الكتاب: المباحث الأصولية
المؤلف: الشيخ محمد إسحاق الفياض
الجزء: ٣
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٣٨٢ ش – ١٤٢٤
المطبعة: شريعت
الناشر: مكتب المؤلف
ردمك:
ملاحظات:

المباحث الأصولية
دراسة موضوعية معمقة تستوعب أحدث
ما وصل اليه الباحث الأصولي من الآراء
والنظريات العامة بأسلوب بالغ درجة
كبيرة من الدقة والعمق والشمول
تأليف:
آية الله العظمى
الشيخ محمد إسحاق الفياض (دام ظله)
الجزء الثالث
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد
وآله الطيبين الطاهرين المعصومين واللعنة الأبدية
على أعدائهم أعداء الدين أجمعين.
3

هوية الكتاب:
اسم الكتاب:... المباحث الأصولية
المؤلف:... آية الله العظمى الشيخ محمد إسحاق الفياض دام ظله
الناشر:... مكتب سماحته
الطبعة:... الأولى
المطبعة:... شريعت
الكمية:... 1000
كافة الحقوق محفوظة للناشر
4

مبحث الأوامر
يقع الكلام هنا في مقامات:
المقام الأول في تعيين مدلول مادة الأمر سعة وضيقا.
المقام الثاني في تعيين مدلول صيغة الأمر كذلك.
المقام الثالث في منشأ دلالة الأمر مادة وهيئة على الوجوب وكيفية تفسير
هذه الدلالة وتحديد منشأها.
المقام الرابع في أن الطلب مغاير للإرادة أو لا؟
أما الكلام في المقام الأول فيقع في عدة جهات:
الجهة الأولى: قد ذكر لمادة الأمر عدة معان، منها الطلب ومنها الفعل ومنها
الشأن ومنها الغرض ومنها الحادثة ومنها الواقعة ومنها الفعل العجيب ومنها
الشئ وهكذا (1).
ولا شك في أن أكثر هذه المعاني ليس معنى الأمر، وإنما يستفاد في موارد
استعماله من دال آخر، كما في قوله تعالى: (ولما جاء أمرنا) (2)، فان الفعل
العجيب إنما هو مستفاد من دال آخر في الآية، لا من كلمة الأمر، وكذا قوله عز
وجل: (أتعجبين من أمر الله) (3)، ومن هذا القبيل استفادة الغرض من كلمة
اللام في قولنا جئتك لأمر كذا، وكذلك الحال بالنسبة إلى الحادثة والواقعة والفعل

(1) أنظر هدايد المسترشدين: 129 (نشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام).
(2) سورة هود (): 94.
(3) سورة هود (): 73.
5

والشأن، فيكون كل ذلك من باب اشتباه المفهوم بالمصداق، لأن احتمال أن لفظ
الأمر موضوع بإزاء مفاهيم هذه الألفاظ بالحمل الأولي غير محتمل، لأمرين:
الأول: عدم تبادر هذه المفاهيم من لفظ الأمر عند اطلاقه.
الثاني: إن لازم ذلك أن يكون لفظ الأمر مرادفا مع ألفاظ هذه المعاني وهو
كما ترى، واحتمال أنه موضوع بإزاء واقع مفاهيمها بالحمل الشايع فأيضا غير
محتمل، لأنه لو كان موضوعا بإزاء واقعها، لزم أن يكون بالوضع العام
والموضوع له الخاص، ونتيجة ذلك اجمال لفظ الأمر وعدم دلالته على شيء من
مصاديق تلك المعاني إلا بقرينة معينة، وهذا خلاف الوجدان، لأن المتبادر منه
عند الاطلاق هو الطلب إذا لم تكن هناك قرينة على الخلاف.
فالنتيجة، أن الأمر لم يوضع بإزاء هذه المعاني لا بالحمل الأولي الذاتي ولا
بالحمل الشائع الصناعي.
والخلاصة، أن من يدعي أن هذه المعاني من معاني الأمر، إن أراد أن الأمر
موضوع بإزائها بالحمل الأولي الذاتي، فيرد عليه ما عرفتم، وإن أراد أنه
موضوع بإزائها بالحمل الشائع، فقد مر أنه باطل.
الجهة الثانية: هل يمكن أن يكون الأمر مشتركا لفظيا بين الطلب والشئ،
فيه قولان:
القول الأول: إنه مشترك لفظي بين المعنيين.
القول الثاني: إنه مشترك معنوي بينهما.
أما القول الأول، فقد اختار جماعة من المحققين منهم المحقق صاحب
6

الكفاية (قدس سره) (1) وقد استدلوا عليه بأمرين:
الأول: اختلاف الأمر بمعنى الطلب عن الأمر بمعنى الشئ في صيغة الجمع.
فإن الأول يجمع على الأوامر والثاني على الأمور.
وهذا شاهد على اختلافهما في المعنى بالحمل الأولي، ضرورة أن المعنى لو كان
واحدا فمن المستبعد جدا اختلافهما في الجمع، إذ لا يحتمل تعدد الجمع بلحاظ
تعدد المصاديق واختلافها فإنه غير معهود في اللغة.
الثاني: أن الأمر بمعنى الطلب من المشتقات وقابل للتصريف والاشتقاق،
والأمر بمعنى الشئ من الجوامد وغير قابل للصرف، ومن الواضح أن اشتراكهما
في معنى واحد غير معقول (2). وغير خفي أن هذين الأمرين وإن كانا يدلان على
اختلافهما في المعنى، إلا أنهما لا يدلان على أن الأمر مرادف للشيء في المعنى
ومساوق له في المفهوم، فلو كان الأمر مشتركا لفظيا بين الطلب والشئ، كان
يساوق مفهوم الشئ بعرضه العريض، مع أن الأمر ليس كذلك، ضرورة أنه
يصح اطلاق الشئ على الأعيان بينما لا يصح اطلاق الأمر عليها، ومن هنا صح
أن يقال زيد شيء ولم يصح أن يقال زيد أمر، وإذا رأى شخص فرسا عجيبا صح
أن يقال رأيت شيئا عجيبا ولم يصح أن يقال رأيت أمرا عجيبا.
فالنتيجة أن الأمر لا يمكن أن يكون مساوقا للشيء بعرضه العريض، ومن
هنا اختلف المحققون في المعنى الآخر للأمر، فذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى أنه
الواقعة والحادثة مطلقا أو الواقعة والحادثة الخطيرة المهمة (3). والمحقق

(1) كفاية الأصول: 62. طبع مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
(2) انظر محاضرات في أصول الفقه 2: 7.
(3) أجود التقريرات 1: 131.
7

الأصبهاني (قدس سره) إلى أنه الفعل والحدث (1) وبعض الأعاظم إلى أنه أعم من الواقعة
والحادثة المهمة والفعل والحدث ومع ذلك لا يكون مساوقا للشيء. وقد استدل
على أنه أعم من الحادثة المهمة بأنه لا تناقض في قولنا كلام فلان أمر غير مهم أو
الواقعة الفلانية أمر غير خطير وهكذا، كما أنه استدل على أنه أعم من الفعل
بقوله اجتماع النقيضين أمر محال أو شريك الباري أمر محال وهكذا، وعدم
اشتراك زيد في المجلس الفلاني أمر عجيب، مع أن المحال ليس واقعة أو فعلا، فلا
يصح أن يقال اجتماع النقيضين فعل مستحيل أو واقعة مستحيلة وكذلك
العدم (2). وغير خفي أن ذلك بالنسبة إلى المحال بالذات وإن كان صحيحا، ولكنه
لا يصح بالنسبة إلى العدم مطلقا لأن العدم الخاص قد يتصف بالحادثة والواقعة
المهمة وغير المهمة، فيصح أن يقال إن عدم حضور الشخص الفلاني مثلا في
الجلسة الكذائية حدث مهم أو واقعة تاريخية وهكذا هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى قد ظهر مما ذكرناه أن الأمر لا يكون مساوقا للحادثة
والواقعة المهمة ولا للحدث والفعل، ومن ناحية ثالثة الظاهر أن النسبة بين الأمر
والشئ عموم من وجه، فإن الشئ يصدق على الأعيان دون الأمر بينما الأمر
يصدق على الفعل التكويني المضاف إلى الفاعل دون الشئ كقوله تعالى:
(أتعجبين من أمر الله) (3) فإنه لا يصح أن يقال أتعجبين من شيء الله، ومثله
قوله تعالى: (قل الروح من أمر ربى) (4) إذ لا يصح أن يقال قل الروح من شيء
ربي، ومن هذا القبيل أيضا قوله تعالى: (له الخلق والأمر) (5)، فإنه لا يصح

(1) نهاية الدراية 1: 250. طبع مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
(2) بحوث في علم الأصول 2: 12.
(3) سورة هود (11): 73.
(4) سورة الأسراء (17): 85.
(5) سورة الأعراف (7): 54.
8

اطلاق الشئ بدل الأمر. ومنه قولنا أمر فلان مستقيم فإنه لا يصح أن يقال شيء
فلان مستقيم.
إلى هنا قد تبين أن الأمر مشترك لفظي بين الأمر بالمعنى الحدثي وهو حصة
خاصة من الطلب والأمر بالمعنى الجامد الجامع بين الحادثة والواقعة الخطيرة
وغيرها والفعل.
الجهة الثالثة: هل يمكن أن يكون الأمر مشتركا معنويا بين الطلب ومعنى
آخر، فيه قولان: فذهب المحقق الأصبهاني والمحقق النائيني (قدس سرهما) إلى القول الأول.
أما المحقق الأصبهاني (قدس سره) فقد حاول إلى توحيد معنى الأمر بالتقريب التالي،
فإنه (قدس سره) بعدما بنى على أن معنى الآخر للأمر هو الفعل، قال أن مرد الأمر بالآخرة
إلى معنى واحد وهو الفعل في مقابل الصفات والأعيان، واطلاق الطلب على
الفعل باعتبار أنه مورد للطلب التشريعي والتكويني، بينما الصفات والأعيان
لا تصلح أن تكون موردا لهما ومعرضا لذلك، فالأمر يطلق بمعناه المصدري المبني
للمفعول على الأفعال كاطلاق المطلب والمطالب على الأفعال الواقعة في معرض
الطلب، كما يقال رأيت اليوم مطلبا عجيبا، يراد منه فعل عجيب، والحاصل أن
نفس موردية الفعل ومعرضيته لتعلق الطلب والإرادة به تصحح اطلاق المطلب
والمقصد والأمر عليه وإن لم يكن هناك قصد ولا طلب متعلق به (1). وملخص ما
أفاده (قدس سره) أن المعنى الآخر للأمر هو الفعل واستعمال الأمر فيه يرجع بالآخرة إلى
استعماله في الطلب بنحو من العناية وهو المطلب والمقصد، فالجامع بين المعنيين
هو المطلب الذي يصدق على الفعل، باعتبار أنه في معرض الطلب والإرادة.
ويرد عليه أولا: مضافا إلى أن هذا التأويل والتصرف بحاجة إلى عناية زائدة

(1) نهاية الدراية 1: 252.
9

إنه بدون مبرر، لأن هذا المعنى المؤل ليس معنى الأمر جزما، ضرورة أن المتبادر
والمنسبق من الأمر عرفا ليس هو المطلب ومعرضية الفعل للطلب والإرادة، فلا
يكون موضوعا بإزائه حتى يكون مشتركا معنويا.
وثانيا: أن الأمر يستعمل فيما لا يمكن أن يتعلق به الطلب والإرادة كما في مثل
قولنا اجتماع النقيضين أمر مستحيل وشريك الباري أمر محال، فإنه لا يعقل
معرضية اجتماع النقيضين وشريك الباري للطلب والإرادة.
والخلاصة، أنه لا شبهة في صحة استعمال الأمر فيما يستحيل أن يكون مطلوبا
ومرادا كالأشياء غير الاختيارية التي لا يمكن أن تكون في معرض الطلب
والإرادة هذا، إضافة إلى أن تعدد الجمع دليل على تعدد المعنى كما مر.
وأما المحقق النائيني (قدس سره) فقد حاول إلى توحيد معنى الأمر بتقريب آخر وهو أن
الطلب ليس معنى الأمر برأسه في قبال معنى الواقعة والحادثة، بل هو مصداق
من مصاديقها، فإذن الأمر موضوع لمعنى واحد كمفهوم الواقعة أو الحادثة وهو
ينطبق على الطلب كما ينطبق على غيره. فاذن لا يكون الطلب من معنى الأمر بل
هو مصداق من مصاديق معناه (1).
ويرد عليه أولا: أن الطلب معناه لغة وعرفا هو السعي والتصدي وراء
المقصود لا الواقعة والحادثة، فان كان ذلك بشكل مباشر كطالب الضالة وطالب
الماء، باعتبار أنه يسعى ويتصدى بنفسه وراء ضالته وبشكل مباشر فهو طلب
تكويني، وإن كان بتحريك غيره فهو طلب تشريعي، فمفهوم الطلب واحد وهو
السعي والتصدي وراء المقصود والمطلوب، وهذا المفهوم الواحد كما ينطبق على
السعي والتصدي التكويني الخارجي، كذلك ينطبق على السعي والتصدي

(1) أجود التقريرات: 131.
10

التشريعي الاعتباري المتمثل في أمر المولى، فالأمر مصداق للطلب، فان الآمر
يسعى ويتصدى لتحريك غيره وراء الشئ المقصود والمطلوب بأمره المتجه إليه.
وثانيا: أن المتبادر من الأمر والمنسبق منه حصة خاصة من الطلب مباشرة لا
الواقعة المهمة، وهذا دليل على أنه معناه الموضوع له لا أنه من مصاديقه.
وثالثا: أن الطلب معنى حدثي قابل للتصريف والاشتقاق، وأما الواقعة فهي
معنى جامد، ومن الواضح أن الجامع الذاتي بين المعنى الحدثي والمعنى الجامد
غير متصور.
ورابعا: أن اختلافهما في الجمع أظهر شاهد على عدم وحدة معنى الأمر، إذ
لو كان المعنى واحدا فلا يمكن أن يكون تعدد الجمع واختلافه بلحاظ اختلاف
مصاديقه، لأن ذلك غير معهود في اللغة.
وخامسا: أن اطلاق الأمر على الطلب لو كان باعتبار أنه مصداق للواقعة، لم
يكن فرق بين الطلب التشريعي والطلب التكويني، فكما أن الأول مصداق
للواقعة فكذلك الثاني، مع أن الأمر لا يصدق على الطلب التكويني، فإذا طلب
شخص مالا من آخر، فلا يقال أنه أمره به.
فالنتيجة، أن ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) من أن معنى الأمر معنى واحد وهو
الواقعة والحادثة والاختلاف إنما هو في مصاديقه، مما لا يمكن المساعدة عليه.
فالصحيح، ما ذكرناه من أن الأمر مشترك لفظي بين المعنى الحدثي وهو حصة
خاصة من الطلب وبين المعنى الجامد الذي ينطبق على الفعل والحادثة والواقعة
والشأن والغرض والمحال والعدم وهكذا، وهو معنى موسع وإن لم يكن مرادفا
للشيء وليس مشتركا معنويا.
11

الجهة الرابعة: لا شبهة في أن المتبادر والمنسبق عرفا من مادة الأمر إذا كانت
صادرة من المولى هو الطلب الحتمي اللزومي، والنكتة في ذلك أن مولوية المولى
ولا سيما إذا كانت ذاتية كمولوية الله - سبحانه عز وجل - مساوقة للزوم
والوجوب، فإذا صدر أمر من مولى ولم تكن قرينة متصلة على الاستحباب دل
على الوجوب بلا شبهة، ومن هنا لم يستشكل فقيه في دلالة الأمر الوارد في لسان
الشارع على الوجوب عند عدم القرينة على الاستحباب.
فالنتيجة، أنه لا شبهة في دلالة الأمر على الوجوب. نعم، هناك كلام في كيفية
تفسير هذه الدلالة وتحديد منشأها وسوف يأتي البحث عن ذلك في ضمن
البحوث القادمة.
وأما الكلام في المقام الثاني وهو تعيين مدلول صيغة الأمر سعة وضيقا،
فقد تقدم في ضمن البحوث السالفة أن صيغة الأمر موضوعة للنسبة الطلبية بين
المادة والمخاطب وتدل عليها في وعاء الطلب والانشاء وبذلك تمتاز على أختيها
الماضي والمضارع، باعتبار أنهما تدلان على النسبة في وعاء التحقق والاخبار،
كما أنها تمتاز عن مادة الأمر في أن مدلولها معنى حرفي وهو النسبة المذكورة، بينما
يكون مدلول المادة معنى اسمي وهو مفهوم الطلب الخاص هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، أنه لا شبهة في أن المتبادر من صيغة الأمر والمنسبق منها
ارتكازا عرفا وفطرة إذا كان في نصوص الكتاب والسنة عند عدم القرينة على
الاستحباب هو طلب المادة من المخاطب بنحو الحتم واللزوم، وهذا
التبادر كاشف عرفا عن أن صيغة الأمر موضوعة للوجوب بالمعنى الحرفي، هذا
من ناحية.
ومن ناحية أخرى، قد تبين أن المدلول الوضعي التصوري لمادة الأمر الطلب
12

الخاص بالمعنى الاسمي، وبصيغة الأمر النسبة الطلبية الخاصة بالمعنى الحرفي لا
ابراز الأمر الاعتباري النفساني، فهنا دعويان:
الأولى: أن المدلول الوضعي للأمر مادة وهيئة هو الطلب الخاص، غاية
الأمر أنه على الأول معنى اسمي، وعلى الثاني معنى حرفي، ونتيجة كلا المعنيين
واحدة وهي الوجوب.
الثانية: أن المدلول الوضعي له ليس هو قصد ابراز الأمر الاعتباري
النفساني.
أما الدعوى الأولى فقد عرفت وجهها وهو تبادر الطلب المولوي منه
المساوق للوجوب عرفا عند الاطلاق وعدم القرينة على الاستحباب بدون فرق
في ذلك بين مادة الأمر وهيئته.
وإن شئت قلت أن الأمر مادة وهيئة متقوم ذاتا بصدوره من المولى بعنوان
المولوية، وهذا معنى اعتبار العلو في صدق الأمر وعدم كفاية الاستعلاء فقط،
ومن هنا لا يصدق الأمر على طلب المستعلى إذا لم يكن عاليا واقعا إلا بالعناية
والمجاز، وحينئذ فإذا صدر أمر من المولى كان المتبادر منه الوجوب.
وأما الدعوى الثانية التي اختارها السيد الأستاذ (قدس سره) فهي ترتكز على
مقدمتين:
الأولى: مبنية على مسلكه (قدس سره) في باب الوضع، حيث إنه في ذلك الباب قد
اختار أن الوضع هو التعهد (1)، فلذلك التزم بأن الدلالة الوضعية دلالة تصديقية
لا تصورية، وإن الأمر موضوع مادة وهيئة للدلالة على قصد ابراز الأمر

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 44 و 45.
13

الاعتباري النفساني.
الثانية: أن الانشاء ليس عبارة عن ايجاد المعنى باللفظ، وذلك لأنه إن أريد
بالايجاد، الايجاد التكويني، فهو غير معقول، بداهة أنه تابع لسلسلة علله
التكوينية واللفظ ليس داخلا في تلك السلسلة. وإن أريد به الايجاد الاعتباري،
فهو بيد المعتبر وجودا وعدما، سواء كان هناك لفظ يتلفظ به أم لا، ومن هنا
قال (قدس سره): إن الانشاء عبارة عن ابراز الأمر الاعتباري النفساني (1). وعلى هذا
فالأمر مادة وهيئة موضوع للدلالة على قصد ابرازه في الخارج، فإذا اعتبر
المولى فعلا على ذمة المكلف كان ابرازه في الخارج بمبرز ما من مادة الأمر أو
هيئته أو ما يقوم مقامها انشاء، ولكن كلتا المقدمتين غير صحيحة.
أما المقدمة الأولى فقد تقدم الكلام فيها في باب الوضع وقلنا هناك بأن
حقيقة الوضع ليست هي التعهد والالتزام النفساني، بل هي تخصيص اللفظ
بالمعنى اعتبارا وخارجا بشكل جاد ومؤكد على تفصيل قد مر هناك (2)، ومن
أجل ذلك قلنا في باب الوضع أن الدلالة الوضعية دلالة تصورية لا تصديقية،
وعليه فلا يمكن القول بأن الأمر موضوع مادة وهيئة للدلالة على قصد ابراز
الأمر الاعتباري النفساني، فإنه مبني على مسلك التعهد وهو غير صحيح، وتمام
البحث في ذلك قد سبق في باب الوضع.
وأما المقدمة الثانية فهي مبنية على تفسير الايجاد في كلام المشهور (الانشاء
ايجاد المعنى باللفظ) بالايجاد التصديقي، فمن أجل ذلك أورد عليه بأن ما هو
المشهور في تفسير الانشاء من ايجاد المعنى باللفظ اما غير معقول إن أريد بالايجاد

(1) المصدر المتقدم: 88.
(2) راجع الأجزاء السابقة.
14

الايجاد التكويني، أو غير صحيح إن أريد به الايجاد الاعتباري (1).
ولكن من الواضح أن هذا التفسير منه (قدس سره) خاطئ جدا، فإنه لا ينسجم مع
المسلك المشهور في باب الوضع، فان الدلالة الوضعية على المشهور دلالة
تصورية لا تصديقية، وعلى هذا فحيث أن إيجاد المعنى في كلام المشهور مدلول
اللفظ كالصيغ الانشائية أو ما يقوم مقامها، فلا محالة يكون المراد منه الايجاد
التصوري دون التصديقي، إذ لا يعقل أن يكون المدلول الوضعي على المشهور
مدلولا تصديقيا أو مقيدا بقيد تصديقي، فاذن لا يمكن أن يكون المراد من الايجاد
في كلامهم الايجاد التصديقي، وإلا لزم خلف فرض كون المدلول الوضعي عندهم
مدلولا تصوريا لا تصديقيا، وعليه فلا أصل للتفسير المذكور. هذا من ناحية،
ومن ناحية أخرى أنه لا بأس بتفسير المشهور الانشاء بايجاد المعنى باللفظ
أو ما يقوم مقامه في الجملة، وذلك لأن معنى إيجادية المعنى الانشائي أنه سنخ
معنى يوجد مصداقه بنفس أداة الانشاء في وعائه المناسب له، فالأمر مادة وهيئة
موضوع للطلب الخاص المساوق للوجوب عند عدم القرينة على الخلاف، فإذا
صدر من المولى في مورد فقد أوجد فردا من هذا الطلب الخاص فيه بنفس هذا
الأمر في وعاء الانشاء والطلب، مثلا معنى النكاح سنخ معنى يوجد مصداقه
بنفس صيغة النكاح كقولك أنكحت وزوجت وما شاكل ذلك معقبا بالقبول في
وعاء الانشاء، وكذلك الحال في معنى البيع والشراء ونحوهما.
وإن شئت قلت أن صيغة الانشاء مستعملة في معناها الموضوع له الفاني في
مصداق له يوجد بنفس هذه الصيغة في وعائه المناسب، مثلا جملة بعت
موضوعة لتمليك عين بعوض، فإذا استعمل البائع هذه الجملة في مقام البيع وقال

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 88.
15

بعت هذا الفرس مثلا بكذا، فقد أوجد فردا من تمليك عين بعوض في عالم
الانشاء بنفس هذه الصيغة، وجملة أنكحت موضوعة لزوجية المرأة للرجل،
فإذا استعمل العاقد هذه الجملة وقال أنكحت المرأة المعلومة من الرجل المعلوم
فقد أوجد فردا من الزوجية والعلاقة بينهما في عالم الانشاء بنفس هذه الجملة،
وصيغة الأمر موضوعة للنسبة الطلبية، فإذا صدرت من المولى بعنوان المولوية
فقد أوجد فردا ومصداقا من تلك النسبة بها في عالم الطلب والبعث، ومعنى هذا
ليس استعمال الجملة الانشائية في الفرد والمصداق، بل هي مستعملة في معناها
الموضوع له فانيا في مصداق يوجد بنفس الجملة في عالم التصور واللحاظ. وهذا
هو معنى إيجادية المعنى الانشائي، ومن ذلك يظهر أن الصحيح في تفسير الانشاء
أن يقال، أنه إيجاد مصداق المعنى باللفظ أو ما يقوم مقامه في الوعاء المناسب له،
باعتبار أن اللفظ لا يعقل أن يكون علة وسببا لوجود معناه في وعائه، بداهة أن
المعنى لابد أن يكون ثابتا فيه لكي يكون اللفظ موضوعا بإزائه ودالا عليه، مثلا
جملة بعت موضوعة لتمليك عين بعوض وتدل عليه فانيا في مصداقه الذي وجد
بنفس الجملة تصورا وتصديقا، حيث أن شأن كل مفهوم هو الفناء في مصداقه
والمرآة له في موطنه حتى في مرحلة التصور.
والخلاصة: أن الانشاء إيجاد مصداق المعنى باللفظ أو ما يقوم مقامه في عالم
التصور دون ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أنه متمثل في ابراز الأمر الاعتباري
النفساني في الخارج، فان تفسيره بذلك بلا مبرر حتى على مسلكه (قدس سره) في باب
الوضع، فان لازم هذا المسلك كون المدلول الوضعي مدلولا تصديقيا، وإما كونه
قصد ابراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج فهو لا يقتضي ذلك. إذ كما يمكن
أن يكون مدلولها ذلك يمكن أن يكون مدلولها إيجاد مصداق المعنى في عالم
التصديق، بل الثاني هو المتفاهم العرفي من الجمل الانشائية بمعنى أن المتبادر منها
16

عرفا هو إيجاد مصداق المعنى باللفظ أو ما يقوم مقامه، غاية الأمر بناء على
مسلكه (قدس سره) في باب الوضع أن هذا الايجاد إيجاد تصديقي لا تصوري.
إلى هنا قد وصلنا إلى النتائج التالية:
الأولى: أن أكثر المعاني التي ذكرت لمادة الأمر ليس معنى لها جزما،
إذ احتمال أنها موضوعة بإزائها بالحمل الأولي الذاتي أو الشايع الصناعي غير
محتمل كما تقدم.
الثانية: أنها مشتركة بين معنيين:
أحدهما: الطلب الخاص الذي هو معنى حدثي قابل للتصريف والاشتقاق.
ثانيهما: المعنى الجامد الذي هو غير قابل للتصريف، وهذا المعنى الجامد ليس
مرادفا للشيء لأنه يصدق على الأعيان دون الأمر، فإذن تفسيره بالشئ غير
صحيح، بل الظاهر أن النسبة بينهما عموم من وجه، فإن الشئ يصدق على
الأعيان دون الأمر والأمر يصدق على الفعل المضاف إلى الفاعل مطلقا دون
الشئ على ما مر تفصيله آنفا.
الثالثة: أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن المعنى الآخر للأمر هو الواقعة
المهمة غير تام، إذ الأمر يصدق على الشئ غير المهم بدون تهافت وعلى المحال،
كقولنا: " شريك الباري أمر محال " مع عدم صدق الواقعة المهمة عليه، كما أن ما
ذكره المحقق الأصبهاني (قدس سره) من أن المعنى الآخر له الفعل غير تام، لأنه أعم منه
لصدقه على المحال بينما لا يصدق الفعل عليه هذا، والظاهر أنه معنى عام ينطبق
على الواقعة المهمة وغيرها وعلى الفعل والشأن والفعل العجيب والمحال والعدم
وهكذا.
17

الرابعة: أن محاولة المحقق النائيني والمحقق الأصبهاني (قدس سرهما) إلى ارجاع المعنيين
المذكورين إلى معنى واحد لا ترجع إلى معنى صحيح كما تقدم.
الخامسة: أن معنى الطلب لغة وعرفا هو السعي وراء المقصود، غاية الأمر إن
كان ذلك بشكل مباشر كطالب الضالة فهو طلب تكويني، وإن كان بتحريك
غيره فهو طلب تشريعي.
السادسة: أنه لا شبهة في أن المتبادر عرفا من مادة الأمر هو الطلب الخاص
بالمعنى الاسمي المساوق للوجوب إذا لم تكن قرينة على الخلاف.
السابعة: أن صيغة الأمر موضوعة للنسبة الطلبية بين المادة والمخاطب وتدل
عليها في وعاء الطلب وبذلك تمتاز عن أختيها الماضي والمضارع، وهذه النسبة
الطلبية مساوقة للوجوب إذا لم تكن هناك قرينة على الخلاف.
الثامنة: أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن الأمر مادة وهيئة موضوع
للدلالة على قصد ابراز الأمر الاعتباري النفساني غير تام، لأنه مبني على
مسلكه (قدس سره) في باب الوضع، وقد مر عدم صحة هذا المسلك.
وأما الكلام في المقام الثالث فبعد ما عرفت من دلالة الأمر مادة وهيئة
على الوجوب، وقع الخلاف بين الأصوليين في كيفية تفسير هذه الدلالة وتحديد
منشأها على أقوال.
القول الأول: أن منشأ هذه الدلالة الوضع.
القول الثاني: أن منشأها الاطلاق ومقدمات الحكمة.
القول الثالث: أن منشأها حكم العقل.
أما القول الأول: فلا شبهة في دلالة مادة الأمر على الوجوب إذا وردت من
18

قبل الشرع عند عدم القرينة على الخلاف، وهذه الدلالة مستندة إلى نفس اللفظ
لا إلى جهة خارجة عنه كالاطلاق بمقدمات الحكمة أو حكم العقل. والوجه في
ذلك ما عرفت من أن المتبادر والمنسبق منه عرفا ارتكازا وفطرة هو الطلب
اللزومي، ولا يتوقف هذا التبادر والانسباق على شيء غير صدوره من المولى
وعدم القرينة على الخلاف، وهذا معنى كون دلالة الأمر على الوجوب إنما هي
بالوضع لا بالاطلاق ومقدمات الحكمة ولا بحكم العقل.
وأما صيغة الأمر فقد تقدم أنها موضوعة للدلالة على النسبة الطلبية بين
المادة والمخاطب وتدل على تلك النسبة في وعائها، فإذا استخدمها المولى في مقام
البعث والطلب بعنوان المولوية صدق عليها عنوان الأمر، فإذا صدق عليها ذلك
كان المتبادر منها عرفا وارتكازا هو نسبة إيجاد المادة إلى المخاطب بنحو اللزوم
والوجوب، ولا تتوقف هذه الدلالة على شيء ما عدا صدورها من المولى وعدم
نصب قرينة على الترخيص في الترك، فالنتيجة أن منشأ دلالة الأمر مادة وهيئة
على الوجوب انما هو الوضع لا غيره.
أما القول الثاني: وهو أن منشأ دلالة الأمر مادة وهيئة على الوجوب انما هو
الاطلاق ومقدمات الحكمة فقد اختاره المحقق العراقي (قدس سره) (1) وله في المقام
دعويان:
الأولى: أن الأمر لا يدل على الوجوب بالوضع.
الثانية: أنه يدل عليه بالاطلاق ومقدمات الحكمة.
أما الدعوى الأولى فقد أفاد (قدس سره) في وجهها، أنه لا شبهة في صدق الأمر
حقيقة على الطلب الصادر من المولى وإن كان ندبيا، فلو كان الأمر حقيقة في

(1) مقالات الأصول 1: 208 و 222.
19

الوجوب وموضوعا بإزائه لم يصح اطلاقه على الطلب الندبي إلا بالعناية والمجاز،
وعليه فصحة اطلاق الأمر على الطلب الندبي حقيقة قرينة واضحة على أن الأمر
موضوع للطلب الجامع بين الوجوب والندب، ويؤيد ذلك تقسيم الطلب
إليهما (1).
ويرد عليه أنه مصادرة واضحة، فان صحة اطلاق الأمر حقيقة على الطلب
الندبي منوط بكون الأمر موضوعا للجامع بين الوجوب والندب، وأما إذا كان
موضوعا للوجوب فقط فيكون اطلاقه على الطلب الندبي مجازا، ومن الواضح
أن اطلاق الأمر على الطلب الندبي حقيقة ليس أمرا مسلما لكي يجعل ذلك
قرينة على أنه لا يدل على الوجوب ولم يوضع بإزائه.
فالنتيجة: أنه لا يمكن اثبات وضع الأمر للجامع بصحة اطلاقه على الطلب
الندبي حقيقة لأنه دوري، على أساس أن صحة اطلاقه كذلك متوقفة على
وضعه للجامع وإلا لم يصح إلا بالعناية والمجاز، فلو كان وضعه للجامع متوقفا
عليها لدار. وأما صحة التقسيم فهي لا تصلح أن تكون مؤيدة، لأنها لا تدل على
أكثر من استعمال الأمر في الجامع وهو أعم من الحقيقة.
وأما الدعوى الثانية وهي أن دلالة الأمر على الوجوب إنما هي بالاطلاق
ومقدمات الحكمة، فيمكن تقريب ذلك بعدة وجوه:
الأول: أن الطلب الوجوبي طلب تام وكامل، وحيث أن كمال الشئ عين
الشئ لا أنه أمر زائد عليه، فلا يحتاج بيانه في المقام إلى مؤونة زائدة، وهذا
بخلاف الطلب الندبي فإنه طلب ناقص وضعيف، والنقص والضعف أمر عدمي

(1) نهاية الأفكار 1: 160.
20

فلا يمكن أن يكون عين الطلب، وحينئذ فلا محالة يكون أمرا زائدا عليه، فبيانه
بحاجة إلى مؤونة زائدة ولا يكفي اطلاق الأمر، وعلى هذا فإذا ورد أمر من المولى
بشيء وكان في مقام البيان ولم ينصب قرينة على الندب كان مقتضى اطلاقه
الوجوب، والخلاصة أن الطلب الندبي بما أنه مشتمل على خصوصية زائدة
فإرادته من الأمر بحاجة إلى قرينة تدل عليها ولا يكفي اطلاق الأمر في ذلك،
فإنه لا يدل إلا على ذات المقيد، وهذا بخلاف الطلب الوجوبي، فحيث إنه غير
مشتمل على خصوصية زائدة فإرادته من الأمر لا تتوقف على قرينة تدل عليها
بل يكفي نفس اطلاق الأمر (1).
ولنأخذ بالمناقشة فيه، بتقريب أنه إن أراد بالطلب الشديد الوجوب
وبالطلب الضعيف الندب، فيرد عليه أن الوجوب والاستحباب لا تتصفان
بالشدة والضعف، على أساس أنهما من الأمور الاعتبارية التي لا واقع
موضوعي لها خارجا، ومن الواضح أن صفتي الشدة والضعف من الصفات
الحقيقية الطارئة على الموجودات الخارجية الواقعية كعروضها على البياض
والسواد ونحوهما.
وبكلمة، أن الأحكام الشرعية في أنفسها أمور اعتبارية لا واقع موضوعي
لها في الخارج غير اعتبار من بيده الاعتبار، ولهذا ليست داخلة تحت أنه مقولة
من المقولات الواقعية، ولا يعقل اتصافها بالصفات الحقيقية التي تعرض على
المقولات الحقيقية في الخارج، وعلى هذا فلا موضوع لما ذكره (قدس سره) من أن اطلاق
الأمر بمقدمات الحكمة يعين الطلب المساوق للوجوب وهو الطلب الضعيف دون
الطلب المساوق للاستحباب وهو الطلب الضعيف، ومع الاغماض عن ذلك

(1) مقالات الأصول 1: 208. نهاية الأفكار 1: 162 وانظر هداية المسترشدين: 141.
21

وتسليم أن الوجوب هو الطلب الشديد والاستحباب هو الطلب الضعيف، إلا أن
نتيجة ذلك ليست ما أفاده (قدس سره) لا بنظر العرف ولا العقل، أما بنظر العرف فكما أن
صفة الضعف خصوصية زائدة على ذات الشئ فكذلك صفة الشدة، ومن هنا
تكون المرتبة الشديدة من الشئ بنظر العرف مباينة للمرتبة الضعيفة منه، لا أنه
في المرتبة الضعيفة مشتمل على أمر زائد دون المرتبة الشديدة، وعلى هذا
فالطلب الشديد والطلب الضعيف مرتبتان من الطلب كل منهما متخصصة
بخصوصية زائدة على ذات الطلب، وإرادة كل منهما بحاجة إلى قرينة والاطلاق
لا يفي إلا لإرادة الجامع دون الزائد عليه. وأما بالنظر الدقي العقلي، فكما أن
المرتبة الشديدة عين الطبيعي الجامع في الخارج، فكذلك المرتبة الضعيفة، مثلا
البياض ذات مراتب متفاوتة من المرتبة الشديدة إلى المرتبة الضعيفة، ومن
الواضح أن كل مرتبة من هذه المراتب عين البياض خارجا لا أنها مركبة منه
ومن غيره، بلا فرق في ذلك بين المرتبة الشديدة والمرتبة الضعيفة. أو فقل، أن
مفهوم الشدة والضعف بالحمل الأولي الذاتي وإن كان مباينا للبياض، إلا أن
الكلام ليس في ذلك، بل في واقعها بالحمل الشايع، ومن المعلوم أن واقعهما بهذا
الحمل عين البياض خارجا بلا فرق في ذلك بين المرتبة الشديدة والمرتبة
الضعيفة، فان المرتبة الضعيفة من البياض ليست مركبة منه ومن الأمر العدمي.
وحيث أن المتبع في باب الألفاظ إنما هو نظر العرف، فلا يمكن التمسك باطلاق
الأمر الوارد في الكتاب والسنة لتعيين الوجوب وإرادته دون الاستحباب، لأن
إرادة كل منهما بحاجة إلى قرينة، واطلاق الأمر لا يفي إلا لإرادة الجامع دون
خصوصية زائدة، بل لا يمكن التمسك به بنظر العقل أيضا لأن الاطلاق لا يدل إلا
على الجامع وخصوصية الشدة والضعف وإن كانت عين الجامع بنظر العقل
لا زائدة عليه، إلا أن هذه العينية إنما هي في عالم الخارج لا في عالم المفهوم،
22

والمفروض أن الاطلاق لا يدل على الجامع الموجود في الخارج، بل لو دل على
ذلك فتعيين أنه الحصة الشديدة أو الضعيفة بحاجة إلى دال آخر.
وإن أراد (قدس سره) بالطلب الشديد أو الضعيف ملاك الحكم في مرحلة المبادي،
بتقريب أن الأمر مادة وهيئة يدل على الطلب بالمطابقة وعلى ملاكه بالالتزام
المتمثل في إرادة المولى الناشئة عن المصلحة والمحبوبية في الواقع. وهذا الملاك قد
يكون شديدا كما في الواجبات وقد يكون ضعيفا كما في المستحبات، وحيث أن
شدة الملاك من سنخه وليست شيئا زائدا عليه وضعفه أمر زائد عليه، فإذا صدر
أمر من المولى وكان في مقام البيان ولم ينصب قرينة على ضعف الملاك وعدم
شدته، فلا مانع حينئذ من التمسك باطلاقه لاثبات الإرادة الشديدة.
فيرد عليه أولا: أنه لا يمكن التمسك باطلاق الأمر بالنسبة إلى مدلوله
الالتزامي إذا لم يكن له اطلاق بالنسبة إلى مدلوله المطابقي، لما تقدم من أن كلا من
الوجوب والاستحباب لا يتصف بالشدة والضعف، وعلى تقدير الاتصاف، فكل
من الصفتين أمر زائد على ذات الطلب لا خصوص صفة الضعف، فاذن إرادة كل
منهما بحاجة إلى قرينة وبدونها، فالكلام مجمل فلا يدل على الوجوب ولا على
الاستحباب، فإذا لم يكن له اطلاق بالنسبة إلى المدلول المطابقي وهو الوجوب لم
يكن له اطلاق بالنسبة إلى المدلول الالتزامي أيضا وهو الملاك، لأن الدلالة
الالتزامية تتبع الدلالة المطابقية حدوثا وبقاء واطلاقا وتقييدا.
فاذن لا يمكن التمسك باطلاق الأمر لاثبات ملاك الوجوب.
وثانيا: ما مر من أنه لا فرق بين الشدة والضعف لا بنظر العقل ولا بنظر
العرف، أما بنظر العقل فكما أن الإرادة الشديدة بحدها حقيقة الإرادة لا أنها
إرادة وشئ زائد عليها فكذلك الإرادة الضعيفة، فإنها بحدها حقيقة الإرادة لا
23

أنها إرادة وعدم، وكذلك الحال في المصلحة والمفسدة والمحبوبية والمبغوضية.
وأما بنظر العرف فقد مر، أن كلا من صفتي الشدة والضعف خصوصية زائدة
على الطبيعي الجامع، لا أن صفة الضعف خصوصية زائدة دون صفة الشدة فلا
فرق بينهما من هذه الناحية.
وبكلمة، أن ملاك الوجوب يختلف عن ملاك الاستحباب، وهذا الاختلاف
لا يخلو من أن يكون في الكم أو في الكم والكيف معا أو في الكيف فقط ولا رابع
في البين، أما إذا كان في الكم كما إذا افترضنا أن المصلحة في فعل إذا بلغت من جهة
الزيادة عشر درجات مثلا فهي ملاك الوجوب وإذا كانت أقل منها فهي ملاك
الاستحباب، وعلى هذا فملاك كل منهما متخصص بخصوصية فلا يمكن اثباتها
باطلاق الأمر، لأنه لا يفي إلا لاثبات الجامع دون تخصصه بخصوصية خاصة،
فإنه بحاجة إلى دال آخر، وأما إذا كان الاختلاف في الكم والكيف معا فالأمر فيه
أيضا كذلك، وأما إذا كان في الكيف فقط يعني في الشدة والضعف فقد عرفت أنه
لا فرق بينهما لا بنظر العرف ولا بنظر العقل.
فالنتيجة، في نهاية المطاف أن ما أفاده المحقق العراقي (قدس سره) من دلالة الأمر على
الوجوب بالاطلاق ومقدمات الحكمة لا يمكن المساعدة عليه بوجه.
الثاني: أنه لا شبهة في أن كل من يطلب فعلا عن غيره في اطار الأمر،
فالظاهر من حاله أنه إنما يطلبه من أجل إيجاده في الخارج، وعليه فلابد أن
يكون طلبه إياه بحد ذاته مما لا قصور فيه للتوسل به إلى إيجاده، ومن المعلوم أن
ذلك الطلب هو الطلب اللزومي فإنه لا قصور فيه من هذه الناحية، وعلى هذا
فلو كان هناك ما يقتضي قصور طلبه عن التأثير التام في إيجاد المطلوب والزامه
به، إما في الملاك أو لوجود مانع لكان عليه أن ينصب قرينه على ذلك، فإذا لم
24

ينصب قرينة كان مقتضى اطلاق الأمر أنه لا قصور فيه، فيكون عدم نصب
القرينة على الاستحباب قرينة على الوجوب (1).
والجواب أولا: ما عرفت من أن الأمر يدل مادة وهيئة على الوجوب
بالوضع، ولا تتوقف هذه الدلالة على ما ذكره (قدس سره) من المقدمة، وهي ظهور حال
الأمر في أن أمره تام في التوسل به إلى إيجاد المطلوب ومساوق لسد تمام أبواب
العدم للانبعاث والتحرك نحو إيجاده في الخارج.
وثانيا: أن هذا الوجه في نفسه غير تام، لأنه مبني على أحد أمرين:
الأول: الغلبة بدعوى أن الغالب فيمن يأمر بشيء ويطلبه من غيره فإنما
يطلبه من أجل إيجاده في الخارج واندفاعه إليه وتأثيره فيه تأثيرا تاما.
الثاني: أن اطلاق الأمر الصادر من المولى ينصرف إلى إرادة الفرد التام
والكامل وهو الوجوب، فان كماله وتماميته منشأ لهذا الظهور والانصراف،
ولكن كلا الأمرين ممنوع.
أما الأمر الأول، فيرد عليه أولا: منع الغلبة لأن الأوامر الاستحبابية الواردة
في الشريعة المقدسة لو لم تكن أكثر من الأوامر الوجوبية، فلا شبهة في أن الأوامر
الوجوبية ليست بأكثر منها بمرتبة تؤدي كثرتها إلى تكوين هذه القاعدة وهي
قاعدة الغلبة.
وثانيا: مع الاغماض عن ذلك وتسليم كثرة الأوامر الوجوبية بهذه المرتبة،
إلا أن هذه القاعدة قاعدة ظنية فلا تكون حجة.
وعلى الجملة فلو لم يكن الأمر في نفسه ظاهرا في الوجوب، لم يمكن حمله عليه

(1) نهاية الأفكار 1: 163 ومقالات الأصول 1: 208.
25

على أساس الغلبة التي لا قيمة لها شرعا.
وأما الثاني فقد مر، أن الوجوب والاستحباب في أنفسهما لا يتصفان بالشدة
والضعف والكمال والنقض، وإنما يتصفان بهما بلحاظ مبادئهما، على أساس أنها
روح الحكم وحقيقته. هذا إضافة إلى أن التمامية والشدة لا تصلح أن تكون منشأ
للانصراف، لأن منشأ الانصراف إنما هو كثرة الاستعمال دون الكمال والتمام، فإذا
فرض أن الامر موضوع للجامع بين الوجوب والاستحباب، فانصرافه إلى
الوجوب عند الاطلاق منوط بكثرة استعماله فيه لا بتماميته ولو بلحاظ مبدئه.
فالنتيجة، أن كلا الأمرين لا يصلح أن يكون منشأ لظهور الأمر في الوجوب.
الثالث: أن الوجوب عبارة عن طلب الفعل مع عدم الترخيص في الترك،
والاستحباب عبارة عن طلب الفعل مع الترخيص في الترك، فهما يشتركان في
الجامع وهو الطلب المتعلق بالفعل ويمتازان في القيد، فان الوجوب مقيد بقيد
عدمي والاستحباب مقيد بقيد وجودي، فإذا كانت للجامع حصتان وكان المميز
لإحداهما أمرا عدميا وللأخرى أمرا وجوديا، فمقتضى اطلاق الدليل تعين
الحصة الأولى دون الثانية، باعتبار أنها مقيدة بقيد عدمي فلا يحتاج بيانها إلى
مؤونة زائدة ودليل آخر، بل يكفي في ذلك عدم نصب قرينة على إرادة الثانية،
وعلى ذلك فإذا ورد أمر بشيء من قبل المولى ولم تكن قرينة على الترخيص فهو
محمول على الوجوب (1).
والخلاصة: أن الاستحباب بما أنه مقيد بقيد وجودي فبيانه بحاجة إلى مؤونة
زائدة وقرينة لكي تدل على قيده الوجودي، والوجوب بما أنه مقيد بقيد عدمي
فبيانه لا يحتاج إلى مؤونة زائدة لأن القيد العدمي لا يحتاج إلى بيان مستقل.

(1) بحوث في علم الأصول 2: 21.
26

والجواب أولا: أن الوجوب ليس مركبا من الأمر الوجودي والأمر العدمي
بل هو أمر بسيط. نعم، أن لازمه عدم الترخيص في الترك لا أنه جزئه.
وثانيا: مع الاغماض عن ذلك وتسليم أنه مركب، إلا أنه مركب من طلب
الفعل والمنع عن الترك، فيكون القيد وجوديا لا عدميا، وعليه فلا فرق بين
الوجوب والاستحباب من هذه الناحية.
وقد يستدل على ذلك بأن صيغة الأمر تدل على الارسال والدفع بنحو المعنى
الحرفي، ولما كان الارسال والدفع مساوقا لسد تمام أبواب العدم للتحرك
والاندفاع، فمقتضى إصالة التطابق بين المدلول التصوري والمدلول التصديقي أن
الطلب والحكم المبرز بالصيغة سنخ حكم يشتمل على سد تمام أبواب العدم.
ويمكن المناقشة فيه بأن هذا التقريب لا يختص بصيغة الأمر بل يجري في مادته
أيضا، لأن مادة الأمر وإن لم توضع للنسبة الإرسالية والطلبية، باعتبار أن
معناها معنى اسمي وليس بحرفي، إلا أنها موضوعة للطلب بالمعنى الاسمي، ولكن
الدفع والتحرك والارسال لازم للطلب المذكور، فاذن تدل المادة على الطلب
بالمطابقة وعلى الدفع والارسال بالالتزام وهو مساوق لسد تمام أبواب العدم
للتحرك والاندفاع، وحيث أن أصالة التطابق لا تختص بالمدلول المطابقي بل
تجري في المدلول الالتزامي أيضا، فيكون الطلب والحكم المبرز بالمادة سنخ
حكم يشتمل على سد تمام أبواب العدم.
هذا إضافة إلى أن ما فرض في هذا التقريب من أن الدفع والارسال مساوق
لسد تمام أبواب العدم للاندفاع والتحرك قابل للمناقشة، لأن الدفع والارسال
جامع بين حصة مساوقة للوجوب وحصة مساوقة للاستحباب، فما هو مساوق
لسد تمام أبواب العدم هو الحصة الأولى دون الجامع، فاذن تمامية هذا التقريب
27

تتوقف على تمامية أحد الوجوه المتقدمة، وحيث أنها جميعا غير تامة فلا يتم ذلك
أيضا، تحصل مما ذكرناه أن ما اختاره المحقق العراقي (قدس سره) من أن دلالة الأمر على
الوجوب مادة وهيئة إنما هي بالاطلاق ومقدمات الحكمة لا بالوضع لا يتم.
وأما القول الثالث وهو أن الأمر لا يدل على الوجوب لا بالوضع ولا
بالاطلاق ومقدمات الحكمة وإنما هو مستفاد من حكم العقل، فقد اختاره المحقق
النائيني (قدس سره) وتبعه فيه السيد الأستاذ (قدس سره).
أما المحقق النائيني (قدس سره) فقد أفاد في وجهه أن صيغة الأمر موضوعة لايقاع
المادة على المخاطب ومستعملة فيه في جميع الموارد أعم من موارد الوجوب
والاستحباب، ولكن العقل يحكم فيما إذا صدرت من المولى ولم تكن مقرونة
بالقرينة على الترخيص في الترك بلزوم الامتثال قضاء لحق المولوية وأداء
لوظيفة العبودية وتحصيلا للأمن من العقوبة، ولا يصلح الاعتذار عن الترك
بمجرد احتمال كون المصلحة غير لزومية طالما لم تكن قرينة على ذلك لا متصلة ولا
منفصلة (1).
وأما السيد الأستاذ (قدس سره) فقد قرب ذلك بما يلي:
أن الأمر موضوع مادة وهيئة للدلالة على ابراز الأمر الاعتباري النفساني،
وحينئذ فإذا أمر المولى بشيء فان نصب قرينة على الترخيص في الترك فهو، وإلا
فالعقل يحكم بوجوب امتثاله والاتيان به في الخارج قضاء لحق المولوية
وتحصيلا للأمن من العقوبة، على أساس أن احتمال المولوية مساوق لاحتمال
العقوبة إذا لم تكن قرينة على الأمن منها، ولا نقصد بالوجوب إلا ادراك العقل
لابدية الخروج عن عهدته، فيما إذا لم يحرز لا من الداخل ولا من الخارج ما يدل

(1) أجود التقريرات 1: 144.
28

على جواز تركه (1).
ولنأخذ بالنقد عليه إما أولا: فلما تقدم من أن الأمر يدل مادة وهيئة على
الوجوب بالوضع ويكون هو المتبادر والمنسبق منه عند الاطلاق ارتكازا وفطرة
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، أن الأمر لم يوضع لا مادة ولا هيئة للدلالة على قصد ابراز
الأمر الاعتباري النفساني في الخارج، لأن ذلك مبني على مسلك التعهد في باب
الوضع، وقد تقدم نقد هذا المسلك بما لا مزيد عليه.
وثانيا: أنه إن أريد من حكم العقل بالوجوب ادراكه ذلك نظريا فهو لا يمكن،
ضرورة أنه لا طريق للعقل إلى الأحكام الشرعية وما لها من الملاكات
والمبادئ، فلولا النصوص الشرعية من الكتاب والسنة لم يكن بامكان العقل
ادراك شيء من الأحكام الشرعية من طريق ادراك مبادئها.
وإن أريد من ذلك أن العقل ينتزع الوجوب من اعتبار المولى الفعل على ذمة
المكلف، بتقريب أن الأمر الصادر من الشارع يدل على اعتباره الفعل على ذمته
ولا يدل على أكثر من ذلك، ولكن العقل ينتزع الوجوب منه ما لم تكن هناك
قرينة على الترخيص في الترك.
فيرد عليه أولا: ما عرفت من أن الأمر لم يوضع للدلالة على ابراز اعتبار
الفعل على ذمة المكلف.
وثانيا: مع الاغماض عن ذلك وتسليم أنه موضوع لذلك، إلا أن حكم العقل
بالوجوب وانتزاعه منه منوط باحراز ملاكه في مرحلة المبادئ ولا طريق

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 14، 131.
29

للعقل إلى احرازه فيها والوصول إليه، والحاصل أن الأمر لا يدل إلا على الجامع
بين الوجوب والاستحباب، فاذن حكم العقل بالوجوب بما أنه لا يمكن أن يكون
جزافا، فلا محالة يكون مبنيا على احراز ملاكه، والمفروض أنه ليس بامكانه
ذلك وبالتالي ليس بامكانه الحكم بالوجوب، وإن أريد من ذلك الحكم العقلي
العملي بمعنى أن حكم العقل بالوجوب في المقام يكون من تبعات حكمه بحسن
الطاعة ووجوبها وقبح المعصية وحرمتها، على أساس أن الحاكم في هذا الباب
هو العقل دون الشرع، فيرد عليه أن الحاكم في باب الطاعة وإن كان العقل تطبيقا
لكبرى قاعدة الحسن والقبح العقليين على المقام، ولكن من الواضح أن العقل
لا يحكم بوجوب الطاعة وقبح المعصية إلا بعد احراز موضوعه في المرتبة السابقة
وهو الوجوب والحرمة، وما لم يحرز لم يحكم بلزوم الامتثال والطاعة، وأما إذا لم
يكن موضوعه محرزا كما في المقام إذ المفروض فيه أن الأمر الصادر من المولى
بشيء لا يدل على وجوبه لا وضعا ولا اطلاقا، ففي مثل ذلك لا يمكن أن يحكم
العقل بوجوب الامتثال أداء لوظيفة العبودية وتحصيلا للأمن من العقوبة،
ضرورة أنه منوط باحراز الوجوب في المرتبة السابقة ولو بالأصل العملي، ومع
عدم احرازه لا موضوع له، فاذن كيف يعقل أن يكون الوجوب بحكم العقل مع
أنه متوقف على احرازه مسبقا.
وبكلمة، أن العقل العملي وهو حكمه بالحسن والقبح يتبع ملاكه وموضوعه
ويدور مداره وجودا وعدما، وحيث إن حكم العقل بحسن الطاعة وقبح
المعصية من صغريات العقل العملي، فمن الواضح أنه لا يحكم بذلك إلا بعد احراز
موضوعه في المرتبة السابقة وهو الوجوب والحرمة، فما في كلام المحقق النائيني
والسيد الأستاذ (قدس سرهما) من أن المولى إذا أمر بشيء ولم ينصب قرينة على الترخيص
في الترك، حكم العقل بلزوم امتثاله تحصيلا للأمن من العقوبة لا يرجع إلى معنى
30

صحيح، لأن الأمر على الغرض لا يدل على الوجوب لا بالوضع ولا بالاطلاق،
وعليه فيكون الوجوب مشكوكا ومع الشك فيه يرجع إلى أصالة البراءة، ومع
هذه الأصالة لا يعقل حكم العقل بلزوم الامتثال لأنه منوط باحتمال العقاب وهو
منفي بها.
ودعوى أن منشأ حكم العقل بوجوب الامتثال هو أن احتمال المولوية
مساوق لاحتمال العقوبة إذا لم تكن هناك قرينة على الترخيص في الترك.
مدفوعة، بأن احتمال المولوية إنما يكون مساوقا لاحتمال العقوبة إذا كان في
الشبهة الحكمية قبل الفحص، فان العقل يحكم فيها بلزوم الامتثال دفعا لاحتمال
العقاب، وأما إذا كان في الشبهة الحكمية بعد الفحص فلا يحكم العقل فيها بلزوم
الامتثال، بناء على ما هو الصحيح من أن الأصل الأولي فيها قاعدة قبح العقاب
بلا بيان دون قاعدة الاشتغال وحق الطاعة، هذا إضافة إلى أن القرينة على
الترخيص فيها موجودة وهي أدلة البراءة الشرعية.
فالنتيجة، أنه لا يمكن أن تكون دلالة الأمر على الوجوب مادة وهيئة بحكم
العقل لا بالعقل النظري ولا بالعقل العملي.
ثم أن بعض المحققين (قدس سره) قد أورد على هذا القول بإشكالات أخرى:
الأول: أن لازم هذا القول الالتزام بعدم الوجوب فيما إذا كان الأمر مقرونا
بعام يدل على الترخيص الشامل لمورده، بتقريب أن حكم العقل بالوجوب
معلق على عدم الترخيص في الترك، ومع الترخيص فيه لا موضوع لحكمه،
مثال ذلك إذا ورد في دليل أكرم العالم العادل ثم ورد في دليل آخر لا بأس بترك
إكرام العالم، فان بناء الفقهاء في مثل ذلك الموافق للارتكاز العرفي هو الجمع بينهما
بحمل العام على الخاص والالتزام بوجوب إكرام العالم العادل، فان ذلك من أحد
31

موارد الجمع العرفي بين الأدلة، واعتبار التعارض بين العام والخاص من
التعارض غير المستقر، على أساس أن الدليل الخاص بمقتضى الارتكاز العرفي
الفطري قرينة على تحديد المراد الجدي من العام، هذا بناء على المشهور من أن
مفاد الأمر الوجوب مادة وهيئة، وأما بناء على ما ذكره السيد الأستاذ والمحقق
النائيني (قدس سرهما) من عدم دلالة الأمر على الوجوب فلا تنافي بين الجملتين المذكورتين
هما العام والخاص لكي تكون الجملة الأولى قرينة على تخصيص الثانية، باعتبار
أن الأمر في الأولي لا يدل إلا على الطلب فقط وهو لا ينافي الترخيص في الترك في
الثانية، بل المتعين على هذا المسلك أن تكون الجملة الثانية (العام) رافعة
لموضوع حكم العقل بالوجوب في الجملة الأولى، على أساس أن حكمه
بالوجوب معلق على عدم ورود الترخيص في الترك من المولى، والمفروض في
المقام قد ورد الترخيص في الترك في إطار العام، مع أنه ليس بامكان أحد من
الفقهاء الالتزام بهذا اللازم حتى المحقق النائيني والسيد الأستاذ (قدس سرهما) (1).
ولكن يمكن المناقشة في هذا الاشكال بتقريب أن حكم العقل بوجوب امتثال
الأمر الوارد من المولى وإن كان معلقا على عدم ورود الترخيص في الترك من
قبل المولى، إلا أن ذلك إنما هو فيما إذا كان الترخيص فيه واردا من قبله في إطار
القرينة، بحيث يرى العرف عدم امكان حمل الأمر على الوجوب معها، فان مثل
هذا الترخيص يمنع عن حكم العقل بوجوب الامتثال تأمينا للعقوبة بارتفاع
موضوعه، وأما إذا لم يكن الترخيص في الترك في إطار القرينة بأن يكون في إطار
الدليل العام كما في مثل المثال، فالظاهر أنه لا يمنع عن حكم العقل بالوجوب
ولزوم الامتثال دفعا لاحتمال العقاب، لأن الظاهر أنه غير معلق على الترخيص

(1) بحوث في علم الأصول 2: 19.
32

في الترك مطلقا وإن كان في ضمن دليل عام، لأنه كما لا يمنع عن دلالة الأمر على
الوجوب بالاطلاق ومقدمات الحكمة، كذلك لا يمنع عن حكم العقل بالوجوب
ولزوم الامتثال والخروج عن العهدة، فإنه منوط بعدم ورود الترخيص في الترك
من قبل المولى في إطار القرينة لا مطلقا، ولهذا لا يرى العرف تنافيا بين حكم
العقل بوجوب إكرام العالم العادل في المثال وبين الترخيص في ترك إكرام
العالم مطلقا.
وبكلمة، أنه لا تنافي بين المدلول اللفظي للعام والمدلول اللفظي للخاص على
هذا المسلك، لأن المدلول اللفظي الخاص هو طلب الفعل الجامع بين الوجوب
والاستحباب والمدلول اللفظي للعام هو الترخيص في تركه ولا تنافي بينما، فإن
التنافي إنما هو بينه وبين الوجوب، وموضوع حكم العقل بالوجوب ولزوم
الامتثال والخروج عن العهدة تأمينا للعقوبة هو طلب الفعل من المولى وعدم
نصب قرينة على الترخيص، فإذا تحقق الأمران تحقق موضوع حكم العقل،
وحيث أن الترخيص في الترك في إطار الدليل العام ليس ترخيصا في إطار
القرينة عرفا، فلا يكون عدمه جزء موضوع حكم العقل، وعلى هذا فالترخيص
في ضمن الدليل العام كما أنه لا يمنع عن دلالة الأمر على الوجوب بالوضع
ولا بإطلاق مقدمات الحكمة، كذلك لا يمنع عن حكم العقل بالوجوب
ولزوم الامتثال.
الثاني: أن حكم العقل بالوجوب ولزوم الطاعة لا يخلو من أن يكون معلقا
على عدم الترخيص المتصل في الترك أو على الأعم منه ومن المنفصل في الواقع أو
على عدم احراز الترخيص فيه، والكل لا يمكن.
أما الأول: فلأن لازمه أنه إذا ورد أمر من المولى ولم ينصب قرينة متصلة على
33

الترخيص في الترك تم موضوع حكم العقل بالوجوب ولزوم الإطاعة، ومعه
يكون الترخيص بالمنفصل منافيا له فيمتنع وهو واضح البطلان، ضرورة أن
القرائن المنفصلة على عدم الوجوب في النصوص الشرعية من الكتاب
والسنة لا تكون أقل شأنا من القرائن المتصلة على ذلك، فاذن كيف يمكن
الحكم بامتناعها.
وأما الثاني: فلأن لازمه عدم امكان احراز الوجوب عقلا عند الشك في
وجود القرينة المنفصلة على الترخيص في الترك في الواقع مع القطع بعدم وجود
القرينة المتصلة على ذلك، باعتبار أن حكم العقل بالوجوب معلق على عدم
الترخيص في الترك من قبل المولى ولو منفصلا، ومع الشك فيه لا محالة يشك في
حكم العقل بالوجوب.
وأما الثالث: وهو كون حكم العقل معلقا على عدم احراز الترخيص في الترك
فهو خروج عن محل الكلام، لأن محل الكلام في الوجوب الواقعي الذي هو
مشترك بين العالم والجاهل لا في الوجوب المنجز المختص بالعالم، هذا.
ويمكن المناقشة فيه أيضا وذلك لأن حكم العقل بالوجوب وإن كان لا يمكن
تعليقه على عدم الترخيص بالمتصل ولا على الأعم منه ومن عدم الترخيص
بالمنفصل في الواقع للمحذور المتقدم، إلا أنه لا مانع من تعليقه على عدم احراز
الترخيص في الترك، لوضوح أن حكم العقل بلزوم الطاعة والخروج عن العهدة
تأمينا للعقوبة معلق على عدم احراز الترخيص فيه من قبل المولى، لأن هذا
الحكم العقلي ليس حكما واقعيا مشتركا بين العالم والجاهل، بل هو حكم عقلي
عملي متمثل في ادراك العقل لزوم طاعة المولى في الأوامر الواردة من قبله إذا
لم يحرز قرينة على الترخيص في الترك، لما مر من أن المراد من حكم العقل
34

بالوجوب حكم العقل العملي لا النظري كي يكون الوجوب وجوبا واقعيا
مشتركا بين العالم والجاهل.
الثالث: إذا نسخ الوجوب وقع النزاع بين الفقهاء في أن الثابت بعد نسخ
الوجوب هل هو الجواز أو الاستحباب؟
والجواب: أن المشهور هو الجواز دون الاستحباب، مع أنه على هذا المسلك
يتعين ثبوت الاستحباب، لأن الناسخ انما يرفع حكم العقل بالوجوب ولا يرفع
مدلول الأمر وهو الطلب فيثبت الاستحباب.
والجواب: أن هذا ليس نقضا على أصحاب هذا المسلك، فان التزام المشهور
بعدم ثبوت الاستحباب مبني على مسلكهم من دلالة الأمر على الوجوب
بالوضع، فان الدليل الناسخ حينئذ يرفع الوجوب الذي هو مدلول الأمر وبعد
ارتفاعه فلا دليل على الاستحباب، وأما على ضوء هذا المسلك فلا مانع من
الالتزام بثبوت الاستحباب بعد ارتفاع حكم العقل بالوجوب بالنسخ ولا
محذور فيه أصلا.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أن الصحيح في المسألة القول
الأول وهو القول بأن الأمر مادة وهيئة موضوع للدلالة على الوجوب دون
القول الثاني والثالث.
وهناك ثمرات فقهية تظهر بين الأقوال الثلاثة في المسألة في عديد من المسائل
المبحوث عنها في الأصول ويأتي الكلام فيها في مواردها.
نتيجة البحث في المسألة عدة نقاط:
الأولى: أن في كيفية تفسير دلالة الأمر على الوجوب مادة وهيئة وتحديد
35

منشأها أقوالا:
الأول: أن منشأها الوضع.
الثاني: أن منشأها الاطلاق ومقدمات الحكمة.
الثالث: أن منشأها العقل.
الثانية: أن الصحيح من هذه الأقوال، القول الأول لمكان التبادر الكاشف عن
الوضع.
الثالثة: أن المحقق العراقي (قدس سره) قد اختار القول الثاني بتقريبات مختلفة، ولكن
تقدم موسعا عدم صحة جميع تلك التقريبات وعدم امكان الاستدلال بشيء
منها.
الرابعة: أن المحقق النائيني والسيد الأستاذ (قدس سرهما) قد إختارا القول الثالث،
بتقريب أن الأمر موضوع مادة وهيئة للدلالة على ابراز الأمر الاعتباري
النفساني أو لايقاع المادة على المخاطب، ولا يدل على الوجوب لا بالوضع ولا
بالاطلاق ومقدمات الحكمة، ولكن العقل يحكم بلزوم الامتثال والخروج عن
العهدة إذا لم تكن هناك قرينة على الترخيص في الترك هذا، وقد تقدم أنه لا يمكن
تخريج هذا القول صناعيا، لأن العقل النظري لا طريق له إلى ادراك الاحكام
الشرعية من جهة عدم الطريق له إلى ملاكاتها في مرحلة المبادي، وأما
العقل العملي فحكمه بلزوم الامتثال منوط باحراز موضوعه في المرتبة السابقة
وهو الوجوب والحرمة، وبدون احرازه فلا حكم له، والمفروض في المقام عدم
احراز موضوعه.
الخامسة: أن ما أورده بعض المحققين (قدس سره) من الاشكالات على ما هو لازم هذا
36

القول فقد تقدم المناقشة فيه.
وأما الكلام في المقام الرابع وهو أن الطلب متحد مع الإرادة أو مغاير لها.
ففيه قولان:
القول الأول: اتحاد الطلب مع الإرادة.
القول الثاني: مغايرة الطلب مع الإرادة.
أما القول الأول فقد اختاره المحقق الخراساني (قدس سره) وقد أفاد في وجه ذلك ما
ملخصه: " إن لفظي الطلب والإرادة موضوعان بإزاء مفهوم واحد جامع بين
فردين في الخارج أي خارج أفق الذهن، أحدهما الفرد الحقيقي الخارجي وهو
الإرادة الحقيقية والطلب الحقيقي والآخر الفرد الانشائي وهو الإرادة الانشائية
والطلب الانشائي. فتكون الإرادة الحقيقية عين الطلب الحقيقي وبالعكس،
والإرادة الانشائية عين الطلب الانشائي وبالعكس، وليس المراد من اتحاد
الطلب مع الإرادة اتحاد الطلب الانشائي مع الإرادة الحقيقية والإرادة الانشائية
مع الطلب الحقيقي، لأن المغايرة بينهما من الواضحات، ثم أحال (قدس سره) ما ذكره في
المقام إلى الوجدان بدون أن يقيم برهانا عليه (1).
ولنأخذ بالنقد عليه، لا شبهة في أن مفهوم الطلب مغاير لمفهوم الإرادة، لأن
المتبادر والمنسبق عرفا من لفظ الطلب هو السعي والتحرك وراء المقصود
والمطلوب والتصدي عملا نحو تحصيله، غاية الأمر إن كان السعي بنحو المباشر
كطالب الضالة وطالب العلم فهو طلب تكويني، وإن كان بتحريك غيره فهو
طلب تشريعي. وهذا بخلاف الإرادة فإنها مستعملة في معنيين:

(1) كفاية الأصول طبع مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) 64 - 65.
37

أحدهما: المشيئة والاختيار.
الثاني: الشوق المؤكد في النفس الذي يبلغ مرتبة الإرادة ولا تكون متحدة مع
الطلب في شيء من المعنيين، فإنها بمعناها الأول وإن كانت من مقولة الفعل إلا
أنها بهذا المعنى من مبادئ الطلب الذي هو عنوان للفعل الخارجي، وأما بمعناها
الثاني فهي من مقولة الكيف النفساني ولا ينطبق عليها عنوان الطلب، فلا يقال
لمن أراد تحصيل العلم أنه طالب العلم أو تحصيل ضالته أنه طالب الضالة، وعلى
ضوء ذلك فالطلب مباين للإرادة مفهوما ومصداقا فلا يكون متحدا معها لا
بالحمل الأولي الذاتي ولا بالحمل الشايع الصناعي.
فالنتيجة، أنهما ليسا من الألفاظ المترادفة جزما، وأما الإرادة الانشائية فهي
في الحقيقة ليست بإرادة في مقابل الإرادة الحقيقية، بداهة أنه ليس في النفس
إرادتان أحدهما الإرادة الحقيقية والأخرى الإرادة الانشائية، بل المراد منها
الأمر الانشائي من المولى المسبوق بالإرادة الحقيقية، وقد تقدم آنفا أن السعي
والتحرك قد يكون تكوينيا وقد يكون تشريعيا، فالطلب التشريعي الانشائي
هو الإرادة الانشائية، وعليه فالإرادة الانشائية عين الطلب الانشائي، بمعنى
أنهما شيء واحد وهو الأمر التشريعي الذي قد يعبر عنه بالإرادة التشريعية وقد
يعبر عنه بالطلب التشريعي، كما أن مفهوم الطلب بالحمل الأولي وهو السعي
والتصدي وراء المقصود جامع بين الطلب التشريعي والإرادة التشريعية والطلب
التكويني، لما مر من أن السعي والتصدي إن كان بنحو المباشر فهو طلب تكويني
وإن كان بتحريك غيره فهو طلب تشريعي.
ومن هنا يظهر أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن الطلب عنوان للفعل
الخارجي أو الذهني وليس منشأ بالأمر لا بمادته ولا بهيئته، وعلى هذا فليس
38

للطلب الانشائي واقع موضوعي (1) لا يتم، وذلك لما عرفت من أن مفهوم الطلب
بالحمل الأولي وإن كان غير قابل للانشاء إلا أن مصداقه بالحمل الشايع إذا كان
تشريعيا فهو قابل للانشاء، ومن هنا قلنا أن الأمر موضوع مادة وهيئة للطلب
المولوي التشريعي المساوق للوجوب على تفصيل تقدم، فلذلك يكون الأمر
مصداقا للطلب. نعم، ما ذكره (قدس سره) من أن الطلب عنوان للفعل وليس منشأ مبني
على مسلكه (قدس سره) في باب الانشاء من أنه عبارة عن ابراز الأمر الاعتباري
النفساني في الخارج بمبرز ما وليس عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ، وعليه فيكون
مدلول الأمر مادة وهيئة عبارة عن ابراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج
وليس مدلوله انشاء الطلب، نعم يكون الطلب عنوانا لذلك الأمر الاعتباري
المبرز في الخارج بمبرز ما (2) هذا، ولكن قد تقدم عدم صحة هذا المسلك.
فالصحيح هو ما ذكرناه من أن الأمر موضوع مادة وهيئة للطلب المولوي
المساوق للوجوب إذا لم تكن قرينة على الخلاف.
فالنتيجة، أن الطلب الحقيقي مباين للإرادة الحقيقية مفهوما وواقعا، وأما
الإرادة الانشائية فلا معنى لها غير الطلب الانشائي كما مر.

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 16.
(2) محاضرات في أصول الفقه 1: 88.
39

بحوث ونظريات
1 - نظرية الأشاعرة: الكلام النفسي ونقدها.
2 - نظرية الفلاسفة: إرادته تعالى عين ذاته ونقدها.
3 - نظرية الأشاعرة: مسألة الجبر ونقدها.
4 - نظرية الفلاسفة: مسألة الجبر ونقدها.
5 - نظرية المعتزلة: مسألة التفويض ونقدها.
6 - نظرية الامامية: مسألة الأمر بين الأمرين.
7 - الآراء والنظريات: حول مسألة العقاب والجزاء.
نظرية الأشاعرة
الكلام النفسي ونقدها
يقع الكلام هنا في مرحلتين:
الأولى: في تعيين المراد من الكلام النفسي عندهم.
الثانية: في تفنيد هذه النظرية.
أما الكلام في المرحلة الأولى، فلم يظهر من الأشاعرة تصريح ونص
بالاتفاق على أن الكلام النفسي الذي هو عندهم من الصفات الذاتية العليا
كالعلم والقدرة ونحوهما وقائم بذاته تعالى قيام الصفة بالموصوف وقديم هو
40

الطلب، فان تعبيراتهم في المسألة مختلفة من مورد إلى مورد آخر، فقد يعبر عنه
في كلماتهم بالأمر وقد يعبر عنه بالخبر وقد يعبر عنه بصيغة الخبر وقد يعبر عنه
بالطلب هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أنهم لا ينكرون الكلام اللفظي لله تعالى، بل يقولون به
ولهذا قد صرحوا بأن ما قالته المعتزلة لا ننكره نحن، بل نقوله ونسميه كلاما
لفظيا ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى، ولكنا نثبت أمرا وراء ذلك وهو
المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ ونقول هو الكلام حقيقة وهو قديم
قائم بذاته تعالى وأنه غير العبارات، إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة
والأقوام ولا يختلف ذلك المعنى النفسي، كما لا ينحصر الدلالة عليه بالألفاظ، إذ
قد يدل عليه بالإشارة والكتابة (1).
ومن هنا يظهر أن القول بالكلام النفسي لا يتوقف على القول بأن الطلب مغاير
للإرادة، بل لو قلنا باتحاده معها فمع ذلك لا مانع من القول بالكلام النفسي، فإنه
عند القائلين به مدلول للكلام اللفظي ويتعدد بتعدده وقائم بذاته تعالى قيام
الصفة بالموصوف وقديم وأنه غير الإرادة والعلم والقدرة وغير الطلب، لأن قيام
الطلب بذاته تعالى قيام الفعل بالفاعل، وقيام الكلام النفسي بذاته سبحانه قيام
الصفة بالموصوف، كما أن القول بتغاير الطلب مع الإرادة لا يستلزم القول
بالكلام النفسي، فان الطلب كما مر فعل اختياري فلا يعقل أن يكون هو
الكلام النفسي.
فالنتيجة، أن مسألة أن الطلب متحد مع الإرادة أو مغاير لها لا ترتبط بمسألة

(1) شرح المواقف (للشريف الجرجاني) 8: 93.
41

الكلام النفسي لا اثباتا ولا نفيا، فإنه في تلك المسألة سواء فيه القول بالاتحاد أم
التغاير فلابد في هذه المسألة من النظر إلى أدلتها، ومن هنا يظهر أن محاولة المحقق
الخراساني (قدس سره) بأن القول باتحاد الطلب مع الإرادة يستلزم بطلان القول بالكلام
النفسي (1) مما لا أساس لها، فإنها مبنية على أن الطلب لو لم يكن متحدا مع
الإرادة لكان هو الكلام النفسي، ولكن عرفت أنه لا واقع موضوعي له، فان
الكلام النفسي على ما ذكره الأشاعرة من المواصفات والمميزات لا ينطبق على
الطلب لا الطلب الحقيقي ولا الطلب الانشائي، لأن كليهما أمر حادث مسبوق
بالعدم وقيامه بالذات قيام الفعل بالفاعل لا الصفة بالموصوف، ثم أن الأشاعرة
قد استدلوا على الكلام النفسي بعدة وجوه:
الوجه الأول: ما ذكره في شرح المواقف من أن الكلام النفسي وراء الكلام
اللفظي وهو المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه باللفظ أو غيره كالإشارة أو
الكتابة وهو كلام حقيقة وقديم قائم بذاته تعالى وهو غير العبارات، حيث إن
العبارات تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأقوام ولا يختلف ذلك المعنى
النفسي أبدا باختلافها الذي هو الخبر وهو غير العلم، حيث إن الرجل قد يخبر
عما لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشك فيه، فان الخبر هنا موجود دون العلم وهو
الأمر غير الإرادة، لأن الشخص قد يأمر بما لا يريد كالمختبر لعبده، فان الأمر هنا
موجود دون الإرادة، وفي هذه الصورة الموجود واقعا هو صيغة الأمر، إذ لا
طلب فيها كما لا إرادة قطعا، فاذن المعنى النفسي الذي يعبر عنه بصيغة الخبر
والأمر صفة ثالثة مغايرة للعلم والإرادة قائمة بالنفس وهي قديمة لامتناع
قيام الحادث بذاته تعالى. ومن الغريب جدا ما نسب إلى الحنابلة في شرح

(1) كفاية الأصول: 65. مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
42

المواقف ما نصه (1).
قالت الحنابلة: كلامه تعالى حرف وصوت يقومان بذاته وأنه قديم وقد بالغوا
فيه بنص جهلا والجلد والغلاف قديمان فضلا عن المصحف (2).
وهذا الدليل يتضمن عدة مميزات للكلام النفسي، منها أنه مدلول للكلام
اللفظي ومنها أنه قائم بالنفس قيام الصفة بالموصوف لا الفعل بالفاعل ومنها أنه
غير العلم وغير الإرادة ومنها أنه قديم لا حادث، ولكن في هذا الدليل اشكالين:
الأول: أنه لا يمكن أن تتوفر هذه المميزات جميعا في مدلول الكلام اللفظي،
بيان ذلك أن الخطابات القرآنية تنقسم إلى مجموعتين:
المجموعة الأولى: الخطابات الانشائية التي تتضمن أمورا انشائية إيجادية.
المجموعة الثانية: الخطابات الاخبارية التي تتضمن الاخبار عن الوقائع
والحوادث.
أما الخطابات الانشائية فلا يعقل أن يكون مدلولها من سنخ الكلام النفسي
لعدم توفر مميزاته فيه، فإنه وإن كان مدلولا للكلام اللفظي إلا أنه حادث
مسبوق بالعدم وليس بقديم وقائم بالنفس قيام الفعل بالفاعل، باعتبار أنه فعل
اختياري للشارع لا قيام الصفة بالموصوف. نعم، أنه غير العلم وغير الإرادة
فالعلم والإرادة من المبادي له.
فالنتيجة، أن مدلول هذه الخطابات الانشائية حيث أنه أمر حادث مسبوق
بالعدم لا قديم وقائم بذاته تعالى قيام الفعل بالفاعل لا قيام الصفة بالموصوف،

(1) شرح المواقف (للشريف الجرجاني) 8: 93.
(2) المصدر المتقدم: 92.
43

فلا يمكن أن يكون كلاما نفسيا لعدم توفر مميزاته فيه ككونه قديما وصفة، وأما
الخطابات الاخبارية فلان مدلولها أيضا لا يعقل أن يكون من سنخ الكلام
النفسي، لأنه متمثل في ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها فيه، ومن الواضح أن
مميزات الكلام النفسي لا تتوفر فيه، منها كونه صفة لله تعالى ليكون قيامه بذاته
سبحانه قيام الصفة بالموصوف، ضرورة انه ليس صفة له تعالى حتى يكون
قيامه بذاته كذلك، وأما الأخبار فهو فعله تعالى وقيامه به قيام الفعل بالفاعل.
فالنتيجة، أن مدلول الخطابات القرآنية من الانشائية والاخبارية لا يمكن أن
يكون من سنخ الكلام النفسي.
الثاني: أن ما ذكر في هذا الدليل من أن الكلام النفسي غير العلم، معللا بأن
الرجل قد يخبر عما لا يعلمه أو يعلم خلافه، فان الكلام النفسي هنا موجود دون
العلم غريب جدا، وذلك لأنه ليس في هذا المورد إلا تصور المخبرية بتصور ساذج
مثلا يتصور موت زيد من دون أن يعلم به أو يعلم أنه حي لا ميت ثم يخبر عن
موته في الخارج، فإذن ليس هنا إلا تصور موته، وحينئذ فان أريد بالكلام
النفسي هذا التصور الساذج في أفق الذهن وأنه غير العلم والإرادة، فيرد عليه
أولا: أن الكلام النفسي مدلول للكلام اللفظي وأنه سنخ معنى قائم بالنفس قيام
الصفة بالموصوف وقديم، وهو بهذه المميزات لا ينطبق على الصورة الساذجة التي
لا واقع لها غير وجودها في الذهن، فإنها ليست مدلولا للكلام اللفظي ولا قديمة.
وثانيا: أن الكلام النفسي بهذا المعنى غير متصور في ذاته، إذ لا يعقل قيام
التصور الساذج بذاته تعالى وتقدس، لأنه عبارة عن انطباع صورة الشئ في
أفق الذهن ولا موضوع له بالنسبة إلى ذاته المقدسة، هذا إضافة إلى أن علمه
تعالى بالأشياء حضوري فلا يتوقف على مقدمة أخرى.
44

وثالثا: أن تصور الأشياء أي قيام صورها بالنفس من الصفات لها ومن
مقولة الكيف النفساني، والفرض أن الكلام النفسي ليس من إحدى الصفات
المعروفة في النفس والملكات الموجودة فيها سواء كانت من مقولة العلم أم لا.
ورابعا: أن الكلام النفسي لا يمكن أن يكون عبارة عن التصور الساذج، لأنه
أمر وجداني ضروري فلا موضوع للبحث عن ثبوته والمطالبة بالدليل عليه.
وإن أريد بالكلام النفسي الخبر فيرد عليه أولا: أن قيام الخبر بالمخبر قيام
الفعل بالفاعل لا قيام الصفة بالموصوف، والفرض أن قيام الكلام النفسي بذاته
تعالى قيام الصفة بالموصوف لا الفعل بالفاعل. وثانيا: مع الاغماض عن ذلك
وتسليم أنه صفة للمخبر وقيامه به قيام الصفة بالموصوف إلا أنه صفة حادثة لا
قديمة، والمفروض أن من مميزات الكلام النفسي كونه قديما فلهذا لا ينطبق
على الخبر.
والخلاصة: أن الكلام النفسي بما له من المميزات والمقومات لا ينطبق على
الخبر لا لفظا ولا معنى ولا صورة، اما لفظا فلأنه من مقولة الكيف المسموع
وليس موجودا في النفس ولا قديما ولهذا لا ينطبق عليه الكلام النفسي.
وأما معنى فلأن صورته في الذهن تصورا وتصديقا من مقولة العلم
والمفروض أن الكلام النفسي غير العلم، واما بلحاظ وجوده وراء الذهن فقد
تقدم أنه ليس من سنخ الكلام النفسي.
وأما صورة فلان صورة الكلام اللفظي في الذهن ليست مدلولا له والمفروض
أن الكلام النفسي مدلول للكلام اللفظي.
وأما قول الشاعر أن الكلام لفي الفؤاد وإنما - جعل اللسان على الفؤاد دليلا،
45

فهو لا يدل على أن صورة الكلام في أفق الذهن كلام نفسي، حيث لا تتوفر فيها
مميزاته لمكان أنها من مقولة العلم من جهة وحادثة لا قديمة من جهة أخرى ولم
تكن مدلولا للكلام اللفظي من جهة ثالثة.
الوجه الثاني: أن الله تعالى قد وصف نفسه بالتكلم في كتابة الكريم بقوله عز
وجل: (كلم الله موسى تكليما) (1) وحيث أن التكلم صفة له تعالى كالعلم
والقدرة والإرادة وما شاكلها فلا محالة يكون قائما بذاته كسائر صفاته، وعليه
فلابد من الالتزام بكون التكلم قديما لاستحالة قيام الحادث بذاته تعالى كقيام
الحال بالمحل والصفة بالموصوف والعرض بالمعروض هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الكلام اللفظي حيث أنه مؤلف من حروف وأجزاء
متدرجة متصرمة في الوجود فلا محالة يكون حادثا مسبوقا بالعدم ولا يعقل أن
يكون قديما، وعليه فلا يمكن أن يكون المراد من الكلام في الآية الشريفة الكلام
اللفظي وإلا لزم كون ذاته تعالى محلا للحوادث، فإذن لا محالة يكون المراد منه
الكلام النفسي وهو قديم ولا يلزم من قيامه بذاته تعالى قيام الحادث بها،
فالنتيجة أن كلامه تعالى نفسي لا لفظي (2).
والجواب: أن هذا الوجه مبني على الخلط بين الصفات الذاتية والصفات
الفعلية بتخيل أن جميع صفاته تعالى قديمة وقائمة بذاته قيام الصفة بالموصوف،
بيان ذلك أن صفاته تعالى على نوعين:
الأول: الصفات الذاتية كالعلم والقدرة والحياة وما يؤول إليها، فان هذه
الصفات عين ذاته تعالى في الخارج ولا اثنينية فيه ولا مغايرة، فان قيامها بها

(1) سورة النساء (4): 164.
(2) محاضرات في أصول الفقه 2: 25.
46

قيام عيني وهو من أظهر وأعلى مراتب القيام لا قيام الصفة بالموصوف في
الخارج أو قيام الحال بالمحل فيه، ومن هنا ورد في بعض الروايات أن الله
تعالى وجود كله وعلم كله وقدرة كله وحياة كله، وهذا معنى قول
أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة (1) كمال الاخلاص نفي الصفات عنه لشهادة كل
صفة أنها غير الموصوف.
الثاني: الصفات الفعلية كالخلق والرزق والرحمة وما شاكلها فان هذه
الصفات ليست عين ذاته تعالى وتقدس، حيث أن قيامها بها ليس قياما عينيا
كالصفات الذاتية بل قيامها بها قيام الفعل بالفاعل، على أساس أن مبادئ هذه
الصفات أفعاله تعالى فلهذا تنفك عن ذاته المقدسة، وليس كقيام الحال بالمحل
وإلا لزم كون ذاته محلا للحوادث وهذا مستحيل.
ومن هنا يظهر الفرق بين الصفات الفعلية والصفات الذاتية العليا، فان
الصفات الفعلية غير ذاته تعالى خارجا ووجودا ولهذا لا مانع من فرض خلو
ذاته عنها، بينما الصفات الذاتية عين ذاته تعالى خارجا ووجودا ولهذا يستحيل
فرض خلو ذاته عنها، هذا هو جوهر الفرق بينهما ثبوتا، ونتيجة ذلك اثباتا هي
صحة دخول أداة النفي والشرط والاستفهام والتمني والترجي وما شاكلها على
الصفات الفعلية دون الصفات الذاتية العليا، فلا يصح أن يقال أن الله تعالى لم
يكن عالما بشيء ثم صار عالما به أو لم يكن قادرا عليه ثم صار قادرا، بينما يصح
أن يقال أن الله تعالى لم يكن خالقا للشيء الفلاني ثم خلقه وهكذا.
وعلى ضوء هذا الضابط العام للفرق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية قد
ظهر أن التكلم من الصفات الفعلية دون الذاتية، ومن هنا يصح أن يقال أن الله

(1) نهج البلاغة 1: 15. (الشيخ محمد عبده - دار المعرفة. بيروت. لبنان).
47

تعالى كلم موسى (عليه السلام) ولم يكلم عيسى (عليه السلام) وأنه قائم بذاته سبحانه قيام الفعل
بالفاعل لا الحال بالمحل وحادث مسبوق بالعدم، فلهذا لا تتوفر فيه مميزات
الكلام النفسي.
هذا إضافة إلى أن المراد من المتكلم في الآية الشريفة هو التكلم بالكلام
اللفظي، فإنه تعالى كلم موسى (عليه السلام) بكلام لفظي لا معنوي لأنه عندهم مدلول
للكلام اللفظي، فاذن لا مجال للاستدلال بالآية الشريفة على وجود الكلام
النفسي، إلا أن يراد من الكلام في الآية المباركة مدلوله الذي هو كلام نفسي
عندهم، ولكن بما أنه لا تتوفر فيه مميزاته فلا يكون كلاما نفسيا، وذلك لأنه إن
أريد به مدلوله بالحمل الأولي الذاتي فهو مضافا إلى أنه أمر حادث مسبوق
بالعدم ليس قائما بذاته تعالى لا قيام الصفة بالموصوف ولا قيام الفعل بالفاعل
لأنه مفهوم محض وثابت في عالم المفهومية فحسب، وإن أريد به واقعه بالحمل
الشائع فهو وإن كان قائما بذاته تعالى ولكنه من قيام الفعل بالفاعل لا
الصفة بالموصوف.
فالنتيجة، أن الآية الشريفة لا تدل على أن كلامه تعالى كلام نفسي أصلا.
الوجه الثالث: لا شبهة في أن الله تعالى متكلم وقد دلت على ذلك عدة من
الآيات، ولا زم ذلك قيام مبدأ المشتق وهو المتكلم بذاته تعالى قيام الصفة
بالموصوف لا قيام الفعل بالفاعل وإلا لم يصح اطلاق المتكلم عليه، ومن هنا لا
يصح اطلاق النائم والمائت والقائم والمتحرك والساكن والذائق وما شابه ذلك
عليه تعالى مع أن مبادئ هذه الأوصاف قائمة بذاته قيام الفعل بالفاعل، وإن
شئت قلت أن هذه الهيئات الاشتقاقية وأوصافها لا تصدق على من قام عليه
المبدأ قيام الفعل بالفاعل وإنما تصدق على من قام عليه المبدأ قيام الصفة
48

بالموصوف، وحيث أن الكلام اللفظي له تعالى حادث ويكون قيامه بذاته
سبحانه قيام الفعل بالفاعل لا قيام الصفة بالموصوف فهو لا يصلح أن يكون
مصححا لمتكلميته تعالى في مقابل سائر صفاته، فإذن لا مناص من الالتزام
بكون كلامه تعالى نفسيا وقائما بذاته سبحانه قيام الصفة بالموصوف
كسائر صفاته (1).
والجواب عن ذلك نقضا وحلا، اما نقضا فلأنه لا شبهة في أن الله تعالى متكلم
بكلام لفظي وقد نصت على ذلك عدة من الآيات منه قوله تعالى: (إذا أراد شيئا
أن يقول له كن فيكون) (2)، فإن قوله كن فيكون كلامه سبحانه وتعالى وليس
بامكان الأشاعرة إنكار ذلك، كيف فإنهم معترفون بالكلام اللفظي، فإذن ما هو
المبرر لهم في صحة اطلاق المتكلم بالكلام اللفظي عليه تعالى هو المبرر لنا.
وأما حلا فهو يتوقف على بيان مقدمة وهي ما تقدم موسعا في بحث المشتق،
أن قيام المبدأ بالذات قد يكون حلوليا وصفيا وقد يكون صدوريا إيجاديا وقد
يكون ذاتيا من الذاتي باب البرهان أو الكليات الخمس وقد يكون عينيا هذا
من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن خصوصية الحلولية والوصفية والصدورية والايجادية
إنما جاءت من قبل المبادئ دون الأوصاف والهيئات الاشتقاقية، فان هذه
الخصوصيات غير مأخوذة في مداليلها، لأن الهيئة الاشتقاقية تدل على تلبس
الذات بالمبدأ وقيامه بها، وإما كون هذا القيام والتلبس حلوليا أو صدوريا،
فالهيئة لا تدل عليه وإنما ذلك يكون من خصوصية المادة، فهيئة القائم تدل على

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 28.
(2) سورة يس (36): 82.
49

تلبس الذات بالقيام واما كون هذا التلبس حلوليا فهو من جهة أرضية المادة،
فإنها موضوعة لمعنى يقتضي أن يكون قيامه بالذات على نحو الحلول
والتوصيف، فإذن قيام المبدأ بالذات بطبعه يقتضي تارة كونه حلوليا وصفيا
وأخرى صدوريا إيجاديا.
ومن ناحية ثالثة أن المبدأ القائم بالذات إذا كان بنحو الحلول كان منشأ
لانتزاع عنوان وصفي اشتقاقي خاص وهو يدل على قيامه بها كذلك، وذلك
كالقائم والنائم والمتحرك والمائت والساكن والجالس وما شاكل ذلك، فان هذه
الأوصاف الاشتقاقية تنتزع من قيام مبادئها بالذات قيام حلولي وصفي أي قيام
الصفة بالموصوف والحال بالمحل، فمن أجل ذلك تدل على تلبسها بها حلوليا،
وأما دلالتها على الحلول والوصف فإنما هي بلحاظ خصوصية مبادئها كما
عرفت، ولهذا لا تصدق هذه العناوين والأوصاف الاشتقاقية على الذوات التي
تكون مبادئها قائمة بها بنحو الصدور والايجاد يعني قيام الفعل بالفاعل لا الصفة
بالموصوف لما مر من أنها منتزعة من قيام مبادئها بها قيام حلولي، ومن هنا لا
تصدق تلك الأوصاف الاشتقاقية على الله تعالى مع أن مبادئها قائمة بذاته
المقدسة بنحو الصدور والايجاد أي قيام الفعل بالفاعل، وأما إذا كان بنحو
الصدور والايجاد فهو منشأ لانتزاع عنوان اشتقاقي خاص وذلك كالضارب
والناصر والقاتل والخالق والرازق وما شابه ذلك، فان هذه العناوين الاشتقاقية
إن كانت تدل على تلبس الذات بالمبدأ بنحو الصدور والإيجاد أي بنحو قيام
الفعل بالفاعل لا الصفة بالموصوف، ولكن خصوصية الصدورية إنما جاءت من
قبل مبادئها لا من قبل الهيئات نفسها، ومن هنا لا تصدق تلك العناوين على
الذات القائمة بها تلك المبادئ بنحو الحلول.
50

إلى هنا قد تبين أنه يصح اطلاق النائم والمائت والقائم والمتحرك والساكن
وغيرها على من حل فيه المبدأ وقام به قيام الحال بالمحل والصفة بالموصوف، ولا
يصح اطلاقها على من صدر منه المبدأ كاطلاق المائت والنائم على فاعل النوم أو
الموت، وهذا بخلاف مثل القاتل والضارب ونحوهما فإنه لا يصح اطلاقها على
من حل فيه المبدأ وإنما يصح على من صدر منه المبدأ يعني الفاعل، وهذا الفرق
لخصوصية في المبدأ لا في الهيئة، وبعد ذلك نقول أنه لا شبهة في أن المتكلم من
الصفات الفعلية دون الذاتية، فان المبدأ فيه قائم بالذات بنحو الصدور أي قيام
الفعل بالفاعل، وقد مر أن هذه الخصوصية إنما جاءت من قبل المبدأ لا الهيئة،
وعلى هذا الأساس فهيئة المتكلم منتزعة من قيام التكلم بالذات بنحو الايجاد
والصدور وهي تدل على ذلك، واما خصوصية أنه بنحو الصدور أو الحلول فهي
من خصوصية المبدأ، وعليه فحيث أن مبدأ المتكلم يقتضي أن يكون قيامه
بالذات بنحو الصدور والإيجاد فهو منشأ لانتزاع هذا العنوان لا قيامه بها بنحو
الحلول، هذا هو الفرق بين الهيئات الاشتقاقية مثل القاتل والضارب والناصر
والخالق والرازق والمتكلم وما شابه ذلك والهيئات الاشتقاقية مثل المائت والنائم
والمتحرك والساكن والقائم والجالس وما شاكل ذلك هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الأشاعرة قد أخطأوا في نقطتين:
الأولى: في عدم الفرق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية، حيث جعلوا
جميع صفاته تعالى من الصفات الذاتية بلا فرق بين صفة وصفة.
الثانية: في التزامهم بأن تمام صفاته تعالى قديمة زائدة على ذاته المقدسة
وقائمة بها قيام الصفة بالموصوف، لاستحالة كونها حادثة وإلا لزم كون ذاته
محلا للحوادث.
51

أما في النقطة الأولى، فلأن الفرق بين الصفات الذاتية العليا والصفات الفعلية
واضح، فإن الأولى عين ذاته تعالى في الخارج ولا يمكن فرض خلو ذاته عنها
وإلا لزم أن تكون ذاته في مرتبة ذاته عاجزة وغير عالمة وبحاجة إليها وهو
كما ترى، بينما الثانية عين فعله تعالى في الخارج يمكن فرض خلو ذاته عنها،
ولذلك لا تدخل على الأولى أدوات النفي ولا الشرط ولا التمني والترجي وهكذا
وتدخل على الثانية، ولعل منشأ التزامهم بالكلام النفسي هو خلطهم بين
الصفات الذاتية والصفات الفعلية بتخيل أن قيام جميع صفاته تعالى بذاته من
قيام الصفة بالموصوف وإنها جميعا قديمة لا حادثة، فإن ذلك يؤدي إلى التزامهم
بأن كلامهم تعالى نفسي لا لفظي، باعتبار أن كلامه اللفظي أمر حادث مسبوق
بالعدم ويكون قيامه بذاته تعالى من قيام الفعل بالفاعل.
فالنتيجة، أن الكلام النفسي على ما ذكر له من المميزات والمواصفات في
كلماتهم يشبه الخيال.
أما النقطة الثانية، فمن البديهي أنه لا يعقل أن تكون صفاته الذاتية العليا زائدة
على ذاته المقدسة، إذ أنها لو كانت كذلك فلا تخلو من أن تكون وجودات
مستقلة منفصلة عن الذات أو متصلة ومرتبطة بها وكلتاهما غير معقولة، أما
الأولى فلأن لازمها خلو ذاته تعالى عن العلم والقدرة والحياة وهذا مستحيل.
وأما الثانية، فاتصالها إما بنحو التركيب أو بنحو العينية، أما الأول فهو لا يمكن
لأن لازمه افتقار ذاته تعالى إلى تلك الصفات وبالعكس، باعتبار أن كل جزء من
المركب بحاجة إلى جزء آخر في عملية التركيب، ومن الواضح أن هذه العملية
بحاجة إلى فاعل أسبق وهكذا وهو كما ترى، وأما الثاني فهو المطلوب ولكنه
خلاف ما بنوا عليهم في المسألة.
52

لحد الآن قد تبين أن الأشاعرة كما أنهم في خطأ واضح في الخلط بين الصفات
الذاتية والصفات الفعلية وعدم الفرق بينهما كذلك في خطأ في جعل صفاته تعالى
جميعا زائدة على ذاته وقديمة.
بقي هنا اشكال وهو التسائل عن نكتة الفرق بين هيئة النائم والمائت والقائم
والمتحرك والساكن وما شابهها وبين هيئة القاتل والضارب والناصر والمانع
والخالق والرازق وما شاكلها، على أساس أن المجموعة الأولى من الأوصاف
الاشتقاقية مستعملة في من حل فيه المبدأ دون من صدر عنه وأوجده، مثلا هيئة
مائت يصح استعمالها - فيمن حل فيه الموت ولا يصح فيمن صدر عنه الموت
وأوجده، بينما المجموعة الثانية من تلك الأوصاف على عكس الأولى تماما، ولهذا
يصح استعمال هيئة الضارب مثلا فيمن صدر عنه الضرب ولا يصح استعمالها
فيمن حل فيه الضرب مع أن المبدأ في كلتا المجموعتين عرض وله نسبتان نسبة
إلى الفاعل ونسبة إلى المحل، مثلا كما أن للموت نسبتين: نسبة إلى الفاعل ونسبة
إلى المحل كذلك للضرب نسبتين: نسبة إلى الفاعل ونسبة إلى المحل وليست نسبة
النوم والموت والعلم إلى محلها أولى من نسبتها إلى فاعلها، ونسبة القتل والضرب
والخلق إلى فاعلها أولى من نسبتها إلى محلها لأن كلتا النسبتين على حد سواء،
والخلاصة أن هيئة النائم والمائت ونحوهما تشترك مع هيئة القاتل والضارب
ونحوهما في زنة الفاعل، ولكن مع هذا صح استعمال الأولى فيمن حل فيه المبدأ
ولم يصح في موجده، بينما الثانية على عكس ذلك تماما، حيث أنه يصح استعمالها
فيمن حل فيه المبدأ ولم يصح فيمن أوجده، فإذن ما هو نكتة الفرق بينهما؟
وقد قام السيد الأستاذ (قدس سره) بمحاولتين لتبرير هذا الفرق:
المحاولة الأولى: أن ذلك الفرق بين هذه المبادئ سماعي وليس بقياسي
53

بحيث إذا صح الاطلاق بهذا الاعتبار في مورد صح اطلاقه في غيره من الموارد
أيضا بذلك الاعتبار وليس لذلك ضابط كلي. وحيث أن المجموعة الأولى
مستعملة فيمن حل فيه المبدأ دون من صدر عنه، والمجموعة الثانية على عكس
ذلك، فلابد من الاقتصار على هذا وعدم التعدي عنه وهذه المحاولة في نفسها
لا بأس بها، حيث أنه ليس بوسعنا تبرير هذا الفرق بين هذه الأوصاف
الاشتقاقية المشتركة في الصيغة والزنة إلا بالسماع، فان صحة اطلاق القابض
والباسط ونحوهما على موجد القبض والبسط دون ما حل فيه، وعدم صحة
اطلاق المائت والنائم ونحوهما على موجد الموت والنوم وصحته على من حل فيه
لا يمكن تبريره إلا بالسماع والوصول من اللغة كذلك.
المحاولة الثانية: أن منشأ هذا الاختلاف، اختلاف نوعي الفعل هما المتعدي
واللازم، بيان ذلك أن الفعل إذا كان متعديا كضرب وقتل وبسط ونحو ذلك
فبطبيعة الحال يكون قيام المبدأ على الذات في اسم فاعله صدوريا كالضارب
والقاتل والباسط والقابض والخالق والرازق والمتكلم وهكذا وأنها تدل على
تلبس الذات بالمبدأ بنحو الصدور والايجاد، غاية الأمر أن خصوصية
الصدورية إنما جاءت من قبل المبدأ فيه لا الهيئة.
وأما إذا كان الفعل لازما كمات ونام وعلم وسكن وما شاكل ذلك فبطبيعة
الحال يكون قيام المبدأ بالذات في اسم فاعله حلوليا كالمائت والنائم والعالم
والساكن ونحو ذلك وإنها تدل على تلبس الذات بالمبدأ بنحو الحلول، غاية الأمر
أن خصوصية الحلولية إنما جاءت من قبل المبدأ فيه أي في الفعل اللازم، فإذن
هذا الاختلاف يكون على القاعدة، وعلى ذلك فيصح اطلاق المتكلم عليه
سبحانه وتعالى ولا يصح اطلاقه على الهواء، كما لا يصح اطلاق الضارب على
54

من وقع عليه الضرب والقاتل على من وقع عليه القتل وهكذا (1).
نذكر نتائج البحث في عدة نقاط:
الأولى: أن الطلب مغاير للإرادة، فان مفهوم الطلب السعي وراء المقصود وهو
قد يكون تكوينيا وقد يكون تشريعيا، ومفهوم الإرادة الشوق المؤكد في النفس
وقد يراد منها المشيئة والاختيار، وعلى كل حال فهي مباينة للطلب مفهوما
ومصداقا، فما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من اتحاد الطلب مع الإرادة واقعا وحقيقة،
فلا يرجع إلى معنى محصل، نعم الطلب التشريعي عين الإرادة التشريعية.
الثانية: أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن الطلب عنوان للفعل الخارجي أو
الذهني وليس منشأ بالأمر لا مادة ولا هيئة، مبني على مسلكه (قدس سره) في باب الوضع
وهو التعهد، وأما على المبنى الصحيح هناك فالأمر موضوع مادة وهيئة للطلب
المولوي المساوق للوجوب كما مر.
الثالثة: أن تفسير الأشاعرة للكلام النفسي بما له من المميزات ككونه مدلولا
للكلام اللفظي وقائما بذاته سبحانه وتعالى قيام الصفة بالموصوف كالعلم
والقدرة والإرادة وأنه قديم وغير العلم والإرادة لا يرجع إلى معنى محصل، بل هو
أشبه شيء بالخيال.
الرابعة: أن القول بالكلام النفسي لا يتوقف على القول بتغاير الطلب مع
الإرادة كما يظهر من صاحب الكفاية (قدس سره)، وذلك لأن الطلب على هذا القول لا
يخلو من أن يكون تكوينيا أو تشريعيا، وعلى كلا التقديرين فهو ليس بكلام
نفسي. أما على الأول فهو قائم بالطالب قيام الفعل بالفاعل لا قيام الصفة

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 30.
55

بالموصوف والمفروض أن الكلام النفسي صفة لا فعل. وأما على الثاني فهو فعل
اعتباري لا واقع موضوعي له إلا في عالم الاعتبار، وأمر حادث وقائم بالمعتبر
قيام الفعل بالفاعل لا الصفة بالموصوف.
الخامسة: أن الأشاعرة قد استدلوا على الكلام النفسي بوجوه:
الوجه الأول: أنهم ذكروا عدة مميزات للكلام النفسي وانه بهذه المميزات
لا ينطبق على الكلام اللفظي، منها أنه مدلول للكلام اللفظي ومنها أنه قديم لا
حادث ومنها أنه قائم بذاته تعالى قيام الصفة بالموصوف لا الفعل بالفاعل ومنها
أنه غير العلم والإرادة.
ولكن قد تقدم أنه بتلك المميزات لا ينطبق على مدلول الخطابات القرآنية من
الاخبارية والانشائية لعدم توفرها فيه.
الوجه الثاني: أن الله تعالى قد وصف نفسه بالتكلم في كتابه الكريم وهذا يدل
على أنه صفة له تعالى لا فعل.
ولكن تقدم أنه مبني على الخلط بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية،
والتكلم من الصفات الفعلية ولا يمكن أن يكون من الصفات الذاتية.
الوجه الثالث: أن عدة من الآيات قد نصت على أن الله تعالى متكلم، ولا زم
ذلك أن يكون قيام التكلم بذاته تعالى قيام الصفة بالموصوف لا الفعل بالفاعل
وإلا لم يصح اطلاق المتكلم عليه، ومن هنا لا يصح اطلاق مثل النائم والمائت
ونحوهما عليه تعالى مع أن مبدئه قائم بذاته تعالى قيام الفعل بالفاعل.
والجواب: أن منشأ هذا الفرق اما السماع أو الفرق بين الفعل المتعدي والفعل
اللازم كما تقدم.
56

نظرية الفلاسفة
الإرادة من الصفات الذاتية ونقدها
قد تسأل أن ارادته تعالى وتقدس هل هي من الصفات الذاتية كالعلم والقدرة
ونحوهما أو من الصفات الفعلية كالخلق والرزق وغيرهما؟ فيه قولان: المعروف
والمشهور بين الفلاسفة هو القول الأول (1)، وقد اختاره جماعة من الأصوليين
أيضا منهم المحقق الخراساني (قدس سره) والمحقق الأصبهاني (قدس سرهما).
أما المحقق الخراساني (قدس سره) فقد ذكر في وجه ذلك أن ارادته تعالى التكوينية
عبارة عن العلم بالنظام الكامل التام وليست شيئا آخر (2)، فلذلك بنى على أنها
من الصفات الذاتية هذا، ولكن لا يمكن المساعدة على ما ذكره (قدس سره)، وذلك لأنه ان
أراد بهذا التفسير أن الإرادة علم مفهوما وبالحمل الأولي.
فيرد عليه أولا: أن مفهوم الإرادة ليس هو العلم بالنظام الكامل التام، بداهة
أن مفهوم الإرادة غير مفهوم العلم وليس لفظ الإرادة ولفظ العلم من اللفظين
المترادفين كالانسان والبشر. فالنتيجة أن تفسير الإرادة بالعلم تفسير
خاطئ جدا.
وثانيا: أن ذلك يستلزم خلف الفرض، لأن لازم ما أفاده (قدس سره) أن الإرادة
ليست صفة أخرى في قبال العلم، لأن ملاك تعدد الصفات الذاتية العليا تعدد
مفاهيمها في مرحلة المفهوم وتباينها في هذه المرحلة، فان مفهوم القدرة غير

(1) كما في الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة 6: 341. (السفر الثالث، الموقف الرابع، الفصل 7).
(2) كفاية الأصول: 67.
57

مفهوم العلم ومفهوم الحياة، وهكذا وأما مطابقها في الخارج فهو واحد بالذات
وهو ذاته الأحدية، لأن جميع صفاته الذاتية العليا عين ذاته خارجا والتغاير إنما
هو في المفاهيم فحسب، وعليه فلو كانت الإرادة عين العلم مفهوما وخارجا
فهي ليست صفة أخرى في مقابل العلم بل هي صفة العلم، وقد يعبر عنها
بالإرادة، وإن أراد بذلك أنها عين العلم خارجا وعينا. فيرد عليه أن ذلك مجرد
دعوى منه في المسألة ولم يأت ببرهان عليه، وسوف نشير إلى قيام دليل على
أنها من الصفات الفعلية دون الذاتية، وإن أراد بذلك أن الإرادة قسم من العلم
الأزلي وهو علمه تعالى بالنظام الكامل التام كالسميع والبصير فان الأول علمه
تعالى بالمسموعات والثاني علمه تعالى بالمبصرات.
فيرد عليه أولا: أن لازم ذلك أن الإرادة ليست صفة ذاتية مستقلة في مقابل
العلم والقدرة والحياة بل هي قسم من العلم وهو العلم بالنظام الكلي كالسميع
والبصير، وهذا خلف.
وثانيا: أن ذلك بحاجة إلى دليل وإقامة برهان ولا يكفي مجرد الدعوى
والمفروض أنه (قدس سره) لم يأت ببرهان على ذلك.
فالنتيجة أن ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) لا يرجع إلى معنى صحيح.
وأما المحقق الأصبهاني (قدس سره) فقد أفاد في وجة ذلك ما نصه: " لا ريب في أن
مفاهيم صفاته تعالى الذاتية متخالفة لا متوافقة مترادفة وإن كان مطابقها في
الخارج واحدا بالذات ومن جميع الجهات، مثلا مفهوم العلم غير مفهوم الذات
ومفهوم بقية الصفات وإن كان مطابق الجميع ذاته بذاته لا شيء آخر منضما إلى
ذاته فإنه تعالى صرف الوجود وصرف القدرة وصرف العلم وصرف الحياة
وصرف الإرادة، ولذا قالوا وجود كله وقدرة كله وعلم كله وحياة كله وإرادة
58

كله، مع أن مفهوم الإرادة مغاير لمفهوم العلم ومفهوم الذات وسائر الصفات،
وليس مفهوم الإرادة العلم بالنظام الأصلح الكامل التام كما فسرها بذلك المحقق
صاحب الكفاية (قدس سره)، ضرورة أن رجوع صفة ذاتية إلى ذاته تعالى وتقدس وإلى
صفة أخرى كذلك إنما هو في المصداق لا في المفهوم، لما عرفت من أن مفهوم كل
واحد منها غير مفهوم الآخر، ومن هنا قال الأكابر من الفلاسفة أن مفهوم
الإرادة هو الابتهاج والرضا أو ما يقاربهما معنى لا العلم بالصلاح والنظام ويعبر
عنه بالشوق الأكيد فينا، والسر في التعبير عن الإرادة فينا بالشوق المؤكد
وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالى هوانا لمكان إمكاننا ناقصون في الفاعلية
وفاعليتنا لكل شيء بالقوة، فلذا نحتاج في الخروج من القوة إلى الفعل إلى
مقدمات زائدة على ذواتنا من تصور الفعل والتصديق بفائدته والشوق الأكيد،
فيكون الجميع محركا للقوة الفاعلة المحركة للعضلات وهذا بخلاف الواجب
تعالى، فإنه لتقدسه عن شوائب الامكان وجهات القوة والنقصان فاعل بنفس
ذاته العليمة المريدة، وحيث أنه صرف الوجود وصرف الخير مبتهج بذاته أتم
الابتهاج وذاته مرضي لذاته أتم الرضا، وينبعث من هذا الابتهاج الذاتي وهو
الإرادة الذاتية ابتهاج في مرحلة الفعل، فان من أحب شيئا أحب اثاره وهذه
المحبة الفعلية هي الإرادة في مرحلة الفعل وهي التي وردت الاخبار عن الأئمة
الأطهار (عليهم السلام) (1). ما أفاده (قدس سره) في هذا النص أمور:
الأول: أن مفهوم الإرادة بالحمل الأولي الذاتي هو الرضا والابتهاج وهو غير
مفهوم العلم، فان مفهومه انكشاف الواقع فلا يصح تفسير أحدهما بالآخر وإن
كان مطابقهما واحدا بالذات وهو ذاته تعالى.

(1) نهاية الدراية 1: 278.
59

الثاني: أن الابتهاج والرضا في مرحلة الذات هو الإرادة الذاتية التي هي من
الصفات العليا الكمالية كالعلم والقدرة ونحوهما، وفي مرحلة الفعل هو الإرادة
الفعلية التي هي من آثار ارادته الذاتية.
الثالث: أن الإرادة في الانسان هي الشوق الأكيد المحرك للقوة العاملة
للعضلات نحو المراد، وتحققها في النفس يتوقف على مقدمات كالتصور
والتصديق بالفائدة ونحوهما، بينما الإرادة في ذاته تعالى لا تتوقف على أية مقدمة
خارجة عن ذاته المقدسة كعلمه وقدرته ونحوهما.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه الأمور:
أما الأول: فلأنه (قدس سره) إن أراد بهذا التفسير تفسيرها بمعناها العرفي اللغوي،
ففيه أنه ليس معناها لا لغة ولا عرفا، فان الإرادة مستعملة في أحد معنيين:
الأول: الشوق المؤكد في النفس. والثاني: المشيئة والاختيار.
وإن أراد (قدس سره) به بيان حقيقة الإرادة فإنها من الصفات الذاتية العليا كالعلم
والقدرة والحياة ونحوها، فيرد عليه أن ما أفاده (قدس سره) من البيان في هذا النص
لا يتضمن أي برهان على أن ارادته تعالى من الصفات الذاتية كالعلم والقدرة ولا
إشارة إلى ذلك، وإنما هو بيان وتقريرا اختاره (قدس سره) من دون الإشارة إلى تبريره
وسببه، فلذلك لابد من النظر إلى ما هو المبرر لاختيار الفلاسفة وجماعة من
الأصوليين لهذه النظرية مع أن المستفاد من الكتاب والسنة إن إرادته به تعالى
فعله كسائر أفعاله، اما من الكتاب فقوله تعالى: (إذا أراد شيئا أن يقول له كن
فيكون) (1)، فإنه ناص في أن ارادته تعالى هي أمره التكويني ويعبر عنه بمشيئته

(1) سورة يس (36): 82.
60

تعالى أيضا، واما من السنة فهي روايات كثيرة تنص بمختلف الألسنة في أن
ارادته فعله تعالى (1) وفي بعضها نفي الإرادة الأزلية الذاتية (2) وفي بعضها الآخر
إن من يقول بأن الله لم يزل مريدا شائيا فليس بموحد (3)، وهكذا.
ولكن على الرغم من ذلك فقد اختار هؤلاء الجماعة تبعا للفلاسفة ان ارادته
تعالى عين ذاته المقدسة كالعلم والقدرة وإنها هي الابتهاج والرضا في مرتبة ذاته
تعالى، ولكن هذا الاختيار في مقابل الكتاب والسنة لا يمكن أن يكون جزافا
وبدون نكتة مبررة لذلك، وتلك النكتة التي دعتهم إلى اختيار هذه النظرية
متمثلة في أمور:
الأول: أن اختيار الفعل مرتبطة بكونه مسبوقا بالإرادة بنحو ارتباط المعلول
بالعلة وإلا كان الفعل تسريا لا إراديا اختياريا هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى ان الإرادة في الانسان هي الشوق الأكيد في النفس، فإنه
إذا بلغ مرتبة الإرادة ترتب عليها تحريك القوة العاملة المحركة للعضلات قهرا نحو
الفعل في الخارج وإيجاده فيه، فالإرادة حصة خاصة من الشوق المؤكد في النفس
وهي ما ترتب عليها أثرها (وهو تحريك العضلات) ترتب المعلول على العلة.
وأما في الواجب تعالى فهي عين ذاته خارجا كالعلم والقدرة ونحوهما
ولا يمكن أن تكون عين فعله الخارجي الاختياري، لأن اختيارية فعله تعالى
مرتبطة بكونه مسبوقا بالإرادة، فكيف يعقل أن يكون عين الإرادة، فلذلك لابد

(1) الكافي 1: 109 ح 3، باب الإرادة إنها من صفات الفعل. بحار الأنوار 4: 137 ح 4، باب القدرة
والإرادة.
(2) الكافي، الباب المتقدم، ح 1. بحار الأنوار، الباب المتقدم، ح 16.
(3) التوحيد للصدوق - عليه الرحمة - ص 338، ح 5 باب المشيئة والإرادة. بحار الأنوار، الباب
المتقدم، ح 18.
61

من الالتزام بكون ارادته تعالى عين ذاته حتى تكون أفعاله الاختيارية مسبوقة
بها وإلا كانت قسرية لا إرادية اختيارية.
الثاني: أن مبدأ العلية مبدأ عام في الكون وإنه من القضايا الأولية الفطرية،
وسر حاجة الشئ إلى هذا المبدأ امكانه الوجودي وفقره الذاتي، وعلى هذا
الأساس فامكان الفعل الاختياري عين ارتباطه الوجودي بعلته وفقره الذاتي
إليها وهي الإرادة ولا يمكن فرض تحققه ووجوده بدونها وإلا لزم خروجه
واستغنائه عن مبدأ العلية وهو كما ترى هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى ان ارادته تعالى وتقدس حيث أنها عين ذاته، فنتيجة ذلك
أن ذاته المريدة هي العلة التامة للأشياء وتكوينها خارجا، باعتبار أن فاعليته
تعالى لما كانت منزهة عن جميع شوائب الامكان وكافة جهات النقصان والقوة
فهي فعلية من كل الجهات ومساوقة لسد تمام أبواب العدم، فإذا كانت فاعليته
في مرتبة ذاته تامة ومطلقة فيستحيل انفكاك الأشياء عنها كاستحالة انفكاك
المعلول عن العلة التامة، أو فقل أنه تعالى فاعل بنفس ذاته العليمة المريدة،
فلذلك تكون فاعليته من أتم مراتب الفاعلية، باعتبار أنه صرف الوجود
وصرف الإرادة ومنزه عن جميع شوائب النقص والامكان. وأما في الانسان
فإرادته التي هي مرتبة خاصة من الشوق المؤكد علة تامة لفعله في الخارج، لأنها
إذا تحققت ترتب عليها تحريك العضلات قهرا نحو إيجاد الفعل، وحينئذ
فيستحيل انفكاكه عنها كاستحالة انفكاك المعلول عن العلة التامة.
الثالث: أنه لا يوجد هناك شيء آخر بديلا عن الإرادة يصلح أن يكون علة
للفعل، اما العلم فهو لا يصلح أن يكون علة لوجود المعلوم في الخارج لأنه
كاشف عنه وكذلك القدرة، فاذن بطبيعة الحال أن ما يصلح أن يكون علة للفعل
62

هو الإرادة، فلذلك التزموا بأن ملاك اختيارية الفعل هو كونه مسبوقا بها
ومعلولا لها وإلا كان قسريا لا إراديا.
ولنا تعليق على هذه النظرية وهو أن الكلام في المسألة ليس في
الاصطلاحات الفارغة وأن الفعل إرادي أو ليس بإرادي، وإنما الكلام في واقع
الحال فيها، ومن الطبيعي أن الفعل واقعا لا يمكن أن يكون اختياريا إذا كان
معلولا للإرادة، وذلك لأن الإرادة بتمام مقدماتها ومبادئها غير اختيارية، وهذه
المقدمات والمبادئ معلولة لوجود عللها في الواقع وناشئة بالضرورة منها إلى
أن تنتهي السلسلة إلى الواجب بالذات، وعليه فلا محالة يكون حال الفعل
الصادر من الانسان بالإرادة كحال يد المرتعش واصفرار وجه الخائف عند
الخوف الناشئ بالضرورة من عوامل مؤثرة في النفس واضطرابها الناشئة
بالضرورة من عللها الطبيعية إلى أن تنتهي إلى الواجب بالذات، فإذن كيف
يكون هذا الفعل اختياريا، فان الاختيار ينافي الوجوب لأن الوجوب مساوق
للاضطرار المقابل للاختيار، وعلى هذا فلا فرق بين الفعل الصادر من الانسان
بالإرادة وبين حركة يد المرتعش وحركة الأمعاء عند الخوف إلا في التسمية
والاصطلاح، فيسمى الأول بالفعل الاختياري الإرادي، والثاني بالفعل
الاضطراري القسري، وأما بحسب الواقع فلا فرق بينهما أصلا إذ كما أن عند
تحقق الخوف تحقق حركة الأمعاء قهرا شاء أو لم يشأ، كذلك عند تحقق الإرادة في
النفس تحقق الفعل في الخارج قهرا شاء أو لم يشأ.
والخلاصة، أن قاعدة أن الممكن ما لم يجب وجوده بالغير لم يوجد تحكم على
فعل الانسان باعتبار أنه ممكن، ونتيجة هذا أنه غير مختار في أفعاله لمكان أنها
تصدر منه بالضرورة والضرورة تنافي الاختيار ولا تجتمع معه، ولا زم ذلك قبح
63

محاسبة العبد على أفعاله والعقاب عليه فإنه كعقاب المرتعش على حركة يده، بل
يلزم من ذلك لغوية التكليف نهائيا بمعنى أن ارسال الرسل وإنزال الكتب وتبليغ
الأحكام لغو وبلا فائدة هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الإرادة في نفسها لا تصلح أن تكون علة تامة للفعل،
وذلك لأن وجدان كل فرد تدرك بالضرورة أن الإرادة مهما بلغت من القوة
والشدة في النفس كما وكيفا لم تترتب عليها حركة العضلات قهرا وبالضرورة
كحركة يد المرتعش أو اصفرار وجه الخائف عند الخوف، وهذا غير قابل
للمناقشة هذا من جهة، ومن جهة ثانية قد تتحرك العضلات نحو الفعل وإيجاده
في الخارج رغم عدم وجود الإرادة في النفس بل قد يكون الموجود فيها الكراهة
بديلة عنها، ونتيجة هاتين الجهتين أن صدور الفعل من الانسان لا يمكن أن يتبع
وجود الإرادة في النفس كتبعية المعلول لوجود العلة، ومن هنا فالصحيح في
المسألة هو ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) (1) وأوضحه السيد الأستاذ (قدس سره) (2) من أن
هناك شيئا آخر غير الإرادة والفعل مرتبط به وهو السلطنة والاختيار، فان
سلطنة الانسان واختياره على أفعاله أمر وجداني تدركه الفطرة السليمة وهي
تكفي لتحقق الفعل في الخارج كانت هناك إرادة في النفس أم لا، ولا يمكن فرض
احتياجها في ذلك إلى ضم مقدمة أخرى إليها وإلا لتخرج السلطنة عن كونها
سلطنة وهو خلف.
وبكلمة، أن إسناد وجود الفعل إلى السلطنة وصدوره منها ليس معناه
تخصيص مبدأ العلية بغير الفعل الاختياري وتحديده، بداهة أنه لا يمكن تحديده،

(1) أجود التقريرات 1: 137.
(2) محاضرات في أصول الفقه 2: 53 - 59.
64

لأن هذا المبدأ كنظام عام للكون من القضايا الفطرية الأولية المبرهنة باستحالة
استغناء الممكن في وجوده عن العلة، والا لم يستقم علم ولا نظام في الكون ولا
يمكن اثبات المبدأ للعالم. نعم، قاعدة أن الممكن ما لم يجب وجوده لم يوجد،
ليست كقاعدة عامة للكون، فان الفطرة السليمة إنما تحكم بوجوب وجود
المعلول بوجود علته إذا كان من سنخ وجودها وموجودا بوجودها في مرتبتها
بنحو الأتم، ومن هنا يكون وجودا لمعلول من مراتب وجود العلة النازلة، وأما
الفعل الاختياري فهو وإن كان ممكنا وبحاجة إلى علة إلا أن وجوده لما لم يكن من
سنخ وجود علته وهي السلطنة، فلا تحكم الفطرة السليمة الوجدانية بوجوب
وجوده بوجودها بل هو ظل على امكانه، لأن نسبة السلطنة إليه وجودا وعدما
نسبة واحدة فلا ترجيح لأحدهما على الآخر، وبذلك يختلف الفعل الاختياري
عن المعلول الطبيعي، فان المعلول الطبيعي بما أن وجوده من سنخ وجود علته
فيجب وجوده بوجودها، والفعل الاختياري بما أن وجوده ليس من سنخ وجود
علته فلا يجب وجوده بوجودها، فلهذا لا يكون الفعل الاختياري من صغريات
قاعدة أن الممكن ما لم يجب وجوده لم يوجد. فالنتيجة أن الفعل يصدر من
الانسان بالسلطنة والاختيار وهي علة تامة له، ومع ذلك لا يخرج الفعل عن
اختيار الانسان وسلطانه وإلا لزم الخلف هذا في الانسان، وأما في الواجب تعالى
فلنا دعويان:
الأولى: أن ارادته تعالى من الصفات الفعلية دون الذاتية.
الثانية: على تقدير تسليم أنها من الصفات الذاتية ومع ذلك لا يمكن أن تكون
علة تامة لفعله.
أما الدعوى الأولى فلا يمكن لنا اثبات أن ارادته تعالى من الصفات الذاتية
65

كالعلم والقدرة دون الصفات الفعلية ولا برهان على ذلك ولا تحكم به الفطرة
السليمة، وأما التزام الفلاسفة بذلك فهو مبني على نقطة خاطئة قد تقدمت
الإشارة إليها، فإذن لا مبرر للالتزام بأن الإرادة من صفات الذات كالعلم
والقدرة، وأما تفسير صاحب الكفاية (قدس سره) الإرادة بالعلم بالنظام الأتم فقد مر أنه
تفسير خاطئ لأن مفهوم الإرادة غير مفهوم العلم. وأما تفسير المحقق
الأصبهاني (قدس سره) الإرادة بالرضا والابتهاج (1) فأيضا كذلك، لأنه إن أراد بذلك
مفهوم الرضا بالحمل الأولي الذاتي، فيرد عليه أن مفهوم الإرادة غير مفهوم
الرضا ولا تكون الإرادة مع الرضا من اللفظين المترادفين، وإن أراد به واقع
الرضا بالحمل الشايع، فيرد عليه أن الرضا بالحمل الشايع من صفات الفعل لا
الذات، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن هناك شاهدين على أن ارادته تعالى من الصفات الفعلية
دون الذاتية.
الشاهد الأول: الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: (إذا أراد شيئا أن
يقول له كن فيكون) (2)، فإنه ناص في أن ارادته تعالى فعله وأمره التكويني،
ودعوى أن الآية الشريفة بنفسها لا تنفي الإرادة الذاتية وإن كانت صحيحة إلا
أنك عرفت أنه لا دليل عليها وبضم ذلك إلى الآية الشريفة. فالنتيجة، أن ارادته
تعالى فعلية لا ذاتية.
وأما السنة فهناك روايات كثيرة قد صرحت بأن ارادته تعالى مشيئته وهي
فعله، وفي بعضها قد صرح بنفي الإرادة الذاتية له تعالى وسوف نشير إلى تلك

(1) نهاية الدراية 1: 246 و 279.
(2) سورة يس (36): 82.
66

الروايات.
الشاهد الثاني: ما أشرنا إليه آنفا من الفرق بين الصفات الذاتية العليا وبين
الصفات الفعلية ثبوتا واثباتا.
أما ثبوتا فلا يمكن فرض خلو ذاته المقدسة عن الصفات العليا الذاتية كالعلم
والقدرة ونحوهما وإلا لزم أن تكون ذاته تعالى في مرتبة ذاته غير عالمة وغير
قادرة وبحاجة إلى العلم والقدرة والحياة وهذا مستحيل، بداهة أن ذاته المقدسة
في مرتبة ذاته عين العلم والقدرة والحياة وغنية بالذات ولهذا يكون تصورها
للذات الواجبة ملازما للتصديق بثبوتها لها عينا، بينما يمكن فرض خلو ذاته
المقدسة عن الصفات الفعلية كالخلق والرزق ونحوهما والإرادة من هذا القبيل،
إذ لا يلزم من فرض خلو ذاته في مرتبة ذاته عن الإرادة أي محذوره لازم من
فرض خلوها في تلك المرتبة من العلم والقدرة والحياة.
وأما اثباتا فلما تقدم من أن أدوات النفي والشرط والتمني والترجي وما شاكل
ذلك لا تدخل على الصفات الذاتية، بينما تلك الأدوات تدخل على الصفات
الفعلية، وحيث أنه يصح دخولها على الإرادة، فهو دليل على أنها من الصفات
الفعلية، فاذن لا مجال للشك في أن إرادته تعالى فعلية لا ذاتية.
وأما الدعوى الثانية: فلو سلمنا أن ارادته تعالى ذاتية كالعلم والقدرة، فمع
ذلك لا يمكن أن تكون علة لفعله بقاعدة أن الممكن ما لم يجب وجوده بالغير لم
يوجد، لأن نتيجة ذلك أن لا يكون الواجب تعالى مختارا في فعله، باعتبار أنه
ناشئ بالضرورة من ارادته الواجبة بالذات والضرورة تنافي الاختيار، ومعنى
ذلك نفي القدرة والسلطنة عن الله تعالى على أفعاله وبالتالي أنه لا فرق من هذه
الناحية بين أن يكون مبدأ الكون هو الله تعالى أو المادة العمياء وهو كما ترى،
67

ومجرد الاصطلاحات والتعبيرات الفارغة بأن الله تعالى فاعل بالإرادة
والاختيار والمادة فاعلة بالايجاب والقسر، لا قيمة لها ولا تغير الواقع عما هو
عليه، فمن أجل هذه النقطة وحكم الفطرة السليمة بأن فعله تعالى صادر من ذاته
المقدسة باختياره وسلطنته المطلقة التامة لا بإرادته وإن قلنا فرضا أنها ذاتية،
وقد مر أن ارتباط الفعل الاختياري بالسلطنة غير ارتباط المعلول الطبيعي لعلته
التامة، فان الأول لا يجب وجوده بوجود السلطنة بل يبقى على حد امكانه، وأما
الثاني فهو يجب وجوده بوجود علته.
ومن هنا قلنا أن ارتباط الأول بها لا يكون من صغريات قاعدة أن الممكن
ما لم يجب وجوده لم يوجد، باعتبار أن نسبة السلطنة إلى الفعل وجودا وعدما
نسبة واحدة، ومع ذلك تكفي لتحقق أحد الطرفين بدون الحاجة إلى ضم مقدمة
أخرى إليها وإلا لتخرج السلطنة عن كونها سلطنة وهو خلف، وقد يعبر عن
السلطنة بالاختيار تارة وبالمشيئة أخرى، وسيأتي هذا البحث بمزيد من
التوضيح قادما.
بقي هنا شيء هو أنه قد ورد في صحيحة عمر بن اذنيه قوله (عليه السلام): " خلق الله
المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة " (1).
يقع الكلام في المراد من المشيئة المخلوقة بنفسها، فهل المراد منها السلطنة
والاختيار أو الإرادة فيه قولان:
فذهب المحقق الأصبهاني (قدس سره) إلى القول الأول بدعوى أن المشيئة على نوعين:

(1) الكافي 1: 110، ح 4، باب الإرادة أنها من صفات الفعل. التوحيد للصدوق - عليه الرحمة - ص
148، ح 19، باب الذات وصفات الفعل.
68

مشيئة ذاتية وهي عين ذاته المقدسة كبقية صفاته الذاتية فالمشيئة الواجبة
عين الواجب تعالى، ومشيئة فعلية وهي عين الوجود الاطلاقي المنبسط على
الماهيات، والمراد من المشيئة في هذه الرواية وغيرها هو المشيئة الفعلية التي هي
عين الوجود المنبسط والوجود الاطلاقي، وعلى هذا فمعنى الحديث الشريف هو
أن موجودية الوجود المنبسط بنفسها لا بوجود آخر، وأما موجودية سائر
الأشياء في النظام الجملي التسلسلي فإنما هي بالوجود المنبسط وهو فعله
الأول الاطلاقي (1).
وغير خفي أن هذا التفسير منه (قدس سره) مبني على نظرية الفلاسفة القائلة بتوحيد
الفعل على أساس مبدأ التناسب والسنخية بين ذاته المريدة بين الأشياء، وحيث
أن هذا المبدأ غير متوفر بين ذاته المقدسة المريدة بين الأشياء بكافة أشكالها
المادية، فلذلك التزموا بالنظام الجملي الطولي وأن الصادر الأول منه تعالى هو
الوجود الصرف المعبر عنه تارة بالوجود المنبسط وأخرى بالوجود الاطلاقي
الذي لا قيد له. وفيه أنه لا أساس لما أفاده (قدس سره) من التفسير لأنه مبني على أن
تكون لله تعالى إرادتان:
إرادة ذاتية وهي العلة التامة للأشياء وفعلية، ولكن قد تقدم أنه لا يمكن أن
تكون ارادته ذاتية، وعلى تقدير تسليم أنها ذاتية فلا يمكن أن تكون علة لفعله
تعالى كما مر، بل العلة له سلطنته المطلقة التامة على الأشياء بنسبة واحدة
بالنسبة إلى كلا طرفيها من الوجود والعدم، ومن هنا يظهر أن نظرية الفلاسفة
التي ترتكز على علية ذاته المقدسة المريدة التامة من جميع الجهات على أساس
مبدأ التناسب والسنخية بين العلة والمعلول، تستلزم نفي القدرة الأزلية عن الله

(1) أنظر نهاية الدراية 1: 287 - تعليقة منه (قدس سره).
69

تعالى وضرورة صدور الفعل منه واضطراره إليه واقعا، وحينئذ فالتعبير عن أنه
تعالى مختار في أفعاله لا مضطر وانه فاعل بالإرادة لا بالايجاب والضرورة مجرد
اصطلاحات متداولة بينهم وتعبيرات فارغة بدون المحتوى هذا، فالصحيح هو
القول الأول وأن المراد من المشيئية المخلوقة بنفسها هو السلطنة المطلقة للذات
الواجبة، والمراد من خلقها بنفسها أنها ثابتة كذلك باعتبار أنها من آثار قدرته
تعالى الذاتية، فاذن يكون معنى الحديث الشريف خلق الله المشيئة بنفسها أي
أثبت سلطنته المطلقة وأحكمها بنفسها لا بسلطنة أخرى، والمراد من الاثبات،
الاثبات الأزلي، ثم أثبت سائر الأشياء بها يعني أظهرها وأوجدها، وسيأتي
مزيد من البحث عنها في ضمن البحوث الآتية.
نتيجة هذا البحث أمور:
الأول: أن الفلاسفة وجماعة من الأصوليين منهم صاحب الكفاية والمحقق
الأصبهاني (قدس سرهما) ذهبوا إلى أن ارادته تعالى من الصفات الذاتية كالعلم والقدرة، أما
صاحب الكفاية (قدس سره) فقد فسر الإرادة بالعلم بالنظام الأكمل والأتم، ولكن تقدم
أن هذا التفسير خاطئ جدا لأن مفهوم الإرادة غير مفهوم العلم، وإلا فلازم
ذلك أن تكون الإرادة والعلم صفة واحدة لا صفتين، لأن تعدد الصفات الذاتية
إنما هو بتعدد مفاهيمها وإلا فهي في الواقع الخارجي شيء واحد ولا تعدد فيه.
وأما المحقق الأصبهاني (قدس سره) فقد فسرها بالابتهاج والرضا، ولكن قد مر عدم
صحة هذا التفسير أيضا.
الثاني: أن منشأ التزام هؤلاء بأن ارادته تعالى من الصفات الذاتية هو أن
فعله ممكن والممكن ما لم يجب وجوده بالغير لم يوجد، وحينئذ فلابد له من علة،
وذاته المقدسة في نفسه لا تصلح أن تكون علة وكذلك علمه وقدرته، وما يصلح
70

أن يكون علة له هو ارادته تعالى، وهذه الإرادة لابد من أن تكون عين ذاته
تعالى وتقدس، إذ لو كانت عين فعله فهي بحاجة إلى علة، فلذلك التزموا بأن
ارادته تعالى من الصفات الذاتية. ولكن قد تقدم أن فعله تعالى لا يمكن أن يكون
معلولا لإرادته حتى ولو قلنا بأنها من الصفات الذاتية.
الثالث: الصحيح أن ارادته تعالى من الصفات الفعلية لا الذاتية، اما أولا:
فلأنه لا يوجد في كلمات القائلين بأنها من الصفات الذاتية برهان على ذلك، وإنما
التزموا بذلك من جهة ما أشرنا إليه من النكتة وبعد بطلان تلك النكتة وعدم
الأصل لها فلا موجب للالتزام بأنها من الصفات الذاتية. وثانيا: أن الخصائص
والمميزات للصفات الذاتية العليا غير متوفرة فيها، وانما المتوفر فيها الخصائص
والمميزات للصفات الفعلية ثبوتا واثباتا على تفصيل تقدم. وثالثا: أن الروايات
الكثيرة تنص على أن ارادته تعالى من الصفات الفعلية لا الذاتية. ورابعا: أن
فعل الانسان لا يمكن أن يكون معلولا لإرادته التي هي عبارة عن الشوق المؤكد
في أفق نفسه وإلا لزم أن لا يكون مختارا في أفعاله، باعتبار أن الإرادة بتمام مبادئها
غير اختيارية ومعلولة لعللها وناشئة بالضرورة منها إلى أن تنتهي السلسلة إلى
الواجب بالذات، ونتيجة ذلك قبح العقاب بل لغوية التكليف نهائيا.
الرابع: أن المراد من المشيئة الواردة في الآيات والروايات منها صحيحة عمر
بن اذينه: " خلق الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة "، هو سلطنته
المطلقة التامة على الأشياء، والمراد من خلقها بنفسها أنها ثابتة كذلك بلحاظ أنها
من آثار القدرة الذاتية كما مر، وليس المراد منها الوجود المنبسط على الماهيات،
بل لا يمكن أن يكون المراد منها ذلك لأنه مبني على مبدأ التناسب والسنخية بين
ذاته المقدسة وبين فعله، وقد تقدم أن هذا البناء مستحيل.
71

نظرية الأشاعرة
مسألة الجبر ونقدها
المعروف والمشهور في الألسنة أن الأشاعرة يقولون بأن العبد في يد الله تعالى
كالميت في يد الغسال، فكما أنه لا حول ولا قوة للميت أصلا وإنما الحول والقوة
تماما للغسال فكذلك لا حول ولا قوة للعبد وأن الحول والقوة كله لله تعالى
وتقدس وقد استدل على هذه النظرية بوجوه:
الوجه الأول: أن الفعل ممكن والممكن متساوي الطرفين فلا يقتضي وجوده
ولا عدمه فتحقق أحد الطرفين دون الطرف الآخر بحاجة إلى مرجح، بداهة أنه
لو تحقق بدون وجود المرجح لكان من الصدفة وهي مستحيلة، حيث أن لازم
ذلك سد باب اثبات الصانع باعتبار أن كل شيء ينطوي على امكان الوجود
وامكان العدم بصورة متعادلة، فإذا وجد من دون علة فهو صدفة وهي تمنع عن
اثبات المبدأ الأول، إذ لو أمكن وجود شيء في الخارج بدون علة لم يمكن اثباته،
فلذلك لا يمكن وجود فعل في الخارج بدون وجود مرجح فيه وعليه فتنقل
الكلام إلى ذلك المرجح، فان كان ممكنا فوجوده بحاجة إلى مرجح آخر وهكذا
إلى أن يذهب إلى مالا نهاية له، وبما أن ذلك مستحيل فلابد أن ينتهي إلى مرجح
واجب بالذات، ولا زم ذلك خروج الفعل عن اختيار الانسان، لأن وجوده
مستند في نهاية المطاف إلى الواجب بالذات، فلا يكون صدوره منه بالاختيار بل
هو بمثابة الآلة بدون حول ولا قوة له.
والجواب: أن هذا الوجه مبني على أن صدور الفعل من الانسان منوط
بوجود مرجح خارج عن اختياره لقاعدة أن الممكن ما لم يجب وجوده بالغير لم
72

يوجد. ولكن هذا البناء غير صحيح لأن المرجح المتوهم له في المقام هو إرادة
الانسان في النفس، وحيث أن هذه الإرادة بتمام مقدماتها ومبادئها غير اختيارية
وناشئة بالضرورة من عللها الواقعية إلى أن تنتهي إلى الواجب بالذات، فمن
أجل ذلك يكون الانسان غير مختار في أفعاله لأن الضرورة تنافي الاختيار.
ولكن قد تقدم أن الإرادة بمعنى الشوق المؤكد في النفس مهما بلغت ذروتها من
القوة والشدة كما وكيفا لعوامل داخلية أو خارجية لم توجب ضرورة انبعاث
النفس نحو تحريك القوة العاملة للعضلات خارجا وترتبه عليها ترتب المعلول
على العلة التامة قهرا، وهذا أمر فطري وجداني وغير قابل للبحث والنقاش،
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الإرادة لو كانت علة تامة للفعل فلازمه أن يكون
الانسان غير مختار في أفعاله، لأن ضرورتها بالإرادة بقاعدة أن الشئ ما لم يجب
لم يوجد تنافي الاختيار، ونتيجة هذا قبح المحاسبة والعقوبة عليها بل لغوية
التكليف نهائيا كما مر.
ومن ناحية ثالثة أن الفطرة السليمة الوجدانية تحكم بأن فعل الانسان مرتبط
بسلطنته وقدرته كانت هناك إرادة في النفس أم لا، وقد تقدم أن نسبة السلطنة
إلى الفعل وجودا وعدما على حد سواء. فالفعل لا يخرج عن حد الامكان
والتعادل بالسلطنة عليه، وهذه السلطنة رغم أن نسبتها إلى كل من وجود الفعل
وعدمه على حد الامكان لا الضرورة، تكفي لتحقق أحد الطرفين بدون الحاجة
لها إلى ضم مقدمة زائدة إليها وإلا لزم خلف فرض السلطنة عليه، ومن هنا قلنا
أن ارتباط الفعل الاختياري بالسلطنة بما أنه في حد الامكان، فلا يكون مصداقا
لقاعدة أن الممكن ما لم يجب وجوده بالغير لم يوجد.
73

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي أن الانسان مختار في أفعاله وإنها تحت
سلطانه وقدرته بدون حاجة إلى مقدمة زائدة وهذا لا ينافي كون مبادئ الفعل
من الحياة والقدرة والعلم بيده تعالى وتحت سلطانه المطلق، وذلك لأن الانسان
مختار طالما فيه الحياة والقدرة والعلم. وهذا يكفي في حكم العقل بحسن التكليف
والحساب والعقاب.
وإن شئت قلت أن أفعال العباد ليست معلولة للإرادة وخاضعة لها بل هي
خاضعة لسلطنة العباد وقدرتهم عليها مباشرة كانت هناك إرادة أم لا، وأما
مبادئ هذه الأفعال فهي خاضعة لسلطنة الله تعالى وقدرته، ونتيجة ذلك أن
صدور الفعل من العبد بحاجة إلى مقدمتين:
الأولى: بيد العبد وهي سلطنته وقدرته عليه.
الثانية: بيده تعالى وتقدس، والمقدمة الأولى تمتاز عن الثانية بأمرين:
أحدهما أنها في طول الثانية ومتفرعة عليها. ثانيهما: أن مقدمية الأولى بنحو
المباشر والثانية بالواسطة، وهذا هو معنى الأمر بين الأمرين كما سوف نشير إليه
تفصيلا (1).
الوجه الثاني: أن فعل العبد ممكن وليس بواجب ولا ممتنع، ومعنى امكانه أن
وجوده وعدمه متعادلان ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، فإذا كان ممكنا كان
مقدورا لله تعالى، ولا شيء مما هو مقدور لله تعالى بواقع بقدرة العبد، لاستحالة
اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد، فاذن لا محالة يقع بقدرة الله عز وجل
دون العبد (2).

(1) عند البحث عن نظرية الامامية.
(2) أنظر شرح المواقف (للشريف الجرجاني) 8: 148.
74

والجواب: أن هذه الوجه مبني على الخلط بين المقدور بالمباشرة والمقدور
بالواسطة، فان فعل العبد وإن كان مقدورا لله تعالى إلا أنه مقدور بواسطة قدرته
سبحانه على مبادئه ومقدماته لا عليه مباشرة لاستحالة تعلق سلطنته به بنحو
المباشر، وعلى هذا فقدرة العبد على الفعل مشروط ببقاء حياته وقدرته وعلمه
به بنحو القضية الشرطية، فإنه طالما تكون المبادئ موجودة في العبد فهو قادر
على الفعل وصادر منه باختياره وسلطنته. فاذن ما يكون متعلقا لقدرة العبد
وسلطنته مباشرة وهو فعله، يستحيل أن يكون متعلقا لقدرة الله تعالى وسلطنته
كذلك، وما يكون متعلقا لقدرته سبحانه وسلطنته مباشرة وهو مبادئ الفعل،
يستحيل أن يكون متعلقا لقدرة العبد وسلطنته كذلك.
فالنتيجة: أنه لا يلزم من قدرة العبد على فعله وكونه تحت سلطنته واختياره
اجتماع قدرتين مؤثرتين فيه، وبكلمة أن ما في هذا الوجه من الصغرى والكبرى
يعني أن فعل العبد ممكن وكل ممكن مقدور لله تعالى وإن كان صحيحا، ضرورة
أن الممكنات بكافة أنواعها وأشكالها مقدورة له تعالى، إلا أن ما رتبه على تلك
الكبرى من أنه لا شئ مما هو مقدور لله بواقع تحت قدرة العبد، معللا بامتناع
اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد، خاطئ جدا ولا واقع موضوعي
له، وذلك لأن أفعال العباد رغم كونها مقدورة لله تعالى من ناحية أن مبادئها بيده
سبحانه وتعالى، مقدورة للعباد أيضا وواقعة تحت اختيارهم وسلطانهم
مباشرة. ونتيجة ذلك أن الأفعال مقدورة لله عز وجل بالواسطة وللعبد
بالمباشرة ولا تنافي بينهما أصلا، فاذن لا يرجع هذا الوجه إلى معنى محصل.
الوجه الثالث: ما نسب إلى أبي الحسن الأشعري على ما في شرح المواقف
وحاصل هذا الوجه، أن فعل العبد صادر منه في الخارج بقدرة الله تعالى وليس
75

لقدرته تأثير فيه، غاية الأمر أن سنة الله قد جرت على إيجاد القدرة والاختيار
في العبد وإيجاد فعله مقارنا لهما إذا لم يكن هناك مانع في البين، فيكون فعل العبد
مخلوقا لله إبداعا وإحداثا من دون تأثير قدرة العبد وإرادته فيه، نعم أنه
مكسوب له والمراد به مقارنته لقدرته وإرادته وكونه محلا له (1).
والجواب: أنه إريد بوقوع فعل العبد بقدرة الله وحدها وقوعه بها مباشرة،
فقد عرفت أنه مستحيل لاستحالة تعلق مشيئة الله تعالى وسلطنته بفعل العبد
كذلك، لأن المحل غير قابل لذلك، وإن أريد به أن مباديه من الحياة والقدرة
ونحوهما واقعة بقدرته سبحانه وتعالى وحدها فهو صحيح. ولكنه لا يمنع عن
كون الفعل تحت قدرة العبد وسلطنته مباشرة، إذ من الواضح أن وقوع المبادئ
بقدرته تعالى لا يستلزم ضرورة وقوع الفعل من العبد في الخارج وصدوره منه،
بداهة أن تلك المبادئ موجودة في العبد مع أن الفعل قد يصدر منه، وقد
لا يصدر فلا ملازمة بين وجودها ووقوع الفعل منه بل هو منوط باختيار العبد
وسلطنته وهي تكفي لتحققه بدون الحاجة إلى ضم مقدمة خارجية إليها.
وبكلمة أن وقوع الفعل من العبد يتوقف على مقدمتين طوليتين:
الأولى: حياة العبد وقدرته وعلمه.
الثانية: اختيار العبد وسلطنته عليه مباشرة، وبانتفاء كل واحدة منهما
يستحيل وقوع الفعل في الخارج، فالمقدمة الأولى تحت قدرة الله وسلطنته
المطلقة التامة والمقدمة الثانية بيد العبد، فإذا كانت المقدمة الأولى متحققة فوقوع
الفعل في الخارج باختيار العبد ومشيئته بدون التوقف على أي مقدمة أخرى.

(1) شرح المواقف للشريف الجرجاني ص 145 - 146.
76

وأما ما في هذا الوجه من أن عادة الله قد جرت على إيجاد القدرة والاختيار في
العبد، فإذا لم يكن هناك مانع من إيجاد فعله فأوجده مقارنا لهما فيكون فعله
مخلوقا لله سبحانه احداثا وابداعا.
فان أريد بذلك إيجاده تعالى فعل العبد مباشرة من دون دخل لقدرة العبد
واختياره فيه فقد مر أنه مستحيل، لأن الفعل الصادر من العبد غير قابل لتعلق
قدرته تعالى واختياره به مباشرة.
وإن أريد به إيجاده بالواسطة بمعنى أن مبادئ هذا الفعل ومقدماته الأولية
بيده تعالى وتحت سلطانه فهو صحيح ولذلك يصح اسناده إليه تعالى، باعتبار أن
المقدور بالواسطة مقدور، ولكن فعلية وقوعه في الخارج بيد العبد مباشرة
وباختياره، فإنه إذا شاء تحقق بدون التوقف على مقدمة أخرى، لا أن وقوعه فيه
مقارن لقدرته بدون التأثير لها فيه، فإنه خلاف الوجدان والفطرة السليمة.
ومن هنا يظهر أن سنة الله قد جرت على ذلك لا على مجرد التقارن الذي لا
تقبله الفطرة والوجدان، والنكتة في ذلك أن سنة الله تعالى جارية في الكون على
النظام العلي الطولي الساري في الكائنات برمتها لحاجتها الكامنة في صميم
ذواتها ووجوداتها التي هي في الحقيقة عين الفقر والربط إلى أن تنتهي هذه
السلسلة إلى الواجب بالذات الذي هو مبدأ الكل فالكل ينال منه.
تفصيل ذلك أن الكائنات بكافة أنواعها وأشكالها خاضعة للقوانين الطبيعية
والنظم الخاصة التي أودعها الله تعالى في كمون ذواتها وصميم طبايعها ضمن اطار
معين محدد وهي مبدأ التناسب والسنخية، والسر في ذلك أن العلل تملك معاليلها
في صميم كيانها وكمون وجودها بنحو الأتم والأكمل وليست المعاليل موجودة
مستقلة في قبال وجود عللها بل هي تتولد منها وتكون من مراتب وجودها
77

النازلة، مثلا النار تملك الحرارة في صميم كيانها وتتولد منها فالكائنات برمتها
خاضعة لهذا المبدأ ويستحيل أن تتخلف في سيرها وحركتها عنه، منها الانسان،
والمراد من سنة الله الجارية في الكون كنظام عام هو مبدأ العلة الساري في
الكائنات تماما على أساس مبدأ التناسب والسنخية، فإنها لكل مراتبها الطولية
وحلقاتها التصاعدية بعللها ومعلولاتها عين الفقر والتعلق لا ذات له الفقر
والتعلق إلى أن تنتهي السلسلة إلى الواجب بالذات فإنه مبدأ الكل، وعلى ضوء
هذا الأساس فلا يمكن القول بأن ترتب المعاليل على عللها بمجرد جريان عادة الله
تعالى بذلك بدون علاقة وارتباط بينهما، لأن مرد هذا القول إلى انكار مبدأ العلية
الذي هو نظام عام للكون وبالتالي الالتزام بالصدفة وانكار المبدأ للعالم، لأن
الترابط بين الأشياء كامن في صميم كيانها ووجودها على أساس مبدأ العلية
القائل بأن كل حادثة ترتبط في وجودها بأسبابها وشروطها الخاصة على
أساس قانون التناسب والسنخية، ويرفض هذا المبدأ الصدفة والاتفاق كما
يرفض الضرورة الذاتية للحوادث، ويقول أن العالم مرتبط ارتباطا وثيقا كاملا
بعضه مع بعضه الآخر، ويجعل كل جزء منه موضعه من الكون الذي تحتمه
شروط وجوده، ولا يمكن أن يكون هذا الارتباط مستندا إلى العادة التي تحصل
بالتكرار، فان لازمه أن لا يكون ناشئا من صميم ذوات الأشياء بل لعامل
خارجي عرضي وهو قد يتخلف هذا، إضافة إلى أنه لا يمكن تطبيق العادة على
المعلول الأول.
فالنتيجة أن ما ذكر في هذا الوجه لا يرجع إلى معنى محصل.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أن الوجوه التي استدل بها
على نظرية الأشاعرة لا يرجع شيء منها إلى معنى محصل ومعقول، ومن هنا
78

لا يحتمل أنهم كانوا منكرين اختيار العبد وسلطنته على أفعاله عمليا بحكم
الفطرة السليمة وإنما كانوا منكرين ذلك نظريا فحسب على أساس عدم توصلهم
فكريا إلى مغزى نظرية الأمر بين الأمرين.
79

نظرية الفلاسفة
مسألة الجبر ونقدها
قد استدل على هذه النظرية بعدة وجوه:
الوجه الأول: المعروف والمشهور بين الفلاسفة قديما وحديثا أن الأفعال
الاختيارية برمتها وبتمام أنواعها معلولة للإرادة وخاضعة لها وجودا وعدما
فإنها إذا بلغت حدها استحال تخلفها عنها وإن لم تبلغ استحال وجودها
لاستحالة وجود المعلول بدون وجود العلة، وتبعهم في ذلك جماعة من
الأصوليين منهم المحقق صاحب الكفاية (1) والمحقق الأصبهاني (قدس سرهما) (2)، ونتيجة
ذلك أن الإرادة إذا بلغت حدها التام وجب صدور الفعل من الفاعل في الخارج
واستحال تخلفه عنه لاستحالة تخلف المعلول عن العلة التامة، وإلى هذا أشار
المحقق الأصبهاني (قدس سره) بقوله: الإرادة ما لم تبلغ حدا يستحيل تخلف المراد عنها،
لا يمكن وجود الفعل لأن معناه صدور المعلول بلا علة تامة، وإذا بلغت ذلك الحد
امتنع تخلفه عنها، وإلا لزم تخلف المعلول عن علته التامة.
وقال صدر المتألهين إن إرادتك ما دامت متساوية النسبة إلى وجود المراد
وعدمه لم تكن صالحة لأحد ذينك الطرفين على الآخر، وأما إذا صارت حد
الوجوب لزم منه وقوع الفعل (3).

(1) الفوائد (للمحقق الخراساني (قدس سره)): 290، وكفاية الأصول: 65 و 67.
(2) نهاية الدراية 1: 285.
(3) الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة 6: 317.
80

والخلاصة: أن كلمات الفلاسفة متفقة على أن الإرادة علة تامة للفعل بقاعدة
أن الممكن ما لم يجب وجوده بالغير لم يوجد، ولنأخذ بنقد هذه النظرية على ضوء
دراسة نقطتين:
الأولى: أن الإرادة مهما بلغت لا يمكن أن تكون علة تامة للفعل.
الثانية: أن الأفعال الاختيارية بكافة أنواعها مرتبطة بسلطنة الفاعل وقدرته
لا بإرادته بلا فرق في ذلك بين فعله تعالى وفعل العبد.
أما النقطة الأولى: فهي مدروسة حسا ووجدانا.
أما الأول فلان من المحسوس والمشاهد خارجا في مختلف الموارد والمناسبات
أن الفعل يصدر من الانسان بدون وجود إرادة في أفق نفسه أو كانت ولكنها لم
تبلغ حدها التام بل قد يكون صدوره منه مع أن الموجود في نفسه الكراهة دون
الإرادة، فان كل ذلك يكشف كشفا جزميا عن أن وجود الفعل في الخارج
وصدوره من الانسان غير منوط بالإرادة إناطة المعلول بالعلة التامة.
وأما الثاني فلان الفطرة السليمة الوجدانية لكل فرد حاكمة بأن ارادته مهما
بلغت ذروتها من القوة والشدة لعوامل نفسية داخلية أو خارجية فلا تترتب
عليها حركة العضلات قهرا ترتب المعلول على العلة التامة، بل أمرها بيده
وجودا وعدما وتحت قدرته وسلطنته، ولا تخرج بسبب وجود الإرادة في نفسه
عن حد الامكان والتعادل إلى حد الوجوب والضرورة لكي تخرج بذلك عن
تحت قدرته.
وإن شئت قلت أن كل فرد إذا راجع وجدانه وفطرته السليمة في أعماق نفسه
وصميم كيانه حتى الأشعري، يدرك الفرق بين حركة يد المرتعش وحركة يد
81

غيره وبين حركة النبض وحركة الأصابع وبين حركة الدم في العروق وحركة
اليد يمنة ويسرة وبين حركة الأمعاء عند الخوف وحركة الرجل خطوة فخطوة
وهكذا، ومن الطبيعي أنه ليس بامكان أي فرد انكار الفرق بين هذه الحركات
فإنه بمثابة انكار أبده البديهيات كالواحد نصف الاثنين والكل أعظم من الجزء
وما شاكلهما، فلو كانت الإرادة علة تامة بحدها وكانت حركة العضلات معلولة
لها فبطبيعة الحال كان حالها حال حركة يد المرتعش وحركة الدم في العروق
وحركة الأمعاء عند الخوف وهكذا، على أساس أن الإرادة بتمام مقدماتها
ومبادئها غير اختيارية وناشئة بالضرورة من عللها بقاعدة أن الممكن ما لم يجب
وجوده لم يوجد إلى أن تنتهي السلسلة إلى الذات الواجبة، ونتيجة ذلك أن
حركة العضلات من الانسان واجبة عند الإرادة كحركة البدن عند الخوف، فكما
أن الحركة الثانية قهرية وخارجة عن اختيار الانسان وقدرته ومترتبة على صفة
الخوف، فكذلك الحركة الأولى فإنها خارجة عن قدرة الانسان ومترتبة على
صفة الإرادة قهرا، فاذن لا فرق في الحقيقة بين حركة العضلات المترتبة على
صفة الإرادة ترتب المعلول على العلة التامة وبين حركة البدن المترتبة على صفة
الخوف وما شاكلها إلا في مجرد الاصطلاح والتسمية بأن تسمى الطائفة الأولى
بالأفعال الاختيارية والثانية بالأفعال الاضطرارية، ومن الواضح أن هذه
التسمية لا تعالج مشكلة الفرق بين الطائفتين وهي حسن المحاسبة والعقوبة على
الطائفة الأولى وقبحها على الطائفة الثانية رغم أن كلتا الطائفتين غير اختيارية
ومترتبة على علتها ترتب المعلول على العلة التامة، فإذن كيف تكون المحاسبة
والعقوبة على الطائفة الأولى حسنة بحكم العقل رغم أنها على الأمر الخارج عن
الاختيار وهي قبيحة لا حسنة، بل عدم اختياريتها يؤدي إلى مشكلة أعمق من
ذلك وهي لغوية التكليف نهائيا، فالنتيجة أن هذا الفرق لا يصحح جعل التكليف
82

بارسال الرسل وانزال الكتب لأنه لغو.
ومن الغريب هنا ما صرح به المحقق الأصبهاني (قدس سره) من أن انتهاء الفعل إلى
إرادة الباري تعالى من جهة انتهاء إرادة العبد إلى إرادته تعالى بلحاظ امكانها
المقتضي للانتهاء إلى الواجب بقاعدة أن الممكن ما لم يجب وجوده بالغير لم يوجد
لا يضر بالفاعلية (1).
وجه الغرابة أن إرادة العبد إذا كانت علة تامة لفعله وهي غير اختيارية بتمام
مقدماتها وناشئة بالضرورة من عللها المنتهية في نهاية المطاف إلى إرادة الباري
عز وجل فكيف لا يضر ذلك بفاعليته واختياره، فان الإرادة إذا تحققت في نفس
العبد بحدها، كان تحقق الفعل منه ضروريا لتحقق المعلول عند وجود علته
التامة واستحالة تخلفه عنه ومع هذا لا يعقل أن يكون العبد فاعلا ومختارا، فان
نسبته إلى فعله كنسبة المرتعش إلى حركة يده.
والخلاصة: أن الفطرة السليمة الوجدانية تحكم بالفرق بين الأفعال
الاختيارية التي تصدر عن الانسان وبين الأفعال المترتبة على صفة الخوف
ونحوها كارتعاش البدن واصفرار الوجه وحركة الأمعاء ونحو ذلك، فلو كانت
الإرادة علة تامة لوجود الأفعال وكان ترتبها عليها ترتب المعلول على العلة
التامة، لم يكن فرق بين الأفعال المترتبة على صفة الإرادة والأفعال المترتبة على
صفة الخوف إلا بالتسمية من دون أن يكون لها واقع موضوعي، مع أن الفرق
بينهما من الواضحات الأولية، ولهذا تتصف الطائفة الأولى من الأفعال بالحسن
والقبح دون الطائفة الثانية، ومن الواضح أن هذا الفرق يرتكز على نقطة
موضوعية وهي اختيارية الطائفة الأولى دون الطائفة الثانية لا على مجرد

(1) نهاية الدراية 1: 289. (تعليقة منه (قدس سره)).
83

الاصطلاح بتسمية الأولى بالأفعال الاختيارية والثانية بالأفعال الاضطرارية،
تحصل أن الإرادة لا تعقل أن تكون علة تامة للفعل مهما بلغت ذروتها من القوة
والشدة، ومن هنا يظهر أن هذه النظرية مخالفة للضرورة وجدانا وفطرة، ولعل
السبب الذي دعا أصحابها إلى الالتزام بها رغم مخالفتها للوجدان السليم
ومكابرتها للعقل الفطري واستلزامها للتوالي الفاسدة منها كون بعث الرسل
وانزال الكتب لغوا، هو التزامهم بصورة موضوعية بعموم قاعدة أن الممكن ما لم
يجب لم يوجد من ناحية وعدم وجدانهم في الصفات النفسانية صفة تصلح أن
تكون علة للفعل غير الإرادة من ناحية أخرى. وسوف يأتي درس كلتا
الناحيتين ضمن درس النقطة الثانية.
وأما النقطة الثانية فقد تقدم الإشارة إلى أن الفعل الاختياري مرتبط
بالسلطنة والقدرة للانسان وخاضع لها لا بالإرادة، فلنا دعويان:
الأولى: أن الأفعال الاختيارية لا تخضع للإرادة ولا تدور مدارها وجودا
وعدما.
الثانية: أنها تخضع للسلطنة والقدرة.
أما الدعوى الأولى، فقد تقدم الكلام فيها موسعا وقلنا هناك أن الفعل
لا يخضع للإرادة وجودا ولا عدما مهما كانت وبلغت فراجع.
وأما الدعوى الثانية، فلأن خضوع الفعل للسلطنة والقدرة للانسان
لا يوجب خروجه عن حد التعادل بين الوجود والعدم وهو حد الامكان إلى
ضرورة الوجود أو العدم، بيان ذلك يتطلب درس عدة نقاط:
الأولى: أن فعل الانسان لا يمكن أن يكون خاضعا لنظام عام كامن في صميم
84

ذاته وهو مبدأ التناسب والسنخية حتى يكون سيره الوجودي على ضوء هذا
النظام والمبدأ وجوبيا بقاعدة أن الممكن ما لم يجب لم يوجد، والوجه في ذلك هو
أن خضوع الفعل الاختياري للسلطنة والقدرة وارتباطه بها ليس على حد
خضوع المعلول الطبيعي بعلته وارتباطه بها، فان الأول بما أنه ليس على أساس
مبدأ التناسب والسنخية فلا يوجب خروج الفعل عن حد الامكان والتعادل بين
الوجود والعدم إلى حد الضرورة لأحد الطرفين.
وأما الثاني فبما أنه على أساس هذا المبدأ، فلا محالة يوجب خروجه عن حد
الامكان والتعادل إلى حد الضرورة بقاعدة أن الممكن ما لم يجب وجوده
لم يوجد، وعلى ضوء هذا الأساس فالفعل الاختياري ليس من مصاديق هذه
القاعدة، باعتبار أن وجوده ليس من سنخ وجود السلطنة لكي يجب بوجودها،
وبذلك تختلف الأفعال الاختيارية عن المعلولات الطبيعية.
الثانية: أن الفطرة السليمة الوجدانية تحكم بأن الانسان يملك السلطنة
والقدرة على أفعاله وإنها تصدر منه بها، كانت هناك إرادة أم لا، كما أنها تحكم
بأنها تكفي لتحقق الفعل في الخارج رغم أن نسبتها إلى الوجود والعدم على حد
سواء، على أساس أنها لو لم تكن كافية في ذلك بأن تحتاج إلى ضم مقدمة أخرى
إليها، لزم أن لا يكون الفعل تحت قدرته وسلطنته وهو خلف.
وبكلمة، أن نفس الانسان بالوجدان والفطرة السليمة تملك السلطنة على
قواها الداخلية والخارجية وأنها تخضع لها في أفعالها، ومن هنا فرق بين
الأفعال التي تصدر منها قهرا والأفعال التي تصدر منها بسلطنة النفس
ومشيئتها، فان الثانية اختيارية دون الأولى وسيأتي الإشارة إلى ذلك في مسألة
الأمر بين الأمرين.
85

الثالثة: أن خضوع الفعل الاختياري للسلطنة وارتباطه بها ليس معناه
تخصيص مبدأ العلية بغيره وتحديده، بل معناه أن الفعل الاختياري معلول
لسلطنة الانسان وقدرته لا لإرادته، غاية الأمر أن نحو ارتباطه بها وخضوعه
لها يختلف عن نحو ارتباط المعلول الطبيعي بعلته التامة وخضوعه لها، فان
ارتباطه بها إنما هو على أساس مبدأ التناسب والسنخية بينما ارتباط الفعل
بسلطنة الفاعل ليس على هذا الأساس كما مر، بل على أساس امكانه الوجودي
وفقره الذاتي، لأن سر حاجة الأشياء إلى هذا المبدأ كنظام عام للكون كامن في
صميم كيانها ووجودها، بمعنى أن كيانها ووجودها كيان ارتباطي ووجود تعلقي
ولا يملك المعلول وجودا حقيقيا وراء ارتباطه بعلته، لأنه عين الربط والتعلق بها،
ولا فرق في ذلك بين الفعل الاختياري والمعلول الطبيعي، فكما أن سر حاجة
المعلول الطبيعي كامن في صميم كيانه ووجوده وأنه عين التعلق والربط بعلته
لا شئ له الربط، فكذلك سر حاجة الفعل إلى العلة كامن في صميم ذاته
ووجوده وأنه عين التعلق بعلته وهي سلطنة الفاعل واختياره، فلا فرق بينهما في
هذه النقطة، وإنما الفرق بينهما في نقطة أخرى وهي أنه يكفي في ارتباط الفعل
بسلطنة الفاعل وخضوعه لها امكانه الوجودي وفقره الذاتي، ولهذا لا يخرج
الفعل عن حد الامكان والتعادل بين الوجود والعدم بوجود سلطنة الفاعل
وقدرته، وعلى ضوء هذه النقطة يكون الفعل اختياريا رغم كونه مرتبطا بها
وخاضعا لها على أساس أن ربطه بها وخضوعه لها لا يخرجه عن حد الامكان
والتعادل إلى حد الوجوب لكي ينافي الاختيار، ومع ذلك تكفي السلطنة لتحقق
أحد الطرفين بدون الحاجة إلى ضم مقدمة أخرى إليها وإلا لم يكن الفعل مرتبطا
بالسلطنة ومعلولا لها فحسب وهو خلف، ومن هنا تختلف الأفعال الاختيارية
عن المعلولات الطبيعية رغم أن كلتيهما خاضعة لمبدء العلية.
86

الرابعة: أن إقامة البرهان على السلطنة والقدرة للانسان على أفعاله وإن
كانت صعبة إلا أنه لا حاجة إليها بعدما كانت المسألة فطرية وجدانية، لأن
الوجدان السليم والعقل الفطري حاكم بسلطنة الانسان على أفعاله وتصرفاته
بمختلف أنواعها وأشكالها، ومن هنا لا يختلف اثنان من العقلاء في أن تلك
التصرفات والأفعال مورد للحسن والقبح والحساب والعقاب والمدح والذم،
ولهذا يفرقون بين الأفعال الاضطرارية وهي الأفعال التي تصدر من الانسان بغير
اختيار كحركة يد المرتعش واصفرار وجه الخائف عند الخوف أو ارتعاش يديه
أو حركة أمعائه وما شاكل ذلك، وبين الأفعال الاختيارية التي تصدر منه
بسلطنته وقدرته، فان الأولى لا تكون موردا للحساب والعقاب والمدح والذم
والحسن والقبح دون الثانية، وهذا الفرق غير قابل للانكار، فان انكاره إنكار
للوجدان والفطرة السليمة.
والخلاصة: أن سلطنة الانسان على أفعاله وتصرفاته صفة وجدانية في
النفس كسائر صفاتها الوجدانية كالحب والبغض والخوف وما شاكل ذلك، فلذا
لا مجال للبحث عن أن الانسان مالك لهذه الصفة أو لا، فإنه كالبحث عن أنه
مالك لصفة الحب والبعض ونحوهما. ويؤكد ذلك أن الانسان كثير ما يرجح أحد
طرفي الفعل على الآخر بلا مرجح، فلو كان صدور الفعل من الانسان منوطا
بقاعدة أن الممكن ما لم يجب وجوده لم يوجد، استحال صدور الفعل منه بلا
مرجح يوجب وجوب وجوده مع أن امكان صدوره منه بدون أي مرجح أمر
وجداني، كما إذا كان عنده إناءان من الماء متساويان من جميع الجهات بدون أي
مرجح لأحدهما على الآخر، فإنه لا محالة اختار أحدهما ولا يبقى عطشانا،
فلو كان صدور الفعل متوقفا على وجود مرجح بقاعدة الوجوب بالعلة لبقي
عطشانا وهو كما ترى، ومنه ما إذا كان أمام الهارب طريقان بدون ترجيح
87

لأحدهما على الآخر فلا محالة اختار أحدهما ولا يبقى واقفا أمامهما، فلو كان
الفعل متوقف على وجود مرجح لبقي واقفا وهو خلاف الضرورة وهكذا.
وإن شئت قلت: أن المرجح إن كان بنحو الوجوب لصدور الفعل من الفاعل
فهو مضافا إلى أنه خلاف الوجدان، خلف فرض كونه تحت اختياره وسلطنته،
وإن لم يكن كذلك فوجوده وعدمه على حد سواء، وحينئذ فوجود الفعل لا محالة
مستند إلى السلطنة فحسب لا إليها مع ضميمة شيء آخر وإلا لزم الخلف.
الخامسة: أن مدرسة المحقق النائيني (قدس سره) قد أصرت على أن الاختيار فعل
نفساني وراء الفعل الخارجي ويعبر عنه تارة بالمشيئة وأخرى باعمال القدرة
وثالثة بالاختيار، وقيامه بالنفس قيام الفعل بالفاعل لا قيام الصفة بالموصوف
والحال بالمحل، فالفعل الخارجي مرتبط بالاختيار واعمال القدرة من النفس.
وهذا الفعل النفساني ليس معلولا للإرادة بل هو فعل النفس وتحت سلطانها
وقدرتها مباشرة كانت هناك إرادة أم لم تكن، ولذلك كان بامكان النفس بعد
الإرادة أن تقوم باعمال قدرتها نحو الفعل في الخارج وأن لا تقوم بأعمالها،
فليست بعدها مقهورة ومضطرة إلى التحرك، ولا فرق في سلطنة النفس على
الفعل بين وجود الإرادة فيها وعدم وجودها، فإنها إن شائت الفعل فعلت وإن لم
تشأ لم تفعل سواءا كانت إرادة فيها أم لا، وعلى هذا فكلا الفعلين اختياري، أما
فعل النفس فهو بالذات لا باختيار آخر وإلا لزم التسلسل، وأما الفعل الخارجي
فهو اختياري بالاختيار ووجوب وجوده به لا ينافي الاختيار لأنه وجوب نشأ
من الفعل الأول وهو الاختيار واعمال القدرة، والوجوب إذا كان في طول
الاختيار فلا ينافي الاختيار وما نحن فيه كذلك، فلهذا يكون خارجا عن قاعدة
88

أن الشئ ما لم يجب لم يوجد (1).
وغير خفي، أن ما أفاده المدرسة من أن الأفعال الاختيارية خارجة عن
قاعدة أن الشئ ما لم يجب وجوده لم يوجد وإن كان صحيحا ولا مناص عنه، إلا
أن في تبرير ذلك بالالتزام بالفعل النفساني المسمى بالاختيار واعمال القدرة وراء
الفعل الخارجي نظر، وتحقيق ذلك يتطلب الكلام في مقامين:
المقام الأول: هل يوجد في النفس فعل يصدر منها مباشرة في وعائها وراء
وعاء الخارج فيه قولان، فذهب جماعة منهم السيد الأستاذ (قدس سره) أن للنفس أفعالا
في أفقها وعالمها وراء الأفعال الخارجية منها البناء القلبي، فان لها أن تبني على
شيء ولها أن لا تبني عليه، فإنه فعل النفس مباشرة لا انه صادر منها بواسطة
إحدى قواها، ومنها قصد إقامة عشرة أيام في بلد فان لها أن تقصد الإقامة فيه
عشرة أيام ولها أن لا تقصدها فهو تحت يدها وسلطنتها مباشرة.
ومنها، عقد القلب وقد دل عليه قوله تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها
أنفسهم) (2). فأثبت سبحانه أن عقد القلب على شيء غير اليقين به، فان الكفار
كانوا متيقنين بالرسالة والنبوة بمقتضى الآية الكريمة ولكنهم لم يكونوا عاقدين
بها، وكيف كان فلا شبهة في أن للنفس أفعالا في أفقها تصدر منها باختيارها
واعمال سلطنتها وقدرتها (3)، وعلى هذا فلا مانع من الالتزام بأن الاختيار فعل
نفساني في وعاء النفس وقائم بها فيه قيام الفعل بالفاعل لا الصفة بالموصوف
والعرض بالمعروض، وموجود فيه وراء وجود الفعل في الخارج، وهذا الفعل

(1) لاحظ أجود التقريرات 1: 135 - 139. ومحاضرات في أصول الفقه 2: 59.
(2) سورة النمل (27): 14.
(3) محاضرات في أصول الفقه 2: 63.
89

النفساني هو العلة للفعل الخارجي لأنه مرتبط به وخاضع له وجودا وعدما
خضوع المعلول للعلة، وأما وجوب وجوده به فإنه لا ينافي اختياره، لأن
الوجوب إذا كان معلولا للاختيار وكان في طوله فلا ينافيه.
ولنا تعليق على ذلك، اما ما أفاده (قدس سره) من أن البناء فعل للنفس في وعائها
وقائم بها فيه قيام الفعل بالفاعل لا قيام العرض بالمعروض فلا يمكن المساعدة
عليه، وذلك لأن البناء لا يخلو إما أن يكون في مورد القطع بشيء أو الظن به أو
الشك فيه.
أما في المورد الأول، فهو لا ينفك عن القطع وإنه لازم قهري له، فإنه إن كان
القطع بوجود شيء فلا يمكن البناء على عدمه وإن كان القطع بعدمه فلا يمكن
البناء على وجوده.
وأما في المورد الثاني، فهو لا ينفك عن الظن كذلك.
وأما في المورد الثالث: فلا يتصور فيه البناء إلا شكا واحتمالا، فبالنتيجة أنه
لازم قهري للشك بمعنى أنه لا يمكن البناء على أحد طرفي الشك جزما أو ظنا،
وعلى هذا فلا يمكن القول بأن البناء فعل نفساني في وعاء النفس وتحت اختيارها
وجودا وعدما بل هو لازم قهري لمباديه وخارج عن اختيارها.
وأما قصد إقامة عشرة أيام في بلد فهو لازم قهري للعلم بها ولا ينفك عنه،
فإذا علم المسافر بأنه يبقى في هذا البلد عشرة أيام جزما كان لا محالة قاصدا
إقامة العشرة فيه، إذ ليس بإمكانه أن لا يقصد ذلك أو يقصد خلافها.
فالنتيجة: أن القصد ليس شيئا زائدا على العلم حتى يكون فعلا للنفس
وبيدها وجودا وعدما بل هو لازم قهري له ولا ينفك عنه، ومن هنا لا يكون
90

قصد الإقامة شرطا زائدا على العلم بها.
وأما عقد القلب فهو أيضا كذلك، لأنه لازم قهري لليقين بشيء ولا ينفك
عنه، ضرورة أنه لا معنى لعقد القلب على عدم وجوده مع اليقين به، واما الآية
الشريفة فهي لا تدل على أنه فعل النفس وشئ زائد على اليقين، لأن الظاهر من
الجحود في الآية الانكار القولي والعملي لا القلبي، إذ مع اليقين بالرسالة والنبوة
كيف يمكن انكارها قلبا والعقد في النفس على خلافه، إلى هنا قد استطعنا أن
نخرج بهذه النتيجة وهي أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن البناء والقصد وعقد
القلب من أفعال النفس وتحت اختيارها وسلطنتها مباشرة وجودا وعدما
لا يرجع بالتحليل الوجداني إلى معنى صحيح، لما عرفت من أنها بشهادة
الوجدان من اللوازم القهرية للعلم ونحوه في أفق النفس وليست تحت اختيارها
وقائمة بها قيام الفعل بالفاعل.
وأما الاختيار فأيضا لا يمكن القول بأنه فعل نفساني وراء الفعل الخارجي،
بل إنه عنوان انتزاعي منتزع من وجود الفعل في الخارج وليس له واقع
موضوعي، بيان ذلك أن الاختيار واعمال القدرة وتأثير النفس كل ذلك مفاهيم
انتزاعية منتزعة من إضافة الفعل الخارجي إلى الفاعل وليس لها حقيقة واقعية
في عالم النفس قائمة بها قيام الفعل بالفاعل وراء الفعل في عالم الخارج، باعتبار أن
الاختيار عين الخيار خارجا والاعمال عين العمل فيه والتأثير عين الأثر
والاختلاف بينهما بالاعتبار، فإنه باعتبار إضافته إلى الفاعل اختيار واعمال
وتأثير، وباعتبار إضافته إلى المحل خيار وعمل وأثر كالايجاد والوجود لأنهما
شيء واحد، فالايجاد باعتبار إضافته إلى الفاعل والوجود باعتبار إضافته إلى
المحل، فمنشأ انتزاع تلك المفاهيم هو إضافة الفعل الخارجي إلى الفاعل، هذا
91

مضافا إلى أن الوجدان السليم يشهد بأن الاختيار ليس فعلا للنفس في وعائها
وموجودا فيه وراء وجود الفعل في وعاء الخارج، لأنه لا يرى في النفس أفعالا
لها كان أمرها بيدها وجودا وعدما ما عدا الصفات المعروفة المشهورة فيها
كالعلم والقدرة والسخاوة والشجاعة والحب والبغض وما شاكلها من الصفات
الحميدة والملكات الفاضلة التي هي نسبتها إلى النفس نسبة الصفة إلى الموصوف
والعرض إلى المعروض، وعلى الجملة فحركة العضلات نحو الفعل في الخارج
تصدر من النفس مباشرة بقدرتها وسلطنتها عليها لا بتوسط فعل لها في أفقها
وراء وجود تلك الحركة في الخارج وهو المسمى بالاختيار واعمال القدرة،
ضرورة أن اعمال القدرة نحو الحركة عين إيجادها في الخارج، لا أن النفس
أوجدت أولا فعلا في وعائها ثم بتوسطه أوجدت الفعل في الخارج، فإنه خلاف
الوجدان والبرهان.
فالنتيجة، أن الاختيار واعمال القدرة والمشيئة كل ذلك من العناوين
الانتزاعية منتزعة من إضافة الفعل الخارجي إلى الفاعل، لا انها أفعال للنفس
تصدر منها في أفقها مباشرة وراء الأفعال الخارجية، وعليه فما ذكره مدرسة
المحقق النائيني (قدس سره) من أن الاختيار فعل نفساني وراء الفعل الخارجي غير تام
ومخالف للوجدان والبرهان.
المقام الثاني: مع الاغماض عن ذلك وتسليم أن الاختيار فعل نفساني، فهل
هو يصلح أن يكون علة للفعل الخارجي فيه وجهان، الظاهر أنه لا يصلح لذلك،
والنكتة فيه أن الاختيار لو كان علة فالعلة بما أنها فعل طبيعي فلا محالة يكون
تأثيرها في معلولها، على أساس مبدأ التناسب والسنخية بقاعدة أن الممكن ما لم
يجب وجوده لم يوجد، وهذه القاعدة لا تنطبق على الفعل الصادر من
92

الفاعل بالمباشرة، باعتبار أن نسبة سلطنته إليه وجودا وعدما نسبة واحدة فلا تقتضي
وجوبه، وأما الفعل المعلول له فيكون حاله حال سائر المعلولات الطبيعية
بالنسبة إلى عللها كذلك ولا يمكن خروج هذا الفعل عن القاعدة، وعلى هذا
فحيث أن الفعل الخارجي صادر من النفس بتوسط الفعل النفساني وهو
الاختيار، والفعل النفساني صادر منها بقدرتها وسلطنتها مباشرة، فبطبيعة
الحال يكون الخارج عن القاعدة هو الفعل النفساني باعتبار أن نسبة سلطنة
النفس إليه وجودا وعدما على حد سواء، فلا تبرر وجوبه دون الفعل
الخارجي، فإنه حيث كان معلولا للواسطة وهي الفعل النفساني وصادرا منها
مباشرة دون النفس، فلا يمكن ذلك إلا على ضوء القاعدة المذكورة، فإذن بطبيعة
الحال لا يمكن فرض وجوده وتحققه في الخارج إلا بالوجوب والضرورة بالعلة،
بداهة أنه ما دام في حد الامكان والتعادل بين الوجود والعدم لا يمكن وجوده
وتحققه فيه، لأن الامكان لا يكفي لتحقق أحد الطرفين وإلا لزم انقلاب الممكن
واجبا وهو كما ترى، ومقتضى ذلك أن الفعل الخارجي بما أنه وليد الفعل النفساني
مباشرة فلا يمكن ذلك إلا على أساس القاعدة ومبدأ التناسب، والمفروض أنه لا
تناسب بينهما ذاتا ووجودا، لأن الفعل الخارجي لا يكون من سنخ الفعل
النفساني وجودا حتى يعقل أن يكون معلولا له ومتولدا منه تولد المعلول عن
علته، لاستحالة تأثير كل شيء في كل شيء طالما لم تكن بينهما سنخية.
ومن ذلك يظهر أن ما التزم به مدرسة المحقق النائيني (قدس سره) من أن القاعدة وهي
أن الممكن ما لم يجب لم يوجد لا تنطبق على الفعل الخارجي (1) غير تام، لأن
المستثنى من هذه القاعدة موضوعا الفعل الاختياري الصادر من الفاعل بقدرته

(1) أجود التقريرات 1: 139. ومحاضرات في أصول الفقه 2: 58.
93

وسلطنته مباشرة، وهذا لا ينطبق إلا على الفعل النفساني وهو الاختيار، باعتبار
أن نسبة سلطنة النفس إليه وجودا وعدما نسبة واحدة فلا توجب خروجه عن
حد الامكان والتعادل إلى حد الضرورة ولا ينطبق ذلك على الفعل الخارجي،
على أساس ما مر من أنه معلول له ومتولد منه، ومن الواضح أن التولد منه
لا يمكن إلا على ضوء قاعدة أن الشئ ما لم يجب لم يوجد، وعليه فما التزم به
مدرسة المحقق النائيني (قدس سره) من الجمع بين خروج الفعل الخارجي عن القاعدة
وعدم انطباقها عليه وبين صدوره بتوسط الفعل النفساني لا بالمباشرة في الحقيقة
يرجع إلى الجمع بين أمرين متنافيين، فان صدور الفعل الخارجي إن كان بتوسط
الفعل النفساني كان معلولا له ومتولدا منه، وحينئذ فلا يمكن خروجه عن
القاعدة كما مر، فان الخارج عنها عندئذ هو الفعل النفساني وإن كان صدوره
بدون توسطه وبنحو المباشر من سلطنة النفس كان خارجا عن القاعدة، فإذن
الجمع بين خروجه عن القاعدة وصدوره بتوسط الفعل النفساني جمع بين أمرين
متناقضين، هذا إضافة إلى أن الفعل الخارجي لا يمكن أن يكون معلولا للفعل
النفساني ومتولدا منه لعدم التناسب بينهما وجودا، وبدونه لا يعقل أن يكون
الفعل النفساني مؤثرا فيه وإلا لزم امكان تأثير كل شيء في كل شيء، تحصل مما
ذكرناه أن هناك إشكالين على مدرسة المحقق النائيني:
الأول: أنهم جمعوا بين خروج الفعل الخارجي عن القاعدة وصدوره بتوسط
الفعل النفساني، وهذا لا يمكن كما مر.
الثاني: أنه لا يمكن أن يكون الفعل الخارجي خاضعا للفعل النفساني خضوع
المعلول للعلة التامة لعدم العلاقة بينهما ذاتا ووجودا كما عرفت، وعلى ضوء هذا
الأساس فلو قلنا بالفعل النفساني وراء الفعل الخارجي فلابد من الالتزام
94

باستقلال كل منهما في الصدور عن النفس، فكما أن الفعل النفساني يصدر منه
بسلطنتها وقدرتها عليه مباشرة، فكذلك الفعل الخارجي، وعلى هذا الفرض
فكلا الفعلين خارج عن القاعدة المذكورة.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالية:
الأول: أنه لا يمكن الالتزام بوجود الفعل النفساني في وعاء النفس وقائم بها
قيام الفعل بالفاعل في قبال وجود الفعل الخارجي إذ مضافا إلى أنه لا برهان عليه
مخالف للوجدان أيضا.
الثانية: أن دفع شبهة الجبر لا يتوقف على الالتزام بالفعل النفساني المسمى
بالاختيار، حيث أن بامكان النفس إيجاد الفعل الخارجي بسلطنتها وقدرتها
عليه مباشرة بدون الحاجة إلى توسط الفعل النفساني.
الثالثة: أن ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني (قدس سره) من عدم انطباق قاعدة أن
الممكن ما لم يجب لم يوجد على الفعل الخارجي، لا ينسجم مع التزامهم بأن الفعل
الخارجي خاضع للفعل النفساني لا لسلطنة الفاعل مباشرة، وعلى هذا فلا يمكن
خروج الفعل الخارجي عن القاعدة المذكورة لأن الخارج منها هو الفعل الخاضع
لسلطنة الفاعل مباشرة دون أثرها ومعلولها، فإذن لازم ما أفادته مدرسة المحقق
النائيني (قدس سره) عدم انطباق القاعدة على الفعل النفساني فحسب وهو الاختيار دون
الفعل الخارجي، أو فقل أنه لا فرق بين كون الفعل الخارجي وليد صفة الإرادة
وكونه وليد الاختيار الذي هو فعل نفساني، فإنه على كلا التقديرين خاضع
لقاعدة أن الممكن ما لم يجب لم يوجد، غاية الأمر أن الفعل على الأول غير
اختياري باعتبار أن صفة الإرادة قهرية بتمام مبادئها وعلى الثاني اختياري، فان
وجوب وجوده بالاختيار وفي طوله، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار،
95

فمن أوجد النار فقد وجدت الحرارة بالضرورة، وهذه الضرورة بما أنها
بالاختيار فلا تنافي الاختيار.
الرابعة: أن الفعل الخارجي لا يمكن أن يكون معلولا للفعل النفساني
وخاضعا له لعدم التناسب والسنخية بينهما، فإذن لا يمكن أن يكون الفعل
الخارجي وليد الفعل النفساني.
الخامسة: أنه على تقدير الالتزام بالفعل النفساني فلابد من الالتزام بأن
الفعل الخارجي في عرض الفعل النفساني لا أنه في طوله.
السادسة: ما تقدم من أن الاختيار واعمال القدرة وتأثير النفس في كل ذلك
عنوان انتزاعي منتزع من إضافة الفعل الخارجي إلى سلطنة الفاعل كالايجاد
والوجود ولا واقع موضوعي لها في وعاء النفس في قبال الفعل في وعاء الخارج.
ثم أن المحقق الأصبهاني (قدس سره) قد علق على مدرسة المحقق النائيني في المسألة
بوجوه:
الوجه الأول: أنه ليس للنفس بما هي وبقطع النظر عن قواها الباطنة
والظاهرة فعل، فان فاعلية النفس بموجودات عالم النفس إذا كانت في مرتبة
القوة العاقلة الإيجاد النوري العقلاني وفي مرتبة القوة الواهمة الغرض والتقدير
وفي مرتبة القوة المتخيلة الوجود الخيالي وفي مرتبة القوة الباصرة الأبصار وفي
مرتبة السامعة الأسماع وهكذا.
ومن الواضح أن الايجاد النوري المناسب للقوة العاقلة أجنبي عن الاختيار
الذي جعلته مدرسة المحقق النائيني (قدس سره) أمرا آخر مما لابد منه في كل فعل
اختياري، بداهة أن النفس بعد حصول الشوق الأكيد ليس لها إلا الهيجان
96

بالقبض والبسط في مرتبة القوة العضلانية (1).
ما أفاده (قدس سره) في هذا الوجه نقطتان:
الأولى: أنه ليس للنفس فعل في وعائها بنحو المباشر وبقطع النظر عن قواها
الباطنة والظاهرة في قبال وجود الفعل في الخارج.
الثانية: أن المؤثر في حركة العضلات هو هيجان النفس بالقبض والبسط وهو
معلول للإرادة، أما النقطة الأولى فقد مر أنها في محلها، إذ مضافا إلى أنه لا برهان
على أن النفس فعلا في وعائها وراء وجود الفعل في الخارج مخالف للوجدان
أيضا.
وأما النقطة الثانية، فيرد عليها ما تقدم من أن الإرادة مهما بلغت ذروتها من
القوة والشدة لا تصلح أن تكون علة تامة للفعل في الخارج، بداهة أنه خاضع
لسلطنة النفس كانت هناك إرادة أم لم تكن، وقد سبق أن ذلك وإن لم يكن
برهانيا إلا أنه وجداني على تفصيل قد مر.
فالنتيجة، أن هذه النقطة خاطئة جدا ولا واقع موضوعي لها.
الوجه الثاني: أن هذا الفعل النفساني المسمى بالاختيار إذا حصل في النفس
فان ترتب عليه حركة العضلات ترتب المعلول على العلة قهرا كان حاله حال
صفة الإرادة، فإذن ما المانع عن كون صفة الإرادة علة تامة للفعل دون الفعل
النفساني وكونه وجوبا بالاختيار مثل كونه وجوبا بالإرادة، وإن لم تترتب عليه
الحركة فلا يصلح أن يكون علة لها.
والجواب عن ذلك واضح، وهو أن الوجوب إذا كان بالاختيار فلا ينافي

(1) نهاية الدراية 1: 286.
97

الاختيار باعتبار أنه في طول الاختيار وما نحن فيه من هذا القبيل، وأما
الوجوب بالإرادة فهو ينافي الاختيار باعتبار أن الإرادة بتمام مبادئها غير
اختيارية وناشئة بالضرورة من عللها المنتهية إلى إرادة الباري عز وجل
والضرورة تنافي الاختيار، فإذن كيف يكون الوجوب بالاختيار مثل الوجوب
بالإرادة، وبكلمة أن الوجوب بالاختيار يختلف عن الوجوب بالإرادة، فان
الوجوب بالاختيار مرده إلى الوجوب بشرط المحمول أي بشرط الوجود، ومن
الطبيعي أن مثل هذا الوجوب لا ينافي الاختيار، حيث إنه معلول له فكيف يعقل
أن يكون منافيا له، فيكون المقام نظير المسبب المترتب على السبب الاختياري
وهذا بخلاف الوجوب بالإرادة، فإنه ينافي الاختيار باعتبار أن الإرادة بتمام
مبادئها غير اختيارية كما مر.
الوجه الثالث: أن الاختيار الذي هو فعل نفساني لا يخلو من أن لا ينفك عن
الصفات الموجودة في النفس كالعلم والقدرة والإرادة أو ينفك عنها، فعلى الأول
فهو فعل قهري لا اختياري لأن مبادية قهرية. وعلى الثاني فالصفات المذكورة
بضميمة النفس الموجودة في جميع الأحوال علة ناقصة للاختيار، ومن الواضح
أن المعلول لا يوجد إلا بعلته التامة، وتوهم الفرق بين الفعل الاختياري وغيره
من حيث كفاية وجود المرجح في الأول دون الثاني من الغرائب، فإنه لا فرق بين
ممكن وممكن في الحاجة إلى العلة التامة ولا فرق بين معلول ومعول في الحاجة إلى
العلة التامة، فإن الامكان مساوق للافتقار إليها بل هو عين الافتقار والارتباط.
والجواب أن الممكن وإن كان يستحيل أن يوجد في الخارج بدون علة ولا
فرق في ذلك بين ممكن وممكن، لما مر من أن سر حاجة الممكن إلى العلة كامن في
صميم ذاته وكيان وجوده ولكن تأثير العلة في المعلول يختلف، فإن كان المعلول
98

من الحوادث الطبيعية كان تأثيرها فيه يقوم على أساس مبدأ التناسب والسنخية
بقاعدة أن الشئ ما لم يجب لم يوجد، وإن كان من الأفعال الاختيارية كان
تأثيرها فيه على أساس سلطنتها عليه، وقد تقدم أن نسبة السلطنة إلى الفعل
وجودا وعدما على حد سواء، ولهذا لا يخرج الفعل من جهة ارتباطه بها
وخضوعه لها عن حد الامكان والتعادل بين الوجود والعدم إلى حد الوجوب
ومع ذلك تكفي تلك السلطنة في إيجاده وتحققه في الخارج بدون حاجة لها إلى ضم
مقدمة تلك السلطنة في إيجاده وتحققه في الخارج بدون حاجة لها إلى ضم مقدمة
أخرى إليها وإلا لزم خلف فرض كونه تحت السلطنة، ولهذا لا تنطبق قاعدة أن
الشئ ما لم يجب لم يوجد على الفعل الاختياري، فالنتيجة أنه على تقدير تسليم
مقالة مدرسة المحقق النائيني (قدس سره) فلا يرد عليها هذا الاشكال.
الوجه الرابع: أن الفعل المسمى بالاختياري إن كان ملاكا لاختيارية الأفعال
على أساس أن ترتبها على صفة الإرادة مانع عن استناد الفعل إلى الفاعل لكان
الأمر في الباري تعالى أيضا كذلك، لأن صدور الفعل منه بإرادته مانع عن
استناده إليه، باعتبار أن المناط في عدم اختيارية الفعل عدم اختيارية الإرادة،
سواءا كان بالذات كما في إرادته تعالى وتقدس، على أساس أنها عين ذاته
المقدسة أم كان بالغير كما في إرادة غيره تعالى، فإن عدم اختياريتها من جهة
انتهائها إلى إرادة الباري عز وجل، ولكن لا يمكن أن يكون صدور الفعل من
الواجب تعالى بتوسط الاختيار، وذلك لأن الاختيار لا يخلو من أن يكون عين
ذات الواجب المقدسة أو غيره فكلاهما مستحيل، اما على الأول فلان الاختيار
فعل والفعل يستحيل أن يكون عين فاعله وعليه فلا يمكن أن يكون الاختيار
عين ذاته الواجبة، وأما على الثاني فهو لا يخلو من أن يكون قديما أو حادثا،
فعلى الأول يلزم تعدد القدما وهو باطل، وعلى الثاني يلزم أن يكون ذاته المقدسة
99

محلا للحوادث وهو مستحيل.
فالنتيجة، أن الكل محال فلذلك لا يمكن أن يكون الفعل المسمى بالاختيار
ملاكا لاختيارية الأفعال في الواجب تعالى ولا في غيره.
والجواب: أن صفة الإرادة لا تصلح أن تكون علة تامة للفعل لا في الواجب
تعالى ولا في غيره، أما في الواجب تعالى فقد تقدم أن إرادته ليست من الصفات
الذاتية كالعلم والقدرة ونحوهما بل هي من الصفات الفعلية كالخلق والرزق
وغيرهما، ومع الاغماض عن ذلك وتسليم أنها من الصفات الذاتية إلا أنها لا
يمكن أن تكون علة تامة لفعله تعالى بأن يكون فعله خاضعا لها وجودا
وعدما كخضوع المعلول للعلة، وذلك لأن لازم هذا أن فاعليته تعالى غير
اختيارية، لأن ضرورة الفعل بضرورة الإرادة تنافي الاختيار على تفصيل قد
سبق هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن ملاك اختيارية الفعل ارتباطه بسلطنة الفاعل
وخضوعه لها بلا فرق في ذلك بين الباري عز وجل وبين غيره، وقد مر أن الفطرة
السليمة الوجدانية تحكم بثبوت هذه السلطنة والقدرة للفاعل على أفعاله، هذا
إضافة إلى أن إثبات القدرة والسلطنة لله سبحانه وتعالى برهاني أيضا، وكيف
كان فلا شبهة في ارتباط الفعل الاختياري بسلطنة الفاعل وقدرته وخضوعه لها
وجودا وعدما لا بإرادته، وقد سبق أن نحو ارتباطه بها ليس كنحو ارتباط
المعلول الطبيعي بالعلة الطبيعية، ولهذا لا تنطبق عليه قاعدة أن الشئ ما لم يجب
لم يوجد.
ومن ناحية ثالثة ما ذكرناه آنفا من أن الفعل الاختياري مرتبط بسلطنة
الفاعل وقدرته مباشرة لا بالفعل النفساني المسمى بالاختيار، لما عرفت من أنه
100

لا برهان عليه مضافا إلى أن وجوده في النفس وراء وجود الفعل في الخارج
خلاف الوجدان أيضا، ومن هنا يظهر أنه كان ينبغي للمحقق الأصبهاني (قدس سره) أن
يعلق على مدرسة المحقق النائيني (قدس سره) بذلك لا بما ذكره من أن الاختيار إما عين
ذات الواجب تعالى أو غيره والكل مستحيل، وذلك لأنه لا مانع من كون
الاختيار فعلا له تعالى قائما به قيام الفعل بالفاعل صدورا، إذ لا مانع من ذلك
ولا يلزم منه محذور، فإن المحذور إنما يلزم إذا كان قيامه به قيام الصفة بالموصوف
والحال بالمحل والمفروض أن الأمر ليس كذلك، والنكتة فيه أن الاختيار الذي
هو عبارة عن إعمال القدرة يوجد بقدرته تعالى وسلطنته مباشرة ثم الفعل
الخارجي بتوسطه، لا أنه موجود في مرتبة ذاته المقدسة بقطع النظر عن الفعل
الخارجي لكي يكون قيامه بذاته في هذه المرتبة قيام الحال بالمحل، فما ذكره المحقق
الأصبهاني (قدس سره) مبني على أن يكون الاختيار ثابتا في مرتبة ذاته تعالى، فعندئذ
كان لما أفاده (قدس سره) من التشقيق مجال ولكن الأمر ليس كذلك، لأنه ثابت في مرتبة
فعله، فإذا كان ثابتا في هذه المرتبة فلا محالة كان قيامه بذاته المقدسة قيام الفعل
بالفاعل كقيام سائر أفعاله، غاية الأمر أنه يوجد بقدرته وسلطنته مباشرة لا
باختيار آخر واعمال قدرة أخرى، ثم يوجد الفعل الخارجي بتوسطه كما هو
الحال في الانسان.
لحد الآن تبين أن ما أفاده المحقق الأصبهاني (قدس سره) من التعليقات على مدرسة
المحقق النائيني (قدس سره) في المسألة لا يتم شيء منها، فالصحيح هو ما ذكرناه من
التعليق عليها.
الوجه الثاني: أن أفعال العباد لا تخلو من أن تكون متعلقة لإرادة الله
سبحانه وتعالى أو لا تكون متعلقة لها ولا ثالث لهما، فعلى الأول لابد من وقوعها
101

في الخارج لاستحالة تخلف المراد عن إرادته تعالى، وعلى الثاني يستحيل
وقوعها في الخارج لأن وقوع الممكن بدون إرادته تعالى مستحيل، حيث لا
مؤثر في الوجود إلا الله، ونتيجة ذلك أن العبد مقهور في إرادته ولا اختيار
له أصلا (1).
والجواب: عن ذلك قد ظهر مما تقدم من أن فعله تعالى إنما يصدر منه
بسلطنته وقدرته عليه لا بإرادته، هذا إضافة إلى أن ارادته تعالى ليست بذاتية
بل هي فعلية وعبارة عن مشيئته تعالى، والمشيئة ليست فعلا مستقلا وراء الفعل
الخارجي بل هي نفس اعمال السلطنة والقدرة، وقد تقدم أن الاعمال عين العمل
في الخارج والفرق بينهما إنما هو بالاعتبار، ومن الواضح أن سلطنته تعالى إنما
تتعلق بأفعاله سبحانه مباشرة، منها مبادئ فعل العبد وهي الحياة والعلم
والقدرة ونحو ذلك، واما فعل العبد فلا يعقل أن يكون متعلقا بسلطنته تعالى
مباشرة لأنه غير قابل لأن يكون متعلقا كذلك لها. نعم مبادئ الفعل متعلقة لها
وتصدر منها مباشرة، وإما نفس الفعل فهي تصدر من العبد كذلك شريطة
وجود المبادئ فيه، وما في هذا الوجه من أن أفعال العباد لو لم تكن متعلقة
لإرادته تعالى استحال وقوعها في الخارج، حيث لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى
لا يرجع إلى معنى محصل، لأنه إن أريد بذلك أنها ليست متعلقة لإرادته تعالى
مطلقا حتى مبادئها، فيرد عليه أنه خلاف الضرورة، وإن أريد بذلك أن نفس
الأفعال إذا لم تكن متعلقة لها لم تقع في الخارج، فيرد عليه ما عرفت من استحالة
وقوعها متعلقة لإرادته تعالى وسلطنته مباشرة من ناحية، ووقوعها في الخارج
بسلطنة العبد من ناحية أخرى، وهذا لا ينافي أن لا يكون المؤثر في الوجود إلا

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 71.
102

الله تعالى، فإن معنى ذلك أن كل شيء لا يوجد في الخارج إلا بقدرة الله وسلطنته،
غاية الأمر قد يوجد بلا واسطة وقد يوجد مع الواسطة كأفعال العباد، فإنها
توجد بقدرته تعالى وسلطنته مع الواسطة وهي حياة العباد وقدرتهم وعلمهم
وما شاكل ذلك، ولولا وجود هذه الواسطة استحال تحقق الفعل من العبد في
الخارج، ومن هنا قلنا أن وقوع الفعل منه وتحققه اختيارا مشروط ببقاء
مباديه فيه.
نعم لو أريد من أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله التأثير بدون الواسطة، فهو غير
صحيح ولا يعقل أن يكون المراد منه ذلك، فهذا الوجه لا يرجع إلى معنى معقول.
الوجه الثالث: أن الله تعالى عالم بأفعال العبد بكافة خصوصياتها من كمها
وكيفها وأينها ومتاها ووضعها ونحو ذلك، ومن الطبيعي أنه لابد من وقوعها منه
في الخارج على طبق علمه سبحانه وتعالى لا على طبق اختيار العبد وإلا لزم
تخلفه عنها وهو مستحيل، ثم إن الاستدلال بهذا الوجه تارة يكون مبنيا على أن
أفعال العباد لو لم يجب وقوعها في الخارج على طبق علمه تعالى بها لكان علمه
جهلا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وعليه فلابد من الالتزام بوقوعها خارجا
في إطار علمه سبحانه وتعالى ولا يمكن التخلف عنه، ومن الواضح أن العباد لو
كانوا مختارين في أفعالهم لوقع التخلف في غير مورد وهو محال، وقد صرح بذلك
صدر المتألهين بقوله ومما يدل على ما ذكرناه من أنه ليس من شرط كون الذات
مريدا وقادرا إمكان أن لا يفعل، حيث أن الله تعالى إذا علم أنه يفعل الفعل
الفلاني في الوقت الفلاني فذلك الفعل لو لم يقع لكان علمه جهلا وذلك محال
والمؤدي إلى المحال محال، فعدم وقوع ذلك الفعل محال، فوقوعه واجب
103

لاستحالة خروجه من طرفي النقيضين (1).
وأخرى يكون مبنيا على أن علمه تعالى علة لمعلومه خارجا، بتقريب أن
إضافته إليه إضافة اشراقية لا إضافة محمولية، ومعنى الإضافة الاشراقية أن
المضاف إليه يوجد بنفس الإضافة، وعلى هذا فالمعلوم بعلمه تعالى يوجد بنفس
علمه، وهذا بخلاف الإضافة المحمولية فإنها تتوقف على وجود المضاف إليه في
المرتبة السابقة عليها، بيان ذلك أن أفعال العباد بما أنها حادثة من الحوادث
المسبوقة بالعدم، فلا يمكن أن تقع طرفا لعلمه الذاتي مباشرة وإلا لكانت أزلية،
وعلى ذلك فلا مناص من الالتزام بأن أفعال العباد جزء من سلسلة الأشياء
الطبيعية الطولية بعللها ومعلولاتها وحلقاته التصاعدية، على أساس مبدأ العلية
الذي هو نظام عام للكون، وأفعال العباد بما أنها جزء من هذه السلسلة فلا محالة
تسير وتتحرك قهرا بنظامها الخاص ولا صلة لها حينئذ باختيار العبد هذا،
ويمكن التعليق على كلا الوجهين:
أما الوجه الأول فلأن حقيقة العلم هي انكشاف الأشياء بما لها من
الخصوصيات في الواقع لدى العالم ولا فرق في ذلك بين علمه تعالى وعلم غيره،
غاية الأمر أن علمه سبحانه بالأشياء حضوري بمعنى أن الأشياء بواقعها
وحقيقتها حاضرة عنده تعالى، وأما علم غيره بها فهو حصولي بمعنى أن الأشياء
حاضرة عنده بصورها لا بواقعها الموضوعي هذا هو علمه الفعلي، وأما علمه
الذاتي بالأشياء قبل خلقها ووجودها فهو خارج عن حدود تصورنا وإدراكنا،
ضرورة أنه ليس بإمكاننا تصور علمه الذاتي الذي هو عين ذاته المقدسة وإلا
لكان بالامكان تصور ذاته المقدسة أيضا، وعلى الجملة فلا يمكن تصور كيفية

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 72.
104

تعلق علمه الذاتي الأزلي بالأشياء قبل وجودها، لأنه لا يمكن أن يكون تعلقه بها
بنحو العلم الحصولي فإنه غير متصور في الواجب تعالى، كما لا يمكن أن يكون
بنحو الحضور لأنه فرع وجود تلك الأشياء، وأما تعلقه بها بكيفية أخرى فهو
خارج عن دائرة تصورنا، وهذا لا ينافي التصديق بأنه تعالى عالم بالأشياء بالعلم
الأزلي وإن علمه هذا عين ذاته المقدسة.
فإذا كانت حقيقة العلم انكشاف الأشياء على ما هي عليه في الواقع، استحال
أن يكون مؤثرا في وقوعها في الخارج، لأن وقوعها خاضع لعللها في الواقع
والعلم تعلق بوقوعها فيه وليدا من عللها. وعلى هذا فعلمه تعالى بصدور الفعل
من العبد بسلطنته واختياره في المستقبل لا يوجب ضرورة صدوره منه لكي
يكون خارجا عن اختياره وجدانا وبرهانا.
أما الأول فلأن كل عالم إذا رجع إلى وجدانه يدرك أن العلم لا يغير الواقع ولا
يؤثر فيه بل هو مجرد انكشاف عما هو عليه في الواقع.
وأما الثاني فلأن علمه تعالى تعلق بصدور الفعل من العبد بسلطنته وإعمال
قدرته، وعليه فلابد أن يصدر منه كذلك وإلا لكان علمه جهلا أعاذنا الله من
ذلك. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن علمه تعالى بوقوع الفعل من العبد في الخارج ليس من
إحدى مقدماته ومباديه لأن مقدماته ومباديه عبارة عن حياة العبد
وقدرته وعلمه بالحال، فالعبد مختار في فعله شريطة وجود هذه المبادئ
والمقدمات فيه.
وأما الوجه الثاني فلأنه مبني على نظرية الفلاسفة من أن ذاته العليمة علة
تامة لتكوين الأشياء وإيجادها بكافة سلسلتها الطولية العرضية وحلقاتها
105

التصاعدية من الوجود المنبسط الذي هو صرف الوجود إلى الوجود المندمج
بالماهية، وحيث أن إضافة العلة إلى معلولها إضافة اشراقية فإضافة ذاته العليمة
إلى معلوماتها أيضا كذلك أي إضافة اشراقية لا محمولية، وهذا معنى أن علمه
تعالى علة لمعلومه.
ولكن قد تقدم الإشارة إلى بطلان هذه النظرية ولا يمكن الالتزام بها من جهة
أنها تستبطن الجبر في أفعال الباري عز وجل ونفي القدرة والسلطنة عنه تعالى في
الواقع وهو كما ترى، وإن كان أصحاب النظرية مصرين على أن ضرورة الفعل
الناشئة من ضرورة الإرادة لا تنافي الاختيار سواء كانت ضرورتها بالغير كما في
الانسان أم بالذات كما في الباري عز وجل، بل تؤكده، لأن الملاك في الاختيارية
إنما هو بصدق القضية الشرطية القائلة بأنه لو أراد السفر لسافر ولو شاء الصلاة
لصلى وهكذا، فإن ضرورة السفر عند الإرادة تؤكد الملازمة بين التالي والمقدم في
القضية الشرطية، على أساس أن صدقها يدور مدارها وجودا وعدما، وإليه
يرجع ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أن الفعل الاختياري ما يكون
صادرا عن الإرادة بمبادئها لا ما يكون صادرا عن إرادة صادرة عن اختيار (1).
وهذا الكلام منهم غريب جدا، أما بالنسبة إلى إرادة الباري عز وجل فلا
يمكن تشكيل القضية الشرطية فيها، لما ذكرناه سابقا من أن أداة الشرط كأداة
النفي والتمني والترجي والاستفهام لا تدخل على الصفات الذاتية العليا، وحيث
أن الإرادة عندهم من الصفات الذاتية فلا يمكن دخول أداة الشرط عليها لكي
تشكل قضية شرطية يكون مقدمها الإرادة الأزلية وتاليها الفعل هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الإرادة إذا كانت غير اختيارية سواءا كانت بالغير كما

(1) كفاية الأصول: 68. (مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)).
106

في إرادة الانسان أم بالذات كما في إرادة الواجب تعالى فكيف لا تنافي الاختيار،
بداهة أن ضرورة الفعل لا تجتمع مع الاختيار، فحركة الأصابع إذا كانت ناشئة
بالضرورة من الإرادة في النفس الناشئة بالضرورة من عللها إلى أن تنتهي إلى
إرادة الواجب تعالى كانت حالها تماما حال حركة يد المرتعش الناشئة بالضرورة
من المرض المؤثر فيها الناشئ من عوامله إلى أن تنتهي إلى إرادة الواجب
بالذات، فكما أن حركة يد المرتعش غير اختيارية، فكذلك حركة الأصابع، فإن
كلتيهما ناشئة من عللها الخارجة عن اختيار الانسان، وحينئذ فإن أراد بذلك أن
ملاك اختيارية الفعل هو كونه مسبوقا بالإرادة وإن كانت الإرادة غير اختيارية،
وملاك عدم اختيارية الفعل هو كونه غير مسبوقا بها، ففيه أن ذلك الفرق يرجع
إلى مجرد الاصطلاح بدون أن يكون له واقع موضوعي، ومن الواضح أنه
لا يجدي فيما هو المطلوب في المسألة وهو حسن المحاسبة والعقوبة على الأفعال
الاختيارية وقبحهما على الأفعال الاضطرارية كحركة يد المرتعش واصفرار وجه
الخائف عند الخوف، فلو كان الفعل الاختياري المسبوق بالإرادة كالفعل
الاضطراري خارجا عن اختيار الانسان وسلطنته كانت المحاسبة والعقوبة عليه
قبيحة لا انها حسنة.
فالنتيجة: أن ذاته العليمة لا يمكن أن تكون علة للأشياء المعلومة.
نستعرض نتائج البحث في نقاط:
الأولى: أن استدلال الأشاعرة على الجبر وعدم كون العبد مختارا في فعله
بأن الفعل ممكن والممكن متساوي الطرفين، فترجيح أحدهما على الآخر بحاجة
إلى علة بقاعدة أن الممكن ما لم يجب لم يوجد، وعليه فلا حول ولا قوة للعبد لا
يرجع إلى معنى محصل، لأن الوجدان السليم يحكم بسلطنة الانسان وقدرته على
107

فعله طالما أنه حي وقادر وملتفت.
الثانية: أن ما ذكر من أن فعل العبد ممكن والممكن مقدور لله تعالى ولا شيء
مما هو مقدور له تعالى بواقع تحت قدرة العبد لا يرجع إلى معنى محصل، لأن فعل
العبد مقدور له تعالى بالواسطة ومع ذلك واقع بقدرة العبد مباشرة ولا تنافي بين
الأمرين أصلا.
الثالثة: أن ما قيل من أن عادة الله قد جرت على إيجاد فعل العبد عند قدرته
واختياره إبداعا وإحداثا بدون التأثير لقدرته فيه، لا يرجع إلى معنى معقول
على ما تقدم تفصيله.
الرابعة: أن كلمات الفلاسفة متفقة على أن ملاك اختيارية الفعل هو ارتباطه
بالإرادة وخضوعه لها بنحو خضوع المعلول بالعلة التامة.
ولكن قد تقدم أن الإرادة مهما كانت لا يمكن أن تكون علة تامة للفعل وإلا فلا
يكون الانسان مختارا في أفعاله، على أساس أن الإرادة بما أنها بتمام مقدماتها غير
اختيارية وناشئة بالضرورة من عللها المنتهية إلى الذات الواجبة، فكيف يعقل
أن تكون الأفعال المترتبة عليها اختيارية، ضرورة أنه لا فرق حينئذ بين حركة
يد المرتعش وحركة الأصابع، فإن الكل مترتب على عامل غير اختياري ترتب
المعلول على العلة التامة، وعليه فلا فرق بينهما إلا في مجرد الاصطلاح وهو لا
يجدي في صحة المحاسبة والعقاب وصحة التكليف، فإن كل ذلك إنما هو على
الفعل الاختياري واقعا لا اصطلاحا الذي لا يكون اختياريا واقعا.
الخامسة: الصحيح أن الإرادة مهما بلغت لا تصلح أن تكون علة تامة للفعل
بأن يكون الفعل خاضعا لها وجودا وعدما لأمرين:
108

الأول: أن ذلك خلاف الوجدان والفطرة السليمة، حيث أن الفعل كثيرا ما
كان يصدر من الانسان في الخارج سواءا كانت هناك إرادة في نفسه أم لا.
الثاني: أن الفعل يحكم بقبح المحاسبة والعقاب عليه لأنها من محاسبة العاجز
وهي قبيحة، هذا إضافة إلى أن لازم ذلك لغوية التكليف نهائيا كما تقدم.
السادسة: أن ملاك اختيارية الفعل هو ارتباطه لسلطنة الفاعل وخضوعه لها
وهذا الارتباط يختلف عن ارتباط المعلول الطبيعي بعلته التامة لأنه قائم على
أساس مبدأ التناسب والسنخية بقاعدة أن الشئ ما لم يجب لم يوجد، بينما لا
يكون ارتباط الفعل بالسلطنة قائما على أساس هذا المبدأ، فلذلك لا تنطبق عليه
قاعدة أن الشئ ما لم يجب لم يوجد على تفصيل تقدم.
السابعة: أن مدرسة المحقق النائيني (قدس سره) قد التزموا في المسألة بالفعل النفساني
المسمى بالاختيار واعمال القدرة وراء الفعل الخارجي، بدعوى أنه مرتبط به
وخاضع له خضوع المعلول للعلة، ووجوب وجوده به لا ينافي الاختيار،
باعتبار أنه وجوب بشرط المحمول من جهة وفي طوله من جهة أخرى.
ولكن تقدم أن الالتزام بوجود الفعل النفساني المسمى بالاختيار في وعاء
النفس وراء الفعل الخارجي مخالف للوجدان والبرهان.
أما الأول فلان الوجدان يشهد بأنه ليس في النفس سوى الصفات المعروفة
والمشهورة ولوازمها القهرية.
وأما الثاني: فلأن الظاهر أن الاختيار واعمال القدرة وتأثير النفس كل ذلك
من العناوين الانتزاعية التي هي منتزعة من إضافة الفعل إلى الفاعل، لأن
الاعمال عين العمل في الخارج والاختيار عين الخيار فيه والتأثير عين الأثر
109

كالايجاد والوجود، لا أن الاختيار فعل في النفس وموجود فيها وراء وجود
الفعل في الخارج.
الثامنة: أن المحقق الأصبهاني (قدس سره) حيث قد التزم بأن الفعل خاضع للإرادة
خضوع المعلول للعلة التامة ويدور مدارها وجودا وعدما تبعا للفلاسفة،
فلذلك حاول نقد مدرسة المحقق النائيني (قدس سره) بوجوه، وقد تقدم هذه الوجوه
ونقدها وعدم ورود شيء منها على المدرسة، فالصحيح في نقدها ما ذكرناه.
التاسعة: أن ما ذكر من أن أفعال العباد لا تخلو من أن تكون متعلقة لإرادته
تعالى أو لا، فعلى الأول لابد من وقوعها لاستحالة تخلف المراد عن إرادته
تعالى، وعلى الثاني يستحيل وقوعها في الخارج، على أساس أنه لا مؤثر في
الوجود إلا الله، لا يرجع إلى معنى محصل، لأن أفعال العباد لا يمكن أن تقع متعلقة
لإرادته تعالى مباشرة، فالواقع تحت إرادته وسلطنته هو مبادئ تلك الأفعال،
ومن الواضح أن ذلك لا يستلزم ضرورة وقوعها من العباد في الخارج، وأما أنه
لا مؤثر في الوجود إلا الله فهو صحيح إذا أريد من التأثير أعم من أن يكون مع
الواسطة أو بدونها، وأما إذا أريد منه خصوص ما يكون بلا واسطة فهو
غير صحيح.
العاشرة: أن الظاهر من الفلاسفة أمران:
الأول: أن علمه تعالى بوقوع أفعال العباد زمانا ومكانا لا يمكن أن يتخلف
عنه وإلا لزم علمه تعالى جهلا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد صرح بذلك
صدر المتألهين.
الثاني: أن إضافة علمه تعالى إلى معلومه إضافة اشراقية لا محمولية، ومرد
ذلك إلى أن علمه تعالى علة لايجاد معلومه في الخارج، وعليه فلا يمكن أن يكون
110

العبد مختارا في فعله.
ولكن قد تقدم نقد كلا الأمرين:
أما الأول فلأن حقيقة العلم هي انكشاف الأشياء على ما هي عليه في الواقع
ولا يعقل أن يكون مؤثرا فيها وإلا لزم تخلف العلم عن معلومه وهو مستحيل.
وأما الثاني فلما عرفت من أن معنى العلم هو انكشاف الواقع على ما هو عليه
لا أنه علة لايجاد معلومه فيه، إلا أن يكون المراد من ذلك إضافة الذات العليمة
إلى الأشياء المعلومة وإضافة الذات إليها عند الفلاسفة إضافة اشراقية، ولكن قد
مر أنه لا يمكن أن تكون ذاته تعالى علة تامة للأشياء، وإلا لزم الجبر والقهر في
أفعاله سبحانه وهو كما ترى.
الوجه الرابع: أن الذات الواجبة والحقيقة الإلهية بوحدتها وأحديتها علة
تامة للأشياء بسلسلتها الوجودية الطولية وحلقاتها التصاعدية التي ينبثق
بعضها من بعض، فإنها برمتها تتولد من الذات الواجبة كتولد الشعاع من
الشمس والضوء من النور على أساس مبدأ التناسب، وحيث أن أفعال العباد
جزء من تلك السلسلة والحلقات فلا محالة توجد بوجودها على ضوء أن كل
حلقة متأخرة من تلك الحلقات معلولة لحلقة سابقة مباشرة إلى أن تنتهي إلى
حلقة مستقلة في وجودها وهي الواجبة بالذات، ونتيجة ذلك أن الحلقات
المتصاعدة جميعا متعلقات ومربوطات بالذات الواجبة التي هي الحلقة الأولى
والسبب الأعلى للعالم منها أفعال العباد، فلذلك لا حول ولا قدرة لهم عليها.
والجواب: أولا: أن الذات الواجبة لا يمكن أن تكون علة تامة للأشياء
بالتفسير الفلسفي وإلا لكانت الأشياء واجبة بوجود ذاته المقدسة، ومن الواضح
أن الوجوب ينافي الاختيار بل أن لازم ذلك نفي القدرة والسلطنة عن الباري
111

والخالق للعالم وهو كما ترى.
وثانيا: أنه لا يمكن تفسير اختلاف الأشياء بمظاهرها وحركاتها وتنوعها من
الماء والتراب والنار والحديد والأزوت والرصاص والذهب والفضة والخشب
وغير ذلك على أساس مبدأ واحد للعالم بالتفسير الفلسفي، لأن العلة التامة إذا
كانت واحدة فلابد أن يكون معلولها أيضا كذلك بمقتضى مبدأ التناسب، غاية
الأمر إن كانت وحدتها شخصية فوحدة معلولها أيضا كذلك، وإن كانت نوعية
فكذلك، بداهة أنه لا يمكن أن تكون دائرة المعلول أوسع من دائرة العلة أو
أضيق، كيف فإن المعلول عين الربط والتعلق بالعلة ووليد منها وكامن في
صميم كيانها ووجودها، ولهذا يكون من مراتب وجودها النازلة وليس شيئا
منفصلا عنها.
وعلى ضوء هذا الأساس فإذا كان مبدأ العالم واحدا استحال أن تختلف آثاره
ومظاهره وتتنوع أفعاله بقاعدة أن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد، وحيث أن
ذاته المقدسة واحدة من جميع الجهات والحيثيات فيستحيل أن تصدر منها أفعال
متباينة ومتنوعة في طول سلسلة وجودها وحلقاتها التصاعدية، على أساس
إنها برمتها متولدة من الذات الواجبة بالمباشرة أم بالواسطة.
فالنتيجة: أنه لا يمكن تفسير اختلاف الأشياء في الآثار والاحكام والتنوع
على ضوء تفسير الفلاسفة علية ذاته المقدسة للأشياء، وهو أنها جامعة لجميع
تلك الأشياء بنحو الأتم والأشد بلا حدود لها في مرتبة ذاته، ثم تتولد منها
وتتكثر على ضوء القانون القائل بأن العلل المتصاعدة في الحساب الفلسفي التي
ينبثق بعضها عن بعض يجب أن يكون لها بداية أي علة أولي لم تنبثق عن علة
سابقة، إذ لا يمكن أن يذهب تسلسل العلل إلى ما لا نهاية له، لأن كل معلول
112

ليس إلا نحو من التعليق والارتباط بعلته، فالموجودات المعلولة جميعا
ارتباطات وتعلقات فلا يعقل استقلالها في الوجود، ومن الواضح أن تلك
الارتباطات والتعلقات بحاجة إلى حقيقة مستقلة في الوجود ولم تنبثق عن علة
سابقة وهي الذات الواجبة وإلا استحال وجودها.
وبكلمة أوضح أنه يمكن التعليق على هذه النظرية بعدة أمور:
الأول: أنه لا يمكن تفسير علية ذاته المقدسة للأشياء بالمفهوم الفلسفي وهو
العلية على أساس مبدأ التناسب والسنخية بينها ذاتا، لأن لازم ذلك نفي القدرة
والسلطنة عن الباري عز وجل والخالق للعالم.
الثاني: ما مر الآن من أنه لا يمكن تفسير اختلاف الأشياء في التنوع والآثار
على ضوء مبدأ واحد للعالم وهو الذات الواجبة بالمفهوم الفلسفي.
الثالث: أن العلة إذا كانت قديمة أزلية فلابد أن يكون المعلول أيضا كذلك
على أساس أن المعلول بكيانه ووجوده مرتبط بالعلة ارتباطا ذاتيا فيستحيل أن
يوجد بعد زوال العلة أو يبقى بعد ارتفاعها، ويترتب على ذلك ضرورة قدم العالم
بقدم علته وهي الذات الواجبة، بداهة أنه لا يمكن أن تكون العلة قديمة والمعلول
حادثا مسبوقا بالعدم، لاستحالة ارتباط الحادث بالقديم ارتباطا ذاتيا، وحيث
أنه لا شبهة في حدوث العالم وتجدده، ومعه كيف يمكن أن تكون علته قديمة ثابتة
والمعلول حادثا متغيرا، لوضوح أن العلة إذا كانت قديمة وثابتة فالمعلول أيضا
لابد أن يكون كذلك، وإلا فلا يكون معلولا لها، ومن هنا وقع الفلاسفة في
عويصة مشكلة صلة الحادث بالقديم ذاتا وتأثير القديم فيه.
113

محاولة الفلاسفة لدفع هذه الأمور:
أما الأمر الأول فلأن هذه النظرية نتيجة حتمية لمجموعة من القواعد العقلية
الضرورية.
الأولى: قاعدة أن لكل شيء سببا وعلة.
الثانية: قاعدة التناسب والسنخية بين العلة والمعلول.
الثالثة: قاعدة أن الشئ ما لم يجب وجوده لم يوجد.
الرابعة: قاعدة التعاصر بين العلة والمعلول.
بيان ذلك أن ذاته المقدسة هي سبب العالم ككل وعلته تطبيقا للقاعدة الأولى
وهذه القاعدة من أوليات ما يدركه البشر في حياته الاعتيادية وأنها كنظام عام
للكون موجودة في صميم طبيعة الانسان بصورة فطرية وهو الباعث الذي يبعث
الانسان فطرة إلى تبرير وجود الأشياء باستكشاف أسبابها وعللها، وقد يوجد
ذلك عند الحيوانات أيضا ولهذا لا يكون هذا المبدأ قابلا للتخصيص، لأنه ليس
من القواعد الشرعية حتى يكون قابلا له بل هو من القواعد العقلية الفطرية،
ومن هنا لولا مبدأ العلية وقوانينها الصارمة لم يمكن اثبات أي نظرية من
النظريات العلمية وقوانينها ولم يصح الاستدلال بأي دليل كان في مختلف مجالات
المعرفة البشرية، كما لم يمكن اثبات موضوعية الاحساس والتجربة إلا به، وعلى
هذا فلابد من أن تكون علية الذات الواجبة للأشياء على أساس مبدأ التناسب
والسنخية تطبيقا للقاعدة الثانية، وإلا فلا يمكن أن تكون الأشياء خاضعة لها
خضوع المعلول للعلة، فإذا كان ارتباط الأشياء بالذات الواجبة على أساس هذا
المبدأ فلا محالة يجب وجودها بوجود العلة تطبيقا للقاعدة الثالثة، وحيث إن
114

حاجة الأشياء إلى العلة كامن في صميم كيانها ووجودها بلا فرق فيها بين
الوجود الحدوثي والوجود البقائي تطبيقا للقاعدة الرابعة.
تحصل أن علية الذات الواجبة للأشياء بالمفهوم الفلسفي نتيجة حتمية لتلك
القواعد العقلية الضرورية هذا.
والواقع أن في عرض هذه القواعد وتطبيقها جميعا على مبدئية الذات الواجبة
للعالم خطأ، توضيح ذلك أنه لا ريب في أن الله تعالى هو مبدأ العالم ككل والكل
ينال منه ولكن مبدئيته للعالم ليست على أساس مبدأ التناسب والسنخية كما
فسرها الفلاسفة بذلك بل بسلطنته المطلقة على العالم، لأن فاعليته تعالى للأشياء
إنما هي بها لا بعلية ذاته الواجبة أو إرادته بالمفهوم الفلسفي، وقد تقدم أن نسبة
السلطنة إلى طرفي الأشياء على حد سواء ولا تخرج الأشياء بها عن حد الامكان
والتعادل بين الوجود والعدم إلى حد الضرورة وتوجد بها بدون الحاجة إلى ضم
مقدمة خارجية إليها، وعلى هذا فالقاعدة الأولى وإن كانت لا تنطبق على سلطنة
الباري عز وجل لأنها ليست علة بالمفهوم الفلسفي إلا أنه لا وجه لتخصيص
القاعدة بذلك، فإن المراد منها استحالة وجود الشئ بلا سبب سواءا كان ذلك
السبب العلة بالمفهوم الفلسفي أم كان السلطنة للفاعل كما تقدم، ومن هنا يظهر أن
القاعدة الثانية لا تنطبق على سلطنة الباري عز وجل لعدم التناسب بينها وبين
الأشياء الصادرة منها ذاتا، وإن شئت قلت أن سلسلة الوجود وحلقاته
التصاعدية لابد أن تبدأ حتما بالواجب بالذات وإلا لتذهب إلى مالا نهاية لها
وبالتالي لا وجود لها وهو خلف، وعليه فالحلقة الأولى متمثلة في الواجب
بالذات والحلقة الثانية تصدر منه مباشرة بالسلطنة والاختيار لا بالوجوب
والضرورة وبدون مناسبة بينهما ذاتا، ولهذا لا يكون خضوع الأشياء لسلطنة
115

الباري عز وجل كخضوع المعلول للعلة التامة بالمفهوم الفلسفي، ومن هنا لا
يكون تأثير السلطنة في الأشياء وجودا وعدما مبنيا على القاعدة الثانية، كما أن
صدورها منها ليس مبنيا على القاعدة الثالثة، فإن ضرورتها بالسلطنة إنما هي
من الضرورة بشرط المحمول أي بشرط الوجود لا الضرورة بالعلة كما هو
مقتضى هذه القاعدة، فلذلك لا تنطبق القاعدتان عليها.
وأما القاعدة الرابعة، فهي تنطبق على المقام، لأن الأشياء في حدوثها وبقائها
بحاجة إلى الإفاضة والامداد من الله تعالى بسلطنته وقدرته آنا فآنا، فلو انقطعت
الإفاضة عليها انعدمت، هذا كله بالنسبة إلى الحلقة الثانية من الحلقات
التصاعدية للوجود.
وأما الحلقة الثالثة فعلتها المباشرة هي الحلقة الثانية، وحيث أنها من الأشياء
الطبيعية التكوينية فلا محالة تكون عليتها لها انما هي بالمفهوم الفلسفي، فلذلك
تنطبق عليها جميع القواعد المذكورة، وعلى هذا الأساس فالأفعال الاختيارية
تختلف عن الحوادث الطبيعية، فإن الأفعال الاختيارية خاضعة لسلطنة الفاعل
وجودا وعدما لا على أساس مبدأ التناسب الذاتي بينهما بل على أساس أن
السلطنة على الفعل وحدها تكفي لتحقق أحد الطرفين بدون الحاجة لها إلى ضم
مقدمة خارجية إليها، بينما الحوادث الطبيعية التي هي علل لآثارها ومعلولات
لأسبابها في الحلقة السابقة خاضعة لمبدء التناسب والسنخية، فالنتيجة أن
السلطنة علة للفعل لا بالمفهوم الفلسفي.
إلى هنا قد تبين أنه لا شبهة في بطلان هذه النظرية، فإنه مضافا إلى استلزامها
نفي القدرة والسلطنة عن الباري عز وجل أنها مخالفة للوجدان والبرهان. أما
الأول فلأن الفطرة السليمة الوجدانية تحكم بأن أفعاله تعالى خاضعة للسلطنة
116

والقدرة لا لعلية ذاته الواجبة أو إرادته بالمفهوم الفلسفي. وأما الثاني فقد ثبت في
محله بالأدلة الصارمة القدرة لله تعالى على الأشياء والسلطنة عليها التامة.
وأما الأمر الثاني فلأنهم حاولوا لتبرير اختلاف الأشياء في التنوع والآثار
بأن الصادر من الله تعالى مباشرة هو الوجود المنبسط، وقد يعبر عنه بالوجود
الاطلاقي أيضا لا الأشياء بأنواعها المختلفة، لكي يقال أن صدورها منه تعالى
مستحيل، لأنه من صدور الكثير عن الواحد، وأما صدور الوجود المنبسط عنه
فهو من صدور الواحد عن الواحد على أساس أنه من مراتب وجوده تعالى
النازلة ومن سنخه، وأما التكثر والاختلاف بين الأشياء فهو ناشئ من انبساط
هذا الوجود الاطلاقي على الماهيات في عالم المادة التي هي عبارة عن حدودها
وفوارق بعضها عن بعض آخر، ومن الواضح أن تلك الحدود والفوارق أمور
عدمية لا واقع موضوعي لها فلا تكشف عن اختلاف علتها، ولهذا لو ألغيت هذه
الفوارق والحدود فلا امتياز بينها أصلا بل هي الوجود المنبسط، ولذلك قيل أن
الوحدة في عين الكثرة وبالعكس، فان وحدة الوجود المنبسط في عين الكثرة
لأنه ينطوي على جميع الوجودات الخاصة بنحو الأتم والأشد أي بدون حدودها
وفوارقها، والكثرة في عين الوحدة لأن الوجودات الخاصة إذا ألغيت جميع
حدودها وفوارقها فهي عين الوجود المنبسط هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الوجودات الخاصة بما أنها مختلفة بحدودها فلذلك
تختلف آثارها وتتباين أفعالها وتتنوع مظاهرها، وهذا الاختلاف حيث أنه
ناشئ من اختلاف فوارقها وحدودها التي هي أمور عدمية فلا يكشف عن
اختلاف علتها، وإن شئت قلت أن منشأ الاختلاف بين الأشياء إنما هو ضعف
الوجود، فان حيثية الوجود حيثية طرد العدم، وكلما كان الوجود أشد وأوسع
117

كانت حيثية طرد عدمه كذلك، وكلما كان أضعف كانت حيثية طرد عدمه كذلك
على عكس الماهية، فان سعة سنخ الماهية من جهة الضعف والابهام وسعة سنخ
الوجود الحقيقي من فرط الشدة والفعلية، ولهذا كلما كان الضعف والابهام في
المعنى أكثر كان الاطلاق والشمول فيه أوفر وكلما كان الوجود أشد وأقوى كان
الاطلاق والسعة فيه أكثر وأتم.
وغير خفي أن هذه المحاولة غير تامة، اما أولا فلأنها مبنية على علية ذاته
الواجبة للأشياء بالمفهوم الفلسفي، ولكن قد تقدم أنه لا يمكن أن تكون ذاته
تعالى علة تامة للأشياء بهذا المفهوم لاستلزام ذلك نفي القدرة والسلطنة عن
الباري عز وجل، هذا إضافة إلى أن عليتها كذلك مخالفة للوجدان والبرهان
كما مر.
وثانيا أن الوجود المنبسط الذي لا حدود له في السعة فلا يعقل أن تصدر منه
وجودات خاصة المتنوعة والمختلفة التي لها حدود وفوارق معينة، لأن ذلك من
صدور الكثير عن الواحد وهو محال، ضرورة أن العلة إذا كانت واحدة وغير
محدودة فلابد أن يكون معلولها أيضا كذلك، وإلا فلا يكون معلولا لها. هذا
إضافة إلى أن منشأ اختلافها لو كان أمرا عدميا فلا يمكن أن تختلف آثارها
وتتباين أفعالها، لأن الحقيقة الواحدة لا محالة تكون آثارها واحدة، وإلا لزم
صدور الكثير من الواحد وهو مستحيل، بداهة أن اختلاف الأشياء في الآثار
والأنواع كاشف حتما عن اختلافها بالذات والحقيقة لا بالاعتبار.
إلى هنا قد تبين أن الالتزام بالنظام الجملي التسلسلي للوجود بالتفسير
الفلسفي مبتن على الالتزام بعلية ذاته المقدسة بالمفهوم الفلسفي، وحيث أن التالي
باطل جزما كما عرفت فالمقدم مثل هذا، ولكن السيد الأستاذ (قدس سره) قد علق على
118

هذا النظام الجملي التسلسلي للوجود بأمرين آخرين:
الأول: أنه على ضوء هذه النظرية وهي أن ذاته الأزلية علة تامة للأشياء
بالمفهوم الفلسفي لا يمكن اثبات علة أولي للعالم التي لم تنبثق عن علة سابقة،
والنكتة في ذلك أن سلسلة العلل والحلقات المتصاعدة التي ينبثق بعضها من
بعض لا تخلو من أن تتصاعد تلك الحلقات وتذهب إلى مالا نهاية لها أو لها
نهاية، فعلى الأول هو التسلسل الباطل، ضرورة أن هذه الحلقات جميعا
معلولات وارتباطات فتحتاج في وجودها وتحققها إلى علة ذاتية واجبة الوجود
حتى تنبثق منها وإلا استحال تحققها، وعلى الثاني يلزم وجود المعلول بدون
علة، وذلك لأن السلسلة إذا كانت لها نهاية فلا محالة تكون مسبوقة بالعدم،
ومن الطبيعي أن ما يكون مسبوقا بالعدم ممكن فلا يصلح أن يكون علة للعالم،
مبدأ له هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أنه لا علة له، فالنتيجة على ضوئهما هي وجود الممكن بلا
علة وسبب وهو محال، كيف أن في ذلك القضاء الحاسم على مبدأ العلية، فإذن
على القائلين بهذه النظرية أن يلتزموا بأحد أمرين إما بالقضاء على مبدأ العلية أو
بالتسلسل وكلاهما محال (1).
ولكن للمناقشة في هذا التعليق مجالا، بتقريب أن التزام الفلاسفة بسلسلة
طولية وحلقات تصاعدية للوجود بالتفسير الخاص إنما هو على أساس أنه لا
يمكن تبرير تفسير اختلاف الأشياء وتنوعها في المظاهر والآثار إلا بذلك، وعلى
هذا فهذه السلسلة التي ينبثق كل حلقة متأخرة منها عن حلقة سابقة، فلابد أن
تنتهي إلى حلقة واجبة بالذات التي لا تنبثق عن علة سابقة وإلا لتذهب إلى مالا

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 75.
119

نهاية لها وهو باطل، والمراد من انتهاء السلسلة انتهائها إلى الواجب بالذات الذي
هو مبدأ العالم والسبب الأعلى له فالانتهاء صفة للسلسلة، باعتبار أنها برمتها
منتهية إلى الذات الواجبة، وأما الذات الواجبة التي هي مبدأ السلسلة فلا انتهاء
لها ولا حد، فما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن هذه السلسلة إما أنه لا بداية لها أو
أن لها بداية وحد، فعلى الأول باطلة وعلى الثاني مسبوقة بالعدم، مبني على
الخلط بين أن تكون السلسلة بنفسها منتهية ومحدودة وبين أن تكون منتهية إلى
الواجب بالذات. والأول محال لأن السلسلة برمتها ممكنة فيستحيل أن توجد
بنفسها. والثاني واجب لأنها بوصف كونها ممكنة لابد أن تكون منتهية إلى
الواجب بالذات، فالسلسلة الممكنة لابد أن تبدأ حتما من الواجب بالذات
باعتبار أنها عين التعلق والربط به، وأما الواجب بالذات فهو لا نهاية له ولا
بداية.
والثاني أن لازم هذه النظرية انتفاء العلة بانتفاء شيء من تلك السلسلة،
بتقريب أن هذه السلسلة والحلقات التصاعدية جميعا معلولات لعلة واحدة
وارتباطات وتعلقات بها ذاتا وحقيقة وإنها برمتها كامنة في كيانها ووجودها
وتنبثق منها، فيستحيل أن تتخلف عنها كما يستحيل أن تختلف، وعلى ضوء هذا
الأساس فإذا انتفى شيء من تلك السلسلة فبطبيعة الحال يكشف عن انتفاء
العلة، ضرورة استحالة انتفاء المعلول مع بقاء علته وتخلفه عنها هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أنه لا شبهة في انتفاء الاعراض في هذا الكون، ومن
الطبيعي أن انتفائها إنما هو من ناحية انتفاء علتها وإلا فلا يعقل انتفائها، فالتحليل
العلمي في ذلك يؤدي في نهاية المطاف إلى انتفاء علة العلل، وعلى هذا فلا يمكن
تفسير انتفاء بعض الأشياء في هذا الكون تفسيرا يلائم مع هذه النظرية.
120

والجواب: أولا: أن العرض كالجوهر فلا يطرأ عليه الفناء بعد الوجود،
وذلك لأن وجود العرض وجود تدريجي في موضوع محقق في الخارج وهو
الجوهر وانه عين التحرك والتطور فيه سواءا كان من مقولة الكم أم الكيف أم
الوضع أو الأين وهكذا، مثلا شتلة الشجر فإنها في تحرك وتطور مستمر من
مرحلة إلى مرحلة أرقى ومن النقص إلى الكمال كما وكيفا واينا ووضعا إلى أن
تصبح شجرة كاملة، مثلا النطفة في تطور وتحرك دائم من القوة إلى الفعل من
النقص إلى الكمال إلى أن تصبح انسانا كاملا مفكرا، فوجود العرض وجود
تدريجي ومتقوم بالتدرج والتطور من درجة إلى أخرى، وهذا الوجود التدريجي
وجود واحد في طول الخط بين المبدأ والمنتهى وقوام هذا الوجود بالتدرج
والتطور، ولهذا لا يمكن اجتماع جزئين منه في عرض واحد وزمن فارد،
وعلى هذا فالعرض كالكم والكيف والأين والوضع وغير ذلك موجود في طول
الخط بالتدرج.
وبكلمة، أن حقيقة الحركة سير تدريجي للوجود وتطور للشيء في
الدرجات التي تتسع امكاناته، ولهذا حدد المفهوم الفلسفي للحركة بأنها خروج
الشئ من القوة إلى الفعل تدريجا وليست عبارة عن فناء الشئ فناء مطلقا
ووجود شيء آخر جديد وإنما هي تطور الشئ في درجات الوجود، فيجب إذن
أن تحتوي كل حركة على وجود واحد مستمر منذ أن تنطلق إلى أن تتوقف،
وهذا الوجود هو الذي يتحرك بمعنى أنه يتدرج ويتطور بصورة مستمرة، وكل
درجة تعبر عن مرحلة من مراحل ذلك الوجود الواحد، وهذه المراحل انما
توجد بالحركة، ومن هنا لا يملك الشئ المتحرك قبل الحركة تلك المراحل من
الوجود التي توجد بالحركة وإلا لم توجد حركة بل هو في لحظة الانطلاق إلى
الحركة لا يتمثل إلا في قوى وإمكانات وتستنفد تلك الامكانات والقوى تدريجا
121

ومرحلة بعد مرحلة ودرجة بعد درجة، بأن تستبدل في كل مرحلة من مراحل
الحركة ودرجة من درجاتها القوة بالفعلية والامكان بالوجود، فحقيقة الحركة
خروج الشئ من القوة إلى الفعلية، وفي كل مرحلة من مراحلها تتشابك فيها
القوة والفعلية لأنها مركبة في كل دور من أدوارها ومرحلة من مراحلها من قوة
وفعل وامكان ووجود وهما متشابكان في جميع الأدوار والمراحل لها، فالوجود
في كل مرحلة من مراحل حركته التكاملية يحتوي على درجة معينة من الحركة
في هذه المرحلة بالفعل وعلى درجة معينة أرقى منها بالقوة، مثلا النطفة تحتوي
على درجة معينة من الحركة بالفعل وعلى درجة معينة أرقى منها بالقوة وهي
المضغة فإنها في اللحظة التي تتكيف فيها بتلك المرحلة تتجه سيرا نحو المرحلة
الأرقى والأكمل، وهكذا إلى أن تنفد جميع طاقاتها وامكاناتها فتقف، وبذلك
يظهر جليا أن الحركة لا تنطوي على التناقض فإن اجتماع القوة والفعلية في كل
مرحلة من مراحلها لا يكون من الاجتماع بين المتناقضين، فإنه إنما يكون من
الاجتماع بينهما إذا كان الوجود في كل مرحلة من مراحل الحركة يحتوي على القوة
والفعلية بالنسبة إلى نفس هذه المرحلة، فإن هذا لا يمكن لأن مرد ذلك إلى أن
هذه المرحلة تحتوي على فعلية الحركة وفي نفس الوقت لا تحتوي عليها بل على
امكانها، وأما إذا كان احتوائه على الفعلية بلحاظ نفس هذه المرحلة التي يتكيف
في هذه اللحظة بها وعلى القوة بلحاظ المرحلة الآتية وهي المرحلة الأرقى منها
فلا تناقض، كيف فان الحركة في كل مرحلة ودرجة مركبة من قوة وفعل ولا
يمكن أن توجد ماهية الحركة من دون هذين العنصرين.
إلى هنا قد تبين أن الحركة وجود مستمر متقوم بالتدرج والتطور وليست فناء
الشئ فناء مطلقا ووجود شيء آخر جديد، وعلى ضوء هذا الأساس فلا يعقل
طرو الفناء على العرض بعد وجوده لأنه متقوم بالحركة والتدرج في الوجود ولا
122

يتصور فيه الفناء هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الحركة العرضية في ظواهر الأشياء كحركة الكم
والكيف ونحوهما لا محالة تكشف عن وجود حركة أعمق وهي الحركة الكامنة
في صميم كيان هذه الأشياء ووجودها، على أساس أن الحركة العرضية بحاجة
إلى علة مباشرة لها لاستحالة أن توجد الحركة بنفسها وبدون وجود محرك لها،
ومن الواضح أن علتها المباشرة لابد أن تكون أمرا متجددا ومتطورا وغير
ثابت على أساس مبدأ التناسب والسنخية بين العلة والمعلول، ضرورة أن
المعلول إذا كان متجددا ومتطورا فهو يكشف عن أن علته المباشرة كذلك، إذ لو
كانت علته المباشرة ثابتة استحال أن يكون معلولها أمرا متجددا ومتطورا،
وعلى هذا فلا محالة تكشف الحركة العرضية في ظواهر الأشياء عن وجود حركة
في عمق ذاتها وصميم طبيعتها وكيانها وهي الحركة الجوهرية التي هي العلة
المباشرة لها، فما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من طرو الفناء على العرض دون الجوهر
غير تام، لأن الفناء لو كان طارئا على العرض بعد وجوده لكان كاشفا عن طروه
على الجوهر، باعتبار أن الحركة الجوهرية هي العلة المباشرة للحركة العرضية،
فمع عدم طرو الفناء على الجوهر بعد وجوده استحال طروه على العرض
لاستحالة فناء المعلول بدون فناء العلة، وقد مر أن الحركة ليست فناء الشئ
فناء مطلقا ووجود شيء آخر جديد بل هي وجود تدريجي وذات درجات
ومراتب، والوجود التدريجي بتمام مراتبه ودرجاته على طول الخط وجود واحد
وحقيقة فاردة.
وثانيا مع الاغماض عن ذلك وتسليم أن معنى الحركة هو فناء الشئ فناءا
مطلقا ووجود شيء آخر جديد في كل مرحلة من مراحلها ودور من أدوارها،
123

ولكن حينئذ كما أن العرض يفنى فناء مطلقا بعد وجوده وينعدم كذلك الجوهر،
وعليه ففناء العرض كاشف عن فناء الجوهر لا عن انتفاء المبدأ الأول، والسبب
الأعلى للعالم وهو الذات الواجبة وفناء الجوهر نتيجة حتمية لطبيعة العالم المادي
التجديدية لا من أجل حدوث العلة وتجددها، نعم يبقى هنا إشكال صلة الحادث
المتجدد بالقديم الثابت وسوف نشير إليه، فالنتيجة أن ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره)
من الاشكال غير تام، فالصحيح هو ما ذكرناه في المسألة.
وأما الأمر الثالث فقد ذكر الفلاسفة أن العلة إذا كانت قديمة وأزلية فلابد أن
يكون معلولها أيضا كذلك بمقتضى مبدأ التناسب والسنخية بينهما ذاتا وكون
المعلول وليد العلة وليس شيئا منفصلا عنها، وحيث أن الصادر من الذات
الواجبة مباشرة هو الوجود المنبسط فهو قديم أزلي وليس حادثا مسبوقا
بالعدم، فإذن لا مناص من الالتزام بقدم العالم.
والجواب عن ذلك قد ظهر مما تقدم، اما أولا: فلأنه مبني على أن ذاته
الواجبة علة تامة للأشياء بالمفهوم الفلسفي، ولكن قد سبق موسعا خطأ هذه
النظرية وعدم امكان الالتزام بها، لأنها مضافا إلى كونها مخالفة للوجدان
والبرهان، تستلزم نفي القدرة والسلطنة عن الخالق للعالم وهو لا يمكن.
وثانيا: أنه لا يدفع الاشكال عن العالم المادي إذ لا شبهة في حدوث هذا العالم
وتغيره وتجدده بصورة مستمرة، وعليه فلا يعقل أن تكون علته قديمة ثابتة
لاستحالة صدور الحادث المتغير المتجدد كذلك عن القديم الثابت هذا، وقد
أجاب عن هذا الاشكال صدر المتألهين (1).

(1) الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة 3: 68.
124

وقبل أن نستعرض جوابه نذكر مقدمة وهي أن الحركة بمفهومها الفلسفي
خروج الشئ من القوة إلى الفعل تدريجا، وليست عبارة عن فناء الشئ فناء
مطلقا ووجود شيء آخر جديد، لأنها تطور الشئ في درجات الوجود الواحد
باعتبار أن كل حركة تنطوي على وجود واحد مستمر في التطور والتدرج من
مرحلة إلى مرحلة أخرى، وكل مرحلة من مراحله تعبر عن درجة من وجوده
ويستبدل في كل مرحلة من مراحل الحركة الامكان بالوجود والقوة بالفعلية،
فلذلك تكون القوة والفعلية متشابكتين في جميع أدوار الحركة ومراحلها طالما لم
تستنفد جميع امكاناتها، فإذا استنفدت ولم تبق في الشئ طاقة على درجة
جديدة انتهى عمر الحركة.
والخلاصة أن الحركة في كل مرحلة ذات لونين هما:
الامكان والواقع والقوة والفعلية، فإنها إذا وصلت إلى مرحلة ودرجة
فالحركة بالنسبة إلى هذه المرحلة فعلية وواقعية وبالنسبة إلى المرحلة الثانية
بالقوة والامكان، فالشئ المتحرك في كل مرحلة يملك الحركة بالفعل والواقع
فيها وبالقوة والامكان بالنسبة إلى المرحلة الثانية، فلهذا لا تناقض فيها.
وبعد ذلك نقول أن صدر المتألهين قد وضع نظرية الحركة بصورة أعمق وأدق
وهي النظرية القائلة: بأن الحركة كامنة في صميم طبيعة الأشياء وكيان وجودها،
فإنها بذاتها وذاتياتها في تطور وتدرج دائم ومستمر ولا تقتصر الحركة في ظواهر
الأشياء وسطحها العرضي فحسب بل هي تتبع الحركة في عمقها وكيانها
الوجودي وهي الحركة الجوهرية، وذلك لأن الحركة العرضية القائمة بظواهر
الأشياء كالحركة الأينية والكمية والكيفية وغيرها لما كان معناها التجدد والتطور
فلابد أن تكون علتها المباشرة أمرا متجددا، بداهة أنه لا يعقل
125

أن تكون العلة ثابتة والمعلول متجددا وبالعكس، وعلى هذا فلابد أن تكون علة الحركة
العرضية متجددة متطورة طبقا لتجددها وتطورها، فلو كانت ثابتة ومستقرة
فكل ما يتولد منها يكون ثابتا ومستقرا، وحينئذ فتعود الحركة سكونا وهذا
خلف، وبذلك نستكشف أن العلة المباشرة لهذه الحركة السطحية في ظواهر
الأشياء موجودة في صميم طبيعتها وكيانها وهي القوة المتحركة المتطورة التي
يعبر عنها بالقوة الجوهرية، فان هذه القوة بسبب تطورها وتجددها علة مباشرة
للحركة العرضية هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن صدر المتألهين قد بنى حل مشكلة صلة الحادث بالقديم
على نظرية الحركة الجوهرية التي وضعها بتقريب، أن السبب المباشر لتطور
وجود العرض وتجدده من مرحلة إلى مرحلة أخرى ومن درجة إلى درجة ثانية
هو تطور وجود الجوهر وتجدده بنحو دائم ومستمر، فإذن لا تمس الحركة ظواهر
الأشياء السطحية بل هي في أعماقها وجوهر ذاتها وكيانها وهي الحركة الجوهرية
التي هي العلة المباشرة لها من الداخل وليست علتها من الخارج، وعليه
فحدوث العالم المادي مستند إلى طبيعته التجددية بالذات لا إلى علة خارجية
قديمة ورائه لكي يقال أنه لا يمكن ارتباط الحادث بالقديم وصلته به.
ولكن هذه المحاولة من صدر المتألهين لا تدفع المشكلة، وذلك لأن الحركة
الجوهرية كالحركة العرضية بحاجة إلى علة فلا يمكن أن توجد بنفسها وبدون
علة خارجية، وذلك لأن المادة المتحركة المتجددة بصورة مستمرة لا يمكن أن
تكون هي علة للحركة وسببا لها، لأن معنى ذلك انها علة لنفسها باعتبار ان
وجود المادة بنفسه وجود تدريجي وتطوري لا أنه شيء ثابت تصدر منه الحركة
وإلا استحال صدور الحركة منه، لأن العلة إذا كانت ثابتة فكل ما يصدر منها
126

فهو ثابت، ولا يعقل أن يصدر منها أمر متجدد متحرك وإلا لم تكن ثابتة وهذا
خلف، والنكتة في ذلك أن الحركة متقومة بأمرين:
1 - المتحرك، وهو الموضوع 2 - المحرك، وهو العلة، ولا يمكن أن يكون شيء
واحد من جهة واحدة موضوعا للحركة وعلة لها معا وفي آن واحد، لأن تعدد
المتحرك والمحرك أمر ضروري لما مر من أن الحركة تطور وتكامل تدريجي
للشيء الناقص، ومن الضروري أنه لا يمكن للشيء الناقص أن يطور نفسه
بنفسه ويكمل وجوده تدريجا بصورة ذاتية، فإن معنى ذلك في الحقيقة وجود
الممكن بنفسه وبدون علة وسبب، وهذا كما ترى بعد استحالة تطوره بالذات من
جهة الصراع الداخل كما توهم، فإذن لا يعقل أن تكون علة الحركة التطورية
للمادة التي هي في صميم ذاتها وجوهرها نفس المادة لأنها بنفسها حركة وتطور،
ولا يمكن أن تكون الحركة الجوهرية المادية علة لنفسها وتوجد بصورة ذاتية
وبدون سبب، وعليه فلا محالة تكون علة الحركة الجوهرية وراء المادة المتحركة
وهي الواجب بالذات، فإنه يمدها بالتطور الدائم المستمر ويفيض عليها بالحركة
التكاملية بالتدرج، فإذن تبقى مشكلة صلة الحادث بالقديم على حالها.
وبكلمة، أن الحركة العامة الكامنة في طبيعة الأشياء بنفسها تبرهن على
ضرورة وجود علة وراء حدود المادة، وذلك لأن الحركة كيفية وجود الطبيعة،
فوجود الطبيعة عبارة أخرى عن حركتها وتدرجها من مرحلة إلى مرحلة
أخرى من درجة إلى درجة أرقى وخروجها المستمر من القوة إلى الفعلية
والامكان إلى الوجود، وأما توهم الاستغناء الذاتي للحركة بتناقضاتها الداخلية
التي تنبثق الحركة عن الصراع بينها فلا أصل له، بداهة أنه لا تناقض ولا صراع
في الحركة التي هي عبارة عن خروج الشئ من القوة إلى الفعلية ومن الامكان
127

إلى الوجود ولا يجتمع في كل مرحلة من مراحل الحركة إلا الامكان والوجود
والقوة والفعلية ولا تناقض بينهما، ولا يجتمع على الفرض في كل مرحلة من
مراحلها الوجود والعدم معا حتى يكون بينهما تناقض، فإذن لابد أن تكون العلة
شيئا خارج حدود الطبيعة، لأن أي شيء في الطبيعة فوجوده حركة وتدرج، إذ
لا ثبات في عالم الطبيعة بموجب قانون الحركة العامة في عالم المادة، وعلى هذا
فالحركة الجوهرية التي هي حركة عامة كامنة في صميم طبيعة الأشياء في عالم
المادة برمتها بما أنه لا يمكن أن توجد بذاتها، فلا محالة تكون علتها وراء عالمها
وهي الواجب بالذات، فإنه يمدها تدريجا ويفيض عليها الحركة مرحلة بعد
مرحلة، فإذن لا يمكن حل مشكلة الحادث بالقديم بالحركة الجوهرية إلا على
القول بأنها ذاتية وهو باطل بالضرورة، بداهة أن العلة إذا كانت قديمة ثابتة
استحال أن يكون المعلول حادثا متجددا على ضوء نظرية الفلاسفة القائلة بأن
ذاته الواجبة علة تامة للأشياء بالمفهوم الفلسفي، ولكن تقدم بطلان هذه النظرية
وجدانا وبرهانا وعدم امكان الالتزام بها لما يترتب عليه من المحذور المتقدم.
ومن هنا فالصحيح هو ما أشرنا إليه سابقا من أن مبدئية الله تعالى للعالم ككل
وخالقيته له إنما هي على أساس قدرته وسلطنته المطلقة على الأشياء برمتها، لا
على أساس علية ذاته الواجبة لها بالمفهوم الفلسفي، وتحكم بذلك الفطرة السليمة
الوجدانية من ناحية والأدلة القاطعة من ناحية أخرى كما حقق في محله، وعلى
هذا فكل فعل صادر منه تعالى بسلطنته واختياره لا بالضرورة والوجوب، وقد
سبق أن نسبة السلطنة إلى الطرفين من الفعل نسبة واحدة ولا يخرج الفعل بسببها
عن حد الامكان والتعادل إلى حد الضرورة والوجوب، فلذلك يكون صدور
الأفعال المتباينة والأشياء المتنوعة المختلفة من ذاته تعالى وتقدس بقدرته
وسلطنته على القاعدة، إذ لا مانع من أن تختلف آثاره وتتباين أفعاله طالما لم يكن
128

صدورها منه مبنيا على مبدأ التناسب والضرورة.
ومن ذلك يظهر أنه لا يمكن تفسير اختلاف الأشياء في الآثار والأنواع
تفسيرا موضوعيا إلا على ضوء هذه النظرية.
لحد الآن قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أن الأفعال الاختيارية تمتاز
عن الحوادث الطبيعية في نقطة وهي أن الأفعال الاختيارية تصدر من الفاعل
باختياره وسلطنته لا بالضرورة والوجوب لأن الضرورة تنافي الاختيار، بينما
الحوادث الطبيعية تصدر من عللها بالضرورة والوجوب بمقتضى مبدأ التناسب.
تكميل
قد تسأل هل تصلح المادة الأصيلة للعالم أن تكون علة فاعلية والسبب
الأعلى له؟
والجواب: النفي بصورة قاطعة وذلك لعدة نقاط:
النقطة الأولى: أنه قد ثبت علميا أن المادة الأصيلة للعالم حقيقة واحدة، فإن
التجارب العلمية قد أثبتت أن المادة تحول إلى طاقة والطاقة إلى مادة، ونتيجة
ذلك أن صفة المادة ليست بذاتية بل هي عرضية كسائر صفات الأشياء كصفة
الماء والتراب والحديد والرصاص وهكذا. وعلى ضوء هذا الأساس فالمادة
الأصيلة للعالم سواءا كانت بصفة المادة أم بالقوة حقيقة واحدة مشتركة بين جميع
الأشياء بأنواعها المختلفة وأشكالها المتعددة، وأثر ذلك حتما أنه لا يمكن أن
تختلف آثارها وتتباين أفعالها وحركاتها، إذ من المستحيل أن تتولد من حقيقة
واحدة آثارا مختلفة وأنواعا متباينة، ضرورة استحالة صدور الكثير من الواحد
129

وإلا لأمكن تأثير كل شيء في كل شيء، ومعنى هذا انهيار مبدأ العلية وفيه
القضاء الحاسم على جميع العلوم الطبيعية بمختلف أشكالها.
وبكلمة، أن المادة الأصيلة موجودة في التراب والماء والحديد والأزوت
والرصاص والذهب والفضة وهكذا، على أساس أن تلك الأشياء المتنوعة جميعا
بالتحليل العلمي ترجع إلى مادة واحدة وتلك المادة الواحدة موجودة في كل
واحد من هذه الأشياء بعنوانه الخاص، فإذن كيف يمكن تفسير اختلافاتها
وتباينها مع أن مبدئها وهو المادة واحد بالسنخ فيجب أن يكون أثره أيضا
واحدا كذلك، فاختلاف الأشياء في التنوع والآثار برهان قطعي على أن المادة
الأصيلة الواحدة لا تكون سببا وعلة لها، بداهة أن الحقيقة الواحدة لا تختلف
آثارها ولا تتباين أفعالها على أساس قاعدة فلسفية فطرية وهي أن الواحد لا
يصدر منه إلا الواحد.
النقطة الثانية: أن الشئ المتحرك منذ بداية تحركه وتطوره يملك طاقات
وإمكانات في صميم طبيعته وكيان وجوده وبالحركة تستنفد تلك الطاقات
والامكانات تدريجا وتستبدل في كل مرحلة من مراحل الحركة الطاقة والقوة
بالفعل والامكان بالوجود إلى أن تستنفد الطاقات والامكانات نهائيا، فتوقف
الحركة باعتبار أن الحركة تنطوي على وجود واحد مستمر على طول الخط من
المبدأ إلى المنتهى ومنذ أن تنطلق إلى أن تتوقف، وكل مرحلة تمثل درجة من
درجات هذا الوجود الواحد.
وعلى هذا فكون وجود المادة ذات درجات ومراحل متفاوتة من القضايا
الأولية كوجود البياض مثلا، فإنه ذات مراتب ودرجات متفاوتة وهكذا، ومن
الطبيعي أن المرتبة الأولى من المادة لا يمكن أن تكون علة وسببا للمرتبة الأعلى
130

بصورة ذاتية، لأن الحركة تطور وتكامل تدريجي للشيء الناقص، ومن البديهي
أن الشئ الناقص لا يمكن أن يطور نفسه بنفسه ويكمل وجوده تدريجا
وديناميكيا أي ذاتيا وهذا معناه وجود الممكن بنفسه وبدون حاجة إلى علة
وسبب وهو مستحيل، لأن حقيقة الحركة هي خروج الشئ من القوة إلى
الفعلية، ومن الواضح أن خروج الشئ من القوة إلى الفعلية ومن الامكان إلى
الوجود بحاجة إلى علة، ولا يمكن أن تكون تلك العلة داخلية وهي الصراع بين
التناقضات، ضرورة أنه ليست في الحركة تناقضات وأضداد لتنشأ الحركة من
الصراع بينها، بل فيها تشابك بين القوة والفعلية في جميع أدوارها ومراحلها ولا
تناقض ولا تضاد بينهما، فإن فعلية الحركة بالنسبة إلى درجة وقوتها وامكانها
بالنسبة إلى درجة ثانية بالتدريج، حيث أن الشئ المتحرك في كل مرحلة يملك
درجة خاصة منها بالفعل ودرجة أخرى بالقوة والامكان وهكذا، فإذن لا
موضوع للقول بأن علة حركة المادة وتطورها داخلية ذاتية وهي الصراع بين
المتناقضات والأضداد، وعليه فلا محالة تكون علتها خارج حدودها المادية
وهي تمدها تدريجا وتفيض عليها الحركة التكاملية، حيث لا يوجد في عالم المادة
شيء ثابت، إذ أي شيء فيه فوجوده حركة وتدرج بموجب قانون الحركة
العامة، هذا إضافة إلى أن الشئ الثابت لا يمكن أن يكون علة الشئ المتحرك،
وبكلمة واضحة أن هناك ثلاث قضايا أولية:
الأولى: قضية أن لكل شيء علة وسببا.
الثانية: قضية أن المعلول لا يمكن أن يكون أكبر من العلة لا كما ولا كيفا.
الثالثة: قضية أن فاقد الشئ لا يكون معطيا.
أما القضية الأولى فإنها من أوليات ما يدركه البشر في حياته الاعتيادية
131

فطرة. وأما القضية الثانية فلأن الزيادة على العلة سواءا كانت كيفية أم كمية فلا
يعقل أن تكون معلولة لها، لأن المعلول عين التعلق والربط بالعلة ووليدها
وجودا ولهذا يكون وجوده من حدود وجودها، فلذلك تكون هذه القضية من
تبعات القضية الأولى. وأما القضية الثالثة فمردها إلى وجود الشئ بدون علة
وسبب وهو مستحيل.
وعلى هذا فعدم صلاحية المادة الأصيلة المتطورة لعلية العالم نتيجة حتمية
لهذه القضايا الأولية المرتبطة بعضها ببعض ذاتا، فإن تطور المادة وتجددها
بصورة مستمرة من النقص إلى الكمال بحاجة إلى علة ولا يمكن أن تكون علتها
داخلية وهي الصراع بين المتناقضات والأضداد في الحركة لما عرفت من أنه
ليست في الحركة متناقضات وأضداد أصلا، وإلا فلا يعقل وجود الحركة،
ضرورة أن وجودها مبني على أساس مبدأ عدم التناقض بين القوة والفعل في كل
مرحلة من مراحلها ودور من أدوارها، إذ لو كانت الحركة مبنية على أساس
مبدأ التناقض وجوازه لم توجد حركة، لأن الحركة تنطوي على التطور والتجدد
في مراتب الشئ ودرجاته، فلو كانت تلك المراتب والدرجات المتناقضة
موجودة بالفعل ولم يكن بينها صراع فلا حركة، حيث لا تطور ولا تجدد بل هي
جمود وثبات، فإذن كيف يعقل أن يكون منشأ الحركة الصراع بين المتناقضات.
والحاصل أن المتناقضات لو جازت فلا صراع بينها حتى يكون منشأ
للحركة، وإذا استحالت فلا موضوع له لأن الصراع إنما يتصور في درجة واحدة
لا في درجتين هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الناقص كما لا يمكن أن يطور نفسه بنفسه ويكمل
وجوده بصورة ذاتية من الداخل كما عرفت، كذلك لا يمكن أن يكون الناقص بما
132

هو علة للكامل تطبيقا للقضية الثانية والثالثة بل الأولى أيضا، فإذن وجود
المبدأ للعالم خارج حدوده المادي أمر حتمي، فإنه يمدها تدريجا ويفيض عليها
الحركة مرحلة بعد المرحلة ودرجة بعد الدرجة، ومن هنا يكون تعدد المتحرك
والمحرك ضروريا، بداهة أنه لا يمكن أن يكون شيء واحد من جهة واحدة
موضوعا للحركة وعلة لها في وقت واحد، وإلا لزم كون الناقص متطورا نفسه
بنفسه ويكمل وجوده تدريجا بصورة ذاتية وهذا محال كما عرفت.
النقطة الثالثة: أن المادة قابلة للتجزئة والانفصال مهما كانت كما حقق ذلك في
الفلسفة العليا، وعليه فالاتصال مقوم لوحدتها ونتيجة ذلك أن وحدات العالم
المادي مركبة من مادة وصورة، وعلى هذا الأساس فالمادة لا يعقل أن تكون
السبب الأعلى للعالم، بداهة أن السبب الأعلى له لابد أن يكون واجب الوجود
بالذات وغنيا في كيانه ووجوده عن أي شيء آخر، والمادة بما أنها مركبة من
جزئين فتحقق كل جزء منها يتوقف على تحقق الجزء الآخر، فلا يمكن أن توجد
المادة بدون صورة والصورة بدون مادة، لأن عملية التركيب بينهما لا يمكن أن
تكون بصورة ذاتية وبدون علة، فلا محالة تحتاج إلى سبب العملية
وموجدها ورائها.
والخلاصة: أن المادة في كيانها ووجودها بحاجة إلى تحقق جزئيها معا وكل
منهما في وجوده بحاجة إلى الآخر، فإذن لابد من أن يكون هناك عامل ثالث
ورائهما هو الموجد للتركيب بينها والمفيض عليهما هذا، ونكتفي بهذا القدر في بيان
التكملة ونترك التفاصيل في المسألة وجوانب أخرى فيها إلى محلها، لحد الآن قد
تبين أن القول بأن المادة الأصيلة هي السبب الأعلى للعالم لا يخرج عن مجرد تخيل
وأفكار ذاتية لا واقع موضوعي لها ولا يبتني على أي أساس علمي ولا فلسفي
133

ومنشأه عدم الوعي لمعنى الحركة والتدرج.
فالنتيجة، أن مبدأ العالم ككل والسبب الأعلى له ما وراء حدوده المادي وهو
يمده ويفيض عليه بصورة مستمرة وهو غني بالذات وخالق العالم بالقدرة
والسلطنة وهو فاعل بالاختيار لا بالضرورة والوجوب وتفصيل كل ذلك تقدم.
134

نظرية المعتزلة
مسألة التفويض ونقدها
ذهب المعتزلة إلى أن العبد مفوض من قبل الله تعالى في أفعاله وحركاته
تفويضا مطلقا وأن له السلطنة المطلقة على أفعاله بدون دخل لإرادته تعالى فيها
ومستقل في إيجادها ولا يحتاج إلى الاستعانة بغيره لا فيها ولا في بقاء مباديها،
وهذه النظرية مبنية على نظرية أن سر حاجة الشئ إلى العلة إنما هو حدوثه فإنه
بحاجة إليها، فإذا حدث فلا يحتاج في بقائه واستمراره إلى علة ويملك بعده
استقلاله ووجوده متحررا عنها، ومن هنا لو كان الشئ موجودا بصورة
مستمرة ودائمة ولم يكن حادثا بعد العدم فلا توجد فيه حاجة إلى العلة هذا،
وغير خفي أن هذه النظرية قد أسرفت في تحديد مبدأ العلية كما أن نظرية
الأشاعرة قد أفرطت في تعميم هذا المبدأ بنفي القدرة والسلطنة عن العبد نهائيا،
أو فقل أن نظرية المعتزلة أسرفت في تحديد قدرة الخالق والباري عز وجل
وسلطنته على الأشياء وتخصيصها بحدوثها فحسب، ونظرية الأشاعرة أفرطت
في تعميمها حتى على أفعال العباد وأنها تحت سلطنته المطلقة وجودا وعدما
بدون دخل للعبد فيها أصلا.
ولكن كلتا النظرتين باطلة، أما نظرية الأشاعرة فقد تقدم الكلام فيها موسعا
ولا حاجة إلى الإعادة.
وأما نظرية المعتزلة فهي مبنية على أن سر حاجة الأشياء إلى العلة انما هو
كامن في حدوثها فإذا حدثت استغنت عن العلة بقاء واستمرارا، وعلى هذا
فالانسان بعد خلقه وإيجاده فلا يحتاج في بقائه إلى خالقه، فإذن بطبيعة الحال
135

تكون أفعاله تحت قدرته وسلطنته مستقلا باعتبار أنه بقاء واجب الوجود وغني
عن كل شيء، ومن الواضح أن مرد هذا إلى تحديد قدرته تعالى وسلطنته
بحدوث الأشياء بعد العدم دون الأعم منه ومن البقاء.
وهذه النقطة خاطئة جدا لأن سر حاجة الأشياء إلى العلة هو امكانها
الوجودي الذي هو كامن في صميم كيانها وكنه حقيقتها، ومعنى ذلك أنها عين
الحاجة إلى العلة والتعلق بها لا شيء له الحاجة والتعلق وإلا ليذهب إلى مالا
نهاية له، والنكتة في ذلك أن المعلول بالمفهوم الفلسفي يتولد من العلة وينبثق منها
ذاتا على أساس مبدأ التناسب والسنخية، ولهذا لا يملك المعلول وجودا مستقلا
حرا وراء ارتباطه بالعلة، بداهة أنه لو كان يملك وجودا كذلك وراء ارتباطه
وتعلقه بها فلا يعقل أن يكون متولدا ومنبثقا عنها ذاتا، ومن هنا يختلف ارتباط
المعلول بالعلة عن سائر ألوان الارتباط كارتباط القلم بالكاتب وارتباط اللوح
بالرسام وارتباط الكتاب بالقارئ وهكذا، فإن الارتباط في هذه الموارد يعرض
على شيئين كان كل منهما يملك وجودا بصورة مستقلة عن الآخر في المرتبة
السابقة، ولهذا يكون الارتباط بينهما عرضيا، وهذا بخلاف الارتباط بين العلة
والمعلول فإنه ذاتي وكامن في صميم كيانه ووجوده ولا يملك حقيقة وراء ارتباطه
بالعلة، وإلا فلا يعقل أن يكون معلولا لها ووليدها.
وبكلمة، أن الشئ إذا كان يملك وجودا بصورة مستقلة استحال أن يكون
خاضعا لمبدء العلية، فإن الخاضع له انما هو الشئ الذي لا يملك الوجود كذلك،
وعلى هذا فالشئ الممكن لا يملك حقيقة ووجودا متحررا مستقلا عن العلة وإلا
لكان واجبا لا ممكنا، وإنما يملك حقيقة تعلقية ارتباطية بها ذاتا، وعلى هذا فلا
فرق بين الحدوث والبقاء في الحاجة إلى العلة والارتباط بها، إذ كما أن
136

وجوده الحدوثي وجود تعلقي وارتباطي كذلك وجوده البقائي، فلا فرق بينهما من هذه
الناحية أصلا هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الحقائق الخارجية بحركاتها المتصاعدة جميعا حقائق
ارتباطية تعلقية على طول الخط لا حقائق مستقلة وإلا لكانت واجبة مستغنية
عن العلة لا ممكنة وبحاجة إليها وإلا لم تكن مستقلة ومتحررة عنها، وهذه
الحقائق الارتباطية بحلقاتها المتصاعدة التي ينبثق بعضها من بعض لابد أن
تكون لها بداية أي علة لم تنبثق عن علة سابقة، على أساس أن كل حلقة منها
معلولة لحلقة سابقة عليها وهكذا، والفرض أن المعلول عين الربط والتعلق بعلته
وطالما لم تنته الحلقات المتصاعدة إلى علة مستقلة في وجودها وغنية بالذات
ومتحررة عن العلة، لم تتحقق تلك الحلقات لأنها جميعا بعللها ومعلولاتها
ارتباطات وتعلقات، فلابد أن تنتهي إلى سبب أعمق وراء حدودها المادية، إذ
لا يمكن فرض شيء بينهما يكون متحررا عن مبدأ العلية، وذلك السبب الأعمق
هو الله تعالى، غاية الأمر أن الحلقة الأولى تصدر منه تعالى بقدرته وسلطنته
بالاختيار لا بالضرورة والوجوب، ولهذا قلنا أن قاعدة أن الممكن ما لم يجب لم
يوجد لا تنطبق على الأفعال الاختيارية التي تصدر من الفاعل بقدرته وسلطنته
مباشرة كما تقدم ذلك مفصلا. وأما الحلقة الثانية فهي تصدر من الحلقة الأولى
على أساس مبدأ التناسب والسنخية وهكذا، ولذلك تنطبق عليها القاعدة
المذكورة وانها ما لم تجب لم توجد.
والخلاصة: أن نظرية الحدوث نظرية خاطئة جدا وناشئة عن عدم الوعي
الصحيح لمبدء العلية كنظام عام للكون والخطأ في فهم سر حاجة الممكن إلى العلة
بتخيل أنه حدوثه، مع أن من الواضح أن سر حاجته إليها كامن في صميم كيانه
137

الوجودي وهو أنه عين الفقر والحاجة لا أنه شيء له الفقر والحاجة، فإذا كان
كيانه الوجودي كيان ارتباطي وتعلقي ومتقيد ومرتبط بالعلة وغير متحرر عنها،
فلا فرق في ذلك بين حدوثه وبقائه، بداهة أنه لا يعقل أن يكون متقيدا بالعلة
حدوثا ومتحررا عنها بقاء، فإن معناه أنه واجب الوجود بقاء، ولا زم ذلك أن
الوجود الأول المسبوق بالعدم وجود الممكن، والوجود الثاني المسبوق به وجود
الواجب وهو كما ترى، إذ لا يعقل أن يكون الوجود الأول متقيدا بالعلة وغير
متحرر عنها، والوجود الثاني متحررا ومستقلا عنها، وإلا لم يكن بقاء لوجوده
الأول لعدم كونه من سنخه وهذا خلف.
وعلى هذا فلا يكون العبد مستقلا في فعله، لأن سلطنته عليه مشروطه ببقاء
مبادئه من الحياة والقدرة والعلم، والمفروض أن بقاء تلك المبادئ كحدوثها
بيده تعالى وهو يمدها بصورة مستمرة ويفيض عليها كذلك، فإذا انقطعت
الإفاضة عليها في أي لحظة انتهت تلك المبادي وانهارت في نفس اللحظة،
ولذلك لا استقلال للعبد في فعله.
والحاصل أن صدور الفعل من العبد يتوقف على مقدمتين:
الأولى: توفر مباديه الأولية من الحياة والقدرة والعلم.
الثانية: سلطنة العبد عليه.
أما المقدمة الأولى فهي خارجة عن اختيار العبد وقدرته، وإنما هي بيده
تعالى وهو يمدها ويفيض عليها.
أما المقدمة الثانية: بيده واختياره مباشرة، وهذا معنى أن العبد غير مستقل
في فعله ولا هو خارج عن اختياره نهائيا بل أمر بين الأمرين، يعني لا جبر
138

ولا تفويض.
تنبيه..
وهو أن المعلول لما كان مرتبطا بالعلة ارتباطا ذاتيا، نستطيع أن نفهم مدى
ضرورة حاجة المعلول إلى العلة وارتباطه وتعلقه بها ذاتا، فلا يعقل وجوده بعد
زوال العلة كما لا يعقل بقاؤه بعد ارتفاعها ويعبر عن ذلك بقانون التعاصر بين
العلة والمعلول.
مناقشة كلامية لهذا القانون
وهي متمثلة في مناقشتين:
الأولى: أن سر حاجة الأشياء إلى العلة هو حدوثها، فإذا حدثت لم يكن
وجودها بعد ذلك مفتقرا إلى علة، ولكن قد تقدم بطلان هذه النظرية بشكل
موسع، فلا حاجة إلى الإعادة.
الثانية: أن قانون التعاصر بين العلة والمعلول لا يتفق مع ظواهر جملة من
الأشياء في الكون، فإن وجوداتها بعد حدوثها مستمرة مع زوال علته ومتحررة
عنها كالبنايات الشاهقة التي شادها البناؤون وآلاف من العمال والفنيين فإنها تبقى
قائمة بعد انتهاء عملية البناء مئات السنين، ومن هذا القبيل الصنايع الميكانيكية
كالسيارات والطائرات والسفن ونحوها فإنها تظل ثابتة بعد عملية التصنيع
سنين متمادية.
وبكلمة، أن ظواهر الأشياء التي شادها المهندسون وذوي الخبرة والفن
وأيادي آلاف من العمال كالبنايات بأشكالها المختلفة والصنايع والمعامل والمكائن
والجسور والطرق والإنفاق وما شاكلها في شتى ميادين الطبيعة تبقى قائمة بعد
139

انتهاء عللها الفاعلية مئات السنين. فالنتيجة، أن هذه الظاهرة تبرهن أن المعلول
يبقى بعد زوال العلة وانه يملك حريته بعد حدوثه، فإذن لا أصل لقانون التعاصر
بين العلة والمعلول.
والجواب: أن هذه المناقشة مبنية على الخلط بين علة حدوث هذه الأشياء
وعلة بقائها، ومنشأ هذا الخلط هو أن الرجل المناقش لم يدرك معنى العلية
وضرورة حاجة المعلول إليها بشكل دقيق ولم يميز بين العلة وغيرها، وتخيل أن
هذه الأشياء في حدوثها بحاجة إليها، وأما في بقائها فهي متحررة عنها ومستقلة
ومالكة لحريتها عن التقيد بها هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن علة حدوث تلك الأشياء وتحققها هي نفس العملية
التي يقوم بها المهندسون والفنانون وآلاف من أيادي العمالة بالتركيب والتصنيع
وتجميع المواد الخام الأولية من الآجر والحديد والخشب والسمنت والجص
وغير ذلك، وهي عبارة عن عدة من الحركات والتحريكات يقوم بها العمال
وهذه الحركات معلولة للعمال ولا يمكن استغنائها عنهم في وجودها، بل تنقطع
حتما في الوقت الذي ينصرف العمال فيه عن العمل، وهذا معنى أن المعلول
لا يمكن أن يبقى بعد زوال العلة فيكون حدوث هذه الأشياء نتيجة عمل العمال
وحركات أيديهم التي هي معلولة لسلطنتهم واختيارهم.
والخلاصة: أن عرض الرجل المناقش هذه الظواهر كأمثلة لتحرر المعلول
بعد حدوثه عن علته نشأ من عدم التمييز بين العلة وغيرها، فإنا إذا أدركنا العلة
الواقعية في هذه الأشياء والظواهر نستطيع أن نميز بين علة حدوثها وعلة بقائها،
فإن علة حدوثها ما هو المعلول للعمال المشتغلين المتمثل في عدة من الحركات
والتحريكات كما عرفت.
140

وأما علة بقائها على وضعها الذي حصل لموادها على أثر العملية فهي كامنة
في صميم موادها وهي الخصائص الحيوية الذاتية الموجودة في تلك المواد من
ناحية، والقوى الجاذبية العامة التي تفرض عليها المحافظة على وضعها وموضعها
من ناحية أخرى، فإن نسبة القوة الجاذبية إليها بمالها من الخصائص الحيوية
نسبة الطاقة الكهربائية إلى الحديد، فكما أن الطاقة الكهربائية تجره إليها وتمنعه
من الانفصال عنها وسقوطه، فكذلك القوة الجاذبية العامة فإنها تفرض على
المادة المحافظة على وضعها وموضعها وتمنعها من التفكيك والانهيار والسقوط في
الفضاء الهائل فعلة بقائها مجموع من الخصائص الحيوية الذاتية في صميم موادها
الأساسية من الداخل، والقوة الجاذبية العامة التي تفرض عليها المحافظة على
وضعها وموضعها من الخارج، ولا يمكن استغناء هذه الأشياء والظواهر عنهما في
لحظة على أساس أنها عين التعلق والارتباط بها، غاية الأمر أن علة حدوثها
عمل العمال وأهل الفن وعلة بقائها الخصائص الحيوية الذاتية في داخلها والقوة
الجاذبة العامة في خارجها، وعلى هذا فبقاء هذه الأشياء لا ينافي قانون التعاصر
بين العلة والمعلول.
ومن هنا يظهر سر بقاء الكرة الأرضية بما فيها من الجبال والبحار والأنهار
وغيرها من الكرات الهائلة التي تسبح في الفضاء الكوني اللا متناهي، فإن بقاء
هذه الكرات التي تتحرك في الفضاء بسرعة هائلة على وضعها الطبيعي وموضعها
ومداراتها معلول لأمرين:
الأول: وجود الخصائص الحيوية الذاتية في صميم عناصرها ووحداتها
الأساسية.
الثاني: القوة الجاذبة العامة التي تفرض عليها المحافظة على وضعها الطبيعي
141

ومواضعها، فمجموع هذين الأمرين هو العلة المباشرة لبقائها، مثلا الكرة
الأرضية التي تتحرك بسرعة فائقة في مدار حول الشمس من ناحية وحول
نفسها من ناحية أخرى، معلولة لهذا الأمرين مباشرة هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الخصائص الحيوية الذاتية في الأشياء كلما كانت أشد
وأقوى كان التركيب والانسجام بين عناصرها ووحداتها كذلك، وبمرور الزمان
تنقص تلك الخصائص الحيوية تدريجا في البنايات والصناعات وغيرهما وفي
المقابل تظهر فيها علائم التفكك والانهيار إلى أن وصل النقص درجة الصفر، فإذا
وصل هذه الدرجة انهار الانسجام والتركيب بين عناصرها وموادها تماما.
إلى هنا قد ظهر أمران:
الأول: أن الممكن مساوق للفقر والحاجة لا أنه شيء له الحاجة والفقر، لأن
حاجته كامنة في صميم كيانه ووجوده لا في حدوثه فحسب وهو الوجود الأول
المسبوق بالعدم.
الثاني: أن علة الحدوث في هذه الظواهر غير علة البقاء لا انها حرة في بقائها
ومستقلة كما زعم ذلك الرجل المناقش، وقد مر أن هذا الزعم ناشئ من عدم
التمييز بين العلة وغيرها.
فالنتيجة، في نهاية المطاف أن نظرية المعتزلة كنظرية الأشاعرة نظرية خاطئة
جدا ولا واقع موضوعي لها ونشأت من الخطأ في فهم معنى العلية كنظام عام
للكون ومغزى حاجة الأشياء إليها، ومن هنا قد ورد في جملة من الروايات ذم
هذه الطائفة باعتبار أنهم يقولون بتعدد الآلهة بعدد أفراد البشر.
142

نتيجة البحث عدة نقاط:
الأولى: أن الذات الواجبة لا تصلح أن تكون علة تامة للأشياء بالمفهوم
الفلسفي، لأن النتيجة الحتمية لهذه النظرية أمور لا يمكن الالتزام بشيء منها:
الأول: نفي القدرة والسلطنة عن الباري عز وجل والخالق للعالم.
الثاني: أنه لا يمكن تفسير اختلاف الأشياء في الآثار والأنواع على ضوء هذه
النظرية الفلسفية، على أساس أن الحقيقة الواحدة لا يمكن أن تختلف آثارها
وتتباين أفعالها.
الثالث: أن يكون العالم قديما أزليا على أساس قدم علته وأزليتها، إذ لا يمكن
أن تكون العلة قديمة أزلية والمعلول حادثا أو تكون العلة ثابتة والمعلول
متجددا.
الثانية: أن تبرير اختلاف الأشياء بأن الصادر من الذات الواجبة هو الوجود
المنبسط مباشرة ولكن الصادر من الوجود المنبسط هو الوجودات الخاصة التي
لها حدود وفوارق، والاختلاف والتكثير انما نشأ من حدودها وفوارقها وهي
أمور عدمية فلا تحتاج إلى علة، ولهذا لو ألغيت عنها هذه الحدود والفوارق فهي
نفس الوجود المنبسط.
ولكن هذا التبرير غير صحيح، أما أولا فلأنه مبني على علية ذاته تعالى
للأشياء بالمفهوم الفلسفي، وقد تقدم أن هذا التفسير خاطئ جدا ولا واقع
موضوعي له.
وثانيا أن الوجود المنبسط الذي لا حدود له في السعة فلا يعقل أن يصدر منه
وجودات محدودة، لأن العلة إذا كانت غير محدودة فلابد أن يكون معلولها أيضا
143

كذلك وإلا فلا يكون معلولا لها.
الثالثة: أن ما أورده السيد الأستاذ (قدس سره) من المناقشة على هذه النظرية من
جهتين غير تام على تفصيل تقدم.
الرابعة: أن صدر المتألهين حاول لدفع مشكلة صلة الحادث بالقديم بوضع
نظرية خاصة وهي نظرية الحركة الجوهرية وانها كامنة في أعماق طبيعة الأشياء
وصميم ذواتها وهي العلة المباشرة للحركة العرضية، وعليه فيكون حدوث عالم
المادة نتيجة حتمية لطبيعته التجددية والتطورية لا لأجل حدوث علته.
ولكن هذه المحاولة لا تدفع المشكلة أساسا وإنما تدفع عن خصوص الحركة
العرضية وأن علتها المباشرة هي الحركة الجوهرية التي هي أعماق طبيعة الأشياء
وصميم كيانها، وأما نفس الحركة الجوهرية، فلا يمكن أن توجد ذاتية وبدون أن
يكون لها علة في خارج حدودها المادية كما تقدم تفصيل ذلك.
الخامسة: أن مبدئية الله تعالى للعالم انما هي على أساس قدرته وسلطنته
المطلقة على الأشياء لا على أساس علية ذاته الواجبة بالمفهوم الفلسفي، لما تقدم
من أن هذه النظرية مضافا إلى كونها مخالفة للوجدان والبرهان أن فيها محذورا
يكاد يكون الالتزام به كفرا.
وأما فاعليته تعالى للأشياء بقدرته وسلطنته المطلقة فهي مطابقة للفطرة
السليمة الوجدانية والبراهين العقلية وأنها عين الاختيار لا أنها تنافي الاختيار،
فإن المنافي له إنما هو فاعليته للأشياء بالضرورة والوجوب.
السادسة: أنه لا يمكن تفسير اختلاف الأشياء في الآثار والأنواع إلا على
ضوء ما ذكرناه من أن فاعليته تعالى إنما هي بسلطنته المطلقة على الأشياء،
144

وحينئذ فلا مانع من أن تختلف آثاره كاملا وتتباين أفعاله على تفصيل تقدم.
السابعة: أن زعم الماديين بأن المادة الأصيلة للأشياء هي العلة الفاعلة للعالم
ناشئ من عدم وعيهم لمفهوم الحركة للمادة وتخيلهم أنها ناجمة عن الصراع بين
التناقضات فيها لا عن علة في خارج حدودها المادية، ولكن تقدم أنه ليست في
الحركة تناقضات ولا اضداد بل تشابك بين القوة والفعل ولا تناقض، ولهذا قلنا
أن الحركة مبنية على مبدأ عدم التناقض لا أنها مبنية على مبدأ التناقض، وإلا لم
توجد حركة وهذا خلف على تفصيل قد مر.
الثامنة: أن نظرية المعتزلة القائلة بأن العبد مفوض في أفعاله وحركاته وأنه
سلطان مطلق لا ترجع إلى معنى معقول، على أساس أنها مبنية على نظرية أن سر
حاجة الأشياء إلى العلة إنما هو كامن في حدوثها وهو الوجود المسبوق بالعدم،
وأما في بقائها فهي حرة وتملك وجودها واستقلالها متحررا عن العلة، ولكن قد
تقدم أن هذه النظرية مبينة على عدم فهم معنى مبدأ العلية للأشياء لنظام عام
للكون وضرورة حاجة المعلول إليها وارتباطه بها ارتباطا ذاتيا.
التاسعة: أن سر حاجة الأشياء إلى العلة كامن في صميم كيانها ووجودها لا
في حدوثها، وعليه فلا فرق بين الوجود الأول المسبوق بالعدم والوجود الثاني
المسبوق بالوجود الأول، باعتبار أن وجودها نفس الحاجة والفقر وعين التعلق
والربط بالعلة، ونتيجة ذلك أن مبادئ الفعل بيده تعالى حدوثا وبقاءا، وأما
السلطنة على الفعل مباشرة فهي بيد العبد وهذا هو معنى الأمر بين الأمرين.
العاشرة: أن المعتزلة قد أسرفت في تحديد قدرة الله تعالى وسلطنته على
الأشياء بحدوثها فحسب، وأما في بقائها فهي حرة وغير متقيدة بقدرته تعالى
وسلطنته وخارجة عنها في مقابل الأشاعرة، فإنها قد أفرطت في تعميم قدرة الله
145

تعالى وسلطنته حتى على أفعال العبادة.
الحادية عشرة: قد يناقش بأن ظواهر جملة من الأشياء لا تنسجم مع قانون
التعاصر بين العلة والمعلول، وذلك كالبنايات والصناعات ونحوهما فإنها تبقى
قائمة بعد انتهاء العملية وزوال العلة، وهذا معنى أنها في بقائها حرة ومالكة
لاستقلالها ووجودها متحررا عن العلة، هذا. وقد تقدم أن منشأ ذلك عدم
التمييز بين العلة وغيرها وتخيل أنها في بقائها لا يحتاج إلى علة، ولكنا إذا أدركنا
العلة الحقيقية لتلك الأشياء وأنها لا تستغني عن العلة في لحظة نستطيع أن نميز
بين ما هو العلة لحدوثها وما هو العلة لبقائها، فإن ما هو العلة لحدوثها حركات
أيدي العمال وما هو العلة لبقائها الخصائص الحيوية الذاتية في موادها ووحداتها
الأساسية من ناحية، والقوى الجاذبة العامة التي تفرض عليها المحافظة على
وضعها وموضعها من ناحية أخرى.
146

نظرية الامامية
مسألة الأمر بين الأمرين
أن طائفة الامامية بعد رفض نظرية الأشاعرة في أفعال العباد ونقدها صريحا
وبيان خطأها وأنها أفرطت في تعميم قدرة الله تعالى وسلطنته على أفعال العباد
وجعلتهم مجرد وسيلة وآلة لصدور الأفعال منهم بدون حول ولا قوة لهم في ذلك
على تفصيل تقدم من ناحية، ورفض نظرية المعتزلة فيها ونقدها صريحا وبيان
خطأها في فهم معنى العلية وسر حاجة الأشياء إليها وإسرافها في تحديد قدرة الله
تعالى وسلطنته على الأشياء على ما تقدم تفصيله من ناحية أخرى. قد اختارت
نظرية ثالثة في أفعال العباد وهي نظرية الوسط الأمر بين الأمرين لا افراط
فيها ولا تفريط.
وهذه النظرية هي نظرية صحيحة على أساس مطابقتها لواقع مبدأ العلية
كنظام عام للكون من جهة وللروايات الواردة من الأئمة الأطهار (1) (عليهم السلام) من
جهة أخرى، فيقع الكلام هنا في مقامين:
الأول في مطابقة هذه النظرية لقانون مبدأ العلية.
الثاني في مطابقتها للروايات الواصلة من المعصومين (عليهم السلام).
أما الكلام في المقام الأول فقد تبين من البحوث السابقة أن هذه النظرية
تنسجم مع مبدأ العلية في الأشياء وسر حاجتها إليه، وذاك لما تقدم من أن

(1) أنظر الأحاديث في باب نفي الظلم والجور عنه تعالى وابطال الجبر والتفويض في المجلد الخامس من
بحار الأنوار ص 4. وأيضا الباب التالي فيه.
147

سر حاجة الممكن إلى العلة ليس كامنا في حدوثه وهو الوجود المسبوق بالعدم
ويكون في بقائه حرا ومالكا لاستقلاله ووجوده متحررا عنها، بل هو كامن في
صميم كيانه ووجوده، حيث أنه عين الحاجة والفقر لا شيء له الحاجة والفقر
وإلا لننقل الكلام إلى ذلك الشئ وهكذا فيلزم التسلسل، فإذا كان الممكن عين
الفقر والتعلق بالعلة فلا فرق حينئذ بين الوجود الأول والوجود الثاني، لفرض
أن الوجود هو عين الفقر والتعلق ولا يعقل أن يكون الوجود الثاني منه واجبا
ومتحررا عن العلة وإلا لم يكن بقاء للممكن لأن الواجب ليس بقاء، له ولا زم
ذلك انقلاب الممكن إلى الواجب بنفسه وهو مستحيل، وأيضا لازم هذا عدم
عروض الزوال عليه بعد وجوده لأنه بعد تحرره عن العلة غني بالذات، فإذا كان
كذلك فلا يعرض عليه الفناء والانهيار والتفكك، لأن عروض ذلك إنما هو من
جهة انتفاء العلة المباشرة من جهة وقطع الإفاضة من المبدأ الأول من جهة
أخرى، فإذا كان متحررا عن العلة المباشرة وغنيا بالذات عن إفاضة المبدأ
الأول فبطبيعة الحال لم يعرض عليه الزوال والانهيار، وهذا خلاف الوجدان
والمشاهد.
فالنتيجة، أن حاجة الممكن إلى العلة انما هي في وجوده باعتبار أنه نفس
التعلق بالعلة والارتباط بها ذاتا، وعليه فلا يعقل الفرق بين الوجود المسبوق
بالعدم والوجود المسبوق بالوجود، وعلى ضوء هذا الأساس فمبادئ فعل العبد
المتمثلة في الحياة والقدرة والعلم والشعور وغير ذلك بيده تعالى حدوثا وبقاء
وخارجة عن قدرة العبد واختياره، فإنه تعالى يمدها ويفيض عليها بصورة
مستمرة وفي أي لحظة انقطعت الإفاضة عليها انهارت وانعدمت.
وبكلمة، أن العلة المباشرة لمبادي الفعل كامنة في صميم طبيعة الانسان وهي
148

متمثلة في العظم واللحم والشحم والدم والمخ والعصب وما شاكل ذلك، وهي
معلولة مباشرة لعلة ثانية وهي المواد الغذائية المحللة في جهاز الهضم الذي هو
أعظم معمل كيميائي دقة ونظاما، فإنه يحلل الأغذية المختلفة بأساليب مدهشة
ويوزع المواد الغذائية الصالحة على بلايين الخلايا الحية التي يأتلف منها جسم
الانسان وهي معلولة لحلقة ثالثة وهكذا إلى أن تنتهي السلسلة والحلقات إلى
الحلقة الواجبة بالذات التي لم تنبثق من حلقة سابقة وهي الذات الأزلية ومبدأ
تلك الحلقات، فإنها لابد أن تبدأ بها وإلا فلا توجد، فإذن لابد من وجود علة
واجبة بالذات في خارج حدود السلسلة المادية لكي يمدها ويفيض عليها بشكل
دائم ومستمر، باعتبار أنها عين التعلق والارتباط بها، فإذا انقطعت الإفاضة في
لحظة انتهت السلسلة وانهارت في نفس اللحظة.
والخلاصة: أن مبادئ الفعل بيده تعالى وتحت سلطنته المطلقة حدوثا وبقاء
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن معنى ذلك ليس أن الانسان مسلوب
القدرة والسلطنة وأنه لا حول ولا قوة له بل له سلطنة على فعله شريطة وجود
المبادي فيه، وقد تقدم أن الفطرة السليمة الوجدانية تحكم بثبوت السلطنة
والاختيار له على الفعل وجودا وعدما، بداهة أن كل الانسان يرى بالوجدان
هذه السلطنة والاختيار وأن له أن يفعل وله أن يترك، ولهذا تكون نسبتها إلى
الطرفين من الفعل نسبة واحدة ولا يخرج الفعل بسبب وجودها في النفس عن
حد الامكان والتعادل بين الوجود والعدم إلى حد الضرورة والوجوب، كما أنه لا
يرى وجدانا في نفسه عامل آخر يجبره على الفعل أو الترك ويبعثه على صدوره
منه بالضرورة والوجوب، وذلك لأن الصفات الموجودة في النفس غير الإرادة،
فهي لا تصلح أن تكون علة تامة للفعل بالمفهوم الفلسفي، وأما الإرادة فجماعة
من الأصوليين تبعا للفلاسفة وإن ذهبت إلى أنها علة تامة له، ولكن قد تقدم في
149

ضمن البحوث السالفة موسعا أن الإرادة مهما بلغت ذروتها من القوة والشدة في
نفس الانسان لا توجب صدور الفعل منه قهرا ولا تجعله مسلوب الاختيار
والسلطنة كالعلة الطبيعية، بداهة أن فطرة الانسان الوجدانية تحكم بأنه مختار
رغم أن إرادته في نفسه بلغت ذروته من القوة وأنه مسيطر على نفسه وعضلاته
ولا تتحرك نحو المراد قهرا وبدون اختياره وسلطنته، وهذا أمر وجداني غير
قابل للانكار والنقاش.
هذا إضافة إلى أن الفعل الاختياري لو كان معلولا للإرادة وخاضعا لها فمعناه
أنه يدور مدارها وجودا وعدما لاستحالة انفكاك المعلول عن العلة من جهة
واستحالة وجوده بدونها من جهة أخرى، مع أن ضرورة الوجدان عدم توقف
صدور الفعل من الانسان على وجود الإرادة في النفس، لوضوح أنه يصدر منه
فعل كانت هناك إرادة أم لا، بل بامكانه إيجاد الفعل في الخارج مع وجود
الكراهة في نفسه كل ذلك أمر وجداني فطري هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، أن الإرادة لو كانت علة تامة للفعل بالمفهوم الفلسفي لكان
لازم ذلك لغوية التكليف نهائيا وبالتالي هدم كافة الشرايع، لأن الفعل إذا كان
صدوره من الانسان ضروريا بضرورة علته كان التكليف به لغوا، وتفصيل هذه
المسائل جميعا قد تقدم في ضمن البحوث السالفة، كما تقدم الإشارة إلى سبب
التزام الفلاسفة بهذه النظرية المخالفة للوجدان والفطرة وما فيها من المحذور.
ويؤكد هذه الفطرة والوجدان بشكل قاطع تشريع الشرائع وتكليف الناس
بها والحساب والعقاب عليها الهيا وقضية حسن العدل وقبح الظلم عقلائيا،
فلو كان صدور الفعل من الانسان بالضرورة والوجوب بقاعدة أن الشئ ما لم
يجب لم يوجد، فحينئذ حاله حال الفاعل المضطر، فإذا كان حاله حال الفاعل
150

المذكور في ضرورة صدور الفعل منه لكان تشريع الشرائع إلهيا وعقلائيا لغوا
محضا، ومن الواضح أن صدور اللغو من الله تعالى مستحيل، فالنتيجة أن نفس
تشريع الشرايع دليل قطعي على أن صدور الفعل من الانسان إنما هو بالسلطنة
والاختيار لا بالضرورة والوجوب، وكذلك حكم العقلاء بحسن العدل وقبح
الظلم شاهد قطعي على أن الانسان مختار في فعله لا أنه مضطر.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أن مبادئ الفعل بيده تعالى
حدوثا وبقاء وهو يمدها ويفيض عليها تدريجا، باعتبار أنها ليست شيئا وراء
ارتباطها بقدرته تعالى وسلطنته، وفي أي لحظة انقطع هذا الارتباط بانقطاع
الإفاضة تنتهي تلك المبادئ وتنعدم وتوقف العبد عن الفعل في نفس اللحظة،
وهذه المبادئ هي المقدمة الأولى لفعل الانسان، وأما المقدمة الثانية له المباشرة
فهي سلطنة الانسان على الفعل واختياره، فإنه يوجد باختياره وسلطنته طالما
تتوفر تلك المبادئ فيه، وبانتفاء كل من المقدمتين ينتفي الفعل هذا من جهة،
ومن جهة أخرى أن نظرية الأمر بين الأمرين نتيجة حتمية لهاتين المقدمتين وهما
من القضايا الضرورية الفطرية.
أما المقدمة الأولى فلأنها ترتكز على مبدأ العلية بمعناه الواقعي ومغزى
ضرورة حاجة الممكن إلى هذا المبدأ، وقد تقدم أن مبدأ العلية من أوليات ما
يدركه البشر فطرة في حياته الاعتيادية كنظام عام للكون، كما أنه تقدم أن مغزى
حاجة الممكن إليه كامن في صميم جوهر ذاته وكيانه الوجودي، وهذا يعني أنه
ليس له وجود وراء ارتباطه بالعلة ارتباطا ذاتيا وإلا لكان مستقلا، فلا يعقل أن
يكون معلولا لعلة، ولا فرق في ذلك بين المعلول لعلة طبيعية والمعلول لسلطنة
الفاعل واختياره، فإنه في كلا الموردين ليس له وجود وراء تعلقه وارتباطه
151

بالعلة ذاتا، فكما أن هذا الارتباط ينعدم ويرتفع بارتفاع العلة الطبيعية، ولا
يعقل بقاؤه بعد زوالها، فكذلك يرتفع وينعدم بارتفاع السلطنة والاختيار عنه،
ولا يعقل بقاؤه بعد زوالها، مثلا حركات أيدي العامل معلولة لسلطنته واختياره
وتنقطع هذه الحركات حتما بصرف كف العامل عن العمل ورفع يده عنه، وهذا
معنى ارتباط المعلول بالعلة ذاتا بلا فرق بين العلة الطبيعية وسلطنة الفاعل
واختياره، ونتيجة ذلك حتما أن مبادئ الفعل الأولية مرتبطة ذاتا في نهاية
المطاف بالذات الواجبة وهي تمدها وتفيض عليها.
وأما المقدمة الثانية فقد تقدم أن الفطرة السليمة الوجدانية تحكم بثبوت
السلطنة والاختيار للانسان على حركات عضلاته بشتى أشكالها وأنواعها وأنها
جميعا تحت سلطنته ولا يفلت شيء منها من يده كانت هناك إرادة أم لا، ومن هنا
لا يشك أحد وجدانا وفطرة أنه فرق بين حركة الأصابع وحركة يد المرتعش
وحركة الانسان يمينا ويسارا وحركة الدم في العروق أو حركة الأمعاء عند
الخوف، فلو كانت حركة الأصابع معلولة بالضرورة للإرادة والإرادة معلولة
بالضرورة لمبادئها وهي معلولة بالضرورة لعللها إلى أن ينتهي الأمر إلى الواجب
بالذات، كان حالها حال حركة يد المرتعش ولا فرق بينهما، فإن حركة يد
المرتعش ناشئة بالضرورة من المرض وهو ناشئ بالضرورة من علله إلى أن
ينتهي الأمر إلى الواجب بالذات، فلذلك لا يمكن أن يكون الفعل معلولا للإرادة
بالمفهوم الفلسفي وقد تقدم تفصيل كل ذلك.
وعلى هذا فنظرية الأمر بين الأمرين نتيجة حتمية لهاتين المقدمتين
الضروريتين. ومن هنا يظهر أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن نظرية الأمر بين
الأمرين في غاية العمق والدقة وليس بوسع كل أحد الوصول إليها لولا الروايات
152

الواردة من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) التي يرشد إلى هذه النظرية وتنفي نظريتي الجبر
والتفويض، ومع قطع النظر عن تلك الروايات فلا محالة يقع الانسان في أحد
جانبي الافراط أو التفريط كما وقع الأشاعرة والمعتزلة فيه (1). لا يمكن المساعدة
عليه، لما عرفت موسعا من أن هذه النظرية نتيجة حتمية للمقدمتين المذكورتين
وهما من القضايا الضرورية الفطرية، فإذن لا غموض ولا ابهام في هذه النظرية،
ومن هنا لولا الروايات في المسألة فأيضا لا مناص من الالتزام بها من جهة أنها
كما عرفت موافقة للوجدان السليم والبرهان القاطع فلا تحتاج إلى مؤونة زائدة
ومقدمة عميقة.
وأما نظريتي الأشاعرة والمعتزلة فهما نظريتان خاطئتان فلا واقع موضوعي
لهما، أما الأولى فقد أخطأت في تفسير مبدأ العلية بالافراط في تعميمه.
وأما الثانية فقد أخطأت في تفسيره أيضا ولكن بالاسراف في تحديده،
فلذلك تبتني كلتا النظريتين على عدم فهم معنى العلية فهما صحيحا واقعيا ومدى
ضرورة حاجة الممكن إليها، ثم ان من نتائج هذه النظرية صحة اسناد فعل العبد
إليه تعالى حقيقة باعتبار المقدمة الأولى كصحة اسناده إليه باعتبار المقدمة الثانية
المباشرة، ومن نتائجها أيضا التحفظ بها على مبدأ العدالة في أفعاله تعالى الذي
يقوم على أساس حسن العدل وقبح الظلم بدون افراط وتفريط فيه كما عن
الأشاعرة والمعتزلة، فإن الأشاعرة قد أسرفت في تحديده كما بانكار الحسن
والقبح العقليين، والمعتزلة قد أفرطت في تحديد موضوعه بأن جعلت موضوعه
الفعل الصادر من العبد الغني عن غيره في بقائه.
ومن هنا يظهر أنه لا وجه لتوهم أن ظواهر جملة من الآيات موافقة لنظرية

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 83.
153

الأشاعرة، منها قوله تعالى: (يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) (1)، فإن
الآية الشريفة قد أسندت الضلالة والهداية إلى الله تعالى مع أنهما من أفعال العباد
وتصدران منهم مباشرة، وهذا ليس إلا من جهة أن العباد مجرد وسيلة وآلة
لإيجادها بدون أن يكون لهم حول ولا قوة.
والجواب: أن اسناد الضلالة والهداية إليه تعالى يكون على القاعدة باعتبار
المقدمة الأولى كما عرفت، وهذا ليس معناه انه لا يصح اسنادهما إلى العبد، فإنه
كما يصح اسنادهما إليه تعالى كذلك يصح إلى العبد، لما مر من أنه ليس مجرد آلة
لإصدارها بدون حول ولا قوة له، بل له سلطنة على الفعل مباشرة طالما تتوفر
فيه المقدمة الأولى، وتقدم أن اسناد الفعل إلى كل منهما على نحو الحقيقة.
ومنها قوله تعالى: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله) (2)
بتقريب أنه يدل بوضوح على أن الانسان لا يملك شيئا من النفع أو الضر لنفسه
إلا ما شاء الله تعالى، فإذا شاءه تعالى تحقق سواء شاء العبد أم لم يشأه، وهذا معنى
أنه لا حول له ولا قوة.
والجواب أن الآية لا تدل على أنه لا حول للعبد ولا قوة له، بل تدل على أن
حوله وقوته على الفعل معلق على مشيئة الله تعالى وجود مبادئه فيه، لما تقدم من
أن مشيئة الله تعالى لا تتعلق بفعل العبد مباشرة وانما تتعلق بالإفاضة على مبادئه
من حياته وقدرته وعلمه وما شاكل ذلك، ودعوى أن مشيئته تعالى كما لا تتعلق
بفعل العبد مباشرة كذلك لا تتعلق بمبادئه أيضا بل تعلقها بكل منهما بالواسطة،
مدفوعة بأن هذه الدعوى وإن كانت صحيحة من جهة أن تعلق المشيئة بكل

(1) سورة المدثر (74): 31.
(2) سورة الأعراف (7): 188.
154

منهما بالواسطة إلا أنها خاطئة من جهة أخرى، وهي أنه فرق في الواسطة التي
تكون بين المبادي ومشيئة الله تعالى والواسطة التي تكون بين فعل العبد
ومشيئته، فإن الأولى علة طبيعية والثانية علة فاعلية، فإن كانت الواسطة من
قبيل الأولى فهي كالمعنى الحرفي، فإن الأثر في نهاية المطاف تماما مستند إلى العلة
الأولى وهي الذات الواجبة، وكل الوسائط الطبيعية بمثابة الآلة بدون حول ولا
قوة لها أصلا، فالحول والقوة تماما للمبدء الأول على أساس أن جميع السلسلة
متعلقة ومرتبطة به ذاتا، وإن كانت من قبيل الثانية فليست كالمعنى الحرفي بل
هي فاعلة للفعل بقدرته وسلطنته بالاختيار طالما تتوفر فيها المبادئ، فالمبدأ
الأول هو يمد المبادئ ويفيض عليها، فما دام يفيض عليها فالعبد مستقل في إيجاد
الفعل في الخارج وإصداره باختياره وسلطنته، وهذا هو الفرق بين الواسطة
في الموردين.
فالنتيجة، أن معنى الآية الشريفة هو أن العبد يملك الفعل كالضر أو النفع إذا
شاء الله تعالى حياته وقدرته وعلمه وغيرها، وليس معناها أنه تعالى إذا شاء
الضر أو النفع فالعبد يملكه، لأنه تعالى إذا شاءه تحقق فلا يكون العبد حينئذ
مالكا له، ولا معنى للتعليق عندئذ، ومنها قوله تعالى: (ولا تقولن لشئ إني
فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله) (1).
والجواب عن هذه الآية الشريفة هو الجواب عن الآية السابقة، فإن مفادها
هو أن فاعلية العبد منوطة بما إذا شاء الله تعالى حياته وقدرته وعلمه وما
شاكلها، وهذا هو مذهب الأمر بين الأمرين، ومن هذا القبيل قوله تعالى: (وما

(1) سورة الكهف (18): 23 و 24.
155

تشاءون إلا أن يشاء الله) (1).
فالنتيجة، أن هذه الآيات وغيرها لا تدل على نظرية الأشاعرة أصلا بل تدل
على نظرية الامامية وهي نظرية الأمر بين الأمرين، وعلى ضوئها كما يصح اسناد
الفعل إلى العبد كذلك يصح اسناده إليه تعالى، والآيات في مقام بيان صحة اسناد
فعل العبد إليه تعالى، ولا تكون في مقام نفي اسناده إلى العبد لكي يكون مدلولها
القول بالجبر، تحصل مما ذكرناه أن نظرية الأمر بين الأمرين ليست نظرية
غامضة بالغة في الدقة والعمق بحيث لا يمكن الوصول إليها من خلال القواعد
العامة إلا بارشاد من الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، بل هي نظرية واضحة المعالم والمبادي
باعتبار أنها كما مر تبتني على مبدأ العلية بمفهومه الفلسفي ومدى
حاجة الممكن إليه من ناحية، وسلطنة العبد على الفعل عند توفر مبادئه فيه من
ناحية أخرى.
وأما الكلام في المقام الثاني وهو الروايات الواردة في المسألة عن الأئمة
الأطهار (عليهم السلام) وهي كثيرة ولا يبعد بلوغها من الكثرة حد التواتر إجمالا.
منها صحيحة يونس بن عبد الرحمن عن عدة عن الصادق (عليه السلام) قال: قال له
رجل جعلت فداك أجبر الله العباد على المعاصي، قال: الله اعدل من أن يجبرهم
على المعاصي ثم يعذبهم عليها، فقال له جعلت فداك، ففوض الله إلى العباد، قال
فقال: لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي، فقال له جلعت فداك فبينهما
منزلة، قال فقال: نعم أوسع مما بين السماء والأرض (2).
ومنها، صحيحته الأخرى عن غير واحد عن أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام)

(1) سورة الدهر (الانسان) (76): 30.
(2) الكافي 1: 159 ح 11، باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين.
156

قالا: أن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها والله أعز
من أن يريد أمرا فلا يكون، قال: فسئلا هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة، قالا:
نعم، أوسع مما بين السماء والأرض (1).
ومنها صحيحة هشام وغيره قالوا: قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): أنا لا نقول
جبرا ولا تفويضا (2).
ومنها غيرها من الروايات.
والخلاصة، أن الروايات الواردة من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) يدل على بطلان
نظريتي الجبر والتفويض وصحة نظرية الأمر بين الأمرين بصيغ مختلفة، منها أنه
لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين.
ومنها، أن الله تعالى أرحم وأعدل من أن يجبر العباد على المعاصي ثم يعذبهم.
ومنها، أن القائل بالجبر والتفويض كافر.
ومنها، أن بين الجبر والقدر منزلة ثالثة.
ومنها، أن المزاعم بأن الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه
والمزاعم بأن المعاصي بغير قدرة الله، فقد كذب على الله إلى غير ذلك (3).
فالنتيجة، أن المجموع تؤكد نظرية الأمر بين الأمرين.

(1) الكافي 1: 159 ح 9 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين.
(2) الأمالي للصدوق - عليه الرحمة -: 353، ح 431.
(3) لاحظ بحار الأنوار 5: 2، باب الظلم والجور عنه تعالى و... ح 27، 82، 14، 85، وروايات أخرى
في الباب.
157

نتيجة المسألة عدة نقاط:
الأولى: أن مبدأ العلية بالمفهوم الصحيح ومدى ضرورة حاجة الممكن إليه
يقتضي حتما أن مبادئ الفعل من حياة العبد وقدرته وعلمه وغيرها بيده تعالى
حدوثا وبقاء وهو يمدها ويفيض عليها في كل لحظة، على أساس أنها ليست
شيئا وراء ارتباطها بالمبدء الأول ذاتا هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الفطرة السليمة الوجدانية تحكم بسلطنة العبد على
الفعل عند توفر تلك المبادئ فيه ويؤكدها ثبوت الشرائع السماوية من
الاسلامية وغيرها من قبل الله عز وجل والنظام من قبل العقلاء على أساس
الحسن والقبح العقليين، وعليه فتكون نظرية الأمر بين الأمرين نتيجة حتمية
لهاتين الناحيتين مطابقة للفطرة السليمة الوجدانية والبرهان العقلي.
الثانية: أن نظرية الأشاعرة تقضي على مبدأ العدالة في الحساب والعقاب
والحسن والقبح العقليين بل على أصل الشريعة وعدم الفائدة في تشريعها إذا لم
يكن العبد مختارا في أفعاله لأنها لغو، وأما نظرية المعتزلة فهي تقضي على عموم
مبدأ العلية كنظام عام للكون وتحديده بحدوث الأشياء، فلذلك تكون كلتا
النظريتين مخالفة للضرورة الوجدانية والبرهان السليم.
الثالثة: توهم أن ظواهر جملة من الآيات المباركة تنسجم مع نظرية الأشاعرة
فقد تقدم أنه لا أصل له، فإنها لا تدل على هذه النظرية بل لا أشعار فيها فضلا
عن الدلالة، بل فيها دلالة على نظرية الأمر بين الأمرين، لأن مفادها أن العبد لا
يقدر على الفعل إلا إذا شاء الله تعالى حياته وقدرته وعلمه من المبادئ، فإنه في
هذه الحالة قادر عليه على أساس أن قدرته وسلطنته على الفعل منوطة بتوفر
تلك المبادئ فيه لا مطلقا.
158

الرابعة: أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن نظرية الأمر بين الأمرين نظرية
غامضة وبالغة في الدقة والعمق بدرجة لا يمكن الوصول إليها بدون الارشاة
والتنبيه من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) لا يمكن المساعدة عليه، لما عرفت من أن هذه
النظرية موافقة للفطرة والوجدان فلا يحتاج الالتزام بها إلى مؤونة زائدة
كالروايات.
الخامسة: أن الروايات الكثيرة التي لا يبعد بلوغها حد التواتر إجمالا تؤكد
صحة هذه النظرية وبطلان نظريتي الأشاعرة والمعتزلة.
159

نظريات العلماء والفلاسفة
حول مسألة العقاب
لا اشكال في صحة المحاسبة والعقاب وحسنهما على ضوء نظرية الامامية
والمعتزلة، وانما الاشكال في صحتهما على نظرية الأشاعرة، على أساس أن
العقاب على ضوئها عقاب على أمر غير اختياري، باعتبار أن الفعل صادر من
العبد قهرا وبالضرورة لا بالاختيار، وعقابه عليه من العقاب على أمر غير
اختياري وهو قبيح عقلا.
وقد حاول جماعة من الفلاسفة لدفع هذا الاشكال بعدة محاولات:
المحاولة الأولى: ما ذكره صدر المتألهين وحاصل ما ذكره أن العقاب
والثواب من لوازم الأفعال الواقعة بالقضاء الإلهي، فإن كانت تلك الأفعال من
الأفعال القبيحة كان العقاب من لوازمها ولا يعقل انفكاكه عنها، وإن كانت من
الأفعال الحسنة كان الثواب من لوازمها، لأن العقائد الفاسدة والأعمال الباطلة
كالأغذية الرديئة، فكما أن الأغذية الرديئة أسباب للأمراض الجسمانية،
فكذلك العقائد الفاسدة والأعمال الباطلة أسباب للأمراض النفسانية
والروحانية، ونسبتها إلى العقائد الفاسدة والأعمال الباطلة نسبة المسببات إلى
الأسباب (1).
والجواب: أن هذه المحاولة لا تخلو من أن تكون مبنية على تجسم الأعمال في

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 100.
أنظر الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة 9: 303 - 304.
160

الآخرة أو على أن العقوبة من الآثار واللوازم الذاتية للأعمال الباطلة والعقائد
الفاسدة في هذه الدنيا والمثوبة من الآثار واللوازم الذاتية للأعمال الحسنة
والعقائد الصحيحة ولا ثالث لهما. ولكن كلا التفسيرين باطل.
أما الأول فإن أريد بتجسم الأعمال أنها تتحول في الآخرة إلى الصور المخوفة
والحيوانات المؤذية وكذلك العقائد الفاسدة.
فيرد عليه أن هذا التحول إن كان بنحو الاقتضاء، ففعليته بيده تعالى وأنه
سبحانه يخلق الصور المخوفة لأعماله في الآخرة ويفيض عليها تلك الصور أو
يخلق الحيوانات المؤذية لكل عمل بما يناسبه، وحينئذ فالعقاب من معاقب
خارجي وبيده واختياره ولا اشكال من هذه الناحية، لأنه موافق لظواهر
الآيات والروايات، إلا أن هناك مشكلة أخرى وهي أن أفعال العبادات إذا كانت
بقضاء الله وقدره وخارجة عن دائرة اختيارهم وسلطنتهم فكيف يمكن عقابهم
وحسابهم عليها، لأنه من عقاب العاجز والمضطر وهو قبيح بحكم العقل
الفطري، ولو أنكرنا الحسن والقبح العقليين، فحينئذ وإن لم تبق مشكلة قبح
المحاسبة والعقاب، إلا أن هناك مشكلة أخرى أعمق منها وهي لغوية التكليف
نهائيا وعدم الفائدة في ارسال الرسل وانزال الكتب.
وإن كان بنحو الفعلية فهو مخالف للضرورة عقلا وكتابا وسنة، أما عقلا فلأنه
مستقل بأن العقاب والثواب بيد الله تعالى، لأن العبد يستحق العقوبة عند المخالفة
والمثوبة عند الموافقة وله أن يعاقبه وله أن يعفو عنه، وليس العقاب من جهة
تحول الأعمال القبيحة إلى الصور المخوفة في الآخرة قهرا، وأما كتابا فهو ناص في
أن العقاب والثواب بيده تعالى وتحت سلطنته واختياره، كما أن المغفرة والرحمة
بيده سبحانه وكذلك سنة، هذا إضافة إلى أن لازم ذلك بطلان الشفاعة ولغوية
161

التوبة والدعاء وطلب المغفرة والرحمة، فإذن هذه المحاولة في الحقيقة تكذيب
للكتاب والسنة، فلذلك لا يمكن الالتزام بها.
وأما على التفسير الثاني فإن كان العقاب من آثار ولوازم الأعمال القبيحة
بنحو الاقتضاء.
فيرد عليه أولا أن العبد كيف يستحق العقاب على فعل خارج عن اختياره،
وثانيا أن فعلية هذا العقاب في الآخرة إذا كانت بيده تعالى كما هو المفروض،
استحال صدورها منه لمكان قبح عقاب العاجز عقلا، وإن كان بنحو الفعلية
والعلة التامة فهو خلاف الضرورة عقلا وشرعا، أما الأول فلما عرفت من أن
العقل مستقل بأن العقاب على مخالفة التكليف كالتكليف بيده تعالى وتحت قدرته
وسلطنته المطلقة ولا يتصور أنه تعالى غير قادر على العفو والمغفرة آنفا، ثم أن
هذه المحاولة وإن كانت تدفع مشكلة قبح العقاب على الأمر غير الاختياري، لأن
العقاب عليه انما يكون قبيحا إذا كان من معاقب خارجي، وأما إذا كان من لوازم
الأفعال القبيحة ذاتا أو من جهة تجسم تلك الأعمال في الآخرة عذابا قهرا فلا
موضوع لاتصافه بالقبح، لأن موضوعه الفعل الاختياري دون ما كان خارجا
عن الاختيار، إلا أنك عرفت أن القول بأن العقاب من لوازم الأعمال والعقائد
الفاسدة ذاتا أو من جهة تجسم تلك الأعمال والعقائد الفاسدة في الآخرة قهرا
خلاف الضرورة عقلا كتابا وسنة، وأما الثاني فلأن ذلك في الحقيقة تكذيب
للكتاب والسنة كما تقدم.
المحاولة الثانية: ما عن أبي الحسن البصري رئيس الأشاعرة والمجبرة من
أن الثواب والعقاب ليسا على فعل العبد الصادر منه في الخارج ليقال أنه خارج
عن اختياره ولا يستحق العقاب عليه، بل إنما هو على اكتساب العبد وكسبه
162

بمقتضى الآية الكريمة: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله
سريع الحساب) (1).
وغير خفي أن هذه المحاولة لا ترجع إلى معنى محصل أصلا، وذلك لأنه إن أراد
بالكسب والاكتساب كون العبد محلا ومعروضا له وهو عارض عليه كالجسم
الذي هو محل ومعروض للسواد مثلا تارة وللبياض أخرى.
فيرد عليه، أنه لا يعالج مشكلة العقاب على أمر غير اختياري، ضرورة أن
كونه محلا له ككون الجسم محلا للسواد أو البياض أمر خارج عن اختياره.
هذا إضافة إلى أن عنوان الاكتساب عنوان انتزاعي منتزع من العمل
الخارجي ولا واقع موضوعي له غير وجوده في عالم الذهن فلا يصلح أن يكون
ملاكا لاستحقاق العقوبة، فإن ملاك استحقاقها إنما هو العمل الخارجي الذي
يتحقق به تفويت حق المولى والتمرد والعصيان عليه، وإن أراد به واقع الاكتساب
وهو الفعل الحرام الصادر منه في الخارج.
فيرد عليه، أن الفعل الحرام إن كان صادرا منه بالاختيار، فحينئذ وإن لم يكن
عقابه قبيحا عقلا، إلا أنه يناقض التزامه بالجبر فيه وعدم صدوره منه
بالاختيار، وإن كان صادرا منه بغير الاختيار فلا يمكن العقاب عليه، لأنه من
العقاب على أمر خارج عن الاختيار وهو قبيح عقلا. هذا إضافة إلى أن هذه
المحاولة لو تمت فإنما تتم في خصوص ما إذا كان قيام الفعل بالفاعل من قيام الحال
بالمحل كالكسب والاكتساب لا مطلقا.
والخلاصة، أن عنوان الكسب والاكتساب عنوان طارئ على العبد قهرا

(1) سورة غافر (40): 17.
163

ومنشأه صدور الفعل منه في الخارج كذلك، فإذن استحقاق العقاب عليه لا يحل
مشكلة قبح العقاب على أمر خارج عن الاختيار هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الكسب والاكتساب ليس شيئا آخر في الخارج وراء
فعله فيه، فإذن لا معنى لاستحقاق العقاب عليه دون الفعل الخارجي. ومن هنا
يظهر أن المراد من الكسب في الآية الشريفة واقعه الموضوعي وهو الفعل
الخارجي لا عنوانه الذهني الانتزاعي.
المحاولة الثالثة: ما ذكره الباقلاني من أن الثواب والعقاب إنما هو على
عنوان الطاعة والمعصية، بدعوى أن الفعل الخارجي وإن كان يصدر من العبد
بغير اختياره إلا أن جعله معنونا بعنوان الطاعة أو المعصية بيده واختياره،
فإذن لا يكون العقاب عليها عقابا على أمر خارج عن الاختيار حتى يكون
قبيحا عقلا (1).
والجواب: أن هذه المحاولة غريبة جدا، لأن صدور الفعل من العبد إذا كان
غير اختياري فكيف يكون اتصافه بالطاعة أو المعصية اختياريا وبيده، ضرورة
أن اتصافه بها وكونه مصداقا لها بعد تحققه في الخارج قهري، غاية الأمر إن كان
الفعل اختياريا وبيده كان اتصافه بها أيضا بيده لكن بالواسطة لا بالمباشرة، وإن
لم يكن الفعل بيده واختياره لم يكن اتصافه بها أيضا بيده لا بالمباشرة ولا
بالواسطة، فمن أجل ذلك لا ترجع هذه المحاولة إلى معنى معقول.
المحاولة الرابعة: أن عقاب العبد وحسابه عند الأشاعرة مبني على أفكار
الحسن والقبح العقليين ومع الانكار لا تبقى مشكلة من هذه الناحية، لأن العقل

(1) راجع محاضرات في أصول الفقه 2: 102.
164

لا يحكم بقبح هذه المحاسبة والعقاب (1).
والجواب: أن قضيتي حسن العدل وقبح الظلم عقلا من أوليات ما يدركه
الانسان في حياته الاعتيادية فطرة ولا يتوقف على أية مقدمة خارجية، بداهة
أنه ليس بإمكان أي فرد أن يسمح لنفسه الاقرار بعدم قبح الظلم مع الاعتراف
بكونه ظلما، إذ لا يمكن أن يعارض الشخص فطرته.
وعلى ضوء ذلك فإذا فرض أن العبد مسلوب الاختيار ولا حول له ولا قوة
وكان يصدر الفعل منه بالضرورة وبدون الاختيار، فلا محالة يكون عقابه عليه
ظلم لأنه من عقاب العاجز.
ومن هنا لا فرق على مسلك الأشعري بين حركة الأصابع وحركة يد
المرتعش، فكما أن حركة يد المرتعش حركة قهرية ضرورية الناشئة بالضرورة
من علتها المرض وهي ناشئة بالضرورة من عللها في المرتبة السابقة وهكذا إلى
أن ينتهي الأمر إلى الواجب بالذات، فكذلك حركة الأصابع فإنها ناشئة
بالضرورة من الإرادة، والإرادة ناشئة بالضرورة من مبادئها غير الاختيارية
وهي ناشئة بالضرورة من عللها وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إلى الإرادة الأزلية،
فلو جاز العقاب على حركة الأصابع رغم أنها غير اختيارية، جاز عقاب
المرتعش على حركة يده أيضا وهو كما ترى، لأنه ظلم ومن أظهر أفراده.
ودعوى الأشاعرة بأن الحسن ما حسنه الشارع والقبيح ما قبحه الشارع
بمعنى أن كل ما يأمر به الشارع فهو حسن، على أساس أن أمر الشارع به لا يمكن
أن يكون جزافا، فلا محالة يكون مبنيا على نكتة وتلك النكتة هي اشتماله على

(1) المصدر المتقدم.
165

مصلحة تقتضي حسنه، وكل ما ينهى الشارع عنه فهو قبيح لأنه يكشف بنفس
البيان عن اشتماله على مفسدة تقتضي قبحه، والعقل بما أنه لا طريق له إلى الواقع
وادراك مصلحة أو مفسدة في فعل، فلهذا ليس بامكانه أن يحكم بحسنه أو قبحه.
مدفوعة، بأنها مبنية على الخلط بين العقل النظري والعقل العملي، فإن مالا
طريق له إلى الواقع وادراك ملاكات الاحكام فيه واستكشافها هو العقل
النظري، ومحل الكلام في المقام إنما هو في العقل العملي، ومدركات هذا العقل غير
قابلة للانكار وهي متمثلة فيما ينبغي فعله ومالا ينبغي ولكل منهما أفراد في
الخارج، فالصدق في نفسه حسن يقتضي أن يكون هو الصادر من الانسان، وقد
تقع التزاحم بينه وبين ما يقتضي قبحه، كما إذا لزم من الصدق الخيانة أو الضرر
بالغير، فعندئذ يتزاحم اقتضاء الصدق للحسن مع اقتضاء الخيانة أو الضرر
للقبح، وفي هذه الحالة قد يقع اختلاف بين العقلاء في الترجيح، وقد يكون
الشئ حسنه بنحو العلة التامة كحفظ بيضة الاسلام وفي مثله لا يتصور التزاحم
بين المقتضيات. والكذب في نفسه قبيح يقتضي أن لا يصدر من الانسان، وقد
يقع التزاحم فيما إذا لزم من الكذب حفظ مال المؤمن، فإن اقتضاء الكذب للقبح
مزاحم مع اقتضاء حفظ مال المؤمن للحسن، وفي هذه الحالة قد يقع الاختلاف
بين العقلاء في الترجيح، وقد يكون قبح الشئ بنحو العلة التامة كالمحاربة
للدين، فإنها علة تامة للقبح ومن أظهر مصاديق الظلم ولا يمكن طرو عنوان
حسن عليها لكي يقع التزاحم بينهما. نعم، كل ما ينطبق عليه عنوان الظلم لا
يكون علة تامة للقبح، لأن الظلم عنوان قد أخذ مشيرا إلى واقع مالا ينبغي
فعله، فيصدق على الكذب باعتبار أنه قبيح في نفسه وعلى سلب ذي حق عن
حقه وعلى التعدي والعدوان بالآخر بدون مبرر وهكذا كل ذلك يكون بنحو
166

الاقتضاء، وقد يقع التزاحم بين المقتضيات، أجل طالما يصدق عليه عنوان الظلم
فهو قبيح، ولكن معنى هذا أنه ما دام موضوعه ثابتا في المرتبة السابقة وبدون
مزاحم فهو ظلم وقبيح، فيكون الظلم بشرط ثبوت الموضوع لا مطلقا.
هذا إضافة إلى أنه مع انكار الحسن والقبح العقليين وإن كان لا تبقى مشكلة
قبح محاسبة العبد وعقابه حتى تدعو الحاجة إلى حلها، ولكن تبقى هناك مشكلة
أخرى أعمق من الأولى وهي أن العبد إذا كان عاجزا ولا حول ولا قوة له وكان
الفعل يصدر منه قهرا وبدون الاختيار، فالتكليف لا محالة يكون لغوا ولا يمكن
صدوره من المولى الحكيم.
والخلاصة: أن انكار التحسين والتقبيح العقليين انكارا للقضايا الأولية
الفطرية وهو لا يمكن، ومن هنا فالتصديق بأن الأشاعرة منكرون مدركات
العقل العملي واقعا لا يمكن، لأن الشخص لا يعقل أن يعارض فطرته هذا
من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن انكار الحسن والقبح العقليين تهديم للنظام العقلائي
الذي بنى العقلاء ذلك النظام على ضوء مدركات العقل العملي لحفظ معاشهم
الاعتيادية الاجتماعية والفردية والمادية والمعنوية تحقيقا للعدالة في المجتمع
والمحافظة على حقوق الناس والمنع من التعدي والافراط والتفريط فيها. ومع
انكار تلك المدركات ينتفي النظام بانتفاء موضوعه، وأما ما ذكره جماعة منهم
السيد الأستاذ (قدس سره) من أن انكار الحسن والقبح العقليين يستلزم سد باب اثبات
النبوة، لأن اثباتها مبني على قبح اعطاء المعجزة بيد الكاذب، باعتبار أنه تغرير
بالناس ونحو من الكذب عليهم وهو قبيح على الله تعالى، فإذا أنكرنا قبح ذلك،
167

فلا يمكن اثبات صدق مدعي النبوة (1).
فيمكن المناقشة فيه وهي أن دلالة المعجزة على صدق مدعي النبوة لو كانت
متوقفة على هذه المقدمة العقلية وهي قبح اعطائها بيد الكاذب لم يمكن اثبات
صدقه بها، وذلك لأن المعجزة لا تخلو إما أن تدل على نبوة من جرت على يديه
بقطع النظر عن المقدمة العقلية وهي قبح اعطاء المعجزة بيد الكاذب، لأنه تغرير
بالناس أو لا تدل عليها إلا بضم هذه المقدمة، فعلى الأول لا حاجة إلى هذه
المقدمة في اثبات النبوة، وعلى الثاني فلا يمكن أن تدل على النبوة، لأن اثباتها بها
حينئذ يكون دوريا، وذلك لأن فعلية دلالة المعجزة على نبوة من يدعيها تتوقف
على قبح اعطائها بيد الكاذب، وقبح الاعطاء بيده يتوقف على فعلية دلالة
المعجزة عليها وإلا لم يكن الاعطاء قبيحا. فلذلك لا يمكن أن تتوقف دلالة
المعجزة على نبوة من يدعيها على ضم المقدمة العقلية المذكورة.
وبكلمة، أن الاستدلال على نبوة من جرت المعجزة على يديه لا يمكن أن
يتوقف على ضم قضية قبح جريانها على يدي الكاذب وإلا لزم الدور، وذلك
لأن فعلية دلالة المعجزة على صدق المدعي تتوقف على القضية المذكورة وهي
قبح اعطاء المعجزة بيد الكاذب، لأنه تغرير بالناس ودعوة لهم إلى متابعته.
والمفروض أن قبح اعطائها بيده يتوقف على فعلية دلالتها على الصدق، لوضوح
أن المعجزة لو لم تدل على ذلك فعلا لم يكن اعطائها بيد الكاذب قبيحا وتغريرا
بالناس، لفرض أنها لا تدل على أنه نبي حتى يكون تغريرا لهم وقبيحا وهذا هو
الدور، فلهذا لا يمكن أن يتوقف الاستدلال على نبوة من يدعيها بالمعجزة على
المقدمة العقلية المذكورة، فإذن انكار الحسن والقبح العقليين لا يستلزم سد باب

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 104.
168

اثبات النبوة بالمعجزة.
نعم، هنا طريق آخر لامكان الاستدلال بالقضية العقلية المذكورة بدون لزوم
محذور، وهو أن هذه القضية وهي قبح اعطاء المعجزة بيد الكاذب ودعوة الناس
إلى متابعته أمر مرتكز ثابت في أعماق نفوس الناس فطرة، فلهذا إذا رأوا معجزة
بيد من يدعي النبوة وعلموا بأنها معجزة من الله تعالى في يده حصل لهم اليقين
بصدقه أتوماتيكيا وفطرة بدون التوقف على أي مقدمة خارجية، ولكن هذا
اليقين وجداني لا برهاني وبإمكانهم حينئذ أن يبرهنوا ذلك بقبح اعطاء المعجزة
بيد الكاذب، بتقريب أن دلالتها على صدق مدعي النبوة عرفا قرينة على أنه لا
يجوز اعطائها بيد الكاذب، إذ لو جاز لم تدل، فدلالتها بحسب الفهم العرفي
الارتكازي إذا ضمت إلى كبرى قبح اعطاء المعجزة بيد الكاذب تشكل برهانا
على النبوة.
والخلاصة، أن دلالة المعجزة على اثبات نبوة مدعيها لا تتوقف على القضية
العقلية المذكورة، لأنها في طول دلالة المعجزة ومتوقفة عليها ومتفرعة، ولا فرق
في ذلك بين النبوة العامة والخاصة، فإن المعجزة تدل عليها بنفسها وبقطع النظر
عن قضية قبح اعطائها بيد الكاذب وإن كانت تلك القضية ثابتة ارتكازا وفطرة،
ولهذا تؤكد دلالة المعجزة وتبرهنها وتجعلها دليلا فنيا.
ودعوى أن عادة الله تعالى قد جرت على جريان المعجزة على يد مدعي
النبوة عن صدق لا عن كذب، خاطئة جدا ولا واقع موضوعي لها، وذلك لأنه
إن أريد بها سنته الجارية في التكوينيات والتشريعيات، ففيه أنها جارية على
طبق المصالح والحكم التي لا تبديل فيها ولا تغيير، وعلى هذا فسنة الله وحكمته
قد جرت على اعطاء المعجزة بيد الصادق في دعوة النبوة ولا تبديل فيها.
169

المحاولة الخامسة: من الأشاعرة بعد انكار التحسين والتقبيح العقليين قالوا
أن القبيح ما قبحه الشارع والحسن ما حسنه الشارع، ومع قطع النظر عن ذلك لا
يحكم العقل بحسن الأشياء ولا قبحها، وقد أقاموا على ذلك دليلين:
الأول: أن فعله تعالى لا يتصف بالظلم، والسبب في ذلك أن الظلم عبارة عن
التصرف في ملك الغير بدون اذنه، وحيث أن العالم بعرضه العريض ملك لله تعالى
وتحت تصرفه وسلطانه ولا شريك له فيه، فبطبيعة الحال أي تصرف يصدر منه
تعالى فهو في ملكه فلا يكون مصداقا للظلم، وعلى هذا فلا يكون عقاب العبيد
على الأفعال غير الاختيارية ظلما حتى يكون قبيحا، بل له تعالى أن يدخل
عبدا من عباده الصالحين في النار وشقيا من الأشقياء في الجنة، فإن ذلك لا
يكون قبيحا منه لأنه تصرف في ملكه، وكيف كان فإنه تعالى لا يسأل عما يفعل
وهم يسئلون عما يفعلون.
والخلاصة: أن انتفاء الظلم في أفعاله تعالى بانتفاء موضوعه، وعلى هذا
المعنى يحمل الآيات النافية للظلم عن ساحته تعالى وتقدس كقوله سبحانه:
(وما ربك بظلام للعبيد) (1).
الثاني: أن الله سبحانه وتعالى هو الحاكم على الاطلاق فلا يتصور حاكم
فوقه، وعليه فليس بامكان العبد أن يحكم على الله تعالى وكونه محكوما بحكم
عبده، ولا معنى لأن يقال أنه لا يجوز لله تعالى الظلم بحكم العقل، لأن مرد ذلك
إلى تعيين الوظيفة له تعالى من قبل العبد وهو غير معقول.
وللمناقشة في كلا الدليلين مجال واسع.

(1) سورة فصلت (41): 46.
170

أما الدليل الأول فهو ساقط جدا، وذلك لأن مدركات العقل العملي وهي
الحسن والقبح، فقد عرفت أنها من أوليات ما يدركه البشر في حياته الاعتيادية
فطرة، مثلا قبح ما يصدق عليه عنوان الظلم وحسن ما يصدق عليه عنوان
العدل في الجملة من القضايا الفطرية الأولية وغير قابلة للانكار ومتمثلة فيما
ينبغي فعله واقعا وما لا ينبغي كذلك، والأول حسن في نفسه من فاعله وينبغي
أن يصدر منه سواءا كان في ملكه أم لا، والثاني قبيح منه كذلك وينبغي أن لا
يصدر منه سواءا كان في ملكه أم في ملك غيره، مثلا من قصر في حفظ نفسه
مثلا وأدى إلى هلاكه أو ما يتلو تلوه، كان يصدق عليه أنه ظلم نفسه رغم أنه
تصرف في ملكه، وكذا لو عاقب المولى عبده المطيع، كان يعد ذلك ظلما منه
تعالى وهكذا، لأن الظلم سلب ذي الحق عن حقه.
والخلاصة: أن العقل العملي كما يحكم بأن مؤاخذة المولى عبده على الفعل
الصادر منه قهرا وبغير الاختيار ظلم في حقه وإن كان التصرف تصرفا في ملكه
وفي دائرة سلطنته، كذلك يحكم بأن مؤاخذة المطيع وإثابة العاصي ظلم.
وأما الثاني فلأنه مبني على الخلط بين حكم العقل العملي وحكم العقل
النظري، وذلك لأن الله تعالى لا يعقل أن يكون محكوما بحكم العقل العملي، وأما
العقل النظري فلأن شأنه ادراك ما هو واقع وثابت في لوح الواقع الذي هو أوسع
من لوح الوجود على ما هو عليه فيه كاستحالة اجتماع النقيضين والضدين
والدور والتسلسل ومبدأ العلية وسر خضوع الأشياء لهذا المبدأ وهكذا، ومن
هنا لا يقتضي الدرك في العقل النظري سلوكا خاصا وموقفا معينا عملا كما هو
الحال في المدرك بالعقل العملي، فإنه يدرك حسن الشئ أي ما ينبغي فعله وقبح
آخر أي مالا ينبغي فعله، والمدرك في كل منهما يقتضي سلوكا خاصا وموقفا
171

معينا، وعلى هذا فالعقل النظري كما يدرك هذه الأشياء الواقعية وغيرها لوجوده
تعالى وصفاته الذاتية العليا وغيرها، كذلك يدرك أن صدور الظلم منه تعالى
قبيح في الواقع وصدور البدل منه حسن، فإن الذي لا يمكن هو ادراك العقل
العملي ما ينبغي لله تعالى فعله ومالا ينبغي، فإنه تعيين الوظيفة له تعالى ومرجعه
إلى استحقاق المدح على الأول والذم على الثاني وهو كما ترى. ومن هنا لا شبهة
في أن العقل يدرك أن المحاسبة والعقاب على فعل غير اختياري ظلم وقبيح
كمحاسبة المرتعش وعقابه على حركة يده أو محاسبة الشخص وعقابه على
حركة أمعائها عند الخوف وهكذا.
المحاولة السادسة: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن العقاب يتبع الكفر
والعصيان التابعان للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية
اللازمة لخصوص ذاتهما، فان السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه
والناس معادن كمعادن الذهب والفضة كما في الخبر. والذاتي لا يعلل، فانقطع
السؤال أنه لما جعل السعيد سعيدا والشقي شقيا، فإن السعيد سعيد بنفسه والشقي
شقي كذلك، وإنما أوجدهما الله تعالى (قلم اينجا رسيد وسر بشكست) (1) هذا،
وذكر السيد الأستاذ (قدس سره) أن ما ذكره في هذه المحاولة مبني على أن العقاب ليس من
معاقب خارجي حتى يلزم المحذور المتقدم وهو العقاب على أمر خارج عن
الاختيار، بل هو من لوازم الأعمال السيئة التي لا تنفك عنها، لأن نسبة العمل
إلى العقاب كنسبة الثمر إلى البذر، ومن الطبيعي أن البذر إذا كان صحيحا كان
نتاجه صحيحا، وإذا كان فاسدا كان نتاجه فاسدا هذا من ناحية، ومن ناحية
أخرى أن تلك الأعمال تصدر من الانسان بالإرادة، والإرادة بتمام مقدماتها غير

(1) كفاية الأصول: 67. (مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)).
172

اختيارية وينتهي في نهاية المطاف إلى الشقاوة الذاتية للانسان والذاتي لا يعلل،
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي أن العقاب من آثار ولوازم الأعمال
المذكورة، فإذن لا اشكال من ناحية العقاب، باعتبار أنه من آثار ولوازم تلك
الأعمال ذاتا لا من معاقب خارجي لكي يكون قبيحا، ولا من ناحية الأعمال
لأنها تنتهي بالآخرة إلى الذات والذاتي لا يعلل.
ثم علق (قدس سره) على ذلك بأمرين:
الأول: أن هذه النظرية مخالفة صريحة للكتاب والسنة، حيث أن لازمها عدم
امكان العفو من الله تعالى عن العقاب بأسباب العفو كالتوبة والشفاعة ونحوهما
لاستحالة انفكاك اللازم عن الملزوم، وأيضا لازمها لغوية طلب المغفرة والرحمة
من الله سبحانه، والكل مخالف لنصوص الكتاب والسنة، فإنها قد صرحت
بالعفو والغفران بالتوبة والشفاعة والحث على طلب الغفران والرضوان منه
سبحانه، كما أنها قد صرحت بأن العقاب والحساب وعدمهما بيده تعالى، فله أن
يعاقب وله أن يغفر حسب ما يراه من المؤهلات والمقتضيات لكل منهما، فإذن
تكون نتيجة هذه النظرية تكذيب الكتاب والسنة في نهاية المطاف وهو كما ترى.
الثاني: أن تلك النظرية لا تعالج مشكلة العقاب على أمر غير اختياري، فتبقى
تلك المشكلة على حالها بل هي تؤكدها كما هو ظاهر (1). هذا،
ولكن يمكن النظر في هذا التعليق، وذلك لأن كلامه (قدس سره) وإن كان قابلا للحمل
على ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) إلا أنه لا ظهور له فيه إذ كما يحتمل ذلك يحتمل أن
يكون نظره إلى أن تبعية العقاب للكفر والعصيان إنما هي بنحو الاقتضاء وهذا

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 108.
173

لا ينافي كون العقاب بيده تعالى، فإذن لا موجب لحمل كلامه على الاحتمال الأول.
تفصيل ذلك أن ما أفاده (قدس سره) يرجع إلى عدة نقاط:
الأولى: أن الإرادة التكوينية علة تامة للفعل في الخارج وإنه خاضع لها
وجودا وعدما كخضوع المعلول للعلة التامة.
الثانية: أن الإرادة بتمام مقدماتها غير اختيارية وهي ناشئة بالضرورة من
عللها إلى أن ينتهي الأمر إلى الواجب بالذات.
الثالثة: أن ارادته تعالى من الصفات الذاتية العليا كالعلم والقدرة ونحوهما.
الرابعة: أن السعادة والشقاوة صفتان ذاتيتان للانسان.
الخامسة: أن منشأ العقاب والدخول في النار والثواب والدخول في الجنة انما
هو الشقاوة والسعادة الذاتيتين.
أما النقطة الأولى والثانية والثالثة فقد تقدم الكلام فيها موسعا في ضمن
البحوث السالفة فلاحظ ولا حاجة إلى الإعادة.
وأما النقطة الرابعة، فإن أراد بالذاتي، الذاتي في باب الكليات أعني الجنس
والفصل فهو واضح الفساد، بداهة أن السعادة والشقاوة ليستا من الجنس
والفصل للانسان وإلا لكانت حقيقة الانسان السعيد غير حقيقة الانسان الشقي
وهو كما ترى، فإذن لا محالة يكون المراد من الذاتي، الذاتي باب البرهان وهو
لازم ذات الانسان، وعلى هذا فإن أريد بالذاتي، الذاتي بمعنى العلة التامة وهذا
يعني أن الشقاوة علة تامة لاختيار الكفر والعصيان، والسعادة علة تامة لاختيار
الايمان والطاعة.
فيرد عليه أنه مخالف للوجدان والبرهان من ناحية والكتاب والسنة من
174

ناحية أخرى.
أما الأول فمضافا إلى ما تقدم في ضمن البحوث السابقة بصورة موسعة نقد
نظرية الجبر واثبات نظرية الاختيار وهي نظرية الأمر بين الأمرين، أن الشقاوة
والسعادة لو كانتا كذلك، لزم هدم أساس كافة الشرايع والأديان السماوية
وأصبح كون بعث الرسل وانزال الكتب لغوا ولا تترتب عليه أي فائدة، وأيضا
لزم هدم مدركات العقل العملي كالحسن والقبح التي قد التزم بها العقلاء في حفظ
نظم حياتهم المادية والمعنوية الاجتماعية والفردية وابقاء نوعهم.
فالنتيجة، أنه لا يمكن الالتزام بأن الشقاوة علة تامة للكفر، والأعمال القبيحة
والسعادة علة تامة للايمان والأعمال الحسنة.
وأما الثاني، فلأن الفطرة السليمة الوجدانية تحكم بسلطنة الانسان على
أفعاله واختياره وأنه ليس في كمون جوهر الانسان وحقيقة ما يجبره على اختيار
الكفر والعصيان قهرا وبشكل أتوماتيكي أو الايمان والإطاعة كذلك هذا، إضافة
إلى أنا نرى في الخارج حسا انسانا كان شقيا في أول عمره ثم صار سعيدا في
آخره أو بالعكس، وفي ذلك القضاء الحاسم على هذه الدعوى، إذ لو كانت
الشقاوة والسعادة ذاتيتين للانسان فيستحيل أن يصبح الانسان الشقي سعيدا
وبالعكس، لاستحالة انفكاك اللازم عن الملزوم طالما الملزوم ثابتا، أما الكتاب
فمضافا إلى أنه بنفسه شاهد صدق على بطلان هذه الفرضية، فقد دلت عدة من
الآيات الكريمة على نظرية الاختيار وهي الأمر بين الأمرين وبطلان نظرية
الجبر، وأن الأعمال الصادرة من الانسان تصدر بالاختيار لا بالقهر والجبر كما
تقدم. فلو كانت الشقاوة ذاتية بمعنى العلة التامة، لكان الانسان مجبورا ومقهورا
في أفعاله السيئة وكان صدورها منه بالضرورة والوجوب لا بالاختيار، وكذا
175

الحال في السعادة.
وأما السنة فقد تقدم أن الروايات الكثيرة التي لا يبعد بلوغها حد التواتر
اجمالا ناصة على خطأ نظريتي الجبر والتفويض من ناحية، واثبات نظرية الأمر
بين الأمرين من ناحية أخرى، ومن الطبيعي أن في هذه الروايات القضاء المبرم
على بطلان هذه الفرضية وعدم واقع موضوعي لها، وأضف إلى ذلك أن هاتين
الصفتين لو كانتا ذاتيتين بالمعنى المذكور لكان أوامر الدعاء وطلب التوفيق في
طاعة الله والغفران من الذنوب وحسن العاقبة والسعادة وما شاكلها ملغية وبلا
فائدة وكانت مجرد لقلقة اللسان فحسب وهذا كما ترى، فإذن في نفس هذه
الأوامر شهادة صدق على بطلان هذه الفرضية.
فالنتيجة، أنه لا يمكن أن تكون صفتي الشقاوة والسعادة ذاتيتين للانسان
بمعنى العلة التامة.
وإن أراد بالذاتي، الذاتي بمعنى الاقتضاء، فهو وإن كان أمرا ممكنا في نفسه
وليس في الذاتي بهذا المعنى ما يخالف الشرائع السماوية ولا النظم العقلائية كما أنه
ليس على خلافه حكم العقل ولا الوجدان والضرورة، إلا أن المستفاد من بعض
الروايات أنهما ليستا بذاتيتين بهذا المعنى أيضا، وذلك لما ورد فيها من أن الشقي
يطلب من الله تعالى أن يجعله سعيدا، فلو كانت الشقاوة صفة ذاتية للانسان
ولازمة له، فلا يعقل تغييرها وتبديلها بصفة السعادة، وتدل على أنهما ليستا من
الصفات الذاتية أيضا صحيحة ابن أبي عمير الآتية.
ودعوى، أن قوله (عليه السلام) في صحيحة الكناني (الشقي، شقي في بطن أمه،
176

والسعيد سعيد في بطن أمه) (1) وقوله (عليه السلام): " الناس معادن كمعادن الذهب
والفضة " (2). يدلان على أن السعادة والشقاوة صفتان ذاتيتان للانسان.
مدفوعة، بأنا لو كنا نحن وهذه الصحيحة ولم تكن قرينة خارجية على
الخلاف فهي ظاهرة في أنهما صفتان ذاتيتان، غاية الأمر حيث لا يمكن كونهما
ذاتيتين بنحو العلة التامة فبطبيعة الحال تكونا ذاتيتين بنحو الاقتضاء، إلا أن
القرينة الخارجية تمنع عن الأخذ بظاهرها، لأنها حاكمة عليها ومفسرة لها،
وهي صحيحة ابن أبي عمير (قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن
معنى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): الشقي من شقى في بطن أمه، السعيد من سعد في بطن
أمه، فقال الشقي من علم الله (علمه الله) وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال
الأشقياء والسعيد من علم الله (علمه الله) وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال
السعداء) (3).
فإنها تحدد المراد من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتفسيره، وتدل على أن الشقاوة
والسعادة ليستا من الصفات الذاتية بل هما من الصفات العرضية التي تعرض
على الانسان بسبب مزاولة الأعمال السيئة أو الحسنة في الخارج، فإن مزاولة
الأعمال السيئة منشأ لعروض صفة الشقاوة عليه ومزاولة الأعمال الحسنة منشأ
لعروض صفة السعادة عليه كسائر الملكات النفسانية الحميدة والخبيثة، فإنها
تحصل في نفس الانسان وتعرض عليها بسبب المزاولة والاستمرار على الأعمال
الحسنة أو السيئة، لوضوح أنها ليست من الصفات الذاتية للانسان منذ وجوده

(1) الأمالي للصدوق - عليه الرحمة -: 576، ح 788.
وفيه: (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره).
(2) بحار الأنوار 61 و 65، ح 51 وص 106، باب حقيقة النفس والروح وأحوالهما.
(3) التوحيد للصدوق - عليه الرحمة -: 356، ح 3، باب السعادة والشقاوة.
177

على سطح الكرة أو انعقاده في الرحم.
فالنتيجة، أن الشقاوة والسعادة صفتان عارضتان على الانسان المنتزعتان
من الأعمال الخارجية وليستا من الصفات الذاتية لا بنحو العلة التامة ولا بنحو
الاقتضاء.
وبكلمة واضحة أن الانسان منذ تكونه في بطن أمه أو وجوده على سطح هذا
الكوكب لا توجد لديه أية صفة من الصفات النفسانية والملكات الحميدة
والرذيلة والقوى العقلانية والشهوانية ما عدى حياته الحيوانية، وتحصل هذه
الصفات والملكات والقوى له بالتدريج بمرور الأيام وطول الزمان في حياته
الاعتيادية، ومن الطبيعي أن صفتي الشقاوة والسعادة لو كانتا ذاتيتين له، لكان
الانسان واجدا لهما منذ تولده على سطح الكرة أو تكونه في الرحم وهو كما ترى،
ومن هنا لا يصح اطلاق الشقي عليه منذ تولده ووجوده وكذلك السعيد. وعلى
هذا الضوء فلا مناص من الالتزام بأنهما كسائر الملكات النفسانية تحصل لنفس
الانسان من مزاولة الأعمال الخارجية، مثلا تحصل صفة الشقاوة لها من مزاولة
الأعمال السيئة وصفة السعادة من مزاولة الأعمال الحسنة وليس لهما واقع
موضوعي غير ذلك.
وبذلك يتبين أنه لابد من حمل الصحيحة على ذلك بقرينة هذا البيان التحليلي
وبقطع النظر عما ورد في تفسيرها وبيان المراد منها، ودعوى أن المراد بصفة
الشقاوة هو الملكات الخبيثة ونقصد بها القوى الشهوانية وقد يعبر عنها بجنود
الشيطان، على أساس أنها تبعث الانسان وتحركه نحو اختيار الكفر والعصيان
على سبيل الاقتضاء، والمراد بصفة السعادة هو الملكات الحميدة ونقصد بها
القوى العقلانية وقد يعبر عنها بجنود الرحمان، على أساس أنها تبعث الانسان
178

وتدعوه إلى اختيار الايمان والإطاعة.
مدفوعة، بأن هاتين القوتين المتعارضتين وإن كانتا موجودتين في كل انسان
بعد مضي برهة من عمره لا منذ تولده ووجوده، إلا أن المراد من صفتي الشقاوة
والسعادة ليس هاتين القوتين المتحاربتين، وإلا لزم كل انسان شقيا وسعيدا معا
وفي آن واحد وهو باطل جزما. بداهة أنه لا يصدق على الشقي عنوان السعيد
وبالعكس. نعم، أن القوى الشيطانية منشأ للشقاوة والقوى الرحمانية منشأ
للسعادة.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أن صفتي الشقاوة والسعادة
ليستا من الصفات الذاتية للانسان لا بنحو العلة التامة ولا بنحو الاقتضاء.
وأما الرواية الثانية وهي أن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فهي لا تدل
على أنهما صفتان ذاتيتان للانسان، لوضوح أنها غير ناظرة إليهما لا تصريحا ولا
تلويحا، بل هي ناظرة إلى مطلب آخر وهو أن أفراد الانسان مختلفة في القيم
الانسانية كاختلاف الذهب والفضة، فكما أن الذهب والفضة مختلفان في جوهر
ذاتهما اختلافا فاحشا فكذلك أفراد الانسان، فإنها مختلفة في القيم الانسانية
والكمالات النفسانية اختلافا كبيرا كاختلاف الذهب والفضة، فانسان من
حيث الكمالات النفسانية والاخلاق الحسنة كالذهب عند المجتمع وانسان
كالفضة عندهم، فالنتيجة أن الرواية بمناسبة الحكم والموضوع الارتكازية
ناظرة إلى اختلاف أفراد الناس في الكمالات النفسانية والأخلاق الحميدة
كاختلاف الذهب والفضة ولا نظر لها إلى أن صفتي الشقاوة والسعادة من
الصفات الذاتية للانسان.
وأما النقطة الخامسة: فقد ظهر خطأها من ناحيتين:
179

الأولى: أن الشقاوة ليست صفة ذاتية للانسان لكي ينتهي أمر العقاب على
الكفر والعصيان إليها في نهاية المطاف.
الثانية: قد تقدم أنه لا يعقل أن تكون تلك الصفة علة تامة لاختيار الكفر
والعصيان.
فالنتيجة، في نهاية المطاف أن ما أفاده المحقق الخراساني (قدس سره) من المحاولة كحل
مشكلة العقاب على أمر خارج عن الاختيار، لا يرجع بحسب ظاهره إلى معنى
صحيح ومعقول.
المحاولة السابعة: ما عن المحقق الأصبهاني (قدس سره) وهي ترجع إلى أجوبة
ثلاثة (1):
الأول: أن العقوبة والمثوبة ليستا من معاقب ومثيب خارجي، بل هما من
تبعات الأفعال ولوازم الأعمال ونتائج الملكات الرذيلة وآثار الملكات الفاضلة،
ومثل تلك العقوبة على النفس لخطيئتها كالمرض العارض على البدن لنهمه
والمرض الروحاني كالمرض الجسماني والأدوية العقلائية كالأدوية الجسمانية، ولا
استحالة في استلزام الملكات النفسانية الرذيلة للآلام الجسمانية والروحانية في
تلك النشأة أي نشأة الأخروية، كما أنها تستلزم في هذه النشأة الدنيوية،
ضرورة أن تصور المنافرات كما يوجب الآلام النفسانية كذلك يوجب الآلام
الجسمانية، فإذن لا مانع من حدوث منافرات روحانية وجسمانية بواسطة
الملكات الخبيثة النفسانية.
فالنتيجة، أن العقاب ليس من معاقب خارجي حتى يقال كيف يمكن صدور

(1) نهاية الدراية 1: 297. (مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)).
180

العقاب من الحكيم المختار على ما لا يكون بالآخرة بالاختيار، وفي الآيات
والروايات تصريحات وتلويحات إلى ذلك، فقد تكرر في القرآن الكريم: (إنما
تجزون ما كنتم تعملون) (1)، وقوله (عليه السلام): " إنما هي أعمالكم ترد إليكم " (2).
الثاني: أن المثوبة والعقوبة من مثيب ومعاقب خارجي كما دل على ذلك ظاهر
الكتاب والسنة، وتصحيحهما بعد صحة التكليف بذلك المقدار من الاختيار في
غاية السهولة، إذ كما أن المولى العرفي يؤاخذ عبده على مخالفة أمره كذلك المولى
الحقيقي، لوضوح أن الفعل لو كان بمجرد استناده إلى الواجب تعالى غير اختياري
وغير مصحح للمؤاخذة لم تصح مؤاخذة المولى العرفي أيضا، وإذا كان في حد
ذاته قابلا للمؤاخذة عليه، فكون المؤاخذة ممن انتهت إليه سلسلة الإرادة
والاختيار لا يوجب انقلاب الفعل عما هو عليه من القابلية للمؤاخذة ممن
خولف أمره ونهيه.
الثالث: أن الحكم باستحقاق العقاب ليس من أجل حكم العقلاء به حتى يرد
علينا اشكال الانتهاء إلى مالا بالاختيار، بل نقول بأن الفعل الناشئ عن هذا
المقدار من الاختيار مادة لصورة أخروية والتعبير بالاستحقاق بملاحظة أن
إفاضة تلك الصورة المؤلمة المحرقة التي تطلع على الأفئدة منه تعالى بتوسط
ملائكة العذاب، فلا ينافي القول باللزوم مع ظهور الآيات والروايات في العقوبة
من معاقب خارجي.
ولنا تعليق على هذه الأجوبة جميعا.

(1) سورة التحريم (66): 7.
(2) بحار الأنوار 3: 90، باب 4، ضمن توحيد المفضل، ج 10، ص 454، باب 26، نوادر
الاحتجاجات والمناظرات من علمائنا - رضوان الله عليهم - في زمن الغيبة.
181

أما التعليق على الجواب الأول فهو بعينه التعليق على المحاولة الأولى من صدر
المتألهين في المسألة حرفا بحرف فراجع ولا نعيد.
وأما استشهاده (قدس سره) بالآيات والروايات على ذلك فهو غريب جدا، لما تقدم
من أن الآيات والروايات قد صرحتا بأن العقاب من معاقب خارجي وبيد
المولى أو اختياره، لا أنه من لوازم الأعمال الغير المنفكة عنها، وأما قوله تعالى:
(إنما تجزون ما كنتم تعملون) (1)، فلا يدل على ذلك بل لا أشعار فيه فضلا
عن الدلالة، لأن مفاده جزاء الناس بأعماله، وأما كونه من آثارها ولوازمها التي
لا تتخلف عنها، فهو لا يدل عليه بوجه.
وأما قوله (عليه السلام): " إنما هي أعمالكم ترد إليكم "، فهو وإن كان ظاهرا في تجسم
الأعمال إلا أنه مع ذلك يحتمل قويا أن يكون المراد ما يرد إليكم جزاء الأعمال
لأنفسها، وكيف كان سواءا أفيه القول بتجسم الأعمال في الآخرة أم لا، فالرواية
لا تدل على أن العقاب ليس من معاقب خارجي، إذ لا تنافي بين القول بتجسم
الأعمال وكونه بيده تعالى واختياره.
وأما على الجواب الثاني فلأن الإرادة لا يمكن أن تكون علة تامة للفعل لأنها
بتمام مبادئها غير اختيارية، فلو كانت علة تامة للفعل فبطبيعة الحال يكون ترتبه
عليها قهريا وبغير الاختيار، فإذن كيف يمكن العقاب عليه، ومن الواضح أنه
لا يكفي في اختيارية الفعل مجرد كونه مسبوقا بالإرادة، فإن تسمية ذلك بالفعل
الاختياري إن كانت مجرد اصطلاح فلا مشاحة فيه، إلا أنه لا يحل المشكلة وهي
قبح العقاب على أمر خارج عن الاختيار، وإن كانت بلحاظ أن ذلك يكفي في
كون الفعل اختياريا في مقابل الفعل الصادر بدون الإرادة، فيرد عليه أن ذلك

(1) سورة التحريم (66): 7.
182

كيف يكفي رغم أن الإرادة التي هي علة تامة له بتمام مبادئها غير اختيارية، إذ
على هذا لا فرق بين حركة الأصابع وحركة يد المرتعش، فكما أن الثانية
ضرورية بضرورة علتها وهي المرض فكذلك الأولى، فإنها ضرورية بضرورة
علتها وهي الإرادة فلا فرق بينهما من هذه الناحية، مع أن الحساب والعقاب على
الثانية قبيح دون الأولى، وهذا ليس إلا من جهة الفرق بينهما وجدانا وفطرة،
وقد مر في ضمن البحوث السالفة أن الإرادة لا يمكن أن تكون علة تامة للفعل،
فإنه مضافا إلى أن ذلك خلاف الوجدان والفطرة السليمة، يترتب عليها محذور
لا يمكن الالتزام به على تفصيل هناك.
وأما على الجواب الثالث، فلأنه مبتن على تجسم الأعمال في الآخرة وهو ان
كان محتملا نظرا إلى ما يظهر من بعض الروايات بل الآيات (1) أيضا، إلا أن مدى
التجسم ليس ما ذكره (قدس سره) وهو أن الأعمال الدنيوية مادة لصورة أخروية المفاضة
من واهب الصور بنحو اللزوم بحيث يستحيل تخلفها عنها، بداهة أن التجسم
بهذا المعنى مخالف صريح لنصوص الكتاب والسنة التي هي ناصة أن الحساب
والعقاب بيده تعالى وأن له أن يعاقب وله أن يعفو.
والخلاصة: أن هذا الجواب وإن كان يدفع مشكلة قبح العقاب على أمر
خارج عن الاختيار، باعتبار أنه انما يتصف بالقبح إذا كان من معاقب خارجي
لا ما إذا كان صورة أخروية لازمة للأعمال، إلا أنه مضافا إلى كونه مخالفا
للكتاب والسنة لا يعالج مشكلة لزوم لغوية التكليف. إلى هنا قد استطعنا أن
نخرج بهذه النتيجة وهي أن ما أفاده المحقق الأصبهاني (قدس سره) من الأجوبة لعلاج
مشكلة العقاب والحساب على نظرية الأشاعرة والفلاسفة لا يتم شيء منها ولا

(1) كما في الآيتين 7 و 8 من سورة الزلزلة.
183

يمكن علاج هذه المشكلة بها. إلى هنا قد تبين أنه لا يمكن حل مشكلة العقاب إلا
على ضوء مذهب الامامية ومذهب المعتزلة، وحيث أن الثاني باطل فلابد أن
يكون حلها على طبق مذهب الامامية.
نتيجة المسألة عدة نقاط:
الأولى: أن صدر المتألهين قد حاول لعلاج مشكلة قبح العقاب على الأمر
الخارج عن الاختيار بأنه من آثار الأفعال القبيحة، اما على القول بتجسم تلك
الأعمال بالصور المخوفة في الآخرة أو على القول بأنه من لوازمها وليس من
معاقب خارجي، وهذه المحاولة وإن كانت تدفع مشكلة قبح العقاب على أمر
خارج من الاختيار، فإن العقاب إنما يتصف بالقبح إذا كان من معاقب خارجي
لا مطلقا، ولكن تبقى أصل المشكلة وهي أن أفعال العباد إذا كانت غير اختيارية
وكان صدورها بقضاء الله وقدره، لزم لغوية التكليف بارسال الرسل وإنزال
الكتب.
الثانية: أن أبي الحسن البصري قد حاول لعلاج تلك المشكلة بأن العقاب
والثواب ليسا على فعل العبد الصادر منه في الخارج بغير اختيار بل على كسب
العبد واكتسابه.
ولكن هذه المحاولة لا ترجع إلى معنى محصل، لأنه إن أريد بالكسب
والاكتساب العنوان الطارئ على العبد، فيرد عليه مضافا إلى عدم واقع
موضوعي له في الخارج انه طارئ عليه قهرا، باعتبار أن منشأه الفعل
الخارجي وهو صادر منه كذلك وبغير الاختيار، فإذن يكون العقاب عليه عقاب
على أمر خارج عن الاختيار، وإن أريد به واقعه الخارجي، فيرد عليه إن واقعه
هو الفعل الصادر منه في الخارج والمفروض أنه غير اختياري.
184

الثالثة: أن الثواب والعقاب إنما هي على الطاعة والمعصية لا على الفعل
الخارجي حتى يكون العقاب عليه من العقاب على أمر خارج عن الاختيار وهو
لا يمكن.
وهذه المحاولة غريبة جدا لأن عنوان الطاعة والمعصية عنوان انتزاعي منتزع
من العمل الخارجي، فإنه إن كان مطابقا للشرع انتزع عنوان الطاعة وإن كان
مخالفا له انتزع عنوان المعصية، وعلى هذا فمنشأ العقاب هو العمل الخارجي
المنطبق عليه عنوان المعصية، لا عنوان المعصية فحسب لأنه لا واقع له في
الخارج، كما أن منشأ الثواب هو العقل الخارجي المنطبق عليه عنوان الطاعة لا
عنوان الطاعة فحسب لأنه لا واقع له، ومع الاغماض عن ذلك وتسليم أن
العقاب إنما هو على عنوان المعصية إلا أنه لا يحل مشكلة قبح العقاب على أمر
خارج عن الاختيار، لفرض أنه غير اختياري كمنشأ انتزاعه وهو الفعل.
الرابعة: أن عقاب العبد على الفعل الصادر منه بغير الاختيار إنما هو على
أساس انكار الحسن والقبح العقليين وعلى هذا الأساس فلا تبقى مشكلة من
ناحية قبح المحاسبة والعقاب. نعم، تبقى هنا مشكلة أخرى وهي مشكلة لغوية
التكليف رأسا، ولكن هذه المحاولة خاطئة جدا ولا واقع موضوعي لها، بداهة
أن مدركات العقل العملي كالحسن والقبح غير قابلة للانكار لأنها من القضايا
الفطرية الأولية، كيف فإن قبح الظلم من أوليات ما يدركه الانسان في حياته
الاعتيادية فطرة.
الخامسة: أن القول بأن انكار الحسن والقبح العقليين يستلزم سد باب اثبات
النبوة بالمعجزة، لأنه يتوقف على قبح اعطائها بيد الكاذب لا يتم، إذ لا يمكن
الاستدلال بهذه القضية العقلية وهي قبح جريان المعجزة على يدي الكاذب
185

لتحصيل اليقين بالنبوة لاستلزامه الدور كما مر تفصيله.
نعم، أن هذه القضية العقلية بما أنها قضية ارتكازية ثابتة في أعماق نفوس
الناس فطرة، فإنهم إذ رأوا معجزة من الله تعالى بيد من يدعي النبوة حصل لهم
اليقين بالصدق أتوماتيكيا وفطرة لا برهانيا، ولكن بامكانهم أن يبرهنوا هذا
اليقين الحاصل بالصدق وجدانا وفطرة بالكبرى المذكورة وهي قبح جريان
المعجزة على يدي الكاذب.
السادسة: أن ما ذكره الأشاعرة من أن أفعاله تعالى لا تتصف بالظلم على
أساس أنها تصرف في ملكه، والظلم إنما هو التصرف في ملك الغير وهو غير
متصور في أفعاله تعالى، وأيضا ليس للعبد أن يعين الوظيفة لله عز وجل بأن
يحكم بأنه لا يجوز له تعالى الظلم.
لا يرجع إلى معنى محصل، أما بالنسبة إلى الأمر الأول فلان معنى الظلم سلب
ذي الحق عن حقه، وكل فعل ينطبق عليه هذا العنوان فهو ظلم سواءا كان في
ملكه أم في ملك غيره كان فعله تعالى أم فعل غيره، لوضوح أنه لا ملازمة بين
كون التصرف في ملك غيره وكونه ظلما، كما أنه لا ملازمة بين كون التصرف في
ملكه وكونه عدلا، وأما بالنسبة إلى الأمر الثاني، فلأنه مبني على الخلط بين
العقل العملي والعقل النظري، فإنه تعالى لا يكون محكوما بالعقل العملي
كاستحقاق المدح والذم على ما ينبغي وما لا ينبغي، وأما العقل النظري فلأنه كما
يدرك وجوده تعالى وصفاته كذلك يدرك أن صدور الظلم منه لا يمكن.
السابعة: أن المحقق الخراساني (قدس سره) قد حاول لحل مشكلة قبح عقاب العاجز،
بأن العقاب يتبع الكفر والعصيان التابعان لمقدماتهما الناشئة عن شقاوتهما الذاتية
اللازمة لخصوص ذاتهما والذاتي لا يعلل، وهذه المحاولة خاطئة جدا ولا واقع
186

موضوعي لها أصلا ولا يمكن الأخذ بها على تفصيل وتحليل تقدم.
الثامنة: أن المحقق الأصبهاني (قدس سره) قد عالج هذه المشكلة بوجوه ثلاثة، ولكن
تقدم بشكل موسع عدم تمامية شيء من تلك الوجوه.
التاسعة: قد تبين مما تقدم أنه لا يمكن حل مشكلة قبح محاسبة العبد وعقابه
على ضوء نظرية الأشاعرة والفلاسفة، والمحاولات التي تقدمت لحل هذه
المشكلة وعلاجها فقد مر عدم تمامية شيء منها.
187

الجمل المشتركة
الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الانشاء كفعل الماضي والمضارع، فقد
تستعمل في مقام الانشاء المعاملي كبعت واشتريت وأنكحت وما شاكلها، وقد
تستعمل في مقام انشاء الطلب كأعاد ويعيد واغتسل ويغتسل وهكذا، والأول
خارج عن محل الكلام في المقام، ومحل الكلام فيه إنما هو في الثاني هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن هذه الجمل المشتركة في مقام انشاء الطلب هل هي
مستعملة في معنى آخر مباين لمعناها في موارد الاخبار بتعدد الوضع أو بتعدد
الدال والمدلول أو من جهة قيام القرينة على ذلك أو أنها مستعملة في نفس معناها
في مقام الاخبار، وعلى جميع التقادير فيقع الكلام على مرحلتين:
الأولى: في تفسير دلالتها على الطلب المولوي.
الثانية: في دلالتها على الوجوب.
أما الكلام في المرحلة الأولى فيقع في مقامين:
الأول: على مسلك السيد الأستاذ (قدس سره) في باب الوضع القائل بأن الدلالة
الوضعية دلالة تصديقية لا تصورية.
الثاني: على مسلك القائل بأن الدلالة الوضعية في باب الوضع دلالة تصورية
لا تصديقية.
أما الكلام في المقام الأول فقد ذكر السيد الأستاذ (قدس سره): أنه لا شبهة في تعدد
المعنى بتعدد الوضع، لأن المعنى الموضوع له في هذه الجمل في مقام الطلب
188

والانشاء غير معناها الموضوع له في مقام الاخبار والحكاية، فإن المتكلم قد
تعهد بأنه متى ما قصد ابراز الطلب الانشائي تكلم بها كجملة انشائية، كما أنه
تعهد بأنه متى ما قصد الحكاية والاخبار عن الواقع تكلم بها كجملة خبرية، ولا
يمكن انحفاظ معناها الخبري في موارد الانشاء، إذ لو أمكن ذلك لصح استعمال
أي جملة خبرية في مقام الطلب والانشاء حتى الجملة الاسمية وهو كما ترى.
وعلى الجملة فلا يعقل انحفاظ قصد الحكاية والاخبار عن الواقع الذي هو
معناها الخبري في موارد استعمالها في الطلب والانشاء، ولا بد في تلك الموارد من
انسلاخها عن معناها الخبري واتخاذها مدلولا جديدا أو هو ابراز الطلب
المولوي الاعتباري، وغير خفي أنه بناء على هذا المسلك لا مناص من الالتزام
بتعدد المعنى من جهة تعدد الوضع، ولكن تقدم مفصلا أن المبنى غير صحيح.
وأما الكلام في المقام الثاني ففيه وجوه:
الأول: ما أفاده المحقق الخراساني (قدس سره) وحاصله، أن الجمل المشتركة
موضوعة لمعنى واحد ولا فرق بينهما اخبارا وانشاءا فيه، والفرق انما هو في
الداعي، فإن كان الداعي على استعمالها في معناها الموضوع له ايجاده وانشائه
الطلبي في وعائه فهي انشائية، وإن كان عن ثبوته ووقوعه في الخارج فهي
خبرية (1).
ويمكن المناقشة فيه بتقريب، أنه إن أريد من الداعي إرادة إيجاد مدلولها
الوضعي في وعاء الطلب في موارد استعماله في مقام الانشاء وإرادة الحكاية عن
ثبوته في وعاء التحقق والخارج في موارد استعمالها في مقام الاخبار، فيرد عليه

(1) كفاية الأصول: 71. (مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)).
189

أن لازم ذلك هو أن اتصاف الجملة المشتركة بالخبرية تارة وبالانشائية تارة
أخرى، إنما هو بلحاظ المدلول التصديقي لها دون المدلول الوضعي، حيث أنه لا
اختلاف بينهما انشاءا وإخبارا فيه، لأنها بلحاظه لا انشائية ولا إخبارية، وإنما
تتصف بهما بلحاظ مدلولها التصديقي وهذا غير صحيح، وسوف نشير إلى أن
الفرق بينهما اخبارا وانشاءا انما هو في المدلول الوضعي التصوري، لأن المتفاهم
العرفي منها في مقام الاخبار غير المتفاهم العرفي منها في مقام الانشاء، هذا إضافة
إلى أن معنى الانشاء والاخبار لو كان واحدا بالذات والحقيقة وكان الاختلاف
بينهما من ناحية الداعي فحسب، كان لازم ذلك صحة استعمال الجملة الاسمية في
مقام الطلب كصحة استعمال الجملة الفعلية فيه وهو كما ترى، وإن أريد من
الداعي تقييد العلقة الوضعية في كل منهما بحالة خاصة بأن يقيدها في الجمل
الانشائية بما إذا قصد المتكلم إيجاد المعنى في الخارج وفي الجمل الخبرية بما إذا
قصد الحكاية عنه. كما فسره بذلك السيد الأستاذ (قدس سره) (1)، فيرد عليه أن هذا
التفسير لا ينسجم مع مسلكه (قدس سره) من أن الدلالة الوضعية دلالة تصورية لا
تصديقية (2). هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن ما ذكره (قدس سره) مبني على عدم امكان أخذ خصوصية
الاخبارية والانشائية في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه، وسوف نشير إلى أنه
لا مانع من أخذها فيه، فإذن يكون الفرق بينهما في المدلول الوضعي التصوري.
الثاني: أن الجملة المشتركة في موارد الاخبار تختلف عنها في موارد الانشاء
بالمدلول الوضعي التصوري على أثر تعدد الوضع، بأن تكون الجملة في موارد

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 85 و 89.
(2) كفاية الأصول: 16. (مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)).
190

الاخبار موضوعة بإزاء النسبة التي تلحظ فانية باللحاظ التصوري في مصداق
مفروغ عنه في الخارج، وفي موارد الانشاء موضوعة بإزاء نفس النسبة ولكنها
تلحظ فانية باللحاظ التصوري في مصداق يرى ثبوته بنفس هذه الجملة في
وعائه المناسب، وعليه فخصوصية الحكاية والايجادية بالمعنى المذكور مأخوذة
في المدلول التصوري لكل منهما، فإذن خبرية الجملة وإنشائيتها انما هي بلحاظ
المدلول التصوري لا التصديقي فحسب، ويمكن المناقشة فيه بتقريب أن الالتزام
بتعدد الوضع في الجملة المشتركة بعيد جدا، لأنها جملة واحدة مادة وهيئة
ولا يمكن الالتزام بتعدد الوضع فيها، ولا سيما بناء على ما هو الصحيح من أن
وضع الهيئات نوعي، وقد يدعي أن الجملة مستعملة دائما في الاخبار عن وقوع
شيء حقيقة في الخارج وإن كانت في مقام الانشاء، غاية الأمر أنها إذا كانت في
هذا المقام كانت اخبارا بالمطابقة عن وقوع شيء حقيقة في الخارج لكن لا مطلقا
ليكون كذبا، بل في حق انسان يكون في مقام الامتثال وتطبيق عمله مع الشريعة
فيكون ملازما لا محالة مع كون الشئ مطلوبا للشارع هذا.
ولكن هذه الدعوى خلاف ظاهر الجملة إذا كانت في مقام الانشاء، لوضوح
أن المتفاهم العرفي من جملة من تكلم في صلاته أعادها ليس هو الاخبار بالمطابقة
عن وقوع الإعادة من المصلي حقيقة في الخارج لكن لا مطلقا حتى يكون كذبا،
بل في حق انسان يكون في مقام الامتثال والطاعة، بل لا أشعار فيها على ذلك
فضلا عن الدلالة والظهور، وقد أشرنا إلى أن المتفاهم منها عرفا وارتكازا هو
طلب الإعادة من المصلي وحملها على أنها اخبار بالمطابقة بحاجة إلى قرينة، على
أساس ظهورها في الطلب المولوي بقرينة أن المولى في مقام الانشاء وتقييد
الموضوع كالمصلي بما يكون في مقام الإطاعة والامتثال بحاجة أيضا إلى قرينة،
ودعوى أن الأمر إذا دار بين رفع اليد عن أصل ظهور الجملة في الاخبار أو تقييد
191

موضوعها، قدم الثاني على الأول، مدفوعة بأنه لا ظهور للجملة إذا كانت في
مقام الانشاء والطلب من المولى لكي يدور الأمر بينهما، فإذن كون المولى في مقام
الطلب والانشاء بنفسه قرينة على ظهور الجملة في النسبة الطلبية المولوية.
الثالث: أن الجملة المشتركة موضوعة بوضع واحد بإزاء معنى اخباري وهو
المعنى الفاني في واقع مفروع عنه بالنظر التصوري، فهي بلحاظ وضعها جملة
خبرية لا مشتركة ولكنها في مقام الانشاء استعملت فيه بداعي طلب إيقاعه في
الخارج، فيكون الاختلاف بينهما في المدلول التصديقي، فإنه في مقام الاخبار
قصد الحكاية وفي مقام الانشاء طلب إيقاع ما يرى بالنظر التصوري مفروغ عنه
تحققه، وفيه أن هذا الوجه خلاف الظاهر، فإن الظاهر منها عرفا في مقام الانشاء
هو الطلب الانشائي المولوي مباشرة في مرحلة التصور، وهو بالتحليل في هذه
المرحلة عبارة عن الطلب المولوي الفاني باللحاظ التصوري في مصداق يرى
ثبوته بنفس هذه الجملة، لا أن المتبادر منها عرفا النسبة الفانية بالنظر التصوري
في مصداق يرى تحققه مفروغ عنه في الخارج، وسوف نشير إلى أنها في مقام
الانشاء تختلف عنها في مقام الاخبار في المدلول التصوري والتصديقي معا.
الرابع: أن الجملة المذكورة موضوعة بإزاء ذات النسبة المناسبة لكلا
النحوين من اللحاظ التصوري الحكائي والإيجادي، فتدل عليه بنحو تعدد الدال
والمدلول، بأن تدل بنفسها على ذات النسبة وبخصوصيتها على الايجادية
والاخبارية، وهذا الوجه وإن كان غير بعيد في نفسه بأن تكون الجملة موضوعة
لذات النسبة المناسبة لكلا النحوين من الايجادية والحكائية بالنظر التصوري،
فتدل على النسبة الايجادية بتعدد الدال والمدلول وعلى النسبة الحكائية كذلك
وهذا في نفسه لا مانع منه، ولكن الظاهر عرفا من الجملة أنها تدل على النسبة
192

الحكائية الفانية بالنظر التصوري في مصداق يرى مفروغ عنه تحققه في الخارج
واستعمالها في انشاء الطلب بحاجة إلى قرينة تدل عليه كما سوف نشير إليه.
الخامس: أن الجملة الخبرية في موارد استعمالها في الانشاء استعملت في
مدلولها الخبري مباشرة وفي الانشاء بالواسطة، وهذا يعني أنها تدل على
الاخبار عن ثبوت النسبة في الخارج بالمطابقة وعلى ثبوت ملزومه ومقتضيه
بالالتزام على أساس الكناية، فإن جملة من تكلم في صلاته يعيدها تدل على
الاخبار عن وقوع الإعادة في الخارج كناية عن الاخبار عن ملزوم الإعادة وهو
طلبها خارجا، باعتبار أن المدلول المطابقي في باب الكناية قنطرة للمدلول
الالتزامي مثل زيد كثير الرماد، فإنه اخبار عن كثرة رماده كناية عن الاخبار
عن ملزومها وهو جوده وسخاه هذا.
والجواب: أنه لا يمكن حمل الجملة الخبرية المستعملة في مقام الانشاء على
الكناية، لوضوح أن مثل جملة من تكلم في صلاته أعادها ظاهرة في النسبة
الطلبية المولوية مباشرة، لا أنها تدل على الاخبار عن وقوع الإعادة في الخارج
كناية عن الاخبار عن ملزوم الإعادة وهو طلب الإعادة، فإنه لا اشعار فيها على
الكناية فضلا عن الدلالة والظهور.
هذا إضافة إلى أن الكناية انما تصح فيما إذا كانت بين اللازم والملزوم ملازمة
عرفا كما هو الحال بين كثرة رماد زيد وبين جوده، وأما في المقام فلا ملازمة بين
وقوع الفعل في الخارج وبين طلب إيقاعه فيه، فإذا لم تكن ملازمة بينهما عرفا فلا
تصح الكناية وهي الانتقال من المدلول المطابقي إلى المدلول الالتزامي،
والخلاصة أنه إذا لم تكن ملازمة عرفا بين الجملة المكنية بها والجملة المكنية
لكي ينتقل الذهن من تصور الأولى إلى تصور الثانية لم تصح الكناية، وحيث إن
193

في المقام لا ملازمة عرفا بين وقوع الفعل في الخارج وبين طلب إيقاعه فيه لكي
ينتقل الذهن من الأول إلى الثاني وكون المولى في مقام الانشاء ولا يكون قرينة
على الكناية، بل هو قرينة على استعمال الجملة في النسبة الطلبية المولوية
مباشرة، فلذلك لا يصح هذا الوجه.
السادس: أنه لا اشكال في اختلاف المدلول التصديقي لهذه الجملة في موردي
الاخبار والانشاء، فإنه على الأول قصد الحكاية عن ثبوت النسبة في وعاء
الخارج، وعلى الثاني قصد إيجاد النسبة الطلبية المولوية في وعاء الطلب، وأما
المدلول التصوري لكل منهما فأيضا كذلك، وذلك لأمرين:
الأول: أنه لا مانع من أخذ الاخبارية والانشائية في المدلول التصوري
وكونهما من خصوصياته وشؤونه، بأن يكون المدلول التصوري للجملة الخبرية
هو النسبة التي تلحظ حاكية وفانية بالنظر التصوري في مصداق مفروغ عنه في
وعاء الخارج والتحقق، والمدلول التصوري لها إذا استعملت في مقام الانشاء هو
النسبة الطلبية المولوية الفانية بالنظر التصوري في مصداق يرى ثبوته بنفس
الجملة.
الثاني: أن كل جملة ظاهرة في أن مدلولها التصديقي مطابق لمدلولها التصوري
فعدم المطابقة بحاجة إلى قرينة، لوضوح أن تكوين المدلول التصديقي لكل جملة
لا يكون جزافا بل هو بلحاظ تطابقه وتناسبه مع المدلول التصوري، غاية الأمر
أنه في المرحلة الأولى متعلق للتصور وفي المرحلة الثانية متعلق للتصديق، إلا إذا
قامت قرينة على أن تكوينه بصورة أخرى غير صورة المدلول التصوري، كما إذا
كان المدلول التصوري عاما والمدلول التصديقي خاصا لمكان القرينة. وعلى هذا
الأساس فحيث أن المدلول التصديقي لهذه الجملة في مقام الانشاء لا يطابق مع
194

المدلول التصوري لها في مقام الاخبار من ناحية، وامكان أخذ الانشائية في
المدلول التصوري لها في مقام الانشاء من ناحية أخرى، وعدم قيام قرينة من
الخارج على أن المدلول التصديقي لها في هذا المقام غير المدلول التصوري لها فيه
من ناحية ثالثة. فالنتيجة، على ضوء هذه النواحي هي أن هذه الجملة في مقام
الانشاء والطلب تختلف عنها في مقام الاخبار والحكاية في المدلول التصوري
والتصديقي معا.
ولا يخفى أن هذا الوجه هو الظاهر من هذه الجملة عرفا، فإنها إن كانت في
مقام الاخبار كان المتبادر منها تصورا وتصديقا غير ما هو المتبادر منها كذلك إذا
كانت في مقام الانشاء، ولهذا كان المتبادر عرفا من جملة من تكلم في صلاته
متعمدا أعادها، هو النسبة الطلبية المولوية في وعاء الطلب والانشاء في مرحلة
التصور والتصديق. ثم أن اختلاف المدلول التصوري فيها في المقامين وتعدده هل
هو مستند إلى تعدد الوضع أو إلى تعدد الدال والمدلول أو إلى الحقيقة والمجاز،
فيه وجوه:
الظاهر هو الثالث، وذلك لأن تعدد الوضع في المقام بعيد جدا، لأن الجملة
حيث إنها واحدة هيئة ومادة فلا يحتمل تعدد الوضع فيها ولا سيما بناء على ما هو
الصحيح من أن وضع الهيئة نوعي لا شخصي، وأما تعدد الدال والمدلول فهو وإن
كان ممكنا في نفسه إلا أنه خلاف الظاهر من الجملة، فإن الظاهر منها انها حقيقة
في مقام الاخبار ومجاز في مقام الانشاء لا أنها حقيقة في كلا المقامين بتعدد الدال
والمدلول، فإذن بطبيعة الحال يكون التعدد مستندا إلى الحقيقة والمجاز، فإن
استعمال هذه الجملة في مقام الاخبار استعمال في معناها الموضوع له ويكون
حقيقة، فإن معناها الموضوع له هو النسبة التي تلحظ باللحاظ التصوري فانية
195

في مصداق مفروغ عنه تحققه في الخارج، فإذا استعملت في هذا المعنى كان
حقيقيا، وأما إذا استعملت في معنى آخر وهو النسبة الطلبية المولوية في وعاء
الطلب والانشاء فيكون مجازا، لأنه استعمال في غير معناها الموضوع له،
والقرينة على ذلك كون المتكلم في مقام الانشاء والطلب. فالنتيجة، أن هذا
الوجه هو أظهر الوجوه وأصحها، هذا تمام كلامنا في المرحلة الأولى.
وأما الكلام في المرحلة الثانية، فيقع في دلالة هذه الجملة على الوجوب، اما
على مسلك التعهد وهو مبنى السيد الأستاذ (قدس سره) (1)، فحال هذه الجملة في مقام
الانشاء حال صيغة الأمر، فكما أن صيغة الأمر موضوعة للدلالة على قصد ابراز
الأمر الاعتباري النفساني في الخارج، فكذلك هذه الجملة فإنها موضوعة
للدلالة على ذلك، وعليه فلا يكون الوجوب مدلولا وضعيا لها كما في صيغة
الأمر، بل الوجوب انما هو بحكم العقل إذا لم تكن هناك قرينة على الترخيص.
ولكن قد تقدم بطلان هذا المسلك، وأما على المسلك الثاني وهو أن المدلول
الوضعي مدلول تصوري لا تصديقي، فعلى الوجه الأول وهو مختار المحقق
الخراساني (قدس سره) (2) هل هناك نكتة خاصة فيه تعين دلالتها على الوجوب
وتؤكدها، الظاهر أنه ليست فيه نكتة خاصة كذلك بل حالها حال صيغة الأمر،
فكما أن الصيغة تدل على الوجوب من جهة دلالتها على الطلب المولوي فكذلك
هذه الجملة في مقام الانشاء، فإن نكتة دلالتها على الوجوب هي دلالتها على
الطلب المولوي، فإذن ليست دلالتها على الوجوب من جهة نكتة خاصة فيها بل
على أساس نكتة عامة وهي دلالتها على الطلب المولوي هذا.

(1) أنظر محاضرات في أصول الفقه 1: 44.
(2) لاحظ كفاية الأصول: 71.
196

وأما ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن دلالة الجملة الخبرية المستعملة في
مقام الانشاء على الوجوب أقوى وآكد من دلالة الأمر عليه هيئة ومادة من جهة
أنها مشتملة على نكتة خاصة وعناية تؤكد إرادة الوجوب منها وتعينه دون
الأمر، وتلك النكتة هي دلالة الجملة على الحكاية والاخبار عن وقوع المطلوب
وتحققه في الخارج، ومن الواضح أن طلب المولى الفعل من المكلف بلسان
الاخبار عن وقوعه في الخارج يدل على مدى اهتمام المولى بوقوعه فيه، وهذه
النكتة غير متوفرة في الأمر لا مادة ولا هيئة فلا يمكن المساعدة عليه، وذلك لما
مر من أنه (قدس سره) قد بنى على أن الاخبارية والانشائية من خصوصيات الاستعمال
وشؤونه دون المعنى الموضوع له والمستعمل فيه، فالجملة بلحاظ معناها
الموضوع له لا تتصف بالخبرية ولا الانشائية وإنما تتصف بالخبرية إذا استعملها
المتكلم في معناها الموضوع له بداعي الحكاية والاخبار عن ثبوته في الواقع أو
نفيه فيه، كما أنها تتصف بالانشائية إذا استعملها فيه بداعي الانشاء والطلب،
وليس في استعمالها بداعي الانشاء والطلب ما ذكره (قدس سره) من النكتة وهو طلب
الفعل بلسان الاخبار عن وقوعه في الخارج بل طلب الفعل ابتداء.
فالنتيجة، أن ما ذكره (قدس سره) من النكتة في وجه اقوائية دلالة الجملة على
الوجوب من دلالة الصيغة عليه وهي دلالتها على الحكاية والاخبار عن وقوع
شيء في الخارج بداعي طلب إيقاعه، لا ينسجم مع مسلكه (قدس سره) في باب الانشاء
والاخبار كما عرفت.
وأما على الوجه الثاني فلا تتضمن الجملة في مقام الانشاء أي نكتة زائدة على
دلالتها على الطلب المولوي، باعتبار أنها في مقام الانشاء يختلف عنها في مقام
الاخبار في المدلول الوضعي والتصديقي معا، لأنها تدل على الطلب المولوي في
197

هذا المقام ابتداء تصورا وتصديقا لا أنها تدل على ذلك بلسان الاخبار عن وقوع
شيء في الخارج لكي تكون دلالتها على الوجوب آكد وأقوى من دلالة الأمر.
وأما على الوجه الثالث، فهي تشتمل على نكتة خاصة زائدة على دلالتها على
الطلب المولوي، وبها تكون دلالتها على الوجوب آكد وأقوى من دلالة الصيغة
عليه، وهي أن المدلول الوضعي التصوري في الجملة واحد في كلا المقامين وهو
النسبة التي تلحظ باللحاظ التصوري فانية في مصداق ترى تحققه في الخارج،
فالمرآتية مأخوذة في مدلولها الوضعي ولا اختلاف بينهما فيه وإنما الاختلاف
بينهما في المدلول التصديقي، فإنه في مقام الاخبار قصد الحكاية عن وقوع شيء
في الخارج وفي مقام الانشاء قصد طلب إيقاعه فيه، ومن الواضح أن طلب
إيقاعه فيه لا محالة إما أن يكون بعناية افتراض تحققه فيه، باعتبار أن مدلولها
الوضعي التصوري ذلك أو بعناية الحكاية عن تحققه فيه لا مطلقا حتى يكون
كذبا بل من العبد الذي يكون مطيعا ومنقادا.
والخلاصة: أن المدلول الوضعي للجملة في كلا المقامين واحد وهو الشئ
الفاني في مصداق يرى بالنظر التصوري تحققه في الخارج، وحيث إنها في مقام
الانشاء مستعملة في نفس هذا المدلول، فعندئذ بطبيعة الحال تكون طلب ايقاعه
في الخارج وانشائه فيه من العبد اما بافتراض المولى تحققه فيه منه بحيث يجعل
طلب ايقاعه ملازما لوقوعه فيه، أو يكون ذلك من العبد الذي يكون في مقام
الامتثال والطاعة لا مطلقا، وعلى كلا التقديرين فالجملة تدل على مدى اهتمام
المولى بوقوع الفعل المطلوب في الخارج، فلذلك تكون دلالتها على الوجوب آكد
وأقوى من دلالة الأمر على الوجوب مادة وهيئة، ولكن تقدم أن هذا الوجه
غير تام.
198

وأما على الوجه الرابع، فلا تشتمل الجملة على أي نكتة زائدة على دلالتها
على الطلب المولوي كما هو ظاهر، فإذن حالها حال صيغة الأمر في الدلالة على
الوجوب بدون مزية لها.
وأما على الوجه الخامس، فالجملة تتضمن نكتة أخرى تؤكد دلالتها على
الوجوب، وهي أن المولى على ضوء هذا الوجه طلب الفعل من العبد بلسان
الاخبار عن وقوعه في الخارج، وهذا الأسلوب من التعبير المسمى بالكناية
لدى العرف العام أبلغ من التصريح وآكد في اثبات المطلوب، فمن أجل هذه النكتة
تكون دلالة الجملة على الوجوب آكد وأقوى من دلالة الصيغة عليه، ولكن
تقدم أن هذا الوجه غير صحيح.
وأما على الوجه السادس، فلا تشتمل الجملة على نكتة أخرى تؤكد دلالتها
على الوجوب فإذن تكون حالها حال صيغة الأمر، فكما أنها تدل على الوجوب
على أساس دلالتها على النسبة الطلبية المولوية فكذلك الجملة.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أن الجملة الخبرية المستعملة
في مقام انشاء الطلب تختلف باختلاف هذه الوجوه، فعلى الوجه الأول والثاني
والرابع والسادس فحالها حال صيغة الأمر، فلا تتضمن نكتة زائدة على النكتة
العامة وهي دلالتها على النسبة الطلبية المولوية، فإذن دلالتها على الوجوب
انما هي على أساس تلك النكتة العامة لصيغة الأمر. وأما على الوجه الثالث
والخامس فهي تتضمن نكتة أخرى تؤكد دلالتها على الوجوب، فلهذا
تكون دلالتها في ضوء هذين الوجهين على الوجوب آكد وأقوى من دلالة
الصيغة عليها.
199

هنا مناقشتان:
الأولى: أن مدلول هذه الجملة المستعملة في مقام الانشاء هو النسبة الطلبية
المولوية ودلالتها على الوجوب متوقفة على كون النسبة المذكورة ناشئة عن
مصلحة لزومية في الفعل ولا قرينة فيها على ذلك، وحينئذ فكما يحتمل ذلك
كونها ناشئة عن مصلحة غير لزومية فلذلك لا تدل على الوجوب.
والجواب: أولا: بالنقض بصيغة الأمر باعتبار، أن مدلولها أيضا هي النسبة
الطلبية المولوية إلا أن يقال بعدم دلالتها على الوجوب أيضا.
وثانيا: أن هذه المناقشة لو تمت فإنما تتم بناء على تفسير الجملة بالوجه الأول
أو الثاني أو الرابع أو السادس، ولا تتم بناء على تفسيرها بالوجه الثالث أو
الخامس، فإن اشتمالها على النكتة الزائدة في ضوء هذين الوجهين قرينة على
دلالتها على الوجوب، لأن تلك النكتة وهي طلب المولى الفعل بلسان الاخبار
عن وقوعه في الخارج وتحققه فيه لا تنسجم مع الندب، باعتبار أنها تدل على
مدى اهتمام المولى بوقوعه فيه ولا يرضى إلا بذلك.
وثالثا: أنها لا تتم مطلقا وعلى ضوء جميع تفاسيرها، وذلك لأن دلالة الجملة
على أصل الوجوب مستندة إلى نكتة عامة هي مشتركة بين تمام هذه الوجوه
والتفاسير وهي دلالتها على النسبة الطلبية المولوية، وقد تقدم أن المولوية
مساوقة للوجوب، فإذا قال المولى من تكلم في صلاته متعمدا أعادها، كان
ظاهرا عرفا وارتكازا في الوجوب، فإرادة الندب بحاجة إلى قرينة كما هو الحال
في صيغة الأمر ومادته.
200

المناقشة الثانية ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) (1) من أنه لو صح استعمال الجملة
الخبرية في مدلولها الوضعي التصوري بداعي الانشاء والطلب، لكان لازم ذلك
صحة استعمال كل جملة خبرية في مقام الانشاء ولو كانت اسمية كزيد قائم وزيد
معيد صلاته وهكذا، لتوفر النكتة المذكورة فيها وهي استعمالها في مدلولها
الوضعي الحكائي بداعي انشاء الطلب مع أنه من أفحش الأغلاط، بل ولا الفعل
الماضي إلا إذا كان جزاء لجملة شرطية كما في مثل جملة إذا تكلم في صلاته
متعمدا أعاد صلاته، مع أن لازم النكتة المذكورة صحة استعمال الفعل الماضي في
مقام الانشاء مطلقا.
والجواب أن منشأ صحة استعمال الجملة الخبرية في مقام الانشاء والطلب
ليس النكتة المذكورة، بل منشأها أن معنى فعل المضارع مناسب للطلب
الحقيقي، فإن معناه وقوع الفعل في الآن أو في المستقبل وهو مناسب لطلب ايقاعه
في الخارج دون معنى الجملة الاسمية كزيد قائم مثلا ومعنى فعل الماضي، فإنهما
لا ينسجمان مع طلب إيقاعهما فيه، وأما النكتة المذكورة فهي لا تمنع عن إرادة
الطلب الانشائي من الفعل المضارع بعد ثبوت المقتضي له، واما في الجملة الاسمية
وفعل الماضي فلا مقتضي لإرادته منهما، نعم يصح استعمال فعل الماضي في مقام
انشاء الطلب في موردين:
الأول: ما إذا كان فعل الماضي جزاء للجملة الشرطية.
الثاني: ما إذا وقع في الطلب بدون كونه جزاء للشرط كما في قولك: " رحمك
الله " أو " غفر الله لك " أو " عافاك الله " وهكذا، وصحة استعماله في هذين
الموردين إنما هي من جهة انسلاخه عن معناه الموضوع له، ولهذا لا يصح

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 137، ولا حظ ج 1: 89.
201

استعماله فيه في غير هذين الموردين.
والخلاصة: أنه لا شبهة في صحة استعمال فعل المضارع في مقام إنشاء الطلب
في كل لغة، والنكتة في ذلك ما عرفت من أن مدلوله مناسب للطلب الحقيقي دون
فعل الماضي إلا في الموردين المذكورين.
نتائج هذا البحث عدة نقاط:
الأولى: أن في الجملة الفعلية المشتركة بين الأخبار والانشاء مسلكان:
أحدهما، مسلك التعهد. والآخر، مسلك غير التعهد.
أما على الأول، فلا شبهة في تعدد الوضع بلحاظ حالتي الاخبار والانشاء،
فإن الجملة في مقام الاخبار موضوعة للدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن
ثبوت شيء في الواقع، وفي مقام الانشاء موضوعة للدلالة على ابراز
الأمر الاعتباري النفساني. فيكون لكل واحدة منهما مدلول وضعي مستقل
بوضع كذلك.
وأما على الثاني، فهل الجملة المستعملة في مقام الانشاء والطلب مستعملة
في نفس المعنى في مقام الاخبار أو مستعملة في معنى آخر حقيقة أو مجازا أو من
باب تعدد الدال والمدلول، ففيه وجوه من التفسير تقدمت.
الثانية: أن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ذكر أن خصوصية الاخبار والانشاء
خارجة عن حريم المعنى الموضوع له والمستعمل فيه وهو واحد فيهما
والاختلاف بينهما إنما هو في الداعي، فإنه قد يكون الانشاء وقد يكون الاخبار،
ولكن قد تقدم أن ما ذكره (قدس سره) غير صحيح.
الثالثة: أن ما قيل من أن الجملة في مقام الانشاء تختلف عنها في مقام الاخبار
202

في المدلول الوضعي التصوري، فإنها في مقام الاخبار موضوعة بإزاء النسبة
الفانية باللحاظ التصوري في مصداق مفروغ عنه تحققه في الخارج، وفي مقام
الانشاء موضوعة بإزاء النسبة الفانية باللحاظ التصوري في مصداق يرى تحققه
بنفس الجملة.
ولكن تقدم أنه لا يمكن الالتزام بتعدد الوضع ولا سيما بناء على ما هو الصحيح
من أن وضع الهيئة نوعي لا شخصي.
الرابعة: أن ما ذكر من أن الجملة في كلا المقامين مستعملة في معنى واحد وهو
النسبة الفانية باللحاظ التصوري في مصداق مفروغ عنه تحققه في الخارج
والاختلاف إنما هو في المدلول التصديقي، فإن المدلول التصديقي لها في مقام
الاخبار غير المدلول التصديقي لها في مقام الانشاء غير تام، لما تقدم من أن ذلك
خلاف الظاهر، فإن الظاهر هو اختلافهما في المدلول التصوري والتصديقي معا.
الخامسة: أن ما قيل من أن استعمال الجملة في مقام انشاء الطلب من باب
الكناية، فإنها تدل على الاخبار عن ثبوت النسبة وتحققها في الواقع بالمطابقة
وعلى ثبوت ملزومها بالالتزام وهو طلب ايقاعها في الخارج، فلا يمكن المساعدة
عليه، لوضوح أن الجملة في مقام الانشاء غير ظاهرة في الكناية، فلا يمكن حملها
عليها بدون قرينة ولا قرينة على ذلك.
السادسة: الظاهر أن الجملة في مقام الانشاء تختلف عنها في مقام الاخبار في
المدلول التصوري والتصديقي معا، غاية الأمر أن استعمالها في مقام الانشاء مجاز
لا حقيقة، لأن تعدد الوضع فيها غير محتمل على تفصيل قد مر.
السابعة: أن منشأ دلالة الجملة في مقام انشاء الطلب على الوجوب هو النكتة
العامة وهي دلالتها على النسبة الطلبية المولوية، على أساس أن المولوية مساوقة
203

للوجوب كما هو الحال في دلالة صيغة الأمر على الوجوب فلا فرق بينهما من هذه
الناحية. نعم، أنها على الوجه الثالث والخامس مشتملة على نكتة أخرى تؤكد
دلالتها على الوجوب، فتكون آكد وأقوى من دلالة الصيغة عليه وقد تقدم
تفصيله.
الثامنة: أن مدلول فعل المضارع مناسب للطلب الحقيقي وهو طلب ايقاعه في
الخارج، فلهذا يكون استعماله في مقام انشاء الطلب على القاعدة فلا يحتاج إلى
مؤونة زائدة، وهذا بخلاف ايقاعه في الخارج، فلهذا لا يصح استعماله في مقام
انشاء الطلب إلا في موردين:
الأول: ما إذا استعمل جزاء للشرط.
الثاني: ما إذا استعمل في مقام الدعاء.
وكذلك الجملة الاسمية، فإن مدلولها لا يناسب الطلب الحقيقي وهو طلب
إيقاع مدلولها في الخارج، ومن هنا يصح استعمال فعل المضارع في انشاء الطلب
مع الحفاظ على مدلوله الوضعي كما هو الحال في الوجه الثالث والخامس، فما
ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أنه إذا صح استعمال فعل المضارع في مقام انشاء
الطلب، صح استعمال كل جملة في هذا المقام حتى الجملة الاسمية وفعل الماضي مع
أن الأمر ليس كذلك غير تام، لما عرفت من الفرق بينهما.
204

التعبدي والتوصلي
ونقصد بالواجب التعبدي هنا ما يتوقف امتثاله والخروج عن عهدته على
الاتيان به، بقصد القربة والاخلاص، وفي مقابلة الواجب التوصلي، هو ما لا
يتوقف امتثاله والخروج عن عهدته على ذلك.
هذا هو التعبدي والتوصلي بالمعنى الخاص المبحوث عنه في المقام.
وقد يطلق التوصلي في مقابل التعبدي على عدة معان أخرى:
الأول: الواجب التوصلي بمعنى ما يسقط عن ذمة الانسان سواء كان بفعله
مباشرة أم تسبيبا أم كان بفعل الغير تبرعا، ويقابله الواجب التعبدي بمعنى مالا
يسقط إلا بفعل المكلف مباشرة.
الثاني: الواجب التوصلي بمعنى ما يسقط عن المكلف وإن كان بالحصة غير
الاختيارية وهي الحصة الصادر عنه قهرا واضطرارا، وفي مقابله الواجب
التعبدي بمعنى مالا يسقط إلا بالحصة الاختيارية.
الثالث: الواجب التوصلي بمعنى ما يسقط ولو في ضمن حصة محرمة، ويقابله
الواجب التعبدي وهو مالا يسقط إلا في ضمن حصة لا ينطبق عليها عنوان
محرم، وعلى هذا فيقع الكلام في أصالة التعبدية والتوصلية في أربع مراحل:
المرحلة الأولى: ما إذا شك في اعتبار قيد المباشرة في سقوط الواجب وعدم
اعتباره، وهل مقتضى الأصالة فيه الاعتبار والتعبد به.
المرحلة الثانية: ما إذا شك في اعتبار الاختيار في سقوط الواجب وعدم
205

اعتباره، وهل مقتضى الأصالة فيه أيضا الاعتبار والتعبد به.
المرحلة الثالثة: ما إذا شك في سقوط الواجب بالاتيان به في ضمن فرد
ينطبق عليه عنوان محرم، وهل مقتضى الأصالة فيه السقوط.
المرحلة الرابعة: ما إذا شك في اعتبار قصد القربة فيه وعدم اعتباره، وهل
مقتضى الأصالة فيه التعبدية أو التوصلية.
أما الكلام في المرحلة الأولى فيقع في مقامين:
الأول: في مقتضى الأصل اللفظي.
الثاني: في مقتضى الأصل العملي.
أما الكلام في المقام الأول، فهل مقتضى اطلاق الأمر المتوجه إلى فرد أو
جماعة عدم اعتبار قيد المباشرة وأنه يسقط بفعل الغير أيضا أو اعتبار هذا القيد
وعدم سقوطه بفعل الغير.
والجواب أن فيه قولين:
الأول: أن المعروف والمشهور بين الأصحاب هو أن مقتضى الاطلاق عدم
اعتبار قيد المباشرة وأنه يسقط بفعل الغير سواء كان بالتبرع أم بالتسبيب.
الثاني: ما اختاره المحقق النائيني (قدس سره) (1) وتبعه فيه السيد الأستاذ (قدس سره) (2)، من أن
مقتضى الاطلاق اعتبار قيد المباشرة وعدم سقوط الواجب بفعل الغير، وقد أفاد
السيد الأستاذ (قدس سره) في وجه ذلك بأن التكليف هنا يتصور ثبوتا على أحد أنحاء.

(1) أجود التقريرات 1: 147 - 150.
(2) محاضرات في أصول الفقه 2: 142.
206

الأول: أن يكون متعلقه الجامع بين فعل المكلف وفعل غيره.
وأورد عليه بأنه لا اطلاق للمادة بالنسبة إلى فعل الغير فإنه خارج عن
اختياره المكلف وقدرته، فلا يكون مشمولا لاطلاق المادة وهي الواجب،
فالشك في السقوط يرجع إلى الشك في اطلاق الوجوب الذي هو مفاد الهيئة،
ومقتضى اطلاق الهيئة عدم سقوط الوجوب عن المكلف بفعل الغير، بل ذكر (قدس سره)
أن هذا الوجه غير معقول، لأن فعل الغير بما أنه خارج عن اختيار المكلف
وقدرته، فلا يعقل تعلق التكليف بالجامع بينه وبين فعل نفسه لأنه لغو.
وللمناقشة فيه مجال وذلك، لأنه لا مانع من تعلق التكليف بالجامع بين
المقدور وغير المقدور، وقد صرح هو (قدس سره) بذلك في غير مورد، باعتبار أن الجامع
بين المقدور وغيره مقدور ولا مانع من تعلق التكليف به ولا موجب للالتزام بأنه
متعلق بخصوص الحصة الاختيارية، فما ذكره (قدس سره) من أن الاهمال في الواقع غير
معقول، فيدور الأمر بين الاطلاق وهو تعلق التكليف والجامع والتقييد وهو
تعلق التكليف بحصة خاصة، وحيث أن الأول لا يعقل فيتعين الثاني غريب،
فإنه مصادرة لأن التكليف بالجامع بين الحصة المقدورة وغير المقدورة ممكن لأنه
مقدور ولا مانع من تعلق التكليف به. نعم، الذي لا يمكن هو تعلق التكليف
بالجمع بينهما لأنه من التكليف بغير المقدور وهو لا يمكن، أو فقل أنه فرق بين
تعلق التكليف بصرف وجود الجامع وبين تعلقه بمطلق وجوده أي بوجوده في
ضمن كل من الحصتين، فإن الأول لا مانع منه والثاني مستحيل، ولا فرق في
ذلك بين أن يكون اعتبار القدرة في متعلق التكليف بحكم العقل أو بمقتضى
الخطاب، فإن الخطاب لا يقتضي أكثر من كون متعلقه مقدورا، والمفروض أن
الجامع بين المقدور وغير المقدور، مقدور، هذا كله بحسب مقام الثبوت.
207

وأما في مقام الاثبات، فقد ذكر السيد الأستاذ (قدس سره) أنه على تقدير تسليم اطلاق
المأمور به في مقام الثبوت وسعة دائرته فيه لفعل الغير، إلا أن اطلاق الدليل في
مقام الاثبات لا يكون كاشفا عنه، لأن الأمر عندئذ يدور بين التعيين والتخيير
ومقتضى الاطلاق التعيين، لأن التخيير في المقام الراجع إلى جعل فعل الغير عدلا
لفعل المكلف نفسه يحتاج إلى عناية زائدة وقرينة.
ويمكن المناقشة فيه، أن الأمر في المقام لا يدور بين التعيين والتخيير بهذا المعنى
بل الأمر يدور بين اطلاق المادة لفعل الغير وتقييدها بخصوص فعل المكلف، على
أساس أن المادة بعنوانها تشمل فعل الغير وتنطبق عليه، إلا أن الكلام في أن
هناك قرينة على تقييدها بخصوص فعل المكلف أو لا، فإذا لم تكن قرينة على
ذلك فلا مانع من تعلق الأمر بالجامع بنحو صرف الوجود في مقام الاثبات
الكاشف عن الاطلاق في مقام الثبوت، فإذن مقتضى الاطلاق فيما إذا شك في
سعة دائرة الواجب وضيقها هو السعة هذا.
وذهب بعض المحققين (قدس سره) إلى أن هناك قرينة على تقييد اطلاق المادة بخصوص
فعل المكلف، بتقريب أن نسبة المادة إلى الفاعل (وهي النسبة الصدورية)
متعلقة للأمر المتوجه إلى فاعلها، فإذا كان صدور الفعل من الفاعل متعلقا للأمر
وموردا له فلا ينطبق الواجب على فعل الغير، باعتبار أنه لا يصدر ولا يكون
مستندا إليه ولو بالتسبيب.
والخلاصة: أن النسبة الصدورية المأخوذة في متعلق الأمر لا تحقق بتحقق
الفعل من الغير بدون استناده إلى المكلف (1).

(1) بحوث في علم الأصول 2: 65.
208

ويمكن المناقشة فيه بأن طبيعي الفعل الذي تعلق به الأمر يصدق على فعل
الغير كما يصدق على فعل المكلف بنفسه، وأما أن صدوره وإيجاده منه في الخارج
قيد للواجب ودخيل في الملاك القائم به فهو يختلف باختلاف الموارد وليس لذلك
ضابط كلي، فإن مناسبة الحكم والموضوع الارتكازية تارة يقتضي أن النسبة
الصدورية مأخوذة في متعلق الأمر كالمعنى الاسمي وبنحو الموضوعية وأخرى
تقتضي أنها مأخوذة فيه كالمعنى الحرفي وبنحو الطريقية بدون دخل لها في
الواجب وملاكه، مثلا إذا أمر المولى بانفاق الفقراء موجها أمره إلى فرد خاص أو
جماعة مخصوصة، كان المتفاهم العرفي منه بمناسبة الحكم والموضوع الارتكازية
أن النسبة الصدورية ملحوظة في الانفاق كالمعنى الحرفي وبنحو الطريقية بدون
دخل لها في الواجب وملاكه، باعتبار أن الغرض الداعي إلى الأمر مرتب على
الانفاق عليهم من أي مصدر كان، فإذا قام فرد خاص أو جماعة أخرى بالانفاق
على هؤلاء حصل الغرض فيسقط الأمر، وهذا يكشف عن أن الواجب هو
الجامع لا خصوص فعل المكلف.
وإن شئت قلت: أنه لا مانع من تعلق الأمر بالجامع بين فعل المكلف نفسه
وفعل الغير ثبوتا كما مر، وأما اثباتا فهو يختلف باختلاف الموارد وليس لذلك
ضابط كلي، فلابد في كل مورد من ملاحظة مناسبة الحكم والموضوع
الارتكازية في ذلك المورد، فإنها قد تقتضي الاطلاق وعدم الموضوعية لحيثية
الصدور من الفاعل وقد تقتضي التقييد والموضوعية للحيثية المذكورة، وعليه فما
ذكره بعض المحققين (قدس سره) من أن النسبة الصدورية مأخوذة في متعلق الأمر بنحو
الموضوعية والقيدية (1) لا يتم مطلقا، بل هو يختلف باختلاف الموارد كما عرفت،

(1) المصدر المتقدم.
209

هذا كله إذا كان قيام الفعل المتعلق للأمر بالمكلف قيام صدور.
وأما إذا كان قيامه به قيام حلول بأن يكون الفعل عنوانا للمكلف كالصلاة
والصيام والقيام والجلوس والحركة والسكون وما شاكلها، فلا شبهة في ظهور
الأمر المتعلق به في اعتبار قيد المباشرة، فإذا أمر المولى بالصلاة بقوله صل، ظاهر
في خصوص الحصة الصادرة منه مباشرة وقائمة به، ولا يكفي مجرد الاستناد إليه
وإن كان بالتسبيب.
الثاني: أن يكون متعلق التكليف الجامع بين فعل المكلف نفسه وبين استنابته
لغيره، ونتيجة ذلك هي أن المكلف مخير بين الاتيان بالفعل مباشرة وبين استنابة
الآخر هذا.
وقد علق (قدس سره) على هذا الوجه بأن الجامع المذكور لا يمكن أن يكون متعلقا
للتكليف، فإن لازم تعلقه به سقوطه بنفس الاستنابة باعتبار أنها أحد فردي
الواجب وهو خلف الفرض، فإن المفروض أن المسقط للتكليف إنما هو الاتيان
به خارجا ولا يعقل أن تكون الاستنابة بنفسها مسقطة، وإلا يكفي مجرد الإجارة
في ذلك بدون الاتيان بالعمل المستأجر عليه خارجا وهو كما ترى (1).
ويمكن المناقشة فيه بتقريب، أن الجامع بين فعل المكلف نفسه وبين الاستنابة
للغير الملحوظة بالمعنى الاسمي وإن كان لا يصلح أن يكون متعلقا للتكليف وإلا
لكانت نفس الاستنابة مسقطة له وهذا كما ترى، ولكن لا مانع من أن يكون
الجامع بين فعل المكلف مباشرة وفعله بالتسبيب متعلقا للتكليف بأن تكون
الاستنابة ملحوظة بالمعنى الحرفي، هذا بحسب مقام الثبوت. وأما اثباتا فإن كان

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 143.
210

للدليل اطلاق فمقتضاه أن الواجب هو الجامع بين فعل المكلف مباشرة وفعله
تسبيبا، هذا إذا كان قيام الفعل الواجب بالمكلف قيام صدور، وأما إذا كان قيامه
به قيام حلول، فيكون دليل الأمر به ظاهرا في اعتبار قيد المباشرة.
والخلاصة: أن قيام الفعل المأمور به بالمكلف إن كان قيام صدور كان مقتضى
اطلاق الأمر به عدم اعتبار قيد المباشرة وانه متعلق بالجامع بين العقل المباشري
والتسبيبي، وإن كان قيامه به قيام حلول كان مقتضى اطلاق الأمر به اعتبار قيد
المباشرة، وعلى هذا فمقتضى الاطلاق على الأول سقوط الواجب بفعل الغير
تسبيبا، وعلى الثاني عدم سقوطه به.
الثالث: ما إذا فرض كون الشك في اطلاق الوجوب وتقييده خاصة، وأما
الواجب فهو خصوص فعل المكلف ولو بلحاظ أن فعل الغير خارج عن اختياره
فلا يكون مشمولا لاطلاق المادة، فإذن لا منشأ للشك في سقوط الواجب إلا
الشك في تقييد الوجوب أي مفاد الهيئة بعدم فعل الغير، فمع الشك فيه مقتضى
اطلاق الهيئة عدم السقوط.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أن الشك في سقوط الواجب
إن كان من جهة الشك في أن فعل الغير مسقط، فقد مر أن ذلك يختلف باختلاف
الموارد وليس له ضابط كلي، وإن كان من جهة الشك في أن فعل الغير إذا كان
بالتسبيب هل هو مسقط، فقد سبق أن مقتضى اطلاق المادة السقوط إذا كان
الفعل صدوريا وعدم السقوط إذا كان حلوليا، وإن كان من جهة الشك في
اطلاق الوجوب وتقييده، فقد عرفت أن مقتضى اطلاق الهيئة عدم السقوط.
وأما الكلام في المقام الثاني وهو مقتضى الأصل العملي في موارد الشك في
سقوط الواجب بفعل الغير وعدم سقوطه، فيقع تارة فيما إذا كان الشك في
211

السقوط من جهة الشك في سعة دائرة الواجب وضيقها وأخرى فيما إذا كان الشك
فيه من جهة الشك في سعة دائرة الوجوب وضيقها.
أما الأول فالمرجع فيه أصالة البراءة، لأن الشك إذا كان في اطلاق الواجب أو
تقييده سواء كان تقييده بقيد المباشرة أم بقيد الاستناد إلى المكلف وإن كان
بالتسبيب، فيكون داخلا في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين والمرجع
فيها أصالة البراءة، باعتبار أن الشك فيه إنما هو في شرطية قيد المباشرة
أو الاستناد.
وأما الثاني فهل مقتضى الأصل العملي فيه السقوط أو عدمه، فيه وجهان:
فذهب السيد الأستاذ (قدس سره) إلى الثاني وهو عدم السقوط وأنه من موارد أصالة
الاشتغال، بتقريب أن المكلف يعلم بثبوت التكليف واشتغال ذمته به ويشك في
سقوطه بفعل الغير وهو مورد لأصالة الاشتغال، وأفاد في توضيح ذلك أن الشك
في اطلاق التكليف واشتراطه قد يكون مع عدم احراز فعلية التكليف كما إذا لم
يكن ما يحتمل شرطيته متحققا من الأول، ففي مثل ذلك يكون الشك في أصل
ثبوت التكليف وتوجهه إليه، كما إذا احتمل اختصاص وجوب إزالة النجاسة
عن المسجد مثلا بالرجل دون المرأة أو بالحر دون العبد وهكذا، والمرجع فيه
أصالة البراءة. وقد يكون مع احراز فعلية التكليف، كما إذا كان ما يحتمل
شرطيته له متحققا من الأول ثم ارتفع وزال فيشك في بقائه فعلا وسقوطه عنه،
وهذا مورد لقاعدة الاشتغال دون البراءة، لأنه شك في السقوط بعد اليقين
بالثبوت، ومقامنا من هذا القبيل، مثلا إذا علم الولي باشتغال ذمته بتكليف الميت
فعلا ولكن كان يشك في سقوطه عنها بفعل الغير، فلا محالة يرجع إلى قاعدة
الاشتغال. وعليه فإذا توجه تكليف إلى شخص وصار فعليا في حقه فسقوطه
212

عنه بحاجة إلى العلم بالمسقط، ومع الشك فيه يحكم العقل بالاشتغال وتحصل
الفراغ اليقيني، فالضابط العام هو أن كل مورد يكون الشك في سقوط التكليف
بعد العلم بثبوته فهو مورد للقاعدة المذكورة، ومن هنا ذكر (قدس سره) أن المكلف إذا شك
في سقوط التكليف عن ذمته من جهة الشك في قدرته على امتثاله واحتمال العجز
بعد فرض وصوله إليه وتنجزه، كما إذا شك في وجود أداء الدين عليه بعد اشتغال
ذمته به من جهة الشك في تمكنه من الأداء وقدرته عليه مع فرض مطالبة الدائن
إياه به، فإنه مورد قاعدة الاشتغال ووجوب الفحص عن قدرته.
لحد الآن قد تبين أن الشك في السقوط إذا كان من جهة الشك في سعة دائرة
الواجب وضيقها، فيدخل في كبرى مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر
الارتباطيين والمرجع فيها أصالة البراءة، وإذا كان من جهة الشك في سعة دائرة
الوجوب وضيقها، فيدخل في موارد الشك في السقوط بعد اليقين بالثبوت
والمرجع فيه قاعدة الاشتغال هذا.
ويمكن المناقشة فيه بتقريب أن الشك في سقوط التكليف عن الذمة وفراغها
عنه بعد ثبوته فيها واشتغالها به وتنجزه وإن كان موردا لقاعدة الاشتغال إلا أن
الكلام في انطباق هذه الكبرى على المقام، والتحقيق عدم الانطباق لأن الشك في
سقوط وجوب عن المكلف بفعل الغير لا محالة يرجع إلى الشك في اشتراطه بعدم
فعل الغير، فإذا فعل انتفى الوجوب بانتفاء شرطه، وحينئذ فيكون الشك في
أصل ثبوته وتوجهه إليه، لاحتمال أنه مشروط من الأول بعدم قيامه به وهو
مورد لأصالة البراءة.
وبكلمة واضحة: أن شك المكلف في سقوط الوجوب عنه بفعل الغير لا محالة
يرجع إلى الشك في أحد أمرين:
213

الأول: الشك في اشتراطه بعدم فعل الغير.
الثاني: الشك في أن فعل الغير محصل للغرض والملاك القائم بالواجب، أما
على الاحتمال الأول فيرجع الشك في السقوط بفعل الغير إلى الشك في اطلاق
الوجوب واشتراطه بعدمه، ومرد هذا إلى الشك في أصل ثبوت الوجوب عليه،
فإنه إن كان مطلقا فهو ثابت في ذمته ولم يسقط به، وإن كان مشروطا فهو غير
ثابت فيكون من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ومقتضى الأصل فيه البراءة
عن التعيين، مثلا إذا سلم أحد على شخص وأجاب عنه ثالث، ويشك المسلم
عليه في أن الوجوب قد سقط عنه بجواب ثالث، فيرجع هذا الشك إلى الشك في
الاطلاق والتقييد، فإن وجوب الجواب إن كان مطلقا لم يسقط عنه وإن كان
مقيدا سقط، ونتيجة ذلك هي أنه شاك في ثبوت الوجوب عليه تعيينا وهو مورد
لقاعدة البراءة دون الاشتغال.
ومن هذا القبيل ما إذا علم الابن الأكبر بأن ما فات من الصلوات عن أبيه
الميت واجب عليه، وحينئذ فإذا قام غيره بالاتيان بها عن أبيه تبرعا وشك
الابن في سقوطها عنه بذلك، فيرجع هذا الشك إلى الشك في اطلاق الوجوب
واشتراطه بعدم فعل الغير، فعلى الأول لا يسقط وعلى الثاني يسقط، بمعنى عدم
ثبوته عليه من الأول لأنه مشروط بشرط ومع انتفائه فلا ثبوت له، فإذن هو
شاك في ثبوته والمرجع فيه أصالة البراءة.
ومن هذا القبيل أيضا ما إذا علم المدين بأداء الدين عليه كما إذا كان مطالبا به
وشك في قدرته على الأداء، فيرجع هذا الشك إلى الشك في الوجوب من جهة
الشك في القدرة وهو مورد لأصالة البراءة خلافا للمشهور، فإنهم بنوا على أن
مورد الشك في القدرة من موارد قاعدة الاشتغال، قد يقال كما قيل أنه لا ريب في
214

ثبوت التكليف في الموارد المذكورة وما شاكلها والشك إنما هو في سقوطه بفعل
الغير، ومن الواضح أن هذا من موارد قاعدة الاشتغال دون البراءة.
والجواب: أن الأمر ليس كذلك، فإن الشك في المقام حيث يرجع إلى الشك
في أن التكليف مجعول في الشريعة المقدسة مطلقا أو مشروطة بعدم فعل الغير،
فيكون من موارد الشك في الثبوت، فإنه على الأول لا يسقط بفعل الغير وعلى
الثاني يسقط به، على أساس أن المشروط ينتفي بانتفاء شرطه من الأول، ونتيجة
ذلك هي أنه شاك في ثبوته عليه وهو مورد لقاعدة البراءة، ودعوى أنه مجعول في
الشريعة المقدسة مطلقا ولكن بقائه مشروط بعدم فعل الغير.
مدفوعة، بأن عدم فعل الغير لو لم يكن مأخوذا شرطا في مرحلة الجعل من
قبل المولى، استحال أن يكون دخيلا في بقائه في مرحلة الفعلية، بداهة أن كل ما
يكون مأخوذا من القيود الوجودية أو العدمية مفروض الوجود في تلك المرحلة
فهو من شروط فعلية الحكم وتدور مدارها وجودا وعدما حدوثا وبقاء، وعلى
هذا فالمولى حيث كان يعلم أن عدم فعل الغير إما أنه دخيل في الحكم جعلا
وملاكا أو غير دخيل فيه، فعلى الأول لا محالة يكون مأخوذا في مرحلة الجعل
كسائر الشروط، وعلى الثاني فلا يمكن أن يكون مأخوذا فيها، فإذا جعل المولى
وجوب قضاء ما فات من الأب على ابنه الأكبر بعد موته، كان يعلم بأن عدم قيام
الغير بالصلاة عنه دخيل في وجوب القضاء عليه حكما وملاكا أو لا يكون
دخيلا فيه كذلك، فعلى الأول يكون مأخوذا مفروض الوجود في مرحلة
الجعل، فإذا فعل ارتفع الحكم بارتفاع شرطه، وعلى الثاني فلا يؤخذ، إذ لا يعقل
أن يكون دخيلا في فعلية الحكم.
فالنتيجة، أنه لا يمكن أن يكون الشئ دخيلا في فعلية الحكم من دون أن
215

يكون مأخوذا في مرحلة الجعل كشرط له.
وأما الاحتمال الثاني، وهو أن فعل الغير مفوت للملاك بحيث لا يتمكن
المكلف من تحصيله بعد ذلك بدون أن يكون وافيا بالغرض فهو غير محتمل ولا
مبرر له أصلا، هذا إضافة إلى انا لو سلمنا ذلك فعندئذ يكون الشك في التكليف
من جهة الشك في القدرة على الاتيان بمتعلقه، والمرجع فيه على المشهور وإن كان
أصالة الاشتغال إلا أن الصحيح فيه أصالة البراءة.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن الشك في سقوط الواجب
بفعل الغير إن كان من جهة الشك في سعة وضيق دائرة الواجب فالمورد يكون
من موارد أصالة البراءة، لأنه داخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر
الارتباطيين، وإن كان من جهة الشك في اطلاق الوجوب واشتراطه بعدم فعل
الغير، فقد مر أن السيد الأستاذ (قدس سره) قد بنى على أن المورد من موارد أصالة
الاشتغال، لأن الشك في السقوط بعد العلم بالثبوت، ولكن تقدم أن الأمر ليس
كذلك بل هو أيضا من موارد أصالة البراءة، لأن مرجع الشك في الاطلاق
والاشتراط إلى الشك في التعيين والتخيير والمرجع فيه أصالة البراءة عن التعيين.
وأما الكلام في المرحلة الثانية، وهي ما إذا شك في سقوط الواجب عن ذمة
المكلف إذا صدر منه بغير اختياره، فيقع في مقامين:
المقام الأول: في مقتضى الأصل اللفظي.
المقام الثاني: في مقتضى الأصل العملي.
أما المقام الأول، فهل مقتضى اطلاق الدليل السقوط، فيه قولان فذهب
216

المحقق النائيني (قدس سره) إلى القول الثاني وقد استدل على ذلك بوجهين (1):
الوجه الأول: أن الأمر يقتضي بنفسه كون متعلقه خصوص الحصة
الاختيارية، لأن الغرض من الأمر الصادر من المولى إلى العبد هو بعثه إلى
الإتيان بالمأمور به وإيجاد الداعي في نفسه للتحريك نحوه، ومن الطبيعي أن هذا
يستلزم كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة وإلا لكان طلبه لغوا، وعلى هذا
فبطبيعة الحال يكون المطلوب من الأمر المتعلق بالفعل خصوص حصة خاصة
منه وهي الحصة المقدورة لكي يحرك المكلف نحو الاتيان به في الخارج وامتثاله
مع استحالة ايجاد الداعوية والمحركية نحو غير المقدور، ومن الواضح أن توجيه
المحركية والداعوية نحو المادة قرينة متصلة مانعة عن انعقاد ظهورها في
الاطلاق، فإذن يكون الواجب خصوص الحصة الاختيارية دون الجامع بينها
وبين الحصة غير الاختيارية، وحينئذ فإذا شك المكلف في سقوط الواجب عنه
بالحصة غير الاختيارية، فمقتضى اطلاق الهيئة عدم تحقق الامتثال إلا بالحصة
الاختيارية.
والخلاصة: أن المادة في نفسها غير ظاهرة في الحصة الاختيارية لا وضعا
ولا انصرافا، وتقييدها بها انما هو من جهة أن الغرض من الأمر المتعلق بها
هو الداعوية والمحركية نحوها، وهو يقتضي نفسه هذا التقييد ويمنع عن ظهورها
في الاطلاق، وأما الهيئة فهي باقية على اطلاقها فلا مانع من التمسك به عند
الشك هذا.
ويمكن الجواب عن ذلك بأمرين:
الأول: أن الحاكم باعتبار القدرة في متعلق التكليف العقل (لا الخطاب

(1) أجود التقريرات 1: 154.
217

الشرعي) على أساس قبح تكليف العاجز في المرتبة السابقة على الخطاب،
ولولا حكم العقل بذلك لم يقتض الخطاب كون متعلقه مقدورا، فإن استحالة
الداعوية والمحركية نحو غير المقدور انما هو بملاك أن تكليف العاجز قبيح لا
مطلقا على تفصيل في محله.
الثاني: أن اعتبار القدرة في متعلق التكليف سواءا كان بحكم العقل أم بمقتضى
الخطاب الشرعي انما هو من جهة أن التكليف بغير المقدور لغو، ومن الطبيعي أن
ذلك لا يقتضي إلا استحالة تعلق التكليف بغير المقدور خاصة، وأما تعلقه
بخصوص الحصة المقدورة فحسب، فلا ضرورة لوضوح أن غاية ما يقتضي ذلك
كون متعلقه مقدورا، والمفروض أن الجامع بين المقدور وغير المقدور، مقدور
فلا مانع من تعلقه به، ولا فرق في ذلك بين أن يكون اعتبار القدرة بحكم العقل أو
بمقتضى الخطاب.
ودعوى، أن الغرض من الأمر بشيء هو البعث والتحريك نحوه وهو قرينة
متصلة لتقييد المادة بخصوص الحصة المقدورة ويمنع عن ظهورها في الاطلاق.
مدفوعة، بأن البعث والتحريك نحو شيء لا يكون قرينة على أكثر من كون
ذلك الشئ مقدورا، والمفروض أن الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور،
ولا يكون قرينة على تقييده بخصوص الحصة المقدورة، وذلك لأن المحال انما هو
البعث والتحريك نحو غير المقدور لا الجامع بينه وبين المقدور حتى يكون قرينة
على التقييد، حيث أن الغرض من الأمر بشيء هو بعث المكلف وتحريكه نحو
إيجاده في الخارج وهو يتطلب كونه مقدورا وإلا لكان الأمر به لغوا، ومن
الواضح أنه يكفي في الخروج عن اللغوية تعلقه بالجامع بين الحصة المقدورة وغير
المقدورة باعتبار أنه مقدور، واما تعلقه بخصوص الحصة المقدورة فهو بلا مبرر
218

وبحاجة إلى عناية زائدة.
والخلاصة: أن البعث والتحريك لا يصلح أن يكون قرينة على تقييد اطلاق
المادة والمنع عن انعقاد ظهورها في الاطلاق لا متصلة ولا منفصلة لعدم التنافي
بين الأمرين هما اطلاق المادة والبعث والتحريك نحوه باعتبار أن الجامع
مقدورا، فإذن الخطاب الشرعي كالحكم العقلي، فكما أنه لا يصلح أن يكون
قرينة على تقييد المادة والمنع عن انعقاد ظهورها في الاطلاق فكذلك الخطاب
الشرعي.
وعلى ضوء هذا الأساس فلا مانع من التمسك باطلاق المادة عند الشك في
سقوط الواجب بالحصة غير الاختيارية ومقتضى اطلاقها السقوط. نعم، لو قلنا
بعدم اطلاق المادة فالمرجع هو اطلاق الهيئة ومقتضاه عدم السقوط بها.
بقي هنا أمران:
الأول: أنه لا مانع من التمسك باطلاق المادة بناء على ما قويناه من أن التقابل
بين الاطلاق والتقييد من تقابل الايجاب والسلب أو من تقابل التضاد كما قواه
السيد الأستاذ (قدس سره)، وحينئذ فإذا لم تكن هناك قرينة على تقييد المادة بالحصة
الاختيارية فلا مانع من التمسك باطلاقها، وأما بناء على ما اختاره المحقق
النائيني (قدس سره) من أن التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة، فقد ذكر السيد
الأستاذ (قدس سره) أنه لا يمكن اطلاق المادة لأن استحالة التقييد تستلزم
استحالة الاطلاق، وحيث أن تقييد المادة بالحصة غير المقدورة مستحيل
فاطلاقها أيضا كذلك (1).

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 150.
219

وفيه، أن هذا الاشكال في غير محله، لأن المقصود في المقام هو تقييد المادة
بالحصة الاختيارية في مقابل اطلاقها للحصة غير الاختيارية، والمفروض
امكان كل من هذا التقييد والاطلاق معا، أو فقل أن محل الكلام في المقام انما هو
في تقييد المادة بالحصة الاختيارية في مقابل اطلاقها لا في تقييدها بالحصة غير
الاختيارية لكي يقال أنه غير ممكن.
الثاني: أن السيد الأستاذ (قدس سره) قد ذكر أنه لا مانع من تعلق التكليف بالجامع
بين المقدور وغير المقدور شريطة أن يكون غير المقدور ممكن التحقق في
الخارج، وأما إذا كان تحققه مستحيلا فيه فلا يمكن تعلق التكليف به لأنه لغو (1).
ويمكن المناقشة فيه، لأن ما ذكره (قدس سره) من اللغوية مبني على أن يكون التكليف
متعلقا بمطلق وجود المانع، فعندئذ لا محالة يكون لغوا، ولكن الأمر ليس كذلك،
ضرورة أن متعلق التكليف هو صرف وجود الجامع لا مطلق وجوده، ومن
الواضح أنه لا مانع من تعلقه به وإن كان تحقق بعض أفراده من المكلف مستحيلا
في الخارج، فإنه لا يمنع عن تعلق التكليف بالجامع بنحو صرف الوجود الذي
يتحقق بأول وجوده ولا يكون لغوا، ومن هنا لو فرض وجوده في الخارج ولو
بفعل الغير كان بامكان المكلف الاكتفاء به.
وبكلمة، أن الحاكم باعتبار القدرة أما العقل أو الخطاب الشرعي. أما الأول،
فلما مر من أن حكمه باعتبار القدرة في متعلق التكليف انما هو على أساس قبح
تكليف العاجز، والمفروض أن تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور
ليس من تكليف العاجز لأن الجامع مقدور، ولا فرق في ذلك بين أن يكون غير

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 149.
220

المقدور مستحيل الوقوع في الخارج أو لا، ومن الضروري أن العقل كما لا يحكم
بأن متعلق التكليف لابد أن يكون خصوص الحصة المقدورة كذلك لا يحكم بأن
الجامع لابد أن يكون بين الحصة المقدورة وغير المقدورة، شريطة أن تكون
الحصة غير المقدورة ممكنة التحقق في الخارج من المكلف لا مطلقا.
وأما الثاني، فلما عرفت من أن الخطاب لا يقتضي على أساس البعث
والتحريك أكثر من كون متعلقه مقدورا، والمفروض أن الجامع بين المقدور وغير
المقدور مقدور وإن كان غير المقدور مستحيل الوقوع في الخارج، فإن المعيار إنما
هو بكون الجامع بنحو صرف الوجود مقدورا، فإذا كان الجامع مقدورا كذلك،
كفى ذلك في خروج الخطاب عن اللغوية وإن كان وقوع بعض أفراده في
الخارج محالا.
فالنتيجة، أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من تخصيص الحصة غير المقدورة
بكونها ممكنة التحقق في الخارج لا يتم، لا من جهة اللغوية ولا من جهة الدليل
على اعتبار القدرة في متعلق التكليف.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أنه لا مانع من التمسك باطلاق المادة
عند الشك في سقوط الواجب بالحصة غير الاختيارية ومقتضاه السقوط وكون
الواجب توصليا بهذا المعنى، نعم لو لم يكن للمادة اطلاق فلا مانع من التمسك
باطلاق الهيئة ومقتضاه عدم السقوط.
الوجه الثاني: أن الحسن الفعلي للواجب لا يكفي في صحته بل يعتبر فيها
الحسن الفاعلي (1) أيضا، بمعنى أن يكون صدوره من الفاعل حسنا، ومن هنا

(1) أجود التقريرات 1: 153.
221

التزم (قدس سره) ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة حتى على القول بالجواز، نظرا إلى أن
صدور الصلاة من المصلي فيها ليس حسنا حتى يستحق فاعله المدح عليه وإن
كانت الصلاة في نفسها حسنة.
وفي المقام بما أن الواجب قد صدر من المكلف بغير اختيار والتفات فلا يتصف
بالحسن الفاعلي ولا يستحق فاعله المدح عليه فيكون فاقدا لشرط الصحة، فلا
يمكن الحكم بها من جهة عدم انطباق المأمور به عليه، ومن الواضح أن اعتبار
هذا الشرط قرينة على أن الواجب حصة خاصة وهي الحصة المقدورة دون
الجامع بينها وبين الحصة غير المقدورة، وحينئذ فإذا شك في سقوط الوجوب
عن الواجب بوجود الحصة غير المقدورة، فلا مانع من التمسك باطلاق الهيئة
والحكم بعدم السقوط.
فالنتيجة، أن الساقط على هذا انما هو اطلاق المادة على أساس أنه يعتبر فيها
مضافا إلى الحسن الفعلي الحسن الفاعلي أيضا، ولا زم ذلك أن المأمور به حصة
خاصة منها وهي الحصة الاختيارية باعتبار أن صدورها من الفاعل حسن،
وأما الهيئة فهي تظل على اطلاقها ولا مانع من التمسك به عند الشك في سقوط
الواجب بغيره.
والجواب أولا: أنه لا دليل على اعتبار الحسن الفاعلي زائدا على اعتبار
الحسن الفعلي، فإن المعتبر في اتصاف الفعل بالوجوب هو كونه حسنا من جهة
اشتماله على المصلحة الملزمة التي تدعو المولى إلى إيجابه، وأما الحسن الفاعلي
وهو كون صدوره من الفاعل حسنا فلا دليل على اعتباره.
وثانيا: أنه إن أريد بالحسن الفاعلي إيقاع العمل بنحو يستحق فاعله المدح
والثواب، فيرد عليه أن لازم ذلك اعتبار قصد القربة فيه زائدا على الاختيار،
222

لأن الفاعل لا يستحق الثواب والمدح إلا بالاتيان به بقصد القربة، فلو أتى به
بدون ذلك لم يستحق المدح والثواب، ونتيجة ذلك أن كل واجب في الشريعة
المقدسة واجب تعبدي وهو كما ترى.
وإن أريد به إيقاع العمل في ضمن فرد سايغ لا في ضمن فرد محرم، فسيأتي
الكلام فيه في المرحلة الثالثة، هذا تمام الكلام في المقام الأول.
وأما الكلام في المقام الثاني، فيقع في مقتضى الأصل العملي وهل مقتضاه
أصالة البراءة أو الاشتغال، فيه قولان:
فذهب جماعة منهم السيد الأستاذ (قدس سره) إلى التفصيل في المسألة، فإن الشك في
سقوط الواجب عن ذمة المكلف بالحصة غير الاختيارية إن كان من جهة الشك
في سعة وضيق دائرة الواجب، فالمرجع أصالة البراءة عن الضيق وهو تعين
خصوص الحصة الاختيارية، باعتبار أن المقام على هذا يدخل في مسألة دوران
الأمر بين التعيين والتخيير. وإن كان من جهة الشك في سقوط الوجوب بالحصة
غير الاختيارية، فالمرجع أصالة الاشتغال دون أصالة البراءة، باعتبار أن الشك
فيه إنما هو في السقوط بعد الثبوت لا في الثبوت فحسب حتى يكون موردا
لأصالة البراءة. هذا،
ولكن الصحيح في المسألة أصالة البراءة مطلقا، وذلك لأن منشأ الشك في
السقوط إن كان الشك في سعة الواجب وضيقه فالأمر واضح، وإن كان منشأه
الشك في سقوط الوجوب عن الواجب بالحصة غير الاختيارية، كان يرجع إلى
الشك في اشتراطه بعدم تحققها في الخارج أو اطلاقه، فعلى الأول يسقط بتحققها
فيه ويكشف عن عدم ثبوته من الأول دون الثاني هذا من الشك في الثبوت، لأن
المكلف حينئذ شاك في أنه ثابت عليه من الأول أو لا، من جهة أنه لا يدري أن
223

ثبوته كان من الأول مطلقا أو مشروطا.
فالنتيجة، أنه لا فرق بين أن يكون الشك في سقوط الواجب بالحصة غير
الاختيارية لفعل المكلف نفسه من جهة الشك في سعة وضيق دائرة الواجب و
من جهة الشك في اطلاق الوجوب واشتراطه بعدمها، فعلى كلا التقديرين تكون
المرجع أصالة البراءة على أساس أن مرد الشك في كلا الفرضين إلى الشك في
الثبوت لا السقوط بعد الثبوت، فما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن المرجع في
الفرض الثاني قاعدة الاشتغال دون البراءة غير تام.
وأما الكلام في المرحلة الثانية، وهي ما إذا شك في سقوط الواجب بالفرد
المحرم، فيقع في مقامين أيضا.
المقام الأول: في مقتضى الأصل اللفظي.
المقام الثاني: في مقتضى الأصل العملي.
أما المقام الأول، فيقع الكلام فيه في موردين:
الأول: فيما إذا كان الحرام مصداقا للواجب في الخارج.
الثاني: ما إذا كان الحرام ملازما للواجب فيه.
أما المورد الأول: فهل يتصور فيه الاطلاق في مقام الثبوت، بأن يكون
الواجب هو الجامع البدلي بين الحصة المحللة والحصة المحرمة أو لا، فيه قولان
فذهب جماعة إلى القول الثاني، بدعوى استحالة كون الحرام مصداقا للواجب
والمبغوض مصداقا للمحبوب.
وذهب بعض آخر إلى القول الأول، بدعوى أن الأمر تعلق بعنوان كالصلاة
مثلا والنهي تعلق بعنوان آخر كالغضب، وحيث أن دليل الأمر ظاهر في جواز
224

تطبيق الجامع على كل فرد من أفراده حتى الأفراد المحرمة بقطع النظر عن
حرمتها، فهو ينافي ظهور النهي في حرمتها على القول بالامتناع في مسألة اجتماع
الأمر والنهي ووحدة المجمع وجودا وماهية، وحينئذ فيسقط الظهوران من جهة
المعارضة فيبقى احتمال تعلق الوجوب بالجامع البدلي ثبوتا.
ودعوى، أن الحرام لا يمكن أن يكون مصداقا للواجب والمبغوض مصداقا
للمحبوب، فلذلك لا يحتمل تعلق الوجوب بالجامع ثبوتا.
مدفوعة، بأن هذه الدعوى صحيحة إذا علم أن الداعي للأمر بالجامع هو
محبوبيته فحسب، وأما إذا احتمل أن يكون هناك داع آخر له يتحقق ذلك
الداعي بصرف وجوده في الخارج ولو كان في ضمن فرد محرم مع هذا الاحتمال،
احتمل تعلق الوجوب بالجامع ثبوتا، ونتيجة كلا القولين عدم ثبوت الاطلاق
للمادة، غاية الأمر أنه على القول الأول غير ممكن ثبوتا وعلى القول الثاني قد
يسقط من جهة المعارضة، وعندئذ فلا مانع من التمسك باطلاق الهيئة ومقتضاه
عدم سقوط الوجوب بالاتيان بالحصة المحرمة.
وأما المورد الثاني وهو ما إذا لم يكن الواجب متحدا مع الحرام ولكن ملازم له
وجودا، فلا مانع من اطلاق المادة بالنسبة إلى جميع أفرادها حتى الأفراد
الملازمة للحرام وجودا وانطباقها عليها كما هو الحال على القول بالجواز وتعدد
المجمع وجودا وماهية في مسألة الاجتماع، وعلى هذا فإذا شك في الاجزاء
بالنسبة إلى الأفراد الملازمة للحرام في الخارج وجودا، فلا مانع من التمسك
باطلاق المادة لاثبات الاجزاء.
225

ولكن المحقق النائيني (قدس سره) منع عن الاجزاء في مورد الاجتماع (1) حتى على القول
بالجواز وتعدد المجمع وعدم انطباق الواجب على الحرام، على أساس أنه (قدس سره)
اشترط في صحة الواجب الحسن الفاعلي مضافا إلى حسنه الفعلي، وعلى هذا فلا
يمكن الحكم بصحة الواجب، لأن الفعل وإن كان مصداقا للواجب دون الحرام
والحرام ملازم له وجودا ولا ينفك وجوده عن وجوده، ولكن حيث إن الواجب
والحرام موجودان في الخارج بفاعلية واحدة من المكلف لا بفاعليتين، فلا يكون
له حسن فاعلي، فلذلك لا يكون مجزيا وصحيحا.
واشكل عليه السيد الأستاذ (قدس سره) (2) بأنه لا دليل على اعتبار الحسن الفاعلي في
صحة الواجب، والمعتبر فيها إنما هو الحسن الفعلي، لما مر من أن الحسن الفاعلي
لا يتحقق إلا بالاتيان بالواجب بقصد القربة، ولا زم ذلك أن كل واجب في
الشريعة المقدسة مشروط بقصد القربة ولا يوجد واجب توصلي فيها وهو كما
ترى، ومن هنا ذكر (قدس سره) أنه لا مانع حينئذ من التمسك باطلاق المادة لاثبات
الاجزاء هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه على القول باعتبار الحسن الفاعلي
في صحة الواجب، هل يمكن التمسك باطلاق المادة أو لا؟
والجواب: أنه ممكن، لأن فعل الواجب والحرام إذا كان متعددا كانت
فاعليتهما أيضا متعددة، لأن فاعلية الواجب غير فاعلية الحرام، ضرورة أن
تعدد الوجود يستلزم تعدد الإيجاد وإن كانتا متلازمتين في الخارج، فإذن تتصف
فاعلية الواجب بالحسن وفاعلية الحرام بالقبح، والمفروض عدم سراية الحكم
من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر، مثلا فاعلية المصلي للصلاة في الأرض

(1) أجود التقريرات 1: 155.
(2) المتقدم. وانظر محاضرات في أصول الفقه 2: 150 - 151.
226

المغصوبة على القول بالجواز وتعدد المجمع في الخارج وجودا وماهية غير
فاعليته لفعل الحرام فيها، لأن تعدد الفعل يستلزم تعدد الفاعل، فالجهة التي في
المصلي فاعلة للصلاة غير الجهة التي فيه فاعلة للحرام، وحيث إن قبح فاعلية
الحرام لا يسري إلى فاعلية الواجب فهي تبقى على حسنها، وحينئذ فلا مانع من
التمسك باطلاق المادة.
والخلاصة: أنه على القول بالامتناع ووحدة المجمع وجودا وماهية
فالاطلاق للمادة، وحينئذ فيمكن التمسك باطلاق الهيئة لاثبات عدم الاجزاء،
وأما على القول بالجواز وتعدد المجمع وجودا وماهية، فيكون للمادة اطلاق ولا
مانع من التمسك به حتى على القول باعتبار الحسن الفاعلي في صحة الواجب
مضافا إلى حسنه الفعلي.
وأما الكلام في المقام الثاني، فيقع في مقتضى الأصل العملي، والكلام فيه تارة
يقع على القول بالامتناع ووحدة المجمع وجودا وماهية وأخرى على القول
بالجواز، أما على القول بالامتناع، فان قلنا بأن تعلق الوجوب بالجامع بين الفرد
الحلال والحرام مستحيل، باعتبار أن الحرام لا يمكن أن يكون مصداقا للواجب،
فحينئذ يكون الشك في سقوط الوجوب بالفرد المحرم لا في انطباق الواجب
عليه.
وقد تقدم أن مرجع هذا الشك إلى الشك في الاطلاق والاشتراط وهو مورد
لأصالة البراءة، لامن جهة كونه من صغريات مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين
بل من جهة أنه شك في الثبوت في مرحلة الجعل.
فلنا دعويان:
227

الأولى: أن المقام غير داخل في تلك المسألة.
الثانية: أن جريان أصالة البراءة فيه من جهة أخرى.
أما الدعوى الأولى، فلأن أمر الواجب في المقام لا يدور بين السعة والضيق
والأقل والأكثر، لأن أمره معلوم وهو الحصة غير المحرمة ولا شك فيه، والشك
إنما هو في اطلاق الوجوب المتعلق بها واشتراطه بمعنى انه ان كان مطلقا لم يسقط
بالحصة المحرمة، وإن كان مشروطا سقط بها.
وأما الدعوى الثانية، فلما تقدم من أن الشك في الاطلاق والاشتراط بعدم
الاتيان بالحصة المحرمة يرجع إلى الشك في أصل الثبوت وهو مورد لأصالة
البراءة، وإن قلنا بأن تعلق الوجوب بالجامع بينهما ممكن ثبوتا ولكن اطلاق
الدليل في مقام الاثبات قد سقط بالمعارضة، فحينئذ يرجع الشك في السقوط إلى
الشك في اطلاق الواجب وانطباقه على الفرد المحرم وتقييده وعدم انطباقه عليه،
فيدخل المقام عندئذ في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
هذا كله على القول بالامتناع، وأما على القول بالجواز، فقد تقدم أنه لا مانع
من اطلاق المادة وانطباقها على تمام أفرادها حتى الأفراد الملازمة للحرام
وجودا، وحينئذ فيدخل المقام في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر
الارتباطيين والمرجع فيه أصالة البراءة.
فالنتيجة أن مقتضى الأصل العملي البراءة على كلا القولين في المسألة.
نستعرض نتائج البحث في عدة نقاط:
الأولى: أن الواجب التوصلي في مقابل الواجب التعبدي بالمعنى الأخص
وهو ما يعتبر فيه قصد القربة، وقد يطلق التوصلي في مقابل التعبدي على
228

معان أخرى.
1 - التعبدي ما يعتبر فيه قيد المباشرة، والتوصلي مالا يعتبر فيه ذلك.
2 - التعبدي ما يعتبر فيه الاختيار، والتوصلي ما لا يعتبر فيه ذلك.
3 - التعبدي ما يعتبر فيه أن لا يكون في ضمن فرد محرم، والتوصلي ما
لا يعتبر فيه ذلك.
الثانية: أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من استحالة تعلق التكليف بالجامع بين
فعل المكلف نفسه وفعل الغير لا يمكن الأخذ به، إذ لا مانع من تعلق التكليف
بالجامع بينهما ثبوتا، على أساس أن الجامع بين المقدور وغير المقدور، مقدور.
الثالثة: أن السيد الأستاذ (قدس سره) قد ذكر أنه على تقدير تسليم اطلاق المادة ثبوتا
إلا أن الاطلاق في مقام الاثبات لا يكون كاشفا عنه، لأن الأمر في المقام يدور بين
التعيين والتخيير، ومقتضى الاطلاق التعيين، فالتخيير بحاجة إلى قرينة، وما
ذكره (قدس سره) لا يمكن المساعدة عليه، لأن الأمر لا يدور في المقام بين التعيين والتخيير،
بل يدور بين اطلاق المادة لفعل الغير وتقييدها بخصوص فعل المكلف نفسه، فإذا
لم يثبت التقييد فلا مانع من التمسك بالاطلاق.
الرابعة: ذكر بعض المحققين (قدس سره) أن القرينة على التقييد في المقام موجودة وهي
نسبة المادة إلى الفاعل بنسبة صدورية، فإن الظاهر من الأمر المتعلق بالفعل
المتوجه إلى شخص، أن المطلوب هو صدوره منه، ومعنى ذلك أن النسبة
الصدورية مأخوذة في متعلق الأمر، فإذن يكون الواجب حصة خاصة دون
الأعم، ولكن تقدم أنه ليس لذلك ضابط كلي بل هو يختلف باختلاف الموارد
بمناسبة الحكم والموضوع الارتكازية، فإنها قد تقتضي أن النسبة المذكورة
229

مأخوذة بنحو الموضوعية والمعنى الاسمي، وقد تقتضي أنها مأخوذة بنحو
الطريقية والمعنى الحرفي بلا خصوصية لها، هذا إذا كان قيام الفعل بالفاعل قيام
صدور، وأما إذا كان قيامه به قيام حلولي ووصفي، فلا شبهة في ظهور الأمر في
أنها مأخوذة في متعلقه بنحو الموضوعية.
الخامسة: أنه لا مانع ثبوتا من أن يكون متعلق التكليف الجامع بين فعل
المكلف مباشرة وفعله بالتسبيب، وأما في مقام الاثبات، فإن كان هناك اطلاق،
فمقتضاه أن الواجب هو الجامع بين الفعل المباشري والتسبيبي إذا كان قيامه
بالفاعل قيام صدور، وأما إذا كان قيام حلول، فمقتضى الدليل اعتبار
قيد المباشرة.
السادسة: أن الشك في سقوط الواجب بفعل الغير إن كان من جهة الشك في
سعة دائرة الواجب وضيقها، فالمرجع فيه قاعدة البراءة، وإن كان الشك في
سقوطه به من جهة الشك في اطلاق الوجوب واشتراطه، فقد ذكر السيد
الأستاذ (قدس سره) أن المرجع فيه قاعدة الاشتغال، لأنه من الشك في السقوط بعد
الثبوت، ولكن الصحيح فيه أيضا قاعدة البراءة كما تقدم تفصيله.
السابعة: أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن متعلق الأمر خصوص الحصة
الاختيارية دون الجامع، بدعوى أن الغرض من الأمر بما أنه البعث والتحريك،
فيتطلب ذلك كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة غير تام، أما أولا فلأن
الحاكم بذلك إنما هو العقل دون الخطاب الشرعي، وثانيا على تقدير تسليم أن
الخطاب الشرعي يقتضي ذلك، ولكن من الواضح أنه لا يقتضي أكثر من كون
متعلقه مقدورا، والمفروض أن الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور، ولا
يقتضي كونه خصوص الحصة المقدورة، فإنه بلا مبرر، وعلى هذا فلا مانع من
230

التمسك باطلاق المادة عند الشك في سقوط الواجب بالحصة غير الاختيارية.
الثامنة: أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أنه لا مانع من تعلق الأمر بالجامع
بين المقدور وغير المقدور، شريطة أن يكون غير المقدور ممكن التحقق في
الخارج، وأما إذا كان تحققه مستحيلا فيه، فلا يمكن تعلق التكليف به لأنه لغو،
قابل للمناقشة، فإن المعيار في صحة التكليف كون متعلقه مقدورا والمفروض أن
الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور وإن كان غير المقدور مما يستحيل
وقوعه في الخارج على تفصيل تقدم.
التاسعة: أنه لا مانع من التمسك باطلاق المادة ومقتضاه سقوط الواجب
بالحصة غير الاختيارية، وأما إذا لم يكن للمادة اطلاق، فلا مانع من التمسك
باطلاق الهيئة ومقتضاه عدم السقوط.
العاشرة: أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من اعتبار الحسن الفاعلي زائدا على
الحسن الفعلي في صحة الواجب غير تام، إذ لا دليل على اعتباره زائدا على
اعتبار الحسن الفعلي، هذا إضافة إلى أن لازم إيقاع الواجب بنحو يستحق فاعله
المدح والثواب اعتبار قصد القربة فيه وهو كما ترى.
الحادية عشر: أنه على القول بالامتناع، لا اطلاق للمادة بالنسبة إلى الحصة
المحرمة إما ذاتا أو عرضا بأن سقط من جهة المعارضة، وعندئذ فلا مانع من
التمسك باطلاق الهيئة، وأما على القول بالجواز فلا مانع من إطلاقها، وحينئذ
فإذا شك في الاجزاء بالاتيان بالفرد الملازم للحرام في الخارج، فلا مانع من
التمسك به لاثبات الاجزاء.
الثانية عشر: أن تعلق الوجوب بالجامع بين الفرد الحلال والحرام على القول
بالامتناع إن كان مستحيلا، فالشك يكون في سقوط الوجوب بالفرد الحرام لا
231

في انطباق الواجب عليه، ومرجع هذا الشك إلى الشك في اطلاق الوجوب
واشتراطه، وقد تقدم أنه مورد لأصالة البراءة، وإن كان ممكنا ثبوتا ولكنه قد
سقط من جهة المعارضة في مقام الاثبات، فحينئذ يرجع الشك في السقوط إلى
الشك في اطلاق الواجب وانطباقه على الفرد المحرم وعدم انطباقه عليه، فيكون
داخلا في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين. وأما على القول
بالجواز، فلا مانع من اطلاق المادة والتمسك به عند الشك كما مر.
وأما الكلام في المرحلة الرابعة: وهي ما إذا شك في اعتبار قصد القربة فيه
وعدم اعتباره، فما اعتبر فيه قصد القربة فهو واجب تعبدي، وما لم يعتبر فيه ذلك
فهو واجب توصلي، فيقع في عدة جهات:
الجهة الأولى: في الفارق بينهما وهل هو في المتعلق أو الملاك أو الأمر.
الجهة الثانية: في مقتضى الأصل اللفظي في موارد الشك في كون الواجب
تعبديا أو توصليا.
الجهة الثالثة: في مقتضى الأصل العملي في موارد الشك في التعبدية
والتوصلية.
أما الكلام في الجهة الأولى ففيها أقوال:
الأول: أن الواجب التعبدي يختلف عن الواجب التوصلي في المتعلق، فإن
الأمر في الأول متعلق بالفعل مع قصد القربة جزءا أو شرطا، وفي الثاني متعلق
بذات الفعل، وعليه فيكون الواجب التعبدي حصة خاصة من الفعل وهي
الحصة المقيدة بقصد القربة، بينما الواجب التوصلي ذات الفعل.
الثاني: أن الفرق بينهما في الملاك لا في المتعلق، فإنه في كليهما ذات الفعل،
232

والأمر في الواجب التعبدي والتوصلي معا متعلق بها، فلا فرق بينهما من هذه
الناحية، وإنما الفرق بينهما في أن الغرض من الأمر التوصلي مترتب على الاتيان
بذات الفعل، فيسقط بمجرد الاتيان به، بينما الغرض من الأمر التعبدي لا يترتب
إلا على الاتيان به بقصد القربة.
الثالث: أن عبادية الواجب التعبدي إنما هي بالأمر الثاني، فإن الواجب إذا
كان توصليا، فلا يوجد فيه إلا أمر واحد متعلق بذات الفعل، وأما إذا كان
تعبديا، فلابد فيه من أمران:
أحدهما. متعلق بذات الفعل، والآخر متعلق بالاتيان به بقصد امتثال الأمر
الأول. الفارق الأول بين الواجب التعبدي والتوصلي في المتعلق.
أما الكلام في الفارق الأول فيقع في مقامين:
الأول: في إمكان أخذ خصوص قصد امتثال الأمر في متعلق نفسه.
الثاني: في إمكان أخذ سائر الدواعي القريبة في متعلقه.
أما الكلام في المقام الأول، فالمشهور بين المحققين من الأصوليين عدم امكان
اخذه فيه، وقد استدل على ذلك بعدة وجوه:
الأول: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن كل قيد في القضية أخذ مفروض
الوجود في مرحلة الجعل، فمعناه أن الحكم فيها معلق على وجوده وتحققه في
الخارج، فما لم يتحقق فلا حكم فيه، ومن هنا لا يكون المكلف ملزما بإيجاده،
لأن معنى أخذه مفروض الوجود في مقام الجعل أنه لا حكم ولا ملاك قبل
وجوده، فإذن لا مبرر لالزام المكلف بإيجاده، لأن معنى أخذه مفروض الوجود
أنه قيد للوجوب، ومعنى الزام المكلف بإيجاده أنه قيد اختياري للواجب وبين
233

الأمرين بون بعيد، فلذلك ترجع القضية الحقيقية التي أخذ موضوعها مفروض
الوجود إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له،
باعتبار أن الموضوع فيها قد أخذ في موضوع الفرض والتقدير، فلهذا يكون
بمثابة الشرط، والحكم المجعول له بمثابة الجزاء والتالي، وأمثلة ذلك كثيرة في
القيود الاختيارية وغير الاختيارية.
أما الأولى فمنها الاستطاعة التي هي موضوع لوجوب حجة الاسلام، فإنها
قد اخذت في الآية الشريفة مفروضة الوجود في الخارج، ومعنى ذلك أنها قيد
للحكم في مرحلة الجعل ولا تصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ، وحينئذ
فإذا وجدت الاستطاعة في مادة شخص في الخارج صار وجوب الحج فعليا
عليه بفعلية موضوعه وهو الاستطاعة.
ومنها، السفر فإنه موضوع لوجوب القصر ومأخوذ مفروض الوجود في
مرحلة الجعل، لأنه قيد للحكم في هذه المرحلة، ولا تصاف القصر بالملاك في
مرحلة المبادئ.
ومنها، قصد إقامة عشرة أيام في مكان، فإنه موضوع لوجوب التمام على
المسافر والصيام في شهر رمضان، لأنه قيد للوجوب في مقام الجعل وللاتصاف
بالملاك في مرحلة المبادئ.
ومنها، العقود والايقاعات التي هي موضوعات للاحكام الوضعية المأخوذة
مفروضة الوجود في مرحلة الجعل وهكذا، ومعنى ذلك أنه لاحكم قبل وجود
الموضوع وإلا لزم الخلف، وأما القيود غير الاختيارية، فمنها العقل والبلوغ
والوقت وما شاكل ذلك، ثم أن القيد إن كان اختياريا، فإن كان دخيلا في اتصاف
الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ، فلابد من أخذه مفروض الوجود في مرحلة
234

الجعل كالاستطاعة ونحوها، فيكون من قيود الوجوب، سواءا كان دخيلا في
ترتب الملاك على وجود الفعل في الخارج أيضا أم لا، غاية الأمر إن كان دخيلا
فيه فيكون قيدا للواجب أيضا، وإن كان دخيلا في ترتب الملاك على وجود
الفعل في الخارج فقط، فلابد من أخذه قيدا للواجب كذلك، لأن الوجوب
حينئذ مطلق وغير مقيد به فلهذا يجب تحصيله في الخارج، وإن كان غير
اختياري، فلابد من أخذه مفروض الوجود وإن كان قيدا للواجب، لأن قيد
الواجب إذا كان غير اختياري، فهو قيد للوجوب أيضا، إذ لا يمكن أن يكون
الوجوب مطلقا، وإلا لزم التكليف بغير المقدور، باعتبار أن الواجب مقيد بقيد
غير اختياري.
وعلى ضوء هذا الأساس، فإذا فرضنا أن قصد الأمر مأخوذ في متعلقه جزءا
وقيدا، فيكون القصد متعلقا للأمر، وأما الأمر الذي هو متعلق المتعلق، فيكون
موضوعا له، والمفروض أن الموضوع في القضية الحقيقية مأخوذ مفروض
الوجود في الخارج، مثلا إذا أمر المولى بالصلاة المقيدة بقصد الأمر، كان الأمر
مأخوذا مفروض الوجود في المرتبة السابقة على الأمر بالصلاة، ومن الواضح
أنه لا يمكن فرض وجود الأمر في الواقع قبل وجود نفسه، فإن لازم ذلك اتحاد
الحكم والموضوع في مرتبة الجعل والانشاء وتوقف وجوده على وجود نفسه في
مرتبة الفعلية، باعتبار أن الموضوع هو نفس الأمر، فبطبيعة الحال تتوقف فعليته
على فعلية نفسه.
والخلاصة أن الموضوع في مرتبة الجعل والمجعول متقدم على الحكم كذلك،
فلا يعقل اتحاده معه وكونه موضوعا لنفسه (1).

(1) أجود التقريرات 1: 161 - 162.
235

وقد أورد على ذلك المحقق العراقي (قدس سره) وملخصه: أن ما يؤخذ مفروض
الوجود في مرحلة الجعل إنما هو قيود الوجوب لا قيود الواجب، على أساس أن
تحصيل قيود الواجب كالطهارة في الصلاة واستقبال القبلة ونحوهما واجب على
المكلف، لأن الأمر المتعلق بالصلاة يتعلق بها مقيدة بتلك القيود، فكما يجب
الاتيان بالصلاة بمالها من الاجزاء، فكذلك يجب الاتيان بها بمالها من القيود،
وهذا بخلاف موضوع الحكم، فإنه حيث كان قد أخذ مفروض الوجود في
الخارج، فلا يجب على المكلف تحصيله ولو كان أمرا اختياريا، لعدم المقتضى له
وهو الوجوب (1).
وغير خفي ما في هذا الايراد، فإنه مبني على الخطأ في فهم مقصود المحقق
النائيني (قدس سره) من هذا الوجه، فإن مقصوده من الموضوع المأخوذ مفروض الوجود
في المقام هو نفس الأمر لا قصده، لأنه متعلق به والموضوع متعلق المتعلق لا
نفس المتعلق، وحيث أن متعلق المتعلق في المقام هو الأمر فهو الموضوع، فإذن
لابد من أخذه مفروض الوجود على نهج القضية الشرطية، باعتبار أنه غير
مقدور، ومن هنا لو كان قيدا للواجب، فلابد أن يكون قيدا للوجوب أيضا وإلا
لزم التكليف بغير المقدور، فيعود المحذور حينئذ وهو اتحاد الحكم والموضوع في
مرتبة الجعل والفعلية معا.
وأجاب السيد الأستاذ (قدس سره) عن هذا الوجه بتقريب، أن أخذ القيد مفروض
الوجود في مقام الجعل لا يمكن أن يكون جزافا وبدون مبرر، والمبرر لذلك أحد
أمرين:
الأول: اثباتي.

(1) مقالات الأصول 1: 237.
236

والثاني: ثبوتي.
أما الأول: فهو أن يكون الدليل ظاهرا عرفا في أن القيد في لسانه مأخوذ
مفروض الوجود في الخارج كما في قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من
استطاع إليه سبيلا) (1). فإنه ظاهر في أن قيد الاستطاعة قد قدر وجوده
خارجا في المرتبة السابقة على جعل الوجوب، فلا وجوب قبل وجوده رغم أنه
مقدور للمكلف، ومن هذا القبيل وجوب الوفاء بالعقد والنذر والعهد واليمين
وما شاكل ذلك، فإنها جميعا مأخوذة مفروضة الوجود في الخارج بمقتضى ظهور
الأدلة.
وأما الثاني: حكم العقل فإنه إنما يحكم بذلك إذا كان القيد قيدا للواجب وكان
غير اختياري كالوقت كما في قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى
غسق الليل وقرآن الفجر) (2)، فإنه يدل على أن الوقت قيد للصلاة، وحيث أنه
غير اختياري فالعقل يحكم بأنه قيد للوجوب أيضا، وحينئذ فلابد من أخذه
مفروض الوجود وإلا لزم التكليف بغير المقدور، إذ لو كان وجوب الصلاة مطلقا
وغير مقيد بدخول الوقت، فمعناه أن وجوبها فعلى قبل الوقت وهو يلزم المكلف
بالاتيان بها قبل دخول وقتها وهو غير مقدور.
والخلاصة: أن كل قيد أخذ في لسان الدليل في مقام الجعل، فهو ظاهر في أنه
قيد للحكم والملاك معا ومأخوذ مفروغ عنه في الخارج، سواءا كان قيدا
للواجب أيضا أم لا، وكل قيد لم يؤخذ في لسان الدليل مفروغ عنه وكان غير
اختياري كقوله صل في الزوال، فالعقل يحكم بأنه لابد من أخذه مفروض

(1) سورة آل عمران (3): 97.
(2) سورة الاسراء (17): 78.
237

الوجود وإلا لزم التكليف بغير المقدور، فإذن أخذ القيد مفروض الوجود يقوم
على أساس أحد هذين الأمرين ولا ثالث لهما، وأما إذا لم يكن في مورد شيء
منها، فلا موجب لأخذه مفروض الوجود أصلا ولا مانع من الالتزام بكون
التكليف فعليا قبل وجوده في الخارج.
ومن هنا التزم (قدس سره) بفعلية الخطابات التحريمية قبل وجودات موضوعاتها في
الخارج بتمام قيودها وشروطها فيما إذا كان المكلف قادرا على إيجادها فيه، مثلا
حرمة شرب الخمر فعلية وإن لم توجد الخمر في الخارج إذا كان المكلف قادرا
على إيجادها فيه بإيجاد مقدماتها، والنكتة في ذلك ما تقدم من أن الموجب لأخذ
القيد مفروض الوجود خارجا أحد الأمرين:
الأول: الظهور العرفي الارتكازي في مقام الاثبات.
الثاني: حكم العقل في مقام الثبوت.
وكلاهما منتف في أمثال المقام، أما الأول فلأن العرف لا يفهم من مثل خطاب
لا تشرب الخمر، أن الخمر قد أخذت مفروضة الوجود في الخارج، بحيث أن
فعلية حرمتها تتوقف على وجودها فيه، بل يفهم منه أن حرمتها فعلية إذا كان
المكلف قادرا على شربها ولو بإيجادها فيه.
فالنتيجة، أن المناط في فعلية الخطابات التحريمية إنما هو فعلية قدرة المكلف
على متعلقاتها إيجادا وتركا ولو بواسطة القدرة على موضوعاتها كذلك، وأما في
المقام فالقيد فيه نفس الأمر وهو وإن كان خارجا عن الاختيار إلا أن مجرد ذلك
لا يوجب أخذه مفروض الوجود طالما لم يتوفر فيه أحد الملاكين المتقدمين.
أما الملاك الأول، وهو الظهور العرفي فهو واضح حيث لا موضوع له في
238

المقام، لأن الكلام هنا ليس في مقام الاثبات، وإنما هو في امكان أخذ قصد الأمر
في متعلق نفسه وعدم امكانه ثبوتا.
وأما الملاك الثاني، فلأن الأمر وإن كان قيدا غير اختياري باعتبار أنه فعل
اختياري للمولى وخارج عن قدرة المكلف، إلا أن حكم العقل بأخذه مفروض
الوجود لا يمكن أن يكون جزافا وبدون نكتة مبررة لذلك، والنكتة فيه أنه لو لم
يؤخذ مفروض الوجود في مرحلة الجعل، لزم التكليف بغير المقدور، فمن أجل
هذه النكتة يحكم العقل بأنه قيد للوجوب أيضا ومأخوذ مفروض الوجود،
وهذه النكتة غير متوفرة في المقام، إذ لا يلزم من عدم أخذ الأمر مفروض
الوجود فيه محذور التكليف بما لا يطاق، والسبب فيه أن الأمر الذي هو متعلق
للقصد يتحقق ويوجد بنفس خطاب انشائه وجعله، وإذا تحقق الأمر ووجد كان
بامكان المكلف الاتيان بالمأمور به بقصد ذلك الأمر، ومن الواضح أنه يكفي في
صحة التكليف، كون المكلف قادرا على الاتيان بالواجب في ظرف الامتثال وإن
كان عاجزا وغير قادر في مرحلة الجعل، وعلى هذا فالمكلف وإن لم يكن قادرا
على الصلاة بداعي أمرها قبل انشائه وجعله، ولكنه قادر على الاتيان بها كذلك
بعد الأمر وانشائه، وهذه القدرة تكفي في صحة التكليف والعقل لا يحكم بأكثر
منها، فإذن لا موجب لأخذه مفروض الوجود (1).
والتحقيق في المقام أن يقال أن هناك نقاطا لابد من النظر فيها:
الأولى: في بيان الفرق بين قيد الوجوب وقيد الواجب.
الثانية: هل الأمر كما أفاده (قدس سره) في الخطابات التحريمية أو لا.

(1) لاحظ محاضرات في أصول الفقه 2: 158 - 161.
239

الثالثة: أن ما ذكره (قدس سره) هل يصلح أن يكون ردا على ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره)
من استحالة أخذ قصد الأمر في متعلقه.
أما الكلام في النقطة الأولى: فكل قيد يكون دخيلا في اتصاف الفعل
بالملاك في مرحلة المبادئ فهو قيد للحكم في مرحلة الجعل، ونتيجة ذلك أنه لا
ملاك للفعل بدون ذلك القيد، وكل قيد يكون دخيلا في ترتب الملاك على وجود
الفعل في الخارج فهو قيد للواجب، هذا بحسب مقام الثبوت، وأما في مقام
الاثبات فكل قيد أخذ في لسان الدليل في مرحلة الجعل، فإن كان الدليل ظاهرا
عرفا في أنه مأخوذ مفروض الوجود فهو قيد للوجوب، أي الهيئة ودخيل في
الملاك، وإن كان ظاهرا عرفا في أنه دخيل في ترتب الملاك على وجود الفعل في
الخارج فهو قيد للواجب، وقد تقدم أن قيد الواجب إذا لم يكن اختياريا، فلابد
أن يكون قيدا للوجوب أيضا وإلا لزم التكليف بغير المقدور.
وأما إذا لم يعلم أن القيد المأخوذ في لسان الدليل هل هو راجع إلى مدلول
الهيئة أو المادة، فسيأتي الكلام فيه ضمن البحوث القادمة بعونه تعالى.
وأما الكلام في النقطة الثانية: فالخطابات التحريمية على قسمين:
أحدهما ما لا يكون له موضوع في الخارج كالكذب حتى تتوقف حرمته على
وجوده فيه، نعم قدرة المكلف على الكذب موضوع له وتتوقف فعلية حرمته
على فعلية القدرة، فإنه إن كان عاجزا عنه فعلا لم تكن حرمته فعلية.
والآخر ما يكون له موضوع في الخارج كحرمة شرب الخمر والتصرف في
مال الغير وغيبة المؤمن وهكذا، وهل تتوقف فعلية حرمة هذه الأفعال على
فعلية موضوعاتها في الخارج فيه قولان، الظاهر هو القول الأول، أما حرمة
240

التصرف في مال الغير، فلا شبهة في أن فعليتها متوقفة على وجود مال الغير في
الخارج وإلا لكان جعلها لغوا، ومن هذا القبيل حرمة غيبة المؤمن وما شاكلها،
فإنها متوقفة على فرض وجود المؤمن فيه وإلا فلا حرمة، وأما حرمة شرب
الخمر والنجس أو ما شاكل ذلك، فلا يبعد القول بأنها أيضا منوطة بوجود
موضوعها فيه وهو وجود الخمر أو النجس أو ما شاكله، لأن من يدعي أن
المتبادر من قوله لا تشرب الخمر هو حرمة شرب مائع فرض أنه خمر على نهج
القضية الشرطية غير بعيد.
والخلاصة أن دعوى كون المتفاهم العرفي من مثل قضية لا تشرب النجس
هو حرمة شرب مايع إذا كان نجسا على نهج القضية الشرطية غير بعيدة.
وأما الكلام في النقطة الثالثة: فما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن المكلف وإن
كان غير قادر على قصد الأمر قبل صدوره من المولى، إلا أنه بعد صدوره قادر
عليه فهو صحيح، لأن مرده إلى أنه حيث لا أمر بالصلاة قبل صدوره من المولى،
فلا يتمكن المكلف من الاتيان بها بقصد أمرها، وأما بعد صدوره منه وتعلقه بها
يكون المكلف متمكنا من ذلك، ومن الواضح أن الفعل لا يحكم إلا باشتراط
التكليف بالقدرة في ظرف الامتثال، أو فقل أن حكم العقل باعتبار القدرة على
الاتيان بالواجب بقصد الأمر، إنما هو على تقدير تعلقه به لا مطلقا، ومن الطبيعي
أنه بعد تعلقه به كان قصده مقدورا، وعلى هذا فلا مانع من جعل التكليف على
العاجز في ظرف الجعل إذا قدر على العمل في ظرف الامتثال، بل لا مانع منه إذا
كان جعل التكليف رافعا لعجزه كما في المقام، لأن المكلف قبل تعلق الأمر به
وجعله لم يكن قادرا على قصد الأمر وبعد تعلقه به وجعله يكون قادرا عليه،
فإذن لا محذور في أخذ قصد الأمر في متعلق نفسه، وهنا اشكالان:
241

الاشكال الأول: أن الأمر وحده لا يكفي في القدرة على قصد الأمر، بل
مضافا إلى ذلك لابد من وصوله ولو بأدنى مرتبة الوصول وهو احتمال وجوده، إذ
لو لم يصل الأمر ولو بأدنى مرتبته لما تأتى من المكلف قصد الأمر إلا بنحو
التشريع المحرم ووصول الأمر غير اختياري ولو في بعض الحالات، ولا يكون
مجرد ثبوت الأمر متكفلا لوصوله ولا سيما وإن الخطابات مجعولة على نهج
القضايا الحقيقية، ولا بد من أخذ وصول الأمر قيدا في الأمر وشرطا مفروغا عنه
وهو لا يمكن، لاستحالة أخذ وصول الحكم في موضوع شخصه لاستلزامه الدور
وتوقف الشئ على نفسه.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن المأخوذ في متعلق الأمر
لو كان قصده بوجوده الواقعي فهو غير مقدور إلا تشريعا، ولو كان المأخوذ فيه
قصده بوجوده الواصل ولو بأدنى مرتبته فهو غير ممكن، فما هو ممكن أخذه فيه
فإنه غير مقدور، وما هو مقدور فإنه غير ممكن أخذه فيه (1).
ويمكن المناقشة فيه، بأن هذا الاشكال مبني على أن الجهل بالحكم مانع عن
اطلاقه، ووصوله قيد وشرط له، فلابد حينئذ من أخذه مفروض الوجود وإلا
لزم التكليف بالمحال، ضرورة أن التكليف لو كان مطلقا ولم يكن مقيدا
ومشروطا بالوصول، لزم كون تكليفه بقصد الأمر تكليفا بغير المقدور، لفرض
أنه غير قادر عليه قبل وصوله ولو بأدنى مرتبته إلا بنحو التشريع المحرم، ولكن
هذا البناء غير صحيح، لما تقدم من أن أخذ القيد مفروض الوجود منوط بأحد
الأمرين المذكورين وكلاهما مفقود في المقام، أما الأول وهو الظهور العرفي
للدليل فلا موضوع له فيه، وأما الثاني وهو حكم العقل بأنه لو لم يؤخذ مفروض

(1) أنظر بحوث في علم الأصول 2: 79.
242

الوجود، لزم التكليف بغير المقدور فلا موضوع له أيضا، أما أولا فلان وصول
التكليف غالبا يكون اختياريا، وعليه فاطلاقه لا يوجب التكليف بغير المقدور،
وثانيا على تقدير تسليم أنه غير اختياري إلا أنه ليس قيدا للحكم ومأخوذا
مفروض الوجود لكي يقال إنه مستحيل، إذ لا مانع من إطلاق التكليف بالنسبة
إلى الجاهل، ولا يلزم من ذلك التكليف بغير المقدور، لأنه وإن كان فعليا بفعلية
موضوعه، إلا أنه غير منجز، لأن تنجزه منوط بالوصول، حيث إنه شرط له لا
أنه شرط لفعليته كما هو الحال في سائر موارد الجهل بالتكليف، وعلى هذا
فالمكلف وإن كان غير قادر على قصد الأمر قبل تحققه وانشائه، إلا أنه قادر عليه
بعده واقعا، غاية الأمر قد يكون المكلف جاهلا بقدرته عليه، وبكلمة أن العجز
المانع عن اطلاق التكليف ومحركيته هو العجز التكويني، وأما العجز الناشئ من
عدم اطلاق التكليف والناجم منه الذي يرتفع بجعله واقعا الواصل بوصوله، فهو
لا يمنع عن اطلاقه، فإن العجز الذي يرتفع في طول جعل التكليف واقعا وحقيقة،
فكيف يكون مانعا من اطلاقه، غاية الأمر أنه طالما لم يكن واصلا إليه ولو بأدنى
مرتبته لم يكن منجزا ومحركا فعلا، إذ لا ملازمة بين فعلية التكليف بفعلية
موضوعه وكونه محركا فعلا، لأن محركيته كذلك منوطة بتنجزه بالوصول وإلا لم
يكن محركا.
الاشكال الثاني: إن قصد الأمر لا يتأتي إلا من قبل الأمر، فكيف يعقل أن
يؤخذ في متعلقه بحيث يتوقف عليه الأمر، فإذن يلزم التهافت في الرتبة، فإن
قصد الأمر بملاك أنه مأخوذ في متعلق الأمر فيكون أسبق منه رتبة، وبملاك أنه
متوقف عليه فيكون متأخرا منه كذلك، وهذا هو معنى التهافت في الرتبة،
ولا يمكن التخلص عن هذا الاشكال بأن قصد الأمر متوقف على الأمر الخارجي
والأمر الخارجي لا يتوقف على قصد الأمر في الخارج حتى يلزم التهافت، بل هو
243

يتوقف على قصد الأمر في الذهن، فإذن لا تهافت (1). وذلك لأن المولى إنما يأمر
بالعنوان لا بما هو موجود في الذهن بل بما هو فإن في المعنون ومرآة له في الخارج،
فهو يرى من خلال العنوان المعنون، على أساس أن الأثر مترتب عليه لا على
العنوان بما هو موجود في الذهن، وعلى هذا فيقع التهافت في نظره، لأنه من جهة
يرى الأمر في رتبة متقدمة على قصده لكونه عارضا عليه وله تقرر وثبوت قبل
تعلق القصد به من منظاره، ومن ناحية أخرى يرى أنه عارض على قصد الأمر
ومتأخر عنه رتبة، وهذه النظرة وإن لم يكن لها واقع موضوعي، إلا أن الآمر
يأمر بهذه النظرة التي يرى بها واقع قصد الأمر شيئا مفروغا عنه ومتقدما على
الأمر الطارئ عليه مع أنه لا يعقل أن يراه الآمر كذلك، لأنه متقوم وجودا
بالأمر الصادر منه، فكيف يراه مفروغا عنه ومتقدما عليه.
والجواب: أن الآمر كان يعلم بأنه لا أمر في الواقع قبل أن يصدر منه، وإنما هو
مجرد مفهوم الأمر في عالم الذهن بدون أن يكون له واقع مفروغ عنه في الخارج،
ولهذا لا يرى الآمر به شيئا في الخارج لكي يكون فانيا فيه وحاكيا عنه، إذ لا
يعقل أن ينظر الآمر إلى قصد الأمر فانيا في مصداقه في الخارج ومعنونة فيه، لأنه
كان يعلم بأنه لا مصداق له فيه، وإنما هو مجرد عنوان في عالم الذهن، فإذا صدر
منه أمر وتعلق بذلك العنوان تحقق مصداقه في الخارج، وحينئذ فيصبح المكلف
قادرا على الاتيان بالواجب بقصد الأمر الواقعي، وعلى ذلك فلا تهافت في
نظر الآمر.
وبكلمة، أن الأمر حيث إنه اعتبار صرف، فلا محالة يكون متعلقه الأمر
الذهني، إذ لا يمكن تعلقه بالأمر الخارجي مباشرة وإلا فلازمه أن يكون الأمر

(1) لاحظ بحوث في علم الأصول 2: 73 - 75.
244

خارجيا وهو خلف، فإذن لا محالة يكون متعلقه بنحو المباشر هو المفهوم
الذهني، ولكن بملاك أنه مرآة لما في الخارج وفان فيه بنحو المعنى الحرفي، باعتبار
أن الأمر مترتب على الواقع الخارجي لا على المفهوم الذهني، وأما إذا لم يكن
للشيء واقع خارجي قبل تعلق الأمر به وإنما يوجد ويتحقق واقعه ومصداقه
الخارجي حين تعلق الأمر به بنفسه، فلا مانع من تعلق الأمر به، غاية الأمر أن
الآمر يتصوره فانيا في واقع سوف يتحقق ويوجد في الخارج ولا مانع من ذلك،
فإن مرده إلى أن الأمر لم يتعلق به بما هو موجود في عالم الذهن بنحو المعنى
الاسمي، بل تعلق بما هو مرآة بنحو المعنى الحرفي شانا لمصداق سوف يتحقق
بنفس تحقق هذا الأمر العارض على قصده في أفق الذهن، فإذن لا محذور لا من
ناحية عدم القدرة لأنها موجودة في ظرف الامتثال، ولا من ناحية التهافت في
مرحلة الجعل في نظر الآمر.
وعليه فما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من الاشكال على المحقق النائيني (قدس سره) من أنه
لا مبرر لأخذ الأمر مفروض الوجود وقيدا للوجوب في مرحلة الجعل هو
الصحيح، وذلك لأن المبرر لأخذه كذلك إنما هو لزوم التكليف بغير المقدور، وهو
غير لازم في المقام، حيث أن القدرة المعتبرة على الواجب بحكم العقل، إنما هي
القدرة في ظرف الامتثال وإن كان عاجزا في ظرف الجعل، وبما أن المكلف في
المقام قادر على قصد الأمر بعد تعلقه بالواجب، فلا اشكال من هذه الناحية.
الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) أيضا، ويمكن تقريب ذلك بطريقين:
الأول: أن قصد امتثال الأمر لو كان مأخوذا في متعلقه لزم تقدم الشئ على
نفسه، فإنه باعتبار أخذه في متعلق التكليف يكون في مرتبة الاجزاء والشرائط،
وباعتبار أنه متعلق بهما فيكون متأخرا عنهما رتبة، ونتيجة ذلك هي التهافت في
245

الرتبة وتأخره عن نفسه.
الثاني: أن قصد امتثال الأمر لو كان مأخوذا في متعلق الأمر لزم الدور، لأن
كل أمر مشروط بالقدرة على متعلقه فيكون متأخرا عنها تأخر المشروط عن
الشرط، والقدرة متوقفة على المتعلق من باب توقف العارض على المعروض،
فإذن لو فرض أنه أخذ في متعلقه قصد امتثال الأمر، كان الأمر متوقفا على
نفسه، لأن الأمر متوقف على القدرة وهي متوقفة على الأمر، بلحاظ أنه جزء
المتعلق، فالنتيجة أن الأمر متوقف على نفسه (1).
والجواب: أما عن التقريب الأول فهو مبني على أن يكون المأخوذ في متعلق
الأمر قصد امتثال الأمر خارجا، فإنه حيث كان متأخرا عن إجزاء المأمور به
وقيوده، فلا يمكن أخذه جزءا وقيدا له، للزوم محذور تقدم الشئ على نفسه،
ولكن من الواضح أن المأخوذ فيه إنما هو قصد الأمر بوجوده العنواني في عالم
الذهن لا بوجوده الواقعي وعليه فلا محذور، لأن المتأخر عن الاجزاء والشرائط
إنما هو واقع قصد الأمر لا عنوانه، فإذن لا يلزم من أخذه فيه محذور تقدم الشئ
على نفسه، لأن ما هو متأخر عن الاجزاء رتبة هو واقع قصد الأمر وهو غير
مأخوذ فيه لا جزءا ولا قيدا، وما هو مأخوذ فيه كذلك وهو عنوان قصد الأمر
في عالم الذهن غير متأخر عنها في الرتبة، فلا محذور حينئذ.
وإن شئت قلت كما أن قصد الأمر مأخوذ في المأمور به بوجوده العنواني الفاني
كذلك سائر الاجزاء. إذ لا يمكن أن تكون تلك الاجزاء متعلقة للأمر بوجوداتها
الواقعية، لأنها مسقطه للأمر، فكيف يعقل أن تكون متعلقه له، فلا فرق بينهما
من هذه الناحية، وإنما الفرق بينهما من ناحية أخرى وهي أن لسائر الاجزاء ما

(1) لاحظ أجود التقريرات 1: 162 وفوائد الأصول 1: 149.
246

بإزاء في الخارج دون قصد الأمر، فإنه لا واقع له في الخارج إلا بعد تحقق الأمر
وانشائه، فإذا أراد المولى أن يأمر بالصلاة مثلا، فلا محالة يتصور الصلاة بمالها
من الاجزاء والشرائط بعنوانها الفاني في الخارج ثم يأمر بها بهذا العنوان الفاني
مباشرة لا بوجودها الواقعي لأنه مسقط للأمر.
فالنتيجة أنه لا مانع من أخذ قصد امتثال الأمر بوجوده العنواني في متعلق
الأمر، وإنما المانع هو أخذه بوجوده الواقعي فيه، غاية الأمر أنه إذا كان مأخوذا
فيه بوجوده العنواني، فلا مصداق له خارجا فعلا، ويتحقق بعد تحقق
الأمر وجعله.
وأما التقريب الثاني فهو مبني على اعتبار القدرة الفعلية على متعلق الأمر
وهي مفقودة في المقام، لأنها متوقفة على الأمر به حتى يكون المكلف قادرا على
قصده، ولكن لا دليل على هذا البناء، لأن الدليل على اعتبار القدرة إنما هو حكم
العقل وهو لا يحكم باعتبار القدرة إلا في ظرف الامتثال وتعلق الأمر به، أو فقل
أن العقل لا يحكم بأكثر من اعتبار القدرة التعليقية أي القدرة لو تعلق به الأمر لا
القدرة الفعلية، والقدرة التعليقية حاصلة في المقام.
الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) (1) وحاصل ما ذكره يرجع إلى
نقطتين:
الأولى: أن قصد الأمر بالطبع متأخر رتبة عن الأمر، إذ لا يعقل وجوده إلا
بعد افتراض وجود أمر في المرتبة السابقة، فلو كان قصده مأخوذا في متعلقه،
لزم كونه متقدما على الأمر رتبة، على أساس أن متعلق الأمر أسبق منه كذلك،

(1) كفاية الأصول: 72 - 73.
247

بملاك أن الأمر ومتعلقه موجودان بوجودين، أحدهما عارض وهو الأمر،
والآخر معروض وهو المتعلق، أو طبعا بملاك أنهما موجودان بوجود واحد كما في
المقام، فإن قصد الأمر المأخوذ في المتعلق متحد وجودا مع قصد الأمر المتعلق به
ولكنه طبعا متأخر عنه رتبة كتأخر الانسان عن الحيوان والناطق، فإذن يلزم
التهافت في الرتبة وتقدم الشئ على نفسه، فلذلك لا يمكن أخذه فيه.
الثانية: أن لازم أخذه في متعلق الأمر عدم التمكن من الامتثال، لأن الفعل
وحده غير متعلق للأمر، فلا يعقل أن يأتي به بقصد الأمر، ضرورة أن الأمر لا
يدعو إلا إلى ما تعلق به وهو المركب من ذات الفعل مع قصد الأمر، مثلا إذا كان
الأمر متعلقا بالصلاة مع قصد الأمر، فمعناه أن ذات الصلاة لم تكن متعلقة للأمر،
وعليه فلا يمكن الاتيان بها بقصد الأمر إلا تشريعا، لفرض أنه لا أمر لها، فإذن
يلزم من أخذه في متعلق الأمر عدم القدرة على الامتثال.
والجواب أما عن النقطة الأولى، فقد ظهر جوابها مما تقدم وملخصه: إنه مبني
على الخلط بين كون المأخوذ في متعلق الأمر القصد بوجوده الواقعي وبين كون
المأخوذ فيه القصد بوجوده العنواني، وتخيل أن المأخوذ فيه هو الأول، فلهذا
استشكل بلزوم الدور وتقدم الشئ على نفسه، ولكن قد ظهر مما مر أن المأخوذ
فيه القصد بوجوده العنواني وهو لا يتوقف على وجود الأمر في الخارج فلا
يلزم الدور.
وأما عن النقطة الثانية، فقد يقال كما قيل أن الواجب إذا كان مركبا من
جزئين، فالأمر المتعلق به ينحل إلى أمرين ضمنيين بانحلال أجزائه، فيتعلق
بكل جزء منه أمر ضمني (1)، وعلى هذا فإذا كانت العبادة مركبة من الفعل وقصد

(1) أنظر محاضرات في أصول الفقه 2: 166.
248

الأمر كالصلاة مثلا، كان الأمر المتعلق بها ينحل إلى أمر ضمني متعلق بذات
الفعل وأمر ضمني متعلق بقصد الأمر، فإذا أتى المكلف بالفعل بقصد أمره
الضمني فقد تحقق الواجب بكلا جزئيه معا، أما ذات الفعل فظاهر، وأما الجزء
الآخر وهو قصد امتثال الأمر فقد تحقق بنفس قصد امتثال الأمر الضمني المتعلق
بذات الفعل، حيث إنه لا واقع موضوعي له غير وجوده في عالم الذهن، فإذا
قصد المكلف امتثال الأمر الضمني المتعلق به فقد تحقق ذلك الجزء في الخارج
أيضا وسقط أمره، معللا بأن الأمر الضمني المتعلق به توصلي دون الأمر الضمني
المتعلق بذات الفعل، فإنه تعبدي، ولا مانع من أن يكون الواجب مركبا من
جزئين: أحدهما تعبدي والآخر توصلي، هذا.
وهنا اشكالان:
الاشكال الأول: أن المأخوذ في متعلق الأمر هو قصد الأمر الاستقلالي دون
قصد الأمر الضمني، وعليه فإذا أتى المكلف بذات الفعل بقصد أمره الضمني لم
يأت بالجزء الثاني من المأمور به وهو قصد الأمر الاستقلالي فلا يجزي.
والجواب: أن هذا الاشكال مبني على أن قصد امتثال الأمر الضمني في مقابل
قصد امتثال الأمر الاستقلالي، فلهذا لا يجزى الأول عن الثاني.
ولكن هذا البناء خاطئ جدا ولا واقع موضوعي له، إذ لا يمكن أن يكون
الأمر الضمني داعيا ومحركا إلا بداعوية الأمر الاستقلالي، بداهة أنه لا وجود له
إلا بوجوده، ومن هنا يكون المكلف حين الاتيان بكل جزء جزء من الواجب
يقصد امتثال الأمر الاستقلالي، على أساس أنه المحرك والداعي إلى الاتيان به
مرتبطا بجزئه الآخر من البداية إلى النهاية، ومن الواضح أن الجزء المرتبط
بالأجزاء الأخرى ثبوتا وسقوطا متعلق للأمر الاستقلالي، والمفروض أن
249

المكلف لم ينو الاتيان بالجزء بحده بدون أن يكون ملحوقا بالجزء السابق
ومسبوقا بالجزء اللاحق، لأنه ليس جزء الواجب حتى يكون متعلقا للأمر، فإن
جزء الواجب حصة خاصة منه وهي الحصة الملحوقة بالجزء السابق والمسبوقة
بالجزء اللاحق، وهذه الحصة بهذا الوصف متعلقة للأمر الاستقلالي، والاتيان
بها يكون بداعي ذلك الأمر، وعلى هذا فاتيان المكلف بذات الفعل بقصد الأمر لا
محالة يكون بقصد الأمر الاستقلالي لا الأمر الضمني إذ لا قيمة له في مقابله،
فإذن كما يتحقق بذلك الجزء الأول من الواجب وهو الفعل الخارجي كذلك
يتحقق به الجزء الثاني منه أيضا وهو قصد امتثال الأمر الاستقلالي، فالنتيجة أنه
لا محذور في أخذ قصد الأمر الاستقلالي في متعلق نفسه هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن قصد الأمر الاستقلالي
لا يمكن أخذه في متعلقه (1) غير تام، فهنا دعويان:
الأولى: أنه لا مانع من أخذ قصد الأمر الاستقلالي في متعلق نفسه.
الثانية: أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أنه لا يمكن أخذه في متعلقه غير تام.
أما الدعوى الأولى، فقد ظهر مما مر أنها ممكنة ثبوتا واثباتا، أما الأول فلانه
لا مانع من تصوير واجب مركب من ذات الفعل وقصد الأمر الاستقلالي ثبوتا.
وأما اثباتا فلأن الأمر وإن تعلق بالمجموع المركب منهما إلا أنك عرفت أن
الاتيان بكل جزء جزء من الواجب إنما هو بداعي الأمر الاستقلالي لا الأمر
الضمني، وعليه فالفعل وإن كان جزء الواجب، إلا أن الاتيان به لا محالة يكون
بقصد الأمر الاستقلالي، فإذا أتى به كذلك فقد تحقق الواجب بكلا جزئيه معا.

(1) لاحظ محاضرات في أصول الفقه 2: 168.
250

وأما الدعوى الثانية، فقد أفاد السيد الأستاذ (قدس سره) في تقريبها أنه لا يعقل أن
يكون الواجب مركبا من الفعل الخارجي وقصد الأمر الاستقلالي، لأن الفعل
الخارجي مع فرض كونه جزء الواجب، لا يعقل أن يكون متعلقا للأمر
الاستقلالي، بداهة أن الأمر المتعلق بالواجب المذكور ينحل إلى أمرين ضمنيين،
أحدهما متعلق بذات الفعل والآخر بقصد الأمر، ففرض تعلق الأمر الاستقلالي
بذات الفعل خلف. وعليه فلا يمكن الاتيان بذات الفعل بقصد الأمر الاستقلالي
إلا تشريعا (1).
ولكن للمناقشة في هذا التقريب مجالا، وذلك لأن الأمر المتعلق بذات الفعل
وإن كان حصة من الأمر الاستقلالي، إلا أنها إنما تدعو إلى الاتيان بذات الفعل
مرتبطة بسائر حصص ذلك الأمر ذاتا لا مطلقا، ومن الواضح أن الأمر
الاستقلالي هو هذه الحصة المرتبطة بسائر الحصص، واما الحصة بحدها الخاص
وبقطع النظر عن غيرها فلا أثر لها، ولذلك يكون المحرك والداعي إلى الاتيان
بكل جزء هو الأمر الاستقلالي.
أو فقل أن الحصة بنفسها لا أثر لها ولا تصلح للداعوية، وأما أنها مرتبطة
بسائر الحصص فهي حقيقة الأمر الاستقلالي، هذا إضافة إلى أنه ليس للأمر
الضمني عند التحلل معنى محصل وواقع غير الأمر الاستقلالي، لوضوح أن الأمر
المتعلق بالمركب أمر واحد جعلا ومجعولا ولا واقع موضوعي له ما عدا وجوده في
عالم الاعتبار بل هو بسيط غاية البساطة، فلا يتصور انحلاله إلى أوامر ضمنية،
فإن هذا الانحلال لا يخلو من أن يكون شرعيا أو قهريا، أما الأول فلان
المفروض أن المجعول والمعتبر من قبل المولى أمر واحد لا أوامر متعددة بعدد

(1) المصدر المتقدم.
251

أجزائه، وإلا لزم أن يكون كل جزء منها واجبا مستقلا وهو خلف.
وأما الثاني، فلأن الانحلال القهري في الأمور الاعتبارية غير متصور، فإذن
لا واقع موضوعي للأمر الضمني حتى يكون داعيا ومحركا. نعم أن هذا الانحلال
بتحليل من العقل يتبع انحلال متعلقه لا بالأصالة بل انما هو موجود في عالم
التحليل والافتراض العقلي لا في عالم الواقع، إذ فيه لا انحلال لا في الحكم ولا في
المتعلق فلهذا لا أثر له.
ومن هنا يظهر أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أنه لا مانع من أن يكون
الواجب الواحد مركبا من جزئين يكون أحدهما تعبديا والآخر توصليا (1)
لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لما عرفتم من أن الأمر المتعلق بالمجموع المركب
منهما أمر واحد جعلا ومجعولا، فلا يعقل انحلاله إلى أمرين ضمنيين حتى يمكن
القول بأن أحدهما عبادي والآخر توصلي، فالسالبة بانتفاء الموضوع، ودعوى
أن العقل يحلله تبعا لانحلال متعلقه إلى حصتين أو أكثر، فهي وإن كانت
صحيحة، إلا أنه بتحليل من العقل الذي لا واقع موضوعي له في الخارج، فان
الحكم المجعول من قبل الشارع واحد جعلا ومجعولا وهو كاشف عن أن ملاكه في
مرحلة المبادئ أيضا واحد، وعلى هذا فالحصة التحليلية ليست مجعولة من
قبل الشارع، فإن المجعول من قبله حكم واحد، وحيث إن حقيقة الحكم اعتبار
صرف وقائم بالشارع قيام الفعل بالفاعل، فلا يعقل فيه الانحلال والتجزئة ولا
يمكن أن يعقل أن تكون الحصة المتعلقة بذات الفعل تعبدية والحصة المتعلقة
بقصد الأمر توصلية مع أنها بالتحليل لا بالجعل، ومن هنا لا تكون هذه الحصة
موضوعا للأثر ولا تصلح أن تكون مقربة ولا تتصف بالتعبدية أو التوصلية.

(1) أنظر محاضرات في أصول الفقه 2: 165.
252

هذا، إضافة إلى انا لو سلمنا الانحلال إلا أنه لا شأن للأمر الضمني في مقابل
الأمر الاستقلالي، فلا يمكن أن يكون أحد أمرين ضمنيين تعبديا والآخر
توصليا، إذ معنى ذلك أن الأمر الاستقلالي تعبدي وتوصلي معا، بلحاظ أن
تعبدية الأمر الضمني إنما هي بتعبدية الأمر الاستقلالي وتوصليته إنما هي
بتوصليته هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن الواجب المركب من
ذات الفعل وقصد امتثال الأمر، مركب من جزء عبادي وهو ذات الفعل وجزء
توصلي وهو قصد امتثال الأمر، لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لأن كلا الجزئين
عبادي، غاية الأمر أن عبادية الجزء الأول بالعرض وعبادية الجزء الثاني
بالذات، لأن قصد امتثال أمر المولى وإطاعته بنفسه من العناوين المقربة، فلا
يتوقف التقرب به إلى مقرب آخر، فإذا أتى المكلف بالصلاة بقصد امتثال أمرها،
فالصلاة مقربة بملاك أن الاتيان بها بقصد امتثال أمرها والإطاعة، وأما قصد
الامتثال والإطاعة فهو مقرب بنفسه، فلا يتوقف التقرب به إلى قصد
امتثال أمره.
الاشكال الثاني: أن الأمر الضمني الذي تعلق بذات الفعل كالصلاة مثلا لا
يخلو عن أن يكون متعلقا بالصلاة المطلقة أو المقيدة أو المهملة والكل لا يمكن، أما
الأول فهو خلف فرض كون الأمر الضمني المتعلق بها ارتباطي، فلو كان متعلقا
بها مطلقة فمعناه أنه مستقل لا ضمني، وأما الثاني فيستلزم التسلسل، لأن المقيد
ينحل إلى ذات والقيد، فننقل الكلام حينئذ إلى الأمر الضمني المتعلق بذات
المقيد، ونقول هل هو تعلق بذات المقيد مطلقة أو مقيدة، والأول خلف والثاني
يستلزم التسلسل، لأن المقيد ينحل إلى ذات والقيد، فننقل الكلام إلى الأمر
253

الضمني المتعلق بذات المقيد وهكذا يذهب إلى مالا نهاية له.
وأما الثالث، فلأن المهملة في قوة الجزئية، وعلى هذا فلا يمكن احراز انطباق
الصلاة الواجبة المهملة على كل فرد من أفرادها في الخارج لكي يتمكن المكلف
من الاتيان بكل فرد منها بقصد الأمر بذات الصلاة، لعدم احراز انطباقها عليه
باعتبار إهمالها (1).
والجواب: أن الفرض الأول والثاني باطل وغير محتمل، وأما الفرض الثالث
فهو المتعين، وذلك لأن الماهية المهملة غير القضية المهملة، فإن ما هو في قوة
الجزئية هو القضية المهملة، وأما الماهية المهملة فهي متمثلة في ماهية يكون النظر
فيها مقصورا على ذاتها وذاتياتها بدون أن تلحظ معها أية خصوصية من
الخصوصيات الذهنية أو الخارجية حتى خصوصية المقسمية، فلهذا تسمى
بالماهية المهملة، باعتبار أنها مهملة من جميع الخصوصيات وهي تنطبق على
جميع أفرادها وحصصها في الخارج بأي خصوصية كانت، هذا إضافة إلى ما
ذكرناه من أنه لا معنى لداعوية الأمر الضمني إلا داعوية الأمر الاستقلالي،
بلحاظ أنه لا واقع موضوعي له، نعم أنه جزء تحليلي عقلي بالعرض بتبع متعلقه
لا بالأصالة ولا أثر له.
ومن هنا يظهر أن ذات الفعل متعلقة للأمر مرتبطة بقصد أمرها، بمعنى أن
الجزء حصة خاصة من ذات الفعل وهي الحصة المرتبطة، وحينئذ فيجوز له
الاتيان بها بقصد امتثال الأمر الاستقلالي كما هو الحال في كل جزء من أجزاء
الواجب كالصلاة مثلا، فإن المصلي كان يأتي بالتكبيرة بقصد امتثال الأمر
الصلاتي وهكذا سائر أجزائها، باعتبار أنها واجبة في ضمن وجوب غيرها من

(1) بحوث في علم الأصول 2: 76.
254

الاجزاء ومأمور بها في ضمن الأمر بغيرها.
فالنتيجة أن المأخوذ في متعلق الأمر هو قصد امتثال الأمر الاستقلالي لا قصد
امتثال الأمر الضمني، فيكون المتعلق مركبا من الجزء الخارجي وهو الجزء الذي
له مصداق في الخارج كالصلاة والجزء الذهني وهو قصد الأمر الاستقلالي، فإذا
أتى المكلف بالجزء الخارجي بقصد أمره فقد تحقق كلا الجزئين، أما الجزء
الخارجي فواضح، وأما الجزء الذهني فلأنه تحقق بقصد امتثال أمره، باعتبار أنه
نفس قصد امتثال الأمر الاستقلالي كما مر.
الوجه الرابع: ما ذكره المحقق الأصبهاني (قدس سره) من أن لازم تقييد المأمور به
بقصد امتثال الأمر هو تعلق الأمر بالمجموع المركب من ذات الفعل وقصد امتثال
الأمر، فإذن بطبيعة الحال كان الأمر يحرك العبد نحو المجموع كسائر الأوامر
المتعلقة بالمركبات وهذا في المقام غير معقول، لأن قصد الصلاة الذي نشأ من قبل
الأمر بها هو بنفسه قصد الامتثال الذي هو الجزء الثاني للمأمور به، فلا يعقل
تعلق هذا القصد بهذا الجزء، لأن معنى ذلك تعلق القصد بنفسه وهو محال، لأنه
من داعوية الأمر لداعوية نفسه ومحركيته لمحركية نفسه وهي كعلية الشئ لعلية
نفسه مستحيلة (1).
والجواب: أن هذا المحذور مبني على أن يكون المأخوذ في متعلق الأمر قصد
امتثال الأمر الخارجي، ولكن مر أن المأخوذ فيه قصد امتثال الأمر بوجوده
العنواني، وحينئذ فالمأمور به مركب من جزئين، جزءا خارجيا وهو ذات
الصلاة مثلا، وجزءا ذهنيا وهو قصد الامتثال، والأمر تعلق بالمجموع المركب
منهما ويدعو العبد نحو المجموع، وحينئذ فإذا أتى العبد بالصلاة بقصد امتثال

(1) نهاية الدراية 1: 325.
255

أمرها النفسي الاستقلالي فقد أتى بكلا الجزئين معا، فإذن لا يلزم انضباط قصد
الأمر على نفسه حتى يكون محالا، بل يلزم انبساط قصد الأمر الواقعي على قصد
الأمر الذهني ولا محذور فيه.
الوجه الخامس: أن لازم أخذ قصد امتثال الأمر في متعلقه عدم أخذه فيه،
وذلك لأن قصد الأمر إذا كان مأخوذا في متعلقه، فمعناه أن الأمر تعلق بالمجموع
المركب من ذات الفعل وقصد الأمر، والمفروض أن هذا الأمر عين ذلك الأمر
الذي أخذ قصده في متعلقه، ومتعلق ذاك الأمر هو ذات الفعل على الفرض،
فإذن يلزم من أخذه فيه عدم أخذه، وإن شئت قلت أن الأمر المتعلق بالصلاة
مثلا مع داعي الأمر لا يدعو إلا إلى الاتيان بالصلاة بداعي أمرها، وهذا معنى
عدم أخذه فيها لا إلى الاتيان بالصلاة مع داعي الأمر بداعي الأمر، وهذا معنى
أنه يلزم من فرض أخذه في متعلقه عدم أخذه فيه. وما يلزم من فرض وجوده
عدمه فوجوده محال (1).
والجواب: أن هذا الوجه أيضا مبني على أن يكون قصد الأمر مأخوذا في
متعلقه بوجوده الواقعي، فعندئذ يلزم من أخذه فيه عدم أخذه، لأن معنى أخذه
فيه أن الأمر تعلق بالمجموع المركب من ذات الفعل وقصد الأمر، وحيث أنه لا
يدعو إلا إلى الاتيان بذات الفعل بداع الأمر، فيكون معناه عدم أخذه فيه، لأن
معنى الأخذ هو أنه يدعو إلى الاتيان بذات الفعل مع داع الأمر بداع الأمر،
والفرض أنه لا يقتضي ذلك، ولكن قد تقدم أن المأخوذ فيه قصد الأمر بوجوده
العنواني الذهني، والأمر تعلق بالمجموع المركب منه ومن الجزء الخارجي، وهو
يدعو إلى الاتيان بهما خارجا، فإذا قام المكلف وأتى بالجزء الخارجي بقصد

(1) نهاية الدراية 1: 327.
256

امتثال الأمر فقد أتى بكلا الجزئين معا بدون لزوم أي محذور، غاية الأمر أن
الجزء الذهني قد تحقق بنفس الاتيان بالجزء الخارجي بقصد امتثال الأمر.
الوجه السادس: أن قصد امتثال الأمر لو كان مأخوذا في متعلقه، فإن كان
الأمر المتعلق به محركا نحو الاتيان بذات الفعل دون ذلك الجزء، لكان معناه عدم
تعلق الأمر به وهو خلف، وإن كان محركا نحوه مباشرة وهو محرك نحو الاتيان
بذات الفعل كذلك في طوله، باعتبار أن قصد الاتيان بذات الفعل لا يمكن أن
يكون في عرض قصد قصده، ضرورة أن حصول المقصود لا يعقل أن يكون في
عرض قصده، وإلا لزم طلب الحاصل فهو خلاف الوجدان والضرورة، لأن كل
مكلف في مقام الامتثال لا يقصد امتثال الأمر المتعلق بذات الفعل مباشرة، ولا
يكون في نفسه قصد آخر متعلق بهذا القصد، هذا إضافة إلى أن لازم ذلك أن
الأمر المتعلق بالمجموع المركب ينحل إلى أمرين ضمنيين:
أحدهما متعلق بذات الفعل والآخر متعلق به ويكون محركا وداعيا نحوه،
وهو يكون محركا وداعيا نحو ذات الفعل في طول تحريك الأول، ولكن تقدم أنه
لا واقع للانحلال، فإن الأمر الواحد جعلا ومجعولا غير قابل لذلك.
فالنتيجة، أنه لا يمكن أخذ قصد امتثال الأمر في متعلقه.
والجواب: أنه لا مانع من أخذ قصد الأمر بوجوده العنواني في متعلق الأمر،
بأن يكون الأمر متعلقا بالصلاة مثلا مع قصد الأمر الذهني وهو لا يتوقف على
وجود الأمر في الخارج، فإذا تعلق الأمر بها كان محركا نحو المجموع، فإذا أتى بها
كذلك قد انطبق عليها الواجب بكلا جزئيه هما ذات الصلاة وقصد امتثال الأمر
ولا يلزم المحذور الأول من ذلك، لأن الأمر المتعلق بالصلاة بقصد امتثال الأمر
يكون محركا وداعيا إلى الاتيان بها كذلك لا أنه محرك إلى الاتيان بذاتها فقط،
257

والمفروض أن المكلف متمكن من ذلك بعد تحقق الأمر وصدوره من المولى،
ومن هنا لو لم يؤخذ قصد امتثال الأمر في متعلقه لم يجب على المكلف الاتيان
بالصلاة بقصد الأمر والامتثال.
وأما المحذور الثاني، فمضافا إلى أنه خلاف الوجدان والضرورة فلا يلزم ذلك
من أخذ قصد امتثال الأمر في متعلقه، لما عرفت من أن أخذه فيه لا يقتضي أكثر
من الاتيان بالفعل بقصد امتثال الأمر مباشرة.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنه لا مانع من أخذ قصد
امتثال الأمر بوجوده الذهني العنواني في متعلقه، لا من ناحية القدرة عليه، لما
تقدم من أن الحاكم بشرطية القدرة إنما هو العقل وهو لا يحكم بأكثر من شرطية
القدرة اللولائية وهي القدرة لو تعلق الأمر به وهي موجودة بعد تحقق الأمر
وانشائه، ولا من ناحية أن مالا يتأتى إلا من قبل الأمر، فلا يمكن أخذه في متعلقه
لاستلزامه الدور، لأن هذا المحذور إنما يلزم إذا كان المأخوذ فيه قصد امتثال الأمر
بوجوده الواقعي، فعندئذ يلزم الدور لأنه يتوقف على وجود الأمر في الخارج
من باب توقف العارض على المعروض، والأمر يتوقف عليه من باب توقف
الحكم على متعلقه، وأما إذا كان المأخوذ فيه قصد امتثال الأمر بوجوده العنواني
فلا دور، لأن المتأخر حينئذ غير المتقدم، ولا من ناحية أن الأمر لو كان متعلقا
بالفعل مع قصد امتثاله، لكان المكلف عاجزا عن الاتيان بذات الفعل بقصد
امتثال الأمر، لفرض عدم تعلقه بها، وإنما تعلق بالمجموع المركب منهما فلا يدعو
إلا إليه، وذلك لما مر من أن المكلف في مقام الامتثال والطاعة كان يأتي بكل جزء
جزء من المأمور به بداع الأمر الاستقلالي لا الأمر الضمني، باعتبار أنه لا
داعوية له إلا بداعوية الأمر الاستقلالي، هذا إضافة إلى أنه لا واقع له حتى يكون
258

داعيا كما تقدم، ولا من ناحية أن الأمر بما أنه موضوع فلابد أن يؤخذ مفروض
الوجود، فحينئذ يلزم الدور والتهافت في المرتبة، فإن فعلية الأمر تتوقف على
فعلية موضوعه في المرتبة السابقة، فلو توقفت فعلية موضوعه على فعليته لزم
الدور وتقدم الشئ على نفسه. وذلك لما تقدم من أنه لا مبرر لأخذه مفروض
الوجود، أما المبرر الاثباتي وهو ظهور الدليل فلا وجود له، وأما المبرر الثبوتي
وهو لزوم التكليف بغير المقدور لو لم يؤخذ مفروض الوجود فهو غير لازم، لأن
الحاكم باعتبار القدرة على متعلق التكليف العقل وهو لا يحكم بشرطية أكثر من
القدرة اللولائية أي القدرة لو تعلق الأمر به والمفروض أنها موجودة، ولا من
ناحية أن وجود الأمر وحده لا يكفي في القدرة على قصد امتثال الأمر، بل إضافة
إلى ذلك لابد من وصوله ولو احتمالا، وإلا فلا يتمكن المكلف من قصد الأمر إلا
بنحو التشريع المحرم، فعندئذ لابد من أخذه قيدا للأمر وشرطا مفروغا عنه في
الخارج وعليه فيلزم محذور الدور، وذلك لما تقدم من أن العجز الناجم من الجهل
بالحكم لا يمنع عن اطلاقه، على أساس أنه عجز اعتقادي لا واقعي، وإنما يمنع
عن تنجزه، لأن الوصول شرط له لا لفعليته، ولا من ناحية أن الأمر إنما يأمر
بالعنوان الذهني بما أنه فإن في المعنون في الخارج وحاك عنه ويرى من خلال
العنوان المعنون فيه ولهذا اشتاق إليه، وهذا لا يمكن في المقام، إذ ليس للعنوان
الذهني فيه معنون في الخارج حتى يراه الآمر فانيا فيه، وذلك لما تقدم من أنه لا
مانع من أن يأمر الآمر بالعنوان الذهني الذي لا مصداق له في الخارج في المرتبة
السابقة وقطع النظر عن هذا الأمر ويتحقق بتحققه، وهذا يكفي في اشتياق المولى
إلى الأمر به لا بملاك أنه موجود في الخارج، بل للإشارة إلى أن مصداقه سوف
يتحقق ويحصل به غرضه، ولا من ناحية أن قصد امتثال الأمر لو كان مأخوذا في
متعلقه، لزم داعوية الشئ لداعوية نفسه، وذلك لما مر من أن هذا المحذور مبتن
259

على أمرين:
الأول: أن يكون قصد امتثال الأمر في عرض الجزء الاخر وهو ذات الفعل.
الثاني: أن يكون المأخوذ قصد امتثال الأمر بوجوده الواقعي، وكلا الأمرين
غير صحيح.
أما الأول، فلأنه في طول الجزء الآخر لا في عرضه، لأن الأمر تعلق بالفعل
بقصد أمره وهو لا يقتضي الاتيان به بقصد قصد أمره، وإنما يقتضي الاتيان به
بقصد أمره.
وأما الثاني، فلأن المأخوذ فيه هو قصد امتثال الأمر بوجوده العنواني لا
الواقعي وهو مرآة لأن يكون الأمر الواقعي داعيا إلى الاتيان بالمأمور به لا داعيا
إلى نفسه لكي يلزم داعوية الشئ لداعوته نفسه.
هذا كله بالنسبة إلى أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق نفسه، وأما لو بنينا على
استحالة ذلك وعدم امكانه، فهل هناك طريق آخر لذلك؟
والجواب: أن هناك محاولتين:
المحاولة الأولى: ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره) وحاصل هذه المحاولة (1) أن
المستحيل إنما هو أخذ قصد امتثال الأمر في متعلقه جزءا وقيدا، بأن يكون الأمر
متعلقا بالمركب من ذات الفعل وقصد الأمر أو المقيد به، وأما إذا لم يؤخذ قصد
الامتثال فيه لا جزءا ولا قيدا، بأن يكون الأمر متعلقا بالحصة التوأم مع قصد
الأمر بحيث يكون القيد والتقيد كلاهما خارجا عن متعلق الأمر، فلا يلزم شيء
من المحاذير المتقدمة، لأن الأمر حينئذ تعلق بذات الفعل وهو المحرك إلى الاتيان

(1) أنظر نهاية الأفكار 1: 192.
260

بها مع قصد أمرها بدون لزوم أي محذور من الدور وتوقف الشئ على نفسه
وداعوية الأمر لداعوية نفسه، فإن كل ذلك منوط بكون الأمر متعلقا بالمركب
من قصد الأمر أو المقيد به.
ولنا تعليق على هذه المحاولة بأمرين:
الأول: أن قصد الأمر إذا لم يكن جزءا للمأمور به ولا قيدا له، لم يوجب
تحصصه بحصة خاصة وهي الحصة المقيدة بقصد الأمر أو المركبة معه، ضرورة
أن مجرد المقارنة الخارجية بين طبيعي المأمور به وقصد الأمر زمانا لا يوجب
تحصصه طالما لم تكن المقارنة مقومة للمأمور به، لوضوح أنه لا يعقل تشخص
الطبيعي وتحصصه بحصة خاصة إلا بالقيد بحيث يكون التقيد داخلا فيه.
وعلى الجملة فموضوع الحكم أو متعلقه إن لوحظ لا بشرط فهو المفهوم
المطلق، وإن لوحظ مقيدا بقيد خاص، فالتقيد فيه قد أحدث مفهوما جديدا
وهو الحصة المباين للمفهوم الأول وهو المطلق، فالحصة معلولة حدوثا للقيد
بنحو يكون التقيد داخلا والقيد خارجا، ومن الواضح أن مجرد مقارنة شيء
بآخر زمانا وكونه توأما معه خارجا بدون كونها متقومة بالتقيد به، لا يحدث
مفهوما جديدا له وهو الحصة المباين لمفهومه الأول وهو المطلق.
وعليه فما ذكره (قدس سره) من أن الأمر متعلق بالحصة التوأم مع قصد الأمر لا يرجع
إلى معنى محصل، لأن قصد الأمر إذا لم يكن قيدا لطبيعي الفعل ولا جزءا له، فلا
يعقل أن يوجب حدوث مفهوم جديد له وهو مفهوم الحصة، على أساس أن
حدوثه منوط بكون قصد الأمر قيدا أو جزءا مأخوذا فيه، فإذن الجمع بين
كون متعلق الأمر الحصة مع عدم كون قصد الأمر جزءا أو قيدا مأخوذا فيه جمع
بين المتناقضين.
261

وبكلمة، أنه لا تعقل الحصة التوأم مع خروج القيد والتقيد معا، فإن معنى هذا
أن متعلق الأمر طبيعي الفعل من دون تقيده بقيد، نعم تعقل الحصة التوأم
في الأعيان الخارجية لا في المفاهيم والطبائع القابلة للتقييد بقيود
والتحصيص بحصص.
الثاني: مع الاغماض عن ذلك وتسليم تصور حدوث الحصة مع عدم كون
قصد الأمر قيدا وجزءا لذات الفعل، إلا أن الالتزام بذلك لا يدفع محذور الدور،
لأن الأمر متوقف على تحقق الحصة في المرتبة السابقة من باب توقف الحكم
على متعلقه، وتحقق الحصة متوقف على وجود الأمر من باب توقف المعلول
على العلة.
فالنتيجة أنه لا أساس لهذه المحاولة ولا ترجع إلى معنى محصل.
المحاولة الثانية: أن أخذ قصد الأمر في متعلقه مباشرة وإن كان غير ممكن،
إلا أنه بالامكان أخذه فيه بواسطة أخذ عنوان ملازم له كعنوان عدم صدور
الفعل بداع دنيوي أو نفساني، فإنه ملازم لصدوره بداع ديني، باعتبار أن صدور
الفعل الاختياري من الفاعل لابد أن يكون بداع من الدواعي وإلا لم يكن
اختياريا، وعلى هذا فإذا لم يصدر الفعل عن الفاعل بداع دنيوي أو نفساني، فلا
محالة يصدر منه بداع ديني (1).
وقد علق عليه المحقق النائيني (قدس سره) بأمرين:
الأول: أن وجود عنوان ملازم لقصد الامتثال والقربة دائما في الخارج مجرد
فرض لا واقع موضوعي له (2).

(1) أنظر أجود التقريرات 1: 165.
(2) أجود التقريرات 1: 166.
262

فالنتيجة، أنه لا يوجد عنوان ملازم له دائما في الخارج، بحيث لا يمكن
الانفكاك بينهما فيه.
والجواب عنه يظهر مما مر من أن عنوان عدم صدور الفعل الاختياري عن
الفاعل بداع دنيوي أو نفساني لا مستقلا ولا منضما ملازم لصدوره منه بداع
ديني كداعي الامتثال لا محالة، على أساس أن الفعل الاختياري لا يمكن أن
يصدر من الانسان بلا داع من الدواعي الدنيوية أو الأخروية.
الثاني: أنه على تقدير تسليم وجود عنوان ملازم له خارجا، فالمتلازمان
وإن استحال التفكيك بينهما في الخارج إلا أنه لا مانع من فرض التفكيك بينهما،
فتارة يفرض التفكيك بين هذا العنوان الملازم وبين الصلاة مع قصد القربة،
وأخرى يفرض التفكيك بينه وبين قصد القربة دون ذات الصلاة، ولا زم ذلك هو
الحكم ببطلان الصلاة في الفرض الأول، على أساس أنها فاقدة لجزئها وهو
العنوان الملازم المأخوذ فيها وإن كانت واجدة لقصد القربة، وهذا كما ترى،
وبصحتها في الفرض الثاني، باعتبار أنها واحدة لتمام أجزائها وقيودها وإن كانت
فاقدة لقصد القربة، باعتبار أنه ليس جزءا وقيدا لها، وهذا خلف فرض كونها
عبادة، وغير خفي ما في هذا التعليق من الغرابة، فإنه بعد تسليم التلازم بين
العنوان المذكور وقصد الامتثال واستحالة التفكيك بينهما خارجا، فلا معنى
لافتراض التفكيك لأنه لا يترتب عليه أي أثر، ومن الواضح أن استحالته
خارجا تكفي للتوصل إلى النتيجة المطلوبة في العبادات وهي اتيانها بقصد
القربة، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن أخذ العنوان الملازم لقصد الامتثال ليس بملاك
الموضوعية وبنحو المعنى الاسمي، بأن يكون من أحد أجزاء المأمور به، بل بملاك
263

الطريقية والوسيلة وبنحو المعنى الحرفي للإشارة به إلى اعتبار قصد الامتثال فيه،
حيث إنه لا يمكن اعتباره فيه بنحو المباشر، فلهذا يلتجئ المولى إلى اعتباره
بالواسطة، ومن هنا يظهر أن الحكم بالبطلان في الفرض الأول والصحة في
الفرض الثاني في غير محله، لأنه مبني على الخلط بين كون العنوان الملازم جزءا
حقيقيا للمأمور به وبين كونه عنوانا ملازما للجزء الحقيقي له، فما ذكره (قدس سره) في
الفرضين المذكورين مبني على هذا الخلط، فلذلك يكون الأمر فيهما على العكس
تماما هو الحكم بالصحة في الفرض الأول والبطلان في الفرض الثاني.
ومن ناحية ثالثة أن هذه المحاولة لا تدفع محذور الدور وتقدم الشئ على
نفسه وكذلك داعوية الأمر لداعوية نفسه، ولا فرق في لزوم هذين المحذورين
بين كون قصد امتثال الأمر مأخوذا في متعلق نفسه مباشرة أو بواسطة عنوان
آخر ملازم له، لأن ما يدعو إلى الاتيان بالفعل بداعي امتثال أمره هو نفس ذلك
الأمر، إذ ليس هنا أمران لكي يكون قصد امتثال أحدهما مأخوذا في متعلق
الآخر، لأن الأمر إذا تعلق بالفعل مقيدا بداع غير دنيوي أو نفساني، فلا
محالة يدعو إلى الاتيان به بداعي امتثال أمره، وهذا من داعوية الأمر إلى
داعوية نفسه.
وأما الكلام في المقام الثاني وهو أخذ سائر الدواعي القريبة في متعلق الأمر
كقصد المحبوبية أو المصلحة، فالظاهر أنه لا مانع منه ثبوتا ولا يلزم منذ المحذور
المتقدم، كداعوية الشئ لداعوية نفسه أو الدور، ولكن لا يمكن ذلك إثباتا، لأن
لازم أخذهما في متعلق الأمر أن صحة العبادة متوقفة على الاتيان بها بقصد
المحبوبية والمصلحة، فإذا أتى بها بداعي أمرها لم تصح، لأن المأتي به حينئذ
يكون فاقدا للقيد المعتبر في المأمور به وهو قصد المحبوبية أو المصلحة، فإذا
264

فرضنا أن المأخوذ في الصلاة هو قصدها، فلازم ذلك أن المصلي إذا أتى بها بقصد
أمرها لا بقصد محبوبيتها لم تصح، لأنه لم يأت بالصلاة المأمور بها هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الاتيان بالفعل بداع الملاك الكامن فيه إن كان بعنوان
أنه داع للمولى إلى الأمر به والإرادة له، فهو من الدواع القربية وموجب لإضافة
العمل إليه، وإن كان بعنوان أنه فائدة مترتبة على الفعل ويعود إلى العبد، فلا
يكون من العناوين المقربة، إلا أن يقال أن الاتيان بالفعل بهذا العنوان أيضا
محبوب لله تعالى، ولكن حينئذ تكون مقربيته من جهة المحبوبية لا من جهة
الملاك والفائدة.
والخلاصة، أن كل عنوان يكون حسنه علة لحسن الفعل، فهو يصلح أن
يكون مقربا بنفسه، وكل عنوان يكون حسنه متفرعا على حسن الفعل في المرتبة
السابقة، فهو لا يصلح أن يكون مقربا بنفسه إلا بمقربية الفعل كعنوان الشكر
والخضوع والثواب والفرار من العقاب وغير ذلك، فإن حسن هذه العناوين
متفرع على أن يكون الفعل في المرتبة السابقة حسنا ومصداقا للشكر والخضوع
وموجبا للثواب، والجامع أن يكون مرتبطا بالمولى بنحو من أنحاء الارتباط.
ومن ناحية ثالثة، أن المأخوذ في العبادات هو الجامع بين الدواعي القريبة،
يعني إضافة الفعل إلى المولى سبحانه، سواء كانت بقصد الأمر أو المحبوبية أو
المصلحة أو غير ذلك، ولا خصوصية لشيء من هذه الدواعي، فإن المعيار هو
الاتيان بالفعل بقصد التقرب إليه تعالى، والمعتبر فيه أمران:
الأول: أن يكون الفعل صالحا للتقرب في نفسه.
الثاني: أن يؤتى به بداعي التقرب أي مضافا إلى المولى.
265

ومن ناحية رابعة أن هنا اشكالين:
أحدهما من المحقق النائيني (قدس سره) وحاصل هذا الاشكال، أن الدواعي القريبة
حيث إنها جميعا تكون في عرض واحد ومشترك في جامع واحد وهو إضافة
العمل إلى الله سبحانه وتعالى كما يستفاد ذلك من قوله (عليه السلام): " وكان عمله بنية
صالحة يقصد بها ربه " (1)، فلا يمكن أخذها في العبادة، لأنها لو أخذت فيها
لكانت في عرضها، باعتبار أنها حينئذ تكون من أجزائها وقيودها ومتعلقة
للإرادة، مع أن تلك الدواعي أيا منها كان فهو في مرتبة سابقة على الإرادة، لأنها
تنشأ منها وهي محركة للمكلف نحو إرادة الفعل والاتيان به، فلهذا لا يمكن
أخذها في العبادات بأن تكون في عرضها متعلقة للإرادة، لأن معنى ذلك أنها
متأخرة عن الإرادة مع أنها متقدمة عليها رتبة لأنها علة لها، فلو أخذت في
متعلق الأمر لزم تقدم الشئ على نفسه وهو محال، فإذا لم يمكن وقوعها حيز
الإرادة التكوينية لم يمكن وقوعها حيز الإرادة التشريعية أيضا، لأن متعلقها
بعينه هو متعلق الإرادة التكوينية، فإذا امتنع تعلق الإرادة التكوينية بشيء امتنع
تعلق الإرادة التشريعية به أيضا، وذلك لأن امتناع تعلق الإرادة التكوينية
بشيء إما من جهة خروج ذلك الشئ عن القدرة أو من جهة أنه لا مقتضى فيه
لإرادته، وعلى كلا التقديرين لا يمكن تعلق الإرادة التشريعية به أيضا
بنفس الملاك.
والخلاصة: أن تلك الدواعي حيث أنها كانت علة لحدوث الإرادة في النفس
تكون متقدمة عليها رتبة، فلو فرضنا أنها متعلقة للإرادة كالفعل وتوجد بها،

(1) الوسائل 1: 107، ب (24) من أبواب مقدمة العبادات، ح 3. بتصرف.
266

لزم كون الإرادة متقدمة عليها رتبة، وهذا من تقدم الشئ على نفسه (1).
والجواب أولا بالنقض، فإن لازم ذلك عدم امكان أخذها في متعلق الأمر
حتى بالأمر الثاني لنفس المحذور المذكور، مع أنه (قدس سره) يرى إمكان أخذها فيه
بالأمر الثاني (2).
وثانيا أن هذا الاشكال مبني على الخلط بين الفعل الخارجي والفعل الذهني،
وما هو معلول للإرادة هو الفعل في أفق الخارج، وما هو متعلق لها هو الفعل في
أفق النفس، لأن الإرادة من الصفات النفسانية، فلا يمكن أن تتعلق إلا بالفعل في
أفق النفس مباشرة، وأما الفعل في أفق الخارج فهو ليس متعلقا لها كذلك، لأنه
بوجوده الخارجي يوجب انتهاء مفعول الإرادة بانتهاء أمدها، لأن أمدها إنما هو
بوجود الفعل المراد بها خارجا، فإذا وجد انتهت ولا إرادة بعد ذلك، فإذن كيف
يكون الفعل بوجوده الخارجي متعلقا لها، كما أنه لا يمكن أن يكون متعلقا للأمر
بوجوده الخارجي لأنه مسقط له، فكيف يعقل أن يكون متعلقا له، فإذن لا محالة
يكون متعلق الإرادة هو الفعل بوجوده النفسي الفاني كما أنه متعلق الأمر وهو
المنشأ لوجودها في النفس، لأن تصور الفعل بماله من الفائدة والتصديق بها سبب
لحدوث الإرادة فيها. نعم، أنها في هذه المرتبة تدعو إلى إيجاد الفعل المراد بها في
الخارج، فما هو متأخر عنها هو الفعل بوجوده الخارجي وما هو متعلق الإرادة
ومتقدم عليها رتبة هو الفعل بوجوده الذهني، باعتبار أنه منشأ لها.
وبكلمة، أنه لا يمكن أن يكون متعلق الإرادة الفعل الخارجي، بداهة أن
الفعل بوجوده الخارجي كما مر موجب لانتهاء مفعول الإرادة، فلا إرادة في

(1) أنظر أجود التقريرات 1: 163 - 165.
(2) لاحظ أجود التقريرات 1: 173.
267

النفس بعد وجوده في الخارج، إذ لا يعقل بقاء الإرادة بعد تحقق المراد، وإلا لزم
الخلف.
فإذن لا محالة يكون متعلق الإرادة والأمر هو الفعل بوجوده الذهني الفاني،
والفرض أنه متقدم على الإرادة والأمر معا، فما هو متأخر عنهما هو الفعل
بوجوده الخارجي، هذا إضافة إلى أن ما هو منشأ الإرادة محبوبية الفعل أو اشتماله
على الملاك، وما هو متعلق هذه الإرادة ومعلولها هو إيجاد الفعل بقصد المحبوبية
أو الاشتمال على الملاك في الخارج.
ومن هنا يظهر أن ما أجاب به السيد الأستاذ (قدس سره) من أن هناك فردان من
الإرادة والاختيار. أحدهما متعلق بالفعل بوجوده الذهني والآخر متعلق بالفعل
بوجوده الخارجي، لا يمكن المساعدة عليه (1)، لما عرفت من أنه لا يمكن تعلق
الإرادة بالفعل الخارجي.
وثالثا أن الاشكال لو تم فإنما يتم في الإرادة الشخصية، حيث أنها لا تعقل أن
تكون سببا لما تنبعث منه، فإن معنى ذلك أنها متقدمة عليه رتبة، ومعنى أنها
منبعثة منه أنها متأخرة عنه رتبة، ولا زم ذلك تقدمها على نفسها وهو كما ترى.
وأما إذا فرضنا أن هناك فردين من الإرادة:
الأول منبعث من الدواع المذكورة ومتعلق بالفعل المحبوب مثلا.
والثاني علة لها ولم ينبعث عنها، وإنما انبعث من سبب آخر كالخوف من
العقاب والطمع في الثواب ومتعلق بإيجاد الفعل بهذه الدواعي، فإذن لا محذور.
فالنتيجة، أنه لا مانع من أخذ سائر الدواع القريبة في العبادات.

(1) أنظر محاضرات في أصول الفقه 2: 183.
268

الاشكال الثاني، أن قصد المصلحة في متعلق الأمر كالصلاة مثلا يتوقف على
ترتبها على ذات الصلاة بقطع النظر عن اعتبار قصد المصلحة فيها، والمفروض
أنه لو كان مأخوذا فيها لكان دخيلا في ترتبها عليها فإذن يلزم الدور، وذلك لأن
قصد المصلحة في متعلق الأمر يتوقف على وجودها فيه وترتبها عليه،
والمفروض أنه يتوقف على قصدها (1).
والجواب: أن هذا الاشكال أيضا مبني على الخلط بين المصلحة بوجودها
الذهني والمصلحة بوجودها الخارجي، فإن ما يتوقف عليه القصد هو المصلحة
بوجودها الذهني والفرض أنها بهذا الوجود لا تتوقف على القصد، وما يتوقف
عليه هو المصلحة بوجودها الخارجي، فإذن لا دور، فإن ما يتوقف عليه القصد
غير ما يتوقف على القصد، وإن شئت قلت أن المأخوذ في متعلق الأمر قصد
مفهوم المصلحة وعنوانها الفاني الذي لا موطن له إلا الذهن، فإن المولى إذا
تصور الصلاة مثلا بما لها من الأجزاء والشروط منها قصد مصلحتها وأمر بها،
كان أمره متعلقا بالأجزاء بوجوداتها الذهنية الفانية لا بوجوداتها الخارجية
لأنها مسقط للأمر فكيف يعقل تعلق الأمر بها، وعلى هذا فالقصد يتوقف على
المصلحة بوجودها الذهني وهي لا تتوقف على القصد، فإن المتوقف عليه هو
المصلحة بوجودها الخارجي وترتبها عليها، غاية الأمر أن هذا الجزء وهو قصد
المصلحة يتحقق بنفس قصد المكلف حين الامتثال والاتيان بالمأمور به، ولا
مانع من أن يكون الواجب مركبا من جزئين طوليين، أحدهما جزء خارجي له
ما بإزاء في الخارج والآخر جزء ذهني وليس له ما بإزاء فيه، وإنما يتحقق ويوجد
بنفس قصد المكلف حين الامتثال ولا محذور فيه، حيث لا يلزم منه قصد قصد

(1) أنظر أجود التقريرات 1: 163.
269

المصلحة، حتى يقال أنه بمثابة داعوية الشئ لداعوية نفسه.
فالنتيجة، أنه لا مانع من أخذ قصد المصلحة في متعلق الأمر.
وبذلك كله يتضح أنه لا مانع ثبوتا من أخذ قصد القربة في متعلق الأمر،
سواء كان بمعنى قصد الأمر أم كان بمعنى قصد المحبوبية أو المصلحة أو غيرها من
الدواعي القريبة، والجامع أن المعتبر في صحة العبادة هو إضافتها إلى المولى
سبحانه وتعالى وهي المأخوذة فيه لا خصوص هذا أو ذاك.
هذا تمام الكلام في الفارق الأول بين الواجب التوصلي والواجب العبادي.
الفارق الثاني بين الواجب التعبدي والتوصلي
تعدد الأمر ووحدته
أما الكلام فيه، فقد ذكر جماعة من الأصوليين أن عبادية العبادة إنما هي بتعدد
الأمر، بيان ذلك أن الواجب إذا كان توصليا فلا يوجد فيه إلا أمر واحد متعلق
بذات الفعل، وأما إذا كان تعبديا فيوجد فيه أمران: أحدهما تعلق بذات الفعل
والآخر بالاتيان به بقصد الأمر الأول، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى إنهم اختلفوا في تفسير تعدد الأمر فيها على وجوه:
الوجه الأول: أن أحد الأمرين متعلق بذات الفعل مطلقا، والأمر الثاني
متعلق بالاتيان بها بقصد امتثال الامر الأول وهما مستقلان جعلا ومجعولا.
وقد أورد عليه في الكفاية (1) بما حاصله أن المكلف إذا أتى بذات الفعل بدون

(1) كفاية الأصول: 74.
270

قصد القربة، فهل يسقط الأمر الأول بذلك أو لا؟
أما على الأول فلا موضوع لامتثال الأمر الثاني، لأن موضوعه هو الاتيان
بذات الفعل بداع الأمر الأول، فإذا سقط الأمر الأول بمجرد الاتيان بمتعلقه بدون
قصد امتثال أمره، كشف ذلك عن كون الأمر الثاني لغوا، لأن مدلوله كون الأمر
الأول تعبديا، فإذا فرض أنه ليس بتعبدي كان وجود الأمر الثاني كعدمه فلا أثر
له، وأما على الثاني فلأن عدم سقوطه يكشف عن عدم حصول الغرض الداعي
إلى جعله، وأن سقوطه متوقف على حصوله له ويدور مداره وجودا وعدما،
فإذا علم بذلك فالعقل مستقل بالاتيان به بقصد امتثال أمره لتحصيل الغرض،
ولا حاجة حينئذ إلى الأمر الثاني فإنه لغو ولا يترتب عليه أي أثر.
فالنتيجة، كما أنه لا يمكن أخذ قصد الأمر في متعلقه بأمر واحد كذلك لا يمكن
ذلك بأمرين، ومن هنا اختار (قدس سره) أن اعتبار قصد القربة إنما هو بحكم العقل لا
بحكم الشرع جزءا أو قيدا.
ولكن المحقق الأصبهاني (قدس سره) قد استشكل في كلا الشقين من كلامه (قدس سره).
أما الشق الأول فقد أفاد بما إليك نصه:
لنا الالتزام بهذا الشق، ولكن نقول بأن موافقة الأمر الأول ليست علة تامة
لحصول الغرض، بل يمكن إعادة المأتي به لتحصيل الغرض المترتب على الفعل
بداع الأمر.
توضيحه أن ذات الفعل مثلا لها مصلحة ملزمة وللصلاة المأتي بها بداعي
أمرها مصلحة ملزمة أخرى أو تلك المصلحة بالنحو الأوفى، بحيث يكون بحدها
لازمة الاستيفاء، وسيجئ إن شاء الله في المباحث الآتية أن الامتثال ليس
271

عنده (قدس سره) علة تامة لحصول الغرض، كي لأتمكن الإعادة وتبديل الامتثال بامتثال
آخر، غاية الأمر أن تبديل الامتثال ربما يكون لتحصيل غرض أوفى فيندب
الإعادة، وأخرى يكون لتحصيل المصلحة الملزمة القائمة بالمأتي به بداع الامتثال
فتجب الإعادة، فموافقة الأمر الأول قابلة لاسقاط الأمر لو اقتصر عليه، لكن
حيث أن المصلحة القائمة بالمأتي به بداعي الامتثال لازمة الاستيفاء وكانت قابلة
للاستيفاء لبقاء الأمر الأول على حاله حيث لم تكن موافقته علة تامة لسقوطه،
فلذا يجب إعادة المأتي به بداعي الأمر الأول فيحصل الغرضان.
وأما توهم أنه يسقط الأمر الأول وكذا الثاني، لكنه حيث إن الغرض باق
فيحدث أمران آخران إلى أن يحصل الغرض، وإلا فبقاء الأمر بعد حصول
متعلقه طلب الحاصل.
فمندفع بأن الغرض إن كان علة للأمر، فبقاء المعلول ببقاء علته بديهي، وإلا لا
يوجب حدوثه أولا فضلا عن عليته لحدوثه ثانيا وثالثا، ولا يلزم منه طلب
الحاصل، لأن مقتضاه ليس الموجود الخارجي كي يكون طلبه طلب الحاصل،
كما لا يلزم منه أخصية الغرض لما سيجيء إن شاء الله تعالى (1).
وفي كلامه عدة نقاط:
الأولى: أن مجرد موافقة الأمر الأول ليست علة تامة لحصول الغرض،
فيمكن إعادة المأتي به مرة أخرى بداعي الأمر لتحصيل الغرض.
الثانية: أن الامتثال عند صاحب الكفاية (قدس سره) ليس علة تامة لحصول
الغرض، ولهذا بنى على جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر، وإلا لم يكن امتثال

(1) نهاية الدراية 1: 332.
272

الثاني مشروعا.
الثالثة: أن الاتيان بذات الفعل بدون قصد الامتثال وإن كان موافقا للأمر
الأول، إلا أنه لا يوجب سقوطه من جهة عدم حصول الغرض المترتب على
الفعل بداع الامتثال، فيبقى كلا الأمرين معا، ولهذا لابد من الاتيان بالفعل بداعي
الامتثال لكي يحصل الغرض ويسقط الأمران معا.
الرابعة: أن سقوط الأمر الأول من جهة أن بقائه طلب الحاصل وكذا الثاني،
وحدوث أمرين آخرين إلى أن يحصل الغرض غير صحيح، لأن الغرض إن كان
علة تامة للأمر، فلا يعقل سقوطه مع بقاء الغرض، لأن بقاء المعلول ببقاء علته
أمر بديهي.
وللنظر في هذه النقاط مجال:
أما النقطة الأولى، فلا شبهة في أن الاتيان بمتعلق الأمر بكامل أجزائه
وشروطه علة تامة لسقوطه، فلا يعقل بقاء شخص ذلك الأمر بعد تحقق متعلقه
في الخارج وإلا لزم طلب الحاصل وهو محال، وأما الأمر بإيجاده في ضمن فرد
آخر من الطبيعي غير الفرد الواقع في الخارج، فهو وإن كان ممكنا، إلا أنه أمر
آخر دون الأمر الأول.
وأما ما ذكره (قدس سره) في مقام تحليل ذلك ثبوتا من أنه يمكن أن تكون ذات الصلاة
مشتملة على مصلحة ملزمة والصلاة المقيدة بداعي أمرها مشتملة على مصلحة
ملزمة أخرى أو على تلك المصلحة بالنحو الأوفى، بحيث تكون بحدها لازمة
الاستيفاء فهو مقطوع البطلان، لأنه لا يتعدى عن مجرد تصور في عالم الذهن،
ضرورة أن ذات الصلاة لو كانت مشتملة على مصلحة ملزمة والصلاة المقيدة
بداعي أمرها مشتملة على مصلحة ملزمة أخرى، لزم كون الوجوب والواجب
273

متعددا، بأن تكون ذات الصلاة واجبة بوجوب مستقل جعلا ومجعولا والحصة
المقيدة بقصد الأمر واجبة بوجوب آخر كذلك وهذا كما ترى.
وأما النقطة الثانية، فلا يقاس المقام بجواز تبديل الامتثال بامتثال آخر، فإن
جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر إنما ثبت بالنص الخاص في مورد خاص وهو
أن من صلى منفردا يجوز أن يعيد صلاته جماعة، إماما كان أم مأموما (1)،
وكذلك من صلى جماعة إماما أو مأموما، يجوز له أن يعيدها في جماعة أخرى
إماما (2)، ومن الواضح أنه لا يمكن التعدي عن هذا المورد إلى سائر الموارد، على
أساس أن الحكم يكون على خلاف القاعدة.
هذا إضافة إلى أنه لا شبهة في سقوط الأمر الأول بالامتثال، والتبديل إنما
يكون بأمر آخر لا بالأمر الأول وهو استحبابي لا وجوبي.
وأما النقطة الثالثة، فيظهر حالها مما مر من أنه لا شبهة في سقوط الأمر
المتعلق بشيء بالاتيان به ولا يعقل بقاؤه شخصيا وإلا لزم طلب الحاصل وهو
مستحيل، فما في هذه النقطة من أن الاتيان بذات الفعل لا يوجب سقوط الأمر
الأول غريب جدا، نعم حيث أن الغرض باق وهو حقيقة الحكم وروحه،
فيوجب حدوث أمر ثان متوجه إليه بالنسبة إلى فرد آخر غير الفرد المأتي به.
والخلاصة: أن الأمر الأول متعلق بذات الطبيعة وهو لا يقتضي إلا الاتيان
بها فحسب، والأمر الثاني بما أنه تعلق بالاتيان بها بداع أمرها، فحينئذ إذا أتى
المكلف بذات الطبيعة المأمور بها لا بداعي أمرها، فقد وافق الأمر الأول وخالف
الأمر الثاني، ومن هنا لا مناص من سقوط الأمر الأول بعد تحقق متعلقه

(1) أنظر الوسائل 8: 40، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة.
(2) المصدر المتقدم.
274

ووجوده في الخارج، فإذا سقط الأمر الأول سقط الأمر الثاني أيضا بسقوط
موضوعه، وحيث إن الغرض باق فهو يوجب حدوث أمرين آخرين للوصول
إلى هذا الغرض وحصوله.
ومن هنا يظهر حال النقطة الرابعة، وجه الظهور ما عرفت من أن الاتيان
بذات الفعل بما أنه موافق للأمر الأول، فلا محالة يوجب سقوطه، فإذا سقط
الأمر الثاني أيضا بسقوط موضوعه، وحيث إن الغرض باق وغير حاصل، فلا
محالة يوجب جعل أمرين آخرين لتحصيل هذا الغرض كما مر.
وغير خفي أن ما ذكره (قدس سره) من النقاط مبني على أن كلا من الأمرين أمر مولوي
مستقل جعلا ومجعولا، غاية الأمر أن متعلق الأمر الأول الطبيعية المطلقة
ومتعلق الأمر الثاني الطبيعية المقيدة بقصد امتثال الأمر الأول، هذا كله بالنسبة
إلى الشق الأول مما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره)، وأما الشق الثاني منه فقد ذكر (قدس سره)
أن لنا الالتزام به، ومع هذا لا يكون الأمر الثاني لغوا، وقد أفاد في وجه ذلك
كلاما طويلا (1) ملخصة نقطتان:
الأولى: أن الفرق بين الجزء والشرط هو أن الجزء دخيل في أصل الغرض
الداعي للمولى إلى الأمر به والشرط دخيل في فعليته لا في أصله، مثلا أجزاء
الصلاة دخيلة في تكوين أصل المصلحة القائمة بها، وأما شرائطها كقصد القربة
والطهارة والستر والاستقبال وغير ذلك فهي دخيلة في ترتب تلك المصلحة على
الأجزاء فعلا، ومن هنا لا تكون الشرائط في مرتبة الأجزاء ولا يعقل تعلق
الإرادة بالأجزاء وشروطها في عرض واحد، فللمولى الأمر بالأجزاء والأمر
بالشرائط مستقلا، وأما عدم سقوط الأمر بالاتيان بالأجزاء مع عدم الاتيان

(1) نهاية الدراية 1: 333 - 335.
275

بشرائطها، فهو من لوازم الاشتراط وتقييد الأجزاء بها بلا فرق في ذلك بين قصد
القربة وغيره.
الثانية: أن الأمر الثاني رغم عدم سقوط الأمر الأول بالاتيان بذات الفعل لا
يكون لغوا، فإنه إنما يكون لغوا إذا كان العقل مستقلا باعتبار قصد القربة في
متعلق الأمر الأول، والمفروض أن العقل لا يحكم بذلك، ضرورة أنه لا يكون
مشرعا، وأما حكمه باتيان ما يحتمل دخله في الغرض فهو معلق بعدم تمكن
المولى من البيان، والمفروض في المقام تمكنه منه بالأمر الثاني، ولا فرق في ذلك
بين أن يكون بالأمر الأول أو الثاني، فعلى كلا التقديرين لا مجال لحكم العقل.
وللنظر في كلتا النقطتين مجال.
أما النقطة الأولى، فيرد عليها أن إجزاء المأمور به كالصلاة مثلا غير مؤثرة
ودخيلة بنفسها في اتصافها بالمصلحة وقيامها بها، فإن ما هو مؤثر في اتصاف
تلك الأجزاء بها إنما هو شروط الأمر كالبلوغ والعقل والاستطاعة والوقت
وهكذا، فإنها شروط الحكم في مرحلة الجعل وشروط الاتصاف في مرحلة
المبادئ، فإذن لا تكون الأجزاء بنفسها مؤثرة ودخيلة في ذلك بدون شروط
وجوبها، فإن اتصافها بها إنما هو عند تحقق تلك الشروط وتوفرها، وأما شروط
نفسها وهي شروط الواجب كالطهارة والستر واستقبال القبلة ونحوها فهي
دخيلة في فعلية ترتبها على تلك الأجزاء عند تحققها في الخارج، على أساس أن
فعليتها كاملة منوطة بفعلية تلك الشروط كذلك، باعتبار أن تقيدها بها جزء
للمأمور به.
والخلاصة: أن المؤثر والدخيل في أصل المصلحة بمعنى اتصاف اجزاء المأمور
به بها في مرحلة المبادئ إنما هو شروط الوجوب، وأما ترتب تلك المصلحة
276

عليها خارجا فهو منوط بوجود تلك الأجزاء كاملة في الخارج، ومن الواضح
أن وجودها كذلك فيه منوط بوجود تلك الشروط وفعليتها خارجا، وهذا هو
معنى أن شروط الواجب دخيلة ومؤثرة في فعلية الملاك، وعلى هذا المأمور به
حصة خاصة من الأجزاء لا طبيعتها وهي الأجزاء المقيدة بتلك الشروط
والقيود، بحيث يكون التقيد داخلا والقيد خارجا، ومن الطبيعي أن تلك الحصة
التي هي المأمور بها متعلقة لإرادة واحدة كما أنها متعلقة لأمر واحد، فما ذكره (قدس سره)
من أنه لا يعقل تعلق الإرادة بذات الأجزاء وشرائطها في عرض واحد وكذلك
الأمر لا يتم، لأنه إن أريد بالشرائط التقييدات، فيرد عليه أنها داخلة في المأمور
به وتكون من أجزائه، ومن الواضح أن تعلق الإرادة بجميع أجزاء المأمور به في
عرض واحد، باعتبار أن متعلق الإرادة حصة خاصة من الأجزاء، وإن أريد بها
ذوات الشرائط والقيود، فهي وإن لم تكن مرادة بإرادة المأمور به ولا مرادة
بإرادة أخرى في عرض إرادة المأمور به، إلا أن ذلك إنما هو من جهة أنها ليست
مرادة بالأصالة والذات، وإنما هي مرادة بالتبع والغرض من جهة أن تحصيل
الغرض والملاك من المأمور به متوقف عليها.
ومن هنا فالأمر المتعلق بها أمر ارشادي لا مولوي، فيكون ارشادا إلى أنها
من قيود المأمور به وشروطه ولا ملاك فيها ذاتا، والأمر المتعلق بها ناجم من
الملاك القائم بالمأمور به كما أن الإرادة المتعلقة بها ناجمة عن الملاك فيه، فإنها
كالأمر تبعية لا ذاتية.
وعلى هذا فالأمر الثاني لا يمكن أن يكون أمرا مولويا، بل هو ارشاد إلى أن
متعلق الأمر الأول حصة خاصة وهي الحصة المقيدة بقصد الأمر، فإذن عدم
سقوط الأمر الأول بالاتيان بذات الفعل يكون على القاعدة، لأنه لم يأت بالمأمور
277

به وما أتى به ليس مصداقا له.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أن الأمر الثاني ناش من نفس
الملاك الناشئ منه الأمر الأول، على أساس أن الملاك قائم بالحصة الخاصة من
الفعل وهي الحصة المقيدة بقصد القربة، فإن تلك الحصة هي المطلوبة للمولى في
الواقع ومشتملة على الملاك، وحيث إن هذا التقييد لا يمكن بالأمر الأول،
فبإمكان المولى أن يأمر بهذا التقييد ثانيا، فيكون مفاد الأمر الثاني الارشاد إلى
أن متعلق الأمر الأول ليس هو طبيعي الفعل مطلقا بل حصة خاصة منه وهي
تلك الحصة، فإذن يكون الأمر الثاني المتعلق بالاتيان بالفعل بقصد أمره الأول
ارشادا إلى شرطية قصد القربة كالأمر بالاتيان بالصلاة مع الستر أو الطهارة،
فإنه ارشاد إلى شرطية الستر والطهارة فيها، فلهذا يكون الأمران بمثابة أمر
واحد روحا وملاكا.
وأما النقطة الثانية، فيظهر حالها مما مر، وجه الظهور هو أن عدم سقوط الأمر
الأول بالاتيان بذات الفعل بدون قصد أمره يكون على القاعدة، باعتبار أن
المأمور به بالأمر الأول ليس هو طبيعي الفعل المطلق بل حصة خاصة منه وهي
الحصة المقيدة بقصد القربة، والدال على هذا التقييد هو الأمر الثاني، فحينئذ إن
أتى المكلف بالحصة المذكورة فقد وافق الأمر الأول وسقط ولا يعقل بقاؤه، وإن
أتى بذات الفعل بدون قصد القربة لم يأت بالمأمور به حتى يسقط أمره لأن ما أتى
به ليس مصداقا للمأمور به، وحينئذ فالعقل يحكم بلزوم الإعادة، بملاك أنه لم
يأت بالمأمور به لا أنه يحكم بوجوب الاتيان بملاك احتمال أنه دخيل في الملاك
والغرض، إذ لا شك في المقام في شيء، لأن الأمر الثاني يدل على أن متعلق الأمر
الأول حصة خاصة، فطالما لم يأت المكلف بهذه الحصة لم يسقط الأمر عنها كما
278

هو الحال في سائر الموارد، فإذا أتى المكلف بالصلاة بدون الطهارة لم يأت بالصلاة
المأمور بها، وحينئذ فلا محالة يحكم العقل بوجوب الإعادة من باب أنه لم يأت
بالمأمور به، ومع ذلك لا يكون الأمر الثاني لغوا، لأن مفاده تعيين المأمور به وانه
حصة خاصة، وبعد التعيين يكون الحاكم بالامتثال والاتيان هو العقل، على
أساس استقلاله بوجوب الطاعة وقبح المعصية، ومن هنا يظهر أنه لا يمكن أن
يكون الأمر الثاني أمرا مولويا مستقلا جعلا ومجعولا وملاكا عن الأمر الأول،
إلا بناء على افتراض أن ذات الفعل مشتملة على مصلحة ملزمة وحصة منه
وهي المقيدة بقصد أمرها، مشتملة على مصلحة ملزمة أخرى، ولكن لازم هذا
الافتراض تعدد الواجب وهو كما ترى، فلذلك لابد أن يكون الأمر الثاني أمرا
شرطيا ومفاده الارشاد إلى شرطية قصد القربة للواجب بالأمر الأول وتقييده به
بعد ما لا يمكن ذلك بالأمر الأول، وبيان شروط الواجب وقيوده نوعا يكون
بالأوامر الشرطية التي يكون مفادها الارشاد إلى شرطيتها وتقيد الواجب بها
كالأمر بالصلاة مثلا مع الطهارة أو الستر أو الاستقبال أو ما شاكلها، ولا فرق في
ذلك بين ما يمكن أخذه في متعلق الأمر الأول كالطهارة والستر والاستقبال
ونحوها وبين مالا يمكن أخذه فيه كقصد القربة، وعلى هذا فمتعلق الأمر الأول
ليس ذات الطبيعة بل حصة خاصة منها وهي الحصة المقيدة بقصد امتثال الأمر،
وبذلك يظهر أن ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من أن الأمر الثاني لغو عند عدم
سقوط الأمر الأول بالاتيان بذات الفعل، مبني على أن يكون الأمر الثاني أمرا
مولويا، وأما إذا كان ارشادا إلى تقييد المأمور به في الأمر الأول كما هو كذلك،
فلا موضوع لهذا الاشكال.
فالنتيجة، أن تفسير تعدد الأمر بتعددهما واقعا أي جعلا ومجعولا وملاكا في
غير محله، لأن لازم ذلك تعدد المأمور به واقعا وهو خلف فرض كون المأمور به
279

في المقام واحدا، بل المراد من الأمر الثاني بيان أن المأمور به في الأمر الأول مقيد
بقصد الأمر بعد ما لا يمكن هذا التقييد بالأمر الأول.
الوجه الثاني ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن الأمر الأول متعلق بالطبيعة
المهملة من حيث التقييد والاطلاق، على أساس مسلكه (قدس سره) من أن التقابل بين
الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة، فاستحالة التقييد تستلزم استحالة
الاطلاق، وحيث إن تقييد الطبيعة المأمور بها بقصد الأمر مستحيل، فإطلاقها
أيضا كذلك، وحيث إنه لا يمكن أن تكون الطبيعة المأمور بها مهملة في الواقع
لاستحالة الاهمال فيه، فإذن لابد للمولى من رفع هذا الابهام والاهمال بالأمر
الثاني الذي هو متمم للأمر الأول اطلاقا أو تقييدا.
وبكلمة، أن استحالة تقييد الطبيعة المأمور بها بقصد الأمر تستلزم استحالة
الاطلاق، على أساس أن التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة، وحيث إن
الاهمال في الواقع مستحيل، فلابد للمولى من رفع هذا الاهمال بجعل الأمر الثاني
المتمم للجعل الأول (1).
وغير خفي أنه ليس للأمر الثاني المسمى بمتمم الجعل شأن في مقابل الأمر
الأول، بل هو بيان لحدوده اطلاقا أو تقييدا وناجم من نفس ملاكه، ومن هنا لا
يلزم أن يكون متمم الجعل بلسان الأمر، بل يمكن أن يكون بلسان الاخبار، فإن
المعيار إنما هو برفع الاهمال عن الأمر الأول اطلاقا أو تقييدا بأي لسان كان هذا
من ناحية.
ومن ناحية أخرى قد أورد السيد الأستاذ (قدس سره) على هذا التفسير بوجهين:

(1) أنظر أجود التقريرات 1: 172 - 174.
280

الأول: أن التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس من تقابل العدم والملكة، بل هو
من تقابل التضاد، وعليه فاستحالة التقييد تستلزم ضرورة الاطلاق وبالعكس
لا استحالته (1)، وسوف يأتي تفصيل ذلك في ضمن البحوث القادمة، ولكن هذا
الاشكال مبنائي، هذا مضافا إلى أن المبنى غير صحيح، فإن الصحيح هو أن
التقابل بينهما من تقابل الايجاب والسلب لا العدم والملكة ولا التضاد وستأتي
الإشارة إليه.
الثاني: أن الاهمال في الأمر الأول غير معقول حتى تدعو الحاجة إلى رفعه
بجعل الأمر الثاني المتمم للأمر الأول، وقد أفاد في وجه ذلك أن الشارع حيث إنه
عالم بتمام خصوصيات الطبيعة المأمور بها من الخصوصيات الأولية والثانوية،
فبطبيعة الحال إذا جعل الحكم لها، فلا محالة إما أن يكون مطلقا بالنسبة إلى تلك
الخصوصيات والقيودات، سواء كانت من القيودات الأولية أو الثانوية أو مقيدا
ببعضها دون بعضها الآخر ولا ثالث في البين، بداهة أنه لا يعقل أن يكون
الجاعل مرددا في حكمه المجعول ولا يدري أنه جعله على الطبيعي أو الحصة
الخاصة، مثلا إذا أمر المولى بالصلاة فلا محالة كان يعلم بتمام قيوداتها الأولية
كالطهارة والستر والاستقبال وما شاكل ذلك، والثانوية كقصد امتثال الأمر
وقصد الوجه ونحوهما، وحينئذ فالامر المجعول لها بطبيعة الحال لا يخلو إما أن
يكون مجعولا لها مطلقا بالنسبة إلى جميع قيوداتها الأولية والثانوية أو مقيدا بها
ولا ثالث في البين، فإذا استحال تقييدها بالقيودات الثانوية تعين اطلاقها
بالنسبة إليها، ولا يعقل أن يكون مرددا في أن الحكم المجعول لها من قبله مطلق
أو مقيد بأن يكون جاهلا بذلك، بداهة أن ذلك غير معقول من الجاعل العالم

(3) راجع محاضرات في أصول الفقه 2: 173 - 174 و 188.
281

بالواقع بتمام خصوصياته، فلهذا لا موضوع لمتمم الجعل اطلاقا أو تقييدا في
خطابات الكتاب والسنة.
وقد أورد بعض المحققين (قدس سره) على السيد الأستاذ (قدس سره) بأن هذا الاشكال مبني
على تفسير الاهمال في كلام المحقق النائيني (قدس سره) بالاهمال الوجودي أي المردد بين
المطلق والمقيد، ولكن هذا التفسير غير صحيح، فإن المراد من الاهمال في كلامه
الاهمال المفهومي لا الوجودي; فإن متعلق الأمر مدلول اسم الجنس وهو ذات
الطبيعة المهملة الجامعة بين الطبيعة المطلقة والمقيدة، باعتبار أن الاطلاق والتقييد
حيثيتان زائدتان على ذات الطبيعة المهملة، وحينئذ فإذا استحال كل من
الاطلاق والتقييد اللحاظين في متعلق الجعل الأول، اضطر المولى أن يجعل أمره
على ذات الطبيعة المهملة ويتصدى لرفع الاهمال بأمر ثان اطلاقا أو تقييدا
ويكون متمما للجعل الأول (1). هذا،
ويمكن المناقشة فيه بأن حمل اشكال السيد الأستاذ (قدس سره) على أنه مبني على
تفسير الاهمال في كلام المحقق النائيني (قدس سره) بالاهمال الوجودي أي المردد بين
المطلق والمقيد في الخارج في غير محله، لوضوح أن اشكاله (قدس سره) متجه إلى التزامه
بالاهمال في متعلق الأمر وهو طبيعي الفعل بالنسبة إلى القيودات الثانوية منها
قصد الأمر، باعتبار أنه إذا استحال تقييده بها استحال اطلاقه، وهذا معنى أنه
مهمل، وحاصل الاشكال أنه غير معقول من الشارع الحكيم، باعتبار أنه عالم
بالواقع فيعلم أن حكمه المجعول إما مطلق في الواقع ومقام الثبوت أو مقيد فيه ولا
ثالث في البين، فالنتيجة أنه لا يمكن أن يكون اشكال السيد الأستاذ (قدس سره) مبنيا على
تفسير الاهمال في كلام المحقق النائيني (قدس سره) بالاهمال الوجودي وهو الفرد المردد

(1) بحوث في علم الأصول 2: 91.
282

هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أنه لا يمكن حمل كلام المحقق النائيني (قدس سره) على أن مراده من
إهمال متعلق الأمر الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة العارية عن جميع
الخصوصيات حتى خصوصية المقسمية، لأن هذه الطبيعية مساوقة للطبيعة
المطلقة ذاتا وتنطبق على جميع أفرادها النوعية والصنفية والشخصية أو أنها
مساوقة للطبيعة المقيدة، على أساس أنها في قوة المقيدة، وعلى هذا فلا اهمال في
متعلق الأمر حتى يتصدى لرفعه بمتمم الجعل، فالالتجاء إلى تتميمه اطلاقا أو
تقييدا ثبوتا قرينة على أن مراده (قدس سره) من الاهمال ليس تعلق الأمر بالطبيعة
المهملة، وإلا فلا حاجة إلى المتمم هذا، ولا يبعد أن يكون مراده (قدس سره) أنه مع اشتماله
التقييد واستحالة الاطلاق لا يمكن كشف مراد المولى في الواقع اثباتا وأنه مهمل
في هذا المقام لا ثبوتا، فالحاجة إلى المتمم لاحراز مراده اطلاقا أو تقييدا في مقام
الاثبات.
الفارق الثالث بين الواجب التعبدي والتوصلي
في الملاك
وأما الكلام فيه، فقد جاء في الكفاية أنه لا فرق بين الواجب التوصلي
والواجب التعبدي لا في الأمر ولا في المتعلق وإنما الفرق بينهما في الملاك، حيث إن
الأمر التوصلي يسقط بمجرد الاتيان بمتعلقه وهو ذات الفعل لحصول الغرض به،
بينما الأمر التعبدي لا يسقط بذلك إلا مع قصد القربة، لأن الغرض منه لا يحصل
إلا به، والأمر يدور مداره ثبوتا وسقوطا لا مدار الاتيان بمتعلقه.
283

والخلاصة: أنه لا فرق بين الأمر المتعلق بالواجب التعبدي والأمر المتعلق
بالواجب التوصلي كما أنه لا فرق بينهما في نفس الواجب، وإنما الفرق بينهما في
الغرض الداعي إلى الأمر، فإنه لا يترتب في الواجب التعبدي على الاتيان به
بدون قصد القربة، بينما هو مترتب في الواجب التوصلي على الاتيان به مطلقا،
ومن هنا يكون الحاكم باعتباره في العبادات هو العقل دون الشرع، على أساس
أن الغرض منها لا يحصل بدونه فلا يسقط أمرها أيضا، فإنه يدور مدار حصول
الغرض وعدم حصوله، فإن حصل سقط وإلا فلا وإن تحقق متعلقه في الخارج،
فالنتيجة أن ما أفاده (قدس سره) يتضمن عدة نقاط.
الأولى: أن أخذ قصد الأمر في متعلقه لا يمكن لا بالأمر الأول ولا بالأمر
الثاني، وأما أخذ سائر الدواعي القريبة فيه وإن كان بمكان من الامكان إلا أنه
مقطوع العدم كما تقدم.
الثانية: أنه لا فرق بين الواجب التعبدي والواجب التوصلي لا في المتعلق ولا
في الأمر، وإنما الفرق بينهما في الغرض المترتب عليهما، فإن حصوله في الواجب
التعبدي يتوقف على قصد القربة دون الواجب التوصلي.
الثالثة: أن الحاكم باعتبار قصد القربة في الواجب التعبدي العقل دون
الشرع، وللمناقشة في هذه النقاط مجال واسع (1).
أما النقطة الأولى، فقد تقدم الكلام فيها وقلنا هناك أن أخذ قصد الأمر في
متعلقه بمكان من الامكان فلا حاجة إلى الإعادة.
وأما النقطة الثانية، فقد ظهر مما سبق أن الفرق بين الواجب التعبدي

(1) كفاية الأصول: 72 - 74.
284

والواجب التوصلي إنما هو في المتعلق، فإنه في الأول حصة خاصة من الفعل وهي
الحصة المقيدة بقصد القربة، وفي الثاني ذات الفعل هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أنه لو لم يكن فرق بينهما في المتعلق فلابد من الالتزام
بسقوط الأمر عند الاتيان بمتعلقه، بداهة أنه لا يعقل بقاء الأمر بعد تحقق متعلقه
في الخارج، وإلا لزم طلب الحاصل وهو محال.
وإن شئت قلت أن الأمر المتعلق بطبيعي الفعل لا محالة يسقط بتحققه في
الخارج، على أساس أن المطلوب منه صرف وجوده وهو يتحقق بأول الوجود.
وعليه فلا يعقل بقاء الأمر المتعلق به وإلا لزم طلب الحاصل، وأما إفتراض أمر
آخر فهو وإن كان معقولا إلا أن متعلقه الوجود الثاني، فإنه إذا تغير تغير الأمر
أيضا فلا يعقل بقاء الأمر الأول.
فالنتيجة، أن ما أفاده (قدس سره) من أن سقوط الأمر يدور مدار حصول الغرض
دون تحقق متعلقه فلا يمكن المساعدة عليه، لأن بقائه بعد تحقق متعلقه غير
معقول وإلا لزم طلب الحاصل، نعم إذا لم يحصل الغرض منه كان ذلك كاشفا عن
بقاء طبيعي الأمر لا شخصه.
فالنتيجة أن الفرق بين الواجب التعبدي والتوصلي إنما هو في المتعلق.
وأما النقطة الثالثة، فإن أراد بها أن العقل يدرك دخل قصد القربة في ملاك
الواجب العبادي وأنه لا يترتب عليه في الخارج إلا مع قصد القربة، فيرد عليه
أنه مبني على أن يكون للعقل طريق إلى ملاكات الأحكام الشرعية وإحرازها
وهذا مقطوع البطلان ومخالف للوجدان، ضرورة أنه لا طريق له إليها، وعلى
ذلك فليس بامكان العقل الحكم بأن قصد القربة معتبر في العبادات ودخيل في
285

ملاكها، وإن أراد (قدس سره) بها أن قصد القربة معتبر في استحقاق المثوبة وبدونه فلا
مثوبة، ففيه أن الأمر وإن كان كذلك إلا أن محل الكلام ليس في ذلك وإنما هو في
اعتباره في صحة المأمور به وعدم حصول الغرض منه بدونه، وقد عرفت أنه
ليس بامكان العقل الحكم بذلك. وإن أراد (قدس سره) بها أن العقل يحكم بذلك في موارد
الشك في دخله في حصول الغرض على أساس قاعدة الاشتغال، بتقريب أن
المقام ليس من موارد قاعدة البراءة، اما البراءة العقلية فلأن الشك هنا ليس في
الواجب قلة وكثرة، لأن الواجب معلوم بتمام أجزائه وشروطه والشك انما هو في
حصول الغرض بمجرد الاتيان به بدون قصد القربة، فيكون المقام من قبيل الشك
في المحصل والمرجع فيه قاعدة الاشتغال، وأما البراءة الشرعية فلأن الشك هنا
ليس في جزئيه شيء لواجب أو شرطية آخر شرعا لكي نرجع إليها، بل الشك
في المقام انما هو في حصول الغرض بالاتيان بالواجب بكامل أجزائه وشروطه
بدون قصد القربة، فيكون كالشك في المحصل والمرجع فيه قاعدة الاشتغال.
فيرد عليه أولا، أنه لا طريق لنا إلى الملاك والغرض في الواقع إلا من ناحية
الأمر، فإذا كان الأمر متعلقا بفعل كان كاشفا عن وجود الملاك فيه، وفي المقام بما
أنه تعلق بذات الفعل بدون تقييده بقصد القربة فهو يكشف عن وجود مصلحة
فيه، وعلى هذا فلو شك في تحقق الغرض من جهة احتمال أن قصد القربة دخيل
فيه، كان على المولى بيان ذلك ولو بجملة خبرية، فإن أخذه في متعلق الأمر
لا يمكن، وأما بيان اعتباره ودخله في الملاك بطريق آخر فهو بمكان من الامكان،
ومع ذلك فإذا لم يقم بيان عليه من قبل المولى، فلا مانع من الرجوع إلى قاعدة
قبح العقاب بلا بيان، بل لا مانع من الرجوع إلى البراءة الشرعية أيضا.
فالنتيجة، في نهاية المطاف أن ما اختاره المحقق الخراساني (قدس سره) في المقام لا يرجع
286

إلى معنى صحيح.
نتائج البحث نلخصها في عدة نقاط:
الأولى: أن في الفرق بين الواجب التعبدي والواجب التوصلي ثلاثة أقوال:
الأول: أن الفرق بينهما في المتعلق.
الثاني: أن الفرق بينهما في الملاك.
الثالث: أن الفرق بينهما في الأمر.
الثانية: أن المشهور بين المحققين من الأصوليين استحالة أخذ قصد الأمر في
متعلق نفسه، وقد استدل على ذلك بوجوه.
الثالثة: أن ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) من أنه لو كان مأخوذا في متعلق نفسه،
فلابد من أخذ الأمر الذي هو متعلق القصد مفروض الوجود في الخارج، ولا زم
ذلك اتحاد الحكم والموضوع جعلا ومجعولا.
فجوابه: أن متعلق المتعلق وإن كان هو الأمر، إلا أن أخذه مفروض الوجود
في الخارج مبني على نكتتين:
الأولى: إثباتية وهي متمثلة في الظهور العرفي للدليل على ذلك.
والأخرى: ثبوتية وهي متمثلة في حكم العقل بذلك، بملاك أنه لو لم يؤخذ
مفروض الوجود لزم التكليف بغير المقدور، وكلتا النكتتين غير متوفرة في
المقام، فلهذا لا مقتضي لأخذه مفروض الوجود على تفصيل تقدم.
الرابعة: أن ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) من أن الخطابات التحريمية غير ظاهرة
في أنها مجعولة على نهج القضايا الحقيقية للموضوع المفروض الوجود في
287

الخارج، قد تقدم تفصيله.
الخامسة: أن تحقق الأمر وحده يكفي في القدرة واقعا على قصد امتثاله، غاية
الأمر أن المكلف قد يكون جاهلا بقدرته عليه من جهة جهله بالأمر، وهذا
الجهل لا يمنع عن اطلاق التكليف وإنما يمنع عن تنجزه.
السادسة: أن أخذ قصد الأمر في متعلقه بوجوده العنواني في أفق الذهن
لا يستلزم التهافت بنظر الآمر، حيث إنه يعلم بعدم واقع له مفروغ عنه في
الخارج، ولكن مع ذلك له أن يأخذه في متعلقه بملاك أن مصداقه سوف يتحقق
ويفي بالغرض لا بملاك أنه موجود في الذهن بنحو المعنى الاسمي على
تفصيل هناك.
السابعة: أن ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) تارة بأن أخذ قصد الأمر في متعلقه
يستلزم تقدم الشئ على نفسه، لأنه بلحاظ أخذه في المتعلق يكون في مرتبة
الأجزاء وبلحاظ تعلقه بها يكون في مرتبة متأخرة عنها، وأخرى بأن أخذه فيه
يستلزم الدور، لأن الأمر مشروط بالقدرة على متعلقه ومتوقف عليها وهي
متوقفة على متعلقها، فلو أخذ قصد الأمر فيه لزم توقف الشئ على نفسه
غير تام.
أما الأول فهو مبني على أن يكون المأخوذ في المتعلق قصد الأمر بوجوده
الواقعي، ولكن قد مر أن المأخوذ فيه قصد الأمر بوجوده العنواني وهو لا يكون
متأخرا عن الأجزاء، فإذن ما هو متأخر عن الاجزاء غير ما هو في مرتبتها.
وأما الثاني فلان القدرة المعتبرة بحكم العقل إنما هي القدرة التعليقية أي لو
تعلق الأمر به، لا القدرة المطلقة والقدرة التعليقية موجودة.
288

الثامنة: أن ما أفاده المحقق الخراساني (قدس سره) تارة بأن قصد الأمر متأخر رتبة
عن نفس الأمر، وعليه فلو كان قصده مأخوذا في متعلقه لزم تقدمه على الأمر
بالرتبة، وأخرى بأن لازم أخذه في متعلق الأمر عدم التمكن من الامتثال، لأن
ذات الفعل لم تكن متعلقة للأمر فلا يمكن الاتيان بها بقصد الأمر إلا تشريعا
غير تام.
أما الأول: فلأن المتأخر عن الأمر هو قصده بوجوده الواقعي لا بوجوده
العنواني، والمأخوذ في المتعلق هو القصد بوجوده العنواني وهو لا يتوقف على
الأمر في الخارج حتى يلزم تقدم الشئ على نفسه.
وأما الثاني: فلأن الاتيان بالجزء مستقلا بداعي الأمر غير ممكن لأنه لا أمر
به، وأما الاتيان به ملحوقا بجزء ومسبوقا بآخر بداعي الأمر فلا شبهة فيه، وفي
المقام إذا أتى المكلف بالصلاة مثلا بقصد الأمر فقد أتى بالواجب بكلا جزئيه
وسقط الأمر المتعلق بالمجموع، وقد تقدم تفصيل ذلك.
التاسعة: أن ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) في الجواب عن الثاني، بأن الأمر
المتعلق بالمجموع المركب من الفعل وقصد الأمر ينحل إلى أمرين ضمنيين:
أحدهما متعلق بذات الفعل، والآخر متعلق بقصد الأمر، وحينئذ فيتمكن
المكلف من الاتيان بذات الفعل بقصد امتثال أمرها الضمني الذي هو المأخوذ في
المتعلق دون الأمر الاستقلالي، فإن أخذه فيه لا يمكن غير تام. وذلك لأن الأمر
الضمني لا يمكن أن يكون داعيا إلا بداعوية الأمر الاستقلالي، ولهذا كان يأتي
المكلف بكل جزء جزء من الواجب بداعي الأمر الاستقلالي المتعلق به مرتبطا
بسائر الأجزاء، وعلى هذا فبإمكان المكلف الاتيان بذات الفعل بقصد امتثال
الأمر الاستقلالي المتعلق بها مع قصد الأمر.
289

هذا إضافة إلى أنه لا واقع موضوعي للأمر الضمني إلا بتحليل من العقل
بالعرض لا بالذات فلا أثر له، وحينئذ فلا مانع من أن يكون قصد الأمر
الاستقلالي مأخوذا في متعلقه، ولا يلزم منه محذور كما تقدم تفصيله.
العاشرة: أن ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) من أنه لا مانع من كون الواجب مركبا
من جزئين: أحدهما يكون تعبديا، والآخر توصليا وما نحن فيه من هذا القبيل،
فإن الأمر الضمني المتعلق بذات الفعل فهو أمر تعبدي، والأمر الضمني المتعلق
بقصد الأمر فهو أمر توصلي.
لا يمكن المساعدة عليه، إذ مضافا إلى أن الأمر الضمني لا يمكن أن يكون
داعيا إلا بداعوية الأمر الاستقلالي، أنه لا واقع له إلا بتحليل من العقل، فإذن لا
مجال للبحث عن أنه مقرب أو لا.
الحادية عشر: أنه لا مانع ثبوتا وإثباتا من أخذ قصد الأمر الاستقلالي في
متعلقه، بأن يكون الواجب مركبا من ذات الفعل وقصد الأمر الاستقلالي، وفي
مقام الاثبات يتعلق الأمر بالمجموع المركب منهما، وحينئذ فإذا قام المكلف
بالاتيان بذات الفعل بقصد امتثال الأمر الاستقلالي المتعلق بها مرتبطة بالجزء
الآخر وهو قصد الأمر بوجوده العنواني، فقد أتى بكلا الجزئين معا على تفصيل
قد سبق.
الثانية عشر: أن ما ذكره المحقق الأصبهاني (قدس سره) من أنه يلزم من أخذ قصد
الأمر في متعلقه داعوية الأمر لداعوية نفسه، وهذا كعلية الشئ لنفسه
مستحيلة، مبني على الخلط بين كون المأخوذ فيه واقع قصد الأمر وبين كون
المأخوذ فيه عنوانه الذهني، والمحذور المذكور إنما يلزم لو كان المأخوذ فيه الأول
دون الثاني، والمفروض أن المأخوذ فيه هو الثاني دون الأول، فإذن لا محذور كما
290

أن ما ذكره (قدس سره) من أنه يلزم من أخذ قصد الأمر في متعلقه عدم أخذه فيه، مبني
على هذا الخلط على تفصيل قد مر.
الثالثة عشر: أن المحقق العراقي (قدس سره) قد ذكر أن المستحيل إنما هو أخذ قصد
الأمر في متعلقه جزء وقيدا، وأما إذا لم يكن مأخوذا فيه كذلك بأن يكون متعلقه
الحصة التوأم معه بدون كونه جزء وقيدا له، فلا محذور فيه ولا مانع منه، ولكن
تقدم أن الحصة التوأم لا ترجع إلى معنى محصل، لأن قصد الأمر إذا لم يكن قيدا
لمتعلق الأمر لم يوجب تحصصه بحصة خاصة، فإذن يلزم من إفتراض كون الأمر
متعلقا بالحصة عدم كونه متعلقا بها وهذا خلف.
الرابعة عشر: أن أخذ قصد الأمر في متعلقه مباشرة وإن كان مستحيلا، إلا
أنه لا مانع من أخذه فيه بواسطة عنوان ملازم له كعنوان عدم صدور الفعل بداع
دنيوي أو نفساني، فإنه ملازم لصدوره بداع إلهي، ولا يرد عليه ما علقه المحقق
النائيني (قدس سره) وقد تقدم تفصيله، نعم يرد عليه ما ذكرناه من أنه لا يفيد ولا يدفع
محذور الدور وداعوية الشئ لداعوية نفسه على ما مر.
الخامسة عشر: أن أخذ سائر الدواعي القريبة في متعلق الأمر كقصد
المحبوبية أو المصلحة أو نحوها وإن كان بمكان من الامكان، إلا أن أخذها
فيه بالخصوص غير محتمل، إذ لازم ذلك عدم صحة الاتيان بالعبادة بقصد
أمرها وهو كما ترى.
السادسة عشر: الظاهر أن المأخوذ في متعلق الأمر هو الجامع بين قصد الأمر
وقصد المحبوبية والمصلحة وغيرها من الدواعي القربية.
السابعة عشر: أن المحقق النائيني (قدس سره) قد ذكر أنه لا يمكن أخذ سائر الدواعي
القربية في متعلق الأمر أيضا، بنكته أنها منشأ وسبب لإرادة العبادة، فلو كانت
291

مأخوذة منها لكانت في عرضها متعلقة للإرادة ومعلولة لها، وحينئذ فيلزم
كونها متأخرة عن نفسها وهو محال.
ولكن قد تقدم أن ما ذكره (قدس سره) من النكتة مبني على الخلط بين الفعل بوجوده
الخارجي والفعل بوجوده الذهني، لأن ما هو متعلق الإرادة ومنشأ وجودها في
أفق النفس هو تصور الفعل بما له من الفائدة والتصديق بها، وما هو معلول لها هو
الفعل بوجوده الخارجي.
الثامنة عشر: أن ما قيل من أنه لا يمكن أخذ قصد المصلحة في متعلق الأمر
كالصلاة مثلا، لأنه يتوقف على اشتمال الصلاة على المصلحة في المرتبة السابقة
وترتبها عليها، والمفروض أنه لو كان مأخوذا فيها كان دخيلا في ترتبها عليها،
فإذن يلزم الدور، مدفوع بأنه مبني على الخلط بين المصلحة بوجودها الذهني
والمصلحة بوجودها الخارجي على تفصيل تقدم.
التاسعة عشر: أن عبادية الواجب العبادي إنما هي بتعدد الأمر طولا، فالأمر
الأول تعلق بذات الفعل والأمر الثاني تعلق بالاتيان به بداع الأمر الأول، وبذلك
يفترق عن الواجب التوصلي.
العشرون: أن صاحب الكفاية (قدس سره) قد أشكل بأنه لا يمكن أخذ قصد القربة في
متعلق الأمر حتى بالأمر الثاني، معللا بأن المكلف إذا أتى بذات الفعل، فإن سقط
الأمر الأول سقط الأمر الثاني أيضا بسقوط موضوعه، وإن لم يسقط فالعقل
مستقل بلزوم الاتيان بها بقصد الامتثال، فيكون الأمر الثاني لغوا على كل تقدير.
وأورد المحقق الأصبهاني (قدس سره) عليه، بأنه لا مانع من الالتزام بكلا شقي من
كلامه، وقد أفاد وجه ذلك في مقالة طويلة تقدمت، وتقدم منا نقدها.
292

الحادية والعشرون: أن الأمر الثاني لا يمكن أن يكون أمرا مولويا مستقلا
جعلا ومجعولا عن الأمر الأول، وإلا لزم تعدد المأمور به وهو خلف، بل هو أمر
ارشادي، فيكون مفاده الارشاد إلى شرطية قصد القربة واعتباره في متعلق
الأمر الأول وأنه حصة خاصة من الفعل، وهي الحصة المقيدة بقصد القربة لا
ذات الفعل.
الثانية والعشرون: أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن الأمر الأول متعلق
بالطبيعة المهملة من حيث التقييد والاطلاق، والأمر الثاني متمم له اطلاقا أو
تقييدا، مبني على مسلكه (قدس سره) من أن التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم
والملكة، فاستحالة أحدهما تستلزم استحالة الاخر، وحيث إن التقييد في المقام
مستحيل فالاطلاق أيضا كذلك، فلهذا يحتاج إلى المتمم، ولكن حيث إن المسلك
غير تام، فلا يتم ما أفاده (قدس سره).
الثالثة والعشرون: أن ما جاء في الكفاية من أنه لا فرق بين الواجب التعبدي
والواجب التوصلي لا في الأمر ولا في المتعلق وإنما الفرق بينهما في الغرض، فإنه في
الواجب التعبدي لا يترتب إلا على الاتيان به بقصد القربة، بينما في الواجب
التوصلي يترتب عليه بدونه غير تام، والصحيح أن الفرق بينهما في المتعلق، فإنه
حصة خاصة في الواجب التعبدي وهي الحصة المقيدة بقصد القربة، وذات الفعل
في الواجب التوصلي.
293

الأصل اللفظي والعملي في موارد الشك
أما الكلام في الجهة الثانية، فتارة يقع في مقتضى الأصل اللفظي على القول
باستحالة أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، وأخرى على القول بامكان
أخذه فيه.
وهنا أقوال أخرى تفصيلية في المسألة ستأتي الإشارة إليها، فها هنا مقامان:
المقام الأول: في نقطة التقابل بين الاطلاق والتقييد وما هي حقيقة
هذه النقطة.
المقام الثاني: في امكان التمسك بالاطلاق وعدم امكانه، أو التفصيل في
المسألة بين الأقوال فيها.
أما الكلام في المقام الأول ففيه بحوث:
البحث الأول: أن فيه آراء:
الرأي الأول: أن التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة.
الرأي الثاني: أن التقابل بينهما من تقابل التضاد.
الرأي الثالث: أن التقابل بينهما من تقابل الإيجاب والسلب.
أما الرأي الأول، فقد اختاره المحقق النائيني (قدس سره) وقد أفاد في وجه ذلك، أن
الاطلاق ليس عبارة عن عدم التقييد مطلقا، بل هو عبارة عن عدم تقييد خاص
وهو عدم التقييد في مورد القابل كالعمى والبصر، فإن العمى عدم البصر لا
مطلقا، بل عدم البصر في محل قابل للبصر، ولهذا لا يصح اطلاق العمى على
294

الجدار، باعتبار أنه غير قابل للاتصاف بهذا الوصف، ومن هنا تستلزم استحالة
التقييد استحالة الاطلاق، وفي مثل ذلك لا يمكن التمسك بالاطلاق في مقام
الاثبات للكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت، إذ لا اطلاق فيه بلحاظ أن في كل
مورد استحال التقييد فيه ثبوتا استحال الاطلاق فيه كذلك، فلا يصل الدور
حينئذ إلى مقام الاثبات.
بيان ذلك أن الماهية المهملة قابلة للتقييد ذاتا بالقيودات الأولية الذاتية
والعرضية وهي القيودات التي تعرض عليها بعنوانها الأولي وبقطع النظر عن أي
جهة خارجية ثانوية، كما أنها قابلة للاطلاق كذلك بالنسبة إليها بدون التوقف
على مؤونة زائدة كماهية الانسان، فإنها قابلة للتقييد بالقيودات الأولية التي
تطرأ عليها في المرتبة السابقة، كما أنها قابلة للاطلاق بالنسبة إليها بدون التوقف
على أي مؤونة لحاظية، ومنها ماهية الصلاة مثلا فإنها قابلة للتقييد والاطلاق
معا بالنسبة إلى قيوداتها الأولية التي تعرض عليها في المرتبة السابقة وبقطع النظر
عن تعلق الأمر بها، هذا كله بالنسبة إلى القيودات الأولية الذاتية والعرضية التي
تطرأ على الماهية في المرتبة السابقة وبقطع النظر عن طرد عنوان ثانوي عليها.
وأما بالنسبة إلى القيودات الثانوية التي تطرأ على الماهية بعد اتصافها بعنوان
ثانوي كالقيودات التي تعرض على الصلاة مثلا بعد تعلق الأمر بها كقصد القربة
وقصد التمييز ونحوهما التي تتولد بواسطة تعلق الأمر بها ومعلولة له ولا وجود لها
قبل ذلك، فحيث إنه لا يمكن تقييدها بها لا يمكن اطلاقها أيضا، على أساس أن
استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق، بملاك أن التقابل بينهما من تقابل
العدم والملكة (1)، فالنتيجة أنه على هذا القول لا يمكن التمسك بالاطلاق في مقام

(1) أجود التقريرات 2: 416.
295

الاثبات للكشف عنه في مقام الثبوت لأنه تابع له، فإذا لم يمكن ثبوتا لم يمكن
اثباتا أيضا.
وأما الرأي الثاني، فقد اختاره السيد الأستاذ (قدس سره) وقال في تفسير ذلك، أن
الاطلاق عبارة عن رفض القيود وإلغائها ولحاظ عدمها في موضوع الحكم أو
متعلقه، والتقييد عبارة عن لحاظ قيد من القيود فيه، فالاطلاق على هذا أمر
وجودي كالتقييد، وعليه فلا محالة يكون التقابل بينهما من تقابل التضاد لا العدم
والملكة، وقد أفاد في وجه ذلك أن الخصوصيات والانقسامات الطارئة على
موضوع الحكم ومتعلقه سواءا كانت من الخصوصيات النوعية أو الصنفية أو
الشخصية، فلا تخلو من أن يكون لها دخل في الحكم والغرض أو لا يكون لها
دخل في ذلك ولا ثالث لهما، وعلى الأول فبطبيعة الحال يتصور المولى موضوع
الحكم أو متعلقه مع تلك الخصوصية التي لها دخل فيه، وهذا هو معنى التقييد،
وعلى الثاني يتصور الموضوع أو المتعلق مع لحاظ عدم تلك الخصوصيات التي
ليس لها دخل فيه ورفضها عنه. وهذا هو معنى الاطلاق، ومن الطبيعي أن
النسبة بين اللحاظ الأول واللحاظ الثاني نسبة التضاد، فلا يمكن اجتماعها في
شيء واحد من جهة واحدة.
وبكلمة، أن الغرض لا يخلو من أن يكون قائما بالطبيعي الجامع بين كافة
خصوصياته أو قائما بحصة خاصة منه ولا ثالث لهما، فعلى الأول لابد من لحاظه
بنحو الاطلاق والسريان رافضا عنه جميع القيود والخصوصيات الطارئة عليه،
وعلى الثاني لابد من لحاظه مقيدا بقيد خاص وهو الحصة ولا ثالث في البين،
فإن مرد الثالث وهو لحاظه بلا رفض القيود وبلا لحاظ تقيده بقيد خاص إلى
الاهمال في الواقع وهو من المولى الملتفت مستحيل، وعليه فالموضوع أو المتعلق
296

في الواقع إما مطلق أو مقيد هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الاطلاق والتقييد على ضوء هذا البيان أمران
وجوديان، فإذن بطبيعة الحال يكون التقابل بينهما من تقابل الضدين (1).
ونتيجة هذا الرأي أن استحالة التقييد تستلزم ضرورة الاطلاق على عكس
نتيجة الرأي الأول.
وأما الرأي الثالث: فيظهر اختياره من جماعة وهو الصحيح، والنكتة في ذلك
أن انطباق الطبيعة على تمام أفرادها من العرضية والطولية وسريانها إليها بمختلف
أشكالها وأصنافها ذاتي وقهري ولا يتوقف على أي عناية زائدة غير عدم لحاظ
القيد فيها الذي هو نقيض لحاظ القيد، فلذلك يكون التقابل بينهما من تقابل
الايجاب والسلب لا العدم والملكة ولا التضاد.
بيان ذلك أن الماهية المطلقة كماهية لا بشرط التي هي في مقابل الماهية بشرط
لا وبشرط شيء قابلة للانطباق على كافة أفرادها من النوعية والصنفية
والشخصية، ومن الطبيعي أن هذه القابلية ذاتية لا لحاظية، على أساس أنها
بذاتها وذاتياتها محفوظة فيها ولا تتوقف على أي مقدمة خارجية وعناية زائدة،
ولا يمكن المنع عن هذا الانطباق وسلخه عن الماهية، لأنه من سلخ الشئ عن
ذاته وذاتياته، نعم إذا لوحظ قيد معها فتصبح ماهية مقيدة وزال الاطلاق عنها
بزوال موضوعه، باعتبار أنه بلحاظ القيد يوجد في عالم الذهن مفهوم جديد
وماهية أخرى مباينة للماهية الأولى وهي الماهية المقيدة في مقابل الماهية المطلقة،
مثلا ماهية الانسان مع عدم لحاظ قيد تنطبق على تمام أفرادها من الانسان العالم

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 173.
297

والجاهل والعادل والفاسق والغني والفقير وهكذا، وهذا الانطباق كما مر ذاتي
ولا يتوقف على أي شيء آخر غير عدم لحاظ القيد الذي هو نقيض لحاظ القيد،
وعلى هذا فيكفي في كون موضوع الحكم أو متعلقه ماهية مطلقة عدم لحاظ القيد
معه، باعتبار أنه صالح ذاتا للانطباق على تمام أفراده كما عرفت، ولا تنتفي هذه
الصلاحية الذاتية عنه إلا بلحاظ القيد، فإن لوحظ انتفت بانتفاء موضوعها
وتحدث ماهية جديدة. لحد الآن قد تبين بوضوح أن الاطلاق في مقابل التقييد
عبارة عن عدم لحاظ القيد في موضوع الحكم أو متعلقه الذي هو نقيض لحاظ
القيد فيه، فلذلك يكون التقابل بينهما من تقابل الايجاب والسلب، لا أنه عبارة
عن عدم لحاظ القيد في موضوع قابل للتقييد، بداهة أن هذه القابلية غير معتبرة
في صلاحية الماهية للانطباق على تمام أفرادها وسريانها إليها، لأنها ذاتية
ولا يمكن دخالة شيء آخر فيها وإناطتها بأمر خارج، لاستحالة أن تكون
معلولة لعلة أجنبية، وإلا لزم أحد محذورين، إما تفكيك الشئ عن أفراده الذي
هو محفوظ فيها بذاته وذاتياته أو الخلف أي ما فرض أنه ذاتي فليس بذاتي،
وكلاهما مستحيل، وحيث إنه يكفي في هذا الاطلاق عدم لحاظ القيد، فلا فرق
بين أن يكون عدم لحاظ القيد من جهة عدم إمكان تقييدها به أو من جهة عدم
دخله في الغرض والملاك، فالنتيجة أنه لا يمكن أن يكون التقابل بينهما من تقابل
العدم والملكة هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الاطلاق كما لا يمكن أن يكون عبارة عن عدم خاص،
كذلك لا يمكن أن يكون عبارة عن أمر وجودي أيضا وهو لحاظ عدم القيد
ورفضه، بداهة أن ذلك غير دخيل في اطلاق الماهية وصلاحيتها للانطباق على
كل ما يمكن أن يكون فردا لها لما عرفت من أنها ذاتية، فلا تتوقف على أي شيء
غير عدم لحاظ القيد دون لحاظ عدم القيد ورفضه.
298

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالية:
الأولى: أن الرأي القائل بأن التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل الايجاب
والسلب، هو الرأي الصحيح الموافق للطبع الأولي والوجدان العقلي.
الثانية: أن الرأي القائل بأن التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم
والملكة، فقد عرفت أنه غير سديد ولا واقع موضوعي له.
الثالثة: أن الرأي القائل بأن التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل التضاد
مبني على الخلط بين الاطلاق الذاتي والاطلاق اللحاظي، والكلام إنما هو في
الأول، فإنه يسري إلى أفراده طبعا وذاتا وبدون أي مؤونة زائدة دون الثاني،
فإنه لا وجود له إلا في عالم اللحاظ ولا ينطبق مع هذا القيد على ما في الخارج، إلا
أن يقال أن اللحاظ مرآة إلى الواقع ولا موضوعية له لكي يمنع عن الانطباق،
ولكن حينئذ لا حاجة إليه لعدم توقف الانطباق عليه كما تقدم.
البحث الثاني: أن السيد الأستاذ (قدس سره) أشكل على ما اختاره المحقق النائيني (قدس سره)
بوجهين:
الأول: أن استحالة التقييد تستلزم ضرورة الاطلاق أو ضرورة التقييد
بخلافه، لا أنه تستلزم استحالة الاطلاق، وقد أفاد في وجه ذلك أن الاهمال في
الواقع مستحيل، لأن الغرض الداعي إلى جعل الحكم على شيء لا يخلو من أن
يقوم بطبيعي ذلك الشئ الجامع بين خصوصياته من دون دخل شيء منها فيه أو
بحصة خاصة منه ولا ثالث لهما، فعلى الأول لا محالة يلاحظ تلك الحصة
الخاصة منه، وعلى كلا التقديرين فلا اهمال في الواقع، لأن الحكم على الأول
مطلق وعلى الثاني مقيد، ولا فرق في ذلك بين الانقسامات الأولية والثانوية،
بداهة أن المولى الملتفت إلى انقسام الصلاة خارجا إلى الصلاة مع قصد القربة
299

والصلاة بدونه، لا محالة إما أن يعتبرها على ذمة المكلف بنحو الاطلاق أو
يعتبرها مقيدة بقصد القربة ولا يتصور ثالث، لأن مرد الثالث إلى الاهمال
بالإضافة إلى هذه الخصوصية وهو غير معقول، كيف فإن مرده إلى عدم علم
المولى بمتعلق حكمه أو موضوعه سعة وضيقا وهو كما ترى.
وعلى هذا فإذا افترضنا استحالة تقييدها بقصد القربة في الواقع، فالاطلاق
ضروري أو التقييد بخلافه، وبذلك يظهر أن التقابل بين الاطلاق والتقييد لا يمكن
أن يكون من تقابل العدم والملكة.
الثاني: أنا لو سلمنا أن التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة، إلا أن ما
ذكره (قدس سره) من أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق، غير تام نقضا وحلا.
أما نقضا فمجموعة من الموارد، منها أن الانسان جاهل بكنه ذاته تعالى
وليس بامكانه الإحاطة به، لاستحالة إحاطة الممكن بالواجب بالذات، فإذا
استحال علم الانسان بذاته تعالى كان جهله بها ضروريا، مع أن التقابل بين
الجهل والعلم من تقابل العدم والملكة، فلو كانت استحالة العلم شيء تستلزم
استحالة الجهل به، لزم استحالة جهل الانسان بكنه ذاته سبحانه وهو كما ترى.
ومنها، أن استحالة قدرة الانسان على الطيران في السماء مثلا تستلزم ضرورة
عجزه عنه لا استحالته، مع أن التقابل بين القدرة والعجز من تقابل
العدم والملكة.
ومنها، أن استحالة استطاعة الانسان على حفظ جميع الكتب الموجودة في
هذه المكتبة تستلزم ضرورة عجزه عن ذلك لا استحالته، مع أن التقابل بين
الاستطاعة والعجز من تقابل العدم والملكة ومنها غير ذلك.
300

وأما حلا، فلأن قابلية المورد التي هي معتبرة بين العدم والملكة لا يلزم أن
تكون شخصية وموجودة في كل مورد، بحيث لو لم تكن في مورد لم يكن التقابل
بينهما فيه من تقابل العدم والملكة، بل أنها قد تكون شخصية وقد تكون نوعية
وقد تكون جنسية، ومن هنا ذكر الفلاسفة أن القابلية المعتبرة بين الاعدام
والملكات ليست شخصية في كل مورد، بل الأعم منه ومن الصنفية والنوعية
والجنسية حسب اختلاف الموارد والمقامات، فلا يعتبر في صدق العدم المقابل
للملكة على مورد أن يكون ذلك المورد بخصوصه قابلا للاتصاف بالملكة، فإنه
كما يكفي ذلك يكفي في صدقه أن يكون صنف هذا المورد أو نوعه أو جنسه قابلا
للاتصاف بها.
والخلاصة: أن كون التقابل بين العلم والجهل والقدرة والعجز ونحوهما من
تقابل العدم والملكة إنما هو بلحاظ قابلية المحل نوعا لا شخصا، وعلى هذا
فالتقابل بين الاطلاق والتقييد وإن كان من تقابل العدم والملكة، إلا أنه لا يلزم
أن يكون ذلك بلحاظ قابلية شخص المحل لكي تستلزم استحالة التقييد استحالة
الاطلاق في كل مورد، إذ يمكن أن يكون ذلك بلحاظ قابلية نوع المحل (1) هذا،
وللنظر في كلا التعليقين مجال.
أما التعليق الأول فهو مبنائي، فإن من يقول بأن التقابل بين الاطلاق والتقييد
من تقابل العدم والملكة، فلا مناص له من الالتزام بأن استحالة التقييد تستلزم
استحالة الاطلاق، ولكن هل يكون لازم ذلك إهمال الواقع بمعنى عدم علم
الحاكم بموضوع حكمها ومتعلقه سعة أو ضيقا، أو بمعنى إهمال المأمور به من
حيث الاطلاق والتقييد بلحاظ عدم امكان ذلك بالدليل الأول مع علم الحاكم

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 175 - 176.
301

بمراده سعة أو ضيقا في الواقع، ولكن ليس بامكانه بيانه تقييدا أو اطلاقا بالدليل
الأول، فلهذا التجأ إلى بيانه كذلك بالدليل الثاني وهو متمم الجعل فيه وجهان:
الظاهر أن مراد المحقق النائيني (قدس سره) الثاني، إذ لا يحتمل أن يكون مراده (قدس سره) من
إهمال الواقع جهل الحاكم بالحكم المجعول سعة وضيقا، بداهة أن ذلك غير
معقول بالنسبة إلى المولى الحكيم العالم بالواقع بتمام خصوصياته، سواء أكانت من
الخصوصيات الأولية أم الثانوية، أما الأولية فهي التي تقسم الطبيعة المأمور بها
إليها في المرتبة السابقة على الأمر وبقطع النظر عن تعلقه بها، وذلك كالصلاة
بالنسبة إلى الطهارة من الحدث والخبث واستقبال القبلة والقيام والاستقرار وما
شاكل ذلك.
وأما الثانوية، فهي التي تقسم الطبيعة المأمور بها إليها في المرتبة المتأخرة عن
الأمر وبعد تعلقه بها، وذلك كالصلاة بالنسبة إلى قصد القربة وقصد التمييز، وعلى
هذا فالمولى في مقام جعل الوجوب على الصلاة، فلا محالة يلاحظ جميع
خصوصياتها الأولية والثانوية، فما هو منها دخيل في ترتب الملاك على الصلاة
خارجا يقيد الصلاة به، بلا فرق بين أن يكون ذلك من القيودات الأولية أو
الثانوية كقصد القربة، فإنه إذا كان دخيلا في ترتب الملاك على الصلاة فلا محالة
يقيد الصلاة به كتقييدها بغيره من القيودات التي لها دخل في ذلك، فيكون
المأمور به حصة خاصة من الصلاة وهي الصلاة المقيدة بقصد القربة، وإن لم يكن
دخيلا فيه فالمأمور به هو الصلاة المطلقة من هذه الناحية، غاية الأمر على القول
بأن التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة لا يمكن هذا التقييد
بدليل الأمر الأول، وعلى المولى حينئذ بيانه بدليل آخر ولو كان بجملة خبرية
تقييدا أو اطلاقا. ودعوى أن الصلاة لا يمكن أن تكون مقسما للقيودات الثانوية
302

إلا بعد تعلق الأمر بها وفي المرتبة المتأخرة عنه، حيث لا يمكن لحاظ تلك
القيودات فيها قبل وجود الأمر بها حتى يمكن أن تكون مقيدة بها أو مطلقة، وأما
تحقق تلك القيودات في المرتبة المتأخرة عن الأمر وبعد تعلقه بها، فحيث إنه كان
بعد تحديد متعلقه تقييدا أو اطلاقا في المرتبة السابقة، فلا يمكن تقييده بها أو
اطلاقه وإلا لزم الخلف، والحاصل أن تقسيم الصلاة إلى الحصة المقيدة بقصد
القربة وإلى غيرها يتوقف على تعلق الأمر بها، وإلا فلا موضوع لهذا التقسيم.
مدفوعة بأنها مبتنية على الخلط بين مقسمية الصلاة للحصص في الخارج
بقطع النظر عن تعلق الأمر بها وبين مقسميتها في عالم المفهوم للحصص فيه،
فالحصص الخارجية تتوقف على تعلق الأمر بها وفي المرتبة المتأخرة عنه، وأما
الحصص الذهنية التي هي حصص لها في عالم المفهوم، فلا تتوقف على وجود
الأمر بها ولا تكون في المرتبة المتأخرة عنه، فإذن لا مانع من تصور المولى في
مقام جعل الحكم لشيء كالصلاة مثلا جميع قيوداته من الأولية والثانوية، ولا
يتوقف هذا التصور على وجود الأمر في المرتبة السابقة وتعلقه به خارجا، وإنما
يتوقف على وجود الأمر في الذهن.
وإن شئت قلت أن المأخوذ في متعلق الأمر هو قصد الأمر بوجوده الذهني
وهو متقدم على الأمر بوجوده الواقعي الجعلي، وعليه فلا مانع من كون الصلاة
مقسما للحصص الثانوية بلحاظ وجوداتها الذهنية، لأنها بهذا اللحاظ لا
تتوقف على الأمر بوجوده الواقعي الجعلي، وإنما تتوقف على الأمر بوجوده
الذهني اللحاظي الفاني، فما هو في طول الأمر وجود القسمين في الخارج، وما هو
مقدم على الأمر وجود القسمين في عالم الذهن والمفهوم.
فالنتيجة، أن مقسمية الصلاة إنما تلحظ بالنسبة إلى خصوصياتها وقيوداتها
303

في مقام الجعل والاعتبار في عالم التصور واللحاظ وهو عالم الذهن، ومن الواضح
أن مقسميتها بالنسبة إلى حصصها وقيوداتها في هذا العالم على حد سواء، بلا
فرق بين أن تكون تلك الحصص والقيودات من الحصص والقيودات الأولية أو
الثانوية، لأن الأولية والثانوية إنما تلحظان بلحاظ وجوداتهما في الخارج، وأما
بلحاظ وجوداتهما في الذهن، فلا الأولية ولا الثانوية بل هما في عرض واحد.
وأما التعليق الثاني، فلأن قابلية المحل معتبرة بين العدم والملكة، لأن المحل إذا
كان قابلا للاتصاف بالملكة كان قابلا للاتصاف بعدمها، فيكون التقابل فيهما من
تقابل العدم والملكة، وعلى هذا فكل محل قابل للاتصاف بالعلم فهو قابل
للاتصاف بالجهل أيضا، ويكون التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة، وأما إذا لم
يكن المحل قابلا للاتصاف بالملكة كالعلم، لم يكن قابلا للاتصاف بالعدم المقابل
للملكة أيضا كالحيوان مثلا، فإنه غير قابل للاتصاف بالعلم، فإذا استحال
اتصافه به، استحال اتصافه بالجهل وهو عدم العلم الخاص المقابل للملكة،
لا عدم اتصافه به الذي هو نقيض الاتصاف فإنه ضروري، ومن هذا القبيل ما إذا
استحال علم الانسان بكنه ذاته تعالى وتقدس، استحال اتصافه بالجهل وهو
عدم العلم الخاص المقابل للملكة، من جهة أن المورد غير قابل للاتصاف بالعلم
ولا للاتصاف بعدمه الخاص من باب السالبة بانتفاء الموضوع، ومن هنا يكون
عدم الاتصاف به ضروريا لأنه نقيض الاتصاف، ففي كل مورد يكون المحل قابلا
فهو قابل للاتصاف بكليهما معا وإلا فهو غير قابل للاتصاف بكليهما كذلك، وهذا
معنى أن استحالة أحدهما يستلزم استحالة الآخر.
والخلاصة: أن امتناع العلم بكنه ذاته سبحانه وتعالى وامتناع قدرة الانسان
على الطيران في السماء وهكذا، يستلزم امتناع الاتصاف بالعدم الخاص وهو
304

العدم المقابل للملكة لا عدم الاتصاف بالعلم أو القدرة الذي هو نقيض الاتصاف
فإنه ضروري، وعليه فالجهل بمعنى الاتصاف بعدم العلم ممتنع من باب أنه لا
موضوع له، وأما الجهل بمعنى عدم الاتصاف بالعلم الذي هو نقيض الاتصاف
فهو ضروري، وكذلك الحال في العجز فإنه بمعنى الاتصاف بعدم القدرة ممتنع
لعدم كون المورد قابلا له، وأما بمعنى عدم الاتصاف بها فهو واجب، باعتبار أنه
نقيض الاتصاف، ومن هنا يظهر حال مسألة الاطلاق والتقييد أيضا، لأن في كل
مورد إذا أمكن فيه تقييد متعلق الأمر بقيد أمكن فيه اطلاقه أيضا، وفي كل مورد
إذا لم يمكن فيه تقييده بقيد كقصد القربة، لم يمكن فيه اطلاقه أيضا بمعنى الاتصاف
بعدم القيد، لأن المورد غير قابل له، لا بمعنى عدم الاتصاف بالقيد فإنه
ضروري، وعليه فإذا استحال تقييد الصلاة بقصد القربة، استحال اطلاقها أيضا
بمعنى الاتصاف بعدم قصد القربة، واما بمعنى عدم الاتصاف فهو ضروري، اما
استحالة الأول فمن جهة عدم قابلية المحل لا للاتصاف بالملكة ولا للاتصاف
بعدمها المقابل لها، وأما ضرورة الثاني فمن جهة أن استحالة أحد النقيضين
تستلزم ضرورة الآخر، فالنتيجة أن استحالة الملكة في كل مورد تستلزم
استحالة العدم المقابل لها فيه لا ضرورية.
هذا إضافة إلى أن مسألة الاطلاق والتقييد منوطة بنكتة واقعية وهي انطباق
الطبيعة على أفرادها وسريانها إليها، وقد تقدم أن هذا الانطباق ذاتي فلا يحتاج
إلى مقدمة خارجية حتى لحاظ عدم القيد ورفضه، نعم إذا كان الاطلاق لحاظيا
كما هو مختار السيد الأستاذ (قدس سره)، فهو يتوقف على هذا اللحاظ ومتقوم به.
والخلاصة: أنه بناء على ما قويناه من أن اطلاق الطبيعة وسريانها إلى
أفرادها ذاتي، فيكفي فيه عدم لحاظ القيد معها الذي هو نقيض لحاظ القيد،
305

فلذلك يكون التقابل بينهما من تقابل الايجاب والسلب، وأما بناء على مسلك
السيد الأستاذ (قدس سره) من أن اطلاقها لحاظي فيتوقف على لحاظ زائد على الطبيعة،
فلذلك يكونان معا أمرين وجوديين ويكون التقابل بينهما من تقابل الضدين،
ولا يتصور أن يتوقف سريان الطبيعة إلى أفرادها وانطباقها عليها على قابليتها
وشأنيتها للاتصاف بالقيد لكي تقبل الاتصاف بالعدم الذي هو معنى الاطلاق
على المسلك القائل بأن التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة.
وأما تفسير الاطلاق بالجمع بين القيود فهو لا يرجع إلى معنى محصل.
البحث الثالث: أنه قد فسرت استحالة الاطلاق في المقام بتفسيرين:
الأول: أن يكون المراد منها استحالة شمول الخطاب للمقيد الذي كان
يستحيل تقييد الحكم به.
الثاني: أن يكون المراد منها استحالة نفي التقييد به وشمول الخطاب لصورة
فقدان القيد.
أما التفسير الأول، فهو في غير محله، لأنه لابد من النظر فيه إلى ملاك
الاستحالة، فإن كان قائما بنفس ثبوت الحكم، فعندئذ لا فرق بين ثبوته للمقيد
وثبوته للمطلق، فكما أن الأول مستحيل فكذلك الثاني بنفس الملاك، وذلك
كثبوت الحكم على العاجز، فإن ملاك الاستحالة قائم بنفس ثبوت الحكم له
سواءا كان بالتقييد به أم كان بالاطلاق، وإن كان ملاك الاستحالة قائما بعملية
التقييد فحسب، فلا مانع من الاطلاق ولا موجب لاستحالته حينئذ أصلا،
وذلك كتقييد خطابات الكتاب والسنة العامة بالكفار فإنه لا يمكن، وأما اطلاقها
بنحو يشمل الكفار فلا مانع منه، ومن هذا القبيل تقييد تلك الخطابات بطائفة
خاصة فإنه لا يمكن، وأما اطلاقها بنحو يشمل تلك الطائفة فلا مانع منه وهكذا.
306

والخلاصة: أن ملاك الاستحالة إن كان في ثبوت الحكم على المقيد سواءا كان
بالتقييد أم بالاطلاق، فكلاهما مستحيل بملاك واحد وفي عرض واحد، وإن كان
ملاك الاستحالة قائما بنفس عملية التقييد فحسب فلا مانع من الاطلاق.
ومن هنا لو كانت استحالة تقييد المأمور به كالصلاة مثلا بقصد الأمر من جهة
محذور الدور، وهو أن الأمر بالصلاة متوقف على قصده من باب توقف الحكم
على متعلقه، والقصد متوقف على الأمر من باب توقف العرض على معروضه،
فلا مانع من اطلاقها وشمولها لكلتا الحصتين معا هما الصلاة مع قصد الأمر
والصلاة بدون قصده، لأن الأمر حينئذ لما كان متعلقا بالطبيعي الجامع بينهما فلا
يتوقف على قصده، باعتبار أنه غير مأخوذ في متعلقه، نعم لو كان ملاك استحالة
تقييد المأمور به بقصد الأمر داعوية الأمر لداعوية نفسه، فاطلاقه أيضا
مستحيل بنفس هذا الملاك، إذ معنى اطلاقه على هذا التفسير هو شموله للحصة
المقيدة بقصد الأمر، ومن الواضح أنه لا يمكن شموله لها بنفس ذلك المحذور لا
بملاك أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق.
فالنتيجة، أن ملاك الاستحالة إن كان في عملية التقييد فحسب فلا مانع من
الاطلاق، وإن كان في عملية الاطلاق أيضا فكلاهما مستحيل.
وأما التفسير الثاني لاستحالة الاطلاق الذي هو مراد المحقق النائيني (قدس سره)، فقد
أفاد في وجه ذلك أن التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة،
فاستحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق، فإذا فرض أن تقييد المأمور به
بقصد القربة مستحيل، فاطلاقه لنفي هذا التقييد وشموله لصورة فقدان القيد
أيضا مستحيل (1).

(1) أجود التقريرات 1: 156 و 160.
307

وللنظر فيه مجال، أما أولا فلما تقدم من أن التقابل بين الاطلاق والتقييد من
تقابل الايجاب والسلب لا العدم والملكة، وعليه فاستحالة التقييد تستلزم
ضرورة الاطلاق لا استحالته، على أساس أن ارتفاع النقيضين كاجتماعهما
مستحيل. وثانيا لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن التقابل بين الاطلاق والتقييد من
تقابل العدم والملكة، إلا أن استحالة التقييد إنما تستلزم استحالة الاطلاق بمعنى
الاتصاف بعدم قصد القربة، باعتبار أنه متوقف على قابلية المحل وهو غير قابل
له ذاتا، لا استحالة الاطلاق بمعنى عدم الاتصاف به الذي هو نقيض الاتصاف
فإنه ضروري، على أساس أن استحالة أحد النقيضين تستلزم ضرورة الآخر.
وهذا الاطلاق يكفي لنفي التعبد به عند الشك فيها. هذا تمام الكلام في
المقام الأول.
وأما الكلام في المقام الثاني وهو امكان التمسك بالاطلاق اللفظي عند
الشك في تعبدية الواجب وتوصليته، فيختلف الحال فيه باختلاف الآراء في
المسألة وهي كما يلي.
الرأي الأول: أن أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ممكن.
الرأي الثاني: أنه مستحيل.
الرأي الثالث: التفصيل بين الأمر الأول والأمر الثاني واستحالة أخذه في
متعلق الأمر الأول وامكان أخذه في متعلق الأمر الثاني.
الرأي الرابع: التفصيل بين قصد الأمر وبين سائر الدواعي القريبة أو بينه
وبين الجامع.
أما على الرأي الأول، فلا مانع من التمسك بالاطلاق إذا كان لنفي تعبدية
308

الواجب واثبات أنه توصلي، باعتبار أن حال قصد القربة حينئذ حال سائر قيود
الواجب الشرعية، فكما أنه إذا شك في اعتبار قيد من تلك القيود فلا مانع من
التمسك باطلاق دليل الواجب لنفي اعتباره، فكذلك إذا شك في اعتبار
قصد القربة.
وأما على الرأي الثاني، فعلى القول بأن التقابل بين الاطلاق والتقييد من
تقابل العدم والملكة، فاستحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق، فإذن
الاطلاق مستحيل ثبوتا كالتقييد، فإذا كان مستحيلا ثبوتا فلا اطلاق في مقام
الاثبات، لأنه تابع للاطلاق في مقام الثبوت وكاشف عنه، ولا يعقل وجود
الكاشف بدون المكشوف في الواقع والحاكي بدون وجود المحكي فيه.
وأما على الرأي القائل بأن استحالة التقييد تستلزم ضرورة الاطلاق، كما إذا
كان التقابل بينهما من تقابل التضاد أو الايجاب والسلب، فهل يمكن التمسك
بالاطلاق في مقام الاثبات؟ الظاهر أنه لا يمكن، لأن الاطلاق في مقام الاثبات
إنما يكون كاشفا عن الاطلاق في مقام الثبوت بمعونة مقدمات الحكمة منها عدم
ذكر القيد، ومن الواضح أن عدم ذكر القيد في مقام الاثبات إنما يكون كاشفا عرفا
عن عدم اعتباره في مقام الثبوت إذا كان التقييد به ممكنا فيه، وأما إذا لم يمكن فلا
يكون عدم ذكره كاشفا عن عدم دخله في الغرض، لاحتمال أن يكون دخيلا فيه
ثبوتا بأن يكون مراد المولى جدا هو المقيد في الواقع، ولكنه لا يتمكن من تقييده
به، وعلى الجملة فدلالة مقدمات الحكمة إنما هي من جهة ظهور حال المتكلم،
ومن المعلوم أن عدم ذكر القيد في مقام الاثبات إنما يكون كاشفا عن عدم اعتباره
ودخله في الغرض إذا كان بامكان المتكلم التقييد به، وأما إذا لم يكن بامكانه
ذلك، فلا يدل عدم ذكره فيه على عدم اعتباره في الواقع وعدم دخله في الغرض
309

ولا ظهور له فيه، إذ يحتمل أن يكون له دخل فيه في الواقع، ولكن عدم التقييد به
لعله كان من جهة عدم تمكنه منه ثبوتا لامن جهة عدم اعتباره ودخله في
الغرض، وعلى هذا فلا تتم مقدمات الحكمة، وبدون تماميتها فلا يمكن التمسك
بالاطلاق في مقام الاثبات لنفي التعبدية واثبات التوصلية عند الشك فيهما.
فالنتيجة، أنه على القول باستحالة أخذ قصد القربة في متعلق الأمر كالصلاة
مثلا، فعلى القول بأن التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل الايجاب والسلب
أو التضاد، فالاطلاق وإن كان ضروريا ثبوتا إلا أنه لا يمكن التمسك بالاطلاق في
مقام الاثبات للكشف عن أن الاطلاق في مقام الثبوت واف بالغرض، لاحتمال
أن الغرض متعلق بالمقيد فيه. ولكن المولى لا يتمكن من التقييد، فإذن لا يكشف
عدم ذكر القيد في مقام الاثبات عن عدم اعتباره في مقام الثبوت، ولو سلمنا أن
استحالة التقييد لا تستلزم ضرورة الاطلاق ولا استحالته بل هو ممكن ثبوتا،
فهل يمكن التمسك بالاطلاق في مقام الاثبات لاحرازه في مقام الثبوت، الظاهر
أنه لا يمكن بنفس ما مر من الملاك وهو عدم تمامية مقدمات الحكمة، فإن من
مقدماتها عدم ذكر القيد في مقام الاثبات الكاشف عن عدم اعتباره في مقام
الثبوت، وأما في المقام فلا يكشف عرفا عن عدم اعتباره في مقام الثبوت وعدم
دخله في الغرض، إذ كما يحتمل ذلك يحتمل أن يكون من جهة عدم التمكن من
التقييد به لا من جهة أنه غير دخيل في الغرض، فلذلك لا يكون الاطلاق في
مقام الاثبات كاشفا عن الاطلاق في مقام الثبوت.
وأما على الرأي الثالث، القائل بأن أخذ قصد القربة ممكن في متعلق الأمر
الثاني دون متعلق الأمر الأول، فلا شبهة في أنه لا يمكن التمسك باطلاق الأمر
الأول في مقام الاثبات، لأنه في مقام الثبوت اما مهمل أو مطلق، أما على الأول
310

فواضح، لأن الاطلاق في مقام الاثبات كاشف عن الاطلاق في مقام الثبوت
وتابع له، فإذا لم يكن اطلاق في مقام الثبوت فلا معنى للاطلاق في مقام الاثبات.
وأما على الثاني، فلما عرفت من أن التقييد في مقام الثبوت إذا كان مستحيلا،
فلا يكشف الاطلاق في مقام الاثبات عن عدم دخله في الغرض لاحتمال أنه
دخيل فيه، ولكن عدم ذكر القيد في مقام الاثبات لعله كان من جهة عدم التمكن
من التقييد به ثبوتا لا من جهة عدم اعتباره.
وأما الأمر الثاني، فإن كان قيد قصد القربة مأخوذا في لسانه فهو يدل على أن
الواجب تعبدي، وإن لم يكن مأخوذا فيه إثباتا مع التمكن من التقييد به ثبوتا، لا
مانع من التمسك باطلاقه لاثبات أن الواجب توصلي لا تعبدي.
وأما على الرأي الرابع، فلا مانع من التمسك بالاطلاق إذا كان الشك في
تقييد متعلق الأمر بقصد المحبوبية أو المصلحة أو جامع قصد القربة وهو إضافة
الفعل إلى المولى، لأن الاطلاق في مقام الاثبات كاشف عنه في مقام الثبوت
ونتيجة ذلك عدم تقييد المأمور به، به.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنه لا مانع من التمسك
بالاطلاق اللفظي على الرأي الأول مطلقا، وعلى الرأي الثالث فيما إذا كان للأمر
الثاني اطلاق، وعلى الرأي الرابع فيما إذا شك في أخذ سائر الدواعي القريبة في
متعلق الأمر أو الجامع، وأما على الرأي الثاني فلا يمكن التمسك بالاطلاق مطلقا
كما تقدم.
هذا تمام الكلام في الاطلاق اللفظي، وأما الاطلاق المقامي الذي هو ناش من
سكوت المتكلم في مقام البيان، فلا مانع من التمسك به إذا كان، كما إذا أمر المولى
عبده بالذهاب إلى السوق وشراء أشياء معينة، فإن سكوته عن شراء غيرها
311

رغم ظهور حاله في أنه في مقام بيان تمام مراده، يدل على أنه لم يرد غيرها، وهذا
الظهور الناشئ من السكوت في مقام البيان حجة وإن كان من أضعف مراتب
الظهور، وفي المقام إذا أمر المولى بالتكبيرة والقراءة والركوع والسجود والتشهد
والتسليم في الوقت المعين مستقبل القبلة مع الطهارة من الحدث والخبث والقيام
وهكذا وسكت عن قصد القربة ونحوه فيها رغم كونه في مقام البيان، يدل
سكوته على عدم دخل غير هذه الأجزاء والشروط في غرضه وإلا لبين، ولا
فرق فيه بين أن يكون بيان ذلك بالأمر أو بغيره ولو بجملة خبرية.
وهنا وجه آخر لاثبات قصد القربة في متعلق الأمر، وهو أنه لو كان معتبرا
ودخيلا في الغرض والملاك كان على المولى بيانه ولو بجملة خبرية، باعتبار أنه
لا طريق إليه إلا من قبل الشرع، فعدم البيان من قبل المولى يدل على عدم
اعتباره ودخله في الغرض، والمقصود من هذا الوجه عدم بيان المولى دخالة
قصد القربة في الغرض في شيء من خطابه، ومن هنا يظهر أن ما أورد على هذا
الوجه بأنه لا يثبت الاطلاق المقامي في شخص خطاب لم يذكر فيه دخالة قصد
القربة في الغرض فهو غير وجيه، لأن المقصود من هذا الوجه ليس إثبات
الاطلاق المقامي لكل خطاب شخصي للمولى مع احتمال أنه يذكر دخالته في
خطاباته الأخرى، بل المقصود منه أن المولى إذا لم يذكر دخالة قصد القربة في
الغرض في شيء من خطاباته وبياناته، كان عدم ذكرها قرينة عرفا على عدم
دخالته في الغرض.
إلى هنا قد تبين أن مقتضى اطلاق الخطاب سواء كان لفظيا أم مقاميا هو نفي
التعبدية واثبات التوصلية عند الشك فيهما هذا، ولكن هناك جماعة ذهبوا إلى أن
مقتضى الأصل الأول التعبدية، فالتوصلية بحاجة إلى دليل، وقد استدلوا على
312

ذلك بوجوه:
الوجه الأول: بقوله تعالى: (وما أمروا ألا ليعبدوا الله مخلصين له
الدين) (1)، بدعوى أن الآية الشريفة تدل على حصر الأوامر بالأوامر العبادية،
على أساس اختصاص العبودية والاخلاص بالعبادات، فإذن كون الواجب
توصليا بحاجة إلى دليل.
والجواب: أن الآية الشريفة لا تدل على أن قصد القربة معتبر في الواجبات
الإلهية جزاء وشرطا، لأن مدلولها أن الغرض من الأوامر الصادرة من المولى
الحكيم العبادة وإلا طاعة على أساس أنها حق ذاتي له تعالى، والنكتة في ذلك أن
مفاد الآية إرشاد إلى ما استقل به العقل وهو حكمه بوجوب عبادته تعالى
وطاعته في أوامره مخلصا، ومن هنا لولا الآية الشريفة كان العقل مستقلا بذلك
تطبيقا لحق عبوديته الذاتية، هذا إضافة إلى أن من المحتمل قويا أن تكون الآية
في مقام حصر المعبود بالله تعالى في مقابل عبادة الأصنام والأوثان، ولعل سياق
الآية شاهد على ذلك.
فالنتيجة، أن الآية الشريفة أجنبية عن الدلالة على اعتبار قصد القربة في كل
واجب إلا ما خرج بالدليل.
الوجه الثاني: بالروايات التي تنص على أن الأعمال بالنيات ولا أثر لها
بدونها (2) والمراد من النية، نية القربة.
والجواب: أن هذه الروايات وإن كانت كثيرة وفيها روايات معتبرة إلا أنها
أجنبية عن الدلالة على أن نية القربة معتبرة في كل عمل واجب في الشريعة

(1) سورة البينة (98): 5.
(2) لاحظ وسائل الشيعة 1: 46، باب 5 من أبواب مقدمة العبادات.
313

المقدسة، لأن معنى أن الأعمال بالنيات أنها تتبع في الحسن والقبح والخير والشر،
نية العامل، فإن عملا واحدا إذا صدر من العامل بنية الخير فهو حسن، وإذا
صدر منه بنية الشر فهو قبيح، مثلا ضرب اليتيم إذا كان بنية التأديب فهو
حسن، وإذا كان بنية الإيذاء أو امتحان العصا فهو قبيح، وكذلك القيام إذا كان
بنية احترام مؤمن فهو حسن وإذا كان بنية هتكه وهدر حقه فهو قبيح وهكذا،
وهذا معنى أن الأعمال بالنيات.
فالنتيجة، أنه لا صلة لهذه الروايات بالدلالة على أن كل عمل واجب في
الشريعة المقدسة فهو واجب عبادي، وأما كونه واجبا توصليا فهو بحاجة إلى
دليل، هذا إضافة إلى أن تخصيص الأعمال في هذه الروايات بالواجبات العبادية
في الشريعة المقدسة تخصيص بالفرد النادر وهو قبيح عرفا.
الوجه الثالث: أن مقتضى الأصل في كل واجب لدى العقل هو كونه تعبديا
فالتوصلية بحاجة إلى دليل، وذلك لأنه لا شبهة في أن الغرض من الأمر المتعلق
بشيء كالصلاة مثلا هو إيجاد الداعي في نفس المكلف للتحريك نحو إيجاد ذلك
الشئ في الخارج، وقد تقدم أن الأمر الصادر من المولى يتضمن التحريك
والسعي نحو المأمورية في الخارج على أساس دلالته عليه، وحيث إن الغرض
من الأمر هو إيجاد الداعي في نفس المكلف، فحينئذ إن أتى بالمأمور به بذلك
الداعي حصل الغرض منه وسقط أمره، وأما إذا لم يأت به بالداعي المذكور فلا
يعلم بحصول الغرض وسقوط الأمر، ومع عدم العلم بذلك لا محالة يحكم العقل
بوجوب لاتيان بالمأمور به بداعي أمره تحصيلا للغرض، إلا إذا قام دليل من
الخارج على أن الغرض منه يحصل بدون الاتيان به بداعي أمره، وهذا هو معنى
كونه واجبا توصليا.
314

والجواب: أن الغرض من الأمر الوارد من المولى بعنوان المولوية وإن كان هو
إيجاد الداعي في نفس المكلف للتحريك نحو الاتيان بمتعلقه في الخارج، لأن معنى
الأمر هو طلب الاتيان به والسعي نحوه، ولا فرق في ذلك بين الأوامر التعبدية
والأوامر التوصلية، لأن الغرض من الجميع إيجاد الداعي في نفس المكلف وإلا
كان الأمر به لغوا، إلا أن ذلك الداعي يكون علة لتحريك المكلف نحو إيجاد
المأمور به بتمام أجزائه وقيوده في الخارج لا أنه قيد له ودخيل في غرضه ومعتبر
في صحته، ضرورة أن الأمر المتعلق بالصلاة بما لها من الأجزاء والقيود يدعو
المكلف إلى الاتيان بها بتمام تلك الأجزاء والقيود، ولا يدل على أن الاتيان بها
لابد أن تكون بداعي نفسه بأن يأتي بالصلاة مثلا بداعي أمره، بداهة أن الأمر
المتعلق بها لا يدل إلا على الاتيان بها فحسب لا على الاتيان بها بداعي نفسه،
وإلا لزم داعويته إلى داعوية نفسه.
فالنتيجة، أن هذه الوجوه بأجمعها لا ترجع إلى معنى محصل، فالصحيح ما
ذكرناه من أن مقتضى الاطلاق نفي التعبدية، سواءا كان الاطلاق لفظا أم مقاميا.
وأما الكلام في الجهة الثالثة، وهي مقتضى الأصل العملي، فهو يختلف
باختلاف الآراء في المسألة.
أما على الرأي المختار وهو إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، فحاله
حال سائر أجزاء الصلاة وقيودها، فإذ شك في اعتباره جزءا وقيدا، دخل المقام
في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، فإن قلنا هناك بأصالة البراءة
العقلية والشرعية، فنقول بها في المقام أيضا، ولو قلنا هناك بأصالة الاحتياط
والاشتغال، إما بدعوى عدم انحلال العلم الاجمالي أو بدعوى عدم احراز
سقوط التكليف المعلوم ثبوته وفعليته بالاتيان بالأقل، أو بدعوى عدم العلم
315

بحصول الغرض إلا بالاتيان بالأكثر، فنقول بها في المقام أيضا بنفس الملاك.
هذا، ولكن الصحيح أن المرجع في تلك المسألة هو أصالة البراءة عقلا وشرعا
وكذا في المقام، وتفصيل الكلام في محله إنشاء الله تعالى.
وأما على الرأي القائل بعدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، فعلى
ضوء مقالة المحقق الخراساني (قدس سره) من أن اعتباره إنما هو في الغرض والملاك وهو لا
يحصل إلا مع قصد القربة، فهل مقتضى الأصل العملي عند الشك في دخله فيه
أصالة البراءة أو أصالة الاشتغال؟ فيه قولان:
فقد اختار المحقق الخراساني (قدس سره) القول الثاني (1) وأن المرجع فيه أصالة
الاشتغال عند الشك دون أصالة البراءة لا الشرعية ولا العقلية، بتقريب أن قصد
القربة غير مأخوذ في متعلق الأمر شرعا لا الأمر الأول ولا الأمر الثاني، وإنما هو
دخيل في الغرض بحكم العقل، وعلى هذا فإذا شك في حصول الغرض بالاتيان
بالواجب بدون قصد القربة، حكم العقل بلزوم اتيانه بقصد القربة حتى يحصل
اليقين بتحققه، وعليه فمقتضى الأصل العملي عند الشك في واجب أنه تعبدي أو
توصلي، التعبدية فالتوصلية بحاجة إلى دليل.
هذا، وقد أفاد السيد الأستاذ (قدس سره) أن ما ذكره هنا يشترك مع ما ذكره في مسألة
الأقل والأكثر الارتباطيين في نقطة وتفترق عنه في نقطة أخرى، أما نقطة
الاشتراك فهي أن العقل كما يستقل بوجوب تحصيل الغرض هناك عند الشك في
حصوله كذلك يستقل بوجوب تحصيله هنا عند الشك فيه، ومن هنا التزم (قدس سره)
هناك بأصالة الاشتغال وعدم جريان أصالة البراءة العقلية كما هو الحال في
المقام.

(1) كفاية الأصول: 75.
316

وأما نقطة الافتراق فهي أنه (قدس سره) قد التزم بجريان البراءة الشرعية هناك دون
هنا، والنكتة في ذلك أنه عند الشك في اعتبار شيء في العبادة كالصلاة مثلا كما
يعلم اجمالا بوجود تكليف مردد بين تعلقه بالأقل أو الأكثر، كذلك يعلم اجمالا
بوجود غرض مردد بين تعلقه بهذا أو ذاك، وحيث إن هذا العلم الاجمالي
لا ينحل إلى علم تفصيلي بالأقل وشك بدوي بالأكثر، فبطبيعة الحال يكون
مقتضاه وجوب الاحتياط وعدم جريان البراءة العقلية، وأما البراءة الشرعية
فالظاهر أنه لا مانع من جريانها، لأن مقتضى أدلة البراءة الشرعية هو رفع
التقييد الزائد المشكوك فيه، فإذا شككنا في جزئية السورة مثلا في الصلاة فلا
مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن جزئيتها، وإذا ضممنا ذلك إلى ما علمناه
اجمالا من الأجزاء والشرائط، يثبت الاطلاق ظاهرا وهو وجوب الأقل وهذا
بخلاف المقام، فإنه لا يمكن فيه جريان البراءة الشرعية، فإنها إنما تجري فيما يكون
أمره رفعا ووضعا بيد الشارع، وأما ما لا يكون كذلك فلا تجري فيه البراءة،
وعلى هذا فكل ما يكون قابلا للجعل شرعا من الأجزاء والشرائط إذا شك فيه
فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه، وأما ما لا يكون قابلا للجعل
شرعا، فإذا شك في اعتباره عقلا فلا مجال للرجوع إلى أصالة البراءة عنه، وما
نحن فيه من هذا القبيل، فإن الشك إنما هو في دخل قصد القربة في الغرض عقلا لا
شرعا (1).
ثم علق (قدس سره) عليه بأمور:
الأول: ما تقدم من أنه لا مانع من أخذ قصد القربة في متعلق الأمر شرعا،
وعليه فلا فرق بينه وبين سائر الأجزاء والشرائط.

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 194.
317

الثاني: أن العلم الاجمالي في مسألة الأقل والأكثر ينحل حكما.
الثالث: أنه لا فرق بين التكليف والغرض، كما أن التكليف ما لم يصل إلى
المكلف لا يحكم العقل بتنجزه ووجوب موافقته كذلك الغرض، فإنه ما لم يصل
إلى المكلف لا يحكم العقل بتنجزه ووجوب تحصيله، فإنه لا يزيد على
أصل التكليف.
وغير خفي أن التعليق الأول والثاني وإن كان صحيحا، إلا أن التعليق الثالث
غير سديد، وذلك لأن صاحب الكفاية لم يقل بالفرق بين ما إذا كان الشك في
التكليف وما إذا كان الشك في الغرض، وإنما يقول بأصالة الاشتغال في مسألة
الأقل والأكثر الارتباطيين عند الشك في الغرض من جهة العلم الاجمالي وعدم
انحلاله، فلهذا يحكم العقل بقاعدة الاشتغال لا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان،
ولكن بما أنه (قدس سره) قد بنى في نهاية المطاف على جريان البراءة الشرعية وانحلال
العلم الاجمالي حكما فلا يحكم العقل بقاعدة الاشتغال، فإن الوظيفة حينئذ
الاتيان بالأقل، وهذا قرينة على أنه لا يقول بقاعدة الاشتغال في كل مورد يكون
الشك فيه شكا في الغرض، وأما في المقام فمن جهة أن الغرض قد وصل إلى
المكلف بوصول الأمر إليه، والشك إنما هو في حصوله بالاتيان بالواجب بدون
قصد القربة، فمن أجل ذلك يحكم العقل بقاعدة الاشتغال، على أساس أن الشغل
اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، ومن الواضح أن التزامه (قدس سره) بالاشتغال في هذين
الموردين لا يدل على التزامه به في كل مورد وإن كان الشك في الغرض فيه بدويا
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أنه (قدس سره) قد صرح في الكفاية أنه لا مجال في المقام إلا لقاعدة
الاشتغال، ولو قيل بأصالة البراءة فيما إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر
318

الارتباطيين، وذلك لأن الشك في المقام إنما هو في الخروج عن عهدة التكليف
المعلوم مع استقلال العقل بلزوم الخروج عن عهدته، فلا يكون العقاب مع الشك
وعدم احراز الخروج عقابا بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان، ضرورة أنه مع
العلم بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة (1)، هذا هو الفرق بين المقام وبين
مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، ولكن هذا الفرق لا يجدي في أن المرجع في
المقام قاعدة الاشتغال، وفي مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين قاعدة البراءة،
وذلك لأن المكلف وإن كان يعلم بالغرض القائم بذات الواجب واشتغال ذمته به
من جهة أنه وصل إليه بوصول الأمر به، والشك إنما هو في سقوطه بالاتيان به
بدون قصد القربة، ولكن هذا الشك إنما يكون موردا لقاعدة الاشتغال إذا لم يكن
راجعا إلى المولى، وإلا كان موردا لقاعدة البراءة.
ودعوى أن هذا صحيح إذا كان اعتبار قصد القربة بيد الشارع كغيره من
الأجزاء والشرائط، والمفروض أن اعتباره ليس بيده، لما مر من أنه لا يمكن
أخذه في متعلق الأمر لا بالأمر الأول ولا بالأمر الثاني، مدفوعة بأن هناك
مسألتين:
الأولى: أخذه في متعلق الأمر.
الثانية: بيان دخله في الغرض ولو بجملة خبرية. والذي لا يمكن في المقام هي
المسألة الأولى، وأما المسألة الثانية فهي بيد المولى، لأن بيان تمام ما له دخل في
حصول الغرض بيده منه دخالة قصد القربة، فإن أخذه في متعلق الأمر وإن كان
غير ممكن إلا أن بيان أنه دخيل في الغرض ولو بجملة خبرية بيده، فإذا كان
بإمكان المولى بيان ذلك ومع هذا سكت ولم يبين دخالته فيه، كان ذلك قرينة على

(1) كفاية الأصول: 75.
319

أنه غير دخيل فيه، ولو شك فيه فالمرجع قاعدة البراءة العقلية والشرعية، ولا
تختص البراءة بما إذا كان الشك في جزئية شيء للمأمور به أو شرطية آخر له، بل
تعم ما إذا كان الشك في دخالة شيء في الغرض وإن لم يكن جزءا للمأمور به أو
قيدا له كما في المقام، لأن مفاد أدلة أصالة البراءة رفع ما كان قابلا للوضع شرعا.
وإن شئت قلت: أن الشك في سقوط التكليف أو الغرض إنما يكون موردا
لقاعدة الاشتغال إذا كان راجعا إلى المكلف وكان البيان تاما من قبل الشارع، كما
إذا كان الشك في ذلك من جهة الشك في كيفية الامتثال، ففي مثل ذلك يكون
المرجع فيه قاعدة الاشتغال، وأما إذا كان راجعا إلى المولى كما في المقام، فإن
دخل قصد القربة في الغرض وعدم دخله فيه إنما هو راجع إلى المولى دون
المكلف، لأنه لا طريق له إلى ذلك، وعلى هذا فإن كان دخيلا فيه فعليه بيانه ولو
بجملة خبرية إن لم يمكن بصيغة الأمر، ومع ذلك إذا لم يبين وسكت، فسكوته
يدل على أنه غير دخيل فيه، ولو شك ولم يكن هناك اطلاق، فالمرجع فيه
قاعدة البراءة.
وأما على ضوء مقالة المحقق النائيني (قدس سره) من استحالة التقييد تستلزم استحالة
الاطلاق، أو مقالة السيد الأستاذ (قدس سره) أو ما قويناه من أن استحالة التقييد تستلزم
ضرورة الاطلاق، فهل يمكن التمسك بأصالة البراءة أو أن المرجع فيه قاعدة
الاشتغال؟ الظاهر هو الأول، وذلك لأن أخذ قصد القربة في متعلق الأمر وإن لم
يمكن، إلا أنه لو كان دخيلا في حصول الغرض في الواقع فعلى المولى بيانه لأنه
بيده، ومع ذلك إذا لم يبين وسكت، فسكوته في مقام البيان يدل على عدم
اعتباره، وحينئذ فلو شك في ذلك كان المرجع أصالة البراءة عقلا وشرعا.
والخلاصة: أنه على هذين القولين معا، فالاطلاق اللفظي في مقام الاثبات
320

الكاشف عن الاطلاق الحقيقي في مقام الثبوت غير موجود، فإذا لم يكن هناك
اطلاق مقامي فالمرجع الأصل العملي، ودعوى أنه لا يجري في المقام، أما البراءة
العقلية فلأمرين: أحدهما: أن مقتضى العلم الاجمالي في مسألة الأقل والأكثر
الارتباطيين هو قاعدة الاشتغال دون البراءة، والمفروض أن المقام داخل فيها،
والآخر أن الشك في المقام إنما هو في سقوط الغرض بعد العلم بثبوته وهو مورد
لقاعدة الاشتغال، وأما البراءة الشرعية فلأن مفاد أدلتها رفع التكليف المشكوك
ولا يمكن تطبيقها على المقام، لأن التكليف فيه معلوم ولا شك فيه، والشك إنما
هو في دخالة قصد القربة في الغرض ولا يمكن نفيها بالبراءة الشرعية.
مدفوعة، أما أولا فلأن كلا الأمرين المذكورين غير صحيح، أما الأمر الأول
فقد تقدم أن العلم الاجمالي في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين منحل حكما فلا
أثر له، وأما الأمر الثاني فلما مر أيضا من أن مرد الشك في السقوط في المقام إلى
الشك في أن قصد القربة دخيل في الغرض أو لا، وحيث إن بيان ذلك بيد الشارع
وهو متمكن من ذلك ولو بجملة خبرية، فإذا لم يبين وسكت فلا مانع من
الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان شريطة أن لا ينعقد هناك اطلاق.
وثانيا: مع الاغماض عن ذلك وتسليم أن البراءة العقلية لا تجري في المقام
ولكن لا مانع من جريان البراءة الشرعية، لأن مفاد أدلتها رفع الكلفة إذا كان
منشأها اعتبار من الشرع، وحيث إن الشك في المقام إنما هو في دخالة قصد
القربة في الغرض، فمن الواضح أنها ترجع إلى الشارع، فإنه إن اعتبر دخالة قصد
القربة فيه، ففي تركه مسؤولية وإلا فلا مسؤولية فيه، وبما أن اعتبار الشارع
مشكوك فيه، فالشك في المسؤولية على تركه، فلا مانع حينئذ من التمسك بأصالة
البراءة لرفع هذه المسؤولية، هذا إضافة إلى أن بيان دخالة قصد القربة في الغرض
321

وإن كان بجملة خبرية، فيدل على الوجوب بالالتزام، وحينئذ فلا مانع من
تطبيق أدلة البراءة على المقام وإن قلنا بأن مفادها رفع التكليف المشكوك فيه.
هذا تمام كلامنا في مقتضى الأصل اللفظي والعملي في موارد الشك في كون
الواجب تعبديا أو توصليا.
ولمزيد من المعرفة بهذه المسألة نظريا وتطبيقيا نستعرض نتائجها في ضمن
النقاط التالية.
الأولى: أن في التقابل بين الاطلاق والتقييد آراء.
الأول: أن التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة، وقد اختاره المحقق
النائيني (قدس سره).
الثاني: أن التقابل بينهما من تقابل التضاد، وقد اختاره السيد الأستاذ (قدس سره).
الثالث: أن التقابل بينهما من تقابل الايجاب والسلب.
الثانية: أن الصحيح من هذه الآراء هو الرأي الثالث، وذلك لأن الاطلاق
الذي هو عبارة عن انطباق الطبيعة على أفرادها وسريانها إليها لا يتوقف على
أي مقدمة خارجية وعناية لأنه ذاتي، ويكفي فيه عدم لحاظ القيد الذي هو
نقيض لحاظ القيد، وأما تفسيره بالعدم الخاص في مقابل الملكة فهو بلا مبرر،
لأن الاطلاق لا يتوقف عليه، كما أن تفسيره بلحاظ عدم القيد ورفضه الذي هو
أمر وجودي مضاد للحاظ القيد بلا موجب، لعدم توقف الاطلاق عليه على ما
مر تفصيله.
الثالثة: أن السيد الأستاذ (قدس سره) قد علق على ما اختاره المحقق النائيني (قدس سره) من أن
التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة وأن استحالة التقييد
322

تستلزم استحالة الاطلاق بأمرين:
الأول: أن التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل التضاد لا العدم والملكة،
وعليه فاستحالة التقييد تستلزم إما ضرورة الاطلاق أو ضرورة التقييد بخلافه،
لاستحالة الاهمال في الواقع.
الثاني: أنه على تقدير تسليم أن التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم
والملكة، ومع ذلك ما ذكره (قدس سره) من أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق
غير تام نقضا وحلا، وقد مر تفصيل ذلك موسعا.
الرابعة: أن تعليقه الأول على ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) مبنائي هذا من
ناحية. ومن ناحية أخرى الظاهر أن مراده (قدس سره) من اهمال الواقع اهماله من حيث
الاطلاق والتقييد اللحاظين مع علم الحاكم بمراده في الواقع سعة وضيقا، ولهذا
التجأ إلى دليل آخر يدل على الاطلاق أو التقييد، وليس المراد من الاهمال تردد
الحاكم في أن مراده مطلق أو مقيد.
وأما تعليقه الثاني، فهو غير سديد، لأن تقابل العدم والملكة في كل مورد
منوط بقابلية ذلك المورد للاتصاف بكل منهما، وأما إذا لم يكن قابلا لذلك، فلا
يكون التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة، مثلا علم الانسان بكنه ذاته تعالى
وتقدس مستحيل من جهة أن المحل غير قابل للاتصاف بالعلم به، فإذا لم يكن
المحلل قابلا للاتصاف به لم يكن قابلا للاتصاف بعدمه أيضا، فلهذا يكون عدم
الاتصاف الذي هو نقيض الاتصاف ضروري.
الخامسة: أن استحالة الاطلاق عند استحالة التقييد قد فسرت بتفسيرين:
الأول: استحالة شمول الخطاب للمقيد.
323

الثاني: استحالة نفي التقييد به وشمول الخطاب لصورة فقدان القيد، ومراد
المحقق النائيني (قدس سره) من هذين التفسيرين التفسير الثاني بقرينة أنه (قدس سره) أراد من
الاطلاق المستحيل نفي التعبدية واثبات التوصلية.
وأما التفسير الأول، فيرد عليه أنه يتبع ملاك الاستحالة، فإنه إن كان قائما
بنفس ثبوت الحكم، فإذن الاطلاق كالتقييد مستحيل بملاك واحد وفي عرض
واحد، لأن استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق، وإن كان قائما بعملية
التقييد فحسب، فلا يكون الاطلاق مستحيلا.
السادسة: أنه على الرأي المختار من إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر،
فلا مانع من التمسك باطلاق دليله عند الشك في اعتباره، وأما على الرأي القائل
باستحالة أخذه فيه فلا يمكن التمسك بالاطلاق، سواء فيه القول بأن استحالة
التقييد تستلزم استحالة الاطلاق أم القول بأنها تستلزم ضرورته على تفصيل
تقدم، وأما إذا لم يكن هناك اطلاق لفظي، فلا مانع من التمسك بالاطلاق المقامي
الناشئ من السكوت في مقام البيان إذا كان.
السابعة: قد يقال كما قيل أن الأصل في الواجب التعبدية، فالتوصلية بحاجة
إلى دليل، وقد استدل على ذلك بوجوه ولا يتم شيء منها، وقد مر تفصيل ذلك.
الثامنة: أن مقتضى الأصل العملي على المختار من إمكان أخذ قصد القربة في
متعلق الأمر البراءة، باعتبار أن المقام حينئذ داخل في كبرى مسألة الأقل
والأكثر الارتباطيين، والصحيح في تلك المسألة هو أصالة البراءة عقلا وشرعا،
وأما على القول بعدم إمكان أخذه فيه، فعلى مقالة المحقق الخراساني (قدس سره) أصالة
الاشتغال، ولكن الصحيح أصالة البراءة، وأما على مقالة المحقق النائيني (قدس سره) من
أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق، فالصحيح فيها أيضا أصالة
324

البراءة وكذلك على مقالتي السيد الأستاذ (قدس سره)، والمختار من أن استحالة التقييد
تستلزم ضرورة الاطلاق، وقد تقدم تفصيل كل ذلك بشكل موسع.
التاسعة: أن المرجع على المختار من إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر
هو أصالة البراءة، لأن المسألة حينئذ داخلة في كبرى مسألة دوران الأمر بين
الأقل والأكثر الارتباطيين، حيث إن حال قصد القربة على هذا القول حال سائر
الأجزاء والشروط.
العاشرة: أن المرجع على الرأي القائل بعدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق
الأمر هو أصالة البراءة أيضا على تفصيل تقدم، خلافا للمحقق الخراساني (قدس سره)،
حيث إنه ذهب إلى أن المرجع على هذا القول هو أصالة الاشتغال وإن قلنا
بأصالة البراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.
الحادية عشر: أن الشك في المقام وإن كان في سقوط الغرض بالاتيان
بالمأمور به بدون قصد القربة ولكن مع ذلك يكون المرجع فيه أصالة البراءة،
وذلك لأن الشك في السقوط بعد الثبوت إنما يكون موردا لقاعدة الاشتغال إذا
كان راجعا إلى المكلف دون الشارع، كما إذا شك في السقوط من جهة الشك في
الامتثال وأما إذا كان راجعا إلى الشارع فهو مورد لأصالة البراءة، وحيث إن
الشك في السقوط في المقام يرجع إلى أن الشارع اعتبر دخالة قصد القربة في
الغرض أو لا وإن لم يكن اعتباره بنحو الجزئية أو الشرطية للمأمور به، حيث لا
شبهة في أن بامكان الشارع بيان أنه دخيل فيه ولو بجملة خبرية، ومع الشك فيه
يرجع إلى أصالة البراءة وقد تقدم تفصيله.
الثانية عشر: أن المرجع في المسألة عند الشك وعدم وجود الاطلاق أصالة
البراءة بلا فرق بين القول بأن استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق أو
325

تستلزم ضرورته.
الشك في النفسي والغيري
يقع الكلام فيه في مقامين:
المقام الأول في مقتضى الأصل اللفظي.
المقام الثاني في مقتضى الأصل العملي.
أما الكلام في المقام الأول، فيمكن اثبات أن الواجب نفسي بأحد طريقين:
الأول: التمسك باطلاق المادة، كما إذا أمر المولى بالصلاة وأمر بالوضوء
وشككنا في أن الوضوء قيد للصلاة حتى يكون وجوبه غيريا، أو أنه ليس قيدا
لها حتى يكون وجوبه نفسيا، فلا مانع من التمسك باطلاق الصلاة لاثبات عدم
تقيدها بالوضوء، ولا زم ذلك أن وجوب الوضوء نفسي وهذا اللازم حجة في
باب الأصول اللفظية، ولا فرق في ذلك بين أن يكون دليل الأمر بالواجب المردد
بين النفسي والغيري كدليل الوضوء متصلا بدليل الواجب النفسي كدليل الأمر
بالصلاة أو منفصلا عنه، ودعوى أنه لو كان متصلا بدليل الواجب النفسي
يسري اجماله وتردد إليه.
مدفوعة بأنها إنما تتم إذا كان الدليل المجمل المردد بمثابة القرينة على الدليل
الآخر كالخاص بالنسبة إلى العام، فإنه إذا كان متصلا بالعام ومجملا سرى اجماله
إليه، والمفروض أن دليل الأمر بالواجب المردد بين النفسي والغيري ليس بمثابة
القرينة على دليل الواجب النفسي حتى يسري اجماله إليه، ومن الواضح أن مجرد
اقترانه به لا يوجب سراية اجماله إليه، بل مقتضى اطلاق المادة فيه نفي الاجمال
عنه إذا كان المتكلم في مقام البيان.
326

وقد يقال كما قيل إنه يمكن التمسك باطلاق المادة كالوضوء، مثلا أن الحصة
غير الموصلة منها مصداق للواجب أيضا، ولا زم ذلك أن الوضوء واجب نفسي
بناء على ما هو الصحيح من اختصاص الوجوب الغيري بالحصة الموصلة فقط،
وهذا اللازم حجة في باب الألفاظ، أو فقل أن اطلاق المادة يدل بالمطابقة على أن
الحصة غير الموصلة مصداق لها وبالالتزام على أنها واجبة نفسية لا غيرية.
والجواب: أولا أن هذه الطريقة لو تمت فإنما تتم على القول بتخصيص
الواجب الغيري بالحصة الموصلة فقط لا مطلقا.
وثانيا أن اثبات مصداقية الحصة غير الموصلة للواجب كالوضوء مثلا
متوقف على كونه واجبا نفسيا، إذ لو كان غيريا لم تكن الحصة المذكورة مصداقا
له، فلو توقف كونه واجبا نفسيا على مصداقية تلك الحصة لزم الدور، وعليه
فلابد من اثبات وجوب المادة كالوضوء بوجوب نفسي في المرتبة السابقة، فإذا
ثبت وجوبها النفسي كذلك، فعندئذ كانت الحصة المذكورة مصداقا لها وإلا فلا.
نعم، لو كانت مصداقية الحصة غير الموصلة للمادة بنفسها تدل على وجوبها
النفسي بالالتزام، صح هذا الوجه، إلا أن المقدم باطل حينئذ، لوضوح أن المادة
لا تقسم إلى الحصتين المذكورتين إلا بعد فرض وجوبها لا مطلقا، ضرورة أنه لا
معنى لتقسيم الوضوء إلى الوضوء الموصل وغير الموصل في نفسه وبقطع النظر
عن وجوبه.
هذا إضافة إلى أن الوضوء لو كان واجبا نفسيا لم ينقسم إلى الحصة الموصلة
وغير الموصلة، لأن هذا التقسيم إنما هو بملاك اختصاص وجوب المقدمة بالحصة
الموصلة، ومعنى اختصاصه بها أنه مشروط بترتب ذي المقدمة عليها خارجا،
ومن الواضح أن هذا الملاك غير موجود فيما إذا كان وجوبه نفسيا، فإذن لا
327

تتصف أفراده في الخارج بهذين الوصفين حتى ينقسم إليهما.
الثاني: التمسك باطلاق الهيئة، بتقريب أن وجوب الوضوء مثلا لو كان غيريا
لكان مربوطا بوجوب واجب نفسي، لفرض أن وجوب الواجب الغيري تابع
لوجوبه ومشروط به، إما بملاك أنه مترشح منه أو أن الشارع إذا جعله جعل
وجوب مقدماته أيضا بالتبع، وعلى هذا فإذا شك في أن وجوبه مرتبط بوجوبه
أو أنه غير مرتبط به، فلا مانع من التمسك باطلاق الهيئة، فإن مقتضاه عدم تقييد
وجوب المادة الذي هو مفاد الهيئة بوجوب واجب آخر، ونتيجة ذلك أن
وجوبها نفسي.
وإن شئت قلت: أن مقتضى اطلاق دليل وجوب الوضوء هو عدم تقيد
وجوبه بما إذا وجب شيء آخر، وهذا هو معنى كونه نفسيا.
قد يقال كما قيل أنه يمكن اثبات كون مفاد الهيئة وجوبا نفسيا لا غيريا بطريق
آخر وهو أن الأمر في المقام يدور بين قيدين:
أحدهما وجودي وهو قيد الغيرية: فإنه عبارة عن الوجوب الناشئ عن
وجوب واجب آخر، والآخر عدمي وهو قيد النفسية، فإنه عبارة عن الوجوب
الذي لم ينشأ عن وجوب واجب آخر، ومن الطبيعي أنه كلما دار الأمر بين قيدين
أحدهما وجودي والآخر عدمي، فمقتضى الاطلاق في مقام الاثبات إرادة القيد
العدمي دون الوجودي، فإن إرادته بحاجة إلى قرينة وعناية زائدة ولا قرينة في
المقام على إرادة القيد الوجودي، فإذن مقتضى اطلاق الهيئة كون الوجوب
نفسيا، ولكن هذا الطريق غير سديد، أما أولا فلأن الأمر في المقام لا يدور بين
قيدين أحدهما وجودي وهو قيد الغيرية والآخر عدمي وهو قيد النفسية، بل
الأمر في المقام يدور بين لحاظ قيد وهو لحاظ تقيد وجوب الوضوء في المثال
328

بوجوب واجب آخر وعدم لحاظه، فإنه يكفي في الاطلاق ولا يتوقف على لحاظ
العدم، ومقتضى اطلاق الهيئة عدم لحاظ تقيد الوجوب بوجوب واجب آخر،
وعليه فلا يدور الأمر في المقام بين قيدين الأول الوجودي والآخر العدمي، بل
يدور بين لحاظ قيد وعدم لحاظه الذي هو نقيض اللحاظ.
وثانيا أن الأمر إذا دار بين لحاظ قيدين الوجودي والعدمي فالاطلاق لا
يعين الثاني، فإذا أمر المولى باكرام عالم وشككنا في أن المأخوذ في موضوع
وجوب الاكرام هل هو قيد العدالة أو عدم الفسق، فالاطلاق لا يعين أن المأخوذ
فيه الثاني دون الأول، لأن أخذ كل منهما فيه بحاجة إلى عناية زائدة والاطلاق
لا يفي لاثباتها، نعم إذا دار الأمر بين أن يكون الموضوع مقيدا بالعدالة أو لا،
فمقتضى الاطلاق عدم تقييده بها لا تقييده بعدم الفسق بنحو العدم النعتي.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن مقتضى اطلاق دليل الأمر
مادة وهيئة هو كون الواجب نفسيا لا غيريا، وسيأتي الكلام في بعض
خصوصيات هذه المسألة في بحث مقدمة الواجب إنشاء الله تعالى.
الشك في التعييني والتخييري
يقع الكلام هنا في مقامين:
المقام الأول: في مقتضى الأصل اللفظي.
المقام الثاني: في مقتضى الأصل العملي.
وأما البحث عن حقيقة الوجوب التخييري والأقوال والاتجاهات في
تفسيرها، فسيأتي في مبحث الواجب التخييري موسعا.
329

أما الكلام في المقام الأول وهو ما إذا شك في كون الواجب تعيينيا أو
تخييريا، فلا شبهة في أن مقتضى الاطلاق التعيين فالتخيير بحاجة إلى دليل، أما
على القول بأن حقيقة الوجوب التخييري ترجع إلى أن المجعول وجوبات متعددة
مشروطة، فمقتضى الاطلاق عدم الاشتراط وأن المجعول وجوب واحد، وأما
على القول بأنها ترجع إلى وجوب واحد مجعول للجامع، فمقتضى اطلاق المادة أن
الواجب هو متعلق الأمر بعنوانه الخاص لا أنه فرد للواجب، مثلا إذا أمر المولى
بصوم شهرين وشككنا في أنه واجب تعييني أو تخييري، فمقتضى اطلاق المادة أن
الصوم بعنوانه واجب لا أن الواجب هو الجامع والصوم فرد له، فإنه بحاجة إلى
قرينة بل لا مانع من التمسك بالاطلاق الأحوالي للهيئة، فإن سكوت المولى عن
بيان العدل له وعدم سقوطه بفعل آخر كاطعام ستين مسكينا مثلا يدل بالالتزام
على أنه واجب تعييني.
والخلاصة: أن ثبوت الوجوب التخييري على جميع الأقوال في المسألة
متوقف على مؤونة زائدة، بينما ثبوت الوجوب التعييني لا يتوقف عليها، ولهذا
إذا دار الأمر بينهما في مقام الاثبات، فمقتضى اطلاق الأمر الوجوب التعييني،
تحصل أن مفاد الأمر مادة وهيئة هو الوجوب النفسي التعييني وإرادة الوجوب
الغيري أو التخييري منه بحاجة إلى قرينة.
وأما الكلام في المقام الثاني وهو مقتضى الأصل العملي عند الشك في كون
الواجب تعيينيا أو تخييريا، فالظاهر هو أصالة البراءة عن التعيين لأن فيه كلفة
زائدة لا في التخيير، وذلك لأن مرد التخيير لا يخلو من أن يكون إلى جعل
وجوبات متعددة المشروطة أو إلى جعل وجوب واحد على الجامع والتخيير بين
أفراده، وعلى كلا التقديرين فمرجع الشك فيه إلى الشك في التعيين والتخيير، فإذا
330

أمر المولى بصوم شهرين متتابعين وشككنا في أن وجوبه تعييني أو تخييري،
فبطبيعة الحال يكون مرد هذا الشك إلى الشك في أن الصوم واجب على المكلف
تعيينيا، أو أنه واجب عليه تخييرا بينه وبين الاطعام، ولا فرق في ذلك بين أن
يكون متعلق الوجوب التخييري كل واحد من الخصال بعنوانه بنحو الوجوب
المشروط أو الجامع بينها، وعلى كلا الفرضين فالشك في أن الصوم في المثال
واجب تعيينيا أو تخييريا بينه وبين الاطعام، إما بملاك أن كلا منهما واجب بنحو
الواجب المشروط أو بملاك أن كلا منهما فرد للواجب، فإذا كان الشك في المقام
من موارد الشك في التعيين والتخيير. فالمرجع فيه إصالة البراءة عن التعيين،
فالنتيجة هي التخيير، وبكلمة أن المرجع في دوران الأمر بين التعيين والتخيير
أصالة الاشتغال في مسألتين:
الأولى: أن يكون الشك في التعيين والتخيير في الحجية، بأن يكون الأمر
دائرا بين حجية امارة تعيينيا وحجيتها تخييرا بينها وبين امارة أخرى، ففي مثل
ذلك يكون مقتضى الأصل التعيين.
الثانية: أن يكون الشك فيهما في مرحلة الامتثال بعد العلم بالتكليف بتمام
حدوده واشتغال ذمته به.
وأما إذا كان الشك في التعيين والتخيير في مرحلة الجعل، فيكون المرجع فيه
قاعدة البراءة عن التعيين، وما نحن فيه من هذا القبيل.
ومن هنا يظهر أن نتيجة الأصل اللفظي في هذه المسألة تختلف عن نتيجة
الأصل العملي فيها، فإن نتيجة الأول اثبات التعيين ونتيجة الثاني اثبات
التخيير.
331

الشك في الكفائي والعيني
يقع الكلام فيه في مقامين:
المقام الأول: في مقتضى الأصل اللفظي.
المقام الثاني: في مقتضى الأصل العملي، وأما البحث عن حقيقة الوجوب
الكفائي والأقوال في تفسيرها فسيأتي في مبحث الواجب الكفائي انشاء
الله تعالى.
أما الكلام في المقام الأول وهو مقتضى الأصل اللفظي عند الشك في واجب
أنه كفائي أو عيني، فلا شبهة في أن مقتضاه أنه عيني، لأن الكفائية بحاجة إلى
عناية زائدة، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الوجوب الكفائي سنخ وجوب
متوجه إلى فرد أو فئة معينة في الواقع عند الله وغير معينة عندنا أو إلى أحاد
المكلفين بنحو العموم المجموعي أو العموم الاستغراقي أو إلى فرد أو فئة لا بعينه
أو إلى كل فرد أو جماعة بنحو الوجوب المشروط، فإن مقتضى اطلاق دليل
الأمر على جميع الأقوال في المسألة العينية، أما على القول الأول، فلأن مقتضى
اطلاق الأمر المتوجه إلى فرد أو فئة عدم سقوطه عنه بفعل غيره وكذلك الحال
على القول الثالث والرابع، وأما على الثاني فلأن مقتضى اطلاق الأمر المتوجه إلى
آحاد المكلفين أن كل فرد تمام الموضوع لا أنه جزء الموضوع، فإنه بحاجة إلى
دليل، وأما على القول الخامس، فلأن مقتضى إطلاق الأمر المتوجه إلى كل فرد
أو فئة عدم الاشتراط، فالاشتراط بحاجة إلى دليل.
فالنتيجة، أن مقتضى اطلاق الأمر كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا، وإرادة
332

الغيري أو التخييري أو الكفائي منه بحاجة إلى قرينة.
وأما الكلام في المقام الثاني وهو مقتضى الأصل العملي، فالصحيح أن
مقتضاه نفي العينية عند الشك فيها، باعتبار أن فيها كلفة زائدة، فإذا فرضنا أن
المولى أمر فئة بالقيام بعمل وشككنا في أنه واجب كفائي يسقط بقيام غيرهم به
أو عيني لا يسقط به، ففي مثل ذلك لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن
العينية، ودعوى أن الأمر إذا كان متوجها إلى فرد وشك في أنه كفائي أو عيني،
فيرجع هذا الشك إلى الشك في السقوط بقيام الغير به وهو من موارد قاعدة
الاشتغال دون البراءة.
مدفوعة، بأن سنخ الوجوب العيني غير سنخ الوجوب الكفائي روحا
وملاكا، وعلى هذا فإذا توجه أمر إلى فرد وشك في أنه عيني أو كفائي، فهو حينئذ
وإن كان يعلم بثبوت الوجوب الجامع بين العيني والكفائي ولكن لا يعلم بثبوت
كل من الوجوب العيني أو الكفائي بحده الخاص، لأن حدوث كل منهما مشكوك
فيه والعلم بالجامع لا أثر له إلا فيما إذا لم يقم غيره بالعمل، فإنه حينئذ يجب عليه
القيام به، سواءا كان كفائيا أم عينيا، وأما إذا قام غيره به فهو عندئذ وإن كان
شاكا في سقوطه، إلا أن مرد هذا الشك إلى الشك في حدوث الوجوب العيني
واشتغال ذمته به، ومن الواضح أن المرجع فيه أصالة البراءة، ولا تعارض
بأصالة البراءة عن الوجوب الكفائي لعدم جريانها فيه، من جهة أنه لا كلفة فيه
والكلفة إنما هي في الوجوب العيني.
فالنتيجة، أن المرجع في موارد الشك في كون الوجوب عينيا أو كفائيا هو
أصالة البراءة عن العينية، وبذلك يختلف نتيجة الأصل اللفظي عن نتيجة الأصل
العملي في المقام.
333

خلاصة هذه البحوث أمور:
الأول: أنه يمكن التمسك بإطلاق الأمر من ناحية المادة تارة ومن ناحية الهيئة
تارة أخرى لاثبات أن الواجب نفسي لا غيري.
الثاني: أن مقتضى اطلاق دليل الأمر أن الواجب تعييني لا تخييري،
فالتخييرية بحاجة إلى عناية زائدة، نعم مقتضى الأصل العملي نفي التعيينية،
ولهذا تكون نتيجته على عكس نتيجة الأصل اللفظي.
الثالث: أن مقتضى اطلاق دليل الأمر كون الواجب عينيا لا كفائيا، فإن
الكفائية بحاجة إلى بيان زائد، نعم مقتضى الأصل العملي فيه نفي العينية، فتكون
النتيجة على عكس ما هو مقتضى الأصل اللفظي.
الرابع: أن مدلول الأمر وضعا النسبة الطلبية المولوية المساوقة للوجوب،
ومدلول اطلاقه الثابت بمقدمات الحكمة، كون الواجب نفسيا تعيينيا عينيا،
وإرادة كل من الواجب الغيري أو التخييري أو الكفائي بحاجة إلى قرينة.
334

الأمر الوارد تلو الحظر
إذا ورد الأمر من المولى عقيب الحظر أو في مورد توهمه، فهل يبقى ظهوره في
الوجوب أو لا، وعلى الثاني فهل يدل على الإباحة أو على الحكم السابق قبل
النهي، أو لا هذا ولا ذاك بل يصبح مجملا، فيه وجوه:
الظاهر أن شيئا من هذه الوجوه غير صحيح، فلنا دعويان:
الأولى: أن المناسب في المقام أن تجعل صيغة البحث في محل النزاع البحث عن
وجود المانع النوعي من دلالة الأمر على الوجوب، لا البحث عن دلالته على
أحد الوجوه المذكورة بعنوان ثانوي.
الثانية: بطلان هذه الوجوه.
أما الدعوى الأولى، فلان من الواضح أنه ليس للأمر وضع آخر بعنوان
ثانوي للدلالة على أحد الوجوه المذكورة، وحينئذ فلا معنى لجعل ذلك محل
النزاع والبحث في المسألة، ومن هنا قلنا أن الأنسب جعل صيغة البحث في المقام
عن وجود المانع النوعي عن دلالة الأمر على معناه الموضوع له وهو الوجوب،
باعتبار أن هذه الدلالة سواءا كانت مستندة إلى الوضع أم الاطلاق ومقدمات
الحكمة أو حكم العقل، فلا تختلف باختلاف الموارد والمقامات، وإنما تختلف
باختلاف القرائن والمناسبات، وهذه القرائن قد تكون شخصية وهي تختلف من
مورد إلى آخر وليس لها ضابط كلي ومعيار معين، وقد تكون نوعية وهي لا
تختلف من مورد إلى آخر ولها ضابط كلي.
وعلى هذا فينبغي أن يبحث في المقام عن أن وقوع الأمر عقيب الحظر أو في
335

مورد توهمه، هل يصلح أن يكون قرينة نوعية مانعة عن دلالة الأمر على
الوجوب أو لا، وأما كونه قرينة في بعض الموارد لمناسبة أو خصوصية فيه فلا
اشكال فيه، وإنما الكلام في قرينيته نوعا بنحو ضابط كلي، وهي التي تناسب أن
تكون مبحوثا عنها في المسألة دون البحث عن دلالة الأمر على الوجوب أو على
الإباحة أو على الحكم السابق قبل النهي، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى الظاهر أن وقوع الأمر تلو الحظر قرينة نوعية على المنع
من دلالة الأمر على الوجوب ورفع الحظر، بمعنى أنه لا منع ولا حظر بعد ذلك،
وأما أنه واجب أو مباح أو مكروه أو مستحب فلا يدل على شيء من هذا، نعم
إذا كان الأمر معلقا على زوال علة النهي كان يدل على الحكم السابق قبل النهي
إن كان وجوبا، فالوجوب كما في قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم
فاقتلوا المشركين) (1)، فإنه يدل على الوجوب، بقرينة أن الحكم السابق هو
الوجوب وإن كان مباحا، فالإباحة كما في قوله تعالى: (وإذا حللتم
فاصطادوا) (2)، فإنه يدل على الإباحة باعتبار أن الحكم السابق هو الإباحة،
وهذه الدلالة من جهة قرينة المقام لا في نفسه.
فالنتيجة، أن الأمر الواقع عقيب الحظر لا يدل إلا على رفع الحظر والمنع، وأما
دلالته على الوجوب أو الإباحة بحاجة إلى قرينة.
وأما الدعوى الثانية، فقد ظهر مما مر أن الأمر الواقع عقيب الحظر لا يدل على
الوجوب في نفسه، ومن هنا ذكر السيد الأستاذ (قدس سره) أن عدم دلالة الأمر على
الوجوب واضح على جميع الأقوال في المسألة، أما على القول بأن دلالته عليه

(1) سورة التوبة (9) 5.
(2) سورة المائدة (5) 2.
336

بحكم العقل أو بالاطلاق ومقدمات الحكمة فالأمر ظاهر، ضرورة أن مقدمات
الحكمة لا تتم على القول الثاني مع فرض وقوع الأمر عقيب الحظر لأنه صالح
للقرينية ومانع عن تماميتها، وأما على القول الأول، فلان العقل إنما يحكم
بالوجوب بمقتضى قانون المولوية والعبودية إذا لم تقم قرينة على الترخيص وإلا
فلا يحكم بذلك، وأما على القول بأن الأمر موضوع للدلالة على الوجوب، فلا
ظهور له فيه إذا كان واقعا عقيب الحظر، وأصالة الحقيقة لا أثر لها طالما لم يكن
هناك ظهور (1).
وقد علق على ذلك بعض المحققين (قدس سره) بأن الأمر له مدلول تصوري وهو
الوجوب المعبر عنه بالنسبة الإرسالية المولوية المساوقة له وله مدلول تصديقي
وهو إرادة طلب الفعل، والأمر في مورد توهم الحظر مستعمل في معناه الموضوع
له، ومن هنا لا يكون الأمر في قوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) (2) مستعملا
في معنى مجازي بل هو مستعمل في معناه الموضوع له وهو النسبة الإرسالية
المولوية (3).
وغير خفي أن هذا التعليق وإن كان صحيحا في نفسه إلا أنه لا يكون تعليقا
على ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره)، لوضوح أن غرضه من عدم دلالة الأمر الواقع
عقيب الحظر على الوجوب عدم دلالته عليه بدلالة تصديقية وبالظهور العرفي،
وليس غرضه المنع من استعماله في مدلوله التصوري، والقرينة على ذلك أنه (قدس سره)
قال أنه لا يمكن التمسك بأصالة الحقيقة لأنها لا تكون حجة تعبدا وإنما تكون
حجة من باب الظهور، ومن الواضح أن مورد أصالة الحقيقة الشك في المراد

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 205 - 206.
(2) سورة المائدة (5): 2.
(3) لاحظ بحوث في علم الأصول 2: 117 - 118.
337

التصديقي وأنه معنى حقيقي أو معنى مجازي، وحينئذ فإن كان للفظ ظهور في إرادة
المعنى الحقيقي فهو حجة، وإن لم يكن له ظهور في ذلك لم تكن الأصالة حجة، بل
يكون اللفظ مجملا، وهذا لا ينافي كونه مستعملا في مدلوله التصوري، ومن هنا
يظهر أن الأمر المذكور لا يدل على الإباحة، ضرورة أنه غير مستعمل فيها كما
أنه غير مستعمل في الحكم السابق، بل هو مستعمل في معناه ومدلوله التصوري
ويدل على رفع الحظر كما تقدم، فالنتيجة أن المتفاهم العرفي من الأمر الواقع
عقيب الحظر هو رفع المنع والحظر فحسب ولا يدل على أكثر من ذلك، وأما
إرادة خصوصية أخرى فهي بحاجة إلى قرينة حالية أو مقالية.
338

المرة والتكرار
اختلف الأصوليون في أن صيغة الأمر هل تدل على المرة أو التكرار في الأفراد
الطولية والدفعة أو الدفعات في الأفراد العرضية أو لا تدل؟
فالصحيح أنها لا تدل على شيء من هذه الخصوصيات لا من ناحية المادة ولا
من ناحية الهيئة، أما من ناحية المادة فلأنها موضوعة للماهية المهملة التي يكون
النظر فيها مقصورا على ذاتها وذاتياتها وهي غير واجدة للحيثية الخارجية عن
ذاتها وذاتياتها وعارية عن كافة الخصوصيات اللحاظية حتى إضافتها إلى ما
عداها، وإلا كانت لها تعينات ثلاثة اللا بشرطية وبشرط اللائية وبشرط
الشيئية وهي مقسم لها، فإذن لا تدل المادة على شيء من الخصوصيات منها المرة
والتكرار والدفعة والدفعات، وأما من ناحية الهيئة فلأنها موضوعة للنسبة
الطلبية المولوية المساوقة للوجوب إذا لم تكن قرينة على الخلاف، فالنتيجة أن
الصيغة لا تدل وضعا لا على المرة ولا على التكرار في الأفراد الطولية ولا على
الدفعة أو الدفعات في الأفراد العرضية، ويؤكد ذلك أنها لو كانت موضوعة
للدلالة على المرة لكان تقييدها بالتكرار مجازا وبالعكس مع أن الأمر ليس
كذلك، وأما على القول بأن الصيغة تدل على الوجوب بالاطلاق ومقدمات
الحكمة أو بحكم العقل، فالأمر أيضا كذلك، أما على الأول فلأن مقتضى اطلاق
الصيغة الثابت بمقدمات الحكمة هو الوجوب فحسب دون المرة أو التكرار، فإنها
خارجة عن مدلول الاطلاق، وأما على الثاني فلأن العقل لا يحكم إلا بالوجوب
فقط عند عدم قرينة على الترخيص بملاك مولوية الأمر، وأما كونه مرة واحدة
أو مكررا فلا يدرك العقل ذلك.
339

إلى هنا قد تبين أن صيغة الأمر تدل على الطلب المولوي بالمعنى الحرفي
المساوق للوجوب، ومادة الأمر تدل عليه بالمعنى الاسمي ولا تدل على أكثر من
ذلك حتى على أنه متعلق بصرف وجود الطبيعة دون مطلق وجودها، فإن ذلك
مستفاد من اطلاق الطبيعة من ناحية، وبقرينة أنه لا يمكن أن يكون متعلقه
مطلق وجودها في الخارج من الوجودات العرضية والطولية من ناحية أخرى،
وعدم تقييدها بحصة خاصة من ناحية ثالثة، فالنتيجة على ضوء ذلك أن متعلق
الطلب صرف وجود الطبيعة الصادق على أول وجودها، وعليه فالاكتفاء في
مقام الامتثال بالمرة في الأفراد الطولية وبالدفعة في الأفراد العرضية إنما هو من
جهة أنه لازم كون المطلوب صرف وجود الطبيعة لا أن الصيغة تدل على ذلك،
لما عرفت من أنها لا تدل إلا على النسبة الطلبية المولوية وهي النسبة بين المادة
والمخاطب، ولا تدل على أكثر من ذلك حتى على كون هذه النسبة متعلقة بصرف
وجود المادة، فإنه مستفاد من اطلاقها بمقدمات الحكمة بضميمة ما مر من
الخصوصيات.
ومن هنا تختلف صيغة الأمر عن صيغة النهي في نقطة وتشترك معها في نقطة
أخرى، أما نقطة الاشتراك فلأن صيغة النهي موضوعة للنسبة الزجرية المولوية
المساوقة للحرمة وتدل عليها، ولا تدل على خصوصية أخرى وضعا، ولهذا لا
فرق بين صيغة الأمر وصيغة النهي في الدلالة الوضعية، فإن كلتيهما تدلان على
النسبة المولوية، غاية الأمر أنها طلبية في صيغة الأمر وزجرية في صيغة النهي،
ولا تدلان على خصوصية زائدة، وأما نقطة الافتراق فلأن مقتضى إطلاق
متعلق النهي من جهة وخصوصية النسبة الزجرية المتعلقة به من جهة أخرى
انحلال النهي بانحلال متعلقه، فإذا نهى المولى عن شرب الخمر مثلا، كان مقتضى
اطلاق متعلقه وهو الشرب، وعدم تقييده بحصة خاصة من جهة، وخصوصية
340

الزجر المولوي المتعلق به من جهة أخرى انحلال حرمة الشرب بانحلال أفراده
في الخارج، فيثبت لكل فرد منها فرد من الحرمة، إذ لا يمكن أن يكون متعلقه
صرف وجود الطبيعة، فلأن المتفاهم العرفي من الخطابات التحريمية بمناسبة
الحكم والموضوع الارتكازية هو أن متعلقها مطلق وجود الطبيعة لا صرف
وجودها المنطبق على وجودها الأول فحسب دون الثاني والثالث وهكذا،
ضرورة أنه من غير المحتمل قطعا أن تكون روح الحرمة وملاكها قائمة بصرف
وجود الطبيعة، فلا محالة تكون قائمة بمطلق وجودها، وإلا لكان جعل الحرمة
له لغوا.
وبكلمة أخرى، أنه قد مر أن صيغة الأمر موضوعة للنسبة الطلبية المولوية
وتدل عليها وضعا ولا تدل على خصوصية زائدة.
وأما صيغة النهي فهي موضوعة للنسبة الزجرية المولوية المساوقة للحرمة
وتدل عليها وضعا، ولا تدل على أي خصوصية أخرى زائدة، وهذه النسبة
كالنسبة الأولى بين المخاطب والمادة وكلتاهما تتعلقان بالمادة، وحيث إن سنخ
النسبة الأولى تختلف عن سنخ النسبة الثانية، فلذلك يشتمل كل واحدة منهما
على خصوصية غير خصوصية الأخرى، فإن الأولى تشتمل على خصوصية
الطلب والثانية تشتمل على خصوصية الزجر، فتختلف الأولى عن الثانية
خصوصية وروحا وملاكا، وعلى هذا فاختلاف الأمر مع النهي في مقام الاثبات
ناجم عن هاتين الخصوصيتين الواقعيتين، لأن النسبة الزجرية المولوية إذا
تعلقت بالمادة من دون تقييدها بقيد خاص، كان المتفاهم منها عرفا بمناسبة
الحكم والموضوع الارتكازية انحلال الزجر بانحلال أفراد المادة، فيثبت لكل
فرد من أفرادها فرد من الزجر مستقلا طالما لم يتقيد المادة بحصة خاصة، ولا
341

يمكن القول بأن متعلق الزجر هو صرف وجود المادة كما تقدم. بينما إذا تعلقت
النسبة الطلبية المولوية بالمادة كالصلاة مثلا، كان المتبادر منها عرفا بمناسبة
الحكم والموضوع الارتكازية القطعية أن متعلقها صرف وجودها لا مطلق
وجودها، لعدم قدرة المكلف عليه، والنكتة في ذلك أن مفاد الأمر بما أنه طلب
الفعل فهو يتطلب كلفة العمل خارجا، فلذلك لابد أن يكون متعلقه صرف
وجود المادة لا مطلق وجودها، وإلا لزم التكليف بغير المقدور، ومفاد النهي بما
أنه الزجر عن الاقتحام في الفعل خارجا، فهو لا يتطلب أكثر من الأنزجار
والابتعاد عنه وعدم الدخول فيه، ومن الواضح أنه يتطلب روحا وملاكا
الانزجار والابتعاد عن مطلق وجود المادة في الخارج لا عن صرف وجودها
وإلا لكان لغوا، فلذلك تتطلب خصوصية النسبة الزجرية انحلالها بانحلال
متعلقها في الخارج، بينما تتطلب خصوصية النسبة الطلبية عدم انحلالها بانحلال
متعلقها فيه هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أنه لا شبهة في انحلال الحكم بانحلال موضوعاته في
الخارج. فإذا أمر المولى بالصلاة بقوله (صل)، فالوجوب بلحاظ متعلقه وهو
الصلاة لا ينحل بانحلال أفراده، وأما بلحاظ موضوعه وهو الانسان البالغ
العاقل فهو ينحل بانحلال أفراده، ومن هذا القبيل ما إذا قال المولى أكرم العالم،
فان الوجوب بلحاظ متعلقه وهو الاكرام لا ينحل بانحلال أفراده، ولا يجب
بالنسبة إلى كل عالم أكثر من اكرام واحد، بينما هو ينحل بانحلال أفراد موضوعه
في الخارج ويتكثر بتكثر العلماء، ويثبت لكل فرد من العالم فرد من وجوب
الاكرام، وهذا الفرق بين المتعلق والموضوع واضح، وإنما الكلام في نكتة ذلك،
والمذكور في كلماتهم نكتتان:
342

الأولى: أن الاطلاق بلحاظ المتعلق بدلي وبلحاظ الموضوع شمولي، ولكن
هذه النكتة غير صحيحة، وذلك لأن مدلول مقدمات الحكمة في تمام الموارد
واحد وهو عدم تقيد الطبيعة بقيد في مرحلة الجعل، وقد تقدم أن معنى الاطلاق
هو عدم لحاظ القيد مع الطبيعة، فإذن مقدمات الحكمة تثبت الاطلاق في مقام
الاثبات أي عدم القيد للطبيعة في مقام الجعل، وأما أنه بدلي أو شمولي فمقدمات
الحكمة لا تدل لا على الأول ولا على الثاني، وعليه فلا محالة تكون خصوصية
البدلية أو الشمولية ترتبط بنكتة أخرى، وهي تتطلب البدلية في مورد
والشمولية في مورد آخر لا بمقدمات الحكمة في مقام الاثبات.
الثانية: أن انحلال الحكم بانحلال الموضوع وعدم انحلاله بانحلال المتعلق، إنما
هو بنكتة أن الموضوع في القضية الحقيقية سواءا كانت إخبارية أم كانت انشائية
مأخوذ مفروض الوجود في الخارج، فلهذا ترجع القضية الحقيقية إلى قضية
شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول، فإذا قال المولى أكرم
العالم كان يرجع إلى قضية شرطية وهي أن العالم إذا وجد وجب اكرامه، ومن
الواضح أن فعلية الجزاء تتبع فعلية الشرط ومرتبطة بها ولا يعقل تخلفها عنها،
وعلى هذا فبطبيعة الحال يتعدد الجزاء بتعدد الشرط وهو معنى انحلال الحكم
بانحلال موضوعه، وهذا بخلاف المتعلق، فإنه حيث لم يؤخذ في مرحلة الجعل
مفروض الوجود فلا يتطلب تعدده، تعدد الحكم، لفرض أنه ليس بشرط حتى
يكون ارتباط الحكم به من ارتباط الجزاء بالشرط، بل لا يعقل ذلك، فإن مرد
ارتباط الحكم بالمتعلق لو كان إلى ارتباط الجزاء بالشرط، فمعناه أن ثبوت الحكم
مرتبط بوجود الشرط في الخارج مع أن وجود المتعلق في الخارج مسقط
للحكم، فلا يعقل أن يكون سببا لثبوته، وفي المثال المتقدم لا يعقل أن يكون
ثبوت الوجوب مرتبطا بوجود الاكرام خارجا، لأنه مسقط له لا أنه علة
343

لثبوته، فلذلك لا موجب للانحلال.
ويمكن المناقشة في هذه النكتة أيضا، أما أولا فلأنها مبنية على أن يكون
الموضوع في جميع الخطابات الشرعية مأخوذا مفروض الوجود في الخارج
ولكنه غير ثابت في جميع الخطابات الشرعية، نعم أنه ثابت في الخطابات
الوجوبية، وأما في الخطابات التحريمية فهو غير معلوم، مثلا في مثل قضية
لا تشرب الخمر لا يبعد أن يقال أن الخمر لم تؤخذ مفروضة الوجود في الخارج
حتى يكون فعلية حرمة شربها منوطة بفعلية وجود الخمر فيه، بل الظاهر أنها
فعلية وإن لم تكن الخمر موجودة إذا كان بامكان المكلف إيجادها في الخارج،
وهذا معنى أن الخمر لم تؤخذ مفروضة الوجود في القضية، وإلا كانت فعلية
حرمة شربها مرتبطة بفعلية الخمر في الخارج بملاك ارتباط فعلية الجزاء بفعلية
الشرط وهكذا.
وثانيا أن النهي ينحل بانحلال متعلقه على أساس ما أشرنا إليه من النكتة،
وهي أن متعلق الزجز المولوي لا يمكن أن يكون صرف وجود الطبيعة وإلا كان
النهي لغوا، وهذا قرينة لبية على أن متعلقه مطلق وجود الطبيعة بنحو الانحلال،
والنكتة المذكورة لا تقتضي عدم انحلال النهي بلحاظ المتعلق، وإنما تقتضي
انحلال الحكم بلحاظ الموضوع في الأوامر والنواهي، وأما بلحاظ المتعلق فلابد
من النظر إلى أن هناك نكتة وخصوصية أخرى تقتضي الانحلال أو تقتضي عدمه
أو لا هذا ولا ذاك، وقد مر أن في الأوامر خصوصية تقتضي عدم الانحلال
بلحاظ المتعلق، وهذه الخصوصية بمثابة القرينة المتصلة لتعيين متعلقها، وفي
النواهي خصوصية تقتضي الانحلال بلحاظ المتعلق وهي تعين لبا أن متعلقها
مطلق الوجود، وفي بعض الكلمات أنه لا فرق بين الأمر والنهي، فأن مقتضى
344

القاعدة فيهما معا الانحلال بلحاظ الموضوع وعدم الانحلال بلحاظ المتعلق، وقد
أفاد في وجه ذلك أن متعلق الأمر كما يكون صرف وجود الطبيعية كذلك يكون
متعلق النهي صرف وجودها، ولا يكون المجعول بلحاظ المتعلق إلا حكم واحد
بلا فرق في ذلك بين الأمر والنهي، وإنما الفرق بينهما في مقام الامتثال والتطبيق،
باعتبار أن المطلوب في الأمر إيجاد تلك الطبيعة وفي النهي اعدامها، وإيجادها
يتحقق بإيجاد فرد منها، وبذلك يحصل الغرض ويتم المطلوب، واعدامها لا يمكن
إلا باعدام جميع أفرادها وإلا لم تنعدم، وعلى هذا فامتثال الأمر يتحقق بإيجاد فرد
منها، وأما امتثال النهي فلا يتحقق إلا بالاجتناب والابتعاد عن تمام الأفراد،
فالفرق بين الأمر والنهي ليس راجعا إلى كون الحكم واحدا في الأمر ومتعددا في
النهي، بل الحكم فيهما معا يكون واحدا ومتعلقا بالطبيعة بنحو صرف الوجود،
وإنما الفرق بينهما في مقام الامتثال وايجاد الطبيعة واعدامها، فلو قال المولى أكرم
العالم كان المتبادر منه وجوب اكرام كل عالم بوجوب واحد غير منحل إلى
وجوبات متعددة بعدد انحاء الاكرام، ويتحقق امتثال هذا الوجوب الواحد
باكرام واحد، وإذا قال لا تكرم فاسقا، كان مقتضى الطبع الأولي أن يحرم اكرام
كل فاسق حرمة واحدة غير منحلة، بحيث لو أكرم فاسقا مرة سقط الحكم
بالنسبة إلى ذلك الفاسق بالعصيان وجاز اكرامه مرة أخرى، ولكن هذه الحرمة
الواحدة لا يتحقق امتثالها إلا بترك جميع أفراد اكرامه، بينما ذاك الوجوب الواحد
يتحقق امتثاله باكرام واحد كما مر.
وهذا الفرق ثابت بين الجملة الخبرية الموجبة والنافية أيضا، فقولك العالم
موجود لا يدل إلا على صرف وجود العالم المنطبق على وجود عالم واحد، بينما
345

قولك العالم ليس بموجود لا يصدق إلا بانعدام تمام العلماء (1) هذا.
ولكن لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لأن الحرمة المتعلقة بالطبيعة إذا كانت
واحدة فلا محالة يكون المطلوب منها صرف تركها وهو يتحقق بأول الترك،
وذلك لأن المفسدة الملزمة لا تخلو من أن تكون قائمة بصرف وجود الطبيعة أو
بمطلق وجودها المنحل إلى وجودات متعددة أو بحصة خاصة منها ولا رابع في
البين، أما على الاحتمال الأول فالحرمة بما أنها متعلقة بصرف وجود الطبيعة كما
هو المصرح به في هذه المقالة فيكون الحرام والمبغوض هو صرف وجودها،
ونتيجة ذلك أن المكلف إذا عصى وأوجد تلك الطبيعة في ضمن فرد منها، فلا
يكون إيجادها بعد ذلك محرما ومبغوضا، لأن المبغوض والمحرم هو صرف
الوجود ولا يكون وجودها الثاني مصداقا له، هذا إضافة إلى أن نقيض صرف
الوجود صرف الترك، وصرف الترك بالنسبة إلى الأفراد الطولية يتحقق في الآن
الأول، والترك في الآن الثاني ترك للفرد الثاني ونقيض له لا للأول، وأما أن
اعدام الطبيعة لا يمكن إلا باعدام جميع أفرادها كما في الكفاية (2)، فهو مبني على
الخلط بين العدم المضاف إلى ذات الطبيعة وهي الطبيعة المطلقة والعدم المضاف
إلى صرف وجودها، فإن الأول نقيض للطبيعة المطلقة ولا يتحقق إلا بترك تلك
الطبيعة، ومن المعلوم أن ترك الطبيعة المطلقة لا يمكن إلا بترك جميع أفرادها،
والعدم الثاني نقيض لوجودها الأول المتمثل في صرف وجودها وليس نقيضا
لوجودها الثاني والثالث وهكذا.
وأما على الاحتمال الثاني فبما أن المفسدة الملزمة قائمة بمطلق وجود الطبيعة

(1) بحوث في علم الأصول 2: 123 - 124.
(2) كفاية الأصول: 149.
346

بنحو الانحلال، فلا محالة تنحل الحرمة بانحلالها لأنها روح الحرمة وحقيقتها،
وعلى هذا فبطبيعة الحال تتعدد الحرمة المجعولة في باب النواهي بتعدد افراد
متعلقها، فيكون كل فرد من أفراده متعلقا للنهي مستقلا جعلا ومجعولا، بمعنى أن
المولى جعل في مقام الثبوت نواهي متعددة بعدد أفراد الطبيعة من الطولية
والعرضية، وهذا هو الفرق بين الأمر والنهي، حيث إن الحكم في باب الأمر
واحد جعلا ومجعولا دون باب النهي، تحصل أن الفرق بين الأوامر والنواهي إنما
هو في مرحلة الانشاء جعلا ومجعولا لا في مرحلة الامتثال والتطبيق.
نتيجة هذا البحث عدة أمور:
الأول: أن مدلول الأمر مادة وهيئة الطلب المولوي المساوق للوجوب إما
وضعا كما هو الصحيح أو اطلاقا بمقدمات الحكمة أو بحكم العقل، ولا يدل على
أكثر من تعلقه بالطبيعة بدون تخصصها بخصوصية زائدة كالمرة أو التكرار في
الأفراد الطولية والدفعة أو الدفعات في الأفراد العرضية.
الثاني: أن في مدلول الأمر خصوصية تقتضي تعلقه بصرف وجود الطبيعة إلا
إذا كانت هناك قرينة تدل على الخلاف.
الثالث: أن مدلول النهي خصوصية تقتضي تعلقه بمطلق وجود الطبيعة
بنحو الانحلال.
الرابع: أن الفرق بين الأمر والنهي هو أن الأمر واحد جعلا ومجعولا بينما النهي
متعدد كذلك.
الخامس: أن انحلال الحكم بانحلال موضوعه يكون على القاعدة وبمقتضى
الطبع الأولي إذا كان مأخوذا مفروض الوجود في الخارج كما هو الغالب، على
347

أساس أنه بمثابة الشرط بالنسبة إلى حكمه، ومن الطبيعي أن الجزاء بحكم
ارتباطه بالشرط يتعدد بتعدده، نعم لو كانت هناك قرينة على عدم الانحلال
فلابد من الأخذ به، كما لو قال المولى أكرم عالما، فإنه لا انحلال فيه للحكم من
جهة أن موضوعه غير قابل له.
السادس: أن انحلال الحكم في طرف الموضوع إنما هو من شؤون عالم التطبيق
والفعلية ولا ربط له بعالم الجعل والاعتبار، وأما عدم الانحلال في طرف المتعلق
فإنما هو من شؤون عالم الجعل والاعتبار، على أساس أن المجعول في هذا العالم
حكم واحد وهو الطلب المولوي المتعلق بصرف وجود الطبيعة، فعدم الانحلال
فيه إنما هو من جهة وحدة الحكم المجعول في عالم الجعل وعدم تعدده فيه،
والمفروض أنه ليس للحكم بلحاظ المتعلق عالمان:
1 - عالم الجعل والاعتبار.
2 - عالم التطبيق والفعلية، لأن المتعلق في عالم التطبيق والفعلية مسقط للحكم
لا أنه موجب لفعليته. وإنما له عالمان بلحاظ الموضوع فقط، وعلى هذا
فالانحلال وعدمه بلحاظ المتعلق إنما هو من شؤون عالم الجعل والاعتبار، فإن
كان المجعول فيه حكما واحدا فلا انحلال في عالم التطبيق والفعلية، وإن كان
متعددا فيه كان متعددا في عالم التطبيق، ومن هنا يظهر أن انحلال النهي بلحاظ
المتعلق إنما هو من شؤون عالم الجعل والاعتبار لا عالم التطبيق، ودعوى أن
الحكم المجعول في الشريعة المقدسة بلحاظ الموضوع في مرحلة الجعل أيضا
متعدد، بمعنى أن الشارع جعل أحكاما متعددة بعدد أفراد الموضوع في الخارج في
تلك المرحلة لا حكما واحدا، ويتعدد في مرحلة الانطباق وإن كانت صحيحة،
إذ لو لم يكن المجعول أحكاما متعددة، فكيف يمكن تعدده في مرحلة الانطباق
348

والفعلية، إلا أن الأثر حيث لا يترتب عليه إلا في مرحلة الفعلية والانطباق،
فلذلك جعل تعدده بلحاظ الموضوع من شؤون هذه المرحلة دون مرحلة
الجعل، وهذا بخلاف وحدته أو تعدده بلحاظ المتعلق، فإنه حيث لا تكون له بهذا
اللحاظ مرحلتان بل مرحلة واحدة وهي مرحلة الجعل، باعتبار أن فعلية
المتعلق ووجوده خارجا مسقطة للحكم، فكيف يعقل أن تكون من مرحلة
ثبوته ووجوده.
السابع: أن مقتضى اطلاق الهيئة نفي تقيد الوجوب بالمرة أو التكرار وبالدفعة
أو الدفعات، ومقتضى إطلاق المادة عدم تقيدها بشيء من هذه الخصوصيات،
وأما الاكتفاء في مقام الامتثال بالمرة، فإنما هو من جهة انطباق المأمور به على
الفرد المأتي به في الخارج.
وأما مقتضى الأصل العملي في المقام عند الشك في وجوب التكرار هو أصالة
البراءة عن وجوبه، لأنه تقييد زائد ولا يعلم المكلف باشتغال ذمته به.
بقي هنا شيء وهو ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أن الامتثال قد
يكون علة تامة لحصول الغرض، وفي مثله لا يمكن الامتثال بعده، وقد لا يكون
علة تامة لحصوله، ومثل لذلك بما إذا أمر المولى عبده بإتيان ماء من جهة أنه
عطشان مثلا، فإذا جاء بماء فقد امتثل أمر المولى، ولكن للمولى تبديل هذا
الامتثال بامتثال آخر، وهذا شاهد على أن الامتثال الأول لا يكون علة تامة
لحصول الغرض (1).
وقد علق عليه السيد الأستاذ والمحقق الأصبهاني (2) (قدس سرهما) بما حاصله: من أن معنى

(1) كفاية الأصول: 79.
(2) محاضرات في أصول الفقه 2: 209، ونهاية الدراية 1: 361.
349

الامتثال هو اتيان المكلف بالمأمور به بتمام أجزائه وقيوده، فإذا كان آتيا به
كذلك كان علة تامة لحصول الغرض المترتب على الأمر به، وإلا فلا يمكن الجزم
بالامتثال في شيء من الموارد، لأن الامتثال الثاني كالامتثال الأول، فلا فرق
بينهما، فلو لم يكن الأول علة تامة له، لم يكن الثاني أيضا كذلك، وأما المثال الذي
ذكره (قدس سره) ففيه غرضان:
أحدهما مترتب على فعل العبد وهو احضاره الماء عند المولى وجعله تحت
تصرفه، والآخر مترتب على فعل المولى، ومن الواضح أن الغرض الثاني لا
يترتب على فعل العبد وتكليفه بحصوله يكون من التكليف بغير المقدور، وأما ما
يترتب على فعل العبد وهو احضار الماء للمولى وجعله تحت يده، فيكون فعله
علة تامة لحصوله، فإذن كيف يعقل بقاء شخص هذا الأمر.
وبكلمة، أن الغرض المترتب على فعل العبد الداعي إلى الأمر به، فلا محالة
يترتب عليه إذا أتى العبد به ويسقط أمره وإلا لزم الخلف أو تحصيل الحاصل،
ودعوى أن الأمر باحضار الماء في المثال أمر مقدمي، فإن الغرض الأصلي
الموجب للأمر به هو رفع العطش عن المولى، وعليه فاحضار الماء يكون مقدمة
له، ومن الواضح أن الامتثال لا يحصل بالاتيان بالمقدمة، فإذن يكون الأمر
باحضار الماء أمرا غيريا، فلا امتثال له حتى يكون تبديله من تبديل الامتثال
بامتثال آخر.
مدفوعة، بأن الأمر باحضار الماء لا يمكن أن يكون أمرا مقدميا، لأن الأمر
المقدمي غير قابل للتنجز، فلذلك لا يستحق الثواب على الاتيان بمتعلقه ولا
العقاب على تركه، مع أنه لا شبهة في أن العبد يستحق العقاب على مخالفة ذلك
الأمر وترك احضار الماء للمولى، وهذا شاهد على أنه أمر مولوي نفسي
350

لا غيري.
فالنتيجة، أن تبديل الامتثال بامتثال آخر غير معقول حتى في مثل المثال
المذكور، إذ لا يعقل بقاء الأمر الأول بعد الاتيان بمتعلقه بتمام أجزائه وقيوده، وإلا
لزم طلب الحاصل، ولو أمر المولى في المثال باحضار الماء ثانيا، فهو أمر آخر
تعلق باحضار فرد آخر، لا أنه الأمر الأول، وعلى هذا فالتعليق من العلمين على
ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في محله.
351

الفور والتراخي
قد اتضح مما تقدم أن صيغة الأمر لا تدل إلا على الوجوب بالمعنى الحرفي
فحسب، إما بالوضع كما استظهرناه أو بالاطلاق ومقدمات الحكمة أو بحكم
العقل، ولا تدل على خصوصية زائدة عليه ككونه بالفور أو بالتراخي، فإنها
ليست جزء مدلولها على جميع الأقوال في المسألة، فأرادة كل منهما من الصيغة
بحاجة إلى دليل.
وأما اطلاق متعلقها، فهل يدل على الفور أو التراخي أو لا، الظاهر أنه لا يدل
على شيء منها، بل مقتضاه نفي تقيده بالفور واثبات السعة للمكلف، نعم نتيجة
هذا الاطلاق جواز التراخي، وإن شئت قلت إنا إذا شككنا في اعتبار الفورية
وعدمه، فمقتضى إطلاق دليل الأمر عدم اعتبارها وإن كان الشك في تقييد
الوجوب بالزمن الأول، فلا مانع من التمسك باطلاق الهيئة لنفي هذا التقييد
واثبات إنه مطلق، وإن كان في تقييد الواجب به فيتمسك باطلاق المادة لاثبات
أن الواجب مطلق وغير مقيد بالزمن الأول، هذا إذا كان في المسألة أصل لفظي،
وإلا فالمرجع الأصل العملي وهو أصالة البراءة عن التقييد الزائد هذا.
وقد يستدل على وجوب الفور بآيتين:
الأولى: قوله تعالى: (سارعوا إلى مغفرة من ربكم) (1) بتقريب أن الآية
الشريفة تدل على وجوب المسارعة إلى المغفرة، وحيث أنها فعله تعالى، فإذن
بطبيعة الحال يكون المراد وجوب المسارعة إلى أسبابها، ومن الواضح أن من

(1) سورة آل عمران (3): 133.
352

أظهرها الاتيان بالواجبات الإلهية، فإذن تجب المسارعة إليها، وهذا هو معنى
وجوبها فورا، وللمناقشة في دلالتها مجال واسع، أما أولا فلأن في الآية احتمالان:
الأول: أن يكون المراد من المغفرة فيها رضوانه تعالى وجنته المعلى.
الثاني: غفرانه تعالى عباده وتجاوزه عن سيئاته.
أما على الاحتمال الأول، فيكون الاتيان بالواجبات من أسباب الدخول في
الجنة كسائر أسبابه، وأما على الاحتمال الثاني، فلا يكون الاتيان بها من أسباب
غفرانه تعالى وتجاوزه عن السيئات، لأن المكلف إن أتى بتلك الواجبات استحق
الثواب والدخول في الجنة بفضله سبحانه، وإن عصى وترك هذه الواجبات
استحق العقوبة والدخول في النار، فالنتيجة، أن الاتيان بالواجبات الإلهية ليس
سببا لمحو الذنوب السابقة وإزالتها من صحائف الأعمال، وعلى هذا فالآية
الشريفة لو لم تكن ظاهرة في الاحتمال الثاني فلا ظهور لها في الاحتمال الأول
فتكون مجملة، فلا يمكن الاستدلال بها.
وثانيا: مع الاغماض عن ذلك وتسليم أنها ظاهرة في الاحتمال الأول، ولكن
يرد عليها أن أسباب المغفرة كثيرة منها الاتيان بالواجبات ومنها التوبة ومنها
الاعمال المستحبة بأنواعها المختلفة واشكالها المتعددة، ومن الواضح أن المسارعة
إلى الأعمال المستحبة غير واجبة، فإذن لا محالة يكون الأمر بالمسارعة في الآية
مستعملا في الجامع بين الوجوب والندب، فلا يدل على الوجوب فإذن الوجوب
بحاجة إلى قرينة.
وثالثا: أن الأمر بالمسارعة أمر ارشادي ولا يحتمل أن يكون أمرا مولويا
نفسيا، بأن تكون المسارعة واجبة مستقلة في الشريعة المقدسة كالصلاة
ونحوها، بحيث يستحق العقوبة على تركها والمثوبة على فعلها، فإذا سارع إلى
353

الاتيان بالصلاة مثلا وأتى بها فقد استحق مثوبتين:
مثوبة على الصلاة ومثوبة على المسارعة وهو كما ترى، مع أن هذا ليس
مقصود المستدل، فإن مقصوده من الاستدلال بها، اثبات فورية وجوب الصلاة
ونحوها، لا أن المسارعة واجبة مستقلة في الشرع.
والخلاصة: أن الأمر بالمسارعة ارشاد إلى ما استقل به العقل ولا شأن له غير
شأن المرشد إليه، فإن كان وجوبها فوريا فالمسارعة إليها واجبة بحكم العقل،
باعتبار أن الأمر بها ارشاد إليه، وإن لم يكن وجوبها فوريا لم تجب المسارعة إليها
بحكم العقل، فإذن لابد من إثبات وجوب الأعمال الواجبة فوري أو أنه غير
فوري في المرتبة السابقة، لأن الأمر بالمسارعة تابع له في ذلك، ولهذا لا مجال
للاستدلال بالآية الشريفة على الفور.
ورابعا: مع الاغماض عن ذلك وتسليم أن الآية تدل على الفور، إلا أن معنى
ذلك دلالة الأوامر على الفور بقرينة خارجية وهذا لا كلام فيه، وإنما الكلام في
دلالتها على الفور في نفسها إما بالوضع أو بالاطلاق ومقدمات الحكمة أو بحكم
العقل، والمفروض أنها لا تدل عليه كذلك كما مر، هذا إضافة إلى أن تطبيق الآية
الشريفة على الواجبات الشرعية لا يخلو عن اشكال بل منع، لأن الواجبات
الشرعية على قسمين:
الأول: موقت. والثاني: غير موقت.
أما القسم الأول، فهو لا يخلو من أن يكون وقته مضيقا بأن لا يزيد الوقت
على مفعول العمل أو متسعا، فعلى الأول فهو خارج عن محل الكلام، إذ لا
موضوع فيه للفور أو التراخي كالصوم في شهر رمضان ونحوه. وأما على الثاني،
فمقتضى ما دل على أن وقته متسع، هو تخيير المكلف في الاتيان به في أي فترة من
354

وقته شاء كالصلاة ونحوها، ولا يدل على وجوب الاتيان به في أول جزء من
الوقت، وإلا ففي الجزء الثاني وهكذا فورا ففورا، وعلى هذا فلو دلت الآية
الشريفة على وجوب الفور، فلابد من تقييد اطلاقها بغير هذا القسم من
الواجبات بما دل على اتساع وقته تطبيقا لقاعدة حمل المطلق على المقيد.
وأما القسم الثاني، فبما أنه غير موقت، فالمكلف مخير في الاتيان به في أي
وقت شاء، طالما يكون واثقا ومطمئنا بأنه لا يفوت عنه، فإذن لابد من تقييد
اطلاق الآية الشريفة بغير ذلك، إلا أن يقال بأن وجوب القضاء فوري بنحو
تعدد المطلوب، بمعنى أنه يجب الاتيان به في أول أزمنة الامكان وإلا ففي الزمن
الثاني وهكذا فورا ففورا، ولكن هذا القول مضافا إلى أنه ضعيف، إن القائل به
إنما يقول لا من جهة الآية الشريفة بل من جهة دعوى الاجماع أو الشهرة. وأما
وجوب الحج فمضافا إلى إمكان المناقشة في فوريته، إنها مستفادة من دليل
خاص لا من الآية الشريفة، ومن هنا يظهر الحال في وجوب صلاة
الآيات أيضا.
الآية الثانية: قوله تعالى: (فاستبقوا الخيرات) (1) بتقريب أن الآية الشريفة
تدل على وجوب الاستباق إلى الخيرات، ومن الواضح أن الاتيان بالواجبات
الإلهية من أظهر مصاديقها، فإذن يجب الاستباق إليها.
ويرد على الاستدلال بهذه الآية الشريفة جميع ما أوردناه على الآية الأول
حرفا بحرف بدون تفاوت بينهما هذا، ولكن السيد الأستاذ (قدس سره) قد ذكر أن كلتا
الآيتين أجنبية عن محل الكلام، أما الآية الأولى فلأن الظاهر من المغفرة فيها
خصوص التوبة دون الأعم منها ومن الواجبات الشرعية والأعمال المستحبة،

(1) سورة البقرة (2): 148، وسورة المائدة (5): 48.
355

فإذن يكون مفادها ارشاد إلى ما استقل به العقل من وجوب التوبة (1).
وفيه أن هذا الاشكال متين ومبني على ما أشرنا إليه في مستهل البحث من أنه
لا يبعد أن يكون المراد من المغفرة غفرانه تعالى العبد والتجاوز عن سيئاته،
وحيث إن الواجبات الشرعية ليست من أسباب محو الذنوب وإزالة السيئات
عن العبد فلا تكون مشمولة للآية الشريفة، وعندئذ إما أن تكون الآية مختصة
بالتوبة، باعتبار أنها من أظهر أسباب غفران الذنوب ومحوها أو تعم سائر
أسبابه أيضا ولا يبعد العموم.
وأما الآية الثانية، فلأن الظاهر منها عرفا هو أنه تعالى أمر عباده بالتسابق
إلى المشروعات الخيرية العامة كتشييد المدارس الدينية والمساجد والحسينيات
والجسور العامة ونحوها، حيث إن على كل واحد منهم أن يسبق الآخر في تلك
الأعمال، وعليه فالأمر في الآية الشريفة متوجه إلى كل واحد منهم بالمسابقة في
الخيرات لا بفعلها ابتداءا، وعلى هذا فمفاد الآية الشريفة أجنبي عن الواجبات
الشرعية ولا ينطبق عليها، باعتبار أن فيها كل فرد مأمور بالاتيان بها مستقلا
وابتداء وهذا الاشكال في محله.
ثم أن من الغريب ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره) في المقام وحاصل ما ذكره، أن
الآية الشريفة تدل على وجوب الاستباق إلى الأعمال الخيرية جميعا، وحيث إن
كل فرد من المكلف لا يتمكن من إيجاد جميع الأعمال الخيرية فلا محالة تقع
المزاحمة بينها الناشئ من عدم قدرته على ذلك، وعندئذ فيسقط وجوب
الاستباق على أساس المزاحمة وعدم القدرة، فإذا سقط وجوب الاستباق انتفت

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 214 - 215.
356

المزاحمة بانتفاء منشأها، وإذا انتفت المزاحمة وجب الاستباق من جهة أن سقوطه
من جهة المزاحمة، ومع فرض انتفائها فلا موجب لسقوطه، فإذن يلزم من فرض
وجوب الاستباق عدم وجوبه وهو محال (1)، ووجه الغرابة أن ما ذكره (قدس سره) مبني
على تخيل أن مفاد الآية الشريفة وجوب الاستباق على كل مكلف إلى إيجاد جميع
الأعمال الخيرية، وحيث إنه غير مقدور فتقع المزاحمة بينها، ولكن من الواضح
أن ذلك ليس مفاد الآية، ضرورة أن مفادها توجه الأمر إلى المكلفين جميعا
بإيجاد أنواع الخيرات كذلك، ومقابلة الجمع بالجمع تفيد التوزيع، فيكون معنى
الآية أن كل مكلف مأمور بإيجاد ما هو مقدور من الأعمال الخيرية، وإن عليه أن
يتسابق فيه على الآخرين، هذا إضافة إلى أن وجوب التسابق على كل فرد من
أفراد المكلف بإيجاد تمام أنواع الخيرات تكليف بغير المقدور فكيف يمكن جعله
من المولى الحكيم، والتزاحم انما هو بين التكليفين المجعولين في الشريعة المقدسة
في مرحلة الامتثال اتفاقا لا دائما وإلا كان بينهما تعارض، فلا يمكن جعل كليهما
معا، وأيضا لو فرضنا وقوع المزاحمة بينها، فيكون الساقط عندئذ وجوب
التسابق في الجميع لا في البعض الذي يكون التسابق فيه مقدورا، وعليه فمقتضى
مرجحات باب التزاحم ترجيح وجوب التسابق بالأهم فالأهم، فما في كلامه (قدس سره)
من أنه إذا سقط وجوب التسابق انتفت المزاحمة، فإذا انتفت المزاحمة عاد وجوب
التسابق، لا ينبغي صدوره من مثله، فإن انتفاء المزاحمة ليس معلولا لانتفاء
وجوب التسابق، بل الأمر بالعكس تماما، لأن سقوط وجوب التسابق في
الجميع معلول لوقوع التزاحم الناجم من عدم قدرة المكلف عليه، فإذن لا
محذور، فإن وجوب التسابق في الجميع قد سقط لمكان عدم القدرة، ووجوب

(1) لاحظ بدائع الأفكار: 252.
357

التسابق في المقدار المقدور منها ثابت ومقتضاه مراعاة الأهم فالأهم.
فالنتيجة، في نهاية المطاف أن الأمر لا يدل على الفور ولا على التراخي، أما
هيئة فلما عرفت من أنها موضوعة للنسبة الطلبية المولوية المساوقة للوجوب،
وأما مادة فلأنها موضوعة للطبيعة المهملة وهي الطبيعة العارية عن جميع
الخصوصيات اللحاظية، فإذن لا يدل الأمر إلا على النسبة الطلبية المولوية بين
المخاطب والمادة لا على أكثر من ذلك لا بالوضع ولا بالاطلاق ومقدمات الحكمة
ولا بحكم العقل، وأما الاستدلال بآية المسارعة وآية الاستباق على الفور، فقد
تقدم موسعا أنه في غير محله، وإن الآيتين الشريفتين أجنبيتان عن الدلالة على
ذلك نهائيا.
358

مبحث الاجزاء
هناك ثلاث مراحل رئيسية:
المرحلة الأولى: أن الاتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي، هل يجزي عن
وجوب الإعادة في الوقت والقضاء في خارج الوقت، أم لا؟
المرحلة الثانية: أن الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري، هل يكون مجزيا
عن المأمور به بالأمر الواقعي إعادة في الوقت وقضاء في خارج الوقت عند رفع
الاضطرار، أو لا؟
المرحلة الثالثة: أن الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري، هل يجزي عن
الاتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي إعادة في الوقت وقضاء في خارج الوقت عند
كشف الخلاف فيه، أم لا؟
أما الكلام في المرحلة الأولى، فلا شبهة في أن الاتيان بالمأمور به بالأمر
الواقعي بتمام أجزائه وشروطه مجزئ، بل هو علة تامة لحصول الغرض وسقوط
الأمر وعدم وجوب إعادته لا في الوقت ولا في خارجه، بداهة أنه لو لم يحصل
الغرض به ولم يسقط الأمر لم يمكن الجزم بحصوله وسقوط الأمر بالامتثال الثاني،
لأنه كالأول فلا فرق بينهما أصلا، فانطباق المأمور به بكامل أجزائه وشروطه
على الفرد المأتي به في الخارج لو لم يستوجب حصول الغرض وسقوط الأمر به في
الامتثال، لم يستوجب في الامتثال الثاني أيضا، لاستحالة الترجيح بلا مرجح.
والخلاصة أن الغرض لو لم يحصل بالاتيان بالمأمور به الواقعي بكامل الاجزاء
والشرائط ولم يسقط أمره به، فلازمه أحد أمور:
359

الأول: عدم إمكان الامتثال نهائيا وهو كما ترى.
الثاني: أن ما فرض ترتب الغرض عليه وتعلق الأمر به ليس كما فرض
وهو خلف.
الثالث: أن بقاء الأمر يستلزم طلب الحاصل وهو مستحيل.
ولكن مع هذا قد يتوهم جواز الامتثال بعد الامتثال في مجموعة من المسائل.
الأولى: أن من صلى وحده ثم انعقدت جماعة، فيجوز له أن يعيد صلاته
جماعة، ومن الواضح أن هذا من الامتثال بعد الامتثال، وقد دلت على ذلك عدة
من الروايات.
منها، صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في الرجل يصلي
الصلاة وحده ثم يجد جماعة، قال يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء (1).
ومنها، صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يصلي
الصلاة وحده ثم يجد جماعة، قال يصلي معهم ويجعلها الفريضة (2).
ومنها، موثقة عمار، قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يصلي الفريضة ثم
يجد قوما يصلون جماعة أيجوز له أن يعيد الصلاة معهم؟ قال: نعم هو أفضل،
قلت: فإن لم يفعل؟ قال: ليس به بأس (3).
ومنها، غيرها (4) بتقريب أن الأمر بالإعادة في هذه الروايات يدل بوضوح
على أن الامتثال بعد الامتثال جائز، فلو كان الامتثال الأول علة تامة لحصول
الغرض وسقوط الأمر، كان الأمر بالإعادة لغوا وجزافا، فإذن لا محالة تكشف

(1) (2) (3) الوسائل 8: 401، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة، ح 1 و 11 و 9.
(4) راجع الوسائل 8، الباب المتقدم.
360

هذه الروايات عن أن الامتثال الأول ليس علة تامة لحصول الغرض وسقوط
الأمر، وإلا فلا يمكن الأمر بالإعادة ثانيا، فوقوعه فيها أدل دليل على إمكانه
وإلا لم يقع، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن في قوله (عليه السلام) يصلي معهم ويجعلها الفريضة عدة احتمالات:
الأول: أن يجعل الصلاة المعادة جماعة فريضة فعلية دون صلاة الفرادى.
الثاني: أن يكون المراد منه تبديل الامتثال بامتثال آخر.
الثالث: أن يكون المراد من جعلها الفريضة، جعل الصلاة المعادة فريضة
الظهر أو العصر التي صلاها فرادى لادراك ثواب الجماعة الذي فات عنه.
ودعوى أن إعادتها إذا كانت مستحبة، فلا تكون مشروعة في الجماعة.
مدفوعة، بأن الجماعة غير مشروعة في النوافل الذاتية المرتبة وغير المرتبة في
مقابل الفرائض كذلك، وأما الإعادة فهي مستحبة بعنوان فريضة الظهر أو
العصر، فلا تكون من النوافل الذاتية حتى تكون مشمولة لاطلاق ما دل على
عدم مشروعية الجماعة فيها.
ولنأخذ بالنظر في هذه الاحتمالات، أما الاحتمال الأول فهو غير معقول،
بداهة أنه لا يمكن القول بأن الصلاة المعادة جماعة فريضة فعلية دون صلاة
الفرادى التي صلاها سابقا، فإن لازم ذلك عدم إمكان الامتثال نهائيا، إذ لا فرق
بين الامتثال الأول والامتثال الثاني، فإن الامتثال الأول إذا لم يكن وافيا
بالغرض ومسقطا للأمر فالامتثال الثاني أيضا كذلك، وإن كان في ضمن فرد
أفضل كالصلاة في الجماعة أو المسجد أو الحرم، هذا إضافة إلى أن الغرض إذا لم
يحصل بانطباق المأمور به بكامل أجزائه وشروطه على الفرد المأتي به في
361

الخارج، لزم أحد محذورين، إما أن هذا الغرض ليس غرضا له وهو خلف، وإما
أن ذلك المأمور به لا ينطبق عليه بكامل أجزائه وقيوده وهو أيضا كذلك، وأما
بقاء الأمر مع الاتيان بمتعلقه فهو غير معقول، وإلا لزم طلب الحاصل.
ودعوى أن هنا ملاكين: أحدهما قائم بالجامع بين صلاة الفرادى وصلاة
الجماعة، والآخر قائم بخصوص صلاة الجماعة، وعلى هذا فالغرض القائم
بالجامع يحصل بالامتثال الأول، وأما الغرض القائم بالحصة الخاصة وهي
الصلاة جماعة فلا يحصل إلا بالاتيان بها، وعلى هذا فالامتثال الثاني إنما هو
لتحصيل الغرض الثاني.
مدفوعة، بأن ذلك وإن كان ممكنا ثبوتا، إلا أنه خلاف المفروض في المقام،
فإن المفروض فيه وحدة المطلوب ملاكا وحكما، فإذا كان المطلوب واحدا
كذلك فكيف يعقل عدم حصول الغرض وعدم سقوطه الأمر بالامتثال الأول
وهو انطباق المأمور به بكامل أجزائه وشروطه على الفرد المأتي به في الخارج،
وأما فرض تعدد الغرض والملاك وتعدد الأمر فهو خارج عن محل الكلام، حيث
إنه لابد فيه من تعدد الامتثال.
قد يقال أن وجوب الصلاة فرادى مشروط بعدم التمكن من الاتيان بها جماعة
كوجوب الصلاة مع الطهارة الترابية، فإنه مشروط بعدم التمكن من الصلاة مع
الطهارة المائية، وعلى هذا فإذا كان المصلي متمكنا من الاتيان بالصلاة جماعة
وجب عليه الاتيان بها، ولا يكفي الاتيان بالصلاة فرادى.
وفيه أن ذلك وإن كان ممكنا ثبوتا إلا أنه خلاف الضرورة الفقهية اثباتا، بل
خلاف سيرة المسلمين كافة من لدن زمن التشريع إلى زماننا هذا، فلو كان الأمر
كذلك لبان واشتهر بين المسلمين وأصبح من الواضحات من جهة كثرة الابتلاء
362

به، وأهمية الموضوع والروايات المتقدمة لا تدل على هذه الفرضية، بل تدل على
خلافها كما هو ظاهر.
وأما الاحتمال الثاني، فهو أيضا غير معقول، لأنه إذا حصل الغرض وسقط
الأمر باتيان الصلاة فرادى فكيف يمكن تبديله بامتثال آخر، بداهة استحالة
انقلاب الشئ عما هو عليه، فإذا كانت الصلاة المأمور بها تنطبق بكامل أجزائها
وقيودها على الفرد المأتي به في الخارج، كان حصول الغرض وسقوط الأمر عنها
ضروريا بسبب ذلك الانطباق القهري الذاتي، ولا يمكن تبديله بعدم الانطباق،
لأنه من انسلاخ الشئ عن ذاته وذاتياته.
وأما الاحتمال الثالث، فهو وإن كان خلاف الظاهر إلا أنه لا مانع من الالتزام
به، لامكان حمل قوله (عليه السلام) في صحيحة حفص بن البختري (ويجعلها الفريضة
على ذلك)، بتقريب أنه بعدما لا يمكن حمله على فريضة فعلية كما مر، فلا مانع
من حمله على إعادة فريضة الظهر أو العصر مستحبة، فيكون المراد من الرواية
أن من صلى فريضة الظهر أو العصر فرادى، فإذا انعقدت هناك جماعة جاز له أن
يعيدها بعنوان فريضة الظهر أو العصر استحبابا بعدما لا يمكن أن تكون وجوبا،
وعلى هذا فلابد أن يراد من قوله (عليه السلام) ويجعلها الفريضة، الفريضة بالذات لا
بالفعل، ولا ينافي كونها مستحبة بالفعل، لأن الاستحباب الفعلي يجتمع مع
الفريضة الشأنية وبالذات، كما أن المراد من الجعل في الصحيحة ليس أن اختيار
الصلاة المعادة جماعة فريضة مستحبة بيد المصلي واختياره، بل صيرورتها كذلك
إنما هي بحكم الشارع وخارج عن اختيار المصلي، ونظير ذلك ما ورد من أن
المصلي إذا دخل في صلاة العصر معتقدا بأنه صلى الظهر، ثم في الأثناء انكشف
وبان أنه لم يصل الظهر فوظيفته العدول إلى العصر، فإن التعبير بالعدول ليس
363

معناه أن أمره بيده بل هو قهري، لأن ما صلاة عصرا انقلب ظهرا بحكم الشارع
أراد المصلي أو لم يرد.
تحصل أن الصلاة المعادة جماعة هي فريضة الظهر أو العصر ذاتا ومستحبة
فعلا، فيكون الأمر بالإعادة أمرا استحبابيا، بل نفس الصحيحة تدل على ذلك،
بقرينة أن الأمر فيها قد ورد في مورد توهم الحظر ولا يدل على أكثر من رفع
الحظر، وهنا روايات أخرى تنص على استحباب الإعادة، منها موثقة عمار
المتقدمة (1).
ومنها، صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: إذا صليت صلاة وأنت في
المسجد وأقيمت الجماعة، فإن شئت فأخرج وإن شئت فصل معهم واجعلها
تسبيحا) (2)، فإنها ناصة على أن الصلاة المعادة مستحبة.
فالنتيجة، أن المستفاد من مجموع الروايات أن إعادة ما صلاه فرادى جماعة
مستحبة، والغرض الداعي إلى استحبابها هو إدراك فضيلة الجماعة وما يترتب
عليها من الآثار، إلى هنا قد تبين أن هذه الروايات أجنبية عن الدلالة على جواز
الامتثال بعد الامتثال.
ينبغي التنبيه على عدة نقاط:
الأولى: أن هذه الروايات لا تنافي ما دل من الروايات على عدم مشروعية
الجماعة في النوافل (3)، أما أولا: فلأن الصلاة المعادة جماعة وإن كانت نافلة فعلا

(1) الوسائل 8: 403، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة، ح 9.
(2) الوسائل 8: 402، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة، ح 8.
(3) أنظر الوسائل 8: 28، باب 7 من أبواب نافلة شهر رمضان، ح 6، وص 45، باب 10 من هذه
الأبواب.
364

إلا أن الظاهر اختصاص تلك الروايات بالنوافل الأصلية كصلاة الليل والنوافل
اليومية المرتبة وغيرها، فلا تشمل النوافل بالعرض كما في المقام.
وثانيا: فعلى تقدير تسليم أن تلك الروايات تشمل النوافل بالعرض إلا أنه
لابد من تقييد اطلاقها بالروايات المتقدمة التي تدل على مشروعية الجماعة في
النوافل بالعرض كما هو الحال في صلاتي العيدين وصلاة الاستسقاء والصلاة
المتبرع بها عن الغير والصلوات الاحتياطية الاستحبابية.
الثانية: أن مشروعية الإعادة جماعة بعد الامتثال فرادى، حيث إنها كانت
على خلاف القاعدة، فلابد من الاقتصار على موردها وهو ما إذا صلى منفردا أن
يعيد صلاته جماعة إماما كان أم مأموما، وكذا إذا كان قد صلى جماعة إماما أو
مأموما، فإن له أن يعيدها في جماعة أخرى إماما فقط، ولا يمكن التعدي عن هذه
الموارد إلى سائر الموارد.
الثالثة: أن قوله (عليه السلام) في صحيحة هشام بن سالم (ويجعلها الفريضة إن
شاء) (1)، يدل على أن الرجل الذي صلى الصلاة وحده ثم يجد جماعة، فله أن
يصلي معهم بنية فريضة فاتته إذا شاء، كما أن له أن يصلي بنية الاستحباب
لادراك ثواب الجماعة فحسب.
الرابعة: أن الرواية التي تدل على أن الله تعالى يختار أحبهما إليه (2) ضعيفة من
ناحية السند فلا يمكن الاعتماد عليها، ومع الاغماض عن سندها فالظاهر منها أنه
تعالى في مقام التفضل والامتنان على العباد اختار الصلاة المعادة في مقام
الاحتساب واعطاء الأجر والثواب، وهذا أمر آخر غير حصول الغرض

(1) الوسائل 8: 401، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة ح 1.
(2) الوسائل 8: 403، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة، ح 10.
365

وسقوط الأمر بالاتيان بالمأمور به، أو فقل: أن الغرض الأصلي الملزم الداعي
للمولى إلى إيجاب الصلاة الذي هو مشترك بين الصلاة فرادى والصلاة جماعة بما
أنه قد حصل بالامتثال الأول وسقط الأمر، فلا يمكن حمل هذه الرواية على
الاجزاء، فإذن لابد من حمل الرواية على أنها في مقام اعطاء الأجر والثواب
هذا، وللمحقق العراقي (قدس سره) تفسير آخر لهذه الرواية، وحاصل هذا التفسير أن
المستفاد منها أنه ليس للصلاة غرض نفسي قائم بصرف وجودها حتى يحصل
بمجرد تحققها في الخارج، بل لها غرض مقدمي بمعنى أن الصلاة مقدمة لاختيار
المولى من أفرادها عند تعددها في الخارج ما شاء، وعلى هذا فبناء على وجوب
المقدمة الموصلة، فإن اقتصر المكلف في مقام الامتثال على صلاة واحدة عازما
على عدم الاتيان بصلاة أخرى تحقق الغرض بها وسقط الأمر، وأما إذا لم يقتصر
في هذا المقام على امتثال فرد واحد بل كرر في ضمن فردين أو أكثر، فعندئذ إذا
اختار المولى من الفردين أو الأفراد ما شاء، كان ذلك الفرد المختار هو المصداق
للصلاة المأمور بها وفرد لها وهي تنطبق عليه لا على غيره، وهذا معنى قوله (عليه السلام)
يختار أحبهما إليه.
وفيه، أن هذا التفسير غريب جدا، إذ لا يمكن أن يكون ذلك هو معنى
الرواية، لأن مرد هذا المعنى إلى أن حصول الغرض وسقوط الأمر بالفرد الأول
مراعى بعدم الاتيان بالفرد الثاني أو الثالث وهكذا وهو كما ترى، بداهة أن
انطباق المأمور به على الفرد المأتي به في الخارج أمر قهري وذاتي، والمفروض أن
هذا الانطباق علة تامة لحصول الغرض وسقوط الأمر. فإذن كيف يعقل أن
يكون مراعى بعدم الاتيان بالفرد الثاني أو الثالث وهكذا، وإلا فلازمه أن لا
يكون علة تامة له وهو خلف.
366

والخلاصة، أن المأمور به لا يخلو إما ينطبق على الفرد الأول المأتي به في
الخارج بكامل الاجزاء والقيود أو لا، والثاني غير معقول، لأن الانطباق أمر
قهري تكويني، أما على الأول فهو علة تامة لحصول الغرض وسقوط الأمر، فلا
يعقل أن يكون مراعى بعدم الاتيان بالفرد الثاني أو الثالث، لأن المعلوم يتبع
العلة، فلا يعقل أن يكون مربوطا بشيء آخر، ولا زم ما أفاده (قدس سره) أن وجود الفرد
الأفضل والأكمل مانع عن انطباق الطبيعي المأمور به على الفرد الأول غير
الأفضل وهو كما ترى، فإنه إن كان فردا ومصداقا له فانطباقه عليه قهري، ولا
يعقل أن يكون وجود الفرد الأفضل مانعا عنه، وإن لم يكن فردا ومصداقا له
فلا يمكن الانطباق، فالنتيجة أن ما أفاده (قدس سره) من التفسير لا يرجع إلى معنى
محصل.
المسألة الثانية: من صلى وحده ثم أقيمت جماعة منهم جاز له أن يدخل
معهم في الجماعة ويعيد ما صلاه وحده جماعة، وتدل على ذلك مجموعة من
الروايات، منها صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه قال: ما منكم
أحد يصلي صلاة فريضة في وقتها ثم يصلي معهم صلاة تقية وهو متوضأ إلا كتب
الله له بها خمسا وعشرين درجة فارغبوا في ذلك) (1).
ومنها، صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (أنه قال: ما من عبد يصلي
في الوقت ويفرغ ثم يأتيهم ويصلي معهم وهو على وضوء إلا كتب الله له خمسا
وعشرين درجة) (2).
ومنها، صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث (قال: لا ينبغي للرجل
أن يدخل معهم في صلاتهم وهو لا ينويها صلاة، بل ينبغي له أن ينويها وإن كان

(1) (2) الوسائل 8: 302، باب 6، من أبواب صلاة الجماعة، ح 1 و 2.
367

قد صلى، فإن له صلاة أخرى) (1).
ومنها غيرها (2) بدعوى أن هذه الروايات تدل على جواز الامتثال بعد
الامتثال.
والجواب، أنها لا تدل على مشروعية الامتثال بعد الامتثال بداعي نفس
الغرض والأمر الأول، فإن معنى ذلك أن الغرض لم يحصل بالامتثال الأول ولا
الأمر يسقط به، والاتيان بالمأمور به مرة أخرى إنما هو بداعي حصوله وسقوط
الأمر، وأما إذا سقط الأمر بالامتثال الأول وحصل الغرض به ولكنه يأتي بفرد
آخر منه بداعي الأمر الآخر والغرض الثاني، سواءا كان ذلك الأمر وجوبيا أم
استحبابيا، فهو ليس من الامتثال بعد الامتثال وخارج عن محل الكلام.
ومورد الروايات في المقام الثاني دون الأول، ضرورة أنه لا شبهة في سقوط
الأمر بالامتثال الأول وحصول الغرض به، وإلا لزم عدم امكان الجزم بالامتثال
نهائيا أو الخلف، وأما الدخول معهم في صلاتهم، فإنما هو لغرض آخر يدعو إلى
ذلك وهو المداراة معهم تقية، فإن مصلحة المداراة التي منها وحدة صفوف
المسلمين وجمع شملهم، ومنها المحافظة على دماء الطائفة أو أعراضهم أو أموالهم،
تقتضي ذلك.
فالنتيجة، أن هذه الروايات أجنبية عن الدلالة على جواز الامتثال بعد
الامتثال.
المسألة الثالثة: وهي أن من صلى صلاة الآيات، جاز له أن يعيدها مرة

(1) الوسائل 8: 401، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة، ح 2.
(2) لاحظ الوسائل 8: 302، باب 6 من أبواب صلاة الجماعة.
368

ثانية، وقد دلت على ذلك صحيحة معاوية بن عمار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):
" صلاة الكسوف إذا فرغت قبل أن ينجلي فأعد " (1).
بدعوى، أنها تدل على جواز الامتثال بعد الامتثال.
والجواب: أن ظاهر الأمر بالإعادة في الصحيحة الارشاد إلى بطلان صلاة
الآيات إذا فرغ المكلف منها قبل الانجلاء، وعلى هذا فالصحيحة تدل على
بطلان الامتثال الأول، من جهة أنه فاقد للشرط وهو الفراغ منها بعد الانجلاء
ووجوب امتثالها مرة ثانية، ولا تدل على جواز الامتثال بعد الامتثال أصلا، فلو
كنا نحن وهذه الصحيحة فلابد من الالتزام بظاهرها، ولكن في مقابلها رواية
أخرى وهي معتبرة عمار عن أبي الله (عليه السلام) قال: " إن صليت الكسوف إلى أن
يذهب الكسوف عن الشمس والقمر وتطول في صلاتك، فإن ذلك أفضل، وإن
أحببت أن تصلي فتفرغ من صلاتك قبل أن يذهب الكسوف فهو جائز " (2).
وهذه المعتبرة تدل على أن الفراغ عن الصلاة بعد الانجلاء ليس شرطا في
صحتها، فإذن تقع المعارضة بينهما، باعتبار أن مفاد الصحيحة هو الارشاد إلى أن
الفراغ شرط في صحتها، ومفاد المعتبرة الارشاد إلى أنه ليس شرطا فيها،
فتسقطان معا ونشك في شرطيته، فمقتضى أصالة البراءة عدمها، فالنتيجة أنه
ليس بشرط، نعم إطالة الصلاة إلى ما بعد الانجلاء أمر محبوب كما نصت
عليه المعتبرة.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن الاتيان بالمأمور به بكامل
أجزائه وشرائطه علة تامة لحصول الغرض وسقوط الأمر وإلا لزم أحد

(1) الوسائل 7: 498، باب 8، من أبواب صلاة الكسوف والآيات، ح 1.
(2) الوسائل 7: 498، باب 8 من أبواب صلاة الكسوف والآيات ح 2.
369

المحذورين:
الأول: عدم إمكان الجزم بالامتثال نهائيا، فإن الامتثال الثاني كالامتثال
الأول فلا فرق بينهما.
الثاني: الخلف وكلاهما لا يمكن.
هذا تمام الكلام في المرحلة الأولى وهي إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر
الواقعي عن الإعادة في الوقت والقضاء خارج الوقت.
إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي
وأما الكلام في المرحلة الثانية وهي إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر
الاضطراري عن المأمور به بالأمر الواقعي إعادة وقضاء وعدم إجزائه.
فيقع الكلام في مقامين:
الأول: في مقام الثبوت والواقع.
الثاني: في مقام الاثبات والكشف.
أما الكلام في المقام الأول، فلا شبهة في أن جعل الحكم الاضطراري كوجوب
التيمم لغير واجد الماء ونحوه في موارده لا يمكن أن يكون جزافا وبلا ملاك، فلا
محالة يكون مبنيا على نكتة ملزمة تدعو المولى إلى جعله فيها وهي تفي بغرض
المولى، لأن الأمر الاضطراري أمر واقعي، غاية الأمر أنه مجعول على المكلف
بعنوان ثانوي وهو كونه معذورا عن الاتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي، ولا
فرق في ذلك بين أن يكون عذره واقعيا تكوينيا أو شرعيا، والأول كالعاجز
370

تكوينا عن الصلاة قائما أو مع الطهارة المائية. والثاني كالعاجز شرعا عن الصلاة
قائما أو مع الطهارة المائية، وفي كلتا الحالتين يكون المكلف مأمورا واقعا بالصلاة
جالسا أو مع الطهارة الترابية، ومن الواضح أن هذا الأمر يكشف عن أن الصلاة
المذكورة تفي بغرض المولى في هذه الحالات.
وبكلمة واضحة أن مقتضى القاعدة الأولية عدم الاجزاء، فإن سقوط
الواجب وحصول الغرض بالاتيان بغير الواجب بحاجة إلى دليل يدل على تقييد
وجوبه بعدم الاتيان به، وعلى هذا الأساس فمقتضى اطلاق دليل كل واجب عدم
سقوط وجوبه بالاتيان بغيره، فإن مسقطية الغير بحاجة إلى دليل.
هذا إذا كان لدليل الواجب اطلاق وأما إذا لم يكن له اطلاق، فمقتضى الأصل
العملي عدم السقوط بغيره تطبيقا لقاعدة أن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة
اليقينية وهذا لا كلام فيه، وإنما الكلام في الخروج عن مقتضى هذه القاعدة
الأولية في حال الاضطرار إلى الاتيان بغير المأمور به الواقعي، كما إذا اضطر إلى
الصلاة مع الطهارة الترابية عند عدم التمكن من الطهارة المائية عقلا أو شرعا أو
إلى الصلاة جالسا أو في ثوب نجس عند عدم التمكن من الصلاة قائما أو في ثوب
طاهر وهكذا، والخروج عن مقتضى تلك القاعدة يتوقف على أن يكون الأمر
الاضطراري كاشفا عن وجود ملاك في متعلقه يفي بملاك الأمر الواقعي، فإذا كان
كاشفا عن ذلك كان دالا على الاجزاء، مثلا الأمر المتعلق بالصلاة مع الطهارة
الترابية عند عدم التمكن من الصلاة مع الطهارة المائية إذا كان كاشفا عن وجود
ملاك فيها يفي بملاك الواقع إجزاء الاتيان بها عنها إعادة وقضاء، وعلى هذا فيقع
الكلام في ثبوت الملازمة بين وجود الأمر الاضطراري بشيء ووجود ملاك فيه
يفي بغرض الواقع في مسألتين:
371

الأولى: فيما إذا كان الاضطرار مستوعبا لتمام الوقت.
الثانية: فيما إذا لم يكن مستوعبا لتمام الوقت.
أما الكلام في المسألة الأولى، فيقع تارة في مقام الثبوت وأخرى في
مقام الاثبات.
أما الكلام في الأول، فيمكن تصور ملاك المأمور به بالأمر الاضطراري على
أربعة صور:
الأولى: أن يكون وافيا بتمام ملاك الواقع.
الثانية: أن يكون وافيا بمعظم ملاكه، بحيث يكون المقدار المتبقي غير لزومي.
الثالثة: أن يكون وافيا ببعض ملاكه، والبعض المتبقي وإن كان لزوميا ولكن
لا يمكن استيفائه ثانيا.
الرابعة: هذا الفرض ولكن يمكن استيفاء المقدار المتبقي مرة ثانية، أما على
الصور الثلاث الأولى فلا شبهة في الاجزاء، أما في الصورة الأولى، فلأن المأمور
به بالأمر الاضطراري مشتمل على تمام ملاك المأمور به بالأمر الواقعي، ومعه لا
شبهة في الاجزاء ولا موضوع للقضاء حينئذ، وأما في الصورة الثانية، فلأن
المقدار المتبقي من الملاك غير لزومي، وأما في الصورة الثالثة، فلأنه وإن كان
لزوميا إلا أنه غير قابل للاستيفاء، نعم في الصورة الرابعة لا إجزاء، باعتبار أن
المقدار المتبقي فيها لزومي وقابل للاستيفاء، فالنتيجة أن الملازمة بين جعل الأمر
الاضطراري بشيء في مقام الثبوت وبين الاجزاء غير ثابتة، حيث إن المكلف لا
يعلم أنه مجعول على النحو الأول أو الثاني أو الثالث أو الرابع.
وأما الكلام في مقام الاثبات، فلا شبهة في أن مقتضى اطلاق الأمر
372

الاضطراري بشيء كالصلاة مع الطهارة الترابية مثلا أو الصلاة جالسا أو نحو
ذلك هو الاجزاء، وذلك لأن المولى إذا أمر بالصلاة مع الطهارة الترابية عند عدم
التمكن من الصلاة مع الطهارة المائية في تمام الوقت وكان في مقام البيان ومع ذلك
إذا سكت عن وجوب القضاء في خارج الوقت، كان ذلك يشكل دلالة التزامية
للأمر الاضطراري، وهي دلالته على أن المأمور به بذلك الأمر مشتمل على
ملاك يفي بتمام ملاك الواقع أو بالمقدار المعتد به منه، بحيث يكون المقدار المتبقي
غير الزامي، وأما إذا كان الزاميا وقابلا للتدارك في خارج الوقت، فعلى المولى
بيان إيجاب القضاء فيه لتداركه وإلا لأخل بغرضه، ومع هذا إذا سكت عن ذلك
كان سكوته قرينة على أن المقدار المتبقي غير الزامي.
فالنتيجة، أن لدليل الأمر الاضطراري إذا كان إطلاقا، فلا مانع من التمسك به
لنفي وجوب القضاء في خارج الوقت لأنه بحاجة إلى بيان زائد، وحيث لم يكن
فالاطلاق كاشف عن أن الملاك القائم بالبدل يكون على النحو الأول أو الثاني أو
الثالث، وأما إذا لم يكن لدليل الأمر الاضطراري إطلاق أو كان لبيا، فلا ما مع
من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب القضاء، لأن المكلف إذا أتى بوظيفته
الاضطرارية كالصلاة مع الطهارة الترابية في الوقت وشك في إجزائها عن القضاء
خارج الوقت، فيكون المرجع فيه أصالة البراءة عن وجوب القضاء، باعتبار أن
الشك في أصل وجوبه لأنه بأمر جديد.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن جعل الأمر الاضطراري لشيء
ثبوتا لا يلزم الاجزاء والاكتفاء به عن الواقع، ولا ملازمة بين الأمرين في مقام
الثبوت، وأما في مقام الاثبات، فإن كان لدليل الأمر الاضطراري اطلاق فهو
المرجع وإلا فالأصل العملي.
373

ثم إن للمحقق النائيني (قدس سره) في المسألة كلاما وحاصل هذا الكلام، أن القول
بعدم إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري في هذه المسألة، وهي ما إذا
كان الاضطرار مستوعبا لتمام الوقت غير معقول، وقد أفاد في وجه ذلك، أن
القيد المتعذر على المكلف في الصلاة وهو الطهارة المائية مثلا في تمام الوقت لا يخلو
من أن يكون له دخل في ملاك الواجب الواقعي مطلقا حتى في حال تعذره وعدم
التمكن منه كالقيود المقومة له، أو يكون له دخل في ملاكه في حال التمكن فحسب
لا مطلقا كالطهارة المائية التي يكون دخلها في الملاك مختص بحال التمكن فقط،
فعلى الأول لا يمكن الأمر بالفاقد في الوقت كالصلاة بلا طهور لعدم اشتماله على
الملاك حتى يدعو المولى إلى الأمر به، وعلى الثاني فيبقى الأمر بالفاقد بحاله، على
أساس اشتماله على الملاك التام، لفرض عدم دخل القيد المتعذر فيه حال التعذر،
لأن قيديته مختصه بحال التمكن كالطهارة المائية، فإنها دخيلة في الملاك حال
التمكن منها لا مطلقا، وأما في حال تعذرها فملاك الصلاة قد ظل باقيا، باعتبار
أنه لا دخل لها فيه في هذه الحالة، وعلى ضوء ذلك فعلى الفرض الأول لا يمكن
الأمر بالفاقد كالصلاة بدون طهور في الوقت لعدم ملاك له كما مر، فإذن يتعين
الأمر بالواجد كالصلاة مع الطهارة المائية خارج الوقت، وعلى الفرض الثاني
يتعين الأمر بالفاقد كالصلاة مع الطهارة الترابية في الوقت لاشتماله على تمام ملاك
الواقع، وعليه فالجمع بين الأمر بالفاقد في الوقت أداءا كالصلاة مع الطهارة
الترابية وبين الأمر بالواجد خارج الوقت قضاء كالصلاة مع الطهارة المائية جمع
بين أمرين متناقضين، فإن معنى الأمر بالفاقد في الوقت أنه مشتمل على تمام
ملاك الواقع، وحينئذ فلا مبرر للقضاء ولا موضوع له، ضرورة أن موضوع
الأمر بالقضاء فوت الفريضة، ومن الطبيعي أن صدقه منوط بعدم الأمر بالفاقد
في الوقت أداء وعدم اشتماله على الملاك ودخل القيد فيه مطلقا حتى حال التعذر،
374

وأما مع فرض الأمر به واشتماله على الملاك وعدم دخل القيد فيه حال التعذر فلا
موضوع له، ومعنى الأمر بالواجد في خارج الوقت قضاء أن الفاقد في الوقت
غير مشتمل على الملاك ولا أمر به، فإذن لا يمكن الجمع ين الأمرين، على أساس
أن الأول يستلزم عدم الموضوع للثاني والثاني يستلزم عدم الملاك للأول،
فلذلك يكون إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر
الواقعي ضروريا في مسألتنا هذه وهي ما كان الاضطرار مستوعبا لتمام الوقت،
وعدم الاجزاء فيها غير معقول (1).
ويمكن المناقشة فيه، وذلك لأن الصلاة ذات مراتب متعددة ومتفاوتة طولا
من المرتبة العليا وهي صلاة المختار إلى المرتبة الدنيا وهي صلاة الغرقى مثلا
وبينهما متوسطات، وكل مرتبة منها واجبة ومشتملة على مصلحة ملزمة عند
تعذر مرتبة فوقها، فإذا تعذر على المكلف الصلاة مع الطهارة المائية انتقلت
وظيفته إلى الصلاة مع الطهارة الترابية، وإذا تعذر عليه الصلاة قائما انتقلت
وظيفته إلى الصلاة جالسا وهكذا، وعلى هذا فالصلاة مع الطهارة الترابية بما أنها
في طول الصلاة مع الطهارة المائية ودونها في المرتبة، فلا يمكن أن تكون مشتملة
على تمام ملاك الصلاة مع الطهارة المائية، وإلا فتكون في عرضها لا في طولها، وفي
مرتبتها لا دونها في المرتبة، وعليه فبطبيعة الحال لا يكون ملاكها وافيا بتمام
ملاكها، إذ لا شبهة في أن ملاك الصلاة مع الطهارة المائية أقوى وأكبر من ملاك
الصلاة مع الطهارة الترابية وإلا فلا مبرر للطولية بينهما، وعلى هذا فيقع الكلام في
أن المقدار المتبقي من مصلحة الصلاة مع الطهارة المائية بعد استيفاء المقدار المهم
منها الصلاة مع الطهارة الترابية في الوقت وعدم امكان تدارك تمامها به فيه، هل

(1) أجود التقريرات 1: 283.
375

هو لازم الاستيفاء مع إمكانه أو أنه ليس بلازم الاستيفاء، أو أنه لازم الاستيفاء
ولكنه غير ممكن؟ فعلى الأول يجب الاتيان بالصلاة مع الطهارة المائية خارج
الوقت لاستيفاء المقدار المتبقي من تلك المصلحة، وأما على الثاني والثالث فلا
موجب للاتيان بها خارج الوقت، وعلى هذا فلا تهافت ولا تناقض بين وجوب
الفاقد وهو المرتبة الذاتية من الصلاة كالصلاة مع الطهارة الترابية في الوقت أداء
وبين وجوب الواجد في خارج الوقت وهو الصلاة مع الطهارة المائية، لأن
التناقض بينهما مبني على نقطة خاطئة وهي تخيل أن الصلاة مع الطهارة الترابية
مشتملة على تمام ملاك الصلاة مع الطهارة المائية، على أساس أن الطهارة المائية
غير دخيلة في الملاك في حال تعذرها، وهذا الخيال خاطئ جدا ولا واقع
موضوعي له، لأن دخالة الطهارة المائية في الملاك مختصة بحال التمكن منها عقلا
وشرعا، بمعنى أنها دخيلة في ملاك صلاة المختار ولا تكون دخيلة في ملاك صلاة
دونها في المرتبة وهي الصلاة مع الطهارة الترابية، ومن الواضح أن عدم دخالتها
في ملاكها ليس معناه أن ملاكها نفس ملاك الصلاة مع الطهارة المائية، بل معناه
أن الدخيل في ملاكها في هذه المرتبة هو الطهارة الترابية، والدخيل في ملاكها في
المرتبة العليا (صلاة المختار) هو الطهارة المائية، فلذلك تختلف المرتبتان ملاكا،
ومن هنا لا يستلزم وجوب الصلاة مع الطهارة الترابية في الوقت عدم وجوب
القضاء في خارج الوقت، لأنه يدور مدار أن المقدار المتبقي من المصلحة ليس
بلازم الاستيفاء أو أن استيفائه غير ممكن وإن كان لازما في نفسه، وأما إن كان
لازما كذلك وكان بالامكان استيفاؤه فيجب القضاء في خارج الوقت، كما أن
وجوب القضاء فيه لا يستلزم عدم الأمر بالفاقد في الوقت وعدم اشتماله على
الملاك فلا ملازمة بين الأمرين.
وبكلمة أن قيود الصلاة على نوعين:
376

الأول: أن قيديته ثابتة في جميع مراتب الصلاة من المرتبة العليا إلى المرتبة
الدنيا في تمام حالات المكلف الطارئة عليه، وذلك كالطهارة من الحدث الأكبر
والأصغر الأعم من المائية والترابية، فإنها كما تكون شرطا للصلاة في المرتبة
العليا كذلك يكون شرطا لها في سائر مراتبها، ومن هنا إذا تعذرت الطهارة المائية
والترابية معا يسقط الأمر بالصلاة بسقوط موضوعها فلا صلاة حتى تكون
واجبة، ولهذا تسقط الصلاة عن فاقد الطهورين.
الثاني: أن قيديته مختصة بحال التمكن كالطهارة المائية فقط والقيام واستقبال
القبلة والاستقرار وما شاكل ذلك.
ومعنى هذا أن المكلف طالما يكون متمكنا من الصلاة مع الطهارة المائية فلا
يصل دور الصلاة مع الطهارة الترابية، وإذا تعذر عليه تلك الصلاة عقلا أو شرعا
انتقلت وظيفته إلى الصلاة مع الطهارة الترابية وكذلك الحال في سائر الشرائط،
فإن المكلف ما دام قادرا على القيام فوظيفته الصلاة قائما وإلا فالصلاة جالسا،
وما دام متمكنا من الركوع والسجود فوظيفته الصلاة راكعا وساجدا وإلا
فالصلاة مع الايماء بديلا عن الركوع والسجود، فالنتيجة أن دخل هذا النوع من
الشروط في ترتب الملاك مختص بحال التمكن لا مطلقا، وعلى هذا فإذا تعذر
مرتبة من الصلاة تعلق الأمر بمرتبة أخرى منها دونها وهكذا، ومن الواضح أنه
لا تنافي بين الأمر بالصلاة الفاقدة للطهارة المائية في الوقت وبين قضائها في
خارج الوقت، لأن وجوب الصلاة مع الطهارة الترابية في الوقت عند تعذر
الطهارة المائية إنما هو بملاك أنها لا تسقط بحال، وأما وجوب قضائها مع الطهارة
المائية في خارج الوقت فهو بملاك أنها لا تفي بتمام غرضها من جهة، المقدار المتبقي
منه لازم الاستيفاء من جهة أخرى، وبالامكان استيفاؤه من جهة ثالثة، فما ذكره
377

المحقق النائيني (قدس سره) من أن الجمع بينهما من الجمع بين أمرين متناقضين، لا يرجع
إلى معنى محصل، هذا تمام الكلام فيما إذا كان الاضطرار مستوعبا لتمام الوقت.
وأما الكلام في المسألة الثانية وهي ما إذا كان الاضطرار في جزء من الوقت
وغير مستوعب لتمام الوقت، فيقع تارة في مقام الثبوت وأخرى في مقام الاثبات.
أما الكلام في مقام الثبوت فيمكن أن يكون المأمور به بالأمر الاضطراري
على أحد الأنحاء التالية:
الأول: أن يكون ملاكه وافيا بتمام ملاك الواجب الواقعي.
الثاني: أن يكون وافيا بجزء مهم من ملاكه والجزء المتبقي غير ملزم.
الثالث: أن يكون وافيا ببعض ملاكه، والبعض الآخر المتبقي ملزم ولكن
لا يمكن استيفاؤه ثانيا.
الرابع: هذه الصورة ولكن بالامكان استيفاء ذلك البعض المتبقي من الملاك
ثانيا. ويقع البحث حول هذه الفروض الأربعة:
أما على الفرض الأول، فلا شبهة في الاجزاء بملاك أنه يفي بتمام غرض الواقع،
فإذا كان المكلف في أول الوقت غير واجد للماء وتيمم وصلى ثم وجد الماء في آخر
الوقت لم تجب عليه الإعادة، لأن الصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت وافية
بتمام ملاك الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت، فإذن لا مقتضي للإعادة،
ولكن الواجب على هذا الفرض هو الجامع بين الصلاة مع الطهارة الترابية في أول
الوقت والصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت طولا والمكلف مخير بينهما،
وكذا إذا لم يتمكن المكلف من القيام في أول الوقت وصلى جالسا وفي آخر الوقت
تمكن من القيام لم تجب عليه إعادة الصلاة قائما، لأن الواجب هو الجامع بينهما
378

وهكذا.
وأما على الفرض الثاني، فأيضا لا شبهة في الاجزاء، لأن المقدار المتبقي من
الملاك بما إنه غير ملزم، فلا يجب استيفاؤه.
وأما على الفرض الثالث، فإن الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري في أول
الوقت وإن كان مجزيا وضعا إلا أنه غير جائر تكليفا، لأنه يوجب تفويت المقدار
من الملاك الملزم بدون مبرر، فإن المكلف إذا أتى بالصلاة مع الطهارة الترابية في
أول الوقت، فهي وإن كانت صحيحة من جهة اشتمالها على الملاك الملزم في نفسه،
إلا أنها لا تجوز شرعا من جهة أنها توجب تفويت المقدار الملزم من ملاك الصلاة
مع الطهارة المائية، مع أن بامكانه استيفاء الجميع، لأنه لو لم يأت بها مع الطهارة
الترابية في أول الوقت، كانت وظيفته الاتيان بها مع الطهارة المائية في آخر
الوقت، واستيفاء تمام ملاكها وعدم تفويت شيء منه، وكذلك لا يجوز له البدار
تكليفا في هذا الفرض، لاستلزامه تفويت المقدار الملزم من الملاك الذي كان
بامكانه ادراكه في آخر الوقت لو لم يبادر في أول الوقت، ودعوى أن البدار إذا
كان منهيا عنه فهو يوجب فساد العبادة تطبيقا لكبرى اقتضاء النهي عن العبادة
الفساد، فإذن لا يمكن القول بجواز البدار فيه وضعا لا تكليفا.
مدفوعة بأن اقتضاء النهي عن العبادة الفساد إنما هو فيما إذا كان النهي نفسيا
مولويا، وأما إذا كان غيريا فهو لا يقتضي الفساد والنهي عن البدار في المقام، بما
أنه غيري ناشئ من تفويت الملاك المتبقي الملزم في الصلاة الاختيارية فلا
يقتضي الفساد، لوضوح أن النهي عن الصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت لم
ينشأ عن وجود مفسدة فيها لكي يقتضي فسادها، بل هو ناشئ من مبغوضية
تفويت الباقي من الملاك في الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت، باعتبار أن
379

إدراك جزء من ملاكها بالصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت مانع عن إدراك
الجزء الآخر بها مع الطهارة المائية في آخر الوقت، هذا إضافة إلى أن تفويت
الملاك إنما هو في طول صحة الصلاة مع الطهارة الترابية، فإنها إذا كانت صحيحة
كانت مفوتة له، وأما إذا كانت فاسدة فلا توجب تفويته، وعليه فالمبغوضية
والحرمة لا يمكن أن تكون موجبة لبطلان الصلاة مع الطهارة الترابية في أول
الوقت، ضرورة أنها لو بطلت فلا مبغوضية ولا حرمة، فإذن يلزم من فرض
وجودها عدمها، فوجودها محال، فالنتيجة أن البدار جائز وضعا في هذا الفرض
لا تكليفا.
وأما على الفرض الرابع، فهل يجوز البدار إلى الاتيان بالوظيفة الاضطرارية
في أول الوقت ثم الاتيان بالوظيفة الاختيارية في آخر الوقت أو لا؟ فيه وجهان:
قد يقال كما قيل بالوجه الثاني، وذلك لأن الأمر بالوظيفة الاضطرارية في أول
الوقت يكون لغوا ولا يترتب عليه أثر، إذ لابد للمكلف من الاتيان بالوظيفة
الاختيارية في آخر الوقت وإن أتى بالوظيفة الاضطرارية في أول الوقت، ولا
معنى للتخيير بين الاتيان بعملين والاتيان بعمل واحد، بمعنى أن يكون المكلف
مخيرا بين الصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت ثم الصلاة مع الطهارة المائية
في آخر الوقت، وبين الاقتصار على الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت،
ومن الطبيعي أنه لا معنى لهذا التخيير، ويكون الأمر بالصلاة مع الطهارة الترابية
منضمة إلى الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت لغوا محضا ولا ملاك له
أصلا، وعلى هذا فلا يجوز البدار في هذا الفرض، لأن جوازه واقعا معناه أن
العمل الاضطراري متعلق للأمر وهو لا يمكن، فإذن يتعين الأمر بالعمل
الاختياري في آخر الوقت ولا يكون العمل الاضطراري مشروعا في أول
الوقت، ولكن الصحيح هو الوجه الأول، وذلك لأن الوظيفة الاضطرارية في
380

أول الوقت كالصلاة مع الطهارة الترابية إذا كانت مشتملة على ملاك ملزم في
نفسه كما هو المفروض، لم يكن الأمر بها منضمة إلى الوظيفة الاختيارية في آخر
الوقت لغوا وبلا ملاك وروح بنحو التخيير، لأن حقيقة الحكم وروحه الملاك
وهو موجود فيها، نعم الأمر بها كذلك تعيينا لغو وبلا مبرر، وأما تخييرا فلا مانع
منه، حيث إنه موجود لبا وملاكا، فإذا كان موجودا لبا فلا مانع منه اثباتا.
وإن شئت قلت إنا نعلم جزما أنه لا يجب على المكلف في هذا الفرض الانتظار
والاقتصار على الاتيان بالوظيفة الاختيارية في آخر الوقت تعيينا وعدم
مشروعية الوظيفة الاضطرارية في أول الوقت، إذ لا شبهة في أنها مشروعة،
لفرض أنها مشتملة على الملاك الملزم في نفسه وإن كان دون الملاك الملزم
للوظيفة الاختيارية وبنسبة الجزء إلى الكل، فإذن لا محالة يكون المجعول في هذه
الحالة هو الأمر بالجامع بين عملين طوليين زمانا هما العمل الاضطراري في أول
الوقت والعمل الاختياري في آخر الوقت، وبين عمل واحد وهو العمل
الاختياري في آخر الوقت، غاية الأمر أن المكلف إذا اختار العملين فالمستوفي
بالعمل الاختياري الجزء المتبقي من الملاك، باعتبار استيفاء جزء منه بالعمل
الاضطراري، وإذا اختار العمل الواحد وهو العمل الاختياري، فالمستوفى به تمام
الملاك، فالنتيجة جواز البدار في هذا الفرض واقعا تكليفا ووضعا.
نعم، لو لم يعلم بالحال في مقام الثبوت ودار الأمر في مقام الاثبات بين أن
يكون الواجب عملين طوليين زمانا أو عمل واحد، فلا يمكن اثبات التخيير
بينهما، لأن وجوب الاتيان بالعمل الواحد معلوم على كل تقدير، فإذن إيجاب
الاتيان بالعمل الآخر منضما إليه لغو ولا يترتب عليه أثر، وأما إذا كان اشتمال
كلا الفعلين على الملاك الملزم معلوما، غاية الأمر أن المكلف إذا اقتصر في مقام
381

الامتثال على العمل الأخير فقد استوفى تمام الملاك به، وإن أتى بالعمل الأول فقد
استوفى به جزء الملاك المتبقي، وحيث إن التخيير روحا وملاكا في مقام الثبوت
موجود فلا مناص منه في مقام الاثبات، ولا يقاس المقام بالتخيير بين الأقل
والأكثر الاستقلاليين فإنه غير معقول، باعتبار أن المكلف مهما أتى بالأقل حصل
الغرض به وسقط الأمر وإن كان في ضمن الأكثر، وحينئذ فلا محالة يكون الأمر
بالأكثر ولو تخييرا لغوا وجزافا، وهذا بخلاف المقام فإن المكلف إذا أتى بالأكثر
حصل الغرض به لا بالأقل، وإن اقتصر على الأقل حصل الغرض به ولا يتوقف
على الأكثر.
ومن هنا يظهر أن الصحيح هو ما ذهب إليه المحقق الخراساني (1) والمحقق
الأصبهاني (2) (قدس سرهما) من التخيير في المسألة بين البدار والاتيان بالوظيفتين
الاضطرارية في أول الوقت والاختيارية في آخر الوقت أو الانتظار والاقتصار
على عمل واحد وهو الوظيفة الاختيارية في آخر الوقت ولا مانع من ذلك، وقد
أفاد المحقق الأصبهاني (قدس سره) في وجه ذلك، أن المصلحة الصلاتية قائمة بالصلاة
الواحدة في حال الاختيار إذا لم يسبقها الصلاة الاضطرارية، وبالصلاتين في
حالتي الاختيار والاضطرار، بمعنى أن المترتب على كل واحدة منهما جزء
المصلحة، وفي مثل ذلك لا مناص من الالتزام بالأمر التخييري ولا يعقل غيره،
لأن وفاء العملين وهما العمل الاضطراري في أول الوقت والعمل الاختياري في
آخر الوقت معا بتمام المصلحة، يمنع عن الأمر التعييني بخصوص العمل
الاختياري فإنه بلا موجب ومبرر، نعم لا يمكن أن يكون الأمر بكل من العمل

(1) كفاية الأصول: 85.
(2) نهاية الدراية 1: 385.
382

الاضطراري في أول الوقت والاختياري في آخر الوقت تعيينا لأنه بلا
مقتضي (1)، إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن مقتضى القاعدة في
الفرض الأول والثاني والثالث الاجزاء، وأما في الفرض الرابع فالمكلف مخير بين
البدار بالاتيان بالعمل الاضطراري في أول الوقت والعمل الاختياري في آخر
الوقت، وبين الانتظار والاقتصار بالاتيان بالعمل الاختياري في آخر الوقت،
هذا كله بحسب مقام الثبوت.
وأما الكلام في مقام الاثبات فقد تقدم أن العذر إذا كان مستوعبا لتمام الوقت،
فمقتضى اطلاق أدلة الأوامر الاضطرارية الاجزاء وهذا لا كلام فيه وتقدم، وإنما
الكلام في المقام وهو إذا لم يكن العذر مستوعبا لتمام الوقت في أنه هل لأدلة
الأوامر الاضطرارية اطلاق يمكن التمسك به لاثبات الاجزاء وعدم وجوب
الإعادة أو لا؟ فيه قولان:
فقد اختار المحقق الخراساني (قدس سره) القول الأول، وقد أفاد في وجه ذلك إنه لا
مانع من التمسك باطلاق قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم) إلى قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) (2).
وإطلاق الروايات كقوله (عليه السلام): " التراب أحد الطهورين يكفيك عشر
سنين " (3) وقوله (عليه السلام): " إن رب الماء ورب الأرض واحد " (4) وقوله (عليه السلام): " إن

(1) المصدر المتقدم.
(2) سورة المائدة (5): 6.
(3) هذا السياق تلفيق روايتين إحداهما وردت في الوسائل 3: 386، باب 23 من أبواب التيمم، ح 5
ولفظها: (إن التيمم أحد...) والثانية وردت في نفس الباب، ح 4 ولفظها: (يكفيك الصعيد...).
(4) الوسائل 3: 386، باب 23 من أبواب التيمم، ح 6. ولفظه: (إن رب الماء هو رب الصعيد).
383

الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا " (1) وقوله (عليه السلام): " فإن فاته الماء
فلن تفوته الأرض " (2) ونحوها (3)، ومقتضى اطلاق هذه الأدلة جواز البدار
وضعا وتكليفا، فإذا لم يجد الماء في أول الوقت وتيمم وصلى صحت صلاته، فإذا
ارتفع العذر في أثناء الوقت لم تجب الإعادة (4)، وقد اختار هذا القول في
خصوص ما إذا كان العذر عدم وجدان الماء لا مطلق العذر جماعة، منهم السيد
الطباطبائي (5) (قدس سره) هذا، والصحيح هو القول الثاني وذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن الآية الشريفة إنما هي في مقام بيان أن المكلف على نوعين:
أحدهما: الواجد للماء. والآخر: الفاقد له.
ووظيفة الأول الطهارة المائية ووظيفة الثاني الطهارة الترابية، وحيث إن
التقسيم قاطع للشركة، فلا يمكن اشتراكهما في التكليف، وهذا هو مقتضى ظاهر
الآية الشريفة ولا نظر لها إلى أن وظيفة الفاقد للماء الصلاة مع الطهارة الترابية
مطلقا حتى فيما إذا كان للمكلف فاقدا له في بعض الوقت دون تمام الوقت، فإنها
ليست في مقام البيان من هذه الجهة، وأما الروايات المتقدمة فهي أيضا كذلك،
لأن مفادها أن التراب طهور، أما أنه طهور مطلقا حتى فيما إذا لم يكن فاقدا للماء
في تمام الوقت فلا تدل عليه، أو فقل أن الروايات المذكورة بألسنة مختلفة إنما هي
في مقام تشريع طهورية التراب في طول طهورية الماء عند عدم التمكن من
استعماله، فلا تدل على أنه طهور مطلقا وإن كان عدم التمكن من الاستعمال في

(1) الوسائل 3: 385، باب 23 من أبواب التيمم، ح 1.
(2) الوسائل 3: 384، باب 22 من أبواب التيمم، ح 3.
(3) لاحظ أحاديث البابين المتقدمين في الوسائل.
(4) لاحظ كفاية الأصول: 85.
(5) راجع العروة الوثقى 1: 502، مسألة 8.
384

بعض الوقت لا في تمامه.
الأمر الثاني: أن كل صلاة فريضة موقتة بوقت خاص بداية ونهاية،
فالواجب هو الجامع بين الأفراد الطولية والعرضية في الوقت ويكون المكلف
مخيرا في مقام الامتثال بين الأفراد المذكورة، فطالما يكون متمكنا من إيجاد
الطبيعي الواجب في ضمن أحد أفراده في طول الوقت كالصلاة مع الطهارة المائية
فلا يصل دور الصلاة مع الطهارة الترابية، لأنها وظيفة العاجز عن الأولى في
الوقت لا وظيفة المتمكن منها فيه، وإلا لزم أن يكون وجوبها في وقتها وهو
خلف، ومن الطبيعي أنه يكفي في تمكن المكلف من الاتيان بالصلاة مع الطهارة
المائية في الوقت، التمكن من الاتيان بفرد منها فيه ولو بنحو صرف الوجود وإن لم
يتمكن منها في سائر أجزائه، فإذا تمكن من الصلاة مع الطهارة المائية ولو في جزء
منه، صدق أنه متمكن منها في وقتها ومعه تكون وظيفته الصلاة مع الطهارة
المائية دون الطهارة الترابية.
تحصل مما ذكرناه أن مقتضى القاعدة الأولية هو أن الصلاة مع الطهارة الترابية
في أول الوقت غير مشروعة في حق من تمكن من الصلاة مع الطهارة المائية في
آخر الوقت كما هو المفروض في المسألة، إلا إذا كان هناك دليل على الاجزاء،
ومع الاغماض عن ذلك وتسليم أن لأدلة الأوامر الاضطرارية كالآية الشريفة
والروايات اطلاق من هذه الناحية، فلا مانع من التمسك به لاثبات الاجزاء، فإن
مقتضاه أن العذر غير المستوعب لتمام الوقت موضوع للأمر الاضطراري كالعذر
المستوعب لتمام الوقت، وعلى هذا فإن كان المكلف فاقدا للماء في أول الوقت
وتيمم وصلى صحت صلاته وإن ارتفع العذر في آخر الوقت وتمكن من الصلاة
مع الطهارة المائية فيه، ولكن قد يعترض على ذلك بأنه لو كان لها اطلاق فمع ذلك
385

لا يمكن التمسك باطلاقها لسببين:
الأول: أن لازم ذلك أن تكون شرطية الطهارة الترابية في عرض شرطية
الطهارة المائية وهو كما ترى، ضرورة أن المكلف إذا كان متمكنا من الصلاة مع
الطهارة المائية في الوقت لم يجز له الاكتفاء بالصلاة مع الطهارة الترابية فيه، لأن
ذلك خلاف الآية الشريفة التي تنص على أن وظيفة الواجد للماء في الوقت
الصلاة مع الطهارة المائية ووظيفة الفاقد الصلاة مع الطهارة الترابية، وعليه فإذا
كان المكلف واجدا للماء في آخر الوقت وتمكن من الصلاة مع الطهارة المائية فيه
فوظيفته الاتيان بها دون الصلاة مع الطهارة الترابية، ولو صلاها في أول الوقت
انكشف بطلانها وظهر أنه غير مأمور بها.
الثاني: أن لازم ذلك أن تكون كل حصة من الصلاة مشروطة بالطهارة
المائية، فإذا كان المكلف في أول الوقت فاقدا للماء فوظيفته الطهارة الترابية
بالنسبة إلى الحصة الواقعة فيه، فإذا أتى بتلك الحصة معها صحت فلا إعادة
عليه، وهذا كما ترى، ضرورة أن الطهارة المائية شرط لطبيعة الصلاة الجامعة بين
أفرادها الطولية من المبدأ إلى المنتهى لا أنها شرط لكل حصة، حصة منها في
طول الوقت مستقلا. ويمكن المناقشة في كلا الأمرين:
أما الأمر الأول، فلأنه لو كان لدليل الأمر الاضطراري اطلاق كالآية
الشريفة والروايات، كان مقتضاه أن الاضطرار غير المستوعب لتمام الوقت
موضوع للأمر الاضطراري كالمستوعب له، وعليه فلا مانع من التمسك باطلاقه
لاثبات عدم وجوب الإعادة، ومن الواضح أنه ليس معنى هذا كون شرطية
الطهارة الترابية في عرض شرطية الطهارة المائية بل هي في طولها وعند تعذرها،
غاية الأمر أعم من أن يكون تعذرها في تمام الوقت أو في جزء منه، ونتيجة هذا
386

الاطلاق جواز البدار واقعا تكليفا ووضعا، وعلى هذا فإذا تيمم وصلى صحت
صلاته وإن ارتفع العذر في آخر الوقت وتمكن من الصلاة مع الطهارة المائية.
ودعوى، أن مقتضى اطلاق دليل الأمر الاضطراري وإن كان كفاية الوظيفة
الاضطرارية عن الوظيفة الاختيارية إلا أنه معارض بإطلاق دليل الأمر
الاختياري، فإن مقتضى اطلاقه تعين الوظيفة الاختيارية في مجموع الوقت أي
بين المبدأ والمنتهى وعدم كفاية الوظيفة الاضطرارية عنها.
مدفوعة، فإن مقتضى اطلاق دليل الأمر الاختياري وإن كان ذلك إلا أن
اطلاق دليل الأمر الاضطراري يتقدم عليه، على أساس تقدم أدلة الأحكام
الثانوية على أدلة الأحكام الأولية كدليل لا ضرر ولا حرج ونحوهما، وعلى هذا
فلابد من رفع اليد عن اطلاق دليل الأمر الاختياري وحمله على ما إذا لم يكن
على خلافه دليل الأمر الاضطراري، وإلا فلابد من تقييد اطلاقه بغير مورده.
فالنتيجة، أنه لو كان لدليل الأمر الاضطراري اطلاق فهو المحكم والمرجع
دون اطلاق دليل الأمر الاختياري، ولكن الذي يسهل الخطب أنه لا اطلاق له.
وأما الأمر الثاني، فلأن مقتضى اطلاق دليل الأمر الاضطراري ليس تضيق
دائرة شرطية الطهارة المائية وجعلها لحصة خاصة من الصلاة وهي الحصة
الواقعة في أول الوقت، بل مقتضاه كفاية الاتيان بالوظيفة الاضطرارية عن
الوظيفة الاختيارية في آخر الوقت وأنها تفي بغرضها، لا أن الطهارة المائية
ليست شرطا لها، ومن هنا إذا لم يأت بالوظيفة الاضطرارية في أول الوقت وجب
عليه الاتيان بالوظيفة الاختيارية في آخر الوقت وهي الصلاة مع الطهارة
المائية، فإذن كيف يمكن أن يكون مقتضى اطلاقه تخصيص شرطية الطهارة
المائية بالصلاة في أول الوقت دون الصلاة في آخر الوقت فإنه خلاف
387

الكتاب والسنة.
والخلاصة: أن نتيجة اطلاق دليل الأمر الاضطراري وتقديمه على دليل
الأمر الاختياري هي أن الواجب في المسألة الجامع بين الوظيفة الاضطرارية في
أول الوقت كالصلاة مع الطهارة الترابية والوظيفة الاختيارية في آخر الوقت
والمكلف مخير بينهما طولا، فإذا أتى بالأولى كفت عن الثانية وإلا وجب عليه
الاتيان بالثانية.
تحصل أن الاطلاق لو ثبت لدليل الأمر الاضطراري لكان هو المتعين
ومقتضاه جواز البدار واقعا تكليفا ووضعا، ولكن قد مر أنه غير ثابت لا في
الآية الشريفة ولا في الروايات، فإذن مقتضى القاعدة في المسألة عدم جوار
البدار واقعا وعدم كفاية الاتيان بالصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت مع
التمكن من الاتيان بالصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت، هذا هو مقتضى
القاعدة، ولكن مع ذلك ذهب جماعة من المحققين إلى الاجزاء في المسألة، منهم
المحقق العراقي والمحقق النائيني والمحقق الأصبهاني (قدس سرهم)، أما المحقق العراقي فقد ذكر
في وجه ذلك وجوها:
الوجه الأول: أن أدلة البدلية كآية التيمم والروايات مطلقة، وتدل باطلاقها
على أن موضوع وجوب التيمم مطلق العذر أعم من أن يكون مستوعبا لتمام
الوقت أو غير مستوعب له، بدعوى أن المتبادر من قوله تعالى: (إذا قمتم إلى
الصلاة فاغسلوا وجوهكم) إلى قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا
طيبا) (1)، هو أن المكلف إذا أراد الاتيان بالصلاة في أي جزء من أجزاء الوقت،
فإن كان واجدا للماء في ذلك الجزء، فوظيفته الوضوء والغسل فيه وإلا

(1) سورة المائدة (5): 6.
388

فوظيفته التيمم.
فالنتيجة، أن المعيار بالوجدان والفقدان إنما هو في الوقت الذي أراد المكلف
الاتيان بالصلاة، سواء أكان ذلك في أول الوقت أم في أثنائه أم آخره، فإذا أراد
الاتيان بها في أول الوقت وكان فاقدا للماء فوظيفته الاتيان بها مع الطهارة
الترابية وهكذا (1)، ولكنه (قدس سره) أعقب ذلك بتعليقين:
الأول: أن هذا الاطلاق معارض باطلاق دليل الأمر الاختياري، فإن
مقتضاه أن القيد المضطر إلى تركه في جزء من الوقت دخيل في الملاك وغير ساقط
بالاضطرار غير المستوعب، فيكون معارضا لاطلاق دليل الأمر الاضطراري
فيسقطان معا من جهة المعارضة فلا دليل على الاجزاء، وفيه ما أشرنا إليه آنفا
من أن اطلاق دليل الأمر الاضطراري يتقدم على إطلاق دليل الأمر الاختياري
بالحكومة، فلو ثبت أن للآية الشريفة إطلاقا وكذلك للروايات التي تنص على
بدلية التراب عن الماء، فلا مناص من الأخذ به ولا يعارضه اطلاق دليل
الأمر الاختياري
الثاني: تقديم ظهور دليل الأمر الاختياري على اطلاق دليل الأمر
الاضطراري بالأظهرية أو الحكومة، بدعوى أن ظهور دليل الأمر الاختياري
في دخل القيد في الملاك الواقعي وصغي، والظهور الوضعي يتقدم على الظهور
الاطلاقي من باب تقديم الأظهر على الظاهر (2).
والجواب: أولا، أن المعارض مع اطلاق دليل الاضطراري ليس أصل
الظهور في دخل القيد، بل اطلاقه لحالة ما إذا أتى المكلف المضطر بالوظيفة

(1) مقالات الأصول 1: 270.
(2) نهاية الأفكار 1: 234.
389

الاضطرارية في أول الوقت ثم ارتفع عذره في آخر الوقت.
وثانيا: ما تقدم من أن اطلاق دليل الأمر الاضطراري يتقدم على اطلاق دليل
الأمر الاختياري، ويكون هذا التقديم بالحكومة وتضييق دائرة دخل القيد في
الملاك بما إذا لم يضطر المكلف إلى تركة ولو في بعض الوقت وكفاية بدله في هذه
الحالة، وعلى الجملة فأدلة البدلية كالآية الشريفة والروايات تدل على أصل
بدلية الطهارة الترابية عن الطهارة المائية عند الاضطرار والعذر بالوضع، وتدل
على كفاية البدل في هذه الحالة وهي الاضطرار في جزء من الوقت بالاطلاق،
وحيث إنها ناظرة إلى تشريع البدل حتى في هذه الحالة، فلذلك تكون حاكمة
على دليل المبدل، ومن هنا يظهر أن ما ذكره (قدس سره) من أن دليل الأمر الاختياري
حاكم على دليل الأمر الاضطراري غريب جدا، فالنتيجة أنه لو كان لأدلة
البدلية إطلاق فلا مناص من الاخذ به، وحيث إنه لا إطلاق لها، فيكون إطلاق
دليل الأمر الاختياري محكما.
الوجه الثاني: أن الواجب في المسألة وهي ما إذا لم يكن العذر مستوعبا لتمام
الوقت الجامع بين الصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت والصلاة مع الطهارة
المائية في آخر الوقت، وكذا الجامع بين الصلاة جالسا في أول الوقت والصلاة
قائما في آخر الوقت وهكذا، كما هو الحال في صلاتي المسافر والحاضر، فإن
الواجب هو الجامع بينهما، ولكن الشارع عين لكل من المكلف المضطر والمكلف
المختار حصة خاصة من الجامع، فللأول الصلاة مع الطهارة الترابية في أول
الوقت وللثاني الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت وهكذا، كما أنه عين
للمسافر الصلاة قصرا فقط وللحاضر الصلاة تماما كذلك، وعندئذ فيكون
إجزاء الفرد الاضطراري عن الفرد الاختياري على القاعدة، باعتبار أن كل
390

واحد من فردي الجامع واف بالمصلحة القائمة به بنسبة واحدة (1).
وفيه إنه لا يمكن إتمام هذا الوجه لا ثبوتا ولا اثباتا.
أما ثبوتا فلأن الواجب لو كان الجامع بينهما، فما معنى تعيين الشارع لكل من
المختار والمضطر والقادر والعاجز فردا خاصا معينا من الجامع، بداهة أن هذا
التعيين لا يمكن أن يكون جزافا، فلا محالة تكون من جهة أن خصوصية الفرد
دخيلة في المصلحة، فإذا كانت دخيلة فيها استحال أن يكون الواجب هو الجامع
بينهما، فإن معنى كون الواجب الجامع أن خصوصية الفرد ملغاة وغير دخيلة في
المصلحة، ووفاء كل من الفردين بها بلحاظ اشتماله على الجامع، وعلى هذا
فالجمع بين كون الواجب الجامع بينهما وبين تعيين الشارع لكل منهما فردا
خاصا، جمع بين نقيضين فلا يمكن، ومن هنا يظهر حال صلاتي القصر والتمام،
ضرورة أن الواجب ليس هو الجامع بينهما، بل الواجب على كل من الحاضر
والمسافر حصة خاصة من الصلاة.
فالنتيجة، أن ما ذكره (قدس سره) ثبوتا لا يمكن، وأما اثباتا فلأن كون الواجب هو
الجامع بينهما يتوقف على أن يكون لأدلة البدلية اطلاق، وقد مر أنه لا اطلاق
لتمام الوقت.
الوجه الثالث: أن ظاهر دليل الأمر الاضطراري التعيين لا التخيير كما هو
الحال في دليل الأمر الاختياري، على أساس أن الأمر إذا تعلق بشيء ظاهر في
أنه واجب بنفسه وبعنوانه لا أنه فرد من واجب، وعلى هذا فمقتضى أدلة الأوامر
الاضطرارية كالآية الشريفة والروايات أن وجوب الصلاة مع الطهارة الترابية

(1) المصدر المتقدم.
391

وجوب تعييني ناشئ عن وجود مصلحة ملزمة فيها، كما أن وجوب الصلاة مع
الطهارة المائية وجوب تعييني ناشئ عن وجود مصلحة ملزمة فيها، فإذن
إجزاء الصلاة مع الطهارة الترابية عن الصلاة مع الطهارة المائية إنما هو بملاك أن
الاتيان بالأولى يوجب تفويت مصلحة الصلاة مع الطهارة المائية تماما للمضادة
بينهما، فلا يمكن استيفاء تلك المصلحة بالإعادة في آخر الوقت عند ارتفاع العذر،
ومن هنا لولا اطلاق أدلة الاضطرار كان العقل مستقلا بعدم جواز البدار
الموجب لتفويت المصلحة كاملة (1).
وفيه أولا: ما عرفت من أنه لا اطلاق لأدلة الأوامر الاضطرارية بالنسبة إلى
العذر غير المستوعب لتمام الوقت.
وثانيا: مع الاغماض عن ذلك وتسليم أن لها اطلاقا، إلا أن مقتضى اطلاقها
جواز البدار والاتيان بالوظيفة الاضطرارية في أول الوقت كالصلاة مع الطهارة
الترابية أو جالسا أو مع الايماء، ولا يحتمل تعين البدار إليها ثبوتا، لفرض أن
الوظيفة الاختيارية في آخر الوقت كالصلاة مع الطهارة المائية بعد ارتفاع العذر
مشتملة على مصلحة أكمل وأهم من مصلحة الصلاة مع الطهارة الترابية في أول
الوقت، فإذن كيف يمكن أن يكون الأمر بها في أول الوقت تعيينيا لا تخييريا.
وثالثا: أن العقل إذا كان مستقلا بعدم جواز تفويت المصحلة الكاملة
والاكتفاء بالمصلحة الناقصة كان ذلك قرينة لبية مانعة عن انعقاد ظهور أدلة
الأوامر الاضطرارية في الاطلاق، نعم لو كان هناك نص على الترخيص في
التفويت، ارتفع حكم العقل بارتفاع موضوعه، ولكنه غير موجود.

(1) مقالات الأصول 1: 277.
392

ورابعا: أن فرض التضاد بين المصلحتين مع عدم التضاد بين الصلاتين مجرد
فرض لا واقع موضوعي له، بداهة أن المضادة إنما هي بين الأفعال الخارجية،
فإذا لم تكن مضادة بينها، فلا مضادة بين آثارها وما يترتب عليها من الفوائد
والمصالح.
وخامسا: مع الاغماض عن ذلك وتسليم أن بينهما مضادة، إلا أنه حينئذ تقع
المعارضة بين دليل الأمر الاضطراري المتعلق بالصلاة مع الطهارة الترابية في أول
الوقت ودليل الأمر الاختياري المتعلق بالصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت
بعد ارتفاع العذر، ولا يمكن جعل كليهما معا لأنه لغو.
وأما المحقق النائيني (قدس سره) فقد اختار الاجزاء في صورة خاصة وهي صورة
اليأس عن ارتفاع العذر في طول الوقت أو الظن بعدم ارتفاعه، وقد أفاد في وجه
ذلك، أن جواز البدار فيها لا يخلو من أن يكون ظاهريا أو واقعيا، فعلى الأول
يدخل البحث في البحث عن المرحلة الثالثة الآتية، وهي أن الاتيان بالمأمور به
بالأمر الظاهري، هل يجزي عن الاتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي أو لا، وسوف
يأتي تفصيل ذلك.
وعلى الثاني، فلا شبهة في الاجزاء، فإن جواز البدار واقعا ملازم لوجود
الأمر الاضطراري بالصلاة مع الطهارة الترابية، ومع وجود هذا الأمر يستحيل
تعلق أمر آخر بها مع الطهارة المائية في وقت واحد، لقيام الضرورة والاجماع
القطعي على عدم وجوب ستة صلوات على المكلف في يوم واحد، لأن الواجب
في كل يوم خمسة صلوات لا أكثر، وعلى هذا فلا محالة يكشف الأمر
الاضطراري المتعلق بالصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت عن وجود
مصلحة فيها لا تقل عن مصلحة الصلاة مع الطهارة المائية، أو أن المقدار
393

المتبقي فيها غير الزامي، ولهذا فإذا ارتفع العذر في آخر الوقت وتمكن المكلف من الصلاة
مع الطهارة المائية فيه، لم تجب إعادتها وكفاية الصلاة مع الطهارة الترابية في أول
الوقت، وكذلك إذا صلى جالسا في أول الوقت أو مع الايماء بديلا عن الركوع
والسجود ثم ارتفع العذر في آخر الوقت وتمكن من الصلاة قائما أو مع الركوع
والسجود، فإنها تكفي ولا تجب عليه الإعادة (1). هذا،
وللمناقشة فيه مجال واسع، فإن جواز البدار واقعا أي وضعا وتكليفا في هذه
الصورة مع كشف الخلاف وارتفاع العذر في أثناء الوقت، بحاجة إلى دليل يدل
على أن الواجب هو الجامع بين الصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت
والصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت، وإلا فمقتضى القاعدة عدم جواز البدار
وعدم وجود الأمر الاضطراري واقعا، والموجود إنما هو الأمر الاختياري
بالصلاة مع الطهارة المائية، على أساس تمكن المكلف منها واقعا في الوقت ولو في
الجزء الأخير منه. والفرض أنه لا دليل على ذلك، أما الدليل الخاص المختص
بصورة اليأس فهو غير موجود جزما، وأما الدليل العام كالآية الشريفة
والروايات، فقد تقدم أنه لا اطلاق لها بالنسبة إلى العذر غير المستوعب لتمام
الوقت.
ومع الاغماض عن ذلك وتسليم أنها مطلقة وبإطلاقها تشمل العذر غير
المستوعب فلا وجه لهذا التفصيل، فإن مقتضى اطلاقها كفاية الاتيان بالصلاة مع
الطهارة الترابية في أول الوقت، سواء كان قاطعا باستمرار العذر إلى آخر الوقت
أم قاطعا بعدم استمراره أم لا هذا ولا ذاك، هذا من جانب ومن جانب آخر، أن
الصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت مع تمكن المكلف من الصلاة مع الطهارة

(1) أجود التقريرات 1: 284 - 285.
394

المائية في آخر الوقت إن كانت مشتمله على مصلحة وافية بتمام مصلحة الصلاة
مع الطهارة المائية، كانت مشتمله عليها في تمام الحالات المذكورة، وإن لم تكن
مشتملة على مصلحة كذلك، لم تكن مشتملة عليها في شيء من تلك الحالات،
ضرورة أنه لا يحتمل اشتمالها على مصلحة في صورة اليأس عن ارتفاع العذر
والقطع باستمراره إلى آخر الوقت فقط، أو من غير المحتمل أن يكون القطع بعدم
ارتفاع العذر واستمراره دخيلا في اشتمال الصلاة مع الطهارة الترابية
على المصلحة.
وإن شئت قلت: أن موضوع الأمر الاضطراري إن كان العذر المستوعب لتمام
الوقت، فلا أمر واقعا فيما إذا لم يكن العذر مستوعبا لتمام الوقت، وإن كان أعم من
العذر المستوعب وغير المستوعب، فالأمر الاضطراري موجود واقعا وهو الأمر
بالصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت وإن ارتفع العذر في آخر الوقت وتمكن
المكلف من الصلاة مع الطهارة المائية، فالتفصيل بين صورة القطع باستمرار
العذر المخالف للواقع وصورة عدم القطع به، فعلى الأول يكون الأمر الاضطراري
موجودا دون الثاني لا وجه له أصلا، بداهة أنه لا يحتمل أن يكون للقطع المخالف
للواقع دخيل في الملاك، وهكذا الحال في سائر الأعذار في باب الصلاة وغيره.
ومن هنا يظهر أنه لو قلنا بجواز البدار واقعا وكفاية الصلاة مع الطهارة الترابية
في أول الوقت، فعندئذ عدم وجوب الصلاة مع الطهارة المائية يكون على
القاعدة، باعتبار أن الواجب على هذا هو الجامع بينهما طولا، والمفروض أن
المكلف قد أتى بأحد فرديه، كما هو الحال فيما إذا كان الواجب على المكلف الجامع
بين صلاتي القصر والتمام أو بين الجمعة والظهر في يوم الجمعة، وحينئذ فلا وجه
للاستدلال بالضرورة والاجماع على عدم وجوب ستة صلوات، فإن الاستدلال
395

بهما إنما يكون له محل لو قيل بأن الصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت واجبة
تعيينية، فعندئذ لو كانت الصلاة مع الطهارة المائية واجبة كذلك بعد ارتفاع العذر
في آخر الوقت لزم هذا المحذور، والفرض أن من يقول بكفاية الصلاة مع الطهارة
الترابية في أول الوقت في المسألة عن الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت بعد
ارتفاع العذر، إنما يقول بأن الواجب حينئذ هو الجامع بينهما لا خصوص الأولى
في أول الوقت والثانية في آخر الوقت.
هذا إضافة إلى أن ذلك لو تم فرضا فإنما يتم في باب الصلاة فقط، وأما في سائر
أبواب الواجبات، فلا مانع من الالتزام بتعدد الواجب من هذه الناحية.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة، وهي أن مقتضى القاعدة في هذه المسألة
عدم جواز البدار واقعا، فجوازه بحاجة إلى دليل خاص، ففي كل مورد قام دليل
خاص على ذلك نأخذ به وإلا فلا، ومن ذلك المورد، موارد التقية فإنه قد ثبت
جواز البدار فيها واقعا تكليفا، وأما تكليفا ووضعا فقد ثبت في باب الصلاة
والوضوء لا مطلقا، وسوف يأتي تفصيله.
وأما الأصل العملي في المقام، فحيث أن الشك فيه يرجع إلى الشك في أن
الواجب هو الجامع بين الصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت والصلاة مع
الطهارة المائية في آخر الوقت أو خصوص الصلاة مع الطهارة المائية فحسب،
فيدور الأمر عندئذ بين التعيين والتخيير في مرحلة الجعل، والمرجع فيه أصالة
البراءة عن التعيين، فالنتيجة كفاية الاتيان بالصلاة مع الطهارة الترابية في أول
الوقت وعدم وجوب إعادة الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت.
وأما المحقق الأصبهاني (قدس سره) فقد أفاد في وجه ذلك ما نصه:
تحقيق الحال فيه أن بدلية شيء عن شيء وقيامه مقامه ولو بنحو الترتيب
396

لا يعقل إلا مع جهة جامعة وافية بسنخ غرض واحد، فإن كان البدل في غرض
المبدل لزم مساواته له في تمام المصلحة، إما ذاتا أو بالعرض والوجه واضح، وإن
كان البدل في طول المبدل كما في مفروض البحث، فاللازم مجرد مسانخة
الغرضين، سواء كان مصلحة المبدل أقوى من مصلحة البدل أو لا، وحديث
إمكان استيفاء بقية مصلحة المبدل إنما يصح إذا كان المبدل مشتملا
على مصلحتين:
إحداهما تقوم بالجامع بين المبدل والبدل، والأخرى بخصوص المبدل، بحيث
تكون كلتا المصلحتين ملزمتين قابلتين لانقداح البعث، وأما إذا كانت المصلحة
في البدل والمبدل واحدة وكان التفاوت بالضعف والشدة، فلا تكاد تكون بقية
المصلحة ملاكا للبعث إلى المبدل بتمامه، إذ المفروض حصول طبيعة المصلحة
القائمة بالجامع الموجود بوجود البدل، فتسقط عن الاقتضاء والشدة بما هي،
لا يعقل أن تكون ملاكا للأمر بالمبدل بكماله، حيث إن المفروض أن تمام الملاك
للأمر بتمام المبدل وهي المصلحة الكاملة القوية وطبيعتها وجدت في الخارج
وسقطت عن الاقتضاء، فلو كان مع هذا حد الطبيعة القوية مقتضيا للأمر بتمام
المبدل لزم الخلف. نعم، اقتضاؤه لتحصيل الخصوصية القائمة بالمبدل معقول،
نظرا إلى أن اشتراك المبدل والبدل في جامع الملاك يكشف عن جامع بينهما، لكنه
لا يجدي إلا مع الالتزام بالأمر بالجامع أيضا في ضمن المبدل تحصيلا للخصوصية
التي لها ملاك ملزم، فيكون الأمر بالمبدل مقدميا وهو مما لا ينبغي الالتزام به،
ومنه تعرف أن الالتزام بمصلحتين في المبدل أيضا لا يجدي إذا كانت إحداهما
قائمة بالجامع فقط وأخرى بالخصوصية، بل لابد من الالتزام بقيام مصلحتين
397

إحداهما بالجامع فقط وأخرى بالجامع المتخصص بالخصوصية (1).
ما أفاده يتضمن عدة نقاط:
الأولى: أن البدلية إذا كانت عرضية لزم تساوي طرفيها في الملاك.
الثانية: أنها إذا كانت طويلة فلابد من اشتراك البدل مع المبدل في سنخ الملاك
وإن كان ملاك المبدل أقوى من ملاك البدل.
الثالثة: أن استيفاء الملاك المتبقي من ملاك المبدل إنما هو فيما إذا كان المبدل
مشتملا على ملاكين أحدهما قائم بالجامع بين البدل والمبدل، والآخر بالجامع
المتخصص بخصوصية المبدل وكان كل منهما ملزما في نفسه، وأما إذا كان البدل
والمبدل كلاهما مشتملا على ملاك واحد وكان التفاوت بينهما بالشدة والضعف،
فلا يصلح الملاك المتبقي أن يكون داعيا إلى المبدل بتمامه بعد استيفاء طبيعة الملاك
الجامعة بين ذات البدل وذات المبدل، فإذا استوفى ذلك الملاك بالاتيان بالبدل لم
يبق لذات المبدل ملاك، وإنما يبقى الملاك القائم بخصوصيته الخاصة فحسب،
فإذن لابد إما من إفتراض الأمر بذات المبدل وهو ذو الخصوصية مقدمة الملاك
القائم بها أو إفتراضه بنفس الخصوصية، ولكن كلا الفرضين لا يمكن، أما الأول
فلأن لازمه أن يكون الأمر بالمبدل أمرا مقدميا غيريا ناشئا من الملاك القائم
بخصوصيته المقترنة به وجودا الخارجة عنه ذاتا وحقيقة، ونتيجة ذلك أن الأمر
بالصلاة مع الطهارة المائية أو مع القيام في آخر الوقت بعد ارتفاع العذر غيري،
شريطة إتيانه بالصلاة مع الطهارة الترابية أو جالسا في أول الوقت، باعتبار أن
الأمر بالصلاة إنما هو مقدمة لتحصيل الملاك القائم بالطهارة المائية أو بالقيام فيها

(1) نهاية الدراية 1: 382.
398

لا بنفسها، وهذا خلاف ظاهر الدليل.
وأما الثاني، فلأن لازمه أن يكون الأمر متعلقا بالخصوصية لا بذيها وهو
كما ترى، ضرورة أنه متعلق بالصلاة مع الطهارة المائية أو مع القيام لا بالطهارة
المائية في الصلاة أو القيام فيها، وبذلك يظهر أن إمكان استيفاء بقية مصلحة
المبدل منوط بوجود مصلحتين:
إحداهما قائمة بالجامع فقط، والأخرى قائمة بالجامع المتخصص
بالخصوصية، وأما إذا كانت إحداهما قائمة بالجامع والأخرى بالخصوصية فقط،
فأيضا لا يمكن بنفس ما عرفت من الملاك، هذا توضيح لما أفاده (قدس سره) هنا.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط.
أما النقطة الأولى: فلأن ما ذكره (قدس سره) من أن المعتبر في البدلية العرضية أن
يكون طرفاها متساويين بنسبة واحدة في تمام المصلحة.
فإن أراد بذلك أن مصلحة البدل مساوية لمصلحة المبدل وبالعكس، فيرد
عليه أنه إذا كانت لكل من البدل والمبدل مصلحة تامة مساوية لمصلحة الآخر،
فلا مبرر حينئذ للتخيير والبدلية إلا إذا فرض التضاد بين المصلحتين، ولكن هذا
مجرد فرض لا واقع له، إذ لا يتصور المضادة بينهما طالما لم تكن مضادة بين الفعلين
في الخارج، وإن أراد بذلك أن استيفاء المصلحة في كل منهما مشروط بعدم
استيفائها في الآخر، بأن تكون هناك مصلحتان مشروطتان ويتبعهما وجوبان
مشروطان كما هو أحد الأقوال في مسألة الواجب التخييري، فيرد عليه أنه لا
معنى لأن يكون استيفاء المصلحة في كل منهما مشروطا بعدم استيفائها في الآخر،
لأن المصلحة أمر تكويني، فإذا لم تكن بينهما مضادة وجب استيفاء كليهما معا لا
399

إحداهما فحسب، ومن هنا قلنا ببطلان هذا القول في الواجب التخييري وإنه لا
يرجع إلى معنى محصل، وإن أراد بذلك تساوي كل من البدل والمبدل في الوفاء
بتمام المصلحة القائمة بالجامع فهو صحيح، لما ذكرناه من أن المصلحة في الواجب
التخييري قائمة بالجامع وهي واحدة، ولهذا يكون المجعول فيه وجوب واحد،
فالنتيجة أن الواجب في البدلية العرضية واحد ملاكا وحكما ومتعلقا، والتخيير
إنما هو بين أفراده.
وأما النقطة الثانية: فقد ذكر (قدس سره) أن المعتبر في البدلية الطولية مجرد مسانخة
الغرضين، بأن يكون الغرض القائم بالبدل مسانخا للغرض القائم بالمبدل، سواء
أكان غرض المبدل أقوى من غرض البدل أم لا، ويمكن المناقشة فيه بأن الغرض
القائم بالمبدل إذا لم يكن أقوى من الغرض القائم بالبدل، فلا موجب لكون
البدلية بينهما طولية، بأن يكون وجوب البدل مشروطا بالعجز عن المبدل، إذ لا
معنى لهذا الاشتراط إذا كانا متساويين في الملاك والغرض، ضرورة أن جعل
الشارع وجوب الصلاة مع الطهارة الترابية في طول وجوبها مع الطهارة المائية
لا يمكن أن يكون جزافا وبلا ملاك، فلا محالة يكون لنكتة، وتلك النكتة ليست
إلا أن مصلحة الصلاة مع الطهارة المائية أقوى بدرجة تلزم المكلف بالاتيان بها
طالما يتمكن منها، وإذا تعذر انتقلت وظيفته إلى الصلاة مع الطهارة الترابية، فإذا
فرضنا أن مصلحة الصلاة مع الطهارة المائية ليست أقوى من مصلحة الصلاة مع
الطهارة الترابية في الوقت، فلا مبرر لكون الثانية في طول الأولى، وأما إذا كان
الغرض القائم بالمبدل أقوى من الغرض القائم بالبدل بدرجة تلزم المكلف
بالاتيان بالمبدل طالما يكون متمكنا منه، وإذا تعذر عقلا أو شرعا، انتقل
الأمر إلى البدل، فهل يعتبر في هذه الطولية أن يكون غرض البدل مسانخا
400

لغرض المبدل؟
فقد التزم المحقق الأصبهاني (قدس سره) باعتبار المسانخة بينهما في كون البدل في طول
المبدل، ولكن الظاهر عدم اعتبارها، إذ لا يلزم أن تكون مصلحة الصلاة مع
الطهارة الترابية عند تعذر الصلاة مع الطهارة المائية في تمام الوقت مسانخة
لمصلحتها، فيمكن أن تكون مصلحة الصلاة مع الطهارة الترابية عند تعذرها مع
الطهارة المائية في تمام الوقت غير مسانخة لمصلحة الصلاة مع الطهارة المائية، فإن
المعيار في وجوبها كونها مشتملة على مصلحة ملزمة في حالة خاصة وهي حالة
تعذر الصلاة مع الطهارة المائية لا مطلقا، وأما كونها من سنخ مصلحتها فهو غير
دخيل في وجوبها ولا في بدليتها لها، لأن العبرة فيها إنما هي بكونها في طولها
وعند تعذرها هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أنه لا شبهة في أن الصلاة مع الطهارة الترابية عند تعذر
الصلاة مع الطهارة المائية في تمام الوقت واجدة ومشتملة على مصلحة ملزمة في
هذه الحالة وإن كانت دون مصلحة الصلاة مع الطهارة المائية كما تقدم، وأما إذا
كان التعذر في بعض الوقت لا في تمامه، كما إذا كان المكلف فاقدا للماء في أول
الوقت وواجدا له في آخر الوقت، فإن كان لدليل الأمر الاضطراري اطلاق،
فالواجب هو الجامع بين الصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت والصلاة مع
الطهارة المائية في آخر الوقت، إذ لا يمكن أن يكون وجوب كل منهما تعيينيا كما
مر، وعلى هذا فمقتضى الاطلاق الاجزاء، وقد تقدم أن اطلاقه يتقدم على اطلاق
دليل الأمر الاختياري، وإن لم يكن له اطلاق، فالمرجع حينئذ إطلاق دليل الأمر
الاختياري ومقتضاه عدم الاجزاء.
وأما النقطة الثالثة: فإن كان العذر مستوعبا لتمام الوقت، فلا شبهة في أن كل
401

من البدل والمبدل مشتمل على مصلحة غير مصلحة الآخر، فالصلاة مع الطهارة
الترابية عند تعذر الطهارة المائية في تمام الوقت مشتملة على مصلحة غير
مصلحة الصلاة مع الطهارة المائية، ولا شبهة في تعدد المصلحة في هذه الصورة،
فمصلحة البدل تقوم بالبدل بحده ومصلحة المبدل تقوم بالمبدل كذلك، ولا يمكن
أن تكون قائمة بالجامع، لأن الواجب في هذه الحالة هو خصوص البدل تعيينا،
وأما إذا لم يكن العذر مستوعبا لتمام الوقت، فاشتمال البدل على المصلحة ثبوتا
يتصور على وجوه، وقد تقدم الكلام في تلك الوجوه موسعا، وأما إثباتا فإن كان
لدليل الأمر الاضطراري اطلاق فرضا فمقتضاه الاجزاء وعدم وجوب الإعادة،
وإن لم يكن له اطلاق كما هو كذلك، فمقتضى اطلاق دليل الأمر الاختياري عدم
الاجزاء ووجوب الإعادة هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن ما ذكره (قدس سره) من أن المصلحة الباقية إذا كانت قائمة
بالخصوصية، فلا يمكن تداركها كما تقدم قابل للمناقشة، اما أولا، فلأن فرض
قيام المصلحة بالخصوصية بحدها بدون دخل ذيها فيها مجرد افتراض لا واقع
موضوعي له، إذ لا يحتمل أن تكون المصلحة في القيام للصلاة وفي الطهارة المائية
لها، لوضوح أن القيام دخيل في مصلحة الصلاة وكذلك الطهارة المائية،
فالمصلحة قائمة بحصة خاصة من الصلاة وهي الحصة المقيدة بالطهارة المائية أو
القيام، وثانيا أن المصلحة لم تقم بالخصوصية القيامية أو الطهاراتية مطلقا، وإنما
تقوم بالقيام الصلاتي وبالطهارة الصلاتية، وعليه فالأمر بالصلاة إنما هو من جهة
قيام مصلحة بخصوصية قائمة بها قيام العنوان بالمعنون، وهذا بنظر العرف ليس
من الأمر بالمقدمة، تحصل أن ما أفاده المحقق الأصبهاني (قدس سره) في المقام، فلا يمكن
المساعدة عليه.
402

هذا كله بالنسبة إلى أدلة الأوامر الاضطرارية الخاصة كالآية الشريفة
والروايات، وأما الأدلة العامة فهي متمثلة في أمرين:
الأول: قاعدة الميسور التي يكون مقتضاها أن العمل الناقص الميسور مجز عن
العمل التام المعسور، ولا فرق بين أن يكون العمل الناقص الميسور الصلاة مع
الطهارة الترابية بعد تعذر الطهارة المائية أو غيرها، وفيه أن هذه القاعدة غير
ثابتة في نفسها، لأن رواياتها ضعيفة سندا ودلالة، فلا يمكن الاعتماد عليها وتمام
الكلام في محله.
الثاني: حديث رفع الاضطرار، بتقريب أن المكلف إذا اضطر إلى ترك الصلاة
مع الطهارة المائية أو مع القيام أو مع الركوع والسجود وغيرها، فحيث إن
الاضطرار رافع لوجوبها بمقتضى قوله (عليه السلام) رفع ما اضطروا إليه (1)، فحينئذ لا
محالة يكون الواجب هو الصلاة مع الطهارة الترابية أو مع الجلوس أو الايماء.
وفيه، أن مفاد حديث الرفع، رفع الحكم عن العمل الذي اضطر المكلف إلى ترك
جزء أو قيد منه، لا اثبات الحكم للعمل الفاقد له لا مطابقة ولا التزاما، وعلى
الجملة فالحديث يدل على رفع الوجوب عن الصلاة مع الطهارة المائية عند
الاضطرار إلى تركها، ولا يدل على اثبات الوجوب للصلاة مع الطهارة الترابية
ولو بالالتزام، بل لا اشعار فيه على ذلك فضلا عن الدلالة، وتمام الكلام في محله.
وأما الكلام في الاضطرار إلى ذلك في سائر الواجبات كالوضوء والغسل
والصوم والحج وغير ذلك، فيقع تارة في مقتضى الأدلة العامة وأخرى في مقتضى
الأدلة الخاصة.

(1) الوسائل 15: 369، باب 56 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح 1 و 3، و ج 16: 218، باب
25 من أبواب الأمر والنهي، ح 10.
403

أما الأدلة العامة فقد عرفت قصورها سندا ودلالة أو دلالة فقط فلا يمكن
الاستدلال بها.
وأما الدلالة الخاصة، فقد دلت مجموعة من الروايات على إجزاء الوضوء
والغسل الناقصين عن الوضوء والغسل التامين، وهي روايات الجبيرة (1) التي
يكون مفادها أن وضوء الجبيرة بديل عن الوضوء التام وكذلك غسل الجبيرة
فإنه بديل عن الغسل التام، شريطة أن يكون العذر مستوعبا لتمام الوقت لا
مطلقا على تفصيل في محله، ومن هذا القبيل وضوء المسلوس والمبطون، فإن
مقتضى الروايات (2) كفاية وضوئهما عن الوضوء التام، شريطة أن يكون واجدا
للشروط المعتبرة فيه بالنسبة إليهما على تفصيل ذكرناه في الفقه هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن روايات الجبيرة والمسلوس والمبطون لا تدل على
الاجزاء إذا لم يكن العذر مستوعبا لتمام الوقت وتفصيل الكلام هناك، بقي الكلام
في الاضطرار إلى ترك جزء أو قيد من جهة التقية.
الروايات الواردة فيها على طائفتين:
الأولى: الروايات العامة.
الثانية: الروايات الخاصة.
أما الأولى، فهي روايات كثيرة قد وردت بألسنة مختلفة، منها ما جاء بلسان
أن التقية ديني ودين أبائي ولا إيمان لمن لا تقية له (3)، ومنها ما جاء بلسان التقية

(1) لاحظ الوسائل 1: 463، باب 39 من أبواب الوضوء.
(2) أنظر الوسائل 1: 297، باب 19 من نواقض الوضوء.
(3) الوسائل 16: 204، باب 24 من أبواب الأمر والنهي، ح 4 ولفظه: (التقية من ديني و...).
404

حرز المؤمن ولا إيمان لمن لا تقية له (1)، ومنها ما جاء بلسان لا دين لمن لا تقية
له (2)، ومنها ما جاء بلسان التقية في كل ضرورة (3) وغير ذلك (4)..
وتقريب الاستدلال بها أنها تنص على أن التقية من الدين، وحيث إنها عنوان
للعمل المتقي به فيصبح العمل المذكور من الدين، وعلى هذا فإذا اضطر المكلف
تقية إلى الصلاة بدون البسملة أو مع التكتف وهكذا، كانت الصلاة من الدين،
فإذا كانت من الدين كانت بطبيعة الحال واجبة ومأمورا بها، وحينئذ فلا محالة
تكون مجزية عن الواقع، باعتبار أن وجوبها كاشف عن وجود مصلحة فيها تفي
بمصلحة الواقع وإلا لكان وجوبها لغوا، نعم لو اضطر المكلف إلى الافطار في جزء
من نهار شهر رمضان وأفطر فيه، لم يكف صومه في سائر أجزائه عن صوم ذلك
اليوم كاملا، لأن الاضطرار الناشئ من التقية في المقام رافع لوجوب الصوم
فحسب، ولا يدل على أن هذا الافطار كلا افطار ولا أثر له، ولا ينطبق على هذا
الصوم الناقص عنوان التقية لكي يكون من الدين وواجبا، فإن هذا العنوان إنما
ينطبق على الافطار في جزء من النهار لا على صوم باقي النهار، وهذا بخلاف
الوقوف بعرفات، فإن الوقوف معهم تقية مجزئ، لا من جهة انطباق عنوان
التقية عليه، بل من جهة ما ذكرناه من الوجه وتمام الكلام فيه في محله هذا. ولكن
التحقيق عدم دلالة هذه الروايات على الاجزاء، وذلك لأنها وإن كانت تنص
على أن التقية من الدين وإنها شرعت كسائر الأحكام الشريعة، إلا أن الكلام إنما
هو في دلالتها على الاجزاء، ومن الواضح أنها إنما تدل عليه لو كان مفادها أن

(1) المصدر المتقدم ح 7.
(2) المصدر المتقدم ح 3 و 23 و 24.
(3) الوسائل 16: 214، باب 25 من أبواب الأمر والنهي، ح 1.
(4) لاحظ الوسائل 16: 203، باب 24، وما بعده من أبواب الأمر والنهي.
405

العمل المتقي به مأمور به بعنوان ثانوي بعد سقوط الأمر عنه بعنوان أولي، فإذا
اضطر المكلف تقية إلى ترك البسملة في الصلاة أو إلى التكتف فيها، فلا شبهة في
أن الأمر المتعلق بالصلاة مع البسملة أو مقيدة بعدم التكتف قد سقط بسقوط
متعلقه ولا يعقل بقائه، وإلا لزم التكليف بالمحال، وأما ثبوت الأمر الآخر المتعلق
بالصلاة بدون البسملة أو مع التكتف، فهو بحاجة إلى دليل وروايات التقية
العامة لا تدل عليه، وقد قيل في وجه عدم دلالتها، بأن التقية إنما هي في جزء من
العمل المتقى به وهو ترك البسملة في المثال أو التكتف، لا في القراءة ولا في الركوع
والسجود ولا في التشهد والتسليم، ومن الواضح أن في ترك البسملة مصلحة
وهي مصلحة حفظ النفس وكذلك في التكتف، فلذلك يكون واجبا، وأما في
بقية الاجزاء فحيث أن الأمر الأول قد سقط عنها بسقوط متعلقه روحا وملاكا،
فثبوت الأمر الآخر بها بحاجة إلى دليل ولا دليل عليه، لأن هذه الروايات لا
تدل إلا على محبوبية العمل المتقى به من جهة ما يترتب عليه من الآثار وهي حفظ
النفس أو العرض أو المال، والمفروض عدم صدق هذا العنوان على بقية
الاجزاء، وإنما يصدق على ترك البسملة أو التكتف فحسب، مثلا غسل الرجلين
في الوضوء مصداق للتقية دون سائر أجزائه، ولكن لا وجه لهذا التقريب
لنقطتين:
الأولى: أن التقية عنوان للصلاة بدون البسملة أو الصلاة مع التكتف،
ضرورة أن عنوان التقية لا يصدق على ترك البسملة مطلقا أو على التكتف
كذلك، وإنما يصدق على حصة خاصة منه وهي ترك البسملة في ضمن الصلاة
ومرتبطا بها، ومن الواضح أن صدق هذا العنوان عليه حينئذ لا ينفك عن صدقه
على سائر الاجزاء، لأن الاتيان بها كذلك إنما هو من أجل التقية وإلا فلا موجب
له، فإذن عنوان التقية يصدق على الصلاة بدون البسملة أو مع التكتف لا على
406

جزء منه فقط، ومن المعلوم أن الاتيان بها إنما هو بغرض دفع مفسدة التقية.
الثانية: أن انطباق عنوان التقية على العمل المتقى به ليس من جهة ما فيه من
الملاك الخاص، بل من جهة مصلحة عامة التي اهتم الشارع بها، ومن أجل
التحفظ على تلك المصلحة العامة أمر الشارع بالتقية، وهي مصلحة حفظ النفس
أو العرض أو المال، فالاتيان بالعمل المتقى به إنما هو من أجل تلك المصلحة
العامة، فلذلك لا يكشف انطباقه عليه عن وجوبه النفسي لكي يكون مجزيا
عن الواقع.
والخلاصة: أن الروايات المذكورة وإن كانت ناصة في وجوب التقية وأنها
من الدين، إلا أنها لا تدل على أن وجوبها ناشئ من الملاك القائم بالعمل المتقى
به لكي يكشف عن وجوبه النفسي، بل الظاهر منها بمناسبة الحكم والموضوع
الارتكازية أنه ناشئ من مصالح أخرى وهي مصالح حفظ النفس أو العرض أو
المال التي اهتم الشارع بها، فيكون وجوبه مقدميا.
هذا إضافة إلى أن هناك مجموعة من الروايات التي تنص على أن علة جعل
التقية وتشريعها من الدين هي حقن الدماء والأنفس، كصحيحة محمد بن
مسلم (1) وصحيحة أبي حمزة الثمالي (2) ونحوهما (3)، فإنها تنص على أن مصلحة
جعل التقية وحكمته حقن الدماء وحفظ الأنفس وما يلحق بها من الاعراض
والأموال، وعلى هذا فلا تدل هذه الروايات على أن العمل المتقى به مأمور به
حتى يكون الاتيان به مجزيا عن الواقع.
ومن هنا يظهر أن ما نسب إلى المشهور من دلالة هذه الروايات على الاجزاء

(1) (2) الوسائل 16: 234، باب 31 من أبواب الأمر والنهي، ح 1 و 2.
(3) لاحظ الوسائل 16: 235، باب 32 من أبواب الأمر والنهي.
407

لا يمكن المساعدة عليه، فالنتيجة أن أدلة التقية العامة لا تدل على الاجزاء.
وأما الأدلة الخاصة فتارة يقع الكلام في الأدلة الخاصة الواردة في باب الصلاة
وأخرى في غيرها، أما الكلام في الأول فقد وردت فيها طوائف من الروايات:
الأولى: الروايات التي تنص على ترغيب المؤمنين في الصلاة معهم والحث
على الدخول في مساجدهم وحضور جنائزهم، وقد جاء في صحيحة حماد بن
عثمان وصحيحة الحلبي أن من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف
رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الصف الأول (1)، وهذه الطائفة تدل بوضوح على الاجزاء،
ومقتضى اطلاقها أن الصلاة معهم مجزية وإن كانت فاقدة للجزء أو الشرط، كما
إذا كانت فاقدة للقراءة أو البسملة أو مقرونة بالتكتف أو نحو ذلك، بل مقتضى
هذه الروايات صحة الصلاة معهم مداراة وإن لم تكن هناك تقية، بل مقتضى
الصحيحتين المذكورتين أنها أفضل وأكثر ثوابا من الصلاة وحدة.
الثانية: الروايات الناهية عن الصلاة خلفهم والاقتداء بهم، ومقتضى اطلاقها
أنها غير صحيحة وإن كانت في حال التقية (2).
الثالثة: الروايات التي تدل على جواز الصلاة خلفهم شريطة أن يقرأ القراءة
بنفسه وإخفاتا، كقوله (عليه السلام) في صحيحة علي بن يقطين إقرأ لنفسك وإن لم تسمع
نفسك (3)، وقوله (عليه السلام) في صحيحة الحلبي فاقرء خلفه سمعت قراءته أو لم
تسمع (4). وهكذا (5).

(1) الوسائل 8: 299، باب 5 من أبواب صلاة الجماعة، ح 1 و 4.
(2) الوسائل 8: 303، باب 6 من أبواب صلاة الجماعة ح 5.
(3) الوسائل 8: 363، باب 33 من أبواب صلاة الجماعة، ح 1.
(4) الوسائل 8: 363، باب 33 من أبواب صلاة الجماعة ح 9.
(5) لاحظ أحاديث الباب المتقدم.
408

ثم إن بين الطائفة الأولى والثانية معارضة، فإن الأولى تدل على صحة الصلاة
خلف إمامهم والثانية تدل على بطلانها فتسقطان معا من جهة المعارضة، فيكون
المرجع الطائفة الثالثة التي لا معارض لها، ومقتضى هذه الطائفة جواز الاقتداء
بهم بشرط أن يقرء القراءة بنفسه، نعم ما يترتب على الاشتراك معهم في الصلاة
والاقتداء بإمامهم من المصالح العامة كإظهار الوحدة بين صفوف المسلمين
والمحافظة على مصالح الطائفة لا يرتبط بصحة صلاته، لأنها منوطة بأن يقرء
القراءة بنفسه، ولا يمكن أن يعول على قراءة إمامهم بأن تعوض قرائته عن
قرائته، لأن شروط التعويل غير متوفرة فيه، نعم مقتضى إطلاق هذه الروايات
أن التكتف أو السجود على ما لا يصح السجود عليه لا يضر بصحة الصلاة وإن
كان بامكانه الاتيان بها في مكان آخر بدون التكتف ومع السجود على ما يصح،
ولكن هذا الفرض خارج عن محل الكلام، فإن محل الكلام إنما هو في كفاية
الصلاة الاضطرارية عن الصلاة الاختيارية فيما إذا لم يكن العذر مستوعبا لتمام
الوقت، وأما إذا كان الاتيان بالصلاة الناقصة بإرادة المكلف واختياره مع تمكنه
من الاتيان بالصلاة التامة في عرضها كما هو المفروض في مورد هذه الروايات،
فهو خارج عن محل الكلام.
وأما الكلام في الثانية، وهي ما ورد في بعض الروايات الخاصة من الأمر
بغسل الرجلين في الوضوء تقية (1)، فهل يجزي إذا توضأ شخص كذلك، الظاهر
أنه يجزي، وذلك لأن الأمر المتعلق بالوضوء كذلك يكشف عن وجود مصلحة
ملزمة فيه وهي تفي بمصلحة الواقع، وأما عنوان التقية فهو عنوان تعليلي له
وليس بتقييدي لكي يكون الأمر به من جهة ما يترتب على التقية من المصلحة.

(1) الوسائل 1: 444، باب 32 من أبواب الوضوء، ح 3.
409

ومن هنا تختلف الأدلة العامة للتقية عن الأدلة الخاصة لها، فإن الأولى ظاهرة
في أن الأمر بالتقية بعنوانها إنما هو من أجل ما يترتب عليها من المصلحة العامة
وهي حقن الدماء وحفظ الأموال والأعراض، لا من أجل ما يترتب على الفعل
المتقى به بعنوانه الأولي من المصلحة، فلهذا يكون الظاهر منها أن التقية جهة
تقييدية لا تعليلية، وهذا بخلاف الأدلة الخاصة فإنها حيث كانت ظاهرة في أن
الأمر متعلق بالفعل بعنوانه الأولي لا بالتقية، ولكن من أجل التقية فيكون
الظاهر منها أنها جهة تعليلية لا تقييدية.
هذا كله في الاضطرار الطارئ على الانسان بغير اختياره، وأما إذا كان بسوء
الاختيار، فهل هو مشمول لاطلاق أدلة الأوامر الاضطرارية من الآية الشريفة
والروايات أو لا؟ فقد ذكر السيد الأستاذ (قدس سره) أن الاضطرار العارض على المكلف
بغير اختباره هو القدر المتيقن من اطلاقها، وأما إذا كان بسوء اختياره كما إذا كان
معجزا نفسه عن الوضوء أو الغسل بإهراق الماء عنده، أو معجزا كذلك عن
الصلاة قائما أو الصلاة في ثوب طاهر بإرادته، فقد ذكر (قدس سره) أنه غير مشمول
لاطلاق أدلة الأوامر الاضطرارية، بدعوى أن هذه الاطلاقات منصرفه عنه
ومختصة بالاضطرار الطبيعي وغير الاختياري، فإن قوله تعالى: (فلم تجدوا
ماء فتيمموا صعيدا طيبا) (1)، ظاهر عرفا فيما إذا كان عدم وجدان الماء بطبعه لا
بسوء اختياره، ولا يشمل ما إذا كان عدم وجدانه الماء مستندا إلى سوء اختياره
كما إذا كان عنده ماء أهرقه باختياره، وكذلك قوله (عليه السلام): " إذا قوى فليقم " (2)،
فإنه لا يشمل ما إذا كان عجزه عن القيام مستندا إلى سوء اختياره، وعلى هذا فلا

(1) سورة النساء (4): 43 وسورة المائدة (5): 6.
(2) الوسائل 5: 495، باب 6 من أبواب القيام، ح 3.
410

يجوز للمكلف إيقاع نفسه في الاضطرار اختيارا، لأنه يستوجب فوات الملاك
الملزم القائم بالمبدل وحرمان نفسه عنه وهو غير جائز، لأن العقل كما يحكم بقبح
تفويت التكليف المنجز كذلك يحكم بقبح تفويت الملاك المنجز الذي هو حقيقة
التكليف وروحه.
وعلى الجملة فاطلاقات أدلة الأوامر الاضطرارية إذا لم تشمل الاضطرار
الناشئ بسوء اختيار المكلف، لم يكن هناك أمر اضطراري حتى يكون الاتيان
بمتعلقه مجزيا عن الواقع، فلهذا قد حرم نفسه عن استيفاء الملاك المولوي وفوت
على نفسه تمام ملاك الواقع.
ثم ذكر (قدس سره) أن الثمرة لا تظهر بين القولين في باب الصلاة، على أساس أنها
لا تسقط بحال، فإذا أوقع المكلف نفسه في الاضطرار إلى التيمم باهراق الماء
الموجود عنده باختياره، فالآية الشريفة عندئذ وإن كانت لا تشمل مثله وهو
الفاقد للماء باختياره، إلا أن الصلاة بما أنها لا تسقط بحال، فيجب عليه الاتيان
بها مع الطهارة الترابية، والثمرة إنما تظهر بين القولين في غير باب الصلاة (1) هذا.
ولنا تعليقان على ما أفاده (قدس سره) في المسألة:
الأول: على أصل الدعوى.
الثاني: على ما ذكره (قدس سره) من أن الثمرة لا تظهر بين القولين في باب الصلاة.
أما التعليق الأول، فلأن الآية الشريفة وإن كان يمكن القول بأن المنصرف
منها عدم وجدان المكلف الماء بطبعه وبغير سوء اختياره، إلا أن هذا الانصراف
بدوي، لأن التأمل في الآية الشريفة بضم صدرها إلى ذيلها بمناسبة الحكم

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 241 - 243.
411

والموضوع الارتكازية يؤكد أن موضوع وجوب الوضوء في الآية تمكن المكلف
من استعمال الماء عقلا وشرعا، وموضوع وجوب التيمم عدم تمكنه من
الاستعمال كذلك، وعلى هذا فإن كان المكلف متمكنا من استعمال الماء عقلا
وشرعا فوظيفته الوضوء أو الغسل وإلا فوظيفته التيمم، ولا فرق في ذلك بين أن
يكون عدم التمكن مستندا إلى أمر خارج عن اختيار المكلف أو مستندا إلى سوء
اختياره، فإنه على كلا التقديرين يصدق عليه أنه غير متمكن من استعمال الماء
عقلا أو شرعا.
فالنتيجة، أن الآية تشمل الاضطرار الناشئ من سوء اختيار المكلف ولا
تختص بالاضطرار الجائي بغير اختياره.
وأما روايات البدلية، فالظاهر أن ها تشمل العجز الناشئ من سوء
الاختيار، فإنها تدل على أن التراب بدل عن الماء بالمطابقة وأن هذه البدلية
طولية بالالتزام، وعليه فإذا كان المكلف عاجزا عن استعمال الماء انتقلت وظيفته
إلى بدله وهو التراب، ولا فرق بين أن يكون العجز عن الماء بالقهر أو بالاختيار،
ولا مجال لدعوى انصراف العجز فيها إلى العجز بغير الاختيار، لفرض أنه لم
يؤخذ في لسان هذه الروايات لكي يدعي انصرافه عن ذلك، بل هو قيد يستفاد
منها بالالتزام عقلا، وعلى هذا فمقتضى اطلاق هذه الروايات عدم الفرق بين أن
يكون العجز عن الماء بسوء الاختيار أو بغيره هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أنه لو كان لدليل الأوامر الاضطرارية إطلاق بالنسبة إلى
العذر غير المستوعب لتمام الوقت وتشمله باطلاقها، فعلى هذا لا فرق بين العذر
المذكور بسوء اختيار المكلف أو بغير سوء اختياره، إذ على كلا التقديرين إن كان
ملاك الوظيفة الاضطرارية وافيا بتمام ملاك الوظيفة الاختيارية أو أن المقدار
412

المتبقي غير الزامي، فلا شبهة في الاجزاء، حيث إن الواجب حينئذ هو الجامع بين
الوظيفة الاختيارية والوظيفة الاضطرارية، وأما إذا كان المقدار المتبقي الزاميا
قابلا للاستيفاء، فالواجب هو الجامع بين عملين الاضطراري في أول الوقت
والاختياري في آخر الوقت، وبين الاقتصار على عمل واحد وهو الاختياري في
آخر الوقت، ولا مانع من ذلك كما تقدم، وأما إذا لم يكن قابلا للاستيفاء فلا يجوز
للمكلف إيقاع نفسه في الاضطرار، لأنه يوجب تفويت الملاك الملزم وهو قبيح،
وأما لو أوقع نفسه فيه بسوء اختياره وأتى بالصلاة الاضطرارية في أول الوقت،
فصلاته وإن كانت صحيحة إلا أنه أثم على تفويت المقدار المتبقي من الملاك الملزم
في نفسه، ومن هنا يظهر أنه لا يجوز البدار في هذا الفرض تكليفا، وأما وضعا
فهو جائز كما تقدم تفصيله.
وأما إذا لم يكن لدليل تلك الأوامر اطلاق بالنسبة إلى العذر غير المستوعب،
بأن يكون مختصا بالعذر المستوعب لتمام الوقت، فأيضا لافرق بين أن يكون
العذر قهريا أو بسوء الاختيار، فإنه على كلا التقديرين يكون موضوعا
للأمر الاضطراري.
وأما التعليق الثاني من الالتزام بأن الاضطرار إذا كان بسوء الاختيار لم يكن
مشمولا لاطلاق أدلة الأوامر الاضطرارية، فلا يمكن المساعدة على ما أفاده (قدس سره)
من أن الثمرة لا تظهر بين القولين في باب الصلاة فإنه على كلا القولين فيه لابد من
الاتيان بها مع الطهارة الترابية، وذلك لأن تعذر استعمال الماء بسوء الاختيار إذا
كان غير مشمول للآية الشريفة والروايات، فلا دليل على وجوب التيمم حينئذ
والصلاة معه، بل إنه فاقد الطهورين، لأن الطهارة المائية متعذرة عليه إما عقلا أو
شرعا، وأما الطهارة الترابية فلا يكون مأمورا بها، باعتبار أن عدم قدرته على
413

الطهارة المائية حيث إنه كان بسوء اختياره، فلا يكون مشمولا لأدلة البدلية
كالآية الشريفة والروايات حتى يكون مأمورا بالطهارة الترابية والصلاة معها،
وأما حديث لا تدع الصلاة بحال (1) فهو لا يثبت موضوعه وهو الصلاة، فلابد
من فرض تمكن المكلف منها في المرتبة السابقة حتى يدل الحديث على أنها لا
تسقط عنه، والمفروض أنه غير متمكن منها في المقام، أما الصلاة مع الطهارة
المائية فهو غير قادرة عليها، وأما الطهارة الترابية فغير مشروعة في حقه حتى
يكون قادرا على الصلاة معها، فإذن يكون فاقدا الطهورين فلا يكون مشمولا
للحديث حتى يدل على أن الصلاة لا تسقط عنه، وعلى الجملة فالحديث
الشريف يدل على أن الصلاة لا تسقط بسقوط جزء أو شرط منها طالما لم يكن
الجزء أو الشرط من مقوماتها، وأما إذا كان من مقوماتها فهي تسقط بسقوطه لا
محالة، وحينئذ فلا صلاة لكي يكون مشمولا للحديث ويدل على عدم سقوطها،
وحيث إن الطهور من مقوماتها، فمن لم يتمكن منه فلا صلاة له لكي يدل الحديث
على أنها لا تسقط عنه، فموضوع الحديث من يتمكن من الصلاة في المرتبة
السابقة ولو بأدنى مرتبتها، فإنه مأمور بالاتيان بها وعدم جواز تركها وأنها لا
تسقط عنه، وأما من لم يتمكن منها كفاقد الطهورين فهو خارج عن موضوع
الحديث، فلا يكون مشمولا له.
وأما نفس الحديث فهي لا تدل على مشروعية التيمم، وذلك لأن دلالة
الحديث على عدم سقوط الصلاة بحال تتوقف على تمكن المكلف من الصلاة في
المرتبة السابقة، فلو توقف تمكنه منها على دلالته عليه لدار، فما ذكره السيد
الأستاذ (قدس سره) في المقام غير تام كالآية الشريفة أو الروايات ونحوها، إلى هنا قد

(1) الوسائل 2: 373، باب 1 من أبواب الاستحاضة، ح 5. وفيه: (لا تدع الصلاة على حال).
414

تبين أن اطلاقات أدلة الأوامر الاضطرارية كالآية الشريفة والروايات ونحوها
لا تشمل الاضطرار غير المستوعب لتمام الوقت، وعلى هذا فلو صلى المكلف في
أول الوقت مع الطهارة الترابية ثم ارتفع العذر في آخر الوقت وتمكن من الطهارة
المائية، وجبت عليه إعادة الصلاة مع الطهارة المائية، فيكون مقتضى القاعدة فيه
عدم الاجزاء. وأما إذا كان العذر مستوعبا لتمام الوقت، فقد تقدم أن مقتضى
اطلاق أدلتها الاجزاء، هذا تمام الكلام في مقتضى الأصل اللفظي.
وأما الكلام في مقتضى الأصل العملي فيما إذا شك في أن الاتيان بالمأمور به
بالأمر الاضطراري في أول الوقت، هل يجزي عن الاتيان بالمأمور به بالأمر
الواقعي في آخر الوقت أو لا؟ فيه وجهان:
فذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) إلى أن مقتضاه الاجزاء، وذلك لأصالة
البراءة عن وجوب الإعادة عند الشك فيه (1)، وفي مقابل ذلك قول بعدم
الاجزاء، وذلك لأصالة الاشتغال فيه، بدعوى أن المكلف يعلم بأن ذمته
مشغولة بالصلاة مع الطهارة المائية الجامعة بين فردها المقدور وهو فردها في آخر
الوقت وغير المقدور وهو فردها في أول الوقت، ولا مانع من وجوب الجامع بين
المقدور وغير المقدور، لأنه مقدور، ويشك في سقوطها عن ذمته بالصلاة مع
الطهارة الترابية في أول الوقت وهو مورد لقاعدة الاشتغال دون البراءة، لأن
الشك في السقوط لا في الثبوت.
ولكن هذا القول خارج عن محل الكلام، لأن محل الكلام إنما هو في إجزاء
الاتيان بالصلاة مع الطهارة الترابية المأمور بها بالأمر الاضطراري في أول الوقت

(1) كفاية الأصول: 85.
415

عن الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت، فلنا دعويان:
الأولى: أن القول المذكور خارج عن محل الكلام.
الثانية: أن محل الكلام إنما هو في إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر
الاضطراري عن المأمور به بالأمر الواقعي.
أما الدعوى الأولى، فلأن الأمر الاضطراري إذا كان ثبوته مشكوكا فيه فلا
معنى للبحث عن أنه يجزي أو لا، فإذا لم تثبت مشروعية التيمم لفاقد الماء في
جزء من الوقت وكان يشك في مشروعيته، فكيف يمكن القول بأن الصلاة معه في
أول الوقت مجزية عن الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت.
وأما الدعوى الثانية، فلوضوح أن محل الكلام إنما هو في إجزاء الاتيان
بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر الواقعي، فإذا ثبتت
مشروعية الطهارة الترابية لفاقد الماء في جزء من الوقت مع كونه واجدا له في
جزء آخر منه، فعندئذ يشك في أن الصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت هل
تجزي عن الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت أو لا، ومنشأ هذا الشك،
الشك في أن ملاك الصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت يفي بتمام ملاك الصلاة
مع الطهارة المائية في آخر الوقت أو بمقدار منه، والمقدار المتبقي منه لا يخلو إما أنه
غير لزومي أو إنه لزومي، وعلى الثاني فإما أنه قابل للاستيفاء أو غير قابل له
فهنا وجوه:
فعلى الوجه الأول والثاني، فالصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت بديلة
وعديلة للصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت ولا شبهة في إجزائها عنها ولا
موضوع للإعادة، لأن التخيير بينهما حينئذ من التخيير بين المتباينين فيكفي
الاتيان بإحداهما في مقام الامتثال، لأن الواجب حينئذ هو الجامع بينهما طولا،
416

وأما على الوجه الثالث فلا تجزي، لأن الواجب على هذا الفرض يدور بين الأقل
والأكثر، لأن الصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت وحده لا تجزي بدون
ضميمة الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت، فإذن يكون المكلف فيه مخيرا
بين الاتيان بهما معا في طول الوقت وبين الاتيان بالصلاة مع الطهارة المائية في
آخر الوقت فحسب، لأنها تفي بتمام الملاك إذا لم تسبقها الصلاة مع الطهارة الترابية
في أول الوقت، وعليه فوجوب البدل منضما إلى المبدل تخييرا معلوم، ووجوب
المبدل إذا لم يسبقه البدل تخييرا أيضا معلوم، وأما وجوب المبدل تعيينا بوجوب
آخر فهو غير معلوم، فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه، لأنه من الشك
في التكليف الزائد ولا ربط له بمسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير، نعم على
القول بأن مثل هذا التخيير غير معقول، بدعوى أن الأمر بالبدل منضما إلى
المبدل لغو وجزاف بعد كفاية المبدل وحده، فعندئذ يكون المبدل واجبا تعيينيا.
ولكن قد تقدم أنه لا مانع من هذا التخيير، ولا يقاس هذا بالتخيير بين الأقل
والأكثر الاستقلاليين.
وأما على الوجه الرابع، فلا يجوز البدار إلى الصلاة مع الطهارة الترابية في أول
الوقت تكليفا، لأنه يوجب تفويت الملاك الملزم بلا مبرر، وأما وضعا فالاتيان
بها مجزئ، هذا كله بحسب مقام الثبوت، وأما في مقام الاثبات فإذا لم يكن دليل
لفظي لاثبات الوجه الأول أو الثاني فيصل الدور إلى الأصل العملي، وحيث لا
نعلم أن الأمر بالصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت هل هو على النحو الأول
أو الثاني أو الثالث أو الرابع ثبوتا، فيكون ذلك منشأ للشك في إجزاء الصلاة مع
الطهارة الترابية في أول الوقت وحدها عن الصلاة مع الطهارة المائية في آخر
الوقت، ومرجع هذا الشك إلى الشك في وجوب إعادتها مع الطهارة المائية وعدم
417

وجوبها، ولا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوبها، فالنتيجة
الاجزاء. ولكن مع هذا فقد اعترض المحقق العراقي (قدس سره) على أصالة البراءة في
المسألة، بدعوى أن الأصل فيها أصالة الاشتغال دون البراءة، وقد استدل على
ذلك بوجهين:
الأول: أن الشك في وجوب إعادة الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت
ناشئ من الشك في أن المتبقي من الملاك بعد الاتيان بالصلاة مع الطهارة الترابية
في أول الوقت قابل للاستيفاء أو لا. وهذا من الشك في القدرة وهو مورد لقاعدة
الاشتغال.
الثاني: أن المقام داخل في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير، فإن
الصلاة مع الطهارة الترابية إن كانت مجزية عن الصلاة مع الطهارة المائية في آخر
الوقت، فالواجب هو الجامع بينهما، ويكون المكلف مخيرا بين الاتيان بالأولى أو
الثانية، وإن لم تكن مجزية، فالواجب خصوص الصلاة مع الطهارة المائية تعيينيا،
فإذا كان الأمر دائرا بين التعيين والتخيير، فالأصل في هذه المسألة التعيين
والاحتياط دون البراءة (1)، ولكن كلا الوجهين غير تام.
أما الوجه الأول، فيرد عليه أنه لا فرق في جريان أصالة البراءة في موارد
الشك في التكليف بين أن يكون منشأه الشك في القدرة أو الشك من جهة أخرى،
فإنه على كلا التقديرين لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة لاطلاق أدلتها،
فإذا شك في وجوب الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت بعد الاتيان بالصلاة
مع الطهارة الترابية في أول الوقت، فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه إن
كان منشأه الشك في القدرة على استيفاء الملاك المتبقي منها.

(1) نهاية الأفكار 1: 230.
418

وبكلمة، أن الشك في القدرة يتصور على نحوين:
الأول: أن يكون الشك فيها في موارد يكون أصل ثبوت التكليف في تلك
الموارد مشكوكا فيه كما في المقام، فإن المكلف لا يعلم بوجوب الصلاة مع الطهارة
المائية على تقدير الاتيان بالصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت ولا يعلم
بدخولها في الذمة من الأول.
الثاني: أن يكون الشك في القدرة على امتثال ما تنجز من التكليف ودخل في
العهدة، ومورد الشك في القدرة الذي هو مجرى الاحتياط عقلا، الثاني دون
الأول، إذ لا موجب لكونه موردا لأصالة الاحتياط بعد ما كان الشك في أصل
ثبوت التكليف، فإن المكلف إذا ترك الصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت
فقد علم بوجوب الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت، وأما على تقدير
الاتيان بها فوجوبها مشكوك فيه، وهذا من الشك في أصل ثبوت التكليف وهو
مورد لأصالة البراءة دون أصالة الاحتياط، وإن كان منشأه الشك في القدرة، إذ
لا فرق بين أن يكون منشأ الشك في أصل ثبوت التكليف الشك في القدرة أو من
جهة أخرى، طالما لا يرجع إلى الشك في القدرة على امتثال ما ثبت وتنجز من
التكليف، فإذا رجع إليه فهو مورد لأصالة الاحتياط، باعتبار أنه من موارد
الشك في السقوط بعد الثبوت، ولا فرق فيه بين أن يكون منشأه الشك في القدرة
أو من جهة أخرى، وأما إذا لم يرجع إليه فهو من موارد أصالة البراءة، فما هو
المشهور من أن موارد الشك في القدرة من موارد أصالة الاحتياط مطلقا
غير تام.
وأما الوجه الثاني، فالأمر في المسألة لا يدور بين التعيين والتخيير، فإن
دورانه بينهما مبني على أن الأمر إما أن يكون متعلقا بالجامع بين العمل
419

الاضطراري والعمل الاختياري أو بخصوص العمل الاختياري فقط، وهذا
الاحتمال غير محتمل في جميع فروض المسألة، أما على الفرض الأول والثاني،
فالأمر متعلق بالجامع بينهما جزما ويكون التخيير بينهما من التخيير بين
المتباينين، إذ على ضوئهما يكون المكلف مخيرا بين الصلاة مع الطهارة الترابية في
أول الوقت والصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت، وأما على الفرض الثالث،
فالأمر متعلق بالجامع بين الأقل والأكثر، بمعنى أن المكلف مخير بين الانتظار
والاتيان بصلاة واحدة وهي الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت وبين جواز
البدار والاتيان بصلاتين الصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت والصلاة مع
الطهارة المائية في آخر الوقت، ولا يدور الأمر في المسألة بين التعيين والتخيير،
وأما احتمال وجوب الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت تعيينا لا تخييرا ولا
منضما وإن كان محتملا، إلا أنه من الشك في التكليف الزائد والمرجع فيه أصالة
البراءة، ولا يرتبط بمسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير، هذا بناء على
امكان هذا التخيير كما هو الصحيح، وأما بناء على القول باستحالته فالأمر أيضا
كذلك، لأن وجوب الصلاة مع الطهارة المائية في آخر الوقت حينئذ يكون معينا،
فلا يدور أمره بين التعيين والتخيير.
وأما على الفرض الرابع، فلا يجوز البدار تكليفا ولكنه جائز وضعا، بمعنى أن
المكلف إذا أتى بالصلاة مع الطهارة الترابية في أول الوقت فصلاته صحيحة،
ولكنه آثم من جهة أنه قد فوت على نفسه الملاك الملزم وهو المقدار المتبقي، فلهذا
لا يجوز له البدار تكليفا، وفي هذا الفرض لا شك في المسألة لكي يدور الأمر بين
التعيين والتخيير، لأن وظيفة المكلف فيها معلومة وهي الصلاة مع الطهارة المائية
في آخر الوقت.
420

فالنتيجة، أن ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره) من أن الأمر في المسألة يدور بين
التعيين والتخيير، لا يتم على جميع فروض المسألة واحتمالاتها، هذا إضافة إلى أن
المرجع في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الجعل أصالة البراءة
لا أصالة الاشتغال إلا في مسألتين:
الأولى: في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في حجية شيء.
الثانية: في دوران الأمر بينهما في مقام الامتثال، وحيث أن المقام داخل في
المسألة الأولى دون الثانية والثالثة، فالمرجع فيها أصالة البراءة عن التعيين.
هذا تمام الكلام في إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي.
نتائج هذا البحث عدة نقاط:
الأولى: أن مقتضى القاعدة الأولية عدم الاجزاء، فإن سقوط الواجب عن
المكلف وحصول الغرض منه بالاتيان بغير الواجب بحاجة إلى دليل وإلا فمقتضى
اطلاق دليله عدم السقوط إذا كان له اطلاق، وإلا فهو مقتضى الأصل العملي
أيضا، لأن الشك إنما هو في سقوط الواجب بغيره، وهذا من موارد أصالة
الاشتغال تطبيقا لقاعدة أن الشغل اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.
الثانية: أن الدليل قد دل على الخروج عن مقتضى هذه القاعدة في موارد
اضطرار المكلف إلى الاتيان بغير المأمور به بالأمر الواقعي الأولي، كما إذا اضطر
إلى الصلاة مع الطهارة الترابية، من جهة أنه فاقد للماء أو غير متمكن من
استعمالها، وإلى الصلاة عن جلوس من جهة عدم قدرته على القيام أو أنه حرجي
عليه وهكذا، ففي مثل ذلك حيث إن الأمر بالصلاة مع الطهارة الترابية أو مع
الجلوس لا يمكن أن يكون جزافا، فلا محالة يكشف عن وجود ملاك فيها يفي
421

بغرض المولى في الواقع.
الثالثة: أن الاضطرار الطارئ على المكلف تارة يكون مستوعبا لتمام الوقت
وأخرى يكون في جزء من الوقت دون جزء آخر، أما الكلام في الأول، فتارة
يقع في مقام الثبوت وأخرى في مقام الاثبات، أما في مقام الثبوت فالملاك الذي
يدعو المولى إلى الأمر الاضطراري يتصور على وجوه تقدم الكلام فيها موسعا،
وأما في مقام الاثبات فمقتضى اطلاق دليل الأمر الاضطراري الاجزاء وعدم
وجوب القضاء في خارج الوقت.
الرابعة: أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن عدم الاجزاء في هذه المسألة
وهي ما إذا كان الاضطرار مستوعبا لتمام الوقت غير معقول، بدعوى أن القيد
المتعذر لا يخلو من أن يكون دخيلا في الملاك مطلقا حتى في حال تعذره، أو لا
يكون دخيلا فيه إلا في حال التمكن، فعلى الأول لا أمر بالفاقد وعلى الثاني
فالملاك فيه تام، لفرض أن القيد المتعذر غير دخيل فيه، فإذا كان ملاكه تاما فلا
موضوع للقضاء في خارج الوقت، لأن موضوعه الفوت ولم يفت من المكلف
شيء، غير تام، لأن الصلاة ذات مراتب متفاوتة، فلكل مرتبة منها ملاك دون
ملاك المرتبة الأولى، مثلا المصلحة المترتبة على الصلاة مع الطهارة الترابية دون
المصلحة المترتبة على الصلاة مع الطهارة المائية، وعلى هذا فإذا كان المقدار المتبقي
منها لزوميا، فلا مانع من الجمع بين الأداء بالوظيفة الاضطرارية كالصلاة مع
الطهارة الترابية في الوقت والقضاء بالوظيفة الاختيارية كالصلاة مع الطهارة
المائية في خارج الوقت لادراك تمام المصلحة على تفصيل تقدم.
الخامسة: أن الاضطرار إذا لم يكن مستوعبا لتمام الوقت، ففي مثل ذلك يمكن
تصوير المأمور به بالأمر الاضطراري ثبوتا على أحد الأنحاء الأربعة التالية:
422

الأول: أن يكون مشتملا على ملاك يفي بتمام ملاك الواقع.
الثاني: بجزء منه والجزء المتبقي غير لزومي.
الثالث: أنه لزومي قابل للاستيفاء.
الرابع: أنه غير قابل له.
فعلى الأول والثاني يكون الاجزاء على القاعدة، وعلى الثالث فمقتضى
القاعدة عدم الاجزاء، لأن الواجب حينئذ هو الجامع بين الأقل والأكثر، بمعنى
أن المكلف مخير بين الاتيان بعملين في طول الوقت هما الاضطراري والاختياري
وبين الاقتصار بعمل واحد وهو الاختياري في آخر الوقت. وعلى الرابع الاجزاء
وصفا لا تكليفا وقد تقدم كل ذلك موسعا.
السادسة: أن ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من جواز التمسك باطلاق آية
التيمم وروايات البدلية لاثبات الاجزاء في المسألة وعدم وجوب الإعادة غير
تام، أما أولا: فلأنه لا إطلاق لأدلة البدلية من الآية الشريفة والروايات من هذه
الناحية حتى يمكن التمسك باطلاقها كما مرت الإشارة إليه.
وثانيا: أن الواجب هو طبيعة الصلاة مع الطهارة المائية الجامعة بين مبدأ
الوقت ومنتهاه، فطالما يكون المكلف متمكنا من الاتيان بها في ضمن أحد
أفرادها الطولية، فلا تصل النوبة إلى الصلاة مع الطهارة الترابية لأنها وظيفة
العاجز عن الأولى.
السابعة: أن لو كان لدليل الأوامر الاضطرارية اطلاق فرضا، فلا مانع من
التمسك باطلاقها، لأن مقتضاه أن الاضطرار غير المستوعب كالاضطرار
المستوعب موضوع للأمر الاضطراري فلا فرق بينهما من هذه الناحية، ودعوى
423

أنه لا يمكن الأخذ بهذا الاطلاق، مدفوعة كما تقدم.
الثامنة: أن ما قيل من أن اطلاق دليل الأوامر الاضطرارية في المسألة
معارض باطلاق دليل الأوامر الاختيارية مما لا أصل له، لأن اطلاق الدليل
الأول بما أنه متكفل للحكم بعنوان ثانوي يتقدم على اطلاق الدليل الثاني
المتكفل للحكم بعنوان أولي من باب الحكومة كما سبق تفصيله.
التاسعة: أن مقتضى القاعدة عدم الاجزاء بناء على ما هو الصحيح، من أنه لا
إطلاق لأدلة الأوامر الاضطرارية إذا لم يكن العذر مستوعبا لتمام الوقت، ولكن
مع ذلك ذهب جماعة إلى الاجزاء في المسألة كالمحقق العراقي والمحقق النائيني
والمحقق الأصبهاني (قدس سرهم)، أما المحقق العراقي (قدس سره) فقد استدل على ذلك بوجوه، ولكن
تقدم عدم تمامية شيء من تلك الوجوه، وأما المحقق النائيني (قدس سره) فقد اختار
الاجزاء في صورة خاصة من المسألة وهي ما إذا كان المكلف مأيوسا عن ارتفاع
العذر في الوقت أو ظانا بعدم ارتفاعه، ولكن قد سبق عدم تمامية ذلك أيضا،
وأنه لا فرق بين هذه الصورة وصورة العلم بارتفاع العذر في آخر الوقت، فإن
مقتضى القاعدة في كلتا الصورتين عدم الاجزاء، وأما المحقق الأصبهاني (قدس سره) فقد
اختار في المسألة الاجزاء، وأفاد في وجه ذلك كلاما طويلا أشرنا إليه وما فيه
من الاشكال.
العاشرة: لا شبهة في إجزاء وضوء الجبيرة عن الوضوء التام لكن لا مطلقا،
بل فيما إذا كان العذر مستوعبا لتمام الوقت وإلا فلا يجزي، وكذا غسل الجبيرة،
ومن هذا القبيل وضوء المسلوس والمبطون.
الحادية عشر: أن الاضطرار إلى ترك جزء أو شرط إذا كان من جهة التقية،
فالروايات العامة الواردة بلسان أن التقية ديني ودين آبائي ونحوه لا تدل على
424

الاجزاء، لأنها لا تكشف عن وجود مصلحة ملزمة في الفعل المتقي به لكي يكون
الأمر بالتقية أمرا بذلك الفعل حقيقة، بل الظاهر منها أن التقية إنما هي من جهة
مصلحة مترتبة عليها وهي حقن الدماء والاعراض والأموال، فالاتيان بالفعل
المتقي به إنما هو من أجل ذلك لا لمصلحة في نفسه.
الثانية عشر: أن المستفاد من مجموعة من الروايات هو أن الصلاة معهم
وخلف إمامهم صحيحة شريطة أن يقرء القراءة بنفسه ولا يعول على قراءة
إمامهم وإن كانت الصلاة مع التكتف أو بدون ما يصح السجود عليه، بل وإن لم
تكن هناك تقية واضطرار أصلا، فإنه يجوز له الدخول معهم في صلاتهم جماعة
اختيارا، بل هو أفضل من صلاته فرادى.
الثالثة عشر: أن الوضوء مع غسل رجلين بدل مسحها تقية صحيح كما
تقدم تفصيله.
الرابعة عشر: الأظهر أن الاضطرار إذا كان بسوء الاختيار فهو مشمول
لاطلاق أدلة الأوامر الاضطرارية خلافا للسيد الأستاذ (قدس سره).
الخامسة عشر: أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن الثمرة لا تظهر بين القولين
في باب الصلاة، فإن المكلف إذا أوقع نفسه بسوء اختياره في الاضطرار إلى
الطهارة الترابية وجب عليه الاتيان بها والصلاة معها، هذا لا من جهة أنها
مشمولة لاطلاق أدلة الاضطرار كالآية الشريفة والروايات، بل من جهة أن
الصلاة لا تسقط بحال لا يتم، لأن الطهارة الترابية إذا لم تكن مشمولة للآية
الشريفة ونحوها، فلا يمكن اثبات مشروعيتها بقوله (عليه السلام): " لا تدع
الصلاة بحال ".
السادسة عشر: إذا لم يكن أصل لفظي في المسألة فالمرجع فيها الأصل العملي
425

وهو أصالة البراءة في المقام عن وجوب الإعادة، واعتراض المحقق العراقي (قدس سره)
عليها بأن المرجع فيها أصالة الاشتغال دون البراءة في غير محله على
تفصيل تقدم.
426

إجزاء الأمر الظاهري عن الواقع
وأما الكلام في المرحلة الثالثة وهي أن الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري،
هل يجزي عن الاتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي أو لا:
فيقع في مقامات ثلاثة:
المقام الأول: في بيان حجية الامارات ومدى تأثيرها في المسألة.
المقام الثاني: في بيان حجية الأصول العملية وما هو مقدار تأثيرها
في الواقع.
المقام الثالث: في بيان الأقوال في المسألة.
أما الكلام في المقام الأول ففيه تفسيران للحجية:
أحدهما الطريقية والكاشفية للامارات بدون أن تكون دخيلة في الواقع
أصلا، وثانيهما السببية والموضوعية للامارات التي لها تأثير في الواقع. وأما
التفسير الأول ففيه أقوال:
القول الأول: أنه لا جعل ولا مجعول في باب الامارات أصلا، وإنما هو إمضاء
وتقرير من الشارع لما بنى عليه العقلاء من العمل باخبار الثقة، على أساس ما
فيها من النكتة المبررة لذلك البناء وهو أقربيتها إلى الواقع من غيرها، وهذا
القول هو الصحيح على تفصيل يأتي في محله إنشاء الله تعالى.
القول الثاني: ما ذهبت إليه مدرسة المحقق النائيني (قدس سره) من أن المجعول في هذا
الباب إنما هو الطريقية والعلم التعبدي فحالها حال العلم الوجداني من هذه
427

الناحية، فإن كانت مطابقة للواقع فقد أدرك الواقع بما له من الملاك، وإلا فقد
فات الواقع عنه كذلك (1).
القول الثالث: أن المجعول في باب الامارات الحكم الظاهري المماثل للحكم
الواقعي في صورة مطابقتها للواقع والمخالف في صورة عدم مطابقتها له، وهذا
الحكم الظاهري المجعول حكم طريقي لا شأن له غير تنجيز الواقع عند الإصابة
والتعذير عند الخطأ.
القول الرابع: أن المجعول في هذا الباب هو المنجزية والمعذرية، وقد اختار
هذا القول المحقق الخراساني (قدس سره) (2).
ثم إن هذه الأقوال في المسألة تشترك في نقطة وهي أن مقتضى القاعدة على
ضوء جميع هذه الأقوال عدم إجزاء الاتيان بمؤدي الامارة عن الواقع، باعتبار أن
مؤداها على جميع الأقوال المذكورة لا يكون مشتملا على مصلحة تفي بمصلحة
الواقع حتى يكون مجزيا.
وأما التفسير الثاني ففيه أيضا أقوال:
القول الأول: السببية المنسوبة إلى الأشاعرة، وهي أنه لا واقع قبل قيام
الامارة على شيء، فالامارة هي التي تحدث مصلحة فيه وتجعله الواقع بدون أن
يكون هناك واقع مجعول من قبل الله تعالى في المرتبة السابقة، والسببية بهذا
المعنى مضافا إلى أنها غير معقولة ومخالفة للكتاب والسنة وضرورة من الشرع،
أنه لا معنى حينئذ للبحث عن إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي ولا

(1) أجود التقريرات 1: 292.
(2) كفاية الأصول: 347 و 469.
428

موضوع له، إذ لا أمر على ذلك إلا للمؤدي، ومن الواضح أن هذا البحث يتطلب
تعدد الأمر ولا يعقل في أمر واحد، نعم أن البحث عن ذلك على هذا القول يندرج
في صغريات البحث عن المرحلة الأولى، وهي أن الاتيان بالمأمور به بالأمر
الواقعي يجزي أداء وقضاء، وقد تقدم أن الاجزاء بهذا المعنى ضروري وإلا فلا
يمكن الامتثال أصلا (1).
القول الثاني: السببية المنسوبة إلى المعتزلة، وهي أن معنى حجية الامارات
أنها توجب انقلاب الواقع وارتفاعه في صورة المخالفة وانحصاره بالمؤدي، على
أساس أنه مغي بعدم قيام الامارة على خلافه.
وبذلك تمتاز سببية المعتزلة عن سببية الأشاعرة، فإن الامارات على ضوء
سببية الأشاعرة تحدث بالواقع ابتداء، حيث إنه لا حكم مجعول من قبل الشارع
في المرتبة السابقة إنما يجعل الحكم، الحكم تبعا لقيام الامارة وفي المرتبة المتأخرة،
ولهذا لا تتصور فيها المخالفة حينئذ تارة والمطابقة تارة أخرى، وأما على ضوء
سببية المعتزلة فالأحكام الواقعية وإن كانت مجعولة من قبل الشارع وثابتة في
المرتبة السابقة إلا أنها مغياة بعدم قيام الامارة على خلافها، فإذا قامت على
خلافها ارتفعت بارتفاع غايتها، نعم في صورة مطابقتها لها صارت نفس تلك
الأحكام فعلية ومنجزة، فالحكم الواقعي ما أدت إليه الامارة كانت مطابقة
للواقع أم لا، ولكن على هذا القول أيضا لا مجال لهذا البحث، إذ ليس في موارد
الامارات أمران ظاهري وواقعي حتى يقع البحث عن أن الامتثال الأول هل
يجزي عن امتثال الثاني أو لا، بل أمر واقعي واحد وهو الأمر بالمؤدي، فيكون
المقام من صغريات البحث عن المرحلة الأولى لا هذه المرحلة.

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 266.
429

القول الثالث: ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره) من السببية بمعنى المصلحة
السلوكية ونقصد بها كون المصلحة في نفس سلوك الامارة وتطبيق العمل
عليها (1)، ولهذا تختلف هذه المصلحة باختلاف السلوك سعة وضيقا، فإن كان
سلوكها في أول الوقت، فمصلحته تفي بمصلحة أول الوقت فحسب، وإن كان
سلوكها في تمام الوقت فمصلحته تفي بمصلحة تمام الوقت، ولهذا تجب الإعادة في
الأول لاستيفاء مصلحة أصل الوقت بعد استيفاء مصلحة الوقت المفضل، ويجب
القضاء في الثاني، لأن المصلحة السلوكية إنما تفي بمصلحة الوقت فقط، وأما
مصلحة أصل الصلاة فهي باقية فلابد من استيفائها بالقضاء إذا كان القضاء
بالأمر الأول، نعم إذا كان بأمر جديد لم يجب القضاء، لأن موضوعه فوت
الفريضة والمفروض عدم فوتها كما عن السيد الأستاذ (قدس سره) (2) هذا، وقد علق عليه
بعض المحققين (قدس سره) بأن الالتزام بالمصلحة السلوكية إنما هو على أثر برهان قبح
التفويت بمقدار لولاها لزم تفويت مصلحة الواقع بلا تدارك أصلا وهو قبيح،
وهذا البرهان لا يقتضي أكثر من وجود مصلحة سلوكية بمقدار مصلحة الوقت
التي لا يمكن تداركها أصلا، وأما مصلحة أصل الفعل الذي يمكن تداركه بالقضاء
كما هو ظاهر دليل القضاء، فلا يمكن أن يستفاد من دليل الحكم الظاهري
تداركها، لأن مدرك هذا التقييد هو الضرورة والبرهان، والضرورات تتقدر
بقدرها لا أكثر، فإذن يجب القضاء كما هو مقتضى ظاهر دليله (3).
وللنظر في هذا التعليق مجال، فإن الالتزام بوجود مصلحة سلوكية في باب
الامارات إنما هو على أساس حكم العقل بقبح تفويت ملاك الواقع، باعتبار أن

(1) فرائد الأصول: 27.
(2) محاضرات في أصول الفقه 2: 274 - 276.
(3) لاحظ بحوث في علم الأصول 2: 164.
430

حجية الامارات من باب الطريقية تستلزم ذلك، فمن أجل دفع هذا القبح لابد
من الالتزام بالمصلحة السلوكية فيها لكي يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة،
وعلى هذا فإن كان سلوك الامارة في الوقت المفضل فحسب ثم انكشف الخلاف
وتبين أنها غير مطابقة للواقع، فلابد حينئذ أن تكون مصلحته بمقدار يتدارك به
مصلحة الصلاة في الوقت المفضل، وإن كان في تمام الوقت فلابد أن تكون
مصلحته بمقدار يتدارك به مصلحة الصلاة في تمام الوقت، فإذن لا يفوت شيء
منه في الوقت حتى يجب قضاؤها في خارج الوقت، ودعوى أن المتدارك
بالمصلحة السلوكية إنما هو مصلحة الوقت فحسب دون مصلحة أصل الصلاة،
فإنها قابلة للتدارك بالقضاء في خارج الوقت ومصلحة الوقت غير قابلة له فيه،
مدفوعة بأنها مبنية على نقطة خاطئة وهي أن تكون هناك مصلحتان مستقلتان،
إحداهما مصلحة الصلاة، والأخرى مصلحة الوقت، والمتدارك بالمصلحة
السلوكية مصلحة الوقت دون مصلحة الصلاة، وأما خطأ هذه النقطة، فلأنه لا
شبهة في أن هنا مصلحة واحدة قائمة بحصة خاصة من الصلاة وهي الصلاة
المقيدة بالوقت المحدد، والوقت دخيل في اتصاف الصلاة بها من ناحية وترتبها
عليها خارجا من ناحية أخرى، ولا يمكن القول بأن الوقت دخيل في اتصاف
الصلاة بمقدار من المصلحة لا في أصلها، لأن ذلك القول مبني على الالتزام بتعدد
المطلوب والملاك وهو قول لا أساس له.
فالنتيجة، أن المصلحة السلوكية في تمام الوقت بما أنها تفي بتمام مصلحة الصلاة
في الوقت. فلا موضوع للقضاء، لوضوح أنه لا مصلحة للصلاة في خارج الوقت
إلا في عرض فوتها في الوقت.
وبكلمة، أن الالتزام بالمصلحة السلوكية في باب الامارات إنما هو على
431

أساس تدارك ما فات عن المكلف من مصلحة الواقع، فإن كان سلوك الامارة في
الوقت المفضل فحسب، فمصلحته تفي بمصلحة الصلاة في الوقت المفضل، وإن
كان سلوكها في تمام الوقت فمصلحته تفي بمصلحة الصلاة في تمام الوقت، فلا يجب
القضاء، لأنه تابع لتحقق موضوعه وهو فوت الفريضة في الوقت، فإنه يوجب
اتصاف الصلاة بالملاك في خارج الوقت وإلا فلا ملاك لها، والمفروض عدم تحقق
فوتها فيه.
ومن هنا يظهر أن هذا القول لا يقتضي الاجزاء بالنسبة إلى الإعادة في الوقت،
فإذا انكشف خلاف الامارة في الوقت وتبين عدم مطابقتها للواقع وجبت
الإعادة، على أساس أن المتدارك بمصلحة السلوك إنما هو مصلحة الصلاة في
الوقت المفضل لا في تمام الوقت، وأما بالنسبة إلى وجوب القضاء فيقتضي
الاجزاء، باعتبار أن سلوك الامارة إذا كان في تمام الوقت، فالمتدارك مصلحة
الصلاة كذلك، فإذن لا يفوت منه شيء في الوقت حتى يجب التضاد في
خارج الوقت.
ولكن المحقق النائيني (قدس سره) ذهب إلى أن مقتضى القاعدة فيه عدم الاجزاء مطلقا
أي في الوقت وخارجه فحاله حال القول بالطريقية، وقد أفاد في وجه ذلك أن
المصلحة السلوكية تختلف باختلاف أمد السلوك، فإن كان أمده في الوقت
المفضل فحسب فالمتدارك بمصلحته مصلحة الصلاة في هذا الوقت فقط لا في تمام
الوقت، فلهذا تجب إعادتها لاستيفاء مصلحة تمام الوقت، وإن كان أمده في تمام
الوقت فالمتدارك بها مصلحة الصلاة في الوقت فقط دون مصلحة أصل الصلاة،
فإذن لابد من الاتيان بها قضاء لاستيفاء تلك المصلحة (1).

(1) أجود التقريرات 1: 293 - 294.
432

ولكن لا يمكن المساعدة عليه، لأن ما ذكره (قدس سره) مبني على أن تكون الصلاة
مشتملة على مصلحتين مستقلتين:
إحداهما: قائمة بحصة خاصة منها وهي الصلاة في أول الوقت، والأخرى
قائمة بذات الصلاة، وحيث أن المتدارك بالمصلحة السلوكية إنما هو مصلحة
الصلاة في الوقت فتبقى مصلحة ذات الصلاة، فيجب تداركها بالقضاء، ولكن
هذا المبنى خاطئ، لأن الصلاة لا تكون مشتملة على مصلحتين مستقلتين،
الأولى مصلحة الوقت والثانية مصلحة ذات الصلاة، لوضوح أنه لا مصلحة
لذات الصلاة بما هي، فالمصلحة إنما هي لحصة خاصة منها وهي حصتها في
الوقت لا مطلقا كما مر، بل لو صح القول بتعدد المطلوب والملاك كانت مصلحة
ذات الصلاة في طول مصلحة الصلاة في الوقت، فوجوب استيفائها في خارج
الوقت منوط بعدم استيفائها في الوقت، وأما مع استيفائها فيه فلا يجب استيفائها
في الخارج، وعلى هذا فإذا كانت مصلحة الصلاة في الوقت متداركة بالمصلحة
السلوكية، فلا موجب لقضائها في خارج الوقت، لأنه منوط بعدم تداركها في
الوقت إما بنفسها أو بالمصلحة السلوكية، وأما مع التدارك فلا موضوع له، هذا
إضافة إلى أن القول بتعدد المطلوب مبني على جعل المقيد على أفضل الأفراد لا
حمل المطلق عليه، وهذا خلاف الارتكاز القطعي العرفي، فإن المرتكز لدى
العرف العام هو أن المقيد قرينة نوعية لبيان المراد من المطلق، ومن هنا يكون
حمل المطلق على المقيد من أحد موارد الجمع العرفي وخارج عن موارد التعارض
المستقر، وعلى هذا فلابد من حمل اطلاقات أدلة وجوب الصلاة في الكتاب
والسنة على ما دل على تقييد وجوبها بوقت خاص بداية ونهاية.
وهنا فروض أخرى للقول بالتسبيب:
433

الفرض الأول: الالتزام بوجود مصلحة في المؤدى، على أساس أن تفويت
مصلحة الواقع بلا مبرر قبيح، فلذلك لابد من الالتزام بوجودها فيه حتى لا
يلزم هذا المحذور.
وهذه المصلحة قد تكون مسانخة لمصلحة الواقع وقد تكون غير مسانخة لها،
وأما إذا كانت مسانخة لها، فإن كانت أقوى من مصلحة الواقع انقلب الواقع إلى
واقع ثانوي وهو مؤدي الامارة، باعتبار أن مصلحته حيث كانت أقوى من
مصلحة الواقع فهي المؤثرة دونها، لأن تأثيرها منوط بأن لا يكون لها مزاحم
أقوى، ولا زم ذلك التصويب والاجزاء، وأما التصويب فلأنه مرد ذلك إلى أن
الحكم الواقعي مشروط بعدم قيام الامارة على خلافه، فإذا قامت ارتفع بارتفاع
موضوعه، وهذا هو التصويب المنسوب إلى المعتزلة، أما الاجزاء فهو واضح
لمكان استيفاء مصلحة الواقع بمصلحة أقوى منها وهو مصلحة المؤدى، فلا مبرر
حينئذ للإعادة ولا للقضاء. وإن كانت مساوية لها، فالواجب حينئذ تخييري
وهو الجامع بين الواقع والمؤدى، ولا يمكن أن يكون تعيينيا، ضرورة أن الاتيان
بكل من المؤدى والواقع يكفي عن الآخر ملاكا وحكما ومعه لا يمكن أن يكون
كل منهما واجبا تعيينيا، ولا زم ذلك أيضا التصويب والاجزاء، أما التصويب
فلأن الواقع ينقلب عن التعيين إلى التخيير، وأما الاجزاء فلأن المكلف إذا
عمل بالامارة المخالفة فقد أتى بأحد فردي الواجب، وأما إذا كانت مصلحة
المؤدى غير مسانخة لمصلحة الواقع، فلا تستلزم التصويب ولا الاجزاء، أما
الأول فلأن استيفائها ليس استيفاء لها، فإذا عمل المكلف بالمؤدى فقد استوفى
مصلحته، وأما مصلحة الواقع فهي باقية على حالها، أو فقل إن هنا واجبين
مستقلين لا يرتبط أحدهما بالآخر لا ملاكا ولا حكما وهما المؤدى والواقع،
وعلى هذا فإذا أتى المكلف بالمؤدى لم يسقط الواقع عنه لا ملاكا ولا حكما،
434

لفرض أن ملاك المؤدى ليس من سنخ ملاكه حتى يكون استيفاؤه استيفاء له كما هو
الحال في جميع الواجبات المستقلة، فإذن يبقى الواقع كما هو، غاية الأمر أن
المكلف جاهل به، وحينئذ فإذا انكشف الخلاف في الوقت وجب الإعادة فيه،
وإذا انكشف خارج الوقت وجب القضاء فيه هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى هل يتصور ذلك في باب الصلاة، بأن لا تكون مصلحة
المؤدى فيه من سنخ مصلحة الواقع، الظاهر أنه غير متصور فيه، فإذا قامت
الامارة على عدم جزئية السورة مثلا في الصلاة وكان الواجب في الواقع هو
الصلاة مع السورة، ففي مثل ذلك لو كانت مصلحة المؤدى مباينة لمصلحة الواقع
وغير مسانخة لها، لزم تعدد الواجب حكما وملاكا وهو لا يمكن، ضرورة أن
الواجب على المكلف صلاة واحدة إما بدون السورة أو معها، فلو فرض وجود
مصلحة في الصلاة بدون السورة التي هي مؤدى الامارة، فلابد أن تكون من
سنخ مصلحة الصلاة مع السورة التي هي واجبة في الواقع حتى تستوفي بها،
فلا يمكن فرض وجود مصلحة مستقلة فيها غير مسانخة لها، وإلا لزم محذور
تعدد الواجب حكما وملاكا.
وأما في غير باب الصلاة كالصوم والحج والزكاة والخمس وغيرها، فلا مانع
من افتراض تعدد المصلحة سنخا، بأن لا تكون مصلحة مؤدى الامارة من سنخ
مصلحة الواقع، كما إذا قامت الامارة على وجوب الصلاة ركعتين مثلا عند رؤية
الهلال وكان الواجب في الواقع الدعاء، فلا مانع من أن تكون مصلحة الصلاة
التي هي مؤدى الامارة مباينة لمصلحة الدعاء بدون المضادة بينها، وعلى هذا
فالقول بالتسبيب على هذا الفرض لا يستلزم التصويب ولا الاجزاء في غير باب
الصلاة من أبواب العبادات.
435

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أن المصلحة التي كانت تحدث
في مؤدى الامارة بواسطة دليل حجيتها، فإن كانت تلك الامارة في باب الصلاة
فلا يمكن أن تكون تلك المصلحة مباينة لمصلحة الواقع وغير مسانخة لها، بل
لابد أن تكون من سنخها ذاتا وإلا لزم تعدد الواجب حكما وملاكا وهو خلاف
الضرورة في باب الصلاة، وإن كانت في سائر الأبواب غير باب الصلاة، فلا مانع
من أن تكون مصلحة المؤدى مباينة لمصلحة الواقع وغير مسانخة لها، غاية الأمر
يلزم حينئذ تعدد الواجب حكما وملاكا ولا محذور فيه في سائر الأبواب.
الفرض الثاني: الالتزام بوجود مصلحة في جعل الحكم الظاهري لا في
متعلقه من أجل رفع قبح تفويت مصلحة الواقع، بدعوى أن هذا التفويت إنما
يكون قبيحا إذا لم تكن مصلحة في نفس هذا التفويت وهو جعل الحكم الظاهري
لأن جعله، جعل التفويت، وعلى هذا الفرض لا تصويب ولا إجزاء، لفرض أن
مصلحة الواقع محفوظة وغير متداركة، ومعها يجب الاتيان به في الوقت إذا كان
انكشاف الخلاف فيه، وخارج الوقت إذا كان انكشاف الخلاف فيه.
الفرض الثالث: ما ذكره المحقق الأصبهاني (قدس سره) من أنه يمكن إفتراض وجود
مصلحة في مؤدى الامارة المخالفة للواقع، بما هو مؤدى الامارة المخالفة وهي
مصلحة في عرض مصلحة الواقع، فإنها قائمة بالمؤدى بعنوان ثانوي وهو مؤدى
الامارة المخالفة للواقع، ومصلحة الواقع قائمة به بعنوان أولى (1)، وعلى هذا فإذا
عمل المكلف بالامارة وأتى بمؤداها، حصل الغرض وسقط الأمر عن الواقع،
فإذن هذا التصوير من السببية يوجب الاجزاء ولا يوجب التصويب وتبدل الأمر
الواقعي التعييني بالواقع إلى الأمر بالجامع بينه وبين مؤدى الامارة المخالفة للواقع

(1) نهاية الدراية 1: 405.
436

بما هو مؤدى الامارة المخالفة لاستحالة ذلك.
وللمناقشة فيه مجال وذلك لأن مصلحة مؤدى الامارة المخالفة للواقع بهذا
العنوان، لا تخلو من أن تكون مباينة لمصلحة الواقع أو مسانخة لها، أما على
الأول فإن كانت بينهما مضادة، فلا يمكن الأمر بتحصيلهما معا لاستحالة الأمر
بالضدين، وعلى هذا فإذا عمل المكلف بالامارة المخالفة، فقد استوفى مصلحة
مؤداها بما هي مصلحة مؤداها، ومع استيفاءها لا يمكن استيفاء مصلحة الواقع
لمكان المضادة، فإذن لا محالة يسقط الأمر بالواقع، ولا مناص حينئذ من الالتزام
بالأجزاء دون التصويب وانقلاب الواقع، وفي هذه الصورة يستلزم القول
بالتسبيب الاجزاء ولا يستلزم التصويب، فأحدهما ينفك عن الآخر، وأما إن لم
تمكن بينهما مضادة بأن يكون بامكان المكلف تحصيلهما معا، ففي مثل ذلك لا
تصويب ولا إجزاء.
أما الأول، فلأن المصلحتين بما أنهما متباينتان ولا ترتبط إحداهما بالأخرى
فلا تستوفي مصلحة الواقع بمصلحة المؤدى حتى ينقلب، بل هي باقية على
حالها، غاية الأمر أن المكلف غير مأمور بتحصيلها من جهة عدم وصولها إليه.
وأما الثاني، فلأن مصلحة الواقع قد ظلت بحالها فلا موجب لسقوط الواقع
عن المكلف، وحينئذ فإذا انكشف الخلاف فإن كان في الوقت وجب الاتيان به
فيه لاستيفاء مصلحته، وإن كان في خارج الوقت وجب قضاؤه فيه، ولكن هنا
إنما يتصور في غير باب الصلاة من الواجبات، وأما في باب الصلاة فقد تقدم أنه
لا يمكن فرض كون مصلحة مؤدى الامارة المخالفة للواقع مباينة لمصلحة الواقع
وغير مربوطة بها، وإلا لزم تعدد الواجب واقعا ملاكا وحكما وهو كما ترى.
وأما على الثاني وهو ما إذا كانت مصلحة المؤدى من سنخ مصلحة الواقع،
437

فلابد من الالتزام بالانقلاب من التعيين إلى التخيير، حيث لا يمكن أن يكون
الأمر بكل منهما أمرا تعيينيا، لأن حدوث مصلحة في مؤدى الامارة المخالفة
المسانخة لمصلحة الواقع لا محالة يوجب انقلاب الأمر الواقعي التعييني بالواقع
إلى الأمر التخييري بالجامع بينه وبين مؤدى الامارة المخالفة بما هو المخالفة، غاية
الأمر أن المكلف مأمور بالعمل بالامارة المخالفة للواقع وتحصيل المصلحة القائمة
بمؤداها، ولا يكون مأمورا بتحصيل المصلحة القائمة بالواقع لعدم وصولها إليه
وجهله بها، فالنتيجة أن السببية في هذا الفرض تستلزم التصويب والاجزاء معا،
فما ذكره (قدس سره) من أنها تستلزم الاجزاء دون التصويب فلا يتم.
وبكلمة، أن مصلحة المؤدى بما هو مؤدى الامارة المخالفة للواقع إن كانت من
سنخ مصلحة الواقع، فمعنى ذلك أنها مصلحة بدلية عن مصلحة الواقع، فإذا
كانت كذلك فمعناها التصويب وانقلاب الواقع من الواجب التعييني إلى الواجب
التخييري، ولكن هل يمكن هذا الانقلاب، فقد ذكر (قدس سره) أنه مستحيل (1).
الظاهر أنه لم يرد بالاستحالة، استحالة تصوير الجامع بين الواقع ومؤدى
الامارة المخالفة له، فإن تصويره بمعنى مفهوم أحدهما بمكان من الامكان، بل
الظاهر أنه أراد بذلك أن الواجب لا يمكن أن يكون الجامع بينهما بأن يكون الأمر
في الواقع أمرا تخييريا لا تعيينيا، لأن تحقق أحد فردي الجامع وهو مؤدى
الامارة المخالفة للواقع يتوقف على تعلق الأمر بالواقع تعيينيا، ومن الواضح أن
الأمر المتعلق به كذلك ناشئ من وجود مصلحة في متعلقه، فلو كان الأمر
الواقعي متعلقا بالجامع فلم يتحقق ذلك الفرد، فإذن يلزم من فرض انقلاب
الواقع من التعيين إلى التخيير عدم الانقلاب، وعلى الجملة فعنوان مخالفة مؤدى

(1) نهاية الدراية 1: 405.
438

الامارة للواقع يتوقف على ثبوت الأمر التعييني بالواقع في المرتبة السابقة، ومن
المعلوم أن الأمر المتعلق به ينبثق عن وجود مصلحة تعيينية في متعلقه، فلو كان
الأمر الواقعي تخييريا متعلقا بالجامع بينهما لم تتحقق الامارة المخالفة للواقع حتى
توجب الانقلاب، فإذا لم تتحقق فلا انقلاب، فيلزم حينئذ من فرض الانقلاب
عدم الانقلاب، ومن فرض تحقق مخالفة مؤدى الامارة للواقع عدم المخالفة وهو
محال.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالية:
الأولى: أن حجية الامارات على القول بالطريقية لا تستلزم الاجزاء لا في
الوقت ولا في خارج الوقت على ضوء جميع الآراء في تفسيرها كما مر.
الثانية: أن حجيتها على القول بالسببية هل تستلزم الاجزاء؟
والجواب: أن ذلك يختلف باختلاف الأقوال في تفسيرها، فعلى ضوء
التفسير المنسوب إلى الأشاعرة فلا شبهة في الاجزاء، إذ على هذا التفسير لا
واقع قبل قيام الامارة وحجيتها، فالواقع أولا وثانيا هو مؤدى الامارة، فإذن
يكون ذلك من إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي عن أمره لا من إجزاء
الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن المأمور به بالأمر الواقعي، وكذلك الحال
على التفسير المنسوب إلى المعتزلة كما تقدم.
وأما على التفسير بالمصلحة السلوكية، فقد مر أنها تستلزم الاجزاء بالنسبة
إلى القضاء دون الامارة.
وأما على التفسير بالمصلحة في مؤدى الامارة، فإن كانت مسانخة لمصلحة
الواقع فهي توجب التصويب والاجزاء معا كما عرفت، وإن لم تكن مسانخة لها
439

فلا توجب التصويب ولا الاجزاء، لأن مصلحة الواقع غير مستوفاة بها.
وأما على التفسير بالمصلحة في نفس جعل الحكم الظاهري، فهي لا تستلزم
التصويب ولا الاجزاء، لفرض أنها ليست من سنخ مصلحة الواقع وأنها لا
تتدارك بها.
وأما على التفسير بالمصلحة في مؤدى الامارة المخالفة للواقع بما هو مؤدى
الامارة المخالفة، فإن كانت تلك المصلحة من سنخ مصلحة الواقع، فلازمه
التصويب والاجزاء معا وإن لم تكن من سنخها، فإن كانت مضادة لها فلازمها
الاجزاء دون التصويب وانقلاب الواقع، وإن لم تكن مضادة لها فلا تصويب ولا
إجزاء، لفرض أن مصلحة الواقع غير مستوفاة بها.
الثالثة: قد ظهر مما تقدم أن القول بالسببية إذا استلزم التصويب وانقلاب
الواقع، استلزم الاجزاء أيضا، وأما إذا لم يستلزم التصويب والانقلاب فلا
يستلزم الاجزاء إلا في صورة خاصة وهي ما إذا كانت بين المصلحتين مضادة،
فإنه حينئذ يستلزم الاجزاء دون التصويب والانقلاب كما مر، وأما السببية بمعنى
المصلحة السلوكية، فهي لا تستلزم الانقلاب والتصويب وإن كانت تستلزم
الاجزاء بالنسبة إلى القضاء دون الإعادة.
والخلاصة: أن التصويب ملازم للاجزاء، وأما الاجزاء فهو غير ملازم
للتصويب.
الرابعة: أن الغرض من بيان الآراء والاحتمالات في حجية الامارات على
القول بالطريقية والسببية ليس التحقيق في صحتها وسقمها، فإن لذلك محلا آخر
وهو باب الظن وسيأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى، بل الغرض من بيانها أن
الملازمة بين هذه الآراء والاحتمالات وبين الاجزاء ثابتة في الجميع أو في البعض
440

أو لا تكون ثابتة أصلا، وقد ظهر مما مر أن الملازمة لم تثبت بين الاجزاء وشئ
من الآراء على القول بالطريقية، وأما على القول بالسببية فقد تقدم أن الملازمة
ثابتة على ضوء بعض الآراء والتفاسير دون بعضها الآخر.
وأما الكلام في المقام الثاني وهو مفاد حجية الأصول العملية كأصالة
الطهارة والحلية واستصحابهما، فلا شبهة في أن مقتضى القاعدة عدم الاجزاء
عند انكشاف الخلاف إلا على القول بالتصويب وارتفاع الحكم الواقعي بجعل
الحكم الظاهري، وأما على القول بالطريقية فبما أن الحكم الواقعي لا يرتفع
بالحكم الظاهري، فمع انكشاف الخلاف وعدم امتثاله فلا محالة تجب الإعادة في
الوقت إذا كان انكشاف الخلاف فيه وإلا ففي خارج الوقت.
ولكن المحقق الخراساني (قدس سره) قد فصل في المقام بين الحكم الظاهري المجعول
بلسان احراز الواقع والنظر إليه والحكم الظاهري المجعول بلسان جعل الحكم
المماثل للواقع ابتداء من غير نظر إليه، فإن كان من قبيل الأول لم يجزئ وإن كان
من قبيل الثاني أجزأ، فلو صلى في ثوب محكوم بالطهارة بمقتضى أصالة الطهارة
أو في ثوب محكوم بالحلية بمقتضى أصالة الحل ثم انكشف الخلاف وبان أن
الثوب نجس أو مغصوب، كان مقتضى القاعدة الاجزاء من جهة أن دليل أصالة
الطهارة أو أصالة الحلية يوسع موضوع دليل اشتراط الطهارة أو الحل في الصلاة
وينقح صغرى الشرط ويجعله أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، وحينئذ فإذا
صلى مع أصالة الطهارة أو الحلية صلى مع الشرط واقعا وليس فيه انكشاف
الخلاف، غاية الأمر إذا علم بالنجاسة ارتفع الشرط بارتفاع موضوعه من حين
العلم بالنجاسة، لأن انكشاف الخلاف إنما هو بالنسبة إلى النجاسة لا بالنسبة إلى
441

الشرط (1)، بيان ذلك أن مفاد هذه الأصول ومدلولها أحكام ظاهرية ثابتة واقعا
في ظرفها وهو ظرف الجهل بالواقع وعدم العلم به، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، أن نسبة هذه الأصول العملية إلى الأدلة الاجتهادية التي
تدل على شرطية الطهارة والحلية في الصلاة نسبة الدليل الحاكم إلى الدليل
المحكوم، فإنها توسع دائرة الشرطية وتنقح صغراها وتجعل الشرط أعم من
الطهارة أو الحلية الواقعية والظاهرية، لأن الحكومة تارة تكون واقعية كما إذا
كان الدليل الحاكم كالدليل المحكوم دليلا اجتهاديا ناظرا إلى اثبات الواقع كجملة
(الطواف في البيت صلاة)، و (الفقاع خمر) وهكذا، فإن الدليل الحاكم يوسع
موضوع الدليل المحكوم واقعا ويجعل فردا آخر له تزيلا، وأخرى تكون
ظاهرية، فلا يكون للدليل الحاكم تأثير في الواقع لا توسعة ولا تضييقا، وهذه
الحكومة قد تكون في طريق إثبات الواقع كأدلة حجية الامارات، إذ لولاها لم
يمكن اثبات الواقع إلا بالعلم الوجداني، ولكنها توسع دائرة الاثبات وتجعله أعم
من الاثبات الوجداني والاثبات التعبدي على تفصيل ذكرناه في محله، وقد تكون
في توسعة الواقع ظاهرا لا واقعا كحكومة دليل أصالة الطهارة على الدليل
الاجتهادي الدال على شرطية طهارة البدن والثياب في الصلاة الظاهر في أن
الشرط خصوص الطهارة الواقعية، باعتبار أن دليل الأصالة يدل على أن
الشرط أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، على أساس أنه ينقح الصغرى له
ويثبت الطهارة ظاهرا، فيترتب عليها آثارها واقعا منها الشرطية، وعلى هذا
فإذا صلى في ثوب أو بدن محكوم بالطهارة بمقتضى أصالة الطهارة أو استصحابها
ثم انكشف الخلاف وبان أنه نجس، صحت صلاته واقعا لأنها واجدة للشرط

(1) كفاية الأصول: 86.
442

كذلك وهو الطهارة الظاهرية، ولا يتصور انكشاف الخلاف فيها لعدم واقع
موضوعي لها حتى يتصور فيها انكشاف الخلاف، لأنها مجعولة في حال الجهل
بالواقع وعدم العلم به وثابتة في هذه الحالة واقعا وليس لها واقع موضوعي وراء
هذه الحالة، فطالما يكون الجهل بالواقع موجودا فهي موجودة ولا ترتفع إلا
بارتفاعه، نعم انكشاف الخلاف إنما يتصور بالنسبة إلى النجاسة الواقعية التي لها
واقع موضوعي قد تطابقه وقد لا تطابقه، وعلى هذا فإذا علم بالنجاسة
وانكشف الخلاف بعد الصلاة انتفى الشرط بانتفاء موضوعه من حينه، لا أنه
يكشف عن فقدانه حال الصلاة، لأنه خلف فرض أن الشرط أعم من الطهارة
الظاهرية والواقعية، والمفروض أن الطهارة الظاهرية أثناء الصلاة موجودة
واقعا، وكذلك إذا صلى في ساتر محكوم بالحلية بمقتضى أصالة الحل، فإذا
انكشف الخلاف بعد الصلاة فهو إنما يكون بالنسبة إلى الحلية الواقعية التي لها
واقع خارجي قد تطابقه وقد لا تطابقه، وأما بالنسبة إلى الحلية الظاهرية فلا
يتصور فيها انكشاف الخلاف، لأنها ثابتة واقعا في حال الجهل بالواقع ولا واقع
موضوعي لها غير ثبوتها في هذه الحالة، وعلى هذا فالمصلي واجد للشرط حال
الصلاة حقيقة وانكشاف الخلاف بعدها لا يؤثر فيها ولا يجعل الواجد للشرط
فاقدا له، لاستحالة انقلاب الشئ عما وقع عليه هذا.
وقد علق على مقالة صاحب الكفاية (قدس سره) المحقق النائيني والسيد الأستاذ (قدس سرهما)
بوجوه:
الوجه الأول: أن الحكومة عند المحقق الخراساني (قدس سره) منحصرة في التفسير
اللفظي، بأن يكون الدليل الحاكم بمدلوله اللفظي ناظرا إلى مدلول الدليل المحكوم
ومفسرا له بكلمة (يعني)، ومن الواضح أن لسان دليل أصالة الطهارة وأصالة
443

الحل واستصحابهما ليس لسان التفسير والنظر، فإذن لا حكومة هذا (1).
وقد وجه بعض المحققين (قدس سره) كلامه بأن من الجائز أن يكون مراده (قدس سره) من
الحكومة في المقام الورود واثبات موضوع جديد للشرطية وهو الطهارة
الظاهرية حقيقة (2)، ولكن قد يقال بأن هذا التوجيه خلاف نص كلامه (قدس سره) في
المقام، حيث قال فيه أن دليل الأصالة حاكم على دليل الاشتراط ويوسع دائرة
الشرط ويجعله أعم من الواقع والظاهر، ومع هذا التصريح كيف يمكن حمل كلامه
على الورود هذا، إضافة إلى أن ضابط الورود لا ينطبق على المقام، لأن ضابطه
أن يكون الدليل الوارد رافعا لموضوع الدليل المورود وجدانا وحقيقة أو يوسع
دائرته كذلك، وأما إذا كان توسيع دائرته في الظاهر كما في المقام لا في الواقع، فهو
من الحكومة وليس من الورود، ومن هنا ذكر المحقق الأصبهاني (قدس سره) أن الحكومة
عند صاحب الكفاية (قدس سره) ليست بمعنى كون الدليل الحاكم ناظرا بمدلوله اللفظي
إلى مدلول الدليل المحكوم بمثل أعني وأشباهة، وما ذكره (قدس سره) في باب التعادل
والترجيح إنما أورد على الشيخ الأعظم (قدس سره) الملتزم في الحكومة بنظر أحد الدليلين
إلى الآخر، بأن النظر في مقام الاثبات لا يكون إلا بمثل أعني وأشباهه، بل يكفي
في حكومة أحد الدليلين على الآخر عنده (قدس سره) مجرد اثبات الموضوع أو نفيه
تنزيلا (3) هذا، ولكن لا يبعد ما ذكره بعض المحققين (قدس سره) من التوجيه لأمرين:
الأول: أنه (قدس سره) قد اعتبر في الحكومة النظر وكون الدليل الحاكم ناظرا بمدلوله
اللفظي إلى مدلول الدليل المحكوم، وقد صرح بذلك في موردين أحدهما في آخر

(1) أجود التقريرات 1: 287.
(2) بحوث في علم الأصول 2: 158.
(3) نهاية الدراية 1: 393، في تعليقة منه (قدس سره).
444

مبحث الاستصحاب (1) والآخر في أوائل مبحث التعادل والترجيح (2).
الثاني: أن ثبوت الموضوع وهو الطهارة الظاهرية أو الحلية الظاهرية
بالوجدان، لأن مفاد دليل حجية أصالة الطهارة هو جعل الطهارة الظاهرية في
ظرف الجهل بالواقع والشك فيه وهو قطعي، فكما أن نفي الموضوع للدليل إذا
كان بالوجدان فهو من الورود بلا فرق بين أن يكون ذلك تكوينا أو تشريعا،
وإذا كان بالتعبد فهو من الحكومة، ومن هنا ذهب المحقق النائيني (قدس سره) والسيد
الأستاذ (قدس سره) إلى أن دليل حجية الامارات وارد على البراءة العقلية كقاعدة قبح
العقاب بلا بيان، باعتبار أنه رافع لموضوعها بنفس ثبوت التعبد الذي هو
وجداني، ولا يمكن أن يكون ثبوت التعبد بالتعبد وإلا لزم التسلسل، وحاكم
على البراءة الشرعية باعتبار أنه رافع لموضوعها، فثبوت المتعبد به وهو الواقع
وثبوته بالتعبد لا بالوجدان، فلذلك يكون تقديمه عليها من باب الحكومة (3)،
وعلى هذا الأساس فبما أن ثبوت الطهارة الظاهرية في ظرف الجهل بالواقع
والشك فيه إنما هو بالوجدان شرعا لا بالتعبد، فيكون تقديم دليل ثبوتها على
دليل شرطية الطهارة بالورود، لأنه يثبت موضوعها وهو الطهارة الظاهرية
بالوجدان هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، أن ما ذكره المحقق الأصبهاني (قدس سره) من أن مراد صاحب
الكفاية من الحكومة ليس نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم، بل مجرد إثبات
الموضوع أو نفيه تنزيلا، وما ذكره (قدس سره) في باب التعادل والتراجح إنما هو إشكال
على الشيخ الأعظم (قدس سره) في غير محله، لأنه (قدس سره) قد فسر الحكومة في باب التعادل

(1) (2) كفاية الأصول: 429 و 438.
(3) أجود التقريرات 3: 284 - 285 و 4: 290، ومصباح الأصول 3: 250 - 251.
445

والترجيح بالنظر وكذلك في أواخر الاستصحاب من دون الإشارة إلى أن هذا
التفسير على مبنى الشيخ (قدس سره). فالنتيجة أنه لا يبعد أن يكون مراده (قدس سره) من
الحكومة في المقام الورود.
الوجه الثاني: أن حكومة دليل أصالة الطهارة والحلية واستصحابهما على
الأدلة الاجتهادية وهي أدلة شرطية الطهارة والحلية للصلاة، حكومة ظاهرية
موقتة بزمن الجهل بالواقع والشك فيه، وليست بحكومة واقعية لكي توجب
توسعة الواقع، ونتيجة هذه الحكومة هي ترتيب آثار الطهارة الواقعية أو الحلية
الواقعية على الطهارة الظاهرية أو الحلية الظاهرية طالما لم ينكشف الخلاف، فإذا
انكشف الخلاف وتبين أنه لم يعمل بالواقع وجب عليه العمل به، لأن الحكم
الظاهري في طول الحكم الواقعي ومتأخرا عنه رتبة، فلا يعقل أن يكون توسعة
للحكم الواقعي إلا ظاهرا وفي مقام الوظيفة العملية التي ترتفع
بانكشاف الخلاف (1).
وقد أجاب عنه بعض المحققين بأن أصالة الطهارة في طول النجاسة الواقعية
المشكوكة ولكنها ليست في طول شرطية الطهور في الصلاة، فلا مانع من أن
تكون حكومة دليل أصالة الطهارة على دليل شرطية الطهارة واقعية (2).
ولكن هذا الجواب قابل للمناقشة وذلك، لأن أصالة الطهارة كما أنها في طول
النجاسة الواقعية كذلك في طول الطهارة الواقعية، باعتبار أنها مجعولة للشيء
المشكوك طهارته ونجاسته، والمفروض أن مدلول دليل شرطية الطهارة للصلاة
هو شرطية الطهارة الواقعية، ومفاد دليل أصالة الطهارة ليس إثبات شرطية

(1) أجود التقريرات 1: 289، ومحاضرات في أصول الفقه 2: 257.
(2) بحوث في علم الأصول 2: 158.
446

الطهارة الظاهرية لكي يقال أن شرطية الطهارة الظاهرية ليست في طول شرطية
الطهارة الواقعية رتبة، لأن كون الطهارة الظاهرية في طول الطهارة الواقعية لا
يستلزم كون شرطيتها في طول شرطيتها، بل مفاده إثبات الطهارة الظاهرية
وجعلها، وحيث إن الطهارة الظاهرية في طول الطهارة الواقعية فلا يمكن أن
تكون توسعة لها، ضرورة أن الحكم الظاهري لا يمكن أن يكون توسعة للحكم
الواقعي إلا ظاهرا، ومن الواضح أن هذه السعة ترتفع بانكشاف الخلاف وتبين
أنه لم يصل مع طهارة ثوبه أو بدنه، فإذن تجب عليه الإعادة إن كان في الوقت
والقضاء إن كان في خارج الوقت.
الوجه الثالث: أن أصالة الطهارة لو كانت حاكمة على دليل شرطية الطهارة
للصلاة لكانت حاكمة على دليل شرطية الطهارة للوضوء أو الغسل أو نحو ذلك
أيضا، فما دل على شرطية طهارة ماء الوضوء أو الغسل ظاهر في الطهارة
الواقعية، ودليل أصالة الطهارة يوسع دائرة الشرط ويجعل موضوعه أعم من
الطهارة الواقعية والظاهرية، فإذا توضأ بماء محكوم بالطهارة بمقتضى أصالة
الطهارة ثم انكشف الخلاف وتبين نجاسته، فمقتضى ما ذكره (قدس سره) من الحكومة
صحة وضوئه، لأنه واجد للشرط وهو طهارة الماء مع أنه لم يلتزم به أحد من
الفقهاء حتى هو (قدس سره)، ومن هنا لو غسل ثوبه بماء طاهر بمقتضى أصالة الطهارة ثم
تبين أنه نجس فلا شبهة في بقائه على النجاسة، مع أن مقتضى ما ذكره (قدس سره) هو
الحكم بطهارته وهكذا وهو كما ترى (1) هذا.
وذكر بعض المحققين (قدس سره) أن بإمكان المحقق الخراساني (قدس سره) أن يدفع هذا النقض
بأن أصالة الطهارة إنما هي حاكمة على دليل قد أخذ الطهارة في موضوعه، فإنها

(1) أجود التقريرات 1: 289.
447

توسع موضوعه وتجعله الأعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية ولا تكون
حاكمة على دليل قد أخذ في موضوعه النجاسة، لأن أصالة الطهارة توجد
طهارة أخرى ظاهرية في مقابل الطهارة الواقعية، وليس لها مدلول التزامي وهو
نفي النجاسة الواقعية، وعلى هذا فإذا ثبت في الفقه من الدليل أن الطهارة هي
الشرط في الصلاة والنجاسة هي المانعة عن صحة الوضوء، فلا مناص حينئذ من
التفصيل بينهما وأن أصالة الطهارة حاكمة في الأول دون الثاني، فإذن لابد من
الحكم ببطلان الوضوء إذا انكشف الخلاف وتبين أن الماء نجس.
ودعوى أن أصالة الطهارة إن دلت بالالتزام عرفا على نفي النجاسة، فهي كما
تكون حاكمة على دليل شرطية الطهارة كذلك تكون حاكمة على دليل مانعية
النجاسة، غاية الأمر أن حكومتها على الأول بتوسيع موضوع دليل الشرطية
وعلى الثاني بنفي موضوع دليل المانعية وهو النجاسة، وحينئذ فإن كانت
الحكومة واقعية فلا مناص من القول بالأجزاء في كلا الموضعين وإلا فلا إجزاء
في كليهما، وإن لم تدل على ذلك لعدم الملازمة بينهما عرفا، فلا يمكن تصحيح
الوضوء بما ثبتت طهارته بأصالة الطهارة، مدفوعة بأن هذه الدعوى إنما تتم إذا
كان المراد من الحكومة التنزيل، فعندئذ يجيئ هذا التفصيل، وأما إذا كان المراد
من الحكومة ما ذكرناه من إيجاد فرد حقيقي للموضوع بالورود، فإنه حينئذ
يكون الفرق بين فرض شرطية الطهارة ومانعية النجاسة واضحا، لأن أصالة
الطهارة تحقق مصداقا آخر للشرط فيجزي، بينما المانع لابد من انتفاء تمام
مصاديقه لينتفي المانع، وبأصالة الطهارة لا يمكن نفي النجاسة الواقعية المشكوكة
حقيقة بالورود، لأن هذا خلف الطولية بين الحكمين وانحفاظ الحكم الواقعي،
448

فليس هذا إلا انتفاء النجاسة المانعة ظاهرا (1).
ويمكن المناقشة فيه أما أولا، فلأن الظاهر أن الوضوء كالصلاة مشروط
صحته بطهارة الماء لا بعدم نجاسته، ولهذا لا يجوز الوضوء بماء لم يحرز طهارته
ولو بالأصالة، فإذن هذا النقض وارد على صاحب الكفاية (قدس سره).
وثانيا ما ذكرناه آنفا من أن تقديم دليل أصالة الطهارة على دليل شرطية
الطهور للصلاة وإن كان لا يبعد أن يكون من باب الورود لا من باب الحكومة،
إلا أنه على كلا التقديرين يكون المجعول هو الطهارة الظاهرية، وعلى هذا فسواء
أكان التقديم من باب الحكومة أو الورود فهو ظاهري لا واقعي، بمعنى أن توسعة
موضوع الشرطية ظاهرية لا واقعية، فإذا كانت ظاهرية فمقتضى القاعدة عدم
الاجزاء، باعتبار أن المكلف طالما يكون الحكم الظاهري ثابتا في حقه فهو
معذور في العمل به، فإذا انكشف الخلاف وتبين أنه لم يعمل بالواقع، وجب عليه
العمل به سواء أكان في الوقت أو خارج الوقت، ولا يمكن أن يكون هذا التقديم
واقعيا وإن كان بالورود، لوضوح أن الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي فلا
يمكن أن يكون توسعة له، ومن هنا يظهر أن ما ذكره (قدس سره) من أن تقديم أصالة
الطهارة على دليل شرطية الطهارة حيث إنه كان من باب الورود فيكون حقيقيا
غير تام كما عرفت، ودعوى أن مفاد دليل أصالة الطهارة ليس إلا تنزيل
مشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي بلحاظ الاحكام المجعولة لها منها
الشرطية، فإذن تكون الحكومة واقعية والتوسعة الحقيقية للشرطية، مدفوعة
بأن ذلك ليس مفاد دليل أصالة الطهارة، لأن مفادها جعل الطهارة الظاهرية،
لوضوح أن قوله (عليه السلام): " كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد

(1) بحوث في علم الأصول 2: 158.
449

قذر " (1)، ظاهر في جعل الطهارة في حال الجهل بالواقع والشك فيه ابتداء وليس
مفاده التنزيل، وأما لبا فيكون تنزيل المشكوك بمنزلة الطاهر الواقعي ظاهرا لا
واقعا، لأنه في مقام بيان الحكم الظاهري ثبوتا واثباتا لا الحكم الواقعي هذا،
إضافة إلى أن مفادة لو كان تنزيل مشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي واقعا،
فلازمه صحة الصلاة واقعا عند الشك في الطهارة ولا تتوقف على احراز
الطهارة، باعتبار أنه على هذا يكون موضوع الشرطية أعم من الطاهر الواقعي
والمشكوك طهارته وهو كما ترى، بل أن هذا الاحتمال غير محتمل عرفا، لأن
الرواية في مقام بيان الحكم الظاهري، فلو كانت في مقام بيان الحكم الواقعي في
ترتيب آثاره منها الشرطية، لم يكن استفادة الحكم الظاهري منها حينئذ وهذا
خلف.
الوجه الرابع: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن مفاد موثقة عمار لا يخلو من
أن يكون جعل الطهارة الظاهرية أو توسعة دائرة شرطية الطهارة، ولا يمكن أن
تكون الموثقة متكفلة لكلا الأمرين معا، فإن الثاني في طول الأول، إذ لابد من
الفراغ عن جعل الطهارة الظاهرية أولا ثم يقال أنها شرط وفرد من أفرادها، ولا
يمكن أن يكون مفاد الموثقة كلا الأمرين الطوليين معا، لأن المنشأ بها إما الطهارة
الظاهرية أو الشرطية ولا يمكن أن تكون كلتاهما منشأة بانشاء واحد، وحيث
أن الظاهر منها جعل الطهارة الظاهرية، فلا يمكن أن يستفاد منها توسعة دائرة
الشرط (2). وناقش فيه بعض المحققين (قدس سره) بأمرين:
الأول: أن هذا الاشكال مبني على أن يكون مراد صاحب الكفاية (قدس سره) من

(1) الوسائل 3: 467، باب 37 من أبواب النجاسات، ح 4.
(2) أجود التقريرات 1: 288.
450

الحكومة في المقام الحكومة المصطلحة والتنزيل، فإنها عندئذ إن كانت ناظرة إلى
جعل الطهارة الظاهرية وتنزيلها منزلة الطهارة الواقعية فلا نظر لها إلى توسعة
دائرة الشرط، وإن كانت ناظرة إلى توسعة دائرة الشرط فلا نظر لها إلى جعل
الطهارة الظاهرية، وأما بناء على أن يكون مراده (قدس سره) من الحكومة الورود فلا يرد
عليه هذا الاشكال، لأن الدليل الوارد يوجد فردا آخر للموضوع وهو الطهارة
الظاهرية، وحينئذ فلا مانع من التمسك باطلاق الدليل المورود وهو دليل شرطية
الطهارة في المقام لاثبات حكمه لهذا الفرد أيضا، فالنتيجة أن دليل الأصالة يثبت
الطهارة الظاهرية واطلاق دليل الشرطية يثبت الشرطية لها فإذن لا اشكال (1).
وفيه أن مفاد دليل أصالة الطهارة، الطهارة الظاهرية وموضوع دليل
الاشتراط الطهارة الواقعية، ولا اطلاق له بالنسبة إلى الطهارة الظاهرية،
لوضوح أنه ظاهر عرفا في أن الشرط هو الطهارة الواقعية وإرادة الأعم بحاجة
إلى قرينة، والمفروض أن دليل الأصالة لا يوجد فردا من الطهارة واقعا لكي
يكون مشمولا لدليل الاشتراط، وإنما يوجد الطهارة الظاهرية العذرية التي لا
ملاك لها بمعنى أنها غير دخيلة في الملاك، فطهارة الثوب مثلا إذا كانت ظاهرية
عذرية غير دخيلة في ملاك الصلاة وإنما جعلت لمصلحة عامة وهي التسهيل
بالنسبة إلى نوع المكلفين، وعليه فلا تصلح الطهارة الظاهرية أن تكون شرط
كالطهارة الواقعية، وإنما جعلت لكي تكون عذرا للمكلف في صورة مخالفتها
للواقع هذا، إضافة إلى أن ترتيب آثار الطهارة الواقعية عليها متوقف على أن
يكون لسان دليل أصالة الطهارة والحلية لسان التنزيل لا لسان الجعل والاعتبار
بدون النظر إلى الواقع أصلا.

(1) بحوث في علم الأصول 2: 160.
451

الثاني: أنه على تقدير تسليم أن مفاد دليل أصالة الطهارة الحكومة
والتنزيل، ولكن بامكان صاحب الكفاية (قدس سره) أن يجيب عن هذا الاشكال، بأن
موضوع هذا التنزيل ليس هو الطهارة الظاهرية ليقال بأنه كيف يمكن أن يتكفل
جعل واحد التوسعة وموضوعها معا في وقت واحد بل نفس مشكوك الطهارة،
فكأنه قال أن مشكوك الطهارة محكوم بأحكام الطاهر الواقعي بما هو طاهر،
والطهارة الظاهرية منتزعة من هذا التنزيل وفي مرتبة متأخرة عنه لا أنها
موضوع له (1)، وفيه أن هذا التوجيه غريب، حيث لا شبهة في أن قوله (عليه السلام) (كل
شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر) ظاهر في جعل النظافة والطهارة ظاهرا في ظرف
جهل المكلف بالواقع وعدم علمه به، وهذا يكشف عن أن التنزيل في مقام
الثبوت واللب يكون بلحاظ الحكم الظاهري، وأما حمله على تنزيل مشكوك
الطهارة بمنزلة الطاهر الواقعي واقعا بلحاظ أحكامه المجعولة منها الشرطية
فلا يمكن، لأنه من غير المحتمل إرادته منه عرفا إلا إذا كانت هناك قرينة واضحة
على ذلك، هذا إضافة إلى أن لازم ذلك كون مدلول دليل الأصالة حكما واقعيا
فلا يدل حينئذ على الحكم الظاهري، ودعوى أنه منتزع من هذا التنزيل،
مدفوعة بأن التنزيل إذا كان واقعيا، فلا يصلح أن يكون منشأ لانتزاع حكم
ظاهري لأنه بلا مبرر.
فالنتيجة، أنه لا بأس بالوجوه المذكورة لتبرير عدم الاجزاء في الجملة.
والتحقيق أن لنا في المسألة دعويين:
الأولى: أن ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من التفسير لأصالة الطهارة وأصالة
الحل واستصحابهما غير صحيح.

(1) المصدر المتقدم.
452

الثانية: أن نتيجة ما ذكره (قدس سره) من التفسير لهذه القواعد الثلاث ليست توسعة
دائرة أدلة شرطية الطهارة وجعلها الأعم من الطهارة الواقعية الظاهرية.
أما الدعوى الأولى، فلا شبهة في أن الظاهر والمتفاهم عرفا من مثل
قوله (عليه السلام): " كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر "، هو جعل الطهارة الظاهرية التي
هي من الاحكام الترخيصية في ظرف الجهل بالواقع وعدم العلم به، بقرينة أن
المراد من الشئ فيه هو الشئ المشكوك طهارته ونجاسته واقعا لا الشئ
بعنوانه الأولي، لأن الطهارة المجعولة له طهارة واقعية وهي لا يمكن أن تكون
مغياة بالعلم بالنجاسة، وإلا لزم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالم بها وهو
خلاف الضرورة، فلذلك لابد أن يكون المراد من الشئ فيه الشئ المشكوك
والطهارة المجعولة له طهارة ظاهرية لأنها مغياة بالعلم بالنجاسة، وقوله (عليه السلام):
" حتى تعلم أنه قذر " وإن كان قيدا للحكم وغاية له، إلا أنه قرينة على أن المراد
من الشئ المأخوذ في موضوع القضية الشئ المشكوك فيه، وإلا استحال أن
يكون قيدا وغاية لحكمه، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، أن المتفاهم العرفي من مثل هذا النص أنه في مقام بيان
ثبوت الطهارة للشيء المشكوك وحدوثها له، لا أنه في مقام بيان بقائها
واستمرارها بعد الفراغ عن ثبوتها وحدوثها، لأن بقاء الحكم ببقاء موضوعه
واستمراره باستمراره أمر قهري فلا يحتاج إلى مؤونة زائدة، ولهذا لا شبهة في
ظهور الحديث في ذلك كما هو الحال في جميع القضايا، سواء كانت من القضايا
الواقعية أم الظاهرية، لأنها في نفسها ظاهرة عرفا في ثبوت المحمول للموضوع،
ولا يمكن حملها على البقاء بعد الثبوت فإنه بحاجة إلى قرينة، وأما قوله (عليه السلام) في
الموثقة: " حتى تعلم أنه قذر "، فهو لا يصلح أن يكون قرينة على أنها في مقام
453

بيان بقاء الطهارة واستمرارها إلى زمان العلم بالقذارة بعد الفراغ عن أصل
ثبوتها وحدوثها، لأن الظاهر منه أنه غاية للحكم المجعول في القضية، ويدل على
أنه حكم ظاهري، فلهذا يكون مغيا بالعلم بالقذارة ولا ظهور له في أنه غاية
لاستمراره لا لأصل ثبوته، والخلاصة أن المحتمل في الموثقة معنيان:
الأول: أن المراد من الشئ في الموثقة الشئ المشكوك والحكم الثابت له هو
الحكم الظاهري وثبوته مغيي بالعلم بالخلاف.
الثاني: أن المراد من الشئ فيها الشئ بعنوانه الأولي والحكم الثابت له
حكم واقعي وهو مستمر ظاهرا إلى زمان العلم بالنجاسة، ومن الواضح أن
الموثقة ظاهرة في المعنى الأول ولا يمكن حملها على المعنى الثاني، إلا بقرينة ولا
قرينة على ذلك لا في نفس الموثقة ولا من الخارج، فالنتيجة أن كل قضية ظاهرة
في ثبوت المحمول للموضوع منها هذه الموثقة، ومن هنا يظهر حال دليل أصالة
الحل، فإن الكلام فيه بعينه هو الكلام في دليل أصالة الطهارة حرفا بحرف فلا
فرق بينهما من هذه الناحية.
وأما استصحاب الطهارة أو الحلية فقد ذكرنا في محله أن دليل الاستصحاب لا
يتكفل جعل الحكم الظاهري المماثل في صورة المطابقة والمخالف في صورة
المخالفة، بل مفاده النهي عن نقض اليقين السابق بالشك في مقام الوظيفة العملية
والجري العملي، فليس مفاده كمفاد دليل أصالة الطهارة، فإن مفادها جعل
الطهارة الظاهرية ابتداء وبالمطابقة، وأما مفاد دليل الاستصحاب فهو النهي عن
نقض اليقين بالحالة السابقة بالشك فيها ارشادا إلى أن وظيفته العمل بالحالة
السابقة وعدم جواز رفع اليد عنها عملا، ولا اشعار فيه فضلا عن الدلالة على
جعل حكم ظاهري مماثل للحالة السابقة إن كانت حكما ولحكمها إن كانت
454

موضوعا في صورة المطابقة أو مخالف لها أو لحكمها في صورة عدم المطابقة، فإذن
ما ذكره صاحب الكفاية من أن استصحاب الطهارة أو الحلية كأصالتهما، مبني
على ما بنى عليه في باب الاستصحاب من أن المجعول فيه الحكم الظاهري المماثل
أو المخالف.
وعلى هذا فحال الاستصحاب حال الامارات على القول بالطريقية، فإن كان
مطابقا للواقع فهو وإلا فالواقع ظل ثابتا فلا إجزاء، ولا بد من الاتيان به في
الوقت أو خارجه.
وأما أصالة الطهارة أو الحلية وإن كانت متكفلة للحكم الظاهري، إلا أنا
ذكرنا حقيقة الحكم الظاهري في محله موسعا وملخصه:
أن الأحكام الظاهرية على نوعين:
النوع الأول: الأحكام الظاهرية الالزامية، وهي الأحكام الطريقية الطولية
المجعولة بغرض الحفاظ على الأحكام الواقعية وملاكاتها الالزامية من جهة اهتمام
الشارع بتلك الأحكام حتى في حال الجهل بها وعدم العلم ولا شأن لها غير
ذلك، ولهذا تسمى بالأحكام الظاهرية التنجيزية.
النوع الثاني: الأحكام الظاهرية الترخيصية، والغرض من جعلها والداعي
إليه هو التسهيل على عامة المكلفين في حال الجهل بالواقع وعدم العلم به.
وقد ذكرنا في محله أن هذه الأحكام الظاهرية أحكام عذرية ولا شأن لها غير
كونها عذرا للمكلف في صورة مخالفتها للواقع، ولا تكون ناشئة عن الملاكات في
متعلقاتها لتقع المزاحمة بينها وبين ملاكات الأحكام الواقعية، بل هي ناشئة عن
المصلحة العامة والنوعية المترتبة على أصل جعلها وهي مصلحة التسهيل، ولا
455

مزاحمة حينئذ بينها وبين الملاكات الشخصية الواقعية، وحيث أن المصلحة العامة
النوعية أهم عند الشارع من المصالح الشخصية، فلذلك قدم الشارع تلك
المصلحة العامة وجعل تلك الأحكام الظاهرية التعذيرية، وعلى هذا فلا مقتضى
للاجزاء، لأن الواقع باق على حاله بماله من الملاك، فإذا انكشف الخلاف وبان
أنه لم يأت بالواقع ولا بما يتدارك به ملاكه، فلابد من الاتيان به سواء كان في
الوقت أم خارجه، وعلى الجملة فالأحكام الظاهرية إن كانت الزامية فهي ناشئة
عن اهتمام الشارع بالتحفظ على الملاكات الواقعية حتى في حال الشك والجهل
بها، ولا ملاك لها غير الحفاظ على تلك الملاكات في الواقع حتى في هذه الحالة،
وإن كانت ترخيصية فهي ناشئة عن المصلحة العامة المترتبة عليها بدون أن تؤثر
في الواقع وملاكاته، وعلى هذا فإذا صلى في ثوب طاهر بأصالة الطهارة ثم تبين
أنه نجس، فمن الواضح أن صلاته هذه لا تجزي عن الصلاة الواجبة في الواقع
وهي الصلاة مع ثوب طاهر، لأن صلاته مع الثوب المذكور صلاة عذرية
فلا تجزي عن الصلاة المأمور بها في الواقع، لأنه لم يأت بها ولا بما يتدارك
ملاكها، لفرض أن الصلاة العذرية لا تشتمل على الملاك، وعليه فإذا انكشف
الخلاف، فإن كان في الوقت وجبت إعادتها فيه، وإن كانت في خارج الوقت
وجب قضاؤها.
وأما الدعوى الثانوية، وهي أن هذه القواعد الثلاث حاكمة على الأدلة
الاجتهادية التي تدل على شرطية الطهارة للصلاة وتجعل الشرط أعم من
الطهارة الواقعية والظاهرية.
فيرد عليها أولا، أن هذه الدعوى لو تمت فإنما تتم في قاعدتي الطهارة والحلية
ولا تتم في استصحابهما، لما عرفت من أنه ليس في مورده حكم ظاهري مجعول
456

مماثل للحالة السابقة أو لحكمها، فإذن لا موضوع للحكومة بالنسبة إليه.
وثانيا مع الاغماض عن ذلك وتسليم أن الحكم الظاهري مجعول في مورده كما
في مورد قاعدتي الطهارة والحلية، ولكن هذا الحكم الظاهري وهو الطهارة أو
الحلية الظاهرية في مورد هذه القواعد الثلاث حكم ترخيصي تعذيري وغير
ناشئ عن ملاك في متعلقه الذي يمكن أن يتدارك به ملاك الواقع ويفي به، بل هو
ناشئ عن المصلحة العامة النوعية المترتبة عليه، فإنها الغاية التي تدعو المولى
إلى جعله بدون أن يؤثر في الواقع، وحينئذ فإذا انكشف الخلاف وتبين أنه لم يأت
بالواقع ولا بما يتدارك به ملاكه، فلا إجزاء لا إعادة ولا قضاء، فإذن لا تكون
تلك القواعد حاكمة على أدلة شرطية الطهارة، ولا تدل على أن الشرط أعم من
الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية لعدم توفر ملاك الشرطية فيها، بل تدل على
جعل الطهارة والحلية الظاهرية، على أساس أنها حكم تعذيري، فيكون معذرا
للمكلف على تفويت ملاك الواقع إذا استمر ولم ينكشف خلافه، ومع التنزل عن
ذلك وتسليم الحكومة في المقام فمع هذا لا اجزاء فيه، وذلك لأن الحكومة على
قسمين:
الأولى: الحكومة الواقعية.
الثانية: الحكومة الظاهرية.
ونقصد بالحكومة الواقعية توسعة دائرة موضوع الدليل المحكوم واقعا أو
تضييقها كذلك، مثل: " الطواف في البيت صلاة " " الفقاع خمر " وهكذا، ولهذا لا
موضوع لانكشاف الخلاف فيها، ونقصد بالحكومة الظاهرية توسعة دائرة
موضوع الدليل المحكوم في الظاهر لا في الواقع، كحكومة الامارات المعتبرة على
الواقع في إثباته ظاهرا وترتيب آثاره عليه بما أنه مؤداها، وليس معنى حكومتها
457

عليه توسعة دائرة الواقع واقعا، لأنها بهذا المعنى مبنية على القول بالسببية
والموضوعية على تفصيل تقدم (1)، وأما على القول بالطريقية والكاشفية،
فيستحيل أن تكون الامارات موجبة لتوسعة دائرة الواقع واقعا وانقلابه، بل هو
ظل ثابت بدون تأثير الامارات فيه، فإذا قامت أمارة على عدم وجوب السورة
في الصلاة مثلا وكانت في الواقع واجبة ثم انكشف الخلاف وتبين أن المأمور به في
الواقع هو الصلاة مع السورة ولم يأت بها، وما أتى به فهو غير واجب ولا مشتمل
على ملاك يمكن أن يتدارك به ملاك الواجب، فتجب عليه الإعادة، وأما قاعدة
الطهارة، فهي وإن لم تكن ناظرة إلى الواقع، ولكن مدلولها جعل الطهارة
الظاهرية للشيء المشكوك طهارته ونجاسته الواقعيتين، وقد مر أن الطهارة
الظاهرية حيث أنها حكم ترخيصي تعذيري، فلا محالة يكون تنزيل الشئ
المشكوك بمنزلة الطاهر في قوله (عليه السلام): " كل شيء نظيف "، إنما هو بلحاظ حال
الوظيفة العملية والجري على طبقها حتى تكون عذرا للمكلف في هذه الحالة إذا
أدى عمله فيها إلى تفويت ملاك الواقع، وعلى هذا فلا محالة تكون حكومة
القاعدة على أدلة شرطية الطهارة حكومة ظاهرية عذرية في مقام العمل، بمعنى
أنها شرط عذري طالما يكون الواقع مجهولا، فإذا ارتفع الجهل عن الواقع
وانكشف الخلاف، فلا عذر في ترك الواقع حينئذ، وهذا معنى عدم إجزاء العمل
بالقاعدة عن الواقع. نعم، لو كان مدلول دليل القاعدة تنزيل الشئ المشكوك
منزلة الطاهر الواقعي واقعا أي بلحاظ آثاره وأحكامه المجعولة في الواقع منها
الشرطية، كان العمل بالقاعدة مجزيا عن الواقع، باعتبار أن حكومتها على أدلة
الشرطية حينئذ تكون واقعية وتوسع دائرة الشرط واقعا، إلا أن مدلوله ليس

(1) في المقام الأول من المرحلة الثالثة (اجزاء الأمر الظاهري عن الواقع).
458

كذلك، لأنه لا يدل على هذا التنزيل وإنما يدل على التنزيل الظاهري، باعتبار أنه
في مقام بيان الحكم الظاهري، فلو كان مفاده التنزيل الواقعي، فلا يمكن أن
يستفاد منه الحكم الظاهري.
فالنتيجة، أن حكومة القاعدة بما أنها ظاهرية فلا توجب انقلاب الواقع وهو
محفوظ بما له من الملاك، فإذا انكشف الخلاف وجب الاتيان به سواء أكان في
الوقت أم في خارجه، فإذن لا موضوع للأجزاء، وبذلك يظهر أنه لا وجه لما
ذهب إليه صاحب الكفاية (قدس سره) من الاجزاء في مورد هذه القواعد الثلاث ولعله
مبني على الخلط بين حكومة تلك القواعد على أدلة الشرطية ظاهرا وحكومتها
عليها واقعا وتخيل أن حكومتها عليها واقعية، ومن هنا يظهر أنه لا فرق بين
موارد الامارات المعتبرة والأصول العملية، فعدم الاجزاء في كلا الموردين يكون
على القاعدة.
وأما الكلام في المقام الثالث، فيقع في بيان الأقوال في المسألة وهي كثيرة:
1 - الاجزاء مطلقا.
2 - عدم الاجزاء كذلك.
3 - التفصيل بين الامارات والأصول العملية.
فعلى الأول لا يجزي الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن الواقع وعلى
الثاني يجزي.
4 - التفصيل بين ما إذا كانت حجية الامارات بنحو السببية والموضوعية، وما
إذا كانت بنحو الطريقية والكاشفية. فعلى الأول يجزي وعلى الثاني لا يجزي.
459

5 - التفصيل بين ما إذا كان انكشاف الخلاف بالعلم الوجداني وما إذا كان
بالعلم التعبدي. فعلى الأول لا يجزي وعلى الثاني يجزي.
6 - التفصيل بين ما إذا قامت الامارة على الحكم وما إذا قامت على الموضوع،
فيجزي على الثاني دون الأول.
هذه هي الأقوال في المسألة.
أما القول الأول والثاني فلا أصل لهما كما يظهر وجه ذلك من بيان
الأقوال الآتية.
وأما القول الثالث، فقد ظهر عما مر أنه لا أصل له.
وأما القول الرابع، فقد تقدم سابقا أن القول بالسببية والموضوعية لا يلازم
القول بالاجزاء مطلقا.
وأما القول السادس وهو التفصيل بين الامارات في الشبهات الحكمية
والامارات في الشبهات الموضوعية، فهو مبني على القول بكون حجية الامارات
من باب السببية والموضوعية، فإنها على هذا القول إن كانت في الشبهات
الحكمية فتوجب انقلاب الواقع فيها، وإن كانت في الشبهات الموضوعية فلا
تأثير لها فيها، ولكن قد تقدم بطلان هذا القول بتمام اشكاله وصيغه، فإذن لا
وجه لهذا التفصيل.
وأما القول الخامس، وهو التفصيل بين ما إذا كان انكشاف الخلاف بالعلم
الوجداني وما إذا كان بالعلم التعبدي، فيقع الكلام في الثاني في مقامين:
الأول: أن يكون انكشاف الخلاف بالامارة المعتبرة.
الثاني: أن يكون بالأصل العملي.
460

أما الكلام في المقام الأول، فقد استدل على الاجزاء بتقريب، أن انكشاف
الخلاف إذا كان بقيام حجة معتبرة على الخلاف لا بالعلم الوجداني لم يعلم
المكلف ببطلان الحجة الأولى ومخالفتها للواقع، حيث إنه لا مزية للحجة اللاحقة
على الحجة السابقة من هذه الناحية، فكما يحتمل أن تكون الحجة اللاحقة
مطابقة للواقع دون الأولى فكذلك يحتمل العكس، غاية الأمر أن وظيفة المكلف
فعلا هي العمل على طبق الحجة اللاحقة دون الحجة الأولى بدون العلم بمطابقتها
للواقع، وأما الأولى فهي وإن لم تكن حجة فعلا ولكنها كانت حجة في ظرفها
وقبل وصول الثانية صغرى وكبرى، وإنما لا تكون حجة بعد وصولها كذلك،
ومن الواضح أنها بعد اتصافها بالحجية بالوصول لا توجب انقلاب الواقع
وجعل الحجة غير حجة في ظرفها، لأن اتصاف الامارة بالحجية متقوم بالعلم به
والوصول في أفق الذهن ولا يتصور فيه كشف الخلاف، إذ لا واقع موضوعي له
غير تقومه بالعلم والوصول في أفق النفس، فطالما العلم والوصول موجودا فيه
فالحجية موجودة، وإذا زال، زالت الحجية من حين زواله، وعلى هذا فحجية
الامارة السابقة إن زالت بالعلم الوجداني بخلافها فلا مقتضى للاجزاء، لأن
الأعمال السابقة المستندة إليها حينئذ تكون مخالفة للواقع جزما، وإن زالت
بالعلم التعبدي كالامارة المعتبرة فلا علم بعدم مطابقتها للواقع، فإن سقوط
الامارة السابقة عن الحجية إنما هو في ظرف وصول الامارة اللاحقة صغرى
وكبرى، وأما في ظرفها فهي كانت حجة والأعمال السابقة مستند إليها والعلم
الوجداني بمخالفتها للواقع غير موجود، ونتيجة ذلك هي أن كشف الخلاف إن
كان في الوقت وجب الإعادة فيه لمكان قاعدة الاشتغال، وإن كانت في خارج
الوقت لم يجب القضاء لعدم احراز صدق فوت الواجب في الوقت وإنما هو
احتمال الفوت.
461

ولكن لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لأن اتصاف الامارة بالحجة في ظرف
العمل وإن كان ثابتا ولا يزول هذا الاتصاف إلا بوصول الحجة اللاحقة، إلا أن
الامارة اللاحقة تكشف عن ثبوت مدلولها في الشريعة المقدسة من أول الأمر
وتكون حجة عليه بالمطابقة وعلى نفي مدلول الحجة السابقة بالالتزام، وأما
الحجة السابقة فهي ساقطة عن الاعتبار ولا تكون حجة في إثبات مدلولها فعلا،
وأما في ظرفها فهي وإن كانت حجة وتحكي عن ثبوت مدلولها في الشريعة
المقدسة، إلا أنها معارضة من هذه الناحية مع الحجة اللاحقة، وحيث إن
اللاحقة أقوى من السابقة، إما من ناحية إمكان الجمع العرفي بينهما أو الترجيح،
فلابد من تقديمها عليها، وعليه فإذا فرضنا قيام إمارة معتبرة على عدم وجوب
السورة في الصلاة، وإن الواجب هو الصلاة بدونها ثم ظهر له حجة أخرى تدل
على وجوب السورة فيها أقوى من الأولى، فلا تكون حجة في مقابل الأخرى،
وحينئذ فإن كان ذلك في الوقت وجبت الإعادة وإن كان في خارج الوقت وجب
القضاء، باعتبار أن اتيان المكلف بالصلاة بدون السورة في وقتها وإن كانت
مستندا إلى الحجة حين الاتيان بها، إلا أنه بعد خروج الوقت انكشف أنها ليست
فردا للصلاة المأمور بها في الشريعة المقدسة، فإذا لم تكن فردا لها ولم تنطبق
الصلاة المأمور بها عليها فقد فاتت عنه ظاهرا، فلذلك يجب قضاؤها خارج
الوقت كذلك، ومن هذا القبيل ما إذا قلد مجتهدا يرى عدم وجوب الجلسة
الاستراحة في الصلاة ثم عدل عنه إلى مجتهد آخر صار أعلم منه وهو يرى
وجوبها في الصلاة، ففتوى الأول حجة طالما المكلف لم يعدل عنه، فإذا عدل إلى
الثاني سقطت عن الحجية وتصبح فتوى الثاني حجة، وتدل على أن الواجب في
الشريعة المقدسة هو الصلاة مع الجلسة الاستراحة بالمطابقة وعلى نفي وجوبها
بدونها بالالتزام، وفتوى الأول وإن كانت حجة في ظرفها إلا أنها لا تصلح أن
462

تعارض فتوى الثاني بقاء فتسقط عن الحجة، وعلى هذا فإن كان العدول في
الوقت فعليه الإعادة، وإن كان في خارج الوقت فعليه القضاء، لأن الصلاة المأتي
بها في وقتها وهي الصلاة بدون جلسة الاستراحة وإن كانت مع الحجة إلا أنه في
خارج الوقت، انكشف أنها ليست فردا للصلاة المأمور بها في الشريعة المقدسة
ظاهرا، فإذا فاتت عنه الصلاة في الوقت، فيجب عليه قضاؤها خارج الوقت
وهكذا، وللمسألة أمثلة وفروع كثيرة في الشبهات الحكمية والموضوعية، لأنها
مسألة سيالة لا تختص بباب دون باب.
وأما على الثاني، وهو انكشاف الخلاف بالأصل العملي، ففيه صور في الشبهة
الموضوعية والشبهة الحكمية.
الصورة الأولى: ما إذا كان انكشاف الخلاف بالاستصحاب في الشبهة
الموضوعية، وذلك كمن صلى فشك في أثناء صلاته في الاتيان بجزء منها بعد
التجاوز عن محله، وبنى على الاتيان به تطبيقا لقاعدة التجاوز، ثم ظهر أن المورد
ليس من موارد التمسك بالقاعدة لعدم توفر شروطها فيه، وحينئذ فلا مانع من
استصحاب عدم الاتيان بالجزء المشكوك فيه، ويترتب عليه وجوب الإعادة إن
كان ذلك في الوقت، بل وجوب الإعادة في الوقت لا يتوقف على الاستصحاب،
فإنه تكفي فيه قاعدة الاشتغال، وأما إن كان ذلك في خارج الوقت، فهل يترتب
على هذا الاستصحاب وجوب القضاء؟ فيه قولان: فإن قلنا بأن موضوع
وجوب القضاء عدم الاتيان بالصلاة في الوقت، فهو يثبت بالاستصحاب فيجب
القضاء، وإن قلنا بأن موضوعه الفوت كما هو الظاهر من الدليل، فلا يمكن إثباته
بالاستصحاب إلا على القول بالأصل المثبت.
ودعوى، أن لازم ذلك عدم وجوب القضاء حتى فيما إذا انكشف الخلاف في
463

الوقت والمكلف ترك الإعادة فيه عامدا عالما، لأنه شاك في تحقق موضوعه وهو
فوت الفريضة حينئذ أيضا، لفرض أنه لم يثبت بالاستصحاب، وعليه فيشك في
توجه الأمر بالقضاء إليه فتجري البراءة عنه.
مدفوعة بأن وجوب القضاء في هذه الصورة لا يتوقف على اثبات فوت
الواجب الواقعي لكي يقال أنه غير ثابت، بل يكفي في وجوب القضاء فيها فوت
الواجب الظاهري الذي ثبت وجوبه بالاستصحاب أو قاعدة الاشتغال،
والمفروض أنه فات عن المكلف في الوقت فيجب عليه قضاؤه خارج الوقت،
غاية الأمر أن وجوب قضائه عندئذ أيضا ظاهري لأن ملاكه التدارك، فإن كان
المتدارك فريضة واقعية، فوجوب قضائها أيضا واقعية، وإن كان فريضة ظاهرية
فوجوب قضائها أيضا كذلك، ومن هنا يظهر الفرق بين انكشاف الخلاف في
الوقت وانكشاف الخلاف في خارج الوقت، فإنه على الثاني لم تفت عنه الفريضة
الظاهرية في الوقت لعدم وجوبها عليه، وأما فوت الفريضة الواقعية فهو
مشكوك وغير محرز، ومن هذا القبيل ما إذا شك في صحة جزء في الصلاة بعد
الفراغ منه وبنى على صحته تطبيقا لقاعدة الفراغ ثم انكشف الخلاف وظهر أن
شروط القاعدة غير متوفرة فيه، وعندئذ فلا مانع من استصحاب عدم صحته
بنحو الاستصحاب في العدم الأزلي، ويترتب عليه وجوب الإعادة إن كان ذلك
في الوقت، بل يكفي فيه قاعدة الاشتغال أيضا، ولكن لا يترتب عليه وجوب
القضاء إن كان في خارج الوقت بناء على ما هو الصحيح من أن موضوع وجوب
القضاء فوت الفريضة، ولا يمكن احرازه بالاستصحاب إلا على القول بالأصل
المثبت، نعم لو كان القضاء بالأمر الأول أو كان موضوعه عدم الاتيان بالفريضة
في الوقت ثبت وجوبه.
464

الصورة الثانية: ما إذا انكشف الخلاف في شبهة حكمية، كما إذا بنى فيما إذا
سافر شخص أربعة فراسخ ولم يرجع في نفس اليوم وبقي إلى ما دون العشرة على
وجوب القصر عليه، ثم حصل له الشك في وجوبه من جهة الشك في صحة
مدركه، وحينئذ فيشك في أن الواجب عليه في المسألة هل هو القصر أو التمام،
فلا مانع من التمسك باستصحاب بقاء وجوب التمام عليه، وحينئذ فإن كان ذلك
في الوقت وجب عليه الاتيان بالظهر تماما فيه، وإن كان في خارج الوقت، فإن
كان موضوع وجوب القضاء عدم الاتيان بالواجب أو أنه بالأمر الأول وجب
القضاء، وإن كان موضوعه الفوت، فلا يمكن إثباته بالاستصحاب إلا على
النحو المثبت.
الصورة الثالثة: ما إذا كان انكشاف الخلاف بأصالة الاشتغال، والأصالة
تارة تكون على أساس العلم الاجمالي وأخرى على أساس أن المرجع في مسألة
دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين قاعدة الاشتغال دون البراءة.
أما الأول، فكما إذا تعلق رأي المكلف اجتهادا أو تقليدا بوجوب الصلاة
تماما على كثير السفر وإن لم يكن السفر مقدمة لشغله ثم تردد فيه، فحصل له
العلم الاجمالي إما بوجوب التمام عليه أو القصر أو بنى على وجوب التمام على كل
من يكون شغله السفر في السفرة الأولى أيضا بعد إقامة عشرة أيام في بلد
المكاري ثم تردد فيه، فحصل له العلم الاجمالي إما بوجوب التمام أو القصر أو
على وجوب التمام على من يكون سفره بين وطنه ومقر شغله لا يقل عن عشرة
أيام في كل شهر ثم تردد في ذلك، فحصل له العلم الاجمالي إما بوجوب القصر أو
التمام وهكذا، ففي كل هذه الموارد فإن كان انكشاف الخلاف في الوقت وقبل
الاتيان بوظيفته وهي الصلاة تماما، فلا اشكال في وجوب الاحتياط بالجمع بين
465

القصر والتمام ولا كلام فيه، وإنما الكلام فيما إذا كان انكشاف الخلاف في الوقت
بعد الاتيان بالصلاة تماما، وحينئذ فهل يكون العلم الاجمالي مؤثرا وأن المرجع
في الطرف الباقي أصالة الاشتغال أو أنه لا يكون مؤثرا والمرجع فيه أصالة
البراءة، الظاهر أنه غير مؤثر، لأنه إنما حصل في وقت كان أحد طرفيه خارجا
عن محل الابتلاء، وعليه فالركن الأول من أركان منجزية العلم الاجمالي وهو
تعلقه بالتكليف الفعلي المولوي على كل تقدير مفقود فيه، فلذلك لا يكون
منجزا، ومن هنا يظهر حال ما إذا كان انكشاف الخلاف بعد خروج الوقت، فإنه
إن كان بعد الاتيان بما هو وظيفته في داخل الوقت، فالمرجع في خارج الوقت
أصالة البراءة عن وجوب القضاء، وإن كان قبل الاتيان به في الوقت وجب عليه
القضاء في خارج الوقت، وهل يجب عليه الاحتياط فيه بالجمع بين التمام
والقصر؟
والجواب نعم، باعتبار أنه يعلم من الآن أن الفائت في الوقت إما الصلاة قصرا
أو الصلاة تماما، فلهذا يجب عليه الاحتياط في خارج الوقت أيضا.
وأما على الثاني، فكما إذا تعلق رأيه بعدم وجوب السورة في الصلاة ثم حصل
له الشك وتردد في وجوبها في الوقت، ففي مثل ذلك يجب الاتيان بالصلاة مع
السورة بمقتضى قاعدة الاشتغال، سواء أتى بالصلاة بدون السورة أم لا، وإن كان
انكشاف الخلاف في خارج الوقت، فإن كان بعد الاتيان بما هو وظيفته في الوقت
لم يجب القضاء وإلا وجب، هذا بناء على أن المرجع في المسألة أصالة الاشتغال
دون البراءة، وأما إذا قلنا بأن المرجع فيها أصالة البراءة كما هو الصحيح،
فالمسألة خارجة عن محل الكلام.
466

تنبيهات:
الأول: أن المحقق الخراساني (قدس سره) قد ذكر أن محل النزاع في المسألة إنما هو في
الامارات التي قائمة على متعلقات الأحكام الشرعية دون الامارات التي قائمة
على نفس الأحكام الشرعية (1).
أما الأولى كما إذا قامت أمارة على عدم جزئية شيء للصلاة أو شرطية آخر
لها وكان في الواقع جزءا أو شرطا، مثال ذلك ما إذا كان مقتضى اطلاق الدليل
عدم وجوب السورة في الصلاة أو بنى على عدم وجوبها بدليل خاص أو أصل
عملي وكان في الواقع جزءا لها، ففي مثل ذلك إن قلنا بأن حجية الامارات
والأصول العملية من باب السببية والموضوعية، فلا مناص من الالتزام
بالاجزاء، وإن قلنا بأنها من باب الطريقية فمقتضى القاعدة عدم الاجزاء لا في
الوقت ولا في خارج الوقت.
وأما الثانية كما إذا قامت أمارة على وجوب صلاة الجمعة في يومها وكان
الواجب في الواقع هو صلاة الظهر، فإنها خارجة عن محل الكلام ولا تدل على
الاجزاء حتى على القول بالسببية والموضوعية، بدعوى أن قيامها على وجوب
صلاة الجمعة وإن أحدث مصلحة في مؤداها على القول بالسببية إلا أن تلك
المصلحة أجنبية عن مصلحة الواجب الواقعي وهو صلاة الظهر في المثال، ولا
تكون من سنخها حتى يمكن استيفائها بها، لأن وجوب صلاة الجمعة مباين
لوجوب صلاة الظهر ملاكا ومتعلقا، وعلى هذا فبطبيعة الحال لا يكون الاتيان
بصلاة الجمعة في يومها مجزيا عن صلاة الظهر، لأنها مجزية عن نفسها لا
عن غيرها.

(1) كفاية الأصول: 87.
467

والخلاصة: أن وجوب كل من الصلاتين وجوب واقعي ناشئ عن ملاك
خاص لا صلة لملاك إحداهما بملاك الأخرى، غاية الأمر أن وجوب صلاة الظهر
وجوب واقعي أولي ووجوب صلاة الجمعة وجوب واقعي ثانوي وهو مؤدى
الامارة، نعم لا يمكن الالتزام بتعدد الواجب في خصوص باب الصلاة من جهة
دليل خارجي على أن الواجب في كل يوم خمسة صلوات لا أكثر، فإذن لابد في
باب الصلاة من الالتزام بالانقلاب والاجزاء على القول بالسببية من جهة قرينة
خارجية، وأما في غير باب الصلاة فلا مانع من الالتزام بتعدد الواجب وعدم
الاجزاء، هذا.
وقد أورد على هذا التفصيل السيد الأستاذ (قدس سره) بما حاصله، أنه لا فرق بين
القسمين من الامارات على كلا القولين في المسألة هما القول بالسببية والقول
بالطريقية (1)، وقد أفاد في وجه ذلك أن لسان الامارات لسان الحكاية عن
الواقع وحصرها في مؤداها، فإنها تدل على ثبوت الواقع بالمطابقة وعلى نفيه عن
غير مؤداها بالالتزام، فالامارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة في يومها تدل
على وجوبها بالمطابقة وعلى نفي وجوب صلاة الظهر بالالتزام، وعلى الجملة
فالواقع واحد، فإذا قامت امارة عليه دلت على ثبوته مطابقة وعلى نفي غيره
التزاما.
تحصل أنه لا وجه لما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من التفصيل في المقام.
الثاني: أن محل النزاع في المسألة إنما هو في إجزاء الأمر الاضطراري عن
الأمر الواقعي والأمر الظاهري عنه على تفصيل تقدم.

(1) محاضرات في أصول الفقه 2: 281.
468

وأما إذا لم يكن في المسألة أمر اضطراري ولا أمر ظاهري وإنما هو مجرد
الاعتقاد بثبوت الواقع والقطع به فهو خارج عن محل النزاع، ضرورة أن القطع
لا يغير الواقع ولا يوجب انقلابه ولا يجعل ما ليس بواقع واقعا، لأنه طريق
إليه وكاشف عنه على ما هو عليه في الواقع، والكاشف يستحيل أن يؤثر
في المكشوف.
الثالث: أن مقتضى القاعدة بناء على ما هو الصحيح من أن حجية الامارات
من باب الطريقية والكاشفية وإن كان هو عدم الاجزاء في صورة المخالفة، ولكن
مع هذا يقع الكلام في مقامين:
المقام الأول في المجتهد.
المقام الثاني في المقلد.
أما الكلام في المقام الأول، فإذا ظهر عند المجتهد أنه أخطأ في مدرك فتواه مثلا
بعدم وجوب السورة في الصلاة، كما إذا كان بانيا على عدم وجوبها فيها من جهة
أصل لفظي كالاطلاق أو العموم أو أصل عملي كأصالة البراءة أو استصحاب
عدم وجوبها ثم تبين خطأه في ذلك وبنى على وجوبها، فهل مقتضى القاعدة
وجوب إعادة الصلوات التي صلاها بدون السورة؟
والجواب: نعم، أما في الوقت فلا اشكال في وجوبها، وأما في خارج الوقت
فمقتضى القاعدة وجوبها أيضا، لأنه وإن كان شاكا في فوتها واقعا إلا أنه غير
شاك في فوتها ظاهرا وهو موضوع لوجوب قضائها في خارج الوقت، غاية
الأمر ظاهرا لا واقعا، لأن وجوب الفائت إن كان ظاهريا فوجوب قضائه أيضا
ظاهري، وإن كان واقعيا فوجوب قضائه أيضا واقعي، وكذلك الحال بالنسبة
إلى مقلديه.
469

وأما الكلام في المقام الثاني، فإن كان ظهور الخطأ من جهة عدول المكلف من
مجتهد إلى مجتهد آخر، إما على أساس أن المجتهد الثاني أصبح أعلم من الأول أو
أنه كان أعلم منه من الابتداء ولكنه لا يدري بالحال، أو ظهر عنده أن الأول غير
واجد لشروط التقليد بسبب أو آخر أو غير ذلك، فهنا صور:
الأولى: ما إذا كان عدوله من مجتهد إلى مجتهد آخر من جهة أنه أصبح أعلم
منه بقاء.
الثانية: ما إذا كان ذلك من جهة أنه كان أعلم منه من الأول ولكنه
لا يعلم بالحال.
الثالثة: ما إذا كان ذلك من جهة أن الأول كان يفقد بعض شروط التقليد بقاء.
الرابعة: ما إذا كان ذلك من جهة أنه كان فاقدا لشروط التقليد من الأول وهو
لا يعلم بالحال.
الخامسة: ما إذا كان ذلك من جهة موت المجتهد الأول.
أما الصورة الأولى، فإن كان ذلك في الوقت وجبت الإعادة بمقتضى قاعدة
الاشتغال، وأما إن كان في خارج الوقت فيجب عليه القضاء، فإن علمه بفتوى
المجتهد الأول وإن كان عملا بالحجة في ظرفه، ضرورة أن الشئ لا ينقلب عما
كان عليه، إلا أنها سقطت عن الحجية والكشف بوصول فتوى الثاني صغرى
وكبرى، وهي حجة من الآن على اثبات مدلولها في تمام قطاعاته الزمنية الطولية
إلى زمن الشرع، وحينئذ ففوت الواقع واقعا في الوقت وإن كان غير محرز، إلا أن
فوته ظاهرا فيه محرز بنفس وصول حجية هذه الفتوى، وحيث أنها أقوى من
الأولى فعلا وتتقدم عليها، فلا تكون الأولى حجة في مقابلها وكاشفة عن ثبوت
470

مدلولها كذلك.
وأما الصورة الثانية: فتجب عليه الإعادة والقضاء، على أساس أن أعماله
السابقة كانت على خلاف الحجة في الواقع حتى في ظرفها وهي فتوى الأعلم.
وأما الصورة الثالثة: وهي ما إذا كان الرجوع إلى الثاني من جهة فقد الأول
بعض شروط التقليد بقاء، فهل في مثل ذلك إذا كانت فتوى المجتهد الثاني مخالفة
لفتوى المجتهد الأول وجوب الإعادة في خارج الوقت؟
والجواب: الظاهر عدم وجوبها، وذلك لأن فتوى الثاني لم تكشف عن
بطلان الأعمال السابقة لا واقعا ولا ظاهرا.
أما الأول، فهو واضح.
وأما الثاني، فلأنه منوط بأن تكون فتوى المجتهد الثاني أقوى من فتوى
المجتهد الأول وتتقدم عليها في مقام الكشف والمعارضة، والمفروض أنها ليست
كذلك لو لم يكن الأمر بالعكس، نعم أنها فعلا قد سقطت عن الحجية ولا تكون
مؤمنة، وأما في ظرف العمل بها فهي كانت حجة ومؤمنة وكاشفة، وليس كشف
فتوى الثاني أقوى من كشفها.
وأما الصورة الرابعة: وهي ما إذا كان المجتهد غير واجد لشروط التقليد من
الابتداء بسبب أو آخر، فالظاهر بطلان الأعمال السابقة التي تكون مخالفة لفتوى
المجتهد الثاني، باعتبار أنها مخالفة للحجة من الأول ولم تكن مستندة إليها واقعا
في ظرفها، ومقتضى القاعدة حينئذ وجوب إعادتها ظاهرا.
وأما الصورة الخامسة: وهي ما إذا مات المجتهد الأول ورجع إلى المجتهد
الحي، فهل تجب إعادة الأعمال الماضية التي كانت مطابقة لفتوى الميت
471

ومخافة لفتوى الحي، الظاهر عدم وجوب الإعادة، لأن فتوى الميت وإن سقطت من
الحجية فعلا إلا أنها كانت حجة في ظرف العمل بها، وفتوى الحي وإن كانت
حجة فعلا إلا أن دلالتها على ثبوت مدلولها في تمام فتراته الزمنية الطولية إلى
زمن الشرع تصادم مع فتوى الميت في ظرف حجيتها ودلالتها على ثبوت
مدلولها كذلك، ولا ترجيح في البين، وعلى هذا فلا تدل فتوى الحي على بطلان
الأعمال السابقة لا واقعا ولا ظاهرا، أما الأول فهو واضح، وأما الثاني فلأنه
منوط بتقديم فتوى المجتهد الحي على فتوى المجتهد الميت في ظرف حجيتها ولا
مبرر لذلك، حيث لا يكون كشف فتوى الحي عن الواقع أقوى من كشف فتوى
الميت عنه في ظرف اعتبارها، وحينئذ فلا تجب إعادة الأعمال السابقة في خارج
الوقت لا واقعا ولا ظاهرا.
هذا كله بحسب مقتضى القاعدة الأولية في المسألة.
وأما بحسب مقتضى القاعدة الثانوية في باب الصلاة فحسب، فلا تجب
الإعادة لا في الوقت ولا في خارجه إذا كان الاخلال بغير الأركان من الاجزاء
والشروط بمقتضى حديث لا تعاد (1)، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الاخلال
بالنسيان أو الجهل.
وعلى الثاني لا فرق بين أن يكون الجهل مركبا أو بسيطا، نعم إذا كان بسيطا
وكان مقصرا فلا تكون مشمولا لاطلاق الحديث.
وبكلمة إننا قد ذكرنا موسعا في بحث الفقه أن حديث لا تعاد لا يختص
بالناسي ويعم الجاهل بقسمية المركب والبسيط، غاية الأمر أنه إذا كان بسيطا

(1) الوسائل 6: 91، باب 29 من أبواب القراءة في الصلاة، ح 5.
472

فشمول اطلاق الحديث له منوط بأن لا يكون مقصرا وإلا فلا يكون مشمولا له
كالعالم العامد، وأما الجاهل المركب فهو مشمول لاطلاقه وإن كان مقصرا، وتمام
الكلام في ذلك في محله.
فالنتيجة، أن الاخلال في باب الصلاة بالأجزاء أو الشروط غير الركنية إذا
كان بالنسيان أو الجهل المركب وإن كان مقصرا أو البسيط، شريطة أن لا يكون
مقصرا لا يوجب الإعادة، وأما إذا كان الاخلال بالأجزاء أو الشروط الركنية
فهو يوجب الإعادة، وكذلك إذا كان الاخلال بالتكبيرة، فإنها وإن لم تكن
مذكورة في حديث لا تعاد إلا أنها ركن بمقتضى النصوص الخاصة.
ومن هنا يظهر أن وجوب الإعادة أو القضاء لم يثبت إلا فيما إذا كان الاختلاف
بين المجتهدين في الاجزاء أو الشرائط الركنية، هذا كله في باب العبادات.
وأما في باب المعاملات فحيث أن الاختلاف بين الفقهاء والمجتهدين في ذلك
الباب قليل فلا تظهر الثمرة إلا نادرا، باعتبار أنه لا تعتبر في صحة المعاملات
المالية ونفوذها صيغة خاصة ولغة مخصوصة، بل لا يعتبر فيها اللفظ فضلا عن
كونه بصيغة خاصة وتكفي فيها المعاطاة، وأما في باب النكاح فاعتبار لفظ خاص
كالعربية أو صيغة مخصوصة فهو المعروف والمشهور عند الفقهاء، وعلى هذا فإذا
أفتى فقيه بصحة النكاح بالمعاطاة أو بالفارسية وعقد على امرأة بالفارسية،
وحينئذ فإذا ظهر له أنه أخطأ في ذلك وبنى على اعتبار العربية في الصيغة وعدم
كفاية الفارسية، فعليه أن يجدد العقد عليها بالصيغة العربية، وكذلك إذا عدل
مقلده منه إلى غيره بسبب أو آخر وكان فتوى غيره باعتبار العربية في صيغة عقد
النكاح وعدم كفاية المعاطاة ولا الفارسية، فإن عليه أن يجدد العقد على امرأته
بالعربية، هذا إذا كان الموضوع باقيا وإلا فلا شيء عليه هذا من ناحية.
473

ومن ناحية أخرى إذا أفتى فقيه بجواز الذبح بالاستيل، فإذا ذبح أحد شاة به
اعتمادا على فتواه ثم عدل عنه إلى مجتهد آخر يرى عدم جواز الذبح به واعتبر أن
يكون بالحديد، فإن كانت الذبيحة باقية وجب عليه الاجتناب عنها، وإن لم
تكن باقية بأن أكلها أو أكلها غيره فلا شيء عليه لا تكليفا ولا وضعا، هذه نبذة
مختصرة حول الأحكام المترتبة على اختلاف المجتهدين في الفتوى في بابي
العبادات والمعاملات، وتفصيل الكلام في ذلك في باب الاجتهاد والتقليد.
نتائج البحث عدة نقاط:
الأولى: أن الأقوال في تفسير حجية الامارات من باب الطريقية والكاشفية
أربعة وقد تقدم نقطة الاشتراك بين هذه الأقوال ونقطة الامتياز بينها وما يترتب
عليها من الآثار.
الثانية: أن الأقوال الرئيسية في تفسير حجية الامارات من باب السببية
والموضوعية ثلاثة، وتقدم ما هو الفرق بين هذه الأقوال وما هو الممكن منها وما
هو المستحيل وما يترتب عليها من الآثار فلاحظ.
الثالثة: أن هناك فروضا أخرى للقول بالتسبيب:
الفرض الأول: الالتزام بوجود مصلحة في المؤدي، وهذه المصلحة إن كانت
مسانخة لمصلحة الواقع، فحينئذ إن كانت أقوى منها انقلب الواقع من الواقع
الأولي إلى الواقع الثانوي وهو مؤدى الامارة، ولا زم هذا القول التصويب
والاجزاء، وإن كانت مساوية لها انقلب الواجب إلى الجامع بين الواقع والمؤدى،
فيكون الواجب أحدهما، ولا زم هذا أيضا التصويب والاجزاء، وأما إذا لم تكن
مصلحة المؤدى مسانخة لمصلحة الواقع ومباينة لها، فعندئذ لا تصويب ولا
إجزاء، ولكن هذا الفرض لا يمكن في باب الصلاة لاستلزام ذلك كون الواجب
474

أكثر من خمس صلوات في اليوم وهو لا يمكن، وأما في سائر الأبواب فلا مانع من
هذا الفرض.
الفرض الثاني: الالتزام بوجود مصلحة في نفس جعل الحكم الظاهري
وينتهي مفعولها بانتهاء الجعل، وهذا الفرض لا يستلزم التصويب ولا الاجزاء.
الفرض الثالث: الالتزام بوجود مصلحة في مؤدى الامارة المخالفة للواقع بما
هو مؤدى الامارة المخالفة، وذكر هذا الفرض المحقق الأصبهاني (قدس سره) وفيه نظر وقد
تقدم تفصيله.
الرابعة: أن المحقق الخراساني (قدس سره) قد فصل في الأصول العملية بين ما إذا كان
مفادها جعل الحكم الظاهري بلسان احراز الواقع والنظر إليه، وما إذا كان
مفادها جعل الحكم الظاهري بلسان جعل الحكم المماثل للواقع ابتداء من دون
نظر إلى الواقع، فعلى الأول لا يجزى عن الواقع وعلى الثاني يجزى عنه كأصالة
الطهارة وأصالة الحلية واستصحابهما، فإنها توسع دائرة الشرط وتجعله الأعم
من الطهارة الواقعية والظاهرية والحلية الواقعية والظاهرية، فدليل الأصالة
حاكم على دليل الشرط وينقح صغرى له ويجعله الأعم من الشرط الواقعي
والشرط الظاهري، غاية الأمر أن الحكومة إن كانت واقعية فتوسع دائرة الواقع
واقعا، وإن كانت ظاهرية فتوسع دائرة الشرط ظاهرا.
الخامسة: قد علق المحقق النائيني والسيد الأستاذ (قدس سرهما) على ما ذكره صاحب
الكفاية (قدس سره) بوجوه:
الأول: أن الحكومة عنده (قدس سره) منحصرة في التفسير اللفظي وبكلمة يعني، ومن
الواضح أن لسان دليل أصالة الطهارة وأصالة الحلية واستصحابهما ليس لسان
التفسير والنظر فإذن لا حكومة، وقد وجه بعض المحققين (قدس سره) بأن مراده من
475

الحكومة في المقام الورود واثبات موضوع جديد للشرطية وهو الطهارة
الظاهرية أو الحلية الظاهرية، وهذا التوجيه غير بعيد كما تقدم.
الثاني: أن هذه الحكومة، حكومة ظاهرية لا واقعية ومنوطة بجهل المكلف
بالواقع وعدم علمه، فإذا ارتفع الجهل وأصبح عالما بالواقع انكشف أنه لم يعمل
به، فإذن يجب عليه العمل به، وهذا معنى عدم إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر
الواقعي، وهذا الوجه لا بأس به، ولا يرد عليه ما أورده بعض المحققين (قدس سره) على
تفصيل تقدم.
الثالث: أن أصالة الطهارة لو كانت حاكمة على دليل شرطية الطهارة للصلاة
لكانت حاكمة على دليل شرطية طهارة الماء للوضوء والغسل مع أن الأمر ليس
كذلك، بداهة أنه لو توضأ بماء محكوم بالطهارة بمقتضى أصالة الطهارة ثم انكشف
أنه كان نجسا في الواقع، لم يمكن الحكم بصحة هذا الوضوء، وقد تقدم أن المحاولة
لدفع هذا النقض غير سديدة.
الرابع: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن مفاد موثقة عمار لا يخلو من أن يكون
جعل الطهارة الظاهرية أو توسعة دائرة شرطية الطهارة، ولا يمكن أن تكون
الموثقة متكفلة لكلا الأمرين معا، وحيث أن الظاهر منها الأمر الأول، فلا يمكن
إرادة الأمر الثاني منها، وما أورده بعض المحققين (قدس سره) من الاشكال على هذا الوجه
لا يخلو عن تأمل على تفصيل تقدم.
السادسة: أن مفاد الموثقة جعل الطهارة الظاهرية التي هي من الاحكام
الظاهرية الترخيصية، وهي أحكام عذرية مجعولة بغرض التسهيل على نوع
المكلفين ولا تؤثر في الواقع، ولهذا لا موضوع للاجزاء، لأن الواقع بماله من
الملاك قد ظل بحاله والاجزاء منوط بتدارك ملاكه والمفروض عدم التدارك،
476

وكذلك مفاد دليل أصالة الحل، وأما دليل الاستصحاب فلا يكون متكفلا لجعل
حكم ظاهري مماثل أو مخالف، فإن كان مطابقا للواقع فالثابت هو الحكم
الواقعي وإلا فلا شيء في مورده، ومن هنا قلنا أنه لا حكومة لقاعدة الطهارة
على أدلة شرطيتها، فإن حكومتها عليها منوطة بتوفر أمرين:
الأول: أن تكون الطهارة الظاهرية العذرية دخيلة في الملاك كالطهارة
الواقعية.
الثاني: أن يكون ذلك بلسان التنزيل، وكلا الأمرين مفقود في المقام، ومع
الاغماض عن ذلك فالحكومة ظاهرية وعذرية، فلذلك لا يتصور فيها الاجزاء،
فإن المكلف طالما يكون جاهلا بطهارة الثوب ونجاسته يعامل معه معاملة الطاهر
فيصلي فيه، وحينئذ فإذا انكشف الخلاف وظهر أنه لم يأت بالصلاة في الثوب
الطاهر ولا استوفى ملاكها، وجب عليه الاتيان بها فيه، سواء كان في الوقت أم
خارج الوقت على تفصيل تقدم.
السابعة: أن القول بالتفصيل بين ما إذا كان انكشاف الخلاف بالعلم الوجداني
وما إذا كان بالعلم التعبدي، فعلى الأول لا مقتضى للأجزاء لأنه لم يأت لا
بالمأمور به بالأمر الواقعي ولا بالمأمور به بالأمر الظاهري، وعلى الثاني يجزي
ولا يبتني على أساس مقبول، فالصحيح عدم الاجزاء مطلقا بلا فرق بين ما إذا
كان انكشاف الخلاف بالعلم الوجداني وما إذا كان بالعلم التعبدي، وقد تقدم
ذلك موسعا.
هذا آخر ما أوردناه في هذا الجزء
والحمد لله أولا وآخرا.
477