة الضرر فيها عن مرتبته في مورد الشركة،
لتوقف تصرف الشريك الأول على إذن الشريك الجديد، بخلاف مورد القسمة.
لا يبقى مجال لدعوى تأتي نفي الضرر في موارد القسمة.
وأما الوجه الثاني، فيندفع: بان ثبوت الحق في مورد الشفعة ليس بدليل
نفي الضرر، بل هو بواسطة دليل منفصل بملاك آخر ودليل نفي الضرر لم
يتكفل سوى اثبات الجواز، ولا ينافيه ان يقوم دليل آخر على ثبوت الحق. ولا
دليل على أن السائل استظهر من كلام الإمام (عليه السلام) ثبوت الحق بلا
ضرر.
وبالجملة: لا ظهور للتعليل في كونه تعليلا للحق، بل هو تعليل للجواز
391

وكونه حقا ثابتا بملاك آخر وبدليل آخر.
وأما في مورد منع فضل الماء..
فالوجه الأول من الاشكال يندفع: بان الرواية واردة في مورد يكون
للشخص ماء ويكون في جنبه كلاء للرعي، فإذا رعت أغنام الغير في الكلاء
عطشت فاحتاجت إلى الماء، فإذا منع المالك ماءه عنها كان ذلك سببا لعدم رعيها
في الكلاء لأنها تموت عطشا، فيضطر مالك الغنم إلى ترك هذا المدعى إلى مرعى
آخر.
وهذا أوجه ما قيل في معنى الرواية.
وعليه، فمنع الماء يكون سببا لمنع الانتفاع بالمرعى، فيكون سببا للضرر،
لان عدم النفع وإن لم يعد ضررا بقول مطلق، لكنه في مورد قيام المقتضي
للانتفاع يكون المنع عنه معدودا عرفا من الاضرار. إذن فمورد الرواية هو ما
يكون المنع من فضل الماء موجبا للضرر. فيصح تطبيق نفي الضرر عليه.
وأما الوجه الثاني، فيندفع: بأنه لا مانع من الالتزام بالتحريم كما نسب
إلى جمع من المحققين، وليس فيه مخالفة لضرورة فقهية.
والذي يتحصل انه لا اشكال في تطبيق لا ضرر في كلا الموردين. ولولا
ما ذكرناه لأشكل الامر على ما سلكه المحقق النائيني في الالتزام بان الملحوظ
في تطبيق نفي الضرر هو بيان الحكمة لا العلة، فان مقتضاه التوقف في ظهور
نفي الضرر في رواية سمرة في العلية، إذ لا محذور في أخذ الضرر بنحو الحكمة
في مورد وبنحو العلة في مورد آخر. لكن بعد وحدة التعبير في جميع النصوص
يبعد ان يختلف المراد منه، بل الظاهر أن المراد به واحد، بان يكون علة في الجميع،
أو حكمة في الجميع. فتدبر.
الناحية الثانية: في أن حكاية قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا ضرر
ولا ضرار " في روايتي عقبة المزبورتين في موردي الشفعة ومنع فضل الماء، هل هو
392

من باب الجمع في الرواية، بمعنى انه صدر في غير هذين الموردين ومنفصلا عن
قضائه فيهما، ولكن جمع الراوي بين روايته ورواية قضائه في موردي الشفعة ومنع
فضل الماء؟، أو انه من الجمع في المروي، بمعنى انه جزء من قضائه في مورد
الشفعة ومن قضائه في مورد منع فضل الماء؟. ولا يخفى ان البحث في الناحية
الأولى متفرع على الثاني، ولا مجال له على الأول الذي قد أصر عليه المحقق
شيخ الشريعة الأصفهاني (رحمه الله) في رسالته الصغيرة، بتقريب: ان عبادة بن
الصامت نقل أقضية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي كثيرة، ونقل من
جملتها نفي الضرر والضرار، والشفعة، والنهي عن منع فضل الماء ليمنع فضل
كلاء. ونقله ظاهر في انفصال قضائه (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفي الضرر عن
قضائه بالشفعة وعدم منع فضل الماء.
وبملاحظة التشابه بين نقل عبادة ونقل عقبة بعض تلك الأقضية - ومنها
ما نحن فيه - في الألفاظ، بل ربما تكون بلفظ واحد، يحصل الاطمئنان بان ما
يروم نقله عقبة هو ما يروم نقله عبادة، وانهما ينقلان وقائع واحدة، وبملاحظة
وثاقة عبادة وتثبته في النقل يحصل الاطمئنان بان عقبة في اختلافه مع عبادة في
تذييله قضائه (ص) في موردي الشفعة ومنع فضل الماء كان قد جمع بين الرواية
لا المروي (1).
ولكن ما أفاده (قدس سره) لا يمكن الالتزام به، فان ظهور رواية عقبة
في كلا الموردين في كون قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا ضرر ولا ضرار "
جزء من قضائه بالشفعة أو بعدم منع فضل الماء، وانه (صلى الله عليه وآله وسلم)
في مقام تعليل قضائه بهما بنفي الضرر والضرار، ببيان كبرى كلية مما لا يكاد ينكر
ولا يخفى، خصوصا روايته الواردة في الشفعة، لتعقيبه نقل لا ضرر ببيان حكم

(1) الأصفهاني العلامة شيخ الشريعة، قاعدة لا ضرر / 20 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
393

ما إذا وقعت القسمة وانه لا شفعة بعدها. فان ذلك ظاهر غاية الظهور انه لم
ينتقل في حكايته قول النبي (صلى اله عليه وآله وسلم): " لا ضرر ولا ضرار " إلى
بيان قضاء آخر صدر منه (ص) في واقعة أخرى، بل هو في مقام بيان ما صدر
من الاحكام في مورد بيع الشريك.
وبالجملة: رواية عقبة بمقتضى ظهورها تأبى عن حملها على الجمع في
الرواية.
ومجرد رواية عبادة قضاءه (ص) في هذين الموردين بلا تذييل بنفي الضرر
والضرار، لا يصلح أن يكون قرينة على رفع اليد عن هذا الظهور بل الصراحة.
مع أن وثاقة عبادة لا تدعو إلى ذلك، بعد أن كانت سلسلة السند إليه
ليست بتلك المرتبة من الوثاقة.
مضافا إلى العلم بان عبادة لم يكن بصدد نقل موارد ورود نفي الضرر،
بل بصدد نقل الكبرى الكلية لا غير بقطعها عن موردها، إذ من الواضح ورود
نفي الضرر في واقعة سمرة ولم ينقلها عبادة أصلا. فلا يكون نقله: " لا ضرر ولا
ضرار " منفصلا عن القضاء بالشفعة دليلا على عدم وروده في ذلك المورد.
خصوصا بملاحظة ما تقدم منا في الجهة الثالثة من عدم تصور معنى محصل لهذه
الجملة إذا وردت مستقلا. فراجع.
ولعل منشأ الالتزام بان المورد من موارد الجمع في الرواية هو الاشكال
الذي عرفته من الناحية الأولى - كما صرح به بعض -. لكن عرفت اندفاعه
بحذافيره فلا مقتضى للتكلف، والله سبحانه العالم.
الجهة الخامسة: في معنى مفردات هذه الفقرة، أعني: " لا ضرر ولا
ضرار ".
أما لفظ: " الضرر "، فلا شبهة في أنه يصدق على مطلق النقص في المال
والعرض والبدن.
394

وهل يصدق على عدم النفع؟. لا شبهة في عدم صدقه على عدم النفع إذا
لم يكن في معرض الوصول بتمامية مقتضيه.
إنما الاشكال في صدقه على عدم النفع إذا كان في معرض الوصول، كما
لو كان مقتضى النفع وشرطه تاما فمنع من تحققه.
ولا يخفى ان هذا النحو يتصور على نحوين:
أحدهما: أن يكون النفع في معرض الوصول إلى هذا الشخص كزيد -
مثلا -، ولكن لا بخصوصيته وبما أنه زيد، بل بما أنه فرد من افراد العنوان الكلي
المنطبق عليه الذي يصل إليه النفع عادة. غاية الامر ان العنوان انحصر فرده
بزيد. مثلا، إذا كان في بلد النجف خبازا واحدا، فعند حلول موسم الزيارة يكون
مقدار بيعه للخبز كثيرا جدا، ولكن شراء الزوار منه لا لخصوصيته بل بما أنه
خباز، وانما يقصدون الشراء منه خاصة لانحصار الكلي به. والأمثلة على ذلك
كثيرة.
والاخر: أن يكون النفع في معرض الوصول للشخص الخاص
بخصوصيته.
كما إذا كان الناس يشاورون زيدا ويتركون غيره من مماثليه من جهة
حسن خلقه ومساهلته في باب المعاملة.
ولا يخفى ان العرف يطلق لفظ الضرر على عدم النفع في كلا هذين
الموردين. ففي المثال الأول لو فتح شخص آخر دكانا لبيع الخبر فسبب ذلك
قلة الشراء من الأول يقول الأول اني قد تضررت بفتح الاخر دكانا لبيع الخبز،
وانه قد ضرني، كما يقال في الفارسية: " ضرر به من زده ".
وهكذا في المثال الثاني لو صرف شخص آخر الناس عن زيد إليه بأفضل
من أخلاق زيد، يقول زيد انه تضرر بذلك وان فلانا ضره.
وبالجملة: صدق الضرر عرفا في هذه الموارد لا ينبغي الاشكال فيه. إلا
395

ان الالتزام بانطباق قاعدة نفي الضرر في الأول - بأي معنى من المعاني المفروضة
لها من النهي أو نفي أو غيرهما - مما لا يقول به أحد، ويستلزم تأسيس
فقه جديد.
فهل يلتزم أحد بحرمة فتح الاخر دكانا يوجب تقليل الشراء من
الأول؟. فهو وان كان ضررا موضوعا، لكن ليس له حكمه الذي نبحث عنه في
قاعدة نفي الضرر. وأما الثاني: فهو مما لا يمكن الالتزام بانطباق القاعدة
المبحوث عنها عليه بقول مطلق وان أمكن الالتزام به في بعض الموارد، إذ لا أظن
ان أحدا يلتزم بحرمة فتح دكان في قبال زيد وصرف الناس عن زيد ووجههم
إليه، أو بحرمة صرف المشتري من زيد لخصوصيته إلى عمرو.
نعم، في مثل ما لو كان ماء جار كان بمقتضى طبع جريانه يمر بدار زيد،
يمكن الالتزام بحرمة تحويل مجراه عن دار زيد.
ومما ذكرناه في تحقيق معنى الضرر يظهر ان تقابله مع النفع ليس بتقابل
التضاد لصدقه على عدم النفع. وليس بتقابل العدم والملكة لصدقه على النقص
وهو أمر وجودي، بل هو أعم من النقص المضاد للنفع ومن عدم النفع في المورد
الذي فيه اقتضاء للنفع المقابل للنفع بتقابل العدم والملكة.
وكيف كان فهذا ليس بمهم فيما نحن بصدده، وانما المهم تحقيق معنى
الضرر وتحديده وانه خصوص النقص أو أعم من عدم النفع في موارد وجود
المقتضي للنفع، وقد عرفت تحقيق ذلك.
وهذا أولى من صرف البحث إلى الكلام في صحة دعوى أن التقابل بينهما
تقابل التضاد، كما هو ظاهر اهل اللغة (1). أو العدم والملكة كما هو ظاهر صاحب
الكفاية (2)، وعدم صحتها بعد فرض ان الضرر بمعنى النقص. لأنه بحث

(1) الضر والضر: ضد النفع، أقرب الموارد والنهاية - الضر: ضد النفع، الصحاح.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 381 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
396

اصطلاحي صرف لا أهمية له فيما نحن فيه، بل كان ينبغي تحقيق معنى الضرر
وحدوده كما عرفت.
وبذلك يظهر لك المسامحة في حاشية المحقق الأصفهاني. فراجع (1).
وأما لفظ: " الضرار " فقد قيل في معناه: انه فعل الاثنين وانه الجزاء على
الضرر. ولعله الوجه في ذلك ما اشتهر ان مصدر باب المفاعلة يدل على تحقق
المبدأ من اثنين كالقتال والضراب، والضرار منها لأنه مصدر من المضارة.
ولكن تصدى المحققون والمتتبعون (2) إلى انكار هذا الامر المشهور بسرد
الشواهد الكثيرة من الكتاب والسنة والاستعمالات العرفية مما لا يراد بها فعل
الاثنين من المصدر. فراجع تعرف. وذلك يكفي تشكيكا أو منعا لهذا القول.
هذا مضافا إلى أنه لم يرد به ذلك في رواية سمرة قطعا، لأنه طبق عنوان:
" المضار " على سمرة مع أنه لم يتحقق الضرر من الأنصاري، بل كان سمرة
منفردا به.
مع أن المنفي ان كان فعل الاثنين الحاصل في زمان واحد، فنفس نفي
الضرر يتكفل نفيه فلا يزيده نفي الضرار شيئا. وان كان المنفي فعل الثاني
الحاصل بعنوان الجزاء، فهو يتنافى مع مفاد قوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (3) فلا يمكن الالتزام به.
إذن فتحقيق صحة هذا القول في معنى الضرار وعدم صحته لا أهمية له
فيما نحن فيه.
كما أنه لا أهمية لتحقيق صحة ما أفاده بعض المحققين بعد رد هذا القول.
من: ان مصدر باب المفاعلة يدل على نفس المبدأ ولكن بضميمة ملاحظة تعديه

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 317 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 317 - الطبعة الأولى.
(3) سورة البقرة، الآية: 194.
397

إلى المفعول وتعلقه بالغير، فالضرار يدل على الضرر الملحوظ وقوعه على الغير،
بخلاف الضرر، فإنه يدل على نفس المبدأ بلا ملاحظة جهة تعديه إلى الغير.
وذلك لان مرجع هذا القول إلى كون معنى الضرار هو حصة خاصة من
الضرر، ومن الواضح انه يكفي في نفيه نفي الضرر، فالالتزام به لا يزيدنا شيئا.
كما أن الالتزام بان الضرار بمعنى التصدي إلى الضرر (1)، ان أريد به مجرد
التصدي ولو لم يتحقق الضرر، فلا يلتزم بنفيه وحرمته قطعا. وان أريد به التصدي
المقارن للضرر، فهو مما يكتفى فيه بنفي الضرر. فلا أثر لتحقيق هذا القول
أيضا.
كما أنه لا أثر لتحقيق ما أفاده المحقق النائيني في معناه من: انه قصد
الضرر وتعمده، وتطبيقه على سمرة بهذه الملاحظة (2).
وذلك لاندراجه في الفقرة الأولى - أعني: نفي الضرر -، خصوصا إذا كان
المقصود بنفي الضرر النهي عنه، لاختصاص متعلق النهي بما إذا كان عن قصد
وإرادة.
وبالجملة: جميع ما ذكر في معنى الضرار لا أهمية لتحقيقه ومعرفة
الصحيح منه، فلا داعي إلى اتعاب النفس في ذلك، بل الأولى صرفها في ما هو
أهم.
وأما لفظ: " لا: " فلا يخفى انها نافية لا ناهية، لان: " لا " الناهية لا تدخل
على الاسم، بل تدخل على الفعل المضارع. فانتبه.
الجهة السادسة: في ما هو المراد من الهيئة التركيبية - أعني: " لا ضرر " -
والمحتملات المذكورة فيها أربعة:

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 318 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر / 199 - المطبوعة ضمن غنية الطالب.
398

الأول: أن يكون المقصود بها النهي عن الضرر وتحريمه، وهو المنسوب
إلى العلامة شيخ الشريعة (قدس سره) (1).
ويمكن أن يبين هذا المدعى بنحوين:
أحدهما: ان تكون الجملة خبرية مستعملة في مقام الانشاء، فيكون
الداعي إلى الاخبار عن نفي الضرر هو انشاء النهي عن الضرر، نظير استعمال
الجملة الخبرية الموجبة بداعي انشاء الوجوب، مثل: " يعيد صلاته " و: " يغتسل ".
وقد ذكر في محله: ان الجملة الخبرية الايجابية في مقام الانشاء تكون في
الدلالة على الوجوب آكد من الجملة الطلبية، لكشفها عن شدة المحبوبية بنحو
يرى الطالب حصول مطلوبه فيخبر عنه.
ونظير هذا البيان يتأتى في الجملة الخبرية السلبية المستعملة في مقام انشاء
الحرمة.
والاخر: ان تكون الجملة خبرية مستعملة في مقام الاخبار عن عدم
الضرر حقيقة، لكن المقصود الأصلي لهذا الاخبار هو الاخبار عن الملزوم، وهو
وجود المانع الشرعي من الضرر الخارجي، وهو الحرمة، بملاحظة ان العدم يكون
لازما للمنع الشرعي والنهي الصادر من الشارع المتوجه للمكلف المطيع.
ومثل هذا النحو من الاستعمال كثير في العرفيات، فكثيرا ما يخبر - رأسا -
عن عدم المعلول، ويكون المقصود الأصلي الاخبار عن جود المانع، فيقال انه
لا يتحقق احتراق الثوب في البيت، ويكون المقصود بيان رطوبته المانعة عنه.
ونحو ذلك كثير. فلاحظ.
الثاني: أن يكون المقصود نفي الحكم الشرعي المستلزم للضرر، فينفي

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 526 - الطبعة الأولى.
399

المسبب ويراد نفي السبب، وهو الذي قربه الشيخ (رحمه الله) (1).
وهو مما يمكن ان يبين بنحوين أيضا:
أحدهما: أن يكون المراد بالضرر في قوله: " لا ضرر " سببه، وهو الحكم،
فيكون إطلاق الضرر عليه أطلاقا مسامحيا ادعائيا من باب اطلاق لفظ المسبب
وإرادة السبب، نظير اطلاق لفظ: " الاحراق " على القاء الثوب في النار واطلاق
لفظ: " القتل " على الرمي أو الذبح.
وبالجملة: يكون ما نحن فيه من استعمال لفظ المسبب في السبب ادعاء،
فيراد من: " لا ضرر ": " لا حكم ضرري ".
والاخر: أن يكون المراد نفي نفس الضرر حقيقة، ولكن المقصود الأصلي
هو الاخبار عن نفي سببه وهو الحكم الشرعي.
والاخبار عن ثبوت المسبب أو نفيه بلحاظ ثبوت السبب أو نفيه كثير
عرفا، نظير الاخبار عن مجئ المرض ويكون الملحوظ بيان مجئ سببه، أو
الاخبار عن عدم مجئ العدو للبلد ويكون المقصود بيان عدم توفر أسباب
المجئ لديه، أو الاخبار بمجئ الهلاك والمراد بيان مجئ سببه. ونحو ذلك.
الثالث: أن يكون المقصود نفي الضرر غير المتدارك، وهو مما يمكن ان
يبين بنحوين أيضا.
أحدهما: أن يكون المنفي رأسا هو الحصة الخاصة، وهي الضرر غير
المتدارك، بان يراد من الضرر: الضرر الخاص، ويكون المقصود بيان لازمه، وهو
ان كل ضرر موجود متدارك فيدل على ثبوت الضمان، كما يقال: ان كل مجتهد
يلبس العمامة، في مقام بيان عدم اجتهاد شخص لا يلبس العمامة.
والاخر: أن يكون المنفي هو الطبيعة بلحاظ تحقق التدارك في الاضرار

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 314 - الطبعة الأولى.
400

الواقعة خارجا، فان الضرر وان كان يصدق بحسب الدقة في مورد التدارك، لكن
لا يصدق عرفا، فيصح نفي الضرر إذا تحقق تداركه، ولذا يقال لمن غصب منه
مال وعوض بمثله: انك لم تتضرر لأنك أخذت مثله.
ففيما نحن فيه يكون المنفي هو الضرر بلحاظ تشريع التدارك الموجب
لعدم صدق الضرر عرفا.
ولا يخفى ان النص على هذا الاحتمال يختص بنفي الضرر على الغير لا
الضرر على النفس، إذ لا معنى للتدارك بلحاظ ضرر النفس.
وعلى هذا الأساس تنحل مشكلة عدم ثبوت خيار الغبن مع العلم
بالغبن، بناء على كون مدرك الخيار هو قاعدة نفي الضرر، إذ وجهه الاعلام بما
لا يخلو من مناقشة، كدعوى عدم شمول القاعدة على مورد الاقدام لعدم
الامتنان ونحو ذلك. ولكن على هذا الاحتمال يتضح وجهه، لان الضرر الواقع
على المشتري بالغبن لم يكن من البائع خاصة، بل هو مشترك بين البائع
والمشتري نفسه، لعلمه بالغبن واقدامه، وقد عرفت عدم شمول القاعدة لضرر
النفس. فلاحظ وتحقيق الكلام موكول إلى محله.
الرابع: أن يكون المقصود نفي الحكم الثابت للموضوع الضرري،
فيراد من نفي الضرر نفي أحكام الموضوع الضرري من باب نفي الحكم بلسان
نفي موضوعه نظير: " لا شك لكثير الشك " و: " لا صلاة الا بفاتحة الكتاب " ونحو
ذلك.
وهذا الوجه مما بنى عليه صاحب الكفاية (رحمه الله) في نفي الضرر
وشبهه من نفي العسر والحرج (1).
وتظهر الثمرة بين ما أفاده وبين مختار الشيخ في بيان نفي الاحتياط بأدلة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 382 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
401

نفي العسر والحرج في مقدمات دليل الانسداد. فراجع تعرف.
هذه هي المحتملات الأربعة المذكورة، وقد عرفت أن لكل منها شواهد
وأمثلة عرفية.
فيقع الكلام في أن ايها المرجح؟ فنقول وعلى الله سبحانه الاتكال:
ان ما أفاده صاحب الكفاية لا يقبل القبول، لان نفي الحكم بلسان نفي
الموضوع وان تعارف في الاستعمالات العرفية والشرعية، لكن المتعارف توجه
النفي إلى نفس موضوع الحكم الشرعي، ويراد نفي الآثار المترتبة عليه شرعا،
نظير: " لا شك لكثير الشك ". فان الشك في الصلاة له احكام خاصة فيقصد
نفيها عن شك كثير الشك بهذا اللسان.
والنفي في ما نحن فيه تعلق بنفس الضرر، وهو مما لا أثر له يراد نفيه
بنفيه، ولو كان له أثر فلا يقصد جزما نفيه ورفعه، بل هو يترتب على تحقق الضرر
مع أنه أجنبي عن مدعى صاحب الكفاية.
وقياس المورد على مورد رفع الاضطرار بحديث الرفع قياس مع الفارق،
لان الرفع في حديث الرفع تعلق بالفعل في حال الاضطرار لا بنفس الاضطرار،
فيكون مقتضاه نفي الآثار المترتبة عليه في حال الاضطرار. وليس كذلك فيما
نحن فيه، لان المنفي هو الضرر نفسه لا الفعل الضرري.
ثم إن نظر صاحب الكفاية..
إن كان إلى دعوى أن لسان الحديث وما شابهه هو تنزيل الموجود منزلة
المعدوم بلحاظ عدم ترتب أثره عليه، فينفي ادعاء ومسامحة.
فيرد عليه اشكال آخر: وهو ان الذي يتوخاه صاحب الكفاية هو الالتزام
بعدم ترتب الأثر على الموضوع الضرري وانتفاء حكمه أيضا من وجوب أو
حرمة أو غيرهما.
ومن الواضح ان تنزيل الموجود منزلة المعدوم انما يصح بلحاظ عدم ترتب
402

أثره المترقب عليه. كعدم ترتب الصحة أو اللزوم على البيع الضرري، فيقال انه
لا بيع.
ولا يصح ذلك بلحاظ عدم ثبوت حكمه له، فلو لم يجب الوضوء الضرري
لا يصح ان يقال إنه لا وضوء.
وبالجملة: لا يصح التنزيل المزبور بلحاظ انتفاء الحكم التكليفي المتعلق
بالفعل الضرري، فلا يتوصل صاحب الكفاية إلى ما يبغيه بما التزم به.
نعم، إذا كان نظره إلى دعوى تكفل الحديث وما شابهه نفي الموضوع
حقيقة في عالم التشريع، فيدل على انتفاء اثره وانتفاء حكمه، لم يرد عليه هذا
الايراد، إذ يصح نفي الفعل عن عالم التشريع إذا كان حكمه التكليفي منفيا،
كما هو واضح. وكيف كان، فالعمدة هو الايراد الأول الذي ذكرناه، وقد كنا
نتخيل انه مغفول عنه في الكلمات لكن اطلعنا على تعرض غير واحد (1) له وفي
مقدمتهم شيخ الشريعة (رحمه الله) (2).
وأما احتمال كون المقصود نفي الضرر غير المتدارك.
فقد أورد عليه بوجوه عمدتها ثلاثة:
الأول: ما أفاده الشيخ (رحمه الله) في رسالته من أن التدارك المانع من
صدق الضرر عرفا هو التدارك الخارجي لا مجرد الحكم بالضمان أو وجوب
التعويض ونحو ذلك، فإنه لا يمنع من صدق الضرر حقيقة (3).
وعليه، فالتدارك الجعلي التشريعي لا يصحح نفي الضرر كما يحاول
المدعي اثباته.
الثاني: ما أفاده المحقق النائيني (رحمه الله) من أن مقتضى هذا الوجه

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 527 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني العلامة شيخ الشريعة، قاعدة لا ضرر / 24 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 315 - الطبعة الأولى.
403

تكفل الحديث لتشريع الضمان، مع أنه لم نر من العلماء من استدل على ثبوت
الضمان في مورد ما بحديث نفي الضرر مع ورود بعض النصوص في باب الضمان
المأخوذ في موضوعها الضرر الموجب لتنبههم إلى ذلك على تقدير الغفلة عنه، مما
يكشف عن عدم فهم العلماء ذلك من الحديث، وبما انهم أهل عرف ولسان،
يكشف ذلك عن أن هذا الوجه بعيد عن الفهم العرفي، فلا يمكن أن يصار
إليه (1).
الثالث: ما أفاده في الكفاية من استهجان التعبير بالضرر وإرادة
خصوص حصة منه، فيراد من لفظ الضرر: " الضرر غير المتدارك " (2).
هذا محصل الايرادات على هذا الوجه.
ولا يخفى عليك ان الأخير منها انما يتوجه على التقريب الأول للاحتمال
المذكور.
أما على التقريب الثاني، فلا يتوجه عليه، لان المنفي - بالتقريب الثاني
- هو طبيعي الضرر.
ومن الغريب ان المحقق الأصفهاني يقرر بدائيا إشكال الكفاية بلا ايراد
عليه ثم ينبه في آخر كلامه بمناسبة أخرى على هذا التقريب السالم عن ورود
الاشكال، فراجع كلامه (3).
وأما ما أفاده الشيخ (رحمه الله)، فيمكن دفعه بما أشار إليه المحقق
الأصفهاني من: أن الحكم الوضعي بالضمان يجبر النقص المالي بنفسه، لأنه حكم
باشتغال ذمة الضامن للمضمون له، فيملك المضمون له في ذمة الضامن قيمة ما
أضره به، فلا يفوته شئ بذلك، فلا يتحقق الضرر

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر / 200 - المطبوعة ضمن غنية الطالب.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 381 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 320 - الطبعة الأولى.
404

وأما ما أفاده المحقق النائيني (رحمه الله)، فيمكن التفصي عنه: بأن
حديث نفي الضرر..
إن كان متكفلا لانشاء التدارك والضمان في مورد الضرر، تم ما ذكره من
انه لازمه كون الضرر من أسباب الضمان، مع أنه لم يذكر ذلك في كلمات العلماء
والفتاوي.
واما ان كان متكفلا للاخبار عن عدم ترتب الضرر لتشريع التدارك
والضمان في موارده لكن لا بعنوان الضرر بل بعناوين أخرى ملازمة له كالاتلاف
والتغرير ونحوهما - نظير ما ذكرناه في رواية مسعدة بن صدقة المذكورة في أخبار
أصالة الحل من أنها لا تتكفل جعل أصالة الحل، بل تتكفل الاخبار عن جعل
الحلية في موارد الشك بعناوين مختلفة من يد واستصحاب ونحوهما -. فلا يكون
مقتضى ذلك كون الضرر من أسباب الضمان بل سببه هو العنوان الاخر الملازم
له كالاتلاف، فعدم ذكر الضرر من أسباب الضمان في كلمات العلماء لا ينافي
تكفل الرواية بيان تشريع الضمان في موارد الضرر، لذكرهم الأسباب المأخوذة
في الحكم بالضمان في أدلة تشريعه، ولا معنى لذكرهم الضرر بعد أن لم يكن
بعنوانه سببا.
نعم، عند الشك في ثبوت الضمان في مورد من موارد الضرر لعدم دليل
خاص يساعد عليه يمكن التمسك بهذا الحديث لاثبات تشريع الضمان فيه ولو
كان موضوعه مجهولا. ولعل من تلك الموارد مورد تفويت المنفعة الذي وقع الكلام
في ترتب الضمان عليه. وقد بنى البعض على الضمان لأنه من مصاديق الاتلاف.
فتدبر جيدا.
ثم إنه قد أورد على هذا الوجه بوجه رابع وهو: ان كل ضرر في الخارج
ليس مما حكم الشارع بتداركه تكليفا أو وضعا، فلو تضرر تاجر باستيراد تاجر
آخر أموالا كثيرة لم يجب تداركه لا تكليفا ولا وضعا، والالتزام بوجوب التدارك
405

في أمثاله يستلزم تأسيس فقه جديد (1).
وهذا الايراد لا يختص به هذا الوجه بل هو وارد على جميع الوجوه
الأربعة، لان الاستيراد إذا كان ضرريا فيلزم ان يبنى على تحريمه كما هو مقتضى
الوجه الأول، أو على عدم صحة البيع أو عدم لزومه، كما هو مقتضى الوجه الثاني
والرابع. مع أنه لا يلتزم به.
فلا بد من التصدي لدفعه، وقد أشرنا إلى بعض الكلام فيه في تفسير:
" الضرر "، وسيجئ توضيح الكلام فيه أن شاء الله تعالى.
والذي تحصل ان شيئا مما ذكر من هذه الايرادات غير وارد.
والذي يبدو لنا ان هذه الايرادات التماس لوجه الارتكاز الموجود في
النفس، فان الارتكاز العرفي والذوق الفقهي لا يساعد على هذا الوجه، فصار
كل منهم إلى بيان سبب ذلك بوجه خاص قد عرفت ما فيه.
والعمدة في دفع هذا الوجه أن يقال: إن الضرر له نسبتان وارتباطان نسبة
إلى الفاعل الصادر منه الضرر ونطلق عليه الضار، ونسبة إلى المفهوم الواقع
عليه الضرر ونطلق عليه المتضرر. ومن الواضح ان التدارك ينفي صدق الضرر
عرفا بالنسبة إلى المتضرر، فيقال له إنك لم تتضرر، ولا ينفى صدقه على الضار،
فإنه لا يقال له عرفا إنك لم تضر زيدا بل يقال له انك أضررته فتدارك. كيف؟
وموضوع التدارك هو صدور الضرر منه، والتدارك فرعه كما لا يخفى. ومن
الظاهر أن الملحوظ في الحديث - خصوصا بملاحظة تطبيق المضار على سمرة -
هو نفي الضرر بلحاظ نسبته إلى الضار لا المتضرر، فلا يناسب حملها على
تشريع التدارك.
وببيان آخر: ان المنفي في الحديث هو الضرر بقول مطلق، وهو لا يصح

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 529 - الطبعة الأولى.
406

لو كان بملاحظة جعل التدارك، لأنه بهذه الملاحظة لا بد ان يقيد بالضرر
بالنسبة إلى المتضرر نفسه لا ان ينفى مطلقا. فلاحظ.
والذي يتحصل مما ذكرنا هو بطلان الاحتمالين الثالث والرابع فيبقى لدينا
الاحتمال الأول والثاني.
أما الثاني، فقد استشكل فيه:
أولا: بان اطلاق لفظ المسبب على السبب وان تعارف في الاستعمالات،
إلا أنه انما يصح في الأسباب والمسببات التوليدية كالالقاء والاحراق، والرمي
والقتل. فيقال عن الالقاء إنه إحراق، ويقال عن الرمي إنه قتل.
أما في مثل المقدمات الاعدادية، فلا يطلق عليها اسم المسبب وذي
المقدمة، فلا يقال لبيع السكين انه قتل إذا ترتب عليه ذبح المشتري لشخص
بالسكين الذي اشتراه.
ومن الواضح ان نسبة التكليف إلى الفعل الضرري ليست نسبة السبب
التوليدي إلى مسببه، بل نسبة المعد، لتخلل الإرادة والاختيار من المكلف، كيف؟
والفعل لتحريك الإرادة من المكلف.
وعليه، فلا يقال عن التكليف إنه ضرر، إذا كان مما يترتب عليه الضرر.
فلا وجه لدعوى كون المراد من نفي الضرر نفي الحكم الضرري.
وقد يجاب عن هذا الاشكال: بأنه وإن كانت الإرادة تتخلل بين الفعل
والتكليف، لكن هذا لا ينافي نسبة الفعل إلى المولى المكلف إذا كانت له قوة
قاهرة تلزم المكلف بامتثال حكمه بنحو يكون تجاه مولاه ضعيف الإرادة، ولذا
ينسب القتل إلى السلطان إذا أمر جنده بقتل أحد، فيقال: إن السلطان قتله،
لاجل ان إرادة الجندي تجاه أمر السلطان كلا إرادة.
وعليه، فمن الممكن أن يكون الملحوظ في نفي الضرر مقام الطاعة
وامتثال العبد أمر مولاه، بحيث يكون الامر هو الجزء الأخير للإرادة والتحرك
407

نحو العمل، فيصح بهذا اللحاظ إطلاق الضرر على الحكم ونفي الحكم بلسان
نفي الضرر.
وثانيا: ان الضرر اما اسم مصدر أو هو مصدر لم تلحظ فيه جهة الصدور،
بل هو تعبير عن نفس المبدأ، وليس كالاضرار يحكى به عن المبدأ بملاحظة جهة
الصدور فيه، فالضرر كالوجود والاضرار كالايجاد، ومثله لا يصح اطلاقه على
سببه التوليدي، بل الذي يصح هو اسم المسبب الملحوظ فيه جهة الصدور،
فمثل الاحراق يصح اطلاقه على الالقاء، أما لفظ الحرقة فلا يصح اطلاقه على
الالقاء.
وعليه، فلا يقال للحكم انه ضرر وإن صح ان يقال إنه إضرار. والى هذا
أشار المحقق الأصفهاني (رحمه الله) في حاشيته على الكفاية (1). وهو اشكال متين
لا دافع له.
هذا ولكن لا يخفى عليك ان هذين الايرادين انما يتوجهان على هذا
الاحتمال بالتقريب الأول.
أما على التقريب الثاني الراجع إلى دعوى كون المنفي نفس الضرر
حقيقة وجدا وانما المقصود الأصلي بيان لازمه من رفع الحكم الضرري باعتبار
نشوء الضرر منه، فلا مجال لهذين الاشكالين، إذ لم يطلق الضرر على الحكم بل
استعمل في معناه الحقيقي وأريد نفي الحكم بالملازمة، بل يكون هذا الاحتمال
بالتقريب الثاني احتمالا وجيها ثبوتا لعدم اشكال فيه، واثباتا لان له نظائر في
الاستعمالات العرفية كما تقدم.
وأما الأول: - وهو احتمال تكفل الحديث النهي عن الضرر - فقد أورد
عليه:

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 320 - الطبعة الأولى.
408

أولا: بعدم معهودية استعمال مثل هذا التركيب وإرادة النهي منه جدا.
وهذا الايراد ذكره في الكفاية (1).
وثانيا: أنه بعيد كما أفاده المحقق النائيني، ولعله لاجل انه خلاف الظاهر
فلا يصار إليه إلا إذا قامت قرينة عليه أو انحصر المراد به - كما في مثل: " لا
يعيد صلاته " - وليس الامر فيما نحن فيه كذلك (2).
ولا يخفى ان هذين الايرادين - لو تما - لا يردان إلا على التقريب الأول
لهذا الاحتمال. أما على التقريب الثاني الراجع إلى دعوى استعمال الجملة في نفي
الضرر حقيقة بداعي الاخبار ويكون المقصود الأصلي بيان ايجاد المانع من
الضرر وهو النهي عنه، فلا مجال لهذين الايرادين، إذ لم يستعمل في مقام النهي
كي يقال إنه لم يعهد ذلك في مثل هذا التركيب، أو انه خلاف الظاهر، لان الجملة
خبرية فلا يصار إليه إلا بدليل، بل استعمل في معناه الحقيقي وأريد جعل الحرمة
بالملازمة، ولا بعد فيه بعد أن عرفت أن له نظائر عرفية في مقام المحاورة.
والمتحصل: ان الوجهين الأولين في حديث نفي الضرر بالتقريبين
المزبورين لا محذور فيهما.
ولا يخفى عليك انهما بملاك واحد وملاحظة جهة واحدة، وهي بيان عدم
المعلول مع كون الغرض الأصلي هو بيان عدم تحقق أحد اجزاء علته غاية الامر
ان الملحوظ في الاحتمال الثاني، هو بيان عدم المعلول - وهو الضرر - من جهة
عدم تحقق مقتضيه، وهو الحكم المستلزم للضرر، فيدل على رفع الحكم الضرري.
والملحوظ في الاحتمال الأول بيان عدم المعلول من جهة تحقق مانعه، وهو الحرمة
المانعة من تحقق الضرر، فيدل على تحريم الضرر.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 382 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر / 200 - المطبوعة ضمن غنية الطالب.
409

وقد عرفت أن كلا الاستعمالين متداول عرفا، فمثلا إذا توجه سيل ماء
على بيت شخص بحيث يشكل خطرا عليه، فقد يقول القائل انه لا خطر على
صاحب البيت ويكون قصده بيان تفرق السيل وتبدده في الرمال فلا مقتضي
للخطر. وقد يقول إنه لا خطر على صاحب البيت ويكون قصده بيان وجود مانع
يصد السبيل عن الوصول إلى البيت فيرتفع الخطر، وهو في كلا الاستعمالين أخبر
عن ارتفاع الخطر حقيقة وكان في نفس الوقت يقصد بيان لازمه من عدم
المقتضي أو وجود المانع. فلا مخالفة للظاهر في هذا الاستعمال.
ولأجل ما ذكرنا كان الاحتمالان الأول والثاني كفرسي رهان لا يمكن
ترجيح أحدهما على الاخر، لعدم وجود ما يعينه.
نعم قد يقال بترجيح الثاني بملاحظة تطبيق القاعدة في بعض الروايات
على مورد لا يحرم الضرر فيه، بل الثابت فيه ارتفاع الحكم الضرري، وهو مورد
الاخذ بالشفعة، فان بيع الشريك حصته من غير شريكه ليس محرما، بل لا لزوم
له لاجل الضرر، فالالتزام بالوجه الأول يتنافى مع تطبيق الحديث في مورد
الشفعة.
ولكن في قبال هذا الاشكال إشكال آخر على الوجه الثاني نظيره، فان
الحديث طبق أيضا في مورد لا حكم فيه من الشارع يستلزم الضرر فلا بد ان
يحمل فيه على إرادة النهي والحرمة، وهو مورد قضية سمرة بن جندب.
وتوضيح ذلك: ان الحكم الشرعي على نحوين اقتضائي كالوجوب
والحرمة، وغير اقتضائي كالإباحة. والحكم الذي يستلزم الضرر ويكون منشئا
لتحقق الضرر خارجا هو الحكم الاقتضائي، لأنه يكون داعيا للمكلف نحو
العمل ويتحرك المكلف نحو الفعل بملاحظة وجوده. وأما الحكم الترخيصي مثل
الإباحة، فبما انه لا اقتضاء فيه ولا تحريك، فلا يكون منشئا للضرر، لان مرجع
الإباحة إلى بيان عدم المانع من قبل الشارع وبيان عدم الملزم من قبله، فهو لا
410

اقتضاء بالنسبة إلى الفعل وبالنسبة إلى الترك، ومثله لا يصح استناد الضرر
إلى المولى، إذ ما لا اقتضاء فيه بالنسبة إلى الفعل كيف يصحح نشوء الفعل من
قبله؟. ومجرد التمكن من المنع وعدم التصدي له لا يصحح اسناد الفعل إليه، فلو
رأيت شخصا يريد قتل زيد وكنت متمكنا من منعه وصده فلم تصده فقتله، فهل
يصح ان يسند القتل إليك؟ لا اشكال في عدم صحته.
وإذا اتضح ذلك، فمن الواضح انه في قضية سمرة لا إلزام من قبل
الشارع لسمرة في العبور على بيت الأنصاري بدون إذنه، كي يكون هذا الحكم
مرتفعا لاجل الضرر، بل غاية ما هناك هو جواز العبور، ومثله لا يستلزم الضرر
كما عرفت، فتطبيق نفي الضرر بلحاظ نفي الحكم الضرري في هذا المورد غير
صحيح، فلا بد أن يكون الملحوظ فيه جهة ايجاد المانع وهو تحريم الضرر.
إذن، فكل من الوجهين لا يخلو عن اشكال.
نعم، لو التزم ان الضرر في موارد الإباحة يستند إلى الاذن الشرعي
والإباحة الشرعية، لم يكن في تطبيق الحديث في قضية سمرة بلحاظ رفع الإباحة
إشكال، وعليه فلا اشكال في الالتزام بالوجه الثاني ويكون لازما للتحريم في
بعض الموارد مما كان الحكم المرتفع فيه هو الجواز. ونتيجته تكون ملازمة لنتيجة
الالتزام بتكفلها النهي عن الضرر، لأنها تثبت حرمة الضرر، مضافا إلى رفع
الحكم الالزامي على تقدير ثبوته.
لكن عرفت أن الإباحة لا تصلح ان تكون منشئا للفعل الضرري، لان
مرجعها إلى عدم الملزم، والاقتضاء بكل من طرفي الفعل والترك، فلا يصح ان
يستند إليها أحد الطرفين. فالاشكال متوجه.
والذي نختاره - بعد جميع ما تقدم - في معنى قوله: " لا ضرر ولا ضرار "
هو: كون المراد الاستعمالي والجدي نفي الضرر والضرار في الخارج حقيقة،
والقصد الأصلي من ذلك بيان تصدي الشارع إلى لازم ذلك وهو رفع مقتضى
411

الضرر وايجاد المانع منه، فان عدم المعلول لازم لامرين كما عرفت، فالكلام بصدد
بيان كلا الامرين من عدم المقتضي ووجود المانع.
وقد عرفت كثرة مثل ذلك في الاستعمالات العرفية كما تقدم بيان بعض
الشواهد.
ولا يخفى ان هذا لا يرجع إلى استعمال اللفظ في أكثر من معنى، إذ: " لا
ضرر " لم يستعمل الا في معناه وهو نفي الضرر.
يبقى لدينا سؤالان يدوران حول تحديد المختار وتوضيحه:
السؤال الأول: انه هل الملحوظ بيان ثبوت كلا اللازمين في عرض واحد،
أو ان الملحوظ بيان ثبوتهما بنحو الطولية، بان يكون المقصود بيان ارتفاع الضرر
برفع مقتضيه شرعا، فإذا لم يكن له مقتض شرعي يجعل المانع، ففي المورد الذي
يكون فيه حكم ضرري، فنفي الضرر لا يتكفل سوى بيان رفعه من دون جعل
تحريم، وانما يتكفل جعل الحرمة في مورد لا يكون فيه حكم ضرري؟.
والجواب عن هذا السؤال: ان بيان ثبوت اللازمين بنحو الطولية وإن كان
لا محذور فيه ثبوتا ولا إشكال فيه، إلا أنه يحتاج إلى مؤونة زائدة في مقام الاثبات
والى قرينة تقتضي ذلك، وهي غير موجودة. فمقتضى اطلاق النفي كون المراد
ثبوت كلا اللازمين في عرض واحد، ففي موارد الضرر كما يرتفع الحكم الضرري
يثبت تحريم الضرر، وذلك لان نفي الضرر خارجا لا يحصل بمجرد رفع الحكم،
بل لا بد من ايجاد المانع منه، وهو الحرمة، لان مجرد ارتفاع وجوب الوضوء مثلا
لا يمنع من تحققه خارجا، فقد يأتي به المكلف. نعم ارتفاع الضرر لا يمكن أن يكون
إلا برفع منشئه وهو الحكم.
وبالجملة يكون مفاد الحديث كلا الامرين من نفي الحكم وحرمة الفعل
الضرري معا في عرض واحد ولا محذور في الالتزام بذلك.
نعم بعض الموارد قد لا تكون قابلة لكلا الامرين فلا يثبت فيها إلا
412

أحدهما فقد لا يقبل المورد لرفع الحكم لعدم ثبوت الحكم الضرري القابل للرفع
كما في مثل قضية سمرة، فلا يثبت فيها سوى تحريم الاضرار وهذا لا ينافي
التعميم في المورد القابل.
وقد يشكل بناء على ذلك بان مقتضى ما ذكر من التعميم ثبوت الحرمة
في مورد الشفعة مضافا إلى رفع الحكم الضرري، والمفروض عدم الحرمة. ولذا
جعل تطبيقها في مورد الشفعة من موارد الاشكال على كون المراد بالقاعدة
النهي عن الضرر - كما تقدم - فالاشكال بعينه وارد على المختار أيضا.
ويندفع هذا الاشكال بان ما ينشأ منه الضرر لا يقبل تعلق التحريم به
ويمتنع ثبوت الحرمة له، فهو من الموارد التي لا تكون قابلة لكلا اللازمين بيان
ذلك:
ان بيع أحد الشريكين حصته من شخص ثالث مجهول الحال لا ضرر
فيه إلا بلحاظ لزوم البيع وعدم قابليته للفسخ. وإلا فلو فرض كونه متزلزلا وأمره
بيد الشريك الاخر، فلا تعد شركة الشخص الجديد ضررا.
إذن فما يستلزم الضرر هو لزوم البيع، فهو مرتفع لأنه حكم شرعي قابل
للرفع، لكن لا معنى للنهي عنه لأنه ليس من أفعال المكلف بل من أفعال
الشارع نفسه فيمتنع تعلق الحرمة به. اذن فمورد الشفعة نظير مورد قصة سمرة
مما لا يقبل ثبوت كلا اللازمين. فتدبر.
السؤال الثاني: ان استعمال " لا ضرر " في نفي الضرر هل هو من باب
الاستعمالات الكنائية التي لا يكون المراد الاستعمال فيها مرادا جدا بل يكون
المراد الجدي هو اللازم مثل قول القائل: (زيد كثير الرماد) وهو يريد واقعا انه
كريم فهو لم يقصد الاخبار عن كثرة رماده وانما أخبر عن كرمه، بل قد يستعمل
ذلك، ولا رماد له أصلا كما إذا كانت وسائل طبخه على الكهرباء التي لا تخلف رمادا
أو انه ليس من ذلك الباب بل المدلول الاستعمالي مراد جدا وحقيقة، وفي الوقت
413

نفسه يقصد الاخبار عن الملازم؟.
والجواب: ان الالتزام بأنه من باب الاستعمالات الكنائية وإن لم يكن فيه
محذور ويتم المطلب به أيضا لكن الظاهر من نظائره كما في الاستعمالات العرفية
هو الثاني، فمثل قول القائل: " لا خطر عليك "، بملاحظة دفعه مقتضى الخطر
أو ايجاد المانع منه، كما يقصد بيان ارتفاع المقتضى جدا، بقصد نفي الخطر حقيقة
لاجل تهدئة باله تسكين اضطرابه، وليس قصده مجرد بيان رفع المقتضي من
دون بيان ارتفاع الخطر، نظير " زيد كثير الرماد ".
وعليه، فالظاهر أن نفي الضرر الوارد في كلام الشارع نظير نفي الخطر
الوارد في كلام أهل العرف يراد منه بيان عدم الضرر واقعا إظهارا للامتنان
والرحمة، فان في بيان عدم المسبب من مظاهر الامتنان والعطف ما لا يوجد في
بيان عدم السبب.
نعم قد يشكل الالتزام بذلك بان مقتضاه هو كون الحديث يتكفل
الاخبار عن عدم الضرر خارجا بملاحظة عدم المقتضي أو وجود المانع، نظير
اخبار المخبر بزوال الخطر لحدوث مانع من السيل.
ومن الواضح ان هذا يصح لو فرض ان الشارع تكفل جعل المانع
التكويني من حدوث الضرر أو رفع المقتضي التكويني له، والحال انه لم يتكفل
ذلك، بل تكفل رفع المقتضي التشريعي وجعل المانع التشريعي، وهو الحرمة،
وغير خفي ان ذلك لا يلازم عدم الضرر. لفرض حصول العصيان من العبيد،
وما أكثره، فيكون اخباره بعدم الضرر حقيقة مخالفا للواقع وهو مما يستحيل
عليه تعالى.
فيتعين ان يحمل على كونه استعمالا كنائيا لم يقصد به جدا إلا الاخبار
عن لازمه من دون الاخبار عن المدلول الاستعمالي.
ويمكن الجواب عن ذلك: بأنه يمكن أن يكون الملحوظ في نفي الضرر
414

مقام الطاعة والمكلف المطيع، بان يراد انه لا يتحقق الضرر من مثله، وهو لا
ينافي جعل المانع بالنسبة إلى جميع المكلفين إذ جعل الحرمة لجميع المكلفين يلازم
عدم تحقق الضرر خارجا من المطيع.
والداعي إلى الالتزام بهذا التقييد ما عرفت أن الظاهر من: " لا ضرر "
بملاحظة نظائرها في الاستعمالات العرفية هو الاخبار عن المدلول المطابقي
بنحو الجد، فلا وجه لرفع اليد عنه مع امكان الالتزام به ولو بارتكاب التقييد.
والمتحصل: ان قاعدة نفي الضرر تتكفل معنى عاما شاملا جامعا بين
نفي الحكم المستلزم للضرر وبين حرمة الضرر في آن واحد، ولا نرى في ذلك
محذورا، ولا يرد عليه أي اشكال.
وهي بذلك تكون قاعدة عامة سارية في جميع الموارد من عبادات
ومعاملات.
لكن قد يتوقف عن الالتزام بذلك لجهتين أشار إليهما الشيخ (رحمه الله)
في كلامه:
أما الجهة الأولى: فهي ما ذكره في كتاب الفرائد من: ان هذه القاعدة
موهونة بكثرة التخصيص الوارد عليها بنحو يكون الخارج عنها اضعاف الباقي
تحتها، بل لو التزم بالعمل بعموم القاعدة لزم منه فقه جديد.
وبما أن تخصيص الأكثر يكون مستهجنا عرفا فلا يمكن الالتزام بما هو
ظاهرها لاستلزامه تخصيص الأكثر، بل يكون هذا التخصيص قرينة على كون
المراد منها معنى لا يلزم منه ذلك.
وعليه، فلا يمكن التمسك بها في قبال أدلة الاحكام إلا في مورد يتمسك
فيه الأصحاب بها ليكون ذلك منهم معينا للمراد بها بناء على كفاية مثله.
ثم إنه بعد ما ذكر هذا الاشكال دفعه بوجهين:
أحدهما: منع أكثرية الخارج وان كان كثيرا في نفسه، ومثل ذلك لا
415

استهجان فيه.
والاخر: ان الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوان واحد
جامع لها وإن كان مجهولا لدينا. وقد ثبت في محله ان تخصيص الأكثر إذا كان
بعنوان واحد لا استهجان فيه، كما إذا قيل: " أكرم الناس " ودل دليل آخر على
خروج الفاسق منهم وهو يشمل أكثر أفراد الناس، فإنه لا استهجان فيه عرفا.
هذا ما أفاده الشيخ (رحمه الله) (1).
وقد أورد عليه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل: بأن خروج
الأكثر بعنوان واحد إنما لا يكون مستهجنا فيما إذا كان الافراد التي استوعبها
العام هي العناوين التي يعمها لا الاشخاص المندرجة تحتها، لعدم لزوم تخصيص
الأكثر باخراج أحد العناوين حينئذ، لأنه أحد افراد العام لا أكثر افراده.
وأما إذا كان الملحوظ في العموم هو الاشخاص المندرجة تحت العناوين
المنطبقة عليها، كان اخراج أكثرها بعنوان واحد مستهجنا، لأنه تخصيص للأكثر،
وهو مستهجن مطلقا.
هذا ما أفاده في الحاشية، وكأنه يحاول أن يقول: إن نفي الاحكام
الضررية بحديث: " لا ضرر " من قبيل الثاني، وهو ما كان الحكم فيه على ذوات
الاشخاص لا على العناوين، فلا يندفع محذور تخصيص الأكثر بوحدة عنوان
الخارج كما أفاده الشيخ (رحمه الله) (2).
وللمحقق النائيني (رحمه الله) تحقيق في المقام يحاول فيه التفصيل بين
القضية الحقيقية والقضية الخارجية والالتزام بان تخصيص الأكثر بعنوان واحد
إنما لا يستهجن في القضايا الحقيقية لا الخارجية، ثم يختار ان عموم نفي الضرر

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 316 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. فرائد الأصول / 169 - الطبعة الأولى.
416

من قبيل القضايا الخارجية. وهو بذلك ينتهي إلى موافقة صاحب الكفاية - (رحمه
الله) (1).
ونحن لا نرى أنفسنا بحاجة إلى نقل كلامه.
بل نذكر ما نراه هو القول الفصل في هذا المقام، فنقول - بعد الاتكال
عليه سبحانه -: ان العموم الشامل لجميع أفراده قد يكون له جهتان من العموم:
إحداهما: العموم بحسب الأنواع والأصناف المندرجة تحته، كالنحوي
والفقيه والطبيب والمتكلم والعادل والفاسق بالنسبة إلى العالم، فقد يلحظ جميع
هذه الأصناف وغيرها في الحكم على العالم، فيراد به الطبيعة السارية في جميع
هذه الأصناف، كما أنه قد يلحظ بعضها ويخرج البعض الاخر.
والأخرى: العموم بحسب الافراد من جميع الأصناف، فيكون الملحوظ
كل فرد فرد من افراد الأصناف المختلفة للعالم، فيراد به الطبيعة السارية في
جميعها، كما أنه قد يريد بعض تلك الافراد مع المحافظة على العموم الأنواعي.
وفي مثل هذا العموم الحاوي لكلتا الجهتين إذا ورد تخصيصه بعنوان واحد
جامع لكثير من الافراد، فإنما يصطدم دليله مع العموم الأنواعي للعام فيخرج
منه النوع الخاص.
ومن الواضح انه لو كان ذلك العنوان جامعا لأكثر الافراد، لا يكون
تخصيص العام به مستهجنا، لان المخصص به هو جهة العموم الأنواعي، وهو
بالنسبة إليه ليس تخصيصا للأكثر. وإما إذا ورد دليل أخرج أكثر الافراد بنحو
يصطدم مع العموم الافرادي كأن يقول - مثلا - لا يجب اكرام هؤلاء التسعين
من أفراد العالم، وكان مجموع افراده مائة، كان ذلك من تخصيص الأكثر
المستهجن.

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر / 210 - المطبوعة ضمن غنية الطالب.
417

وبذلك يظهر لك وجه كلام الشيخ (رحمه الله) في التزامه بعدم الاستهجان
لو كان المقدار الخارج بعنوان واحد.
كما أنه يظهر لك وجه كلام صاحب الكفاية، فان الاخراج بعنوان واحد
انما لا يكون مستهجنا إذا كان الملحوظ فيه تخصيص العموم الأنواعي.
وهذا في المورد الذي يكون العام مشتملا فيه على كلتا الجهتين من
العموم.
أما إذا كان متمحضا في العموم من حيث الافراد بحيث أخذ العنوان
العام طريقا لاثبات الحكم على أفراده بلا ملاحظة جهة الأنواع، فان الدليل
المخصص يصطدم رأسا مع العموم الافرادي فإذا كان ما يندرج تحته أكثر
الافراد كان من تخصيص الأكثر المستهجن.
وقد يفرق بين هذين القسمين من العموم، فيلتزم بان مثال القسم الأول
هو العموم الملحوظ بنحو القضية الحقيقية. ومثال القسم الثاني هو العموم في
القضايا الخارجية، نظير: " قتل من في العسكر ".
ونحن بعد أن بينا جهة الفرق ونكتته لا يهمنا التسمية ولا نتقيد بها. إنما
المهم هو. تحقيق أن عموم نفي الضرر من أي النحوين؟. وعليه يبتني تحديد
رجحان ما أفاده الشيخ أو ما أفاده صاحب الكفاية.
والذي نراه هو ان عموم نفي الضرر من النحو الثاني - أعني: ما لوحظ
فيه الحكم على الافراد بلا ملاحظة الأصناف - فهو مما يتمحض في جهة العموم
الافرادي، فهو أشبه بالقضية الخارجية وإن لم يكن منها، كما سنشير إليه.
بيان ذلك: ان المفروض هو كون دليل: " لا ضرر " موجبا للتصرف في أدلة
الاحكام ومقيدا لها بصورة عدم الضرر، فالملحوظ فيه هو الاحكام المجعولة
بأدلتها من قبل الشارع، كوجوب الوضوء ووجوب الصلاة ووجوب الصوم
وحرمة التصرف في مال الغير ولزوم المعاملة ونحو ذلك.
418

ومن الواضح ان كل حكم من أحكام الشريعة ينشأ بمفرده وشخصه لا
بعنوان جامع، فلم ينشأ وجوب الصلاة ووجوب الصوم ووجوب الحج بعنوان
جامع بل كل جعل بمفرده. إذن فالجامع بين هذه الوجوبات ليس حكما شرعيا
مجعولا، إذ لم يتعلق الانشاء به بل تعلق بمصاديقه، وتصنف الاحكام من عبادات
ومعاملات - مثلا - أو تكليف ووضع أو نحو ذلك، وإن كان ثابتا، لكن العنوان
الصنفي أو النوعي الجامع عنوان انتزاعي واقعي ينتزع بعد ورود الأدلة المتكفلة
لجزئيات الاحكام في الموارد المختلفة، وليس أمرا مجعولا شرعا.
وعليه، فبما ان دليل نفي الضرر قد لوحظ فيه تضييق دائرة المجعول
الشرعي بغير مورد الضرر، فلا محالة يكون النفي واردا على كل حكم حكم لا
على الجامع، إذ ليس الجامع بينهما حكما كي ينفى بدليل نفي الضرر.
نعم، قد يلحظ طريقا إلى أفراده، ولكن هذا غير تعلق النفي به، بل
النفي متعلق حقيقة بافراد الحكم المجعولة.
وبعبارة أخرى: ان ملاحظة الصنف بما هو انما تكون إما لنفي دخله في
الحكم وبيان ان الحكم وارد على الطبيعي الساري بحيث لا يكون الفرد بما هو
ذا خصوصية، بل بما هو فرد للطبيعي. أو لبيان دخله في الحكم بما هو صنف.
وهذا انما يكون في مورد يحتمل دخالة الصنف في ثبوت الحكم ويكون
قابلا لورود الحكم عليه، وصنف الحكم مما لا يقبل ورود نفي الجعل عليه، لأنه
ليس بمجعول، فكيف يؤخذ موردا للنفي والاثبات؟، بل غاية ما هناك يؤخذ
طريقا إلى افراده ويكون النفي والاثبات متعلقا مباشرة بالافراد، فلا يكون
العموم في دليل: " لا ضرر " إلا افراديا. فتدبر.
وما ذكرناه لا ينافي الالتزام بعدم اختصاصها بالاحكام الفعلية التي كانت
مجعولة قبل ورود نفي الضرر، بل يعم كل حكم يجعل بعد ذلك، إذ ليس ملاك
ما بيناه هو كون قضية: " لا ضرر " خارجية ينظر فيها إلى الافراد المحققة
419

الوجود، كما قد يتوهم فيرد عليه ما عرفت، بل الملاك هو كون المنظور هو افراد
الحكم ولو التقديرية، لا الجامع الصنفي.
وإذا تبين لك ما ذكرناه، يظهر لك كون الحق في جانب صاحب الكفاية
في ايراده على الشيخ (رحمه الله).
لكن لا يخفى عليك ان أصل الايراد على القاعدة يبتني على مقدمتين:
إحداهما: كبرى استهجان تخصيص الأكثر. والأخرى: صغرى ثبوت تخصيص
الأكثر بالنسبة إلى دليل نفي الضرر.
والمقدمة الأولى محل كلام ليس محله ههنا، ولعلنا نتوفق لايضاح الحق
فيها في مجال آخر، وما تقدم منا من البيان السابق انما هو يبتني على المفروغية
عن أصل الكبرى والتسليم بها.
ولأجل ذلك يكون الايراد على هذه القاعدة من ناحية الكبرى مركزا.
فالمهم في دفع الايراد هو إنكار الصغرى.
فان الموارد التي ذكرت شاهدا على ثبوت تخصيص الأكثر هي موارد
الديات والقصاص والحدود والخمس والزكاة والنفقات والحج ونجاسة المائع
المضاف المسقط له عن المالية، والضمان وغير ذلك.
وقد تصدى الاعلام إلى انكار الصغرى واثبات ان أكثر هذه الموارد
ليست خارجة بالتخصيص، بل بالتخصص فلا استهجان فيه. وقد قيل في ذلك
وجوه لا نطيل الكلام بذكرها.
وعمدة ما يمكن ان يقال في هذا المجال: ان دليل نفي الضرر انما يكون
الملحوظ فيه هو خصوص الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية بحيث تكون
له حالتان، فيتقيد بخصوص حالة عدم الضرر بمقتضى الدليل.
وأما الاحكام الواردة في مورد الضرر فلا نظر للدليل إليها فيكون
خروجها عنه بالتخصص.
420

وعليه، فمثل الاحكام في باب الخمس والزكاة والضمان والحدود والديات
والقصاص كلها واردة مورد الضرر فلا تكون مشمولة للحديث رأسا.
وأما غير ذلك من الموارد كمورد نجاسة المائع المضاف ونحوه، فعلى تقدير
ثبوت الحكم الضرري جزما ولم يمكن العمل فيه بقاعدة نفي الضرر، فلا مانع
من الالتزام بخروجه عن القاعدة بالتخصيص. إذ هي موارد قليلة لا يلزم من
خروجها تخصيص الأكثر، فلاحظ.
وما ذكرناه في حديث نفي الضرر، هو نظير ما يذكر في حدوث رفع الخطأ
والنسيان من انه ناظر إلى الأحكام الثابتة للموضوع الأولي دون ما هو ثابت
للخطأ بعنوانه، فيكون خروجه بالتخصص لا بالتخصيص. فراجع.
هذا تمام الكلام في الجهة الأولى من الاشكال.
أما الجهة الثانية، فهي ما أشار إليها الشيخ في رسالته الخاصة المعمولة
في قاعدة نفي الضرر.
وهي عدم انطباق الحكم بنفي الضرر على الامر بقلع العذق في رواية
سمرة، فقال (قدس سره): " وفي هذه القصة إشكال من حيث حكم النبي (ص)
بقلع العذق مع أن القواعد لا تقتضيه، ونفي الضرر لا يوجب ذلك، لكن لا يخل
بالاستدلال " (1).
وتحقيق الكلام في ذلك: ان محصل الاشكال في رواية قصة سمرة - وهي
عمدة الروايات - هو: ان الامر المستتبع للضرر في الواقعة هو دخول سمرة في
البستان من دون استئذان من الأنصاري، لأنه يلزم منه الاشراف على عرضه
وهو ضرر عليه، فالحكم المستتبع للضرر هو جواز الدخول بدون إذن، أو سلطنته
على الدخول بلا إذن لو قيل بجعل السلطنة.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. رسالة في قاعدة نفي الضرر / 372 - المطبوعة ضمن المكاسب.
421

ومن الواضح إن نفي الضرر لم يجعل في الرواية علة لحرمة الدخول بدون
إذن ووجوب الاستئذان عند الدخول، بل جعل علة للامر بالقلع وهو لا يرتبط
بنفي الضرر كما عرفت، إذ ليس في بقاء العذق ضرر، بل الضرر ينشأ من
الدخول بلا إذن، فأي ربط للامر بالقلع بنفي للضرر والضرار الوارد في
الحديث؟.
وقد أجاب المحقق النائيني (رحمه الله) عن هذا الاشكال بوجهين:
الأول: ان قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا ضرر " ليس علة لقلع
العذق، بل هو علة لوجوب الاستئذان عند الدخول، والامر بقلع العذق كان
مترتبا على اصرار سمرة على ايقاع الضرر على الأنصاري وعدم اهتمامه بأمر
النبي (ص)، لأنه بذلك اسقط احترام ماله فأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) بقلع
العذق من باب الولاية حسما للفساد.
الثاني: وقد أطال فيه، ومحصله: انه يمكن ان يفرض كون نفي الضرر
علة لقلع العذق. ببيان: ان حديث نفي الضرر حاكم على قاعدة السلطنة التي
يتفرع عليها احترام مال المسلم الذي هو عبارة عن سلطنته على منع غيره عن
التصرف في ماله، فإذا تكفلت القاعدة نفي السلطنة فقد جاز قلع العذق لعدم
احترام ماله حينئذ.
وقد نفى دعوى كون السلطنة ذات جزئين، وجودي، وهو سلطنته على
التصرف في ماله. وعدمي، وهو سلطنته على منع غيره من التصرف في ماله.
والضرر الوارد على الأنصاري انما هو بملاحظة الجزء الوجودي لا السلبي، فغاية
ما ترفعه قاعدة: " لا ضرر " هو الجزء الوجودي، وأما سقوط احترام ماله رأسا فلا
وجه له، ولذا لا اشكال في جواز بيعه وهبته.. نفى هذه الدعوى: بأن التركب
المدعى تحليل عقلي. والضرر وان نشأ من الدخول بلا استئذان، إلا أنه حيث
كان متفرعا على ابقاء نخلته في البستان فالضرر ينتهي إليه لأنه علة العلل،
422

فيرتفع حق الابقاء بمقتضى نفي الضرر.
وليس التفرع ههنا نظير تفرع اللزوم على الصحة، كي يورد بان الضرر
الناشئ من اللزوم انما يرفع خصوص اللزوم دون الصحة، إذ التفرع في باب
اللزوم والصحة لا يراد به إلا مجرد الطولية في الرتبة، وإلا فهما حكمان مستقلان.
وأما التفرع ههنا بين جواز الدخول وحق بقاء النخلة، فهو من قبيل
تفرع وجوب المقدمة عن وجوب ذيها، يكون تفرعا تكوينيا بحيث يعد الفرع من
آثار الأصل، فالضرر في الحقيقة ينتهي إلى الابقاء، فيرتفع الحق فيه بقاعدة: " لا
ضرر ". هذا خلاصة ما أفاده (قدس سره) (1).
ولكن في كلا الوجهين منع:
أما الأول: فهو انما يمكن تأتيه في رواية ابن مسكان، فقد ورد الامر
بالقلع فيها بعد بيان: " لا ضرر "، فيمكن ان يقال: ان الامر بالقلع حكم مستقل
لا من باب نفي الضرر إذ لم يطبق عليه نفي الضرر بل من باب آخر. ولكن
رواية ابن مسكان ضعيفة السند كما عرفت فلا يعتمد عليها.
وإنما الرواية المعتمدة هي رواية ابن بكير. وقد ورد فيها الامر بالقلع ثم
علله بنفي الضرر بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " فإنه لا ضرر ولا ضرار ".
وهي ظاهرة في كون التعليل للامر بالقلع، وليس في الرواية للحكم بتحريم
الدخول عليه بلا استئذان عين ولا أثر كي يقال إن التعليل راجع إليه - ولو
بارتكاب خلاف الظاهر. كما أنه لو كان الحكم بتأديب من فعل محرما أمرا
ارتكازيا في الاذن، أمكن ان يقال إن قوله: " فإنه لا ضرر " تعليل للتأديب
الحاصل من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ببيان صغراه وهو ارتكابه محرما
وهو الاضرار بالغير، فكأنه قال: " تقلع نخلته لاجل التأديب بعد فعله المحرم وهو

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر / 209 - المطبوعة ضمن غنية الطالب.
423

الاضرار بالغير "، نظير ما يقال: " يجوز تقليد زيد لأنه أعلم "، فإنه ظاهر في كون
تقليد الأعلم أمرا ارتكازيا فيعلل به جواز تقليد زيد.
ولكن الامر ليس كذلك، إذ لم يسبق ارتكاز في الأذهان لثبوت تأديب كل
شخص يرتكب المحرم.
وبالجملة: لم يظهر من الرواية ولا بنحو الإشارة إلى كون المنظور في
التعليل هو حرمة الدخول بغير الاذن. فمن أين نستفيد منها رفع الحكم
الضرري؟.
وأما الثاني: فمع الغض عن بعض خصوصيات كلامه والتسليم بأن
الابقاء ضرري، باعتبار انه علة العلل. فغاية ما يقتضيه هو ارتفاع حق الابقاء
لا حرمة التصرف في ملك الغير، لأنه ليس مقتضى ارتفاع حق الابقاء جواز
تصرف كل أحد في المال، بل لا بد من رفع الامر إلى الحاكم فيأمره بالقلع بنفسه،
فإذا امتنع جاز ان يخول غيره من باب ولايته على الممتنع.
وهذا المعنى لم يظهر تحققه من الرواية، بل الظاهر منها هو أمره (صلى
الله عليه وآله وسلم) للأنصاري بالقلع بمجرد إبائه - اي سمرة - عن المعاوضة.
وعلله بلا ضرر ولم يأمر سمرة بذلك. وقد عرفت أن ذلك لا ينسجم مع تطبيق
" لا ضرر " في نفي حق الابقاء، إذ ليس للأنصاري التصرف في مال سمرة بمجرد
ارتفاع حق الابقاء.
والذي يتحصل: انه لم يظهر لنا وجه تطبيق: " لا ضرر " على الامر بالقلع
بوجه من الوجوه.
وبذلك تكون الرواية مجملة لدينا، ولا يمكن ان يستفاد منها قاعدة كلية
لنفي الحكم المستلزم للضرر، إذ مقتضى ذلك عدم انطباقها على المورد، وتخصيص
المورد مستهجن.
ومن هذا يظهر النظر فيما أفاده الشيخ (رحمه الله) من: ان عدم العلم
424

بكيفية الانطباق لا يضر بالاستدلال.
بل ما ذكرناه في تقريب الاشكال يقرب كونها بيانا لملاك الحكم وحكمته
لا بيانا للعلة التي يستفاد منها قاعدة عامة في كل مورد وجدت فيه. فتدبر.
وإذا سقطت هذه الفقرة في رواية قصة سمرة عن قابلية الاستدلال بها
سرى الاشكال إلى الفقرة الواردة في غير هذا المورد، لان التعبير واحد لا
اختلاف فيه، فيبعد ان يراد منه معنى مختلف، فيرتفع ظهوره في التعليل في تلك
الموارد.
هذا، مع أن في تطبيق: " لا ضرر " في مورد الشفعة بنحو العلية والكبرى
العامة ما لا يخفى. فان ما هو ثابت في باب الشفعة من وجوب البيع على المشتري
الثالث، أو ولاية الشريك على تملك الحصة المبيعة - على اختلاف في ذلك بين
الفقهاء -، لا يرتبط بنفي الضرر الذي لا يتكفل سوى النفي كنفي اللزوم لا
الاثبات، والمفروض ان ظاهر الرواية هو تطبيق: " لا ضرر " على القضاء
بالشفعة.
هذا، مع أن الحكم لا يسري مع تعدد الشركاء، وفي غير المساكن
والأرضين وبعد القسمة، مع أن الملاك - وهو الضرر - ثابت في الجميع، بل قد
يثبت بالنسبة إلى الجوار كما نبهنا عليه سابقا. مضافا إلى ثبوت الشفعة ولو لم
يكن ضرر أصلا في الشركة الجديدة. ثم إن في الشفعة خصوصيات لا ترتبط
بنفي الضرر بالمرة كما لا يخفى على من لاحظ أحكام الشفعة.
وبالجملة: بملاحظة مجموع ما ذكرناه يبعد استظهار كون تطبيق: " لا
ضرر " في مورد الشفعة من باب العلة والقاعدة العامة، بل يقرب انها ذكرت
كتقريب للحكم من باب الملاك والحكمة، أضف إلى ذلك كله أن الأصحاب في
موارد تطبيقها لا يلتزمون بالضرر في كل فرد من افراد مورد التطبيق، كمورد
خيار الغبن، فإنهم يلتزمون به من باب الضرر مع أنهم يلتزمون به مطلقا ولو لم
425

يكن شخص المعاملة ضرريا. كما أشار إليه في كلامه.
وهذا يصلح تأييدا - وإن لم يصلح دليلا - لما ذكرناه من قرب كون ذكر
" لا ضرر " من باب بيان الحكمة لا ضرب القاعدة العامة، ويتأكد ذلك بملاحظة
ان الأقدمين من الأصحاب " قدس سرهم " لم يوردوا تطبيقها في كثير من موارد
العبادات والمعاملات، وإنما ذكروها في موارد خاصة.
وجملة القول: ان ملاحظة ما ذكرناه بمجموعه ترفع من النفس
الاطمئنان بكون: " لا ضرر " قاعدة عامة تتكفل نفي الاحكام الضررية في جميع
موارد الشريعة، بل قد توجب الاطمئنان بالعدم، وكون ذكرها من باب بيان
حكمة التشريع. فلاحظ.
ثم إن الذي يظهر من نفي الضرر في موارده في النصوص: كون الملحوظ
نفي الضرر والاضرار بين الناس، فتنفي جواز اضرار أحدهم بالاخر.
أما ارتكاب الشخص فعلا يستلزم الاضرار به نفسه، فلا تعرض لها إليه،
ولذا لم يفهم الصحابة - جزما - عندما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا
ضرر ولا ضرار " نفي الضرر المتوجه من قبل الشخص على نفسه، بل المفهوم
منها لديهم المنع عن اضرار أحدهم بالاخر.
وعلى هذا الاستظهار، فلو سلم انها قعدة عامة كلية، فهي لا تشمل
موارد العبادات كالوضوء والصوم والحج والصلاة وغير ذلك.
كما أنه يظهر بذلك ان انكار كلية القاعدة لا يلزم منه محذور، لان موارد
تطبيقها في المعاملات قليلة، وكثيرا ما يتوفر دليل في الموارد الخاصة يكون بديلا
لها ويغني عن الرجوع إليها.
ولعل ما أوضحناه هو الوجه في عدم معاملة القدماء مع: " لا ضرر " معاملة
القاعدة الكلية العامة ذات السعة والشمول بالنحو الذي حققه المتأخرون.
ثم إنه بملاحظة هذا الاستظهار الأخير يتضح لدينا سر عدم شمول
426

القاعدة لموارد الاقدام على الضرر، كالاقدام على المعاملة مع العلم بالغبن، إذ
قد عرفت عدم شمولها لغير الاضرار بين الناس.
وقد تمحل البعض في تعليل عدم شمول القاعدة لمورد الاقدام، فذهب
إلى تعليله بأنها قاعدة امتنانية ولا امتنان في نفي الضرر في صورة الاقدام.
وهذا الوجه مما لا دليل عليه، إذ لا ظهور ولا قرينة على أن نفي الضرر
بملاك الامتنان بحيث يدور مداره.
نعم، نفي الضرر عموما يكون فيه تخفيف ومنة على العباد، ولكن هذا
غير كون النفي بملاك الامتنان، فلاحظ ولا تغفل.
هذا تمام الكلام فيما يستفاد من النصوص في معنى الهيئة التركيبية.
وقد عرفت عدم استفادة قاعدة عامة منها.
وعلى تقدير الالتزام بكون مؤداها قاعدة عامة تتكفل نفي الحكم المستلزم
للضرر وتحريم الضرر يقع الكلام في أمور تتعلق بالقاعدة ذكرت بعنوان
تنبيهات:
التنبيه الأول: في بيان طريقة الجمع بين القاعدة وأدلة الاحكام الشاملة
بعمومها أو باطلاقها مورد الضرر. بيان ذلك: ان نسبة هذه القاعدة مع دليل كل
حكم نسبة العموم من وجه، فمثلا دليل لزوم البيع يدل على لزومه مطلقا في مورد
الضرر ومورد عدم الضرر، وقاعدة: " لا ضرر " تنفي الحكم الضرري سواء كان
هو اللزوم أو غيره.
ومقتضى القواعد في تعارض العامين من وجه هو تساقطهما في مورد
الاجتماع. ولكن الملتزم به في ما نحن فيه هو العمل بما يوافق قاعدة نفي الضرر.
وقد ذكر في توجيه ذلك وجوه يجمعها العمل على طبق قاعدة: " لا ضرر "،
وإن لم يكن عملا بنفس دليل: " لا ضرر ". واليك بيانها:
الأول: ان مقتضى تعارض دليل القاعدة مع أدلة الاحكام وعدم المرجح
427

لأحدهما هو تساقطهما في المجمع، فيرجع إلى الأصول العملية، وهي غالبا توافق
مؤدى نفي الضرر، لجريان أصالة البراءة في موارد الأحكام التكليفية الضررية،
وجريان أصالة الفساد في موارد الأحكام الوضعية الضررية.
الثاني: ان دليل القاعدة بما أنه يتكفل نفي جميع الاحكام الضررية،
فتلحظ جميع أدلة الاحكام بمنزلة دليل واحد ونسبة دليل نفي الضرر إليه نسبة
الخاص إلى العام فيخصص جميع الأدلة.
الثالث: ان نسبة دليل نفي الضرر إلى دليل كل حكم وإن كانت هي
العموم من وجه، إلا أنه يتعين تقديم دليل نفي الضرر، لان تقديم أدلة الاحكام
على دليل نفي الضرر يستلزم الغاءه بالمرة، لعدم مورد له أصلا، وتقديم بعضها
خاصة ترجيح بلا مرجح لان نسبتها إليه على حد سواء. بخلاف تقديم دليل
نفي الضرر، فإنه لا يستلزم إلغاء أدلة الاحكام لشمولها لموارد عدم الضرر.
وقد تقرر في محله انه إذا دار الامر بين العامين من وجه وكان العمل
بأحدهما مستلزما لطرح الاخر بالمرة كان الاخر هو المقدم ويرجح علي غيره.
الرابع: ان دليل نفي الضرر حاكم على أدلة الاحكام، فيقدم عليها، ولا
تلاحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم. وهذا الوجه بنى عليه الشيخ (رحمه الله) (1).
الخامس: ان العرف يجمع بين كل دليلين يتكفل أحدهما بيان الحكم
الثابت للأشياء بعناوينها الأولية، ويتكفل الاخر بيان الحكم الثابت للأشياء
بعناوينها الثانوية، بحمل الأول على بيان الحكم الاقتضائي والثاني على بيان
الحكم الفعلي.
وبما أن دليل نفي الضرر يتكفل بيان الحكم لعنوان ثانوي فيجمع
العرف بينه وبين أدلة الأحكام الأولية بحمله على بيان الكم الفعلي وحمل أدلة

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 315 - الطبعة الأولى.
428

الاحكام على بيان الحكم الاقتضائي.
وهذا ما بنى عليه صاحب الكفاية في دليل: " لا ضرر " ونحوه كدليل نفي
الحرج، واصطلح عليه بالتوفيق العرفي (2).
هذه زبدة الوجوه المذكورة في هذا المقام.
أما الأول: فهو فرع تحقق التعارض بنحو لا يمكن الجمع بينهما، فهو في
طول سائر الوجوه وسيتضح لك ان النوبة لا تصل إليه.
وأما الثاني: فهو لا وجه له، إذ لا مجال لملاحظة جميع الأدلة دليلا واحدا،
بعد أن كانت الاحكام مبنية بأدلة مستقلة، ومجرد الملاحظة لا يصيرها دليلا واحدا
كي تتغير النسبة.
وأما الثالث: فهو وجه متين يلتزم بنظائره في موارد متعددة من الفقه.
ويمكن تصويره بنحو أكثر صناعة وأبعد عما يدور حوله من إشكال، بأن
يقال: إنه بع الجزم بصدور: " لا ضرر " وإرادة أنفي الضرر في الجملة بنحو تكون:
" لا ضرر " نصا في بض الموارد على نحو الاجمال.
وهذا ينافي إطلاق أدلة الاحكام وعمومها، ويكون العمل بأدلة الاحكام
موجبا لطرح ما يكون دليل: " لا ضرر " نصا فيه لا مجرد ظهوره فيه، لأنها نص
في بعض الموارد بنحو الموجبة الجزئية، ومقتضى ذلك حصول العلم الاجمالي
بتقييد وتخصيص بعضها، فلا يمكن العمل بكل واحد منها لعدم جريان أصالة
العموم بعد العلم الاجمالي بتخصيص البعض، فتسقط أصالة العموم في الجميع.
ولكن لا يخفى عليك ان هذا الوجه إنما تصل النوبة إليه بعد عدم امكان
الجمع العرفي بين دليل نفي الضرر وأدلة الاحكام، إما بنحو الحكومة أو بنحو
التوفيق العرفي الذي يبني عليه صاب الكفاية، لأنه فرع المعارضة.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 382 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
429

وإلا فمع إمكان الجمع عرفا وامكان الاخذ بعموم دليل نفي الضرر في
حد نفسه، لا تصل النوبة إلى هذا الوجه وان كان وجيها في نفسه.
فالعمدة إذن تحقيق الوجهين الأخيرين.
أما الرابع: وهو دعوى الحكومة، فقد عرفت تبني الشيخ لها. وقد ناقشه
صاحب الكفاية: بأن الحكومة تتوقف على كون الدليل الحاكم بصدد التعرض
لحال الدليل المحكوم.
ودليل نفي الضرر لا نظر له إلى أدلة الاحكام ولا تعرض له إلى حالها،
بل يتكفل بيان ما هو الواقع من نفي الضرر، وهذا المقدار لا يصحح الحكومة،
بل هو كسائر أدلة الاحكام (1).
وقد رده المحقق النائيني - بعد أن فهم من كلامه تخصيص الدليل الحاكم
بما يكون متعرضا للدليل المحكوم بالمدلول اللفظي المطابقي، نظير أن يقول:
أعني، أو أردت بذلك الدليل كذا، ونحو ذلك. وقد تأملنا في صحة هذه النسبة
إلى صاحب الكفاية في أول مباحث التعادل والترجيح - بتصوير الحكومة
وانطباق ضابطها على المورد.
والبحث في ضابط الحكومة بتفصيل يأتي الكلام فيه في مجال آخر.
ولكن نتعرض له ههنا بنحو الاجمال ونوكل تحقيقه التفصيلي إلى مجاله.
والأولى التعرض إلى ما ذكره المحقق النائيني ههنا، ثم نعقبه بما نراه
صوابا. فنقول: ذكر (قدس سره): ان القرينة على قسمين: قرينة المجاز وقرينة
التخصيص والتقييد. والفرق بينهما ان قرينة المجاز تكون بيانا للمراد الاستعمالي
من اللفظ، وتبين المدلول التصديقي للفظ، نظير لفظ: " يرمي " في قول القائل:
" جاء أسد يرمي "، فإنه يكون بيانا لكون المراد من: " أسد " هو الرجل الشجاع.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 382 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
430

وأما قرينة التخصيص، فهي ليست بيانا للمراد الاستعمالي، بل هي بيان للمراد
الواقعي الجدي، فتكون مبينة لما هو موضوع الحكم واقعا، وان عنوان العام ليس
تمام الموضوع بل جزؤه.
وبعد أن ذكر بعنوان المقدمة، أفاد (قدس سره): أن الحكومة بنظر
الشيخ (رحمه الله) لا تختص بما إذا كان الحاكم من قبيل قرينة المجاز مبينا للمراد
الاستعمالي من المحكوم، بان يتكفل الحاكم التفسير للدليل المحكوم بمثل كلمة:
" أعني " أو: " أي " أو: " مرادي كذا " ونحو ذلك، بل هي بنظره أن يكون أحد
الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا للدليل الاخر.
وهذا أعم من كون التعرض للدليل الاخر بالنصوصية بمثل كلمة:
" أعني "، أو التعرض للمراد الواقعي للدليل الاخر بظهور الحال أو السياق بنحو
يفهم كون النظر في هذا الدليل للدليل الاخر، نظير ان يرد دليل يتكفل الحكم
على موضوع عام، ثم يأتي دليل آخر يتكفل اخراج بعض افراد الموضوع عنه،
أو يتكفل اثبات عنوان العام لفرد خارج عنه واقعا، مثلا يأتي دليل يتكفل اثبات
وجوب الاكرام لكل عالم، ثم يأتي دليل يقول: " ان زيدا ليس بعالم " وهو عالم
واقعا، ويكون المنظور فيه نفي حكم العام عنه، فيتكفل هذا الدليل تضييق
موضوع حكم العام، فيشترك مع التخصيص في الأثر وفي كونه بيانا للمراد
الواقعي، إلا أن الفرق بينه وبين التخصيص، هو ان في التخصيص لا يكون في
اللفظ إشعار بالحكم الثابت للعام بحيث لا يفهم بحسب المدلول اللفظي انه
متعرض لحال دليل آخر، نظير قوله في المثال المتقدم: " لا تكرم زيدا " فإنه لا
تعرض له بحسب المدلول لحكم العام، ولذا يتم هذا الكلام ولو لم يكن هناك
دليل عام أصلا.
نعم، بعد العلم بصدور العام والمفروغية عن عدم جواز صدور حكمين
متنافين من العاقل الملتفت، يحكم العقل بملاحظة أظهرية الخاص أو نصوصيته
431

بعدم إرادة هذا الفرد الخاص من العموم، فيكون الخاص بيانا للمراد الواقعي
من الدليل العام، لكن بحكم العقل ومن باب الجمع بين الدليلين.
وهذا بخلاف الدليل الحاكم، فان بيانيته بمدلوله اللفظي لا بتوسط
حكم العقل، بحيث يفهم من مدلوله اللفظي انه بيان لحال دليل آخر فيضيق
دائرته أو يوسعها.
ولأجل ذلك كان الدليل الحاكم متفرعا على الدليل المحكوم، فيتوقف
على ورود المحكوم أولا ثم يرد الحاكم. بخلاف الخاص فإنه لا يتفرع على ثبوت
حكم العام أصلا كما عرفت.
ثم ذكر: ان الحكومة على أقسام:
فمنها: ما يتعرض لموضوع المحكوم، كما إذا قيل: " زيد ليس بعالم " بعد
قوله: " أكرم العلماء ".
ومنها: ما يتعرض لمتعلق الحكم الثابت في المحكوم، كما لو قيل إن الاكرام
ليس بالضيافة.
ومنها: ما يتعرض لنفس الحكم، كما لو قيل: " ان وجوب الاكرام ليس في
مورد زيد ".
ثم ذكر أن الوجه في تقدم الحاكم على المحكوم هو انه لا تعارض بين
الدليلين أصلا، لان الدليل المحكوم يتكفل الحكم على تقدير ثبوت الموضوع،
فلا تعرض له لثبوت ذلك التقدير وعدمه، والدليل الحاكم يتكفل هدم تقدير
ثبوت الموضوع وبيان عدم تحققه، وفي مثله لا تنافي أصلا بين الدليلين.
وعلى هذا الأساس صحح الترتب بين الامر بالضدين، ببيان عدم المنافاة
بين تعلق الامر بالأهم مطلقا وتعلق الامر بالمهم على تقدير عصيان الأهم، فان
امتثال الامر بالأهم إلى هدم موضوع الامر المهم، فلا يصادمه ولا ينافيه،
بل هو كالحاكم بالنسبة إلى الدليل المحكوم.
432

وبعد هذا البيان ذكر أن دليل نفي الضرر يكون حاكما على أدلة
الأحكام الواقعية الأولية، سواء قلنا بمقالة صاحب الكفاية من تكفله نفي
الحكم بنفي الموضوع. أو قلنا بمقالة الشيخ من تكفله نفي الحكم الضرري. لأنها
ناظرة إلى أدلة الأحكام الواقعية على كلا المسلكين، وانما الفرق انها على مسلك
صاحب الكفاية تكون شارحة لموضوع الاحكام. وعلى مسلك الشيخ تكون
شارحة لأصل الحكم.
هذا ما أفاده (قدس سره) نقلناه مع توضيح وتلخيص (1).
والكلام معه في مقامين:
المقام الأول: في ضابط الحكومة وبيان حكومة دليل نفي الضرر على أدلة
الاحكام.
أما ضابط الحكومة، فقد أسهبنا القول فيه في غير هذا المقام. والذي
نختاره يتعارض مع ما ذكره (قدس سره).
ومجمله: أن يكون الدليل الحاكم متعرضا وناظرا بمدلوله اللفظي للدليل
المحكوم، سواء كان تعرضه بالتفسير والدلالة المطابقية، كما إذا تكفل التفسير
بمثل كلمة: " أعني ". أو كان تعرضه بالظهور السياقي ونحوه، نظير قوله: " لا
شك لكثير الشك " بالنسبة إلى أدلة أحكام الشك. ولا يختلف الحال فيه بين أن يكون
متعرضا للموضوع فيضيقه أو يوسعه، وبين أن يكون متعرضا للحكم
مباشرة، نظير أدلة نفي الحرج المتكفلة لنفي الاحكام الحرجية.
ومن هنا كان الدليل الحاكم متفرعا على الدليل المحكوم، بحيث يكون
الحاكم لغوا بدون المحكوم لارتباطه به ونظره إليه.
واما حكومة دليل نفي الضرر على أدلة الاحكام، فهي تكون واضحة بعد

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر / 213 - المطبوعة ضمن غنية الطالب.
433

بيان هذا الضابط للحكومة، بناء على مختار الشيخ ومختار صاحب الكفاية.
إذ هي على مختار الشيخ تكون ناظره إلى نفي الاحكام المستلزمة للضرر،
فتكون متفرعة عن أدلة الأحكام الأولية. كما أنها على مختار صاحب الكفاية
تكون موجبة للتصرف في موضوع أدلة الأحكام الأولية باخراج الموضوع عنها.
ومنه اتضح حكومتها على مختارنا في مدلولها من تكفلها نفي الضرر
حقيقة، ونظرها الأصلي إلى نفي الحكم أو إثبات التحريم. فلاحظ.
وأما على المسلك القائل بان مفادها النهي عن الضرر فقط، فلا تستلزم
الحكومة، وسيأتي البحث فيه أن شاء الله تعالى عند التعرض لمورد تعارض دليل
نفي الضرر مع دليل يتكفل الحكم بالعنوان الثانوي كدليل نفي الحرج، ومورد
تعارض الضررين. فانتظر.
المقام الثاني: في بيان بعض المؤاخذات على كلامه (قدس سره). وهي
عديدة:
الأولى: فيما أفاده من أن بيانية الخاص للعام بحكم العقل، بحيث يكون
تقدمه عليه بحكم العقل بعد ملاحظته التنافي بين الحكمين. فإنه يرد عليه.
أولا: انه لا دخل للعقل في تقديم أحد الدليلين على الاخر، وليس
ذلك من مهماته، فهل يختار العقل تقديم الخاص ولا يختار تقديم العام؟.
وثانيا: انه التزم في مبحث التعادل والترجيح ان الخاص مقدم على العام
بالقرينية ومقتضاه عدم ملاحظة أقوائية ظهور الخاص، بل يقدم الخاص ولو لم
يكن ظهوره أقوى من ظهور العام بل كان أضعف، نظير تقديم ظهور: " يرمي "
في رمي النبل على ظهور: " أسد " في الحيوان المفترس، لاجل أنه قرينة، ولو كان
ظهوره في معناه أضعف من ظهور أسد في معناه.
وما التزم به هناك مناف لما أفاده ههنا من تقدم الخاص بحكم العقل أو
بالأظهرية، فلاحظ.
434

الثانية: فيما أفاده من لزوم تأخر الدليل الحاكم على الدليل المحكوم
زمانا.
فإنه يرد عليه: ان الضابط الذي تقدم بيانه للحكومة وإن اقتضى تفرع
الحاكم على المحكوم. لكنه لا يقتضي تفرعه عليه تفرع المعلول عن العلة
والمسبب عن السبب كي لا يصح تقدمه زمانا، بل انما يقتضي كون الحاكم من
شؤون الدليل المحكوم وتوابعه، وهذا لا ينافي تأخر المحكوم وجودا.
نعم، غاية ما يلزم هو ثبوت المحكوم وتحققه ولو في زمان متأخر، إذ من
الممكن أن يكون الشئ من توابع شئ آخر مع تقدمه زمانا، كتهيئة الطعام
للضيف قبل الظهر مع أنه من شؤون مجيئه للدار المتأخر زمانا. فتدبر.
الثالثة: فيما أفاده في وجه تقدم الحاكم على المحكوم من عدم المعارضة
بينهما. فإنه يرد عليه:
أولا: ان الدليل الذي يتكفل هدم موضوع الدليل الاخر، انما لا ينافيه
إذا كان تصرفه فيه تكوينيا، نظير تصرف الامر بالأهم في موضوع الامر بالمهم
في باب الترتب، لا ما إذا كان تصرفه فيه تعبديا، لان مرجع النفي التعبدي
للموضوع إلى نفي الحكم نفسه، فيتنافى مع دليل اثبات الحكم لذلك الفرد،
والدليل الحاكم كذلك، لأنه يتكفل نفي الموضوع تعبدا وتنزيلا لا حقيقة.
وثانيا: ان الدليل الحاكم لا ينحصر فيما يتكفل نفي الموضوع، بل من
الأدلة الحاكمة ما يتكفل نفي الحكم مباشرة، بل قد جعله (قدس سره) من
أوضح افراد الحكومة.
ومثل هذا الدليل يصادم الدليل المحكوم في مدلوله وينافيه. فما أفاده
(قدس سره) لا يمكن الاعتماد عليه.
والذي ينبغي ان يقال في وجه تقديم الحاكم على المحكوم، هو: ان تقدمه
عليه للقرينية، إذ بعد ثبوت نظره للدليل المحكوم وتعرضه له يعد عرفا قرينة
435

على تشخيص المراد بالمحكوم.
وبالجملة: انه لا إشكال في كون الدليل المتكفل لتفسير الدليل الاخر
بكلمة: " أعني " ونحوها، يكون مقدما على الدليل الاخر عرفا لقرينيته عليه، ولا
يرى العرف أي تناف بينهما ولا حيرة في الجمع بينهما.
ومثل هذا الدليل الذي يكون ناظرا إلى الدليل الاخر بدون كلمة
التفسير، لأنه أيضا يعد قرينة عرفا. فكلا نحوي الحاكم يكون مقدما بملاك
القرينية. غاية الامر أن قرينية النحو الأول بالنص وقرينية النحو الثاني
بالظهور، وهو لا يكون فرقا فارقا، فتدبر. هذا تمام الكلام في الحكومة.
وأما الخامس: وهو دعوى التوفيق العرفي التي بنى عليها صاحب
الكفاية. فتوضيح ما أفاده (قدس سره): انه ذكر ان دليل نفي الضرر انما يتكفل
في حال الضرر نفي الحكم الثابت للفعل بعنوانه الأولي أو المتوهم ثبوته له
كذلك، وهو لا نظر له إلى الحكم الثابت للفعل بعنوان الضرر، وذلك لان ظاهر
دليل نفي الضرر كون الضرر علة للنفي ومانعا من ثبوت الحكم المنفي، فلا
يمكن ان يشمل الموارد التي يكون الضرر مقتضيا لثبوت الحكم، إذ المقتضي
للحكم يمتنع أن يكون مانعا عنه.
ومن هذا البيان انتقل إلى تقدم دليل نفي الضرر على أدلة الاحكام بلا
ملاحظة النسبة بينهما، إذ بعد استظهار العرف من دليل نفي الضرر كون الضرر
مانعا من ثبوت الحكم وأنه يرتفع بالضرر، يوفق بين الدليلين بحمل الأدلة الأولية
على بيان الحكم الاقتضائي وان الضرر مانع عن فعلية الحكم.
ثم قال بعد كلام له: " هذا، ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله لعدم ثبوت
نظره إلى مدلوله كما قيل " ويمكن أن يرجع قوله: " كما قيل " إلى نفي الحكومة،
وانه ليس، امرا تفردنا به بل قيل به. كما يمكن ان يرجع إلى نفس الحكومة، وهي
المنفي، فيكون إشارة إلى دعوى الشيخ (رحمه الله)، والأمر سهل.
436

وكيف ما كان فما أفاده (قدس سره) في بيان تقدم دليل نفي الضرر على
أدلة الأحكام الأولية يبتني على كون المستفاد من دليل نفي الضرر ان الضرر
مانع من ثبوت الاحكام، فتكون مرتفعة بثبوته لوجود المانع.
ولا يخفى عليك ان ما أفاده (قدس سره) يرجع في الحقيقة إلى دعوى
نظر دليل نفي الضرر إلى أدلة الاحكام وتعرضه لها، فينطبق عليه تعريف
الحكومة على رأي الشيخ، فيتقدم دليل نفي الضرر بهذا البيان بالحكومة.
نعم، لما كان (قدس سره) لا يلتزم بان الحكومة هي مطلق النظر، بل هي
النظر بالشرح والتفسير المطابقي، مثل أن يقول: " أعني " لم يعلل التقدم ههنا
بالحكومة بل علله بالتوفيق العرفي.
فهو في ملاك التقديم يشترك مع الشيخ (رحمه الله) ولكنه يختلف معه في
عنوان التقدم، فالاختلاف بينهما لفظي اصطلاحي، ولا مشاحة في الاصطلاح.
هذا فيما يرجع إلى جهة السلب في كلامه - أعني: تكفل دليل نفي الضرر
نفي الأحكام الأولية وعدم ثبوتها -.
وأما ما يرجع إلى جهة الايجاب وهي حمل العرف لأدلة الأحكام الأولية
علي بيان الحكم الاقتضائي في مورد الضرر..
فقد وقعت مورد النقض والابرام ممن تأخر عنه، وبحث في معقولية الحكم
الاقتضائي وما المراد منه؟. وفي مقدمة من تعرض لذلك باسهاب المحقق
الأصفهاني (رحمه الله) (1).
وبما أنه لا أثر عمليا للبحث في ذلك فعلا فالأولى ترك التعرض له
إلى مجال آخر.
والخلاصة: هي ان أدلة نفي الضرر حاكمة على أدلة الأحكام الأولية بناء

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 324 - الطبعة الأولى.
437

على تكفلها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع الضرري، أو تكفلها نفي الحكم
المستلزم للضرر.
وأما دعوى التوفيق العرفي، فهي في واقعها ولبها ترجع إلى دعوى
الحكومة بحسب مصطلح الشيخ (رحمه الله) وانما الاختلاف اصطلاحي.
ثم إن ما أفاده صاحب الكفاية في وجه التقدم من ظهور دليل نفي الضرر
في مانعية الضرر، انما هو متفرع على ما استفاده من كون الحديث متكفلا لنفي
الحكم بلسان نفي موضوعه.
ولا يتأتى على سائر الأقوال في مفاد حديث نفي الضرر، إذ لا ظهور في
نفي الحكم المستلزم للضرر في كونه مانعا من الحكم وعلة للنفي، إذ لم يؤخذ
الضرر في موضوع النفي كي يستظهر عليته له، كما هو الحال على مسلك صاحب
الكفاية. فانتبه ولا تغفل والله سبحانه العالم.
التنبيه الثاني: في أن الضرر المنفي بحديث نفي الضرر هل يراد به
الضرر الواقعي، سواء علم به المتضرر أم لم يعلم، أو يراد به الضرر المعلوم؟.
الذي ذكره المحقق النائيني (رحمه الله) في هذا المقام، هو: ان مقتضى وضع
الألفاظ للمعاني الواقعية لا المعلومة كون المراد بالضرر المنفي الضرر الواقعي
لا المعلوم (1).
لكن يظهر من الشيخ (رحمه الله) في باب الوضوء اشتراط علم المكلف
بكون الوضوء ضرريا في جريان دليل نفي الضرر، فلو توضأ وهو يعتقد عدم
الضرر فبان الضرر بالوضوء كان وضوءه صحيحا (2).
كما أنه يظهر من غير واحد في المعاملة الغبنية اشتراط الجهل بالغبن

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر / 215 - المطبوعة ضمن غنية الطالب.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. كتاب الطهارة / 151 - الطبعة الأولى.
438

في جريان دليل نفي الضرر لاثبات الخيار، فلو علم بالغبن لم يثبت الخيار.
كما أنه في غير هذين الموردين سلكوا مسلكا آخر، فجعلوا المدار على
الضرر الواقعي علم به أم لم يعلم، ولذا حكموا بأنه ليس للمالك حفر البئر في
داره إذ استلزم ضرر الجار ولو لم يعلم الجار بالضرر.
ومن هنا يحير الانسان، ويقع ا لاشكال في اعتبار العلم بالضرر في مورد
الوضوء، واعتبار الجهل به في مورد البيع الغبني، وعدم اعتبار العلم ولا ا لجهل في
مورد ثالث. هذا ما أفاده المحقق النائيني (رحمه الله).
ثم إنه تصدى لحل الاشكال في باب الوضوء، وان أخذ العلم ليس من
جهة كون المراد بالضرر هو الضرر المعلوم، كي يتصادم هذا الالتزام مع الالتزام
بعدم اعتبار العلم في غير مورد، بل أخذ العلم بالضرر في مورد الوضوء منشؤه
وجهان:
الأول: ان قاعدة نفي الضرر قاعدة امتنانية واردة بملاك الامتنان، فلا
تجري فيما كان اجراؤها خلاف المنة، بان استلزم ايجاد كلفة على المكلف.
وهذا هو المانع من اجرائها في مورد الوضوء المتقدم، لان اجراء حديث
نفي الضرر فيه يستلزم الحكم ببطلان وضوئه السابق وصلاته لو فرض أنه صلى
به، فتجب عليه إعادة الوضوء والصلاة، وهو ايقاع للمكلف في الكلفة، وهو ينافي
التسهيل والامتنان.
الثاني: ان حديث نفي الضرر انما يرفع الحكم إذا كان موجبا للضرر،
بحيث يكون هو الجزء الأخير للعلة التامة للضرر، وفيما نحن فيه ليس الحكم
بوجوب الوضوء كذلك، فان الضرر لا يستند إليه، بل منشأ الضرر هو جهل
المكلف واعتقاده عدم الضرر، ولذا لو فرض انتفاء الحكم في الواقع لوقع المكلف
في الضرر لجهله بترتبه على الفعل. وبعبارة أخرى: انك قد عرفت أن الحديث
يتكفل نفي الحكم بلسان نفي الضرر من باب ان نفي السبب ملازم لنفي
439

المسبب، وهذا المعنى لا يتأتى في المورد، لان نفي الحكم فيه لا يستلزم نفي
الضرر، بل المكلف يقع في الضرر على كل حال كان الحكم بالوضوء ثابتا أم لم
يكن. إذن فلا يتكفل الحديث نفي الحكم في مثل هذه الصورة.
نعم، لو كان مفاد الحديث نفي الحكم عن الموضوع الضرري، فلا وجه
للتقييد بالعلم بالضرر فيما نحن فيه، إذ الوضوء ضرري ويستند إليه الضرر بلا
كلام، فينتفي حكمه بمقتضى حديث نفي الضرر. ولكن هذا المذهب غير صحيح
كما تقدم.
هذا ما أفاده (قدس سره) في حل الاشكال. ومقتضاه اعتبار الامرين في
عدم وجوب الوضوء، الضرر الواقعي والعلم به، ومن هنا قد يتوجه اشكال، وهو:
ان لازم ذلك أنه لو اعتقد الضرر ولم يكن ضرر في الواقع لم يسقط عنه وجوب
الوضوء، فلو كان صلى عن تيمم لزمه إعادة الصلاة، لعدم انتقال فرضه إلى
التيمم. مع أن المشهور عدم وجوب الإعادة، مما يكشف عن كون اعتقاد الضرر
ذا موضوعية بنفسه.
وقد دفع (قدس سره) هذا الاشكال: بان ظاهر عدم الوجدان في الآية
الكريمة: (فان لم تجدوا ماء فتيمموا...) (1) هو الأعم من الواقعي والعلمي،
واعتقاد الضرر يدرج المكلف في من لم يجد الماء، إذ المراد من عدم الوجدان
عدم التمكن من استعمال الماء، إما لعدم وجوده وإما لعدم القدرة على استعماله
لمانع شرعي أو عادي، ولذا لو اعتقد عدم وجود الماء في راحلته وصلى متيمما ثم
تبين وجود الماء أفتوا أيضا بصحة الصلاة، وليس ذلك إلا من باب ان عدم
الوجدان أعم من عدم الوجود واقعا أو اعتقادا.
ثم إنه (قدس سره) تعرض لمطلب استطرادي، وهو: انه إذا انقلب

(1) سورة النساء، الآية: 43، وسورة المائدة، الآية: 6.
440

الفرض إلى التيمم كما لو كان الوضوء ضرريا وعلم به، فهل يصح وضوءه لو
أراد أن يتوضأ أم لا. ذهب (قدس سره) إلى عدم صحته، إذ ما يمكن تصحيح
الوضوء به إما دعوى اشتمال الوضوء على الملاك. واما دعوى تعلق الامر به بنحو
الترتب وأما دعوى أن الامر بالتيمم رخصة لا عزيمة. وإما دعوى أن حديث
نفي الضرر يرفع اللزوم لا الجواز. والجميع باطل.
أما الأول: فلان مقتضى الحكومة خروج الفرد الضرري عن عموم أدلة
المشروعية، فلا يثبت فيه الملاك، لعدم وجود كاشف له.
وأما الثاني: فلما ثبت في محله من عدم جريان الترتب في الواجبين
المشروطين بالقدرة شرعا.
وأما الثالث: فلان التخصيص بلسان الحكومة يكشف عن عدم شمول
العام للفرد الخارج، فلا معنى لاحتمال الرخصة.
وأما الرابع: فلان الحكم بسيط لا تركب فيه، فلا معنى لرفع اللزوم دون
الجواز.
وقد ذكر (قدس سره) بعد ذلك: انه لولا توهم بعض الأعاظم وحكمه
بصحة الوضوء الحرجي - لورود نفي الحرج مورد الامتنان فلا يكون الانتقال
إلى التيمم عزيمة - لما كان للبحث عن صحة الوضوء في مورد الضرر مجال، ولا
فرق بين نفي الحرج ونفي الضرر في ذلك، لاشتراكهما في كونهما حاكمين على
أدلة الاحكام.
هذا مجموع ما أفاده (قدس سره) في مسألة الوضوء.
ولنا على كلامه ملاحظات:
الأولى: ان نفي وجوب الوضوء وايجاب التيمم أجنبي عن حديث نفي
الضرر بالمرة، ولا تصل النوبة إلى تحكيم: " لا ضرر " فيه، كي يقع الكلام في حدود
تطبيقها ومورد جريانها.
441

والوجه في ذلك: ان المعلوم ضرورة من الأدلة فرض المكلف على قسمين،
واجد للماء بمعنى متمكن منه، وفاقد له بمعنى غير متمكن منه. والأول موضوع
وجوب الوضوء. والثاني موضوع وجوب التيمم. بحيث يعلم انه لا يشرع التيمم
أصلا في حق المتمكن، كما لا يشرع الوضوء في حق غير المتمكن.
وعليه، فنقول: إن الضرر الناشئ من استعمال الماء سواء أكان واقعيا أم
معلوما، إما أن يكون مستلزما لصدق عدم التمكن من استعمال الماء فلا يشرع
الوضوء لعدم موضوعه، فلا معنى لتحكيم: " لا ضرر " في نفيه، إذ لا وجوب له
كي ينفي ب‍: " لا ضرر ". واما لا يستلزم ذلك، بل يصدق التمكن من استعمال
الماء، فيشرع الوضوء ولا مجال لنفيه ب‍: " لا ضرر " واثبات وجوب التيمم، لما
عرفت من أن الواجد موضوع للوضوء مطلقا ولا يكون موضوعا لوجوب
التيمم.
وبالجملة: ادراج مسألة التيمم والوضوء في مصاديق قاعدة نفي الضرر
غير وجيه، إذ لا مجال لتحكيمها في حال من الأحوال.
وبعد ان تعرف هذا، لا يهمنا تحقيق الوجهين اللذين ذكرهما لعدم تطبيق:
" لا ضرر " ومقدار صحتهما، وإن كنا قد أشرنا سابقا إلى عدم صحة الأول منهما.
فراجع.
وأما حل الاشكال - بناء على ما سلكناه - فهو بان يقال: إنه مع اعتقاد
عدم الضرر يصدق التمكن عرفا من استعمال الماء ولو كان مضرا واقعا، فيندرج
في موضوع وجوب الوضوء فيكون صحيحا. كما أنه مع اعتقاد الضرر وليس في
الواقع كذلك يكون الوضوء حرجيا، إذ الاقدام على ما يعتقد اضراره حرجي،
فيصدق عدم التمكن العرفي، فيصح تيممه وإن لم يكن الماء مضرا له واقعا.
الثانية: ان ما ذكره في مقام حل الاشكال الثاني، وهو مورد التيمم مع
اعتقاد الضرر بلا أن يكون الوضوء ضرريا واقعا، من أن عدم الوجدان المأخوذ
442

في الآية أعم من الواقعي والاعتقادي، وإن كان تاما بالبيان الذي عرفته من
كون اعتقاد الضرر مستلزما لصدق عدم التمكن من الماء للحرج فيشرع
التيمم. إلا أنه من المحقق النائيني ليس كما ينبغي، إذ موضوع كلامه تطبيق
قاعدة نفي الضرر وعدمه، وان المأخوذ في الموضوع هو الضرر مع العلم به أو
غير ذلك، فنقل الكلام إلى مدلول الآية الكريمة لا يخلو من خلط. ومفاد: " لا
ضرر " لا يعين مفاد الآية الكريمة كما لا يخفى.
وقد عرفت أنه مع العمل بالآية الكريمة ونحوها من الأدلة لا مجال
لقاعدة نفي الضرر بالمرة، فانتبه.
الثالثة: ومركزها الجهة الاستطرادية التي أشار إليها، وهي ما لو توضأ مع
كون الوضوء ضرريا وكان عالما بذلك، فإنه حكم ببطلان وضوئه لعدم المصحح.
ولكن ما أفاده غير تام على مبناه من الالتزام بان حديث نفي الضرر وارد مورد
الامتنان وبملاكه، وذلك لان مقتضى كون رفع التكليف امتنانا وارفاقا هو ثبوت
الملاك للحكم، وانما لم يجعله المولى امتنانا على عبده، إذ لو لم يكن للحكم ملاك،
فعدم جعله يكون لعدم ملاكه لا لاجل الامتنان، فلا منة في رفعه حينئذ. إذن
فكونه في مقام الامتنان قرينة على ثبوت الملاك، فيمكن تصحيح العمل بذلك.
نعم، ما أفاده يتم على ما اخترناه من عدم ظهور كون الرفع بملاك
الامتنان والارفاق، وإن كان رفع الحكم بنفسه ارفاقيا، لكنه غير كونه بملاك
الارفاق، فانتبه.
ثم إنه (قدس سره) ذكر في صدر كلامه ثبوت الاشكال في الصوم المضر
أيضا، إذ كان معتقدا عدم الضرر فيه، فإنهم حكموا بصحة الصوم مع ثبوت
الضرر فيه واقعا.
ولا يخفى عليك ان باب الصوم يختلف عن باب الوضوء، إذ ليس لدينا
في باب الصوم تكليفان وعملان يبحث في إجزاء أحدهما عن الاخر. فلا يتأتى
443

فيه الاشكال الثاني - أعني لو اعتقد الضرر فافطر ولم يكن في الواقع مضرا -،
إذ لا يحتمل إجزاء الافطار عن الصوم كي يبحث في صحته.
نعم، هو يشترك مع الوضوء في الاشكال الأول. وحله بوجوه:
منها: ان المأخوذ في موضوع الصوم خوف الضرر لا نفسه. ومن الواضح
انه مع اعتقاد عدم الضرر لا خوف في الوقوع في الضرر، فيكون مشروعا.
ومنها: ما أشار إليه المحقق النائيني من ورود الحديث مورد الامتنان، ونفي
مشروعية الصوم والحال هذه خلاف المنة كما لا يخفى. وتحقيق ذلك محله في
كتاب الصوم. فراجع.
هذا كله فيما يرتبط بأخذ العلم بالضرر في بعض الموارد كالوضوء
والصوم.
وأما ما يرتبط بأخذ الجهل بالضرر، كمورد المعاملة الغبنية التي اعتبر في
ثبوت الخيار بمقتضى: " لا ضرر " الجهل بالغبن. فقد تصدى المحقق النائيني إلى
حل الاشكال فيها، وان سبب التقييد بالجهل لا يرجع إلى عدم أخذ الضرر
الواقعي موضوعا، بل إلى جهة أخرى يقتضيها المقام بالخصوص. وهي: انه إذا
وقع المعاملة مع العلم بالغبن وتفاوت الثمن، فقد أقدم على الضرر، ومع اقدامه
على الضرر لا يكون الضرر مستندا إلى الحكم الشرعي بنحو يكون هو الجزء
الأخير لعلة الضرر، بل يستند الضرر إلى اقدام المشتري، ويكون الحكم
الشرعي من المقدمات الاعدادية للضرر، فلا يرتفع بحديث نفي الضرر، لان ما
يرتفع به هو الحكم الذي يستند إليه الضرر استناد المعلول إلى الجزء الأخير من
علته.
وهذا الوجه قابل للمنع. فان الضرر لا يترتب على اقدام المشتري على
الشراء، وإنما يترتب على حكم الشارع بعد الاقدام على الشراء، بصحته أو
لزومه، فإنه مترتب على الاقدام وايقاع المعاملة، فيكون هو الجزء الأخير لعلة
444

الضرر، فيكون مرفوعا بحديث نفي الضرر.
وقد وجه التفصيل بين صورتي العلم بالغبن والجهل به: بان الحكم بعدم
اللزوم في مورد العلم بالغبن خلاف المنة والتسهيل.
وفيه: ما أشرنا إليه من عدم ثبوت كون الحديث واردا بملاك الامتنان
بنحو يكون علة لنفي يدور مداره وجودا وعدما.
فالصحيح ان يقال في وجه التفصيل هو ما أشرنا إليه في مقام تحقيق معنى
الحديث من: أن المستفاد من الحديث هو نفي الضرر الصادر من خصوص الغير،
ومع العلم بالضرر في المعاملة، لا يستند الضرر إلى البائع خاصة، كما هو الحال في
صورة جهل المشتري، بل يستند إلى كل من البائع والمشتري بنحو الاشتراك،
فلا يكون مرفوعا بالحديث (1). فراجع تعرف.
هذا تمام الكلام في هذه الجهة.
والمتحصل: ان الضرر المنفي بحديث: " لا ضرر " هو الضرر الواقعي بلا
ان يتقيد بجهل أو بعلم، وإنما يكون الجهل أو العلم دخيلا في تطبيق القاعدة في
بعض الموارد لاجل خصوصية في المورد. فالتفت.
يبقى الكلام فيما تعرض له أخيرا من الفروع التي قد يتوهم التنافي بينها
بأنفسها أو بين بعضها، وما ذكره من أن الاقدام على الضرر في التكليفيات لا
يوجب عدم حكومة القاعدة عليها، وفي الوضعيات موجب لذلك، وهي:
أولا: لو أقدم على موضوع يترتب عليه حكم ضرري، كمن أجنب نفسه
معتمدا مع كون الغسل ضرريا، إن هذا الاقدام لا يوجب عدم جريان قاعدة
لا ضرر بالنسبة إلى الغسل. ومثله ما لو شرب دواء يتضرر معه بالصوم، فان
الصوم يسقط عنه لاجل الضرر.

(1) مقتضى ذلك عدم ثبوت الخيار في صورة جهل البائع أيضا إذ لا يستند الضرر إلى كل منهما (المقرر).
445

وثانيا: ما لو غصب لوحا من شخص ونصبه في سفينته، فإنه يقال بجواز
نزع مالك اللوح لوحه من السفينة وان تضرر مالكها بلغ ما بلغ ما لم يؤد إلى
تلف نفس محترمة. فالاقدام في هذا الفرع يمنع من جريان: " لا ضرر " في حق
الغاصب.
وثالثا: ما لو استأجر أرضا إلى مدة وبنى فيها بناء أو غرس فيها شجرا
يبقى بعد انقضاء زمان الإجارة فإنه يقال: ان لمالك الأرض هدم البناء أو قلع
الشجر وإن تضرر به المستأجر.
وقد ذكر (قدس سره) انه لا تنافي بين هذه الفروع وما تقدم، كما أن هنا
فرقا بين الفرع الأول منها وبين الفرعين الأخيرين، وذلك فان المجنب نفسه أو
شارب الدواء لم يكن مكلفا بالغسل والصوم حال الاجناب وشرب الدواء، بل
التكليف بهما بعد الاجناب وشرب الدواء. ومن الواضح ان الغسل والصوم
ضرريان، فيكون الضرر مستندا إلى الحكم الشرعي، والاقدام على الاجناب
وشرب الدواء لا ينفي الاستناد المذكور، لان فعله بمنزلة المقدمة الاعدادية
لثبوت الحكم الضرري، وفعله في ظرفه مباح لا ضرر فيه. وأما غاصب اللوح،
فهو مأمور قبل النصب بالرد، ولم يكن الرد في حقه ضرريا قبل النصب لكنه
بعصيانه ومخالفته التكليف بالرد أقدم على إتلاف ماله، فاقدامه وإرادته هي الجزء
الأخير لعلة الضرر، وليست ارادته واقعة في طريق امتثال الحكم كي يستند
الضرر إلى الحكم - كما هو الحال في الغسل والصوم -، بل هي واقعة في طريق
عصيان الحكم ومخالفته، فالضرر يستند إلى إقدامه لا إلى الحكم الشرعي
بوجوب الرد. ومثله الكلام في مسألة الغرس في الأرض المستأجرة، فإنه مع علمه
بعدم استحقاقه للغرس بعد مضي مدة الإجارة، فبغرسه قد أقدم على الضرر،
ولا يستند الضرر إلى الحكم الشرعي بل إلى إقدامه.
ثم إنه أضاف في مسألة غصب اللوح ونصبه في السفينة إلى ما ذكره في
446

عدم شمول: " لا ضرر " وجهين آخرين:
الأول: ان كسر السفينة ليس ضررا على صاحبها، لأنه مع كون اللوح
مغصوبا فصاحب السفينة لا يكون مالكا لتركيب السفينة، وإذا لم تكن الهيئة
الخاصة مملوكة له لم يكن رفعها ضررا عليه، لان الضرر هو النقص في المال الذي
يملكه، فحال نزع اللوح بعد النصب حال انتزاعه من الغاصب قبل النصب.
الثاني: انه قد دل دليل على أنه ليس لعرق ظالم حق (1)، فيدل على عدم
ثبوت الحرمة لماله، فلا تشمله القاعدة تخصصا، لأنها انما تنفي الضرر الوارد على
المال المحترم.
وقد أطال (قدس سره) في تحقيق الفرق بين هذه الفروع، ولا يهمنا نقل
غير ما ذكرناه من كلامه فإنه العمدة.
ولكنه لا يخلو عن إشكال، بيان ذلك: ان محل الكلام في مسألة اللوح
المغصوب ما إذا كان نزع اللوح يوجب تضرر مالك السفينة بغرق سفينته أو
تلف متاعه المحمول عليها لدخول الماء في السفينة، وأما إذا لم يلزم منه سوى
خراب نفس هيئة السفينة، كما لو كانت على الأرض، فلا يستشكل أحد في جواز
أخذ مالك اللوح لوحه، وانه يجوز له ذلك كما كان يجوز له أخذ لوحة قبل
التركيب والنصب.
وبعد ذلك نقول: إنه (قدس سره) ذكر وجوها ثلاثة في عدم جريان: " لا
ضرر " في هذا الفرع.
وجميعها محل منع:
أما الأول: وهو دعوى استناد الضرر إلى إقدامه وعصيانه التكليف بالرد
الثابت قبل النصب ففيه:

(1) وسائل الشيعة 17 / 311، حديث: 1.
447

أولا: ان التكليف بالرد يتعدد بتعدد الأزمنة وينحل إلى تكاليف متعددة
بتعدد الأزمنة، ففي كل آن يكون هناك تكليف بالرد، ولأجل ذلك يتعدد العصيان.
وعليه، فالتكليف بالرد قبل تحقق النصب غير التكليف بالرد بعد تحققه،
وهو بالنصب لم يتحقق منه سوى عصيان عن التكليف بالرد السابق، وهو ليس
بضرري.
وأما التكليف بالرد بعد النصب فهو ضرري. والنصب ليس عصيانا له
كي يكون إقداما على المخالفة والضرر، بل الضرر يستند إليه لا إلى إرادة المكلف،
بل إرادة المكلف الأول للنصب تكون بمنزلة المقدمة الاعدادية لثبوت الحكم
الشرعي بالرد بعد النصب، وهذا التكليف ضرري، إذ إرادة الرد معلولة له والرد
في هذا الحال يستلزم الضرر، فيستند الضرر إلى الحكم لوجوبه.
وبهذا البيان ظهر أنه لا فرق بين هذا المثال والفرع الأول في كون
الاقدام ليس على الضرر وانما هو مقدمة اعدادية لثبوت الحكم الضرري، وان
أساس الفرق كان يبتني على ملاحظة التكليف بالرد تكليفا واحدا، وقد عرفت أنه
غير صحيح.
وثانيا: ان الاقدام على الضرر في مثل المثال لا يرفع نسبة الضرر إلى
الحكم لأنك قد عرفت في مسألة المعاملة الغبنية، ان الجزء الأخير لعلة الضرر
هو الحكم الشرعي، فلا فائدة في الاقدام.
وثالثا: ان الاقدام على الضرر انما يصدق بحيث يستند الضرر إلى الاقدام
لا إلى الحكم، فيما إذا فرض عدم شمول حديث " لا ضرر " لمورد الاقدام، وإلا
فلا ضرر كي يقال إنه أقدم عليه، وعدم شمول " لا ضرر " يتوقف على ثبوت
الاقدام على الضرر بحيث يصح اسناد الضرر إلى الاقدام لا إلى الحكم، وهذا
دور واضح.
وبعبارة أخرى: ان الاقدام على الضرر إنما يصدق إذا كان المكلف عالما
448

بعدم رفع الحكم الضرري، أما إذا لم يعلم ذلك بل هو أقدم على العمل موطنا
نفسه على ما يحكم به الشارع بعد ذلك، فلا يكون ذلك اقداما على الضرر بل
هو إقدام على الضرر على تقدير حكم الشارع عليه لا له، فلا يمكن ان يحكم
الشارع عليه استنادا إلى إقدامه على الضرر فإنه خلف.
وقد أشار إلى بعض هذا الاشكال المحقق الأصفهاني في بعض كتاباته
الفقهية فراجع حاشية المكاسب مبحث خيار الغبن (1).
وأما الوجه الثاني: وهو دعوى أن نزع اللوح من السفينة لا يوجب
ضررا على مالكها لعدم ملكيته الهيئة التركبية الحاصلة من نصب اللوح.
ففيه ما عرفت من: ان محل الكلام ما إذا استلزم النزع ضررا زائدا على
فوات الهيئة التركيبية للسفينة.
وأما الوجه الثالث: وهو التمسك بما ورد من انه ليس لعرق ظالم حق،
ففيه: ان ذلك يقتضي عدم احترام مال الظالم والغاصب والمرتبط بنفس المغصوب
كأن يوجد عملا في المغصوب، كما لو غصب فضة فصاغها خاتما، فإنه لا يحكم
بشركته في الخاتم أو بثبوت الأجرة له كما هو الحال لو صاغها غير الغاصب. ولا
يقتضي عدم احترام جميع أمواله، لجميع آلات الصياغة، فإنه مما لا قائل به ولا
يقتضيه الدليل المزبور.
وعليه، فغصب اللوح لا يقتضي عدم احترام الألواح الراجعة إليه أو
المال المحمول على السفينة، كي يجوز الاضرار به، فانتبه ولا تغفل.
والذي يتحصل: ان ما أفاده (قدس سره) من الوجوه الثلاثة في مسألة
اللوح المغصوب غير تام.
وعليه، نقول إذا تم ما يقال من أن الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال، فقد

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. حاشية المكاسب 2 / 54 - الطبعة الأولى.
449

يستظهر منه جواز نزع المالك اللوح وان أوجب ضررا على الغاصب. وتحقيق
ذلك موكول إلى مبحث الغصب من كتب الفقه.
وأما مسألة الغرس الباقي بعد انقضاء مدة الإجارة، فقد حققنا الكلام
فيه باسهاب في مبحث خيار الغبن في مسألة تصرف الغابن في العين تصرفا موجبا
للزيادة. فراجع. والله سبحانه العالم.
التنبيه الثالث: في شمول الحديث للاحكام العدمية، كما أنه شامل
للاحكام الوجودية. وتوضيح ذلك: انه لا اشكال في أن حديث نفي الضرر
يوجب التصرف في الاحكام الوجودية فيخصصها بغير مورد الضرر. وإنما
الاشكال في شمولها للاحكام العدمية إذا ترتب عليها الضرر. مثال ذلك: ما إذا
حبس حرا غير أجير ففات عمله، فان قواعد الضمان لا تشمل مثل ذلك، لعدم
كونه اتلاف مال - نعم لو كان المحبوس عبدا أو حرا أجيرا، يكون الحبس اتلافا
لمال المالك والمستأجر، فيكون الحابس ضامنا -. وعليه يقال: إن عدم الضمان
حكم ضرري لاستلزامه الضرر على الحر لفوات عمله، فهل يشمله حديث نفي
الضرر، ومقتضاه ثبوت الضمان والتدارك ههنا؟. ومثله ما لو كان بقاء الزوجة على
الزوجية مضرا بها، وكان الزوج غائبا، فان عدم كون الطلاق بيدها أو بيد الحاكم
الشرعي أو عدول المؤمنين يكون ضرريا. ونحوه ما إذا كان العبد تحت الشدة،
فيكون عدم عتقه ضرريا. فيقع الكلام في شمول: " لا ضرر " لمثل ذلك، فيقتضي
ثبوت حق الطلاق للزوجة أو لغيرها في مثال الزوجة، وثبوت الحرية للعبد في
مثاله.
وقد ذهب المحقق النائيني (رحمه الله) إلى عدم شمول الحديث للاحكام
العدمية، وقد أطال في تحقيق ذلك والاستدلال عليه، والذي يتلخص من كلامه
وجوه ثلاثة:
الأول: ان حديث: " لا ضرر " انما يشمل الاحكام المجعولة شرعا، لأنه
450

ناظر إلى ما ثبت بالعمومات من الأحكام الشرعية، وعدم الضمان ونحوه من
الأمور العدمية ليست أحكاما شرعية مجعولة من قبل الشارع.
وما يدعى من: ان العدم حدوثا وإن لم يستند إلى الشارع، لان ناش من
عدم علة الوجود لا وجود علة العم لا انه بقاء يستند إليه، ولذا صح تعلق النهي
بمجرد الترك وعدم الفعل بلحاظ ان عدم الفعل بقاء يستند إلى المكلف.
يندفع: بان ذلك وإن كان موجبا للقدرة على العدم وهي المصححة
للتكليف، لكن لا يصحح اسناد العدم إلى الشارع ما لم يتعلق به جعل شرعي.
الثاني: ان لازم الالتزام بشمول الحديث للحكم العدمي ثبوت الضمان
في المثال المتقدم، وهذا يعني تكفل الحديث لنفي الضرر غير المتدارك، وهذا المعنى
قد تقدم بطلان استفادته من الحديث وتوهينه، وأنه أردأ الوجوه.
الثالث: ان لازم الالتزام بعموم الحديث للاحكام العدمية تأسيس فقه
جديد، لاستلزامه في مثال الزوجة ثبوت حق الطلاق للحاكم الشرعي وهو مما لا
يلتزم به (1).
وهذه الوجوه بأجمعها غير تامة:
أما الأول: فلانه بعد فرض القدرة على العدم بحيث يكون تحت
الاختيار، كيف لا يستند العدم إليه؟، فان نفي استناد العدم إليه وعدم صدوره
منه مساوق لنفي القدرة عليه، وهو خلف فرض القدرة على الوجود.
وأما الثاني: فلان المستهجن هو أن يكون مفهوم الحديث هو نفي الضرر
غير المتدارك بهذا المفهوم كما تقدمت الإشارة إليه.
أما أن يكون مفهوم الحديث نفي الحكم الضرري الذي يتفق في النتيجة
والأثر مع نفي الضرر غير المتدارك، لا ثباته التدارك في بعض الموارد، فهذا مما لا

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر / 220 - المطبوعة ضمن غنية الطالب.
451

استهجان فيه أصلا. والذي يستتبعه الالتزام بعموم الحديث للاحكام العدمية هو
ذلك، لا كون معنى الحديث هو نفي الضرر غير المتدارك، فلا استهجان فيه.
وأما الثالث: فلان ما جعله مثالا واضحا لتأسيس الفقه الجديد وهو مثال
الزوجية، مما يلتزم فيه - أخيرا - بثبوت الحق للحاكم في الطلاق عملا ببعض
النصوص (1).
وقد صرح (قدس سره): بالتزام السيد صاحب العروة (رحمه الله) به (2)
محتجا عليه بقاعدة نفي الحرج ونفي الضرر، فكيف يكون الالتزام بثبوت حق
الطلاق للحاكم الشرعي من تأسيس فقه جديد؟.
فما أفاده في الاستدلال على عدم شمول الحديث للاحكام العدمية لا نراه
تاما سديدا.
والتحقيق: هو صحة ما أفاده من أصل الدعوى، فنحن لا نلتزم بشمول
الحديث للاحكام العدمية. وتقريب ذلك: ان استناد الضرر انما يتحقق بالتسبيب
إليه وإيجاد ما يستلزمه. وأما عدم ايجاد المانع عن الضرر، فهو لا يحقق اسناد
الضرر، فمثلا إذا فعل شخص ما يستلزم ورود الضرر على آخر استند اضراره
إليه، وأما إذا رأس ضررا متوجها إلى الاخر وكان قادرا على دفعه فلم يدفعه، لم
يستند الضرر إليه أصلا. وعليه فبما ان الضرر المنفي هو الضرر المستند إلى
الشارع، فيختص النفي بما إذا كان مترتبا على الحكم الوجودي، فإنه يصحح
اسناد الضرر إلى الشارع. أما المترتب على عدم الحكم، بحيث كان الشارع
متمكنا من جعل الحكم الوجودي المانع منه، فلا يستند إليه، فلا يتكفل الحديث
رفعه. ولا يهمنا بعد ذلك أن يكون عدم الحكم مستندا إلى الشارع أو ليس

(1) وسائل الشيعة 15 / 389، باب 23.
(2) اليزدي الفقيه السيد محمد كاظم. العروة الوثقى 1 / 70 - الطبعة الأولى.
452

بمستند.
ولا معنى لقياس المورد بمورد استصحاب عدم الحكم، لاختلاف الملاك
في الاستصحاب ونفي الضرر.
ويمكن ان يقرب أيضا: بان مفاد حديث نفي الضرر ليس إلا نفي
الاحكام المجعولة المستلزمة للضرر، لا انه يجعل ما ينفي الضرر.
وبعبارة أخرى: كأن الشارع يقول: " انا لم أجعل الحكم المستلزم
للضرر ". ولا يقول: " انا جعلت ما ينفي الضرر " وفرق واضح بين المفادين.
ولا يخفى ان الحكم العدمي وان استند إلى الشارع بقاء، لكن استناده
من باب عدم جعل الوجود لا من باب جعل العدم. إذن فالعدم ليس من
المجعولات الشرعية.
كما أنه يمكن ان يقال: ان مفاد: " لا ضرر " هو نفي الحكم خاصة، فلا
تتكفل اثبات الحكم، فلسانها لسان نفي صرف لا لسان اثبات، والعمدة في هذه
التقريبات هو ما ذكرناه أولا. فتدبره.
وأما مسألة الزوجة تحت الضيق مع غياب الزوج أو امتناعه عن الطلاق،
فالحكم المستلزم للضرر فيها وجودي لا سلبي عدمي. فان الموجب لوقوع
الزوجة في الضيق - بعد المفروغية عن عدم زوال العلقة الزوجية بغير الطلاق -
هو حصر حق الطلاق بالزوج، وهو أمر ثبوتي منتزع من جعل حق الطلاق
للزوج وعدم جعله لغيره، وقد بينه الشارع بمثل: " الطلاق بيد من اخذ
بالساق " (1)، ومثله وإن لم يكن حكما مجعولا، إلا أنه لما كان منتزعا من الحكمين
المجعولين أمكن نفيه شرعا بحديث لا ضرر.
فلو قيل: إنه يلزم منه تأسيس فقه جديد، لم يكن إيرادا على شمول

(1) عوالي اللئالي 1 / 234، حديث: 137.
453

الحديث للاحكام العدمية، لان المنفي أمر وجودي. فتدبر.
ثم إنه قد يوجه عدم شمول الحديث لمورد الحكم العدمي: بأنه قد تقدم
ان الحديث لا نظر له إلى الاحكام الواردة مورد الضرر، كالضمان والحدود
والديات. وبما أن الحكم العدمي في مورده ضرري، كعدم الضمان فإنه ضرري
على الحر المفوت عمله. ولم يثبت باطلاق دليل كي تكون له حالتان، بل ثبت
بالامضاء الثابت في كل مورد بخصوصه، فهو ثابت في مورد الضرر رأسا. وفيه:
أولا: انه ليس مطردا في جميع أمثلة الحكم العدمي. فمثل نفي حق
الطلاق لغير الزوج ثابت مطلقا بمثل: " الطلاق بيد من اخذ بالساق ". أعم من
مورد الضرر وعدمه، فيمكن أن يكون مشمولا لحديث نفي الضرر، بناء على أن
المنفي أمر عدمي لا ثبوتي.
وثانيا: ان الحكم الذي لا يكون لحديث نفي الضرر نظر إليه هو الحكم
الثابت بعنوان الضرر، كقتل النفس واعطاء الزكاة ونحوها.
أما الحكم الذي يثبت في مورد الضرر لا بعنوان الضرر، بل بعنوان آخر
يلازم حصول الضرر، فهو خارج عن عموم حديث نفي الضرر بالتخصيص لا
بالتخصص.
وعليه، ففي مورد توهم مثل ذلك الحكم يرجع إلى عموم حديث نفي
الضرر، كما هو الحال في كل مورد يشك فيه في التخصيص. والحكم العدمي
المتوهم على تقدير ثبوته من قبيل الثاني، إذ لم يثبت بعنوان الضرر، بل بعنوان
مستلزم للضرر. فتدبر.
التنبيه الرابع: في كون المراد بالضرر هل الضرر الشخصي أو النوعي؟.
والمراد بالضرر النوعي إما ما يترتب بالنسبة إلى غالب المكلفين، أو ما
يترتب على غالب أفراد الفعل. فتارة يراد به نوع المكلف. وأخرى يراد به نوع
الفعل. وعلى كل فالمراد به ما يقابل الضرر الفعلي الوارد على كل شخص.
454

ولا يخفى عليك ان المتعين الالتزام بان المراد به هو الضرر الشخصي،
لان الضرر كسائر الألفاظ موضوع للمفاهيم الواقعية، وهو ظاهر في الفعلية
دون الاقتضائية أو النوعية. فحين يتكفل الحديث نفي الضرر عن المكلف،
فظاهره نفي الضرر الفعلي الوارد عليه. ولا وجه لحمل الكلام على خلاف
ظاهره. وهذا المطلب واضح جدا لا يحتاج إلى مزيد بحث.
وأما استدلال المحقق النائيني (رحمه الله) على كون المراد هو الضرر
الشخصي بورود الحديث مورد الامتنان، وبكونه حاكما على أدلة الأحكام الأولية
(1). فلم أعرف وجهه، إذ من الممكن أن يقال: إن الحديث وإن كان واردا
مورد الامتنان، لكن الملحوظ هو الامتنان بحسب النوع. كما أنه حاكم على أدلة
الاحكام إذا ترتب عليها الضرر نوعا.
وبالجملة: الالتزام بإرادة بإرادة الضرر النوعي لا ينافي الالتزام بالحكومة
والامتنان، فتدبر جيدا.
التنبيه الخامس: في تعارض الضررين وما يتناسب معه من فروع.
ذكر المحقق النائيني (قدس سره) في التنبيه السادس: ان مقتضى ورود
الحديث في مقام المنة عدم وجوب تحمل الانسان الضرر المتوجه إلى الغير لدفعه
عنه، ولا وجوب تدارك الضرر الوارد عليه، بمعنى انه لا يجب رفعه عن الغير كما
لا يجب دفعه. وهكذا لا يجوز توجيه الضرر الوارد إليه إلى الغير، فلو توجه سيل
إلى داره، فان له دفعه ولا يجوز توجيهه إلى دار غيره، لتعارض الضررين وعدم
المرجح لأحدهما على الاخر.
ومقتضى ذلك أنه لو دار الامر بين حكمين ضرريين بحيث يلزم من رفع
أحدهما الحكم بثبوت الاخر، هو اختيار أقلهما ضررا، ولا يختلف الحال بالنسبة

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر / 222 - المطبوعة ضمن غنية الطالب.
455

إلى شخص واحد أو شخصين، فان المفروض ان نفي الضرر من باب المنة على
العباد ولا ميزة لاحد على أحد في هذه الجهة، فان الكل عبيد الله سبحانه.
فكما يختار الشخص الواحد أخف الضررين لو تعارض بالنسبة إليه،
كذلك الامر إذا تعارض الضرران في حق شخصين، فإنه مع عدم المرجح يحكم
بالتخيير، إذ المورد من موارد تزاحم الحقين لا من موارد التعارض، كي يحكم
بالتساقط والرجوع إلى سائر القواعد.
إلا أن يدعى الفرق بين توجه الضررين إلى شخص واحد، وبين
توجههما إلى شخصين، بأنه..
إذا توجها إلى شخص واحد يختار أخفهما لو كان وإلا فالتخيير.
وأما إذا توجها إلى شخصين، كالتولي من قبل الجائز الذي يكون تركه
ضررا على المتولي، والاقدام عليه ضررا على الغير، فلا وجه للترجيح أو التخيير،
إذ هو من موارد تحمل الضرر المتوجه إلى الغير، وقد عرفت عدم وجوبه إذ
الضرر متوجه أولا وبالذات إلى الغير فلا يجب على المكره دفعه عنه وتحمله.
نعم، لو أكرهه الجائر على دفع مقدار من المال لم يجز له ان ينهب من
أموال الناس ويدفع الضرر عن نفسه بذلك، فإنه من موارد توجيه الضرر الوارد
عليه إلى الغير، وقد عرفت عدم جوازه. ومسألة الولاية من قبل الجائر من قبيل
الأول.
وعلى هذا، فما أفاده الشيخ (رحمه الله) في المكاسب في مسألة التولي من
قبل الجائر من الفرق بين الفرضين هو الصواب (1). لا ما ذكره في رسالته المعمولة
لهذه المسألة من لزوم ملاحظة أخف الضررين بالنسبة إلى الشخصين،
كالضررين المتوجهين إلى شخص واحد (2).

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. المكاسب / 58 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. رسالة في قاعدة لا ضرر / 374 - المطبوعة ضمن المكاسب.
456

نعم، لو أريد من عبارة الرسالة ورود ضرر من السماء يدور أمره
بين شخصين، كما إذا أدخلت الدابة رأسها في القدر من دون تفريط أحد
المالكين، ودار الامر بين كسر القدر أو قتل الدابة كان حسنا. إذ يمكن الالتزام
ههنا باختيار أقل الضررين.
هذا ما أفاده (قدس سره) في هذا التنبيه مع بعض تلخيص (1).
وكلامه (قدس سره) يبدو مجملا ولا يخلو من ارتباك. ويتضح ذلك
بالتعرض لكل فرض من الفروض المزبورة والتكلم فيه على حدة.
الفرض الأول: تحمل الضرر المتوجه إلى الغير لدفعه عنه.
ولا يخفى أنه لا مجال لتحكيم قاعدة: " لا ضرر " في هذا الفرض، لاثبات
وجوب تحمل الضرر، لا من جهة ما أفاده (قدس سره) من ورود الحديث مورد
المنة فلا يجري في مورد يستلزم منه الضرر، بل من جهة عدم الموضوع لجريانها،
وذلك لان القاعدة ناظرة - كما عرفت - إلى الاحكام الضررية فتتكفل رفعها.
ومن الواضح انه ليس لدينا في هذا الفرض ومع قطع النظر عن قاعدة:
" لا ضرر " حكم ضرري كي يقال ان رفعه خلاف المنة، إذ الثابت ههنا انه لا
يجب على الانسان دفع الضرر عن الغير أو رفعه ولو لم ينشأ منه ضرر عليه، فلو
رأى ضررا متوجها إلى غيره كسيل متوجه إلى داره يستلزم خرابها، فلا يجب عليه
أن يدفع السيل حتى لو لم يستلزم ضررا عليه.
وبعبارة أخرى: ان الثابت فيما نحن فيه ليس إلا عدم لزوم دفع الضرر،
وهو أمر عدمي، وقد عرفت أن الحديث لا نظر له إلى الأمور العدمية الشرعية.
إذن فلا مورد للقاعدة ههنا أصلا.
وبالجملة: لم نعرف وجها لاثبات وجوب تحمل الضرر عن الغير بقاعدة:

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر / 222 - المطبوعة ضمن غنية الطالب.
457

" لا ضرر " كي يتأتى فيها الكلام الذي ذكره المحقق النائيني، فالتفت ولا تغفل.
الفرض الثاني: توجيه الضرر الوارد عليه إلى الغير، كما لو كان السيل
بطبعه متوجها إلى داره، فيجعل له سدا يدفعه به إلى دار الغير، أو يدفعه بيده أو
بآلة عن داره إلى دار الغير.
وقد عرفت أن المحقق النائيني (قدس سره) ذهب إلى عدم جوازه
لتعارض الضررين.
والذي نراه: ان المورد ليس من موارد التعارض، فان مورد التعارض هو
ما إذا كان لدينا حكمان متنافيان يترتب على كل منهما الضرر، بحيث لا يمكن
تطبيق القاعدة بالنسبة إليهما، كمورد ادخال الدابة رأسها في القدر الذي يأتي
الكلام فيه أن شاء الله تعالى عن قريب.
ولا يخفى أنه ليس لدينا فيما نحن فيه حكمان كذلك، بل ليس هنا إلا
حكم واحد وهو حرمة توجيه السيل إلى دار الغير من جهة انه اتلاف لماله
واضرار به.
والذي نلتزم به في هذا المورد بمقتضى الصناعة هو جواز توجيه السيل
إلى دار الغير مع ثبوت الضمان عليه. بيان ذلك: ان حرمة الاتلاف أو اضرار
الغير ضررية على الشخص، فترتفع بالقاعدة، فيثبت ههنا جواز توجيه السيل.
نعم (1) قد يقال: ان حرمة الاتلاف وان كانت ضررية، إلا أن رفع الحرمة يستلزم
الضرر على الغير باتلاف ماله.
ومن المعلوم ان حديث: " لا ضرر " لا يتكفل نفي الحكم في مورد يستلزم
النفي الضرر على الغير، إما لاجل الامتنان أو لغير ذلك مما هو ملاك نفي

(1) هذا ما أفاده الأستاذ (دام ظله) في مجلس الدرس، لكنه عدل عنه إلى ما ذكرناه أخيرا في قولنا: (لكن
نقول).
458

الضرر.
وبعبارة أخرى: انه من الواضح ان نفي الضرر انما هو بملاك واقعي في
اعدام الضرر وعدم تحققه، فلا يشمل موردا يستلزم من شموله ترتب الضرر.
نعم مع كون الضرر الواقع على الشخص أكثر من ضرر الغير لم يمنع ضرر
الغير من تطبيق القاعدة بلحاظ ضرر الشخص، فيثبت الجواز في خصوص هذه
الصورة.
ولكن نقول: إن المفروض أن ضرر الغير المترتب على رفع الحرمة متدارك
بالضمان، والتدارك يرفع صدق الضرر - كما تقدم -، ولو لم يرفع صدقه، فمثل هذا
الضرر المتدارك لا يمنع من شمول الحديث مع استلزامه له، إذ لا ينافي ملاك رفع
الضرر من امتنان أو غيره.
ثم لا يخفى عليك انه لا مجال لرفع الضمان الثابت بالاتلاف بحديث: " لا
ضرر " لما أشرنا إليه غير مرة من أن الحديث لا يشمل الحكم الوارد في مورد
الضرر كالضمان. إذن فالضمان ثابت على كل حال.
وقد يقال: إن الحكم بالضمان وان ورد مورد الضرر، لكن يمكن تحكيم
القاعدة فيه، لا بلحاظ ضرر نفس الضمان، بل بلحاظ ضرر آخر غير مترتب
عليه دائما.
توضيح ذلك: ان الملحوظ - نوعا - في تشريع الحكم بالضمان وجعله هو
ردع المكلفين عن اتلاف مال الغير، إذ بعد التفات العاقل إلى ورود الخسارة عليه
عند اتلاف مال غيره لا يقدم على اتلافه، ونظير هذا الحكم تشريع الحدود
والقصاص، فان الداعي فيه نوعا منع المكلفين من ايجاد موضوعاتها.
ومثل هذا أثر من آثار الحكم، نظير الارتداع المترتب على المنع التكليفي،
فلو ترتب على الارتداع ضرر، صح اسناد ذلك الضرر إلى الحكم لأنه من آثاره
بلحاظ كون الارتداع من آثار مثل هذا التشريع.
459

وعليه، فنقول: ان الحكم بالضمان ضرري ههنا، بلحاظ انه يترتب عليه
الارتداع عن اتلاف مال الغير، ويترتب على الارتداع حصول الضرر للشخص
من السيل المتوجه إليه. فيمكن تحكيم القاعدة في الضمان بلحاظ هذا الضرر،
وبالنتيجة يرتفع الضمان لو أقدم على اتلاف مال الغير.
ولكن يمنع هذا القول: بان رفع الضمان ههنا يستلزم ورود الضرر على
الغير، وهو النقص في ماله. وقد عرفت أن حديث نفي الضرر لا يشمل موردا
إذا كان يستلزم من شموله ورود الضرر، لأنه خلاف ملاك نفي الضرر.
وعليه، فلا يكون الضمان موردا للقاعدة. فيبقى ثابتا بمقتضى دليله.
فانتبه.
الفرض الثالث: التولي من قبل الجائر.
وهو ذو صورتين:
الأولى: أن يكون المكره عليه هو الاضرار بالغير، بحيث يكون الضرر
أولا وبالذات متوجها من قبل المكره على الغير، كما لو أمره الوالي بضرب
شخص أو هدم داره وتوعده على تركه باضراره.
الثانية: أن يكون المكره عليه أمرا ضرريا بالنسبة إلى المكره، لكن كان
يتمكن من دفع الضرر عن نفسه باضرار الغير.
كما لو أمره بدفع عشرة دنانير وتوعده على ترك العطاء بالضرب، وكان
يتمكن من دفع الضرر عن نفسه بأخذ عشرة دنانير من الغير ودفعها إليه.
أما الصورة الأولى: فهي على نحوين:
فتارة: ينحصر ظلم الغير بالمكره بحيث لو تركه لا يقوم به أحد غيره.
وأخرى: لا ينحصر به، بل يتحقق على يده غيره.
أما الأول، فلا اشكال في ارتفاع الحكم التكليفي فيه، وهو حرمة اتلاف
مال الغير أو التصرف فيه بدون رضاه وغير ذلك بحسب اختلاف الموارد، لعموم
460

أدلة رفع الاكراه ودليل نفي الضرر. وأما الحكم الوضعي، وهو ضمان التالف
الثابت بمقتضى دليل: " من أتلف مال غيره فهو له ضامن ".
فقد يقال: بارتفاعه عن المكره، لان تشريع مثل هذا الحكم يستلزم
ارتداع المكلف عن الاتلاف، والارتداع ههنا ضرري، لأنه مخالفة للجائر المتوعد
- وقد تقدم توضيح ارتفاع الضمان بلحاظ مثل هذا الضرر في الفرض الثاني -.
ولكن يدفعه: ان رفع الضمان أيضا يستلزم الضرر على الغير، وهو من أتلفت داره،
وفي مثله لا تجري قاعدة نفي الضرر كما أشرنا إليه في الفرض المتقدم. إذن
فيتعين الالتزام بالضمان ههنا أخذا بعموم دليله.
وأما الثاني، فلا اشكال أيضا في ارتفاع الحكم التكليفي فيه لدليل نفي
الاكراه على نحو ما تقدم، وأما الضمان فهو مرتفع، لان جعله ضرري على المكره
لترتب الارتداع عليه المستلزم لاضرار الجائر به، ولا يعارضه الضرر الواقع على
الغير، إذ هو واقع على كل حال منه أو من غيره ممن لا يكون بصدد التعويض
كنفس الوالي، فلا يكون تركه مستلزما لدفع الضرر عن الغير كما هو الحال في
النحو الأول، لعدم انحصار الامر به، فقد يقوم بالهدم من لا دين له ولا يهتم
بدليل الضمان، وفي مثله لا يكون جعل الضمان مستلزما لعدم الضرر، ومثل هذا
الضرر لا يعارض الضرر المتوجه إلى المكره لو ترك العمل المكره عليه. فالتفت.
وأما الصورة الثانية: فلا وجه للالتزام بجواز نهب مال الغير لدفع الضرر
عن نفسه، لان دفع الضرر عن نفسه معارض باضرار الغير. وهو واضح.
الفرض الرابع: ما إذا أدخلت الدابة رأسها في القدر بحيث دار الامر
بين كسر القدر وتخليص الدابة، أو قتل الدابة وتخليص القدر.
وههنا صور ثلاث: الأولى: أن لا يكون ذلك عن فعل شخص، بل
يتحقق بدون اختيار. الثانية: أن يكون بفعل أجنبي، الثالثة: أن يكون بفعل
أحد المالكين.
461

أما الصورة الأولى: فتارة: يكون القدر والثور متساويين في الثمن،
ولنفرض ان قيمة كل منهما عشرة دنانير، وأخرى: يكونان مختلفين فيه، كما لو
كان ثمن القدر عشرة وثمن الثور مائة.
أما إذا كانا متساويين، فنقول: ان لدينا حكمين أحدهما حرمة اتلاف
صاحب القدر ثور الغير لتخليص قدره. والاخر حرمة اتلاف صاحب الثور قدر
الغير لتخليص ثوره.
وبما أن كلا من الحكمين ضرري بالنسبة إلى المكلف، فهو مرتفعان،
وترتب الضرر على الغير بواسطة رفع كل منهما، يندفع بثبوت الضمان على المتلف
المخلص لماله، فلا يعارض الضرر الناشئ عن تحريم التصرف، فيرتفع بلا ضرر،
ولا تعارض بين اجراء: " لا ضرر " في أحدهما واجرائه في الاخر، كما أن الضمان
لا يمكن الالتزام برفعه بالبيان المتقدم في الفرض الثاني، لان في رفعه اضرارا
بصاحب المال التالف. إذن فلكل منهما التصرف في مال الغير لاجل تخليص ماله
مع ضمان مال الغير.
هذا، ولكن لا يخفى أنه مع الحكم بالضمان لا يقدم أحدهما على تخليص
ماله - بحسب الموازين العقلائية -، لأنه يفكر أنه سيخسر ما يساوي قيمة ماله
الذي يريد تخليصه، فأي داع عقلائي يدفعه إلى تخليص ماله؟ فيبقى كل منهما
مكتوف اليد.
وفي مثل ذلك يقطع بان الشارع جعل طريقة لتخليص أحد المالين. وعدم
بقائهما محجوزين عن الانتفاع. ولا طريقة إلا بأن يلتزم بتوزع الضرر عليهما
بالسوية لقاعدة العدل والانصاف المستفادة والمتصيدة من بعض النصوص، فإذا
خلص أحدهما ماله يدفع إلى الاخر نصف قيمة ماله وهو خمسة دنانير في
الفرض، وأما من يقوم بذلك، فذلك قد يرجع في تعيينه إلى القرعة أو الحاكم
الشرعي وقد يتولى الحاكم ذلك بنفسه حسبة.
462

وأما إذا كانا مختلفين في الثمن، فلا معنى لان يحمل صاحب القدر نصف
قيمة الثور لو فرض قتله، إذ نصف قيمته يزيد على قيمة قدره باضعاف. بل
يقال: إن الضرر الوارد على كل حال وعلى التقديرين بمجرد وضع الثور رأسه
في القدر هو ما يكون قيمة القدر وهو عشرة، وأزيد منه لم يرد فعلا، فيوزع ذلك
بينهما بالسوية.
وطبيعة هذا الامر تقتضي إتلاف القدر وتخليص الثور، ودفع خمسة دنانير
لصاحب القدر، إذ في إتلاف الثور اضرار بصاحبه بلا تعويض، فلا وجه له.
وأما الصورة الثانية: فالأجنبي لا بد ان يخسر قيمة إحدى العينين وهو
عشرة - مع التساوي - وليس الوجه فيه: أنه أضر بكل منهما، إذ لم يتحقق بعمله
إتلاف مال كل منهما، كما أنه لم يتحقق منه اتلاف الواحد المردد بينهما، إذ لا مالية
للمردد.
وإنما الوجه فيه: انه بملاحظة مقتضى قاعدة العدل والانصاف من توزيع
الخسارة الواردة على كلا الشخصين بحيث يلزم ان يخسر كل منهما نصف قيمة
ماله إذا خلص ماله وأتلف مال الغير، تهبط قيمة كل منهما قبل الاتلاف إلى
النصف، بمعنى أن كلا من العينين لا يبذل بإزائه سوى خمسة بملاحظة تعيبه
بعمل الأجنبي، فوجه خسارة الأجنبي هو انه أورد في كل من العينين عيبا أوجب
نقص قيمته، فيؤخذ منه مقدار التفاوت. وعليه فتوزع العشرة المأخوذة من
الأجنبي على كلا المالكين فيأخذ كل منهما خمسة.
ثم إنه بعد اتلاف أحدهما وتخليص الاخر يدفع من خلص ماله نصف
قيمة ماله إلى من أتلف ماله كما تقدم في الصورة الأولى، فيحصل أحدهما على
ماله ويحصل الاخر علي قيمة ماله وهي عشرة.
وأما الصورة الثالثة: فقد يقال: إن أحد المالكين وهو المسبب قد أورد على
صاحبه عيبا في عينه بحيث استلزم نقص قيمتها إلى النصف، فيلزمه أن يخسر
463

قيمة هذا الوصف وهو خمسة. ثم بعد تخليص عينه مثلا واتلاف مال غيره يلزمه
ان يدفع خمسة أخرى بمقتضى ما تقدم من توزيع الخسارة الواردة من التلف
على كليهما بالسوية. ونتيجة ذلك: ان الخسارة كلها تصير عليه.
ومن هنا قد يشكل: ان المالك المسبب إنما دفع الخمسة أولا بملاحظة
النقص الوارد على مال الاخر من جهة توزع الخسارة بمقتضى قاعدة العدل
والانصاف، فدفع خمسة أخرى بعد الاتلاف يتنافى مع العدل والانصاف، إذ
مقتضاه ثبوت الخسارة كلها على المالك المسبب لا التوزيع.
وبعبارة أخرى: ان المالك المسبب قد عوض عن الخسارة التي يستحق
صاحبه التعويض عنها وهي النصف، فأي وجه لاخذ خمسة أخرى منه؟.
وهذا الحكم - أعني تضمين المالك المسبب جميع الخسارة - وإن كان موافقا
للذوق والسليقة الفقهية، لكن تخريجه على القواعد الصناعية مشكل.
ومن هنا ينقدح الاشكال في الصورة الثانية، فان الأجنبي بعدما دفع
الخسارة الواردة على كل من المالكين بملاحظة قاعدة العدل والانصاف، يكون
أخذ نصف القيمة الاخر من أحد المالكين ودفعه إلى صاحبه بلا وجه، إذ الخسارة
التي يستحق عوضها هي النصف وقد حصل عوضه، وأما النصف الاخر فهو مما
لا يعوض بمقتضى توزيع الخسارة على المالكين بمقتضى قاعدة العدل
والانصاف.
نعم، الحكم الذي تقدم قريب بحسب الذوق الفقهي وإن كان اثباته
بحسب القواعد مشكلا.
نعم، قد يقال: ان الأجنبي لما أورد الضرر بمقدار عشرة دنانير، فيأخذ
الحاكم الشرعي منه المال، ثم هو يختار في اتلاف احدى العينين وتخليص الأخرى
ثم يدفع العشرة إلى صاحب العين التالفة.
وهذا القول فقهيا وجيه، لكن لا يمكن تحقيقه على طبق القواعد في باب
464

الاتلاف والضمان. فتدبر.
وبالجملة: ان الحكم باستحقاق من أتلفت عينه تمام العشرة مسلم لكن
الاشكال في وجهه.
هذا تحقيق الكلام في هذه الفروض.
وقد أفاد السيد الخوئي في الصورة الثالثة من الفرض الرابع: ان اللازم
اتلاف مال المسبب، معللا ذلك بلزوم رد المال إلى صاحبه (1).
وفيه: ان مفروض الكلام هو مورد لا يكون مال الغير تحت اليد بحيث
يكون مضمونا على ذي اليد، إذ الكلام في ما يترتب على فعله من هذه الجهة
خاصة دون سائر الجهات، فيفرض الكلام في مورد يكون مسببا في ادخال الثور
رأسه في القدر من دون ان يجعل يده على القدر كي يكون ضامنا.
كما أنه أفاد: ان الضرر المردد الوارد في الفرض الرابع ليس ضررا من
جهة الحكم الشرعي بل هو ثابت مع قطع النظر عن الحكم الشرعي.
وفيه: انك عرفت أن الضرر فيما نحن فيه ينشأ من الحكم الشرعي
بحرمة تصرف كل منهما في مال الاخر واتلافه، فلاحظ تعرف.
هذا تمام الكلام في ما يتعلق بما أشار إليه المحقق النائيني من الفروض في
التنبيه السادس.
وبقيت صورة واحدة من صور تعارض الضررين، عقد لها المحقق
النائيني التنبيه السادس. وهي: صورة تعارض ضرر المالك مع ضرر غيره كجاره،
كما لو كان تصرف المالك في ملكه موجبا لتضرر جاره، وترك تصرفه موجبا
لتضرره نفسه (2).

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 563 - الطبعة الأولى.
(2) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر / 222 - المطبوعة ضمن غنية الطالب.
465

وقد أفاد الشيخ (رحمه الله) في هذا المقام: ان المرجع عموم: " الناس
مسلطون على أموالهم "، ولو عد مطلق حجره عن التصرف في ملكه ضررا
لم يعتبر في ترجيح المالك ضرر زائد على ترك التصرف فيه، فيرجع إلى عموم
التسلط. ويمكن الرجوع إلى قاعدة نفي الحرج، لان منع المالك لدفع ضرر
الغير حرج وضيق عليه، إما لحكومته ابتداء على نفي الضرر وإما لتعارضهما،
والرجوع إلى الأصول. هذا ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في المقام (1).
وقد ناقشه المحقق النائيني (رحمه الله) في بعض نقاطه.
وقبل التعرض لذلك ذكر صور تصرف المالك في ملكه المستلزم للضرر
على جاره وهي أربعة:
الأولى: ن يكون التصرف في ملكه لدفع ضرر يتوجه عليه بترك
التصرف.
الثانية: أن يكون التصرف في ملكه لجلب نفع من دون أن يكون هناك
ضرر بتركه.
الثالثة: أن يكون التصرف في ملكه عبثا ولغوا لا لدفع ضرر ولا لجلب
نفع مع قصد الاضرار بالجار.
الرابعة: أن يكون التصرف عبثا من دون قصد الاضرار.
ونوقع الكلام في كل صورة على حدة:
أما لصورة الأولى: فقد ذكر المحقق النائيني: ان ظاهر كلمات الأصحاب
رعاية ضرر المالك، فيجوز تصرفه ولو كان ضرر الجار أعظم بل يجعلونه من
مصاديق عدم وجوب تحمل الضرر لدفعه عن الغير.
وقد عرفت كلام الشيخ (رحمه الله) فيها.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 317 - الطبعة الأولى.
466

والذي ذهب إليه المحقق النائيني ههنا هو: انه لا معنى لتعارض ضرر
المالك وضرر الجار، لأنه لا يمكن ان يصدر حكمان متضادان من الشرع. فالحكم
المجعول منه إما جواز تصرف المالك في ملكه، وإما عدم جوازه.
فإذا كان الحكم هو جواز التصرف، كما هو مفاد عموم: " الناس مسلطون
على أموالهم "، فلو كان ضرريا على الغير، كان مرفوعا بقاعدة: " لا ضرر "، ولو
كان ذلك مستلزما لورود الضرر على المالك، إذ الضرر الناشئ من قبل حكومة:
" لا ضرر " على قاعدة السلطنة لا يمكن أن يكون مشمولا لقاعدة: " لا ضرر ".
وإن كان الحكم هو حرمة تصرف المالك، فهو بما أنه ضرري على المالك
مرتفع عنه بقاعدة: " لا ضرر " ولو استلزم رفعه الضرر على الجار، لعدم شمول
عموم: " لا ضرر " للضرر الناشئ من قبل تحكيمها.
والسر في ذلك: ان قاعدة: " لا ضرر " حاكمة على الأحكام الثابتة في
الشريعة، فهي ناظرة إلى أدلتها وموجبة لقصرها على غير موارد الضرر. ومن
الواضح انه يقتضي فرض الحكم في مرحلة سابقة على القاعدة لتقدم المحكوم
رتبة على الحاكم. وعليه فلا يمكن أن يكون دليل: " لا ضرر " شاملا للضرر
الناشئ من قبل تحكيمه، لأنه يقتضي أن يكون ناظرا إليه ومتأخرا عنه،
والمفروض ان هذا لضرر متأخر عن دليل لا ضرر، فكيف يكون محكوما لدليل:
" لا ضرر "، فإنه يلزم منه الخلف.
وهذا الاشكال ثابت، ولو قيل بشمول مثل قوله: " كل خبري صادق "
أو: " كل خبري كاذب " لنفس هذه القضية بتنقيح المناط أو بوجه آخر، كما في
شمول مثل: " صدق العادل " للخبر المتولد من تحكيمه على ما مر في مبحث خبر
الواحد.
هذا ما أفاده المحقق النائيني (رحمه الله) والذي قربه بحسب الصناعة
حكومة: " لا ضرر " على قاعدة السلطنة، ومقتضاها عدم جواز تصرف المالك،
467

لكن في آخر كلامه ذكر وجها لتقديم قاعدة السلطنة، وهو ان ورود القاعدة مورد
الامتنان يقتضي أن لا يكون رفع الضرر موجبا للوضع، فسلطنة المالك لا ترتفع
بضرر الجار إذا كان ترك التصرف موجبا لوقوعه في الضرر.
وعليه، فالمورد لا يدخل في عموم القاعدة، فتبقى قاعدة السلطنة بلا
مخصص.
وقد ناقش الشيخ (رحمه الله) في بعض نقاط كلامه المتقدم:
منها: ما ذكره (قدس سره) من شمول دليل نفي الحرج لعدم السلطنة،
باعتبار ان منع المالك عن التصرف في ملكه حرج وضيق عليه.
فقد ناقشه: بان الحرج المنفي في دليل نفي الحرج هو الحرج الطارئ على
الجوارح لا على الجوانح، فالمرفوع ليس هو الحرج النفسي والمشقة الروحية،
بل الحرج الخارجي البدني.
ومنها: ما ذكره من احتمال حكومة دليل نفي الحرج على قاعدة نفي
الضرر.
فقد ناقشه بوجهين:
أحدهما: ان دليل نفي الحرج كدليل نفي الضرر لا نظر له إلا إلى
الاحكام الوجودية دون الاحكام العدمية، فهو لا يتكفل سوى الرفع دون
الوضع. وعليه فإذا تكفل دليل نفي الضرر رفع السلطنة، فدليل نفي الحرج لا
يعارضه، لأنه لا نظر له إلى عدم السلطنة لأنها حكم عدمي.
والاخر: ان الحكومة تتقوم بنظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم،
وليس الامر كذلك بالنسبة إلى دليل نفي الحرج، فإنه في عرض دليل نفي
الضرر، فلا معنى لفرض نظر دليل نفي الحرج إلى دليل نفي الضرر، بحيث
يؤخذ دليل نفي الضرر متقدما على دليل نفي الحرج، بل هما دليلان في عرض
واحد ناظران إلى الأحكام الثابتة في الشريعة، فكل منهما يعارض الاخر، وليس
468

هنا حاكم ومحكوم. أو فقل: إن كلا منهما في نفسه ناظر إلى الدليل الاخر، فيتحقق
التحاكم المستلزم للتعارض.
هذا ملخص ما أفاده (قدس سره) في هذا المقام. وهو بجميع جهاته قابل
للمنع.
ولنبدأ بمناقشته للشيخ (رحمه الله)، فنقول:
أما ما ذكره من أن الحرج المنفي في دليله لا يشمل الحرج الطارئ على
الجوانح، فهو دعوى لا نعرف لها دليلا واضحا، ومقتضى اطلاق لفظ الحرج في
دليل نفيه إرادة الأعم من الحرج الطارئ على الجوارح والحرج الطارئ على
الجوانح، فكل ما يطلق عليه لفظ الحرج كان منفيا. ولا وجه لدعوى عدم صدق
مفهوم الحرج على الحرج الجوانحي. فلاحظ.
وأما ما ذكره في مناقشة دعوى الحكومة من الوجهين:
فالوجه الأول، يندفع: بان مفروض كلام الشيخ (رحمه الله) كون المورد
من موارد تعارض الضررين، بحيث فرض المورد من موارد جريان: " لا ضرر "
في حكمين فيتحقق التعارض، وجعل: " لا حرج " جارية بمكان: " لا ضرر ". وهذا
يعني فرض كلا الحكمين وجوديين.
وحل المشكلة، ان مجرى لا حرج ليس هو عدم السلطنة، بل منع المالك
من التصرف في ملكه. وبعبارة أخرى: حرمة التصرف المؤدى إلى ضرر الجار، وهو
حكم وجودي لا عدمي.
وأما الوجه الثاني: فلان كلا من دليل نفي الضرر ودليل نفي الحرج وان
كان دليلا موضوعه العنوان الثانوي ومقتضى ذلك كونهما في عرض واحد، لكن
نقول: إن دلالة أحدهما على عموم موضوعه لمورد الاخر إذا كانت أقوى من
دلالة الاخر على العموم كان عموم الأقوى هو المقدم. ويلتزم بعدم عموم الاخر،
وتكون النتيجة هي حكومة القوي دلالة.
469

وذلك نظير ما إذا كان الدليل المحكوم في بعض الافراد نصا في دلالته،
فإنه يقدم على الدليل الحاكم وان كان ناظرا إلى الدليل المحكوم. فان النصوصية
بنظر العرف تقدم على جهة النظر، فمثلا لو كان: " أكرم كل عالم " نصا في زيد
الفاسق العالم لأنه مورده - مثلا - ثم ورد ان العالم الفاسق ليس بعالم، فإنه لا
يشمل زيدا، وإن كان ناظرا إلى دليل: " أكرم كل عالم "، والنظر إليه يوجب
تقديمه عليه بحسب العرف، لكن لكونه نصا في ذلك الفرد، فالنصوصية تكون
مقدمة على كون الحاكم ناظرا.
ونظير ذلك - وليس منه - ما نحن فيه، فان عموم دليل نفي الضرر لجميع
الاحكام ليس بالتصريح، وانما هو من باب ان حذف المتعلق يفيد العموم، أو
من باب عدم البيان في مورد البيان.
وأما عموم دليل نفي الحرج لجميع الاحكام فهو بالنص والتصريح.
لقوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج)، والدين اسم لمجموع
الاحكام والقواعد المجعولة. فيكون نظره إلى موارد الضرر بالنصوصية.
وأما نظر دليل نفي الضر إلى موارد الحرج فهو بالاطلاق ونحوه. ولا
يخفى ان عموم دليل الحرج أقوى فيكون مقدما، ويلتزم بعدم شمول دليل
الضرر لموارد الحرجي، ونتيجة ذلك حكومة قاعدة: " لا حرج " على قاعدة: " لا
ضرر ".
فما أفاده الشيخ (رحمه الله) من احتمال الحكومة ليس بعيدا عن الصواب.
وأما ما ذكره النائيني (قدس سره): من أن مورد تعارض ضرر المالك مع
ضرر الجار ليس من موارد تعارض الحكمين الضرريين، بل ليس هنا إلا حكم
واحد ضرري ورفعه وان استلزم الضرر لكن الضرر الناشئ من قبل تطبيق
قاعدة نفي الضرر لا يمكن أن يكون مشمولا لدليل نفي الضرر للزوم الخلف.
فهو بظاهره وإن كان محل منع واضح، إذ يمكن حل الاشكال المزبور
470

بالالتزام بانحلال نفي الضرر إلى افراد متعددة بعدد افراد الاحكام الضررية،
فيكون النفي المتعلق بالحكم الناشئ من قاعدة: " لا ضرر " غير النفي الذي
نشأ منه الحكم الضرري فلا خلف. نظير حل الاشكال في شمول دليل حجية
الخبر لخبر الواسطة.
ولكن يمكن أن يكون مراده وجها آخر غير ما هو ظاهر العبارة، وهو:
ان دليل نفي الضرر إذا تكفل نفي السلطنة وجواز تصرف المالك لكونه ضرريا
على الجار، ثبت بذلك حرمة التصرف في الملك. فإذا أريد تطبيق: " لا ضرر "
بالنسبة إلى هذه الحرمة باعتبار انها ضررية على المالك، كان معنى ذلك نفي: " لا
ضرر "، لان الحرمة ثابتة بالقاعدة، فإذا فرض نفيها كان معناه عدم جريان
القاعدة وعدم تماميتها، وهو معنى نفي قاعدة: " لا ضرر ". وهذا يقتضي ان يلزم
من وجود القاعدة عدمها.
وبما أن منشأ ذلك هو اطلاق: " لا ضرر " بحيث يشمل الضرر الناشئ
من تطبيقها، كشف ترتب هذا المحذور عن عدم وجود الاطلاق، بحيث يشمل
الضرر الناشئ من قبل نفس القاعدة، ويترتب على ذلك أن الحرمة الناشئة من
قبل تطبيق: " لا ضرر " في قاعدة السلطنة لا تكون مشمولة للقاعدة وإن كانت
ضررية، إذ الاطلاق يلزم منه أن يكون تطبيق: " لا ضرر " في قاعدة السلطنة -
بما أنه يهيئ موضوعا آخر للقاعدة - مستلزما لعدمه وهو محال، فيرتفع الاطلاق
لأنه منشأ المحذور العقلي.
وهذا المحذور يشابه المحذور من شمول مثل: " كل خبري كاذب "
للقضية نفسها ونحوه مما يتكفل حكما سلبيا. ولا يتأتى مثل هذا في مثل: " كل
خبري صادق " في شموله لنفسه، أو مثل: " صدق العادل " في شموله لخبر
الواسطة، بل المحذور فيه ليس إلا محذور الطولية والتأخر والتقدم الرتبي الذي
يندفع في محله بالالتزام بالانحلال أو بتنقيح المناط ونحو ذلك.
471

ولكن لا يخفى عليك انه يمكن منع ما ذكره بهذا التقريب الذي ذكرناه:
بأنه انما يلزم إذا كان موضوع نفي الضرر هو الحكم الضرري المحقق، نظير
قوله: " كل خبري كاذب " في كون موضعه الخبر المتحقق خارجا.
ولكن الامر ليس كذلك، إذ يمتنع أن يكون المنفي بلا ضرر هو الحكم
الثابت المحقق، إذ نفيه خلف تحققه، لان المراد بنفي الضرر نفي حدوثه لا نفي
بقائه، كي لا يتنافى مع فرض ثبوته.
وانما المنفي بقاعدة: " لا ضرر " هو الحكم الضرري المقدر، بمعنى ان كل
حكم إذا فرض وجوده كان ضرريا، فهو مرتفع وغير ثابت. وإذا كان الحال
كذلك لم يمتنع ان يشمل أحد افراد نفي الضرر حكما ضرريا ناشئا من فرد آخر،
ولا يلزم منه المحذور المتقدم.
وذلك لان شموله لذلك الحكم ليس متفرعا على تحققه كي يكون نفيه
مستلزما لانتفاء نفس ذلك الفرد، فيكون الفرد محققا لموضوع ما ينفيه، بل
يكون شموله متفرعا على فرض وجوده وتقديره، فيقال: الحرمة إذا ثبتت ههنا
تكون ضررية فتنفى ب‍: " لا ضرر ". فنفيه بهذا الفرد يكون منافيا لاثباته بالفرد
الأول فيتحقق التعارض بينهما، فان الفرد الأول لعموم: " لا ضرر " يستلزم ثبوت
هذا الحكم، والفرد الاخر يستلزم نفيه، ولا يكون الفرد الثاني من آثار الفرد
الأول كي يقال ان الفرد الأول يستلزم ما ينفيه فيلزم من وجوده عدمه.
وأما ما ذكره من الوجه الفقهي لعدم شمول قاعدة نفي الضرر لعموم
السلطنة، فسيعلم ما فيه من مطاوي ما نذكره في في تحقيق المختار في المسألة.
وتحقيق الحال في هذا الفرع. هو: ان قاعدة السلطنة وجواز تصرف المالك
في ملكه لا يكون مشمولا لقاعدة نفي الضرر لوجهين:
أحدهما: ان الجواز والإباحة ليس من الاحكام المستتبعة للضرر، فلا يلزم
من جعلها الضرر، كما لا يلزم من رفعها رفع الضرر، فعدم جعل الإباحة لا يعني
472

التحريم، بل يعني ان المولى لا دخل له في الفعل نفيا واثباتا. نعم عدم اللزوم
يمكن ان يقال ان في رفعه رفعا للضرر، لكنه أمر عدمي لا يشمله عموم نفي
الضرر.
الثاني: ان عموم السلطنة لا يشمل مورد ترتب الاضرار على الغير من
التسلط. فهل يدعى أحد أن عموم السلطنة يقتضي جواز تصرف المالك في
سكينه ذبح شاة الغير؟ فهو لا يتكفل سوى جعل السلطنة في الجملة. إذن
فدليل السلطنة يقصر عن شمول ما نحن فيه كي يكون مشمولا لنفي الضرر.
وعليه، فالحكم الذي يكون موردا للقاعدة ليس إلا حرمة الاضرار بالغير
أو اتلاف ماله، وبما أن حرمة الاتلاف ضرري على المالك فترتفع ب‍: " لا ضرر "،
فيثبت جواز التصرف له، فليس المورد من موارد تعارض الحكمين الضرريين.
ودعوى: ان رفع الحرمة يستلزم الضرر على الجار فكيف يرفع التحريم
ب‍: " لا ضرر "؟.
تندفع بما أشرنا إليه غير مرة من أن ضرر الغير متدارك بالضمان، فلا
يزاحم ضرر المالك. وكون جعل الضمان ضرريا بلحاظ اثره قد عرفت أنه لا
يصحح جريان: " لا ضرر " فيه، فراجع الفرض الثاني.
وعليه، فالذي نلتزم به: انه يجوز للمالك التصرف في ملكه مع ضمانه التلف
الوارد على مال الغير.
هذا إذا كان الضرر الوارد على الغير مضمونا كالضرر المالي.
أما لو لم يكن مضمونا، كالضرر العرضي أو الأذى النفسي. فنلتزم
بارتفاع حرمة الايذاء لأنها ضررية على المالك.
ودعوى: كون ذلك خلاف ملاك دفع الضرر، لاستلزامه الضرر على
الغير.
تندفع: بأن الشئ الثابت كون الملحوظ في نفي الضرر هو الضرر المالي
473

وما يشابهه، لا مثل الايذاء الروحي. فترتب الأذى النفسي على تحكيم: " لا
ضرر " ليس منافيا لملاك نفي الضرر. نعم (1) إذا ترتب الضرر في العرض أمكن
الالتزام بعدم ارتفاع التحريم.
وأما الصورة الثانية: فالحكم فيها هو الحكم في سابقتها، لو قلنا بان عدم
النفع ضرر مشمول لحديث نفي الضرر. وهو مشكل على اطلاقه وقد تقدم الكلام
فيه في أوائل البحث في بيان معنى الضرر.
وأما الصورة الثالثة: فلا وجه لارتفاع حرمة اتلاف مال الغير أو اضراره
فيها، لعدم كونها ضررية على المالك. ومنه يظهر الحكم في الصورة الرابعة.
فلاحظ وتدبر.
هذا تمام الكلام في حديث نفي الضرر وشؤونه.
ويقع الكلام بمناسبة الضرر في حرمة الاضرار بالنفس. والكلام في
مقامين:
الأول: في ثبوت حرمة الاضرار بالنفس كاضراره ببدنه أو بماله.
الثاني: في نسبة دليل حرمة الاضرار بالنفس - لو تم - مع أدلة الأحكام الثابتة
الشاملة بعمومها مورد الضرر مع التعارض.
أما الكلام في المقام الأول، فقد أهمله السيد الأستاذ (دام ظله)، باعتبار ان
عمدة ما يمكن ان يستدل به على حرمة الاضرار بالنفس هو حديث نفي الضرر،
بناء على استفادة جعل تحريم الضرر منه، فيشمل بعمومه ضرر النفس.
ولكن الظاهر من حديث نفي الضرر إرادة الغير لا النفس، فلا
يكون دليلا على حرمة ضرر النفس.
فلا بد في استفادة حرمة الضرر من مراجعة الأدلة في الأبواب المختلفة،

(1) لعل وجهه أن مورد رواية سمرة الضرر العرضي.
474

فلعله يمكن ان يستنبط منها تحريم إضرار النفس.
وهذا مما لا يسعه المجال فعلا. ومن هنا نقل الكلام رأسا إلى...
المقام الثاني: وتحقيق الحال فيه: ان الكلام تارة في الأحكام الترخيصية.
وأخرى في الأحكام الإلزامية.
أما الحكم الترخيصي، فالاباحة ثبوتا تتصور على انحاء ثلاثة:
الأول: أن يكون ملاك الإباحة هو كون الفعل لا اقتضاء فيه بنفسه
للالزام بأحد طرفيه، بل كان وجوده وعدمه على حد سواء.
الثاني: ان تكون الإباحة لاجل وجود مصلحة اقتضائية في عدم الالزام
بأحد الطرفين وإباحة الفعل له. ولكن كان موضوع ذلك هو الفعل الذي لا
اقتضاء فيه للالزام، بمعنى: ان المصلحة الملزمة في جعل الإباحة انما تكون في
خصوص هذا المورد.
الثالث: ان تكون الإباحة لاجل وجود مصلحة ملزمة في جعلها، بلا ان
يتقيد موضوعها بما لا اقتضاء فيه للالزام، بل كانت مصلحة الملزمة في جعل
الإباحة في مطلق موارد الفعل.
فإن كان دليل الإباحة يدل على الإباحة بالنحو الأول، فلا يعارض دليل
حرمة الاضرار بالنفس، بل دليل الحرمة هو المحكم، إذ ما يدل على عدم اقتضاء
الفعل بنفسه للالزام بأحد طرفيه لا يتنافى مع الدليل الذي يدل على اقتضاء
الترك فيه لاجل الضرر. ولذا قيل إن ما لا اقتضاء فيه لا يتنافى مع ما فيه
الاقتضاء.
وإن كان الدليل يدل على الإباحة بالنحو الثاني، فالامر كذلك، لان
دليل حرمة الاضرار بالنفس يثبت وجود المقتضي للالزام بالترك في مورد الضرر،
فيخرج المورد عن موارد مصلحة جعل الإباحة.
وإن كان الدليل يدل على الإباحة بالنحو الثالث، كان معارضا لدليل
475

حرمة الضرر كما لا يخفى.
هذا بحساب مقام الثبوت.
وأما بحسب مقام الاثبات، فالظاهر عرفا من دليل الإباحة كونه من
النحو الأول، ولذا لا يرى هناك تعارض عرفا بين دليل السلطنة على النفس
أو المال وبين دليل تحريم اضرار الغير أو النفس، بل قد عرفت أن العرف لا يرى
ان دليل السلطنة يشمل موارد الاضرار بالغير. فلاحظ.
ومن هنا يظهر الحكم في تعارض دليل الاستحباب مع دليل حرمة الضرر
بالنفس.
وأما الحكم الالزامي، كالوجوب، فهو على نحوين، لان عموم الدليل
تارة يكون بدليا، ويكون الضرر في أحد افراده، كالصلاة بالكيفية المخصوصة.
وأخرى يكون شموليا أو بدليا، ويكون الضرر في أصل الطبيعة، كالوضوء
الضرري أو الصوم الضرري الواجب كصوم شهر رمضان أو الصوم المنذور.
ففي الأول: لا تعارض بين دليل التحريم الشامل لهذا الفرد وبين دليل
الواجب، لان دليل الوجوب يتعلق بالطبيعة، ويترتب على ذلك الترخيص في
تطبيق الواجب على كل فرد من أفراده، فالتعارض في الحقيقة بين دليل
الترخيص في تطبيق الطبيعة على هذا الفرد الضرري، وبين دليل تحريم الضرر،
وقد عرفت حكم تعارض دليل الترخيص مع دليل حرمة الضرر.
وبعبارة واضحة: ان الترخيص في تطبيق الطبيعة على كل فرد انما هو
بلحاظ تساويها في تحصيل الواجب بلا مانع. ومع وجود ملاك التحريم في أحدهما
- لاجل الضرر - لا يكون دليل الترخيص شاملا له لوجود مفسدة ملزمة في هذا
الفرد، فلا معنى للترخيص عقلا أو شرعا فيه فلاحظ.
وفي الثاني: يتحقق التعارض بين الدليلين، إذ مقتضى اطلاق الوجوب
ثبوت الحكم حتى في مورد الضرر، ولو بلحاظ ذات الواجب. ومقتضى اطلاق
476

الحرمة ثبوت الحرمة في مورد الوجوب، فيتعارضان للتنافي بين الوجوب الثابت
للشئ ولو بلحاظ ذاته وبين الحرمة الثابتة له بلحاظ عنوان ثانوي طارئ.
وليس كذلك الحال في دليل الإباحة لأنه وان شمل باطلاقه مورد الضرر،
الا انه يدل على إباحة الشئ بلحاظ نفسه. ومن الواضح انه لا تنافي بين إباحة
الشئ بعنوانه الأولي وبين حرمته بعنوان ثانوي. فتدبر.
لكن يهون الخطب ان المثال المذكور للمعارضة خارج عن ذلك، لان
وجوب الوضوء يرتفع رأسا بمجرد خوف الضرر لا من جهة عدم التمكن عرفا
من استعمال الماء مع ترتب الضرر عليه، أو فقل: إن دليل تحريم الضرر رافع
لموضوع وجوب الوضوء لاخذ القدرة العرفية فيه والممنوع شرعا كالممتنع عقلا،
فلا تصل النوبة إلى المعارضة، وهكذا الحال في الصوم الواجب الرمضاني أو
النذري إذ أخذ في موضوع وجوب الصوم القدرة، كما انها مأخوذة في موضوع
وجوب الوفاء بالنذر كما حقق في محله. فلاحظ. وتدبر.
والله سبحانه ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل. انتهى مبحث نفي
الضرر - الأربعاء 13 / 2 / 1392 ه‍.
477