الكتاب: المحكم في أصول الفقه
المؤلف: السيد محمد سعيد الحكيم
الجزء: ٤
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٤ - ١٩٩٤ م
المطبعة: جاويد
الناشر: مؤسسة المنار
ردمك:
ملاحظات:

المحكم
في
أصول الفقه
1

المحكم في أصول الفقه
تأليف
السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم
الجزء الرابع
مؤسسة المنار
3

الطبعة الأولى
1994 / 1414
حقوق الطبع محفوظة
اسم الكتاب: المحكم في أصول الفقه ج 4
اسم المؤلف: السيد محمد سعيد الحكيم
الفلم والألواح الحساسة: حميد / قم
المطبعة: جاويد
الكمية: 1000 نسخة
السعر: 4500 ريال
الطبعة: الأولى
4

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين،
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل
عقدة من لساني يفقهوا قولي، أنت حسبي
ونعم الوكيل، ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم، عليه توكلت وإليه أنيب.
6

المقصد الثاني
في الأصول العملية
7

المقصد الثاني
في الأصول العملية
وهي الوظائف المقررة عقلا أو شرعا للجاهل بالأحكام الذي لا حجه له
عليها.
وقد تقدم في التمهيد لهذا القسم أن الرجوع إليها مع عدم الحجة مشروط
بأن لا يدل دليل على وجوب الفحص عن الحجة أو الواقع، والا كان اللا زم
الفحص أولا ثم الرجوع إليها بعد اليأس عن الظفر بهما، لان دليل وجوب
الفحص يكون واردا على الأصل العقلي ومخصصا لدليل الأصل الشرعي، كما
يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
ينبغي التمهيد لمحل الكلام بتقديم أمور..
الامر الأول: أنه تقدم في الفصل الثالث من مباحث القطع التعرض
لحقيقة الأصول الش رعية.
وأما الأصول العقلية فهي متقومة بحكم العقل بالتنجيز والتعذير، ومرجع
الأول إلى تحسين العقاب على مخالفة التكليف الواقعي في ظرف الجهل به
المستلزم لاحتمال الضرر المقتضي للحذر، ومرجع الثاني إلى تقبيح العقاب
عليه المستلزم للأمن منه بضميمة العلم بعدم خروج الشارع عن مقتضى الحكم
المذكور، فلا يبقى معه موضوع للحذر.
نعم، حكم العقل بالتعذير والتنجيز..
9

تارة: يكون بسبب الجعل الشرعي لما يستتبعهما من الحجة أو الأصل.
وأخرى: يكون استقلالا منه لمحض الشك وعدم البيان الشرعي.
والمراد بالأصل العقلي هو الثاني. ومن ثم كان الأصل الشرعي واردا على
الأصل العقلي رافعا لموضوعه.
هذا، ولو كان مفاد البيان الشرعي محض الارشاد لحكم العقل والجري
عليه كان مؤكدا له، لا رافعا لموضوعه. ولا يكون البيان الشرعي حينئذ متعرضا
لأصل شرعي، لينافي ما ذكرنا من ورود الأصل الشرعي على العقلي.
الامر الثاني: أنه لا ريب عندهم في تقديم الطرق والامارات على الأصول
عقلية كانت أو شرعية، وأن الرجوع للأصول مختص بصورة عدم الحجة في
الواقعة.
كما لا إشكال في أن تقديم الحجج على الأصول العقلية بالورود الراجع
إلى ارتفاع موضوعها بها، كما أشرنا إليه في الامر الأول.
والكلام إنما هو في أن تقديم الحجج على الأصول الش رعية بالورود أو
الحكومة أو التخصيص. والكلام في ذلك موقوف على النظر في أدلة الأصول،
ومن ثم كان المناسب لذلك بعد الكلام في الأصول والنظر في أدلتها.
وأما ما قد يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن مؤديات الطرق والحجج لما
كانت هي الاحكام الواقعية، ومؤديات الأصول هي الاحكام الظاهرية، فحيث
تقدم في أول مباحث الحجج عدم التنافي بين الاحكام الواقعية والظاهرية،
لتقدم الأولى رتبة على الثانية، لان موضوع الاحكام الظاهرية هو الجهل
بالأحكام الواقعية تعين تقديم الطرق على الأصول، لارتفاع موضوع الأصول
بالطرق.
فهو لا يخلو عن إشكال، لان مدعي التعارض والتنافي بين الأصول
والطرق لا يدعي التنافي بين الأصل ونفس الطريق، الذي يكون مؤداه حكما
10

واقعيا، بل التنافي بين دليل الأصل ودليل حجية الطريق، ومن الظاهر أن مفاد
دليل حجية الطريق ليس حكما واقعيا، بل ظاهري، كمؤدى دليل الأصل.
وبالجملة: عدم التنافي بين الاحكام الواقعية والظاهرية لا يستلزم تقديم
الطرق على الأصول، إذ المعيار في تقديم الطريق على الأصل تقديم دليل حجية
الطريق على دليل الأصل، ومن الظاهر أن مفاد الدليلين معا حكم ظاهري لا
واقعي ولذا لو فرض أخذ عدم جريان الأصل في موضوع حجية الطريق، بحيث
يكون جريان الأصل رافعا لموضوعها لزم تقديم الأصل عليه، وإن كان مؤدى
الأصل حكما ظاهريا ومؤدى الطريق حكما واقعيا، كما تقدم في أواخر الكلام
في المقدمة الثانية من مقدمات دليل الانسداد.
الامر الثالث: الأصول العملية التي اهتم المتأخرون بتنقيح مجاريها
وتبويبها أربعة: البراءة، والاشتغال، والتخيير، والاستصحاب. وهي تشترك في
الجريان في الأحكام التكليفية. ولم يتعرضوا لأصالة الطهارة، مع أنها تجري
في الشبهات الحكمية أيضا، فهي من المسائل الأصولية..
إما لما قيل من أنها من الأصول المتفق عليها، فلا تحتاج إلى الاستدلال.
أو لانصراف اهتمامهم بالشك في الأحكام التكليفية، لأهميتها وكثرة
الابتلاء بها، بخلاف الطهارة ونحوها من الأحكام الوضعية، فإنه يقل الابتلاء بها.
أو لتخيل كون الطهارة كسائر الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية
، فهي راجعة إليها، فيكون الشك فيها شكا في الأحكام التكليفية، التي
هي مجرى الأصول المتقدمة. ولعله إليه يرجع ما عن شيخنا الأعظم قدس سره من
رجوع أصالة الطهارة إلى أصالة البراءة.
أو لتخيل كونها من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع، لا من
الأحكام الشرعية، فالشبهة فيها موضوعية لا حكمية.
ولعل الأقرب في وجه إعراضهم هو الثاني.
11

هذا، والمقصود بيان وجه إعراضهم عن تحريرها، لا تصحيح الاعراض
المذكور، فلا يهم كون هذا الوجه كأكثر الوجوه أو كلها موردا للاشكال، كما
تعرض لذلك غير واحد بما لا يسعنا إطالة الكلام تيه.
ثم إن قاعدة: (ما لا يضمن بصحيحة لا يضمن بفاسده)، وإن كانت تنفع
في كثير من الشبهات الحكمية وتقع في طريق الاستنباط، إلا أنها إما أن تكون
قاعدة اجتهادية واقعية، أو ظاهرية راجعة إلى استصحاب عدم الضمان، وليست
أصلا برأسه، وكذا أصالة اللزوم قي العقود.
الامر الرابع: تقدم في أوائل الفصل الثالث من مباحث القطع أن عموم
الاحكام الواقعية لحال الجهل بها هو مقتضى إطلاق أدلتها أو عمومها، خلافا لما
عن بعض الأعاظم قدس سره من قصور إطلاقها عن ذلك، وان ثبوتها أو ارتفاعها
محتاج إلى جعل آخر متمم للجعل الأول تابع لعموم ملاكها وقصوره.
هذا كله في ثبوتها واقعا. واما الحكم الظاهري الثابت في حال الجهل بها،
الذي هو مفاد الأصل فهو حكم آخر أجنبي عن الحكم الواقعي، محتاج إلى
جعل آخر غير جعله، لا دخل له به، وليس متمما له، لأنه من سنخ آخر غير
سنخه، ومجرد تبعيته لأهمية ملاكه في الجملة - كما في الاحتياط والبراءة -
إنما يقتضي كونه حكما طريقيا. لا أنه مجعول بجعل متمم لجعل الحكم الواقعي
بعد ما أشرنا إليه من اختلاف سنخهما.
فما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره من أن امتناع عموم جعل الاحكام الواقعية
لحال الجهل بها يقتضي جعل الحكم الظاهري بجعل آخر متمم للجعل الأول،
نظير جعل الامر بقصد التقرب، بناء على مسلكه، خلط بين ثبوت الحكم
الواقعي حال الجهل وجعل الحكم الظاهري حاله. فراجع ما ذكره في حديث
الرفع وتأمل جيدا.
الامر الخامس: أشار غير واحد إلى مسألة: (الأصل في الأشياء الحظر
12

أو الإباحة)، ولا يخلو المراد بها عن إجمال، ويستفاد منهم حملها على
أحد وجوه..
الأول: أن يكون النزاع في أنه مع قطع النظر عن جعل الحكم الشرعي،
فهل يحكم العقل بإباحة الافعال أو المنع عنها؟ بمعنى: أن الفعل هل يكون منشأ
لاستحقاق العقاب عقلا ما لم يرخص فيه الشارع، أو لا يكون كذلك ما لم يمنع
عنه الشارع.
الثاني: أنه بعد فرض ورود الحكم الشرعي في الواقعة فهل الأصل كون
الحكم هو الإباحة أو الحظر، على أن يكون المراد بالأصل هو الوجه الواقعي
الذي يكون عليه الشئ لو خلي وطبعه، فتكون هذه القاعدة من القواعد
الاجتهادية الواقعية. وربما يظهر هذا مما عن المحقق القمي قدس سره.
الثالث: أنه مع فرض ورود الاحكام من الشارع والجهل بها فهل يحكم
العقل بجواز الاقدام على الفعل ما لم يثبت المنع الشرعي، أو بالمنع ما لم يثبت
الترخيص الشرعي؟ فتكون من القواعد الظاهرية العقلية الجارية مع الجهل
بالحكم الشرعي. وهذا هو الظاهر من الفصول.
أما على الأول، فتكون القاعدة أجنبية عما نحن فيه من النزاع في البراءة
والاشتغال، لكون موضوع النزاع المذكور الشك في الحكم الشرعي، والقاعدة
واردة في ظرف عدمه.
إلا أنه لا يبعد حينئذ ملازمة القول بالحظر للقول بالاشتغال العقلي، إذ من
البعيد جدا الالتزام بعدم جواز الاقدام مع فرض عدم الحكم الشرعي، وجوازه
مع فرض الشك، بل منع الاقدام مع عدم الترخيص الشرعي يناسب المنع منه
مع الشك فيه جدا.
نعم، لا ينافي القول بالحظر الالتزام بالبراءة الشرعية، كما أن القول
بالإباحة في القاعدة المذكورة لا يلازم البراءة العقلية، فضلا عن الشرعية في
13

المقام بعد فرض ورود الحكم الشرعي، إذ لا بعد في الالتزام بالاحتياط فيه
شرعا أو عقلا، مع الإباحة والسعة في فرض عدم وروده.
وأما على الثاني، فالتباين بين المسألتين ظاهر جدا، لكون الأولى واقعية
والثانية ظاهرية، إلا أنه لا يبقى للثانية موضوع مع الأولى إذ لا موضوع للأصل
مع الدليل الاجتهادي، فيكون النزاع في الثانية مع البناء على أحد الوجهين في
الأولى علميا محضا، من دون فرق بين الاحتياط والبراءة الشرعيين والعقليين.
نعم، لو فرض اختصاص القاعدة الأولى بالشبهة التحريمية يظهر أثر
الثانية في غيرها.
وأما على الثالث، فالمسألة المذكورة عين مسألة البراءة والاحتياط
العقليين، وانما تباين مسألة البراءة والاحتياط الشرعيين لا غير. كما أنه لو فرض
اختصاصها بالشبهة التحريمية كانت مسألة البراءة والاحتياط العقليين أعم منها.
هذا، وحيث كانت هذه المسألة على الوجهين الأولين مما له الدخل في ما
نحن فيه كان المناسب التعرض لما هو الحق عليهما.
فنقول: لا ينبغي الريب في أن الحق على الوجه الأول هو الإباحة، وأن
استحقاق العقاب مشروط بالمنع الشرعي.
ومجرد ملكه تعالى للمكلف ولأفعاله لا يقتضي عقلا إلا سلطانه على
منعه ونفوذ تشريعه في حقه، لا امتناعه عما لم يرخصه فيه. ومن ثم كان المرتكز
عرفا احتياج المنع إلى الجعل والبيان.
ولا مجال لقياس ذلك بالملكية الاعتبارية، حيث أنها تقتضي ارتكازا
حرمة التصرف في المملوك ما لم يرخص فيه المالك، بل ما لم يثبت الترخيص
منه. لان مصحح اعتبار الملكية عرفا ترتب أحكام الملك الارتكازية شأنا، ومنها
استقلال المالك بالتصرف في الملك وتوقف تصرف غيره فيه على إذنه، كما
هو الحال في جميع الأحكام الوضعية، فإنها وان كانت مستقلة بالجعل غير
14

منتزعة من الأحكام التكليفية، إلا أن مصحح اعتبارها ترتب بعض الأحكام
المناسبة لها شأنا واقتضاء، وهذا بخلاف الملكية الثابتة له تعالى، فإنها سنخ آخر
لا تقتضي عقلا إلا ما ذكرنا من سلطانه تعالى على المنع.
على أن الوجه المذكور مبتن على فرض خلو الواقعة عن الحكم، وهو
فرض لا واقع له.
وأما على الوجه الثاني، فالظاهر هو التوقف، ولا طريق لاثبات أحد
الحكمين.
ومجرد ملكه تعالى للعبد وأفعاله لا يقتضي الحرمة الواقعية الشرعية..
أولا: لعدم الدليل على حرمة التصرف شرعا مع مثل هذه الملكية
الحقيقية منه تعالى، وإنما ثبتت حرمة التصرف من غير إذن المالك مع الملكية
الاعتبارية بدليل خاص.
وثانيا: لاحتمال ترخيصه تعالى واقعا.
كما لا مجال للاستدلال على الإباحة بأنها منفعة خالية عن أمارات
المفسدة، كما عن القوانين. لعدم كفاية ذلك - لو تم - في إثبات الإباحة الواقعية.
وأما الوجه الثالث، فحيث كان راجعا إلى محل الكلام فيظهر الحال فيه
مما يأتي إن شاء الله تعالى.
الامر السادس: عرفت أن المهم في المقام هو الكلام في الأصول الأربعة.
وقد اهتم غير واحد بتحديد مجاريها قبل البحث عنها، وهو تكلف لا داعي له،
الان التحديد المذكور يبتني على الكلام فيها وفي أدلتها، وهو يختلف باختلاف
الأنظار، فالأنسب الاعراض عن ذلك، وإيكاله إلى ما يظهر بعد الكلام فيها
والانتهاء منها، إن شاء الله تعالى.
نعم، ينبغي التعرض هنا لمنهج البحث وتبويبه..
فنقول: بعد فرض عدم قيام الحجة في الواقعة..
15

فتارة: لا تؤخذ الحالة السابقة في الوظيفة العملية، بل لا يلحظ فيها إلا الشك
المفروض.
وأخرى: تؤخذ الحالة السابقة زيادة على الشك. فالقسم الأول هو مجرى
البراءة أو الاحتياط أو التخيير، والثاني هو مجرى الاستصحاب.
ثم الشك في القسم الأول..
تارة: يكون في أصل التكليف الإلزامي، أعني الوجوب أو المحرمة.
وأخرى: يكون في تعيينه مع وحدة المتعلق، وهو الدوران بين وجوب
شئ وحرمته.
وثالثة: في تعيينه مع اختلاف المتعلق، سواء اتحد سنخه، كما في
الدوران بين وجوب القصر ووجوب التمام، أم اختلف، كما في الدوران بين
وجوب شئ وحرمة آخر.
فهذه صور ثلاث للقسم الأول.
وهناك صورة وقع الكلام في رجوعها للصورة الأولى أو الثالثة، وهي
الدوران بين الأقل والأكثر ارتباطيين، فالمناسب إفرادها بالكلام، فتكون صور
هذا القسم أربعة.
هذا، وشيخنا الأعظم قدس سره قد جرى في البحث في كل من هذه الصور على
تقسيم البحث..
تارة: من حيث اختلاف موضوع الشك بلحاظ خصوصيتي الوجوب
والحرمة.
وأخرى: من حيث اختلاف منشأ الشك، حيث أنه قد ينشأ من عدم
النص، أو إجماله، أو تعارض النصين، أو اشتباه الموضوع الخارجي. ولذا
تكثرت المسائل في كلامه حتى بلغت أربعا وعشرين.
لكن الجهة الأولى لا تقتضي تكثير الأقسام بعد اتحاد الخصوصيتين في
16

ملاك البحث، وفي أهم أدلة المسألة، ومجرد شيوع الخلاف في الشبهة
التحريمية لا يكفي في ذلك.
نعم، قد يختلفان في بعض الجهات الأخرى الخارجة عما هو المهم
في المقام، لكن ذلك يقتضى التعرض لها استطرادا من دون حاجة إلى تكثير
المسائل.
وكذا الحال في الجهة الأخرى، فإن عدم النص واجماله وتعارض النصين
تشترك في ما هو المهم في المقام بعد فرض تحقق موضوع الأصل، وما يمتاز به
تعارض النصين من احتمال حجية أحدهما المانع من جريان الأصل ينبغي
ايكاله إلى مباحث التعارض، ولا وجه لذكره هنا، كي يحتاج لتكثير الأقسام.
وأما الاشتباه في الموضوع فمن الظاهر خروجه عن محل الكلام، إذ هم
الأصولي تشخيص الوظيفة في الشبهة الحكمية الراجعة إلى الشك في الحكم
الشرعي الكلي، حيث أنها هي التي تقع في طريق استنباط الاحكام الفرعية.
نعم، ملاك البحث غالبا يعم الشبهات الموضوعية، وإن كانت قد تنفرد
ببعض الخصوصيات، فينبغي التعرض لها استطرادا تتميما للفائدة من دون
حاجة لتكثير الأقسام.
ومن ثم كان ما صنعه المحقق الخراساني قدس سره من اختصار أقسام البحث هو
الأولى. ولذا فسيكون البحث في كل صورة من صور هذا القسم الأربعة في
فصل واحد إن شاء الله تعالى.
هذا، والكلام في هذا القسم بفصوله الا ربعة مختص بالشك في التكليف
الإلزامي، أعني الوجوب أو الحرمة، دون بقية الأحكام التكليفية، وان كان ربما
يلحقها الكلام في بعض الجهات الاستطرادية، على ما قد ننبه عليه إن شاء الله
تعالى.
أما الكلام في القسم الثاني وهو ما يؤخذ فيه الحالة السابقة فإنه يجري
17

في جميع الأحكام التكليفية، بل الوضعية أيضا، بل الموضوعات الخارجية، وإن
لم تكن مورد البحث بالأصالة.
وحيث عرفت هذا، فيقع الكلام في قسمين..
18

القسم الأول
في البراءة والاحتياط والتخيير
19

القسم الأول
في البراءة والاحتياط والتخيير
وفصوله أربعة..
الفصل الأول
في الشك في أصل التكليف
والمشهور المعروف الرجوع فيه للبراءة، ونسب لقاطبة الأصوليين.
وعن معظم الأخباريين أو قاطبتهم وجوب الاحتياط في الشبهة
التحريمية الحكمية، وعن المحدث الاسترآبادي وجوب الاحتياط في الشبهة
الوجوبية الحكمية أيضا، وفي محكي كلام المحدث البحراني موافقته فيها مع
إجمال النص.
لكن في محكي كلام آخر له إطلاق الاجماع على عدم وجوب الاحتياط
في الشبهة الوجوبية، ونفى عنه الخلاف في الوسائل (1).
كما أن الظاهر عدم الخلاف في الرجوع للبراءة في الشبهة الموضوعية
مطلقا تحريمية كانت أو وجوبية، وإن ذهب غير واحد إلى وجوب الاحتياط في

(1) ج 18، في ذيل الحديث: 28 من باب: 12 من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء.
21

بعض الموارد، مثل الشك في عدد الفوائت، لتخيل كون الشك فيها في الفراغ، لا
في أصل التكليف.
وكيف كان، فالحق الرجوع للبراءة العقلية والشرعية مطلقا.
وينبغي الكلام هنا في مقامين..
الأول: في مقتضى الأصل الأولي مع فرض عدم البيان الشرعي حتى
بالإضافة للوظيفة العملية مع الجهل بالتكليف الواقعي.
الثاني: في الأصل الثانوي المستفاد من الأدلة الشرعية الواردة لبيان حكم
الجهل بالتكليف الشرعي الواقعي.
ولا ينبغي الخلط بينهما مع اختلاف مفاد الأدلة المستدل بها في المقام.
أما الأول: فلا ينبغي الريب في حكم العقل بالبراءة في المقام، الراجع إلى
حكمه بقبح العقاب من غير بيان، وهو المراد بالبراءة العقلية، فإن هذا
يقتضي السعة في باب التكاليف المبنية على الالزام والاحتجاج والمؤاخذة وهو
لا ينافي لزوم الاحتياط مع الاحتمال فيما لو تعلق الغرض بإصابة الواقع، كما
في الاضرار الواقعية التي يهتم بتجنبها.
هذا، ولا يبعد كون الحكم المذكور مسلما عند الكل.
نعم، لو فرض كون مراد القائلين بأن الأصل في الأشياء الحظر هو الأصل
الظاهري، بعد ورود الحكم الشرعي - الذي هو مرجع الوجه الثالث من الوجوه
المتقدمة عند الكلام في الأصل المذكور - كان ذلك منهم إنكارا للحكم العقلي
المذكور. لكنه في غير محله قطعا، لان الحكم العقلي المذكور قطعي ارتكازي.
والاستدلال للحظر: بأن ملكه تعالى للعبد وأفعاله يقتضي عدم تصرف
العبد مع الشك في إذنه، إذ لا يجوز التصرف بملك الغير بمجرد احتمال إذنه.
في غير محله، كما يظهر مما سبق من أن ملكيته تعالى الحقيقية لا تقاس
بالملكية الاعتبارية، بل هي لا تقتضي إلا سلطانه تعالى على العبد بتكليفه له،
22

ولا بد في تنجز التكليف عقلا من بيان شرعي، وان كان بوجوب الاحتياط، ومع
عدمه فالعبد في سعة من أمره، يقبح عقابه ومؤاخذته بمجرد الاحتمال.
ومثله ما عن شيخ الطائفة قدس سره من الاستدلال على أن الأصل في الأشياء
الحظر، أو الوقف: بأن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما لا يؤمن من مفسدته،
وأنه كالاقدام على ما علم مفسدته.
لاندفاعه: بأن الحكم المذكور إن رجع إلى حكمه بقبح الاقدام على
احتمال الضرر، فهو لا يقتضي احتمال العقاب، لينافي حكم العقل بقبح العقاب
من غير بيان. وإن رجع إلى التقبيح المستلزم للحكم الشرعي المستتبع للعقاب
فهو ممنوع. وقد تقدم في الوجه الأول للاستدلال على حجية مطلق الظن ما
ينفع في المقام.
وكيف كان، فالظاهر أن الحكم المذكور مسلم عند الأخباريين، وأن
نزاعهم في المقام لا يبتني على إنكاره، بل على دعوى المخرج عنه، من بيان
شرعي وارد عليه، رافع لموضوعه، على مما يأتي الكلام فيه.
ومن ثم استدل شيخنا الأعظم قدس سره بالاجماع من المجتهدين والأخباريين
على أن الحكم في ما لم يرد فيه دليل عقلي أو نقلي على تحريمه من حيث هو
ولا من حيث أنه مجهول الحكم هو البراءة، وعدم العقاب على الفعل.
وان كان الاستدلال على الاحكام العقلية بالأدلة الشرعية لا مجال له، إلا أن
يكون لمجرد الاستظهار لسوق الأدلة الشرعية مساق الارشاد للحكم العقلي
المذكور.
أو يكون المراد أنه لو فرض التشكيك في الحكم العقلي المذكور أمكن
الاستدلال بالأدلة الشرعية على الأصل المذكور، كأصل شرعي أولي، فلا يكون
مرجع الاجماع إلى قبح العقاب، ليكون إرشادا لحكم العقل، بل إلى مجرد تأمين
الشارع منه.
23

لكن الاستدلال بالاجماع لا يخلو عن إشكال، لقرب استناد المجمعين
لحكم العقل المذكور، أو لغيره مما يأتي الكلام فيه، فلا يكون إجماعا تعبد يا
كاشفا عن الحكم الشرعي.
وأما ما يأتي من الاستدلال بسيرتهم في مقام الاستدلال على الرجوع
للبراءة فلعله إجماع منهم على الأصل الثانوي، لمثل حديث الرفع، لا على
الأصل الأولي الذي هو محل الكلام.
ثم إنه قد يستدل على الأصل المذكور - بعد حكم العقل والاجماع
المتقدمين - بأدلة من الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: (وما كنا معذبين
حتى نبعث رسولا) (1) بناء على أن بعث الرسول كناية عن وصول البيان، لا
مجرد البعث وان لم يصل البيان، فإن ذلك هو المناسب لظهور كون القضية
ارتكازية - كما هو المناسب لسياقها - لما هو المرتكز عرفا من توقف العقاب
على البيان.
نعم، لو كانت بصدد بيان لزوم بعث الرسل على الله تعالى لحفظ
الملاكات الواقعية وايصالها للمكلفين، من باب اللطف الذي لا ينافي اختفاء
البيان لطوارئ خارجية ناشئة من المكلفين أنفسهم، كانت أجنبية عما نحن فيه،
إلا أنه لا يناسب إناطة العقاب به ارتكازا.
فالانصاف ظهورها في عدم العقاب من دون بيان، كما هو مفاد حكم
العقل في المقام.
وقد أورد شيخنا الأعظم قدس سره على الاستدلال المذكور: بأن ظاهر الآية
الشريفة الاخبار بوقوع التعذيب، سابقا بعد البعث، فيختص بالعذاب الدنيوي
الواقع في الأمم السابقة.

(1) سورة الإسراء: 15.
24

وكأنه لما اشتهر من دلالة (كان) على النسبة في الزمان الماضي. لكن
الظاهر انسلاخها في المقام ونحوه عن ذلك، وتمحضها لبيان أصل النسبة، فيدل
هذا التركيب على نفي النسبة المذكورة، بل على أنه ليس من شأنها الوقوع، نظير
قوله تعالى: (وما كنت متخذ المضلين عضدا) (1)، وقوله سبحانه: (وما كان
الله معذبهم وهم يستغفرون) (2)، وقوله عز وجل: (وما كان عطاء ربك
محظورا) (3)، وقوله جل شأنه: (وما كان ربك نسيا) (4)، إلى غير ذلك مما
سلط فيه النفي على (كان) وأريد به بيان لزوم النفي، فيناسب المقام.
نعم، لو سلطت (كان) على النفي كانت ظاهرة في الزمان الماضي، كما في
قوله تعالى: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) (5)، وقوله سبحانه: (إنهم كانوا
لا يرجون حسابا) (6)، ومنه لو قيل في المقام: (كنا لا نعذب حتى...)
هذا، مع ظهور العذاب في ما يعم العذاب الأخروي أو يخصه، ولا سيما
بملاحظة سوق الآية في سياق آيات استحقاق العذاب الأخروي، لبيان قضايا
ارتكازية، قال تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة
كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا * من اهتدى
فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما
كنا معذبين حتى نبعث رسولا * وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها...) (7).

(1) سورة الكهف: 51.
(2) سورة الأنفال: 33.
(3) سورة الإسراء: 20.
(4) سورة مريم: 64.
(5) سورة المائدة: 79.
(6) سورة النباء: 27.
(7) سورة الإسراء: 13 - 16
25

على أنه لو تم ما ذكره قدس سره فمن الظاهر عدم سوق الآية لمحض الاخبار، بل
لبيان جريانه تعالى في العذاب على طبق الموازين العقلائية العامة الراجحة أو
اللازمة من توقفه على إقامة الحجة، فيدل على ثبوت ذلك في العذاب الأخروي
بتنقيح المناط، بل بالأولوية، لأهمية العقاب الأخروي، بلحاظ شدته، وتمحضه
في الجزاء، الذي هو أولى بالاحتياج للحجة، بخلاف العذاب الدنيوي، حيث أنه
قد يكون من سنخ الآثار الوضعية للأفعال وإن كانت عن عذر، أو يكون
للامتحان، أو نحوهما مما لا يكون من سنخ الجزاء ولا يتوقف على إقامة الحجة
ارتكازا. فالانصاف أن دلالة الآية وافية جدا.
ثم إنه ربما يقرب دلالتها على نفي الاستحقاق بما أشرنا إليه من ظهور
التركيب المذكور في أنه ليس من شأن النسبة الوقوع، بل هي لازمة الانتفاء.
لكنه أعم من عدم الاستحقاق، لامكان أن يكون اللزوم بلحاظ التزامه
تعالى بمقتضى اللطف وإن لم يكن واجبا، نظير قوله تعالى: (وما كان الله
معذبهم وهم يستغفرون) (1) مع وضوح الاستحقاق، كما يشهد به قوله تعالى
بعد ذلك: (وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام...) (2)
وكيف كان، فيكفي في الاستدلال بالآية دلالتها على نفي فعلية العقاب
وإن لم تدل على نفي استحقاقه لكونها حينئذ مؤمنة من العقاب، فلا يحتمل
الضرر المقتضي للحذر والمستلزم لتنجز التكليف المحتمل. غايته أنها إن دلت
على نفي الاستحقاق كانت إرشادا لحكم العقل المتقدم بقبح العقاب من غير
بيان، وإلا كانت دليلا على الأصل الأولي المذكور في قباله.
بقي شئ، وهو أنها حيث كانت دالة على الأصل الأولي، فلا تنافي

(1) سورة الأنفال: 33.
(2) سورة الأنفال: 34.
26

وجوب الاحتياط في التكليف المجهول لو فرض دلالة الأدلة الشرعية عليه، لان
العقاب على التكاليف حينئذ يكون بعد إرسال الرسول، فيكون دليل وجوب
الاحتياط رافعا لموضوعها.
نعم، لو كان مفادها توقف العقاب على إرسال الرسول ببيان نفس
التكليف المعاقب عليه كانت منافية كذلك، لان دليل وجوب الاحتياط وإن كان
بيانا لوجوب الاحتياط الا أن العقاب ليس عليه، لأنه حكم طريقي، وليس
العقاب إلا على التكليف الواقعي المجهول ودليل وجوب الاحتياط لا يكون بيانا
له، فينافي الآية.
إلا أنها غير دالة على ذلك، بل على اشتراط العقاب بالبيان في الجملة وإن
كان على وجوب الاحتياط.
ثم إن هناك بعض الآيات الاخر ذكرها شيخنا الأعظم قدس سره، ويظهر ضعف
الاستدلال بها مما ذكره قدس سره وذكرناه في تعقيب كلامه، فلا ينبغي إطالة الكلام
فيها، وان كانت هي لا تخلو عن إشعار وتأييد للمطلب، ككثير من الآيات الواردة
في إقامة الحجة على العباد، يضيق المقام عن استقصائها.
وأما السنة فقد يستدل منها بأحاديث..
الأول: ما روي من قوله: (الناس في سعة ما لا يعلمون) (1)، بناء على أن
(ما) مصدرية ظرفية. إذ تكون الرواية حينئذ مسوقة لبيان الأصل الأولي
المذكور، الذي لا ينافي وجوب الاحتياط لدليل شرعي موجب للعلم، لا طلاق
العلم فيها لما يشمل ذلك، ولا تدل على عدم ارتفاع السعة إلا بالعلم بخصوص
الحكم الواقعي الذي هو مورد العقاب.
نعم، لو كانت (ما) موصولة قد أضيفت إليها السعة كانت دالة على ثبوت

(1) لم نعثر عليه، سوى ما في عوالي اللئالي ج 1، ص 424، وقال النبي صلى الله عليه السلام: إن الناس في سعة ما لم يعلموا).
27

السعة بلحاظ نفس التكليف المجهول، الذي هو مورد الأصل الثانوي، فينا في
وجوب الاحتياط المقتضي لعدم السعة بالإضافة إلى التكليف المجهول، ولا
يصلح دليل وجوب الاحتياط لرفع موضوعه، لعدم كونه موجبا للعلم بالتكليف
الواقعي، كما تقدم قريبا عند الكلام في الآية.
ولعل هذا هو الأقرب، لما ذكره بعض مشايخنا من أن (ما) الزمانية حسب
استقراء موارد استعمالها لا تدخل على فعل المضارع، وانما تدخل على
الماضي، فلو كان المضارع في الخبر مدخول كلمة (لم) لكان للاحتمال الأول
وجه متين لكنه خلاف الواقع.
ولو سلم دخولها على فعل المضارع أحيانا فلا ريب في ندرته، فلا يصار
إليه في غير الضرورة، فحمل (ما) على الموصولة هو الأنسب. وإن كان في بلوغ
ذلك حد الظهور إشكال.
ولا سيما مع عدم خلو إضافة السعة للموصول عن تكلف، بل نحو من
الركاكة. فإجمال الرواية ودورانها بين الأصل الأولي والثانوي هو المتعين.
نعم، ورد في بعض نسخ الرسائل المطبوعة التي لا تخلو عن ضبط ذكر
الحديث هكذا: الناس في سعة ما لم يعلموا) ومن الظاهر أن مدخول (لم)
بمنزلة الفعل الماضي، فيتعين معه كون (ما) زمانية مثلها في قولهم عليهم السلام: (البيعان
بالخيار ما لم يفترقا) (1)، وغيره مما هو كثير. إلا أنه لا طريق لتعيين أحد الوجهين
بعد ما قيل من عدم العثور على الحديث في كتب الاخبار.
ومنه يظهر قصوره عن مقام الاستدلال لضعف السند. نعم، في رواية
السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام الواردة في سفرة وجدت مطروحة في الطريق
كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها قال عليهم السلام: فقيل يا أمير المؤمنين عليه السلام:

(1) الوسائل: ج 12، الباب 5 من أبواب الخيار.
28

لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال: هم في سعة حتى يعلموا) (1)،
وهو مختص بمورد خاص من الشبهة الموضوعية، ولعله راجع إلى أمارية
أرض المسلمين على تذكية اللحم، فيكون أجنبيا عما نحن فيه.
الثالث: قوله عليه السلام: - كما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره: أيما امرء
بجهالة فلا شئ عليه) (2)، فإنه ظاهر في الجهالة من جميع الجهات التي هي
موضوع الأصل الأولي فلا ينافي وجوب الاحتياط لدليل راجع للجهل به.
نعم، استشكل فيه شيخنا الأعظم قد س سره بأنه ظاهر في اعتقاد الصواب أو
الغفلة عن الواقع، ولا يعم صورة الشك والتردد التي هي محل الكلام.
وكأن وجهه ظهور الباء في قوله عليه السلام: (بجهالة) في السببية لا محض
المصاحبة، ولا يكون الجهل سببا للعمل الا مع الغفلة أو اعتقاد الصواب، أما مع
الشك والتردد فالجهل لا يقتضي الاقدام، بل التوقف، والاقدام يستند إلى أمر
آخر من أصل أو نحوه مما يعتمد عليه الشاك في مقام العمل.
مضافا إلى الاشكال في استعمال الجهالة بمعنى محض عدم العلم، بل
هي تناسب القصور الحاصل من الغفلة أو اعتقاد الخلاف، كما تقدم التنبيه له في
آية النبأ. فتأمل.
الثالث: ما رواه في البحار عن الكافي عن حمزة بن الطيار، بسند لا يخلو
عن اعتبار، عن أبي عبد الله عليه السلام: (ان من قولنا: ان الله يحتج على العباد بما آتاهم
وعرفهم، ثم أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى...)، فإن
المنسبق منه الحصر الراجع إلى عدم الاحتجاج عليهم بما لم يعرفهم. وهو لا
يدل إلا على الأصل الأولي، إذ لو فرض دلالة الدليل على وجوب الاحتياط، كان

(1) الوسائل، ج 17، باب: 23 من أبواب اللقطة ح: 1
(2) في الوسائل: (أي رجل...) ج 5، باب: 30 من أبواي الخلل الواقع في الصلاة.
(3) الكافي ج: 1 ص 164.
29

مما آتاهم وعرفهم، فيكون موردا للاحتجاج منه تعالى عليهم بمقتضى
الحديث.
الرابع: ما عن كتاب التوحيد بسنده عن عبد الاعلى، قال: سألت
أبا عبد الله عليه السلام عمن لم يعر ف شيئا هل عليه شئ؟ قال: (لا)، فإنه ظاهر في بيان
الأصل الأولي المذكور الذي ينافي وجوب الاحتياط للدليل الموجب
لمعرفته. من دون فرق بين كون المراد بالشئ الأول فردا مرددا أو فردا معينا
مفروضا في الخارج، وكون المراد به العموم لأنه نكرة في سياق النفي.
وما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أنه على الثاني يكون ظاهره السؤال عن
القاصر الذي لا يدرك شيئا.
مدفوع: بأن ظاهر الحديث السؤال عمن لم تتحق له المعرفة، لا عمن لا
قابلية له للمعرفة.
نعم، من لا يعرف شيئا أصلا قاصر غالبا، إلا أن ظاهر الحديث كون الجهة
المسؤول عنها هي عدم معرفته لا قصوره.
الخامس: ما في ثواب الأعمال (1)، وعن كتاب التوحيد، بسنده عن
حفص بن غياث، سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (من عمل بما علم كفي ما لم
يعلم) (2)، فإنه صريح في عدم المؤاخذة مع عدم العلم.
نعم، يكفي العلم بوجوب الاحتياط في لزوم العمل الذي تضمنه
الحديث، كما هو مفاد الأصل الأولي المذكور.
هذا حاصل ما تيسر لنا عاجلا من الأدلة على كون مقتضى الأصل لأولي
البراءة وقد عرفت أن عمدتها - بعد حكم العقل - الآية الشريفة والأحاديث

(1) باب ثواب من عمل بما علم ص: 133، طبع النجف.
(2) الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبوا ب صفات القاصي حديث: 30.
30

الثلاثة الأخيرة.
وأما المقام الثاني: وهو مقتضى الأصل الثانوي، فالظاهر أنه لا حكم
للعقل فيه، بل هو مما يختص به الشارع، فكما يمكن عقلا جعل الشارع للبراءة
يمكن جعله لوجوب الاحتياط. ولو تم وجوب الاحتياط كان رافعا لموضوع
حكم العقل في المقام الأول.
لا لكون العقاب معه عقابا على ما يعلم وورد به البيان، إما من حيث كون
دليله موجبا للعلم بوجوب شئ بعنوان كونه مجهول الحكم - كما يظهر من
شيخنا الأعظم قدس سره - أو من حيث كونه بيانا للتكليف المجهول في ظرف وجوده -
كما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره -.
لاندفاع الأول: بأن وجوب الاحتياط طريقي لا يكون موضوعا للعقاب
والثواب، بل مصححا للعقاب على التكليف الواقعي المجهول في ظرف
وجوده، وما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من كونه نفسيا تكلف مخالف لظاهر أدلته
جدا.
واندفاع الثاني: بعدم صلوح دليل الاحتياط لبيان الواقع، بل الوجه في ارتفاع
موضوع حكم العقل بدليل وجوب الاحتياط أن حكم العقل مختص بما إذا لم
يهتم الشارع لا قدس بحفظ التكليف الواقعي في ظرف الجهل به بايجاب
الاحتياط.
وقد تقدم تمام الكلام في ذلك في مبحث قيام الطرق والأصول مقام
القطع الموضوعي من مباحث القطع. فراجع.
وكيف كان، فالأصل في المقام شرعي محض لا دخل للعقل به. ومن ثم
ينبغي أن يستدل عليه بالأدلة الشرعية، وقد استدل على البراءة بالأدلة الثلاثة..
31

أما الكتاب، فبقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) (1)، فقد
يستدل به على البراءة بناء على أن المراد بالايتاء في التكاليف الاعلام بها
وايصالها للمكلف فتدل على عدم التكليف بما لم يصل للمكلف، وتكون
معارضة لأدلة وجوب الاحتياط المقتضية للتكليف بالواقع والمؤاخذة به مع
الجهل به، من دون أن توجب العلم به ليخرج عن موضوع الآية.
ومجرد اقتضائها العلم بوجوب الاحتياط لا ينفع بعد عدم كونه موردا
للمؤاخذة، لكونه طريقيا، كما تقدم.
نعم، لو كانت بصدد بيان توقف المؤاخذ ة على قيام الحجة في الجملة
وإن لم تتعلق بنفس التكليف المؤاخذ به كانت مساوقة للآية المتقدمة في الأصل
الأولي، كما ذكره بعض الأعاظم قدس سره.
لكنها بعيدة عن ذلك ظاهرة في لزوم إيتاء نفس التكليف المؤاخذ به.
ومثله ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن مفاد الآية إنما هو نفي
الكلفة من قبل التكاليف المجهولة، بمعنى عدم صلوحها بنفسها لايجاب
المؤاخذة، لا نفي الكلفة عليها مطلقا ولو من قبل جعل إيجاب الاحتياط.
لاندفاعه: بأن ظاهر الآية ليس مجرد عدم صلوح التكاليف المجهولة
لتسبيب الكلفة، كي لا تنافي تسبيب إيجاب الاحتياط لها، بل عدم تحقق الكلفة
بالإضافة إلى التكاليف المجهولة مطلقا، فينافي مقتضى أدلة الاحتياط من تحقق
الكلفة بالإضافة إليها.
وأشكل منه ما ذكره قدس سره من أن إيتاء ه تعالى لما كان عبارة عن إعلامه، وكان
المراد منه إعلامه بالطرق المتعارفة التي هي عبارة عن إرسال الرسل وأمرهم
بتبليغ الاحكام، كان مقتضى الآية عدم ثبوت مسؤولية التكليف مع عدم أمر

(1) سورة الطلاق: 7.
32

الرسل بتبليغه الراجع إلى كونه مما سكت الله عنه الملازم لعدم فعليته، ولا تدل
على عدم المسؤولية بالتكليف لو فرض فعليته والامر بتبليغه، وانما كان اختفاؤه
بسبب الطوارئ الموجبة للضياع كظلم الظالمين ونحوه.
إذ فيه: أنه مخالف للظاهر جدا، فإن ظاهر الاعلام هو الاعلام الفعلي،
ولا سيما مع إضافته لكل مكلف بشخصه، لا لنوع المكلفين. ومجرد كون ذلك
هو المراد بوجوب الاعلام على الله تعالى من باب اللطف، لا يقتضي الحمل
عليه في المقام.
فالانصاف قوة دلالة الآية بناء على أن المراد من الايتاء هو الاعلام
في المقام.
لكنه غير ظاهر، لان حقيقة الايتاء الاعطاء، فلا بد إما من حمله على
حقيقته مع حمل الموصول على المال ويكون التكليف به بمعنى التكليف
بإنفاقه. أو حمله على الاقدار مجازا مع حمل الموصول على الفعل ويكون
التكليف به حقيقيا. وكلاهما مناسب لورود القضية مورد التعليل لقوله تعالى:
(لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله).
ولعل الأول أقرب، لما يستلزمه الثاني من اختلاف معنى الايتاء ومتعلقه
في الموردين. ومجرد كون الثاني أشمل لا يقتضي ظهور القضية فيه مع كون
الأول ارتكازيا مثله.
نعم، الظاهر أن منشأ اشتراط التكليف بإنفاق المال بإعطائه هو عدم
التكليف بغير المقدور، بقرينة وروده مورد التعليل الظاهر في كونه ارتكازيا،
فيكون عدم التكليف بغير المقدور علة للقضية المذكورة، لا أنه مؤدى بها.
وكيف كان، فالآية أجنبية عما نحن فيه من عدم التكليف بما لا يعلم.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن إيتاء كل شئ بحسبه، فإيتاء المال
بإعطائه، وايتاء الشئ فعلا أو تركا بالاقدار عليه، وايتاء التكليف بايصاله
33

والاعلام به.
فيندفع: بأن الايتاء لغة وعرفا الاعطاء، وتعذره بالإضافة إلى غير المال من
الأمور المذكورة موجب لحمله على غير معناه فيها، فلا وجه للحمل عليها من
دون قرينة ملزمة.
ومن الغريب ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من صدق الاعطاء
- الذي هو معنى الايتاء - في الفعل والترك بالاقدار، وفي التكليف بالأعلام.
فإن أدنى تدبر في معنى الاعطاء شاهد ببطلانه.
هذا، مع أنه لو فرض إمكان شمول الايتاء للاعلام بالتكليف فلا مجال له
في المقام، فإن عدم تعلق التكليف بالتكليف المجهول ليس كعدم تعلقه بالمال
أو الفعل غير المقدور، إذ المراد بالأول عدم التعلق ظاهرا بلحاظ المؤاخذة،
لوضوح عدم كون الجهل رافعا للتكاليف واقعا، وبالثاني عدم التعلق واقعا
لامتناع التكليف بغير المقدور.
مع أن الأول شرعي تعبدي، والثاني إرشادي عقلي، وحيث لا إشكال في
شمول القضية للثاني بقرينة المورد كانت منصرفة عن الأول الذي هو محل
الكلام.
وأما ما قيل في وجه امتناع العموم: من أن تعلق التكليف بالتكليف من
باب تعلق الفعل بالمفعول المطلق، لأنه عينه، وتعلق التكليف بالمال أو الفعل
من باب تعلق الفعل بالمفعول به، ولا جامع بين النسبتين، ليمكن العموم لها.
فقد يندفع: بإمكان تصور التكليف بالتكليف من باب تعلق الفعل
بالمفعول به، بأن يراد بالتكليف في الآية محض الكلفة المتقومة بالمسؤولية
والعقاب - التي ذكرنا انها ظاهرية - وبالتكليف المجهول هو الحكم الواقعي
الذي يتعلق به الجعل، ويكون موضوعا للعقاب والثواب. فتأمل جيدا.
ثم إنه قد يتوهم صحة الاستدلال بالآية لما نحن فيه بضميمة رواية عبد
34

الاعلى عن أبي عبد الله عليه السلام، قلت له: هل كلف الناس بالمعرفة؟ قال: (لا، على الله
البيان، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها).
ويندفع: بأن المعرفة بنفسها غير مقدورة للانسان قبل تعريف الله
سبحانه، فلا يحتاج إلى إرادة الاعلام من الايتاء، كما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره.
فالمراد من البيان ليس بيان وجوب المعرفة، بل بيان ما يراد معرفته
بنصب الأدلة الكافية عليه، لتتيسر المعرفة لمن يريدها، ويكون مراد السائل أنه
هل يحتاج التكليف بالمعرفة إلى نصب الأدلة من قبله تعالى على ما يراد
معرفته؟ لا أنه هل كلف الناس بالمعرفة من دون أن يعلمهم بوجوبها، ليكون
مما نحن فيه، إذ لا شاهد على ذلك، بل المناسبة تقتضي الأول.
نعم، الرواية تقتضي سوق الآية لبيان عدم التكليف بغير المقدر مطلقا ولو
في غير المال، إما لدلالتها عليه بالمطابقة، أو لاستفادته منها بضميمة كون التعليل
ارتكازيا، كما ذكرناه آنفا.
هذا، وقد ذكر شيخنا الأعظم قدس سره آيات اخر لا مجال لإطالة الكلام فيها،
لوضوح قصور دلالتها، كما يظهر بمراجعة ما ذكره قدس سره وذكرناه في تعقيب كلامه،
فالاقتصار على ما سبق هو الأنسب بالمقام.
وأما السنة، فقد استدل منها بأحاديث..
الأول: حديث الرفع المروي بطرق مختلفة، ومتون مختلفة - أيضا -
زيادة ونقصانا.
منها: الصحيح المروي عن الخصال، عن حريز عن أبي عبد الله عيه السلام، قال:
(قال رسول الله صلى الله عليه السلام: رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا
عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة،
والتفكر في الوسوسة في الخلق (الخلوة خ. ل) ما لم ينطقوا (بنطق) بشفة).
وعن التوحيد روايته بنفس السند مع اختلاف في المتن يسير، وعن
35

الفقيه روايته مرسلا بتفاوت لا يضر في ما نحن فيه، ونحوه ما عن محمد بن
عيسى في نوادره عن إسماعيل الجعفي. وروي بمتون اخر لا شاهد فيها (1).
ووجه الاستدلال به: أن ظاهره بدوا كون الجهل والخطأ والنسيان سببا في
رفع التكليف واقعا، حيث تقدم في أوائل الفصل الأول من مباحث القطع إمكان
ذلك في الجملة، ولا سيما مع كون الرفع في بقية الفقرات واقعيا، إلا أنه حيث
كان ذلك منافيا لما هو المتسالم عليه من اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل
والملتفت والغافل، فلابد من صرفه عن ظاهره بحمله على الرفع الظاهري
الراجع إلى عدم اهتمام الشارع بحفظ الحكم الواقعي في ظرف الجهل به
المستلزم لعدم وجوب الاحتياط فيه.
بل قد يقال: إنه حيث كان الحديث واردا مورد الامتنان، ولا امتنان في رفع
التكليف الواقعي في حال الجهل أو النسيان أو الخطأ، بل يكفي فيه الرفع
الظاهري بالوجه المذكور، فلا ظهور له في نفسه في الرفع الواقعي، بخلاف الرفع
في بقية الفقرات المذكورة، إذ بعد عمومها للعلم بالحكم لا يتم الامتنان فيها إلا
برفعه واقعا.
نعم، قد يشكل ذلك بصعوبة التفكيك بين الفقرات عرفا، بل امتناعه،
لاسناد الرفع في صدر الحديث إلى التسعة بإسناد واحد، فإما أن يراد به الواقعي
أو الظاهري.
فالأولى أن يقال: مصحح إسناد الرفع للتسعة ليس إلا رفع الكلفة الحاصلة
بسببها، والثقل الناشئ منها من العقاب ونحوه مما يترتب فعلا على الحكم ولو
بضميمة وصوله، وبيان خلاص المكلف من التبعة في الأمور المذكورة.

(1) راجع الوسائل: ج 5، باب: 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، و ج: 11، باب: 56 من أبواب
أبواب جهاد النفس، و ج: 16 من كتاب الايمان.
36

الا أن ذلك مع العلم بالتكليف الواقعي أو موضوعه مستلزم عرفا
لارتفاعه، لان بيان عدم العقاب على الشئ وعدم التبعة فيه صالح عرفا لبيان
عدم التكليف واقعا، لما هو المعلوم من تقوم التكليف بالتبعة المذكورة الراجعة
إلى استحقاق العقاب ونحوه، لتقوم التكليف بذلك وعدم صحة انتزاعه بدونه.
أما مع فرض الجهل أو الخطأ أو النسيان فالرفع المذكور لا يستلزم عرفا
ارتفاع الحكم الواقعي، بل يقتضي التأمين من التبعة لا غير، المستلزم لعدم
وجوب الاحتياط مع الشك، وعدم وجوب التحفظ من الخطأ والنسيان والغفلة،
ولا ملزم برفع الحكم الواقعي، إذ لا يلغو بقاؤه في عالمه، فإن عدم ترتب البعث
والزجر عليه حينئذ لعدم الشرط وهو المنجز، لا لقصور في الحكم.
ودعوى: أن الرفع بالمعنى المذكور مع الجهل يكفي فيه حكم العقل بقبح
العقاب بلا بيان، بلا حاجة إلى رفع شرعي وراء ذلك، وظاهر الحديث كون
الرفع شرعا.
مدفوعة: بأن سلطان الشارع على رفع موضوع حكم العقل بإيجاب
الاحتياط والتحفظ من الغفلة عن التكليف الواقعي بالفحص مصحح لنسبة الرفع
إليه، فإن الرفع بالمعنى المذكور وإن لم يستند للشارع في المرتبة الأولى، إلا أنه
يستند إليه في المرتبة الثانية بعد فرض سلطانه عليه بقاء.
وبما ذكرنا يظهر أنه لا حاجة إلى إظمار المؤاخذة أو بقية الآثار، لما في
الاضمار من العناية والتعسف، فلا مجال لتكلفه من دون ملزم به، بل الظاهر أن
ارتفاعها مصحح لاسناد الرفع للتسعة المذكورة من دون حاجة للتقدير.
كما لا حاجة إلى تكلف أن المرفوع حقيقة هو إيجاب الاحتياط، وأن
نسبة الرفع إلى الحكم الواقعي المجهول بالعرض والمجاز، من حيث كون منشأ
رفع وجوب الاحتياط دفع مقتضيات الاحكام الواقعية عن تأثيره، لان وجوب
الاحتياط هو الذي يكون رفعه ووضعه بيد الشارع، دون المؤاخذة ونحوها من
37

اللوازم العقلية.
إذ فيه: أن العناية المذكورة لا تصحح نسبة الرفع للحكم الواقعي عرفا ولو
مجازا، بل ما ذكرناه هو الأظهر في وجه النسبة وإن كان يلزمه عدم وجوب
الاحتياط، وعدم وجوب التحفظ عن الغفلة بالفحص، كما تقدم.
ثم إنه قد يستشكل في الاستدلال بالحديث بدعوى: اختصاصه بالشبهة
الموضوعية لوجوه..
الأول: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أن الظاهر من الموصول في (ما لا
يعلمون) بقرينة بقية الموصولات هو الموضوع، وهو فعل المكلف غير
المعلوم، كالفعل الذي لا يعلم أنه شرب الخمر أو شرب الخل فلا يشمل الحكم
غير المعلوم، كحرمة شرب التتن.
وفيه: أن تعلق الاضطرار وأخواته بالموضوع ليس كتعلق العلم والنسيان
به، فإن تعلق الأولين بالموضوع من حيث هو بذاته، من دون دخل للعنوان
أصلا، غاية الامر انه قد يكون جهة تعليلية له، بخلاف العلم والجهل والنسيان
ونحوها، فإنها لا تتعلق بالذوات بأنفسها، بل بها من حيثية كونها ذات عناوين،
فالعلم إنما يتعلق بأن الشئ خمر، أو حرام، أو مضر، أو نحوها مما هو مفاد
القضية.
وحينئذ فاللازم ملاحظة العنوان المناسب للرفع في المقام، وهو
خصوص العنوان المنتزع من التكليف، لأنه هو الذي يكون منشأ الضيق والتبعة،
وبقية العناوين الموضوعية - كالخمرية والميتة ونحوهما - لا تكون منشأ للضيق
إلا من حيث ملازمتها له، فلا مجال لملاحظتها بأنفسها، خصوصا مع كون
العناوين الموضوعية لا جامع لها عرفا إلا من حيث اشتراكها في كونها منشأ
للتكليف، فملاحظة عنوان التكليف بنفسه أظهر وأشمل.
فالمراد حينئذ ما لا يعلمون التكليف به إيجابا أو تحريما، فيشمل الشبهة
38

الحكمية، إذ كما يصدق مجهول الحرمة على السائل الخاص المجهول
الخمرية، كذلك يصدق على الكلي - كالتبغ ولحم الأرنب - بل على أفراده
الجزئية أيضا، وإن اختلف منشأ الجهل، فهو في الشبهة الموضوعية ناشئ من
اشتباه الأمور الخارجية وفي الشبهة الحكمية ناشئ من عدم البيان الشرعي.
بل حيث عرفت اختلاف الأمور المذكورة في كيفية التعلق بالموضوع فلا
مجال للاعتماد على قرينة السياق، بل الأقرب حمل الموصول في (ما لا
يعلمون) على العنوان ابتداء، لأنه الذي يصح أن يسند إليه العلم والجهل عرفا،
وإن كان تعلقهما حقيقة بمفاد القضية، وحينئذ يتعين لحاظ العنوان المنتزع من
التكليف، لأنه المناسب للرفع كما تقدم، وهو راجع إلى حمل الموصول على
الحكم. فتأمل جيدا.
الثاني: ما ذكره هو قدس سره من أنه لو فرض تقدير المؤاخذة فالظاهر نسبتها
للمذكورات بأنفسها، كما هو مقتضى قرينة السياق مع بقية الموصولات، فكما
يقدر المؤاخذة على ما لا يطيقون يقدر المؤاخذة على ما لا يعلمون، فيكون
المراد بما لا يعلمون الموضوعات التي لا تعلم، لأنها هي التي تكون المؤاخذة
عليها، أما الاحكام فليست المؤاخذة عليها، بل على متعلقاتها، وهي
الموضوعات الخارجية، فيختص الرفع بالشبهة الموضوعية.
ويظهر الجواب عنه مما تقدم، لما سبق من عدم ابتناء الكلام على التقدير
والاضمار، وأن رفع المؤاخذة مصحح لنسبة الرفع لنفس المذكورات من دون
حاجة إلى إضمارها، ليتعين تقدير نسبتها إلى نفس المذكورات، مضافا إلى ما
تقدم من أن تعلق العلم بالموضوعات إنما هو من حيث كونها ذات عناوين،
وأن ملاحظة عنوان التكليف حينئذ أظهر وأشمل. على أنه لا يبعد صحة نسبة
المؤاخذة لنفس التكاليف بلحاظ كونها منشأ لها. فافهم.
الثالث: ما أشار إليه غير واحد من أنه لا جامع بين الشبهة الموضوعية
39

والحكمية، لكون الجهل في الأولى متعلقا بالموضوع، وفي الثانية بالحكم،
وإسناد الرفع إلى الأول من قبيل الاسناد إلى غير ما هو له، والى الثاني من قبيل
الاسناد إلى ما هو له، والثاني في نفسه وإن كان أظهر، إلا أن قرينة السياق تقتضي
الأول.
ويظهر الجواب عنه - أيضا - مما تقدم من أن الجهل في الشبهة
الموضوعية - أيضا - يرجع إلى الجهل بالحكم وإن اختلفت مع الشبهة الحكمية
في منشأ الجهل، فهما يرجعان إلى جامع واحد.
مضافا إلى أن الرفع حتى لو أسند إلى الحكم لا يكون حقيقيا، لما عرفت
من أن رفعه مناف لما هو المتسالم عليه من اشتراك الاحكام بين الجاهل
والعالم، وليس رفعه إلا ادعائيا بلحاظ رفع التبعة الناشئة منه، وبلحاظ ذلك يصح
نسبة الرفع للموضوع في بقية الفقرات.
هذا تمام الكلام في الاستدلال بالحديث الشريف. وقد تصدى غير واحد
في بعض الجهات المتعلقة بالحديث الخارجة عن محل الكلام استطرادا، ولا
بأس بمتابعتهم في ذلك، فيقع الكلام في أمور..
الامر الأول: ذكر غير واحد أن الرفع في المقام تشريعي راجع إلى تنزيل
الأمور المذكورة منزلة العدم شرعا، لعدم ترتب الاحكام والآثار الشرعية.
وهو غير ظاهر من الحديث الشريف، بل الظاهر ما تقدم من أن مصحح
إسناد الرفع رفع تبعة الفعل أو التكليف وما يكون من شؤون المسؤولية المترتبة
عليهما، فيختص بالآثار التي هي من سنخ التبعة والكلفة المترتبة على الفعل أو
التكليف، كالمؤاخذة في الأحكام التكليفية، وكوجوب الكفارة، والحد، ونفوذ
العقد، والاقرار ونحوها، دون بقية الآثار، كالنجاسة، وتحريم الحيوان مع الخطأ
في التذكية ونحوهما. من دون فرق بين الفقرات.
غايته أن الرفع بلحاظ المؤاخذة يستلزم في الجهل والخطأ والنسيان عدم
40

وجوب التحفظ وعدم وجوب الاحتياط ظاهرا مع بقاء الحكم الواقعي، أما في
بقية الفقرات فهو مستلزم لرفع الحكم واقعا كما تقدم، بخلاف رفع غير
المؤاخذة من التبعات الشرعية، فإن رفعه في الحديث مستلزم لتخصيص دليله
واقعا، وان كان بلسان الحكومة، لكون الأمور المذكورة من الأمور الثانوية
الطارئة، فهي من سنخ الرافع، وعلى كل حال فهي لا تثبت واقعا من دون فرق بين
الفقرات، فكما لا يجب الحد واقعا على من أكره على الزنا، كذلك لا يجب على
من وقع منه الزنا خطأ أو نسيانا أو جهلا.
ومنه يظهر أنه لا فرق بين الجهل والخطأ والنسيان، خلافا لما يظهر من
بعض الأعاظم قدس سره من أن الرفع في الأول ظاهري وفي الأخيرين واقعي، بل هي
مشتركة في ارتفاع التبعات الشرعية واقعا، وفي ارتفاع التبعة العقلية المستلزمة
لارتفاع حكم نفس الفعل ظاهرا مع بقائه واقعا، كما تقدم.
وعلى ما ذكرنا تنزل صحيحة صفوان بن يحيى والبزنطي عن أبي الحسن
الرضا عيه السلام، في الرجل يستكره على اليمين، فيحلف بالطلاق، والعتاق، وصدقة
ما يملك، أيلزمه ذلك ة فقال: (لا، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وضع عن أمتي ما أكرهوا
عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا) (1)، فإن نفوذ اليمين المذكورة لما كان من سنخ
التبعات الشرعية كان مرفوعا بالاكراه بمقتضى الحديث.
قال شيخنا الأعظم قدس سره: (فإن الحلف بالطلاق، والعتق، والصدقة وإن كان
باطلا عندنا مع الاختيار أيضا، إلا أن استشهاد الإمام عليه السلام على عدم لزومها مع
الاكراه على الحلف بها بحديث الرفع شاهد على عدم اختصاصه برفع
خصوص المؤاخذة له.
وبما ذكرنا يظهر الوجه في عدم سقوط الإعادة والقضاء بالاخلال ببعض

(1) الوسائل ج: 16 باب: 12 من كتاب الايمان حديت: 12.
41

الاجزاء أو الشروط جهلا أو نسيانا أو خطأ، فإن وجوبهما ليس من سنخ التبعة
المترتبة على الاتيان بالناقص، بل هو من باب لزوم امتثال التكليف الواقعي
بوجهه الواقعي، وعدم سقوطه بدونه عقلا أو شرعا.
وقد أطال غير واحد في المقام بما لا حاجة إليه بعد ما ذكرنا. فراجع
وتأمل.
الامر الثاني: الظاهر اختصاص الحديث بما إذا كان الرفع امتنانيا، لأنه
المنصرف منه، خصوصا مع ظهوره في الاختصاص بالأمة المرحومة، فلا يشمل
ما لو كان منافيا للامتنان في حق بعض الأمة، كما لو أكره على الاضرار بالغير، بل
يبقى التحريم في مثله.
ولعله لأجل ذلك لا يرتفع الضمان بالاتلاف مع الخطأ، فإنه وإن لم يبعد
كون الضمان من سنخ التبعات الشرعية، إلا أن رفعه عن المتلف مناف للامتنان
في حق المالك، فيقصر الحديث عن شموله.
الامر الثالث: الظاهر أن الحديث قابل للتخصيص، فلا مانع من عدم
الرفع في بعض الموارد للدليل الخاص، كما ثبت وجوب الاحتياط قبل الفحص
في الشبهة الحكمية، ووجوب التحفظ عن النسيان في الاحكام الكلية، ووجوب
الكفارة في بعض موارد الخطأ، كالقتل، فان أدلة المذكورة تكون مخصصة
لعموم الحديث الشريف.
وأما ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره من قصور الحديث عن
الرفع مع التقصير في الجهل والنسيان، لعدم منافاة فعلية التكليف للامتنان، إذ لا
يأبى العقل حينئذ عن ذلك. نعم، لو كان التحفظ حرجيا كان مقتضى الحديث
الشريف الرفع، لان الوضع حينئذ خلاف الامتنان.
فهو كما ترى! لان عدم إباء العقل حينئذ عن فعلية التكليف لا ينافي كون
رفعه امتنانيا لما فيه من السعة، كما هو الحال فيما لو كان التحفظ حرجيا، لان
42

العقل لا يمنع من التكليف الحرجي أيضا.
ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أن مثل وجوب كفارة الخطأ خارج
عن موضوع الحديث الشريف، لاختصاصه بالآثار الثابتة لذات الموضوع مع
قطع النظر عن الخطأ والنسيان ونحوهما مما تضمنه الحديث، دون ما ثبت
بتوسط أحد العناوين المذكورة بحيث تكون دخيلة فيه، كما هو الحال في
المقام، وفي مثل وجوب سجود السهو.
لاندفاعه: بأن ثبوت الكفارة المذكورة مناف للحديث، بناء على ما تقدم
من دلالته على عدم التبعة مع الخطأ.
نعم، بناء على دلالته على رفع الفعل تعبدا بلحاظ آثاره الثابتة له، يتعين
اختصاصه بالآثار الثابتة له بذاته في رتبة سابقة على طروء العناوين المذكورة،
لان العناوين المذكورة تكون من سنخ الرافع، فلا ترفع إلا ما تم مقتضيه مع قطع
النظر عنها، ويقصر عما كانت العناوين المذكورة دخيلة فيه.
لكن عرفت الاشكال في حمل الحديث على المعنى المذكور، فالمتعين
ما ذكرنا من أن خروج هذه الموارد بالتخصيص.
هذا، وأما وجوب سجود السهو فالظاهر أن الوجه في خروجه تخصصا
عدم كونه من سنخ التبعة الشرعية، بل يظهر من دليله كون الاتيان به لارغام
الشيطان، فهو حكم تعبدي، كالنجاسة والتذكية.
ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في الحديث الشريف. والله سبحانه ولي
العون والتوفيق.
الثاني من النصوص المستدل بها في المقام: خبر زكريا بن يحيى عن أبي
عبد الله عيه السلام قال: (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) (1)، فإنه ظاهر

(1) الوسائل ج: 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 28.
43

في أن الحكم الواقعي المجهول موضوع عن المكلفين، فيدل على عدم وجوب
الاحتياط الراجع إلى تنجز الحكم الواقعي المجهول، كما تقدم.
نعم، لو فرض تمامية أدلة الاحتياط لم يبعد الجمع بينه وبينها بحمله على
الأصل الأولي، بأن يحمل حجب العلم على حجب العلم بما يعم الوظيفة
الفعلية الظاهرية، فتكون أدلة الاحتياط واردة عليه. فتأمل جيدا.
هذا، ومما تقدم في حديث الرفع يظهر عمومه للشبهة الحكمية
والموضوعية.
وقد استشكل فيه شيخنا الأعظم قدس سره بأن الظاهر مما حجب الله علمه ما لم
يبينه للعباد، لا ما بينه واختفى عليهم من معصية من عصى في كتمان الحق، فهو
مساوق لما عن أمير المؤمنين عليه السلام: (إن الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض
فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تكلفوها،
رحمة من الله لكم فاقبلوها) (1).
وفيه: أن منشأ الظهور المذكور..
إن كان هو نسبة الحجب إلى الله تعالى، فيكون كناية عن عدم إيصال
الحكم للرسل أو عدم أمرهم بتبليغه، فالظاهر أنه يكفي في النسبة المذكورة
استناد الفعل إليه سبحانه تكوينا بتقدير أسبابه ولو بطريق الناس، كما هو الحال
في نسبة الرزق والابتلاء إليه تعالى، فهو نظير قولهم عليهم السلام: (ما غلب الله عليه فهو
أولى بالعذر).
وإن كان منشؤه نسبة الحجب للعباد الظاهر في إرادة جميعهم المستلزم
لعدم تصدي الشارع الأقدس لبيانه، فالظاهر أن العموم في (العباد) ليس
مجموعيا، بل انحلاليا راجعا إلى وضع التكليف عن كل من حجب عنه، نظير

(1) الوسائل ج: 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 61.
44

العموم في حديث الرفع والسعة، فان ذلك هو المناسب لكون القضية ارتكازية.
على أن ظاهر الحديث كون الحكم المحجوب تام الفعلية وصالحا
للمحركية لولا الحجب المقتضي لوضعه، فلا يناسب حمله على الاحكام
المسكوت عنها، لقصوره عن مرتبة الفعلية وعدم صلوحها للمحركية في
أنفسها.
وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره في دفع الاشكال المذكور من
شمول الحديث للأحكام الواصلة للنبي صلى الله عليه وآله التي لم يؤمر بتبليغها، لاستناد
الحجب فيها إلى الله تعالى، فيمكن تعميم الحكم لغيرها مما بلغ به النبي صلى الله عليه وآله أو
الأئمة عليهم السلام واختفى بسبب المكلفين أنفسهم بعدم الفصل، لاشتراكها في الفعلية.
ففيه: أن الظاهر عدم بلوغ الاحكام التي لم يؤمر النبي صلى الله عليه وآله بتبليغها مرتبة
الفعلية، ولذا لا تتنجز لو فرض العلم بها إجمالا. ولو فرض بلوغها المرتبة
المذكورة بمعنى فلا طريق لاثبات عدم الفصل بينها وبين الاحكام التي بلغها
واختفت.
كيف! ولا يظن من الأخباريين أو غيرهم الالتزام بوجوب الاحتياط مع
العلم بعدم تبليغ النبي صلى الله عليه وآله للحكم.
ومن ثم كان ظاهر المحدث الاسترآبادي عدم وجوب الاحتياط في ما
تعم به البلوى، بحيث لو كان هناك حكم مخالف للأصل لظهر، لان عدم الدليل
دليل العدم، على ما حكاه عنه شيخنا الأعظم قدس سره في التنبيه الأول من تنبيهات
المسألة الأولى من مسائل الشبهة التحريمية، وهو ظاهر الحر العاملي في
الوسائل في تعقيب الحديث الستين من الباب الثاني عشر من أبواب صفات
القاضي، مع ظهور أن الاستدلال المذكور إنما يتم في ما فرض تبليغ النبي صلى الله عليه وآله
أو الأئمة عليهم السلام له على تقدير وجوده، لا في ما لم يؤمروا بتبليغه.
45

الثالث: المرسل عن الفقيه: (كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي) (1). وذكر
غير واحد من محشي الرسائل أن في بعض طرق الحديث: (حتى يرد فيه أمر أو
نهى): أو: (حتى يرد أمر أو نهي) كما عن أمالي الشيخ قدس سره، وعن العوالي: (قال
الصادق عليه السلام: كل شئ مطلق حتى يرد فيه نص).
قال شيخنا الأعظم قدس سره بعد ذكر مرسل الفقيه: (ودلالته على المطلوب
أوضح من الكل، وظاهره عدم وجوب الاحتياط، لان الظاهر إرادة ورود النهي
في الشئ من حيث هو، لا من حيث كونه مجهول الحكم. فإن تم ما سيأتي من
أدلة الاحتياط دلالة وسندا وجب ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية
وأمثالها...).
وما ذكره قريب جدا.
نعم، لو فرض تمامية أدلة الاحتياط لم يبعد الجمع بينها وبين الروايات
المذكورة بحمل هذه الروايات على ما يعم ورود النهي الثانوي.
هذا، وقد يستشكل في دلالة الرواية بوجهين:
الأول: ما أشار إليه المحقق الخراساني قدس سره من أنه يكفي في ورود النهي
وروده إلى بعض المكلفين وإن خفي على غيرهم، وحينئذ لا مجال للاستدلال
بالحديث لاحتمال ذلك في مورد الشك بالتكليف، إلا في الأمور المستحدثة
التي يعلم بعدم ابتلاء المكلفين المعاصرين لدور تبليغ الاحكام بها، بحيث يعلم
بعدم ورود النهي لاحد من المكلفين فيها.
ولو أريد من المكلفين ما يعم المعصومين عليهم السلام امتنع الاستدلال حتى في
المسائل المذكورة. نعم، قد يستدل بضميمة أصالة عدم ورود النهي، وهو أمر
آخر.

(1) الوسائل ج 18: باب 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 60.
46

وفيه: أن الورود والاطلاق لما كانا أمرين إضافيين فالظاهر من إطلاقهما
كون غاية الاطلاق في حق كل شخص ورود النهي له، واحتمال كون ورود النهي
لبعض المكلفين رافعا للاطلاق في حق غيره، خلاف الظاهر جدا، خصوصا
في مثل هذه القضية الارتكازية.
هذا، مع أن ظهور القضية في ضرب القاعدة العملية ظاهر في تيسر
الاطلاع على موضوعها، والمتيسر لكل شخص إدراك ورود النهي له لا لغيره.
الثاني: أن ورود النهي لا يتوقف على وصوله للمكلف، بل يكفي
صدوره واقعا، لا لان الورود بمعنى الصدور - كما قد يوهمه كلام المحقق
الخراساني قدس سره - لوضوح التقابل بينهما، بل لان التكليف لما كان أمرا قائما بين
المولى والعبد، فهو بالإضافة إلى المولى صادر منه، وبالإضافة إلى العبد وارد
عليه، فصدق وروده على العبد لا يتوقف على وصوله إليه، بل يكفي فيه صدوره
من المولى وجعله في ذمة العبد، حتى كأنه أمر حمل عليه.
ولعله إلى هذا يرجع ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من صدق الورود
على الصدور، وما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من إمكان كونه مقابل السكوت.
وحينئذ فيكون مفاد الحديث أن الأشياء في أنفسها على السعة ما لم يرد فيها
نهي شرعي رافع لها.
نعم، لو كان المراد من الورود الورود للمكلف لا الورود عليه كان المتعين
حمله على الوصول له، لان مجرد ثبوت النهي في ذمة المكلف لا يصحح نسبة
وروده له ما لم يصل.
ولعل هذا هو المتعين في مرسل العوالي، لان النص مما لا ثبوت له في
ذمة المكلف، ليصدق وروده له قبل العلم به ووصوله.
إلا أنه لا مجال له في مرسل الفقيه، لحذف المتعلق وصلوح التكليف
للامرين، فبلحاظ كونه أمرا ثابتا في ذمة المكلف وموجبا لمسؤوليته والتثقيل
47

عليه يصدق وروده وطروؤه عليه بمجرد صدوره، وبلحاظ كونه حادثا من
الحوادث الخارجية يصدق وروده بالعلم به ووصوله للمكلف، نظير قولنا:
وردني موت زيد.
هذا، وقد يرجح إرادة الوصول من الورود في المقام بأنه لو كان المراد من
الورود ما يلازم الصدور كان الاطلاق قبله عقليا، فيكون حكم الشارع به
إرشاديا، وهو خلاف الأصل في الحكم الشرعي، إذ الأصل فيه كونه مولويا،
فيتعين حمله على إرادة الاطلاق الظاهري الشرعي عند الشك في ورود النهي،
وهو لا يرتفع الا بوصول النهي، فيكون قرينة على أن المراد من الورود الوصول.
وكأن هذا هو مراد بعض مشايخنا في مناقشة بعض الأعاظم قدس سره في
المقام. فراجع.
وفيه:... أولا: أن أصالة كون الحكم الشرعي مولويا مختصة بما إذا انعقد
للكلام ظهور في معنى ودار الامر فيه بين الوجهين، بخلاف ما إذا تردد الكلام
بين معنيين أحدهما لا يصلح إلا للمولوية، والآخر لا يصلح إلا للارشاد - كما
في المقام - فإن إثبات الظهور بالأصل المذكور حينئذ لا يخلو عن إشكال أو منع.
نعم، لو فرض كون الحكم العقلي جليا لا يحتاج إلى بيان وإرشاد كان
ذلك قرينة على صرف الكلام عن الارشاد إليه، إلا أنه لم يتضح بعد كون الحكم
العقلي بالاطلاق في المقام بالنحو المذكور. كيف وقد وقع الكلام فيه؟! كما سبق
عند الكلام في أصالة الحظر أو الإباحة.
اللهم إلا أن يدعى عدم الفائدة ببيانه بعد فرض ورود الشرع وعدم خلو
الوقائع عن الأحكام الشرعية، فلا ينبغي الحمل عليه، كما نبه له غير واحد من
مشايخنا. فلا حظ.
وثانيا: أن ثبوت الاطلاق العقلي قبل البيان الشرعي لا يستلزم كون حكم
الشارع بالاطلاق إرشاديا، لا مكان كونه مولويا راجعا إلى الحكم بعموم إباحة
48

الأشياء شرعا ما لم يرد النهي عنها، فيكون مؤكدا لحكم العقل، بل مغنيا عنه لا
ارشادا له، كسائر موارد الحكم بالإباحة.
إن قلت: لا يمكن جعل النهى الواقعي غاية للإباحة الواقعية، لاستلزامه
جعل أحد الضدين رافعا للآخر، نظير أن يقال: كل شئ ساكن إلى أن يتحرك.
قلت.. أولا: جعل الشئ غاية لشئ لا يستلزم كونه رافعا له، وقبح جعل
أحد الضدين غاية للآخر إنما هو لوضوح التنافر بينهما الموجب لوضوح ارتفاع
أحدهما عند حدوث الآخر بنحو يكون بيانه لغوا، أما إذا كان المقصود بيان أن
أحد الضدين هو مقتضى الطبع الأولي والآخر هو المحتاج إلى علة تقتضيه فلا
قبح، لأنه مزيد فائدة تحتاج إلى البيان، والمقام من ذلك، فإن المقصود بيان أن
إباحة الأشياء هي مقتضى طبعها الأولي. فتأمل.
وثانيا: ورود النهي من سنخ العلة للحرمة والضيق، التي هي ضد للإباحة
والاطلاق، وليس بنفسه ضدا للإباحة والاطلاق، فهو نظير أن يقال: كل شئ
ساكن حتى يحرك، ولا بأس به.
فالانصاف: أن البناء على إجمال الرواية من هذه الجهة لا يخلو عن قرب.
هذا، وقد تقدم عند الكلام في مقتضى الأصل الأولي إجمال حديث السعة
أيضا وتردده بين الأصل الأولي والثانوي الذي هو محل الكلام، فلا مجال
للاستدلال بكلا الحديثين في المقام.
نعم، قد يستدل بحديث الاطلاق بضميمة الاستصحاب، وهو أمر آخر
يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
الرابع: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم عليه السلام: (سألته عن
الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة، أهي ممن لا تحل له أبدا؟ فقال: (لا، أما
إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها، وقد يعذر الناس في الجهالة بما
هو أعظم ذلك. فقلت: بأي الجهالتين يعذر بجهالته أن ذلك محرم عليه أم
49

بجهالته أنها في عدة؟ فقال: إحدى الجهالتين أهون من الاخر، الجهالة بأن الله
حرم ذلك عليه، وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها. فقلت: وهو في الأخرى
معذور؟ قال: نعم، إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها...) (1)، بناء على
أن قوله عليه السلام: (فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك) إشارة إلى
القضية الارتكازية المقتضية لعموم العذر حتى بالإضافة إلى العقاب وعدم
اختصاص العذر بعدم الحرمة المؤبدة، فيكون واردا لبيان الأصل الثانوي ودليلا
على عدم وجوب الاحتياط، لوضوح كون الجهالة المفروضة فيه هي الجهالة
بالحكم الواقعي، وهو حرمة التزويج بالمرأة، لا ما يعم الحكم الظاهري ليكون
لبيان الأصل الأولي الذي يكون دليل وجوب الاحتياط رافعا لموضوعه.
كما أنه لا ريب في عمومه للشبهة الموضوعية والحكمية معا.
وفيه: أنه منصرف إلى الجهالة بمعنى الغفلة أو اعتقاد الحل خطأ - كما
ذكرناه في الحديث الثاني الذي تقدم الاستدلال به للأصل الأولي - ولا سيما مع
التعليل فيه بأنه لا يقدر على الاحتياط، ضرورة القدرة على الاحتياط مع
الالتفات والشك.
ثم إن الصحيحة لم تتضمن تخصيص التعليل المذكور بالجهالة بحرمة
التزويج في العدة دون الجهالة بأنها في العدة، ليستشكل في الرواية بلزوم
التفكيك بين الجهالتين - كما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره - بل مجرد ذكره في
الأولي دون الثانية، وهو لا يدل على عدم وروده في الثانية.
بل لعل التنبيه على التعليل في الأولى لكون المعذورية فيها أخفى، لما هو
المرتكز من أهمية الشبهة الحكمية، فيكون ذكر التعليل فيها دفعا لذلك، وتأكيدا
لقوله عليه السلام: (إحدى الجهالتين أهون من الأخرى) الظاهر في أنهما معا غير

(1) الوسائل: ج 14 باب: 17 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة حديث: 4.
50

مهمتين.
نعم، لو كان التعليل مسوقا لبيان أن الشبهة الحكمية أهون من الشبهة
الموضوعية كان ظاهرا في الاختصاص ولزم محذور التفكيك بين الجهالتين.
لكنه لا قرينة عليه، بل هو مناف لقوله: (إحدى الجهالتين أهون من
الأخرى). فلا حظ.
الخامس: صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام (كل شئ فيه
حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه) (1)، ونحوه
خبر عبد الله بن سليمان الوارد في الجبن، ومرسل معاوية بن عمار (2).
وعن الشهيد في الذكرى الاستدلال بذلك على ما نحن فيه.
وقد استشكل فيه شيخنا الأعظم قدس سره بأن ظاهر صدره فرض انقسام الشئ
فعلا إلى الحلال والحرام، وأن الانقسام هو منشأ الاشتباه الذي هو موضوع
الحكم بالحلية الظاهرية، وهو إنما يتم في الشبهات الموضوعية، حيث قد يكون
الانقسام فيها سببا للاشتباه، كالجبن الذي يعلم أن قسما منه محرم، لان فيه ميتة،
وقسما منه حلال لا ميتة فيه، فيشتبه حال بعض أفراده بسبب ذلك.
أما الشبهات الحكمية فلا يتصور فيها ذلك، إذا الشك فيها ناشئ عن فقد
الدليل، لا عن الانقسام المذكور. فالحيوان وإن كان منقسما إلى ما هو حلال
وحرام، كالضأن والخنزير، إلا أن الانقسام المذكور لا يكون سببا للاشتباه في
المشكوك كالأرنب، بل الشك فيه ناشئ من فقد الدليل عليه ولو مع فرض عدم
الانقسام المذكور.
ولا مجال لتوهم أن ذكر الانقسام في الخبر ليس لكونه منشأ للاشتباه، بل

(1) الوسائل، ج 12 باب 4، من أبواب ما يكتسب به ح 1.
(2) الوسائل، ج 17 باب 61، من أبواب الأطعمة المباحة ح 1، 7.
51

هو مقارن صرف. لاستهجان ذكره حينئذ جدا، ولا سيما مع كون ذكره موجبا
لقصور الحديث عن بعض أفراد الشبهة وهو ما لا يدخل تحت كلي منقسم
للقسمين، كشرب التتن، فيحتاج تعميم الحكم له للتمسك بعدم الفصل، كما
أوضحه شيخنا الأعظم قدس سره.
وأوهن منه توهم كون المراد بالتقسيم المذكور في الخبر هو الترديد
والشك، فمرجع قوله عليه السلام: (كل شئ فيه حلال وحرام فهو...) إلى قولنا: كل
شئ مشتبه الحال مردد بين الحلال والحرام فهو....
لأنه خروج عن ظاهر الخبر، بل صريحه المستفاد من صدره وذيله،
كما أطال شيخنا الأعظم قدس سره في توضيحه. فراجع.
نعم، يندفع ما ذكره تبن بما نبه له بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن
الاشتباه في الشبهة الحكمية قد يكون ناشئا من الانقسام المفروض لو فرض
إجمال القسمين، لاجمال دليلهما، كما لو فرض العلم بأن بعض أجزاء الذبيحة
محرم شرعا، وشك في مقدار الحرام وأنه يشمل الكبد مثلا أولا، فإن انقسام
الذبيحة إلى الحرام والحلال هو السبب في اشتباه حكم الكبد حينئذ، ومقتضى
إطلاق الحديث كونه حلالا ظاهرا، لعدم العلم بأنه الحرام بعينه، فيعم الحكم
غير ذلك من موارد الاشتباه - كالتبغ - بعدم الفصل.
ومنه يظهر اندفاع ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من ظهور قوله عليه السلام: (بعينه)
في هذا الحديث وغيره - مما يأتي الكلام فيه - في الشبهة الموضوعية، إذ لا معنى
لان يقال: حتى تعرف الحكم بعينه.
وجه الاندفاع: أن كلمة: (بعينه) لو فرض ظهورها في إرادة التمييز بعد
الاشتباه فهو مما يمكن فرضه في الشبهة الحكمية، كما في ما تقدم من المثال
على أنها إنما يؤتى بها لمحض التأكيد لدفع توهم عدم ثبوت الحكم
لموضوعه، وهو يجري في الشبهة البدوية، ولا يتوقف على الاشتباه والترديد
52

في ما هو معلوم الثبوت، واستفادة التمييز بعد الاشتباه في خصوص الحديث
المتقدم إنما هو من جهة فرض التقسيم، ومن اللام في (الحرام) الظاهرة في
العهد، والإشارة إلى الحرام المفروض المشتبه.
فالعمدة في الخدشة في الاستدلال بالحديث في الشبهة الحكمية: أنه في
نفسه ظاهر في عدم منجزية العلم الاجمالي، فمن القريب جدا حمله على
الشبهة غير المحصورة التي تخرج بعض أطرافها بسبب كثرتها عن محل
الابتلاء، كما يشير إليه خبر أبي الجارود، سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن، فقلت
له: أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة، فقال: (أمن أجل مكان واحد يجعل فيه
الميتة حرم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله، وإن لم تعلم فاشتر
وبع وكا...) (1)، وذلك انما يكون خارجا في الشبهات الموضوعية، حيث
تكون العناوين المشتملة على الحرام - كالجبن واللحم - ذات أفرد كثيرة لا
يبتلى بجميعها عادة، بخلاف الشبهات الحكمية. فلاحظ.
السادس: موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام: (كل شئ هو لك
حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون
عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعله قد باع نفسه أو خدع فبيع
قهرا، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك. والأشياء كلها على هذا حتى
يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة) (2). ودلالتها على الأصل الثانوي ظاهرة،
ولا سيما بملاحظة الأمثلة.
ولكن لا عموم فيها للشبهة الحكمية، لا من جهة كلمة (بعينه) لما تقدم،
بل من جهة الأمثلة، لامكان سوقها مساق الشرح للقاعدة لا لمجرد التمثيل،

(1) الوسائل، ج 17 باب 61، من أبواب الأطعمة المباحة ح 5.
(2) الوسائل، ج 12 باب 4، من أبواب ما يكتسب به ح 4.
53

خصوصا مع قوله عليه السلام: (وذلك مثل...) الظاهر في حصر مفاد القاعدة بما يكون
مثل هذه الأمور، وحينئذ فيمكن أن يكون الاشتباه في الموضوع مأخوذا
في المماثلة الملحوظة في المقام، واحتفاف مثل ذلك بالكلام مانع من ظهوره
في العموم للشبهة الحكمية.
بل ذكر البينة في ذيل الرواية ظاهر في اختصاصها بالشبهة الموضوعية،
لوضوح كونها المرجع فيها، لا في الشبهة الحكمية، فإن المرجع فيها هو خبر
الثقة الذي يلغو معه ذكر البينة، كما أشرنا إليه في مسألة عدم حجية خبر الثقة
في الموضوعات من الفقه.
ثم إنه قد أشار شيخنا الأعظم قدس سره إلى الاشكال في الأمثلة المذكورة: بأن
الحل فيها ليس مستندا إلى أصالة الحلية، بل إلى اليد في الأولين، إلى أصالة
عدم تحقق النسب والرضاع في الثالث، ومع قطع النظر عنها فالأصل يقتضى
الحرمة، لأصالة عدم التملك في الثوب، والحرية في الانسان، وعدم تحقق
الزوجية في المرأة.
ويندفع: بأن نسبة الامارة أو الأصل الحاكم إلى الأصل المحكوم نسبة
الحكم الثانوي إلى الحكم الأولي، فإن الحكم الثانوي لم إن كان هو الحكم الفعلي
الذي يكون مورد العمل، إلا أنه لا يوجب قصور موضوع الحكم الأولي ذاتا عن
شمول المورد، بل هو حافظ لحيثيته، فهو ثابت من الحيثية المذكورة وإن لم
يكن فعليا بسب طروء حيثية الحكم الثانوي، التي هي من سنخ المانع عن تأثير
الحيثية الأولية للحكم الأولي.
ففي المقام التصرف في الثوب - مثلا - من جهة كونه أمرا مشكوك الحرمة
يكون مجرى لأصالة الحل، ومن جهة كون الثوب مجرى لاستصحاب عدم
التملك يكون محكوما ظاهرا بالحرمة، ومن جهة كونه مورد اليد يكون محكوما
ظاهرا بالحل.
54

وحينئذ فلا مانع من إغفال الامارة أو الأصل الحاكم والتنبيه للأصل
المحكوم، لكونه مورد الحاجة، أو لكون تفهيمه للمخاطب أيسر أو لنحو ذلك
من الاغراض، وفي المقام حيث كان المطلوب توضيح أصالة الحل بالتمثيل
احتيج للتنبيه في مورد الأمثلة المذكورة على الأصل المذكور، دون الامارات أو
الأصول الحاكمة عليه. خصوصا مع صعوبة فرض مثال لا يكون مجرى لامارة
أو أصل حاكم موافق أو مخالف.
نعم، إذا كانت الامارة أو الأصل جاريين فعلا، ومخالفين عملا للأصل
المحكوم امتنع إغفالهما والاقتصار في التنبيه على الأصل المحكوم لئلا يلزم
الاغراء بالجهل والايقاع في خلاف الوظيفة الفعلية، وذلك لا يجري في المقام،
لان الأصل الحاكم على أصالة الحل المخالف لها عملا محكوم لأصول وقواعد
اخر جارية فعلا موافقة لأصالة الحل عملا، فلا يلزم من عدم التنبيه عليها الاغراء
بالجهل، كما لا يخفى.
ثم إنه لو فرض عدم نهوض ما ذكرنا بدفع الاشكال المذكور عن الرواية
فهو لا يمنع من الاستدلال بها، لقوة ظهورها في إرادة أصالة الحل، بنحو لا
توجب الأمثلة ظهورها في غيره ولا إجمالها، وغاية ما يلزم إجمال الأمثلة.
وأما دعوى أنها تكون بقرينة الأمثلة المذكورة ظاهرة في إرادة الحلية
المستندة لليد أو الاستصحاب، لا المستندة لأصالة الحل.
فيدفعها.. أولا: أنه لا جامع عرفي بين الامرين، فلا مجال لحمل القاعدة
المضروبة في صدر الرواية والمشار إليها في ذيلها عليه.
وثانيا: أن الرواية إن حملت على الارجاع للاستصحاب واليد بعد الفراغ
من جريانهما وتحقق موضوعهما كانت واردة مورد الارشاد، وهو خلاف
ظاهرها جدا، لظهورها في التأسيس وضرب القاعدة الشرعية التي يرجع إليها في
مقام العمل، وذلك يقتضي تحديد موضوع القاعدة، ولا إشارة في القاعدة إلى
55

موضوع قاعدتي الاستصحاب واليد، بل ظاهرها كون الموضوع صرف الشك،
وليس هو إلا موضوع قاعدة الحل، كما لا يخفى.
ومنه يظهر الاشكال في ما ذكره بعض مشايخنا من أن ظهور الذيل فيها
في انحصار المخرج عن الحل بالعلم الوجداني والبينة موجب لحملها على
إرادة الحل الناشئ من اليد والاستصحاب ونحوهما، لان الحل الناشئ من أصالة
الحل لا ينحصر المخرج عنه بذلك، بل يخرج عنه أيضا باليد، والاقرار، وحكم
الحاكم وغيرها.
إذ فيه.. أولا: أن الحصر ليس حقيقيا في مورد اليد والاستصحاب،
لوضوح الخروج عنهما بغيرهما، كحكم الحاكم والاقرار وغيرهما، ومجرد كون
الحصر حقيقيا في الأمثلة المذكورة - لو تم - لا ينفع مع ظهور الرواية في جعل
القاعدة العامة التي لا تختص بها. والتعميم لخصوص مشابهاتها لا مجال له بعد
عدم الإشارة في الرواية إلى المعيار في المشابهة.
وثانيا: أن ظهور الحصر لا ينهض في قبال ما عرفت، فلابد من حمل
الحصر على الإضافي. ولعل الوجه فيه عموم حجية العلم الوجداني والبينة
وإمكان حصولهما في كل مورد، بخلاف بقية الأمور، فإنها مختصة ببعض
الموارد ولا يخرج بها عن أصالة الحل في كل شئ، ليناسب ذكرها في مقام
ضرب القاعدة العامة. فلاحظ.
هذا تمام ما عثرنا عليه من النصوص العامة التي يستدل بها في المقام، وقد
عرفت عدم تمامية الدلالة في غير حديثي الرفع والحجب، وأن حديث الاطلاق
لا يخلو عن إجمال، وأن صحيح سليمان بن خالد وموثقة مسعدة إنما يصح
الاستدلال بهما في الشبهة الموضوعية لا غير. كما أن ضعف سند حديث
الحجب موجب لكون عمدة النصوص في المقام هو حديث الرفع.
بقي في المقام شئ، وهو أنه قد أشرنا إلى أن نصوص المقام دالة على
56

الأصل الثانوي، وأنها معارضة لأدلة الاحتياط لا مورودة لها، إلا أنه لو فرض
تمامية أدلة الاحتياط فلا يبعد تقديمها على الأدلة المذكورة، أما حديث الرفع
فلانه أعم منها، لعمومه لصورتي الغفلة والجهل المركب واختصاص أدلة
الاحتياط بالشبهة، بل لو كانت مختصة بالشبهة التحريمية فالامر أظهر.
وأما حديثا الحجب والاطلاق فقد سبق أنه لو فرض تمامية أدلة الاحتياط
لم يبعد حملهما بقرينتها على الأصل الأولي جمعا، وان كانا في أنفسهما
ظاهرين في الأصل الثانوي. فتأمل جيدا. والله سبحانه وتعالى ولي العصمة
والسداد.
تذنيب
قد يستدل في المقام بالاستصحاب، بلحاظ أن التكليف المشكوك أمر
حادث مسبوق بالعدم، للقطع بعدم التكليف عند فقد شروطه العامة - كالبلوغ -
أو الخاصة - كالوقت - فيستصحب بعد ذلك، بناء على ما هو التحقيق من جريان
الاستصحاب في الأمور العدمية.
وقد يستشكل فيه بوجوه..
الأول: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره من عدم بقاء الموضوع، لان عنوان
الصبا ونحوه مما أخذ في أدلة الرفع مما يقوم الموضوع عرفا، فيمتنع
الاستصحاب مع ارتفاعه.
وفيه: أن الموضوع المعتبر في الاستصحاب ليس إلا المعروض الذي
يحمل عليه المستصحب، وهو ذات المكلف في المقام، حيث أنه طرف نسبة
التكليف، وليس الصبا أو الجنون إلا من حالاته غير المقومة له. ومجرد أخذها
في عنوان الموضوع في أدلة رفع القلم لا يوجب كونها مقومة له بعد كونه جزئيا
لا يقبل التقييد، على ما يأتي في محله توضيحه إن شاء الله تعالى.
57

وأظهر من ذلك حال العناوين الخاصة المأخوذة في التكليف، كالوقت،
فإنها خارجة عن الموضوع المعتبر في الاستصحاب بلا إشكال.
الثاني: ما قد يظهر من بعض الأعاظم قدس سره من أن عدم التكليف الثابت
في حال الصبا، ليس إلا عبارة عن عدم وضع قلم التكليف على الصبي، بمعنى
كونه مرخى العنان من دون أن يكون الشارع قد أطلق عنانه ورفع قلم التكليف
والحرج عنه، بل هو كالبهائم خارج عن قابلية التكليف.
وفيه - مع عدم جريانه بلحاظ حال عدم تمامية الشروط الخاصة،
كالوقت، حيث لا إشكال في حكم الشارع في حق المكلف بعدم التكليف،
كسائر موارد الترخيص الشرعي - أنه إن كان المراد أن العدم المستصحب هو
العدم المقارن لعدم الموضوع، لا العدم النعتي المقارن لوجود الموضوع.
فهو - مع ابتنائه على عدم جريان استصحاب العدم الأزلي - لا مجال له
بلحاظ حال التمييز قبل البلوغ، لوضوح أن الصبي حينئذ قابل للتكليف كالبالغ،
وإنما الرفع في حقه بحكم الشارع امتنانا.
على أن عدم قابلية غير المميز أو المجنون للتكليف ليس لتقوم
الموضوع المعتبر في الاستصحاب - الذي هو بمعنى المعروض - بالتمييز
والعقل، بحيث يكون عدم التكليف قبلهما من باب السالبة بانتفاء الموضوع، بل
لكونهما شرطين عقليين زائدين عليه، مع كون الموضوع هو ذات الانسان
المعروضة لهما، ولذا يصدق على من سبق له الجنون - مثلا - أنه كان غير مكلف
شرعا بنحو القضية الموجبة المعدولة المحمول، فلا يكون استصحاب عدم
التكليف في حقه من استصحاب العدم الأزلي.
وإن كان المراد أن عدم التكليف في حق الصبي والمجنون لا يرجع إلى
خطابهما بعدم التكليف، بل إلى مجرد عدم خطابهما به، لخروجهما عن
موضوعه، ويعلم بانقلاب العدم المذكور بعد البلوغ والعقل إلى الخطاب
58

بالتكليف أو عدمه، فلا مجال لاستصحاب العدم السابق.
فهو - لو تم حتى في حق المميز - لا يضر في ما نحن فيه، لوضوح أن
العلم بخطابهما بالتكليف أو بعدمه لا ينافي احتمال استمرار عدم خطابهما
بالتكليف المتيقن سابقا، فيصح استصحابه، وهو كاف في ترتب الأثر بلا حاجة
إلى إحراز خطابهما بعدم التكليف، بناء على ما هو التحقيق من أصالة الإباحة
عقلا، وأن استحقاق العقاب مشروط بالمنع والخطاب بالتكليف شرعا، كما
تقدم في الامر الخامس من الأمور التي ذكرناها تمهيدا للكلام في الأصول
العملية.
ومنه يظهر اندفاع ما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره من أن استصحاب
عدم المنع لا يجدي في إحراز الاذن والترخيص، إلا بناء على الأصل المثبت.
إذ فيه: أنه لا حاجة إلى، إحراز الاذن والترخيص بناء على ذلك، بل يكفي
إحراز عدم المنع في ترتب العمل.
الثالث: أن ما يترتب على الاستصحاب المذكور من السعة في مقام العمل
وعدم المسؤولية بالتكليف وعدم استحقاق العقاب عليه ثابت بنفس الشك
عقلا وشرعا، بلا حاجة إلى الاستصحاب، لما تقدم من الأدلة الشرعية والعقلية
على عدم العقاب من غير بيان، فيكون التعبد بالاستصحاب لغوا، لعدم
الفائدة فيه.
وفيه: أن عدم المسؤولية والعقاب مع الشك بملاك عدم تحق شرط
العقاب، وهو تنجيز التكليف، أما عدم المنع الشرعي فهو بملاك عدم المقتضي
له، فالتعبد به بالاستصحاب تعبد بعدم المقتضي، ومثل هذا كاف في رفع لغوية
التعبد باستصحاب عدم المنع عرفا وإن كانا مشتركين في الأثر، والا امتنع
استصحاب الحل والإباحة التي هي مقتض لعدم الاستحقاق، بل التعبد بالطرق
والحجج المثبتة لهما، بل امتنع جعل الإباحة والترخيص ثبوتا، لعدم الأثر العملي
59

للجميع إلا السعة عقلا وعدم العقاب الذي يترتب بمجرد الشك وعدم وصول
المنع الشرعي.
ولا رافع للغوية إلا ما ذكرنا من اختلاف نحو ترتب عدم استحقاق
العقاب، حيث أن ترتبه مع جعل الترخيص والإباحة لتحقق مقتضي عدم
الاستحقاق ثبوتا، ومع التعبد بهما بالأصل أو الامارة لثبوته تعبدا، ومع عدم
المنع واقعا لعدم المقتضي للاستحقاق ثبوتا، ومع التعبد به بالأصل أو الامارة
للتعبد بعدمه.
أما مجرد الشك في المنع وعدم تنجزه فعدم العقاب معه لعدم تحقق
شرطه مع احتمال وجود مقتضيه. وقد ذكرنا نظير ذلك عند الكلام في أصالة
عدم الحجية في أوائل مباحث الحجج.
وما ذكرنا هو العمدة في المقام، لا ما قد يستفاد من غير واحد من أن الأثر
في ظرف جريان الاستصحاب يكون مستندا إليه لا للشك، حيث يكون
الاستصحاب رافعا للشك الذي هو موضوع قاعدة قبح العقاب حقيقة، وللشك
الذي هو موضوع البراءة الشرعية تعبدا.
إذ فيه: أنه لا يرفع محذور لغوية التعبد بالاستصحاب بعد كون الأثر
المترتب عليه مترتبا مع عدمه.
وأشكل من ذلك ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أنه يكفي في
فائدة الاستصحاب في المقام كونه حاكما على أدلة الاحتياط أو معارضا لها،
ليرجع بعد المعارضة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلو لم يجر كان المعول
على أدلة الاحتياط، لورودها على قاعدة قبح العقاب.
إذ فيه: أن المعارضة وإن كانت من الآثار المترتبة على الدليل، إلا أنها
ليست من الاغراض الملحوظة للحاكم المصححة لورود الدليل عرفا، إذ لو كان
غرضه عدم العمل بالاحتياط كان الأنسب له عدم نصب الأدلة عليه، أو التنبيه
60

على عدم إرادة ظاهرها. إلا أن يفرض تعذر ذلك عليه، للزوم محذور منه. لكنه
في المقام بعيد جدا.
على أن الظاهر في المقام تقديم أدلة الاحتياط لأنها أخص، إذ لو فرض
تقديم الاستصحاب لم يبق لها مورد إلا مع تعارض الاستصحابين، وهو إنما
يكون مع العلم الاجمالي بالتكليف الإلزامي، الذي يجب معه الاحتياط بحكم
العقل، ولا أثر للأدلة المذكورة، بخلاف ما لو فرض تقديم أدلة الاحتياط، فإنه
يمكن الرجوع للاستصحابات الموضوعية الحاكمة، ولاستصحاب التكليف
ونحوها.
الرابع: أن الاستصحاب المذكور موجب للغوية أدلة البراءة الشرعية
المتقدمة، لجريانه في غالب مواردها أو كلها، فيكون حاكما عليها مغنيا عنها.
ويندفع.. أولا: بأنه لو سلم عدم عموم أدلة البراءة - ولو من حيث شمولها
للغفلة أو الجهل المركب - فقد يجمع بينها وبين أدلة الاستصحاب بحملها على
مجرد ثبوت السعة مع الشك ولو من جهة الحالة السابقة، لا لمحض الشك،
لتنافي الاستصحاب. ولعل هذا هو مراد بعض مشايخنا في المقام.
وثانيا: بأنه قد يكون الغرض من أدلة البراءة بيان صلوح الشك لاثبات
السعة مع قطع النظر عن الحالة السابقة، وإن كانت الحالة السابقة أيضا صالحة
لذلك. ويكون التنبيه على ذلك لأنه أيسر وأقرب للذهن، نظير ما ذكرناه في
موثقة مسعدة بن صدقة في وجه التنبيه على الأصل المحكوم واغفال الأصل
الحاكم. فلاحظ.
وبالجملة: لا مخرج عن عموم أدلة الاستصحاب في المقام، فلا بأس
بالرجوع إليه.
ثم إنه قد يتمسك في المقام باستصحاب عدم جعل التكليف في عالم
التشريع، لان الجعل المذكور أمر حادث مسبوق بالعدم بلحاظ حال ما قبل
61

التشريع.
ويندفع: بأن العمل إنما يترتب على التكليف المجعول لا على نفس
الجعل، فالاستصحاب المذكور مثبت. بل لعل عنوان الجعل عنوان انتزاعي، فلا
يكون موضوعا للآثار.
ولو أريد استصحاب عدم التكليف المجعول بنحو القضية الحقيقية
الكلية، وهو العدم المتيقن قبل التشريع أيضا، أشكل: بأن الأثر إنما يترتب على
التكليف الفعلي، لا الانشائي الذي هو مفاد القضية الحقيقية، فلابد من
استصحاب عدمه، كما تقدم منا تقريبه، وتمام الكلام في ذلك في مبحث
الاستصحاب التعليقي واستصحاب عدم النسخ.
هذا، وقد يقرب الاستصحاب بوجوه اخر ظاهرة الوهن، لا مجال لإطالة
الكلام فيها.
هذا، تمام الكلام في أدلة القول بالبراءة والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق
والتسديد.
وحيث انتهى الكلام هنا فينبغي الكلام في أدلة الاحتياط.
وقد يستدل بالأدلة الثلاثة، وهي: الكتاب، والسنة، والعقل.
أما الكتاب، فقد استدل منه بآيات كثيرة، لعل عمدتها ما تضمن النهي
عن القول بغير علم، وما تضمن الامر بالتقوى.
وتقريب الاستدلال بالأولى أن الحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة
قول عليه بغير علم وافتراء لم يؤذن فيه.
قال شيخنا الأعظم قدس سره: (ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط، لأنهم لا
يحكمون بالحرمة، وإنما يتركون لاحتمال الحرمة، وهذا بخلاف الارتكاب، فإنه
لا يكون الا بعد الحكم بالرخصة والعمل على الإباحة).
أقول: الترك لاحتمال الحرمة إن كان لحكم العقل فهو - مع ابتنائه على ما
62

يأتي الكلام فيه، وخروجه عن فرض الاستدلال بالكتاب - قد يجري مثله من
القائلين بالبراءة، إذ يمكن استنادهم لحكم العقل من دون نسبة القول به للشارع،
ليلزم القول عليه من غير علم.
وإن كان لدعوى حكم الشارع به - كما هو ظاهر أكثر استدلالاتهم - فهو
يتضمن نسبة الحكم به للشارع، فلابد من الاستناد فيه للعلم، كالقول بالبراءة
الشرعية.
مع أن القائل بالبراءة قد سبق منه الاستدلال بأدلة علمية شرعية أو عقلية،
فلا يكون قوله بها قولا بغير علم.
وتقريب الاستدلال بالثانية: أن الاحتياط في الشبهة مقتضى التقوى لله
تعالى.
وفيه: أن التقوى عبارة عن التحرز والتوقي عن عقابه تعالى، فيختص
بالشبهة التي يحتمل معها العقاب، والقائل بالبراءة مع الشك في التكليف يدعي
الامن منه، لأدلة عقلية وشرعية، فلا موضوع معه للتقوى.
هذا، مع النقض في الاستدلال بكلتا الطائفتين بما هو المتسالم عليه من
عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعية، وما هو المشهور بين الأخباريين
أنفسهم من عدم وجوبه في الشبهة الوجوبية الحكمية، فإنه لا مجال لالتزام
تخصيص أدلة البراءة فيهما للأدلة المتقدمة، لآبائها عن التخصيص جدا، فلابد
من التزام ورودها عليها، وكونها رافعة لموضوعها، ومثله يجري في الشبهة
التحريمية الحكمية، كما لا يخفى.
وهناك بعض الآيات الاخر بألسنة اخر قد يستدل بها في المقام بوجه
ظاهر الوهن، خصوصا بعد ما عرفت.
وأما السنة، فقد يستدل منها بطوائف..
الأولى: ما تضمن النهي عن القول والعمل بغير علم.
63

ويظهر الجواب عنها مما تقدم في الطائفة الأولى من الآيات.
الثانية: ما تضمن النهي عن الاخذ بالشبهة والتورط فيها، والامر بالتوقف
والكف عنها، وهي كثيرة بألسنة مختلفة لا مجال لاستقصائها، تعرض شيخنا
الأعظم قدس سره لجملة منها، وذكر كثيرا منها في الباب الثاني عشر من أبواب صفات
القاضي من الوسائل. فراجع.
قال شيخنا الأعظم قدس سره: (وظاهر التوقف المطلق السكون وعدم المضي،
فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل، وهو محصل قوله عليه السلام: في بعض
تلك الأخبار: (الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات) فلا يرد
على الاستدلال أن التوقف في الحكم الواقعي مسلم عند كلا الفريقين، والافتاء
بالحكم الظاهري منعا أو ترخيصا مشترك كذلك، والتوقف في العمل لا معنى
له).
ويشكل الاستدلال المذكور: بأن ظاهر كثير من النصوص بعد التأمل فيها
أن المراد بالشبهة ليس مجرد احتمال التكليف الواقعي من دون حجة عليه،
لينفع في ما نحن فيه، بل أحد أمرين..
الأول: ما قد يعتمد عليه ويؤخذ به مما ليس بحجة، كالقياس
والاستحسان، كما هو الظاهر مما عن رسالة المحكم والمتشابه عن أمير
المؤمنين عليه السلام في حديث طويل: (فاعلم أنا لما رأينا من قال بالرأي والقياس قد
استعملوا الشبهات لما عجزوا من عرفان إصابة الحكم...) (1)، ومرسل البرقي،
قال أبو جعفر عليه السلام: (لا تتخذوا من دون الله وليجة فلا تكونوا مؤمنين، فإن كل
سبب، ونسب، وقرابة، ووليجة، وبدعة وشبهة باطل مضمحل، إلا ما أثبته

(1) الوسائل ج: 18، باب: 6 من أبواي صفات القاضي حديث: 38.
64

القرآن) (1)، ومقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (قال رسول
الله صلى الله عليه وآله: حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من
المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات...) (2)، وخبر سلام بن
المستنير عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: (قال جدي رسول الله: أيها الناس
حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة. ألا وقد بينهما الله
عز وجل في الكتاب، وبينتهما لكم في سنتي وسيرتي، وبينهما شبهات من
الشيطان وبدع من بعدي، من تركها صلح له أمر دينه وصلحت له مروته
وعرضه، ومن تلبس بها (و) وقع فيها واتبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى
...) (3)، وما عن تفسير العياشي عن الرضا عليه السلام: (ان هؤلاء قوم سنح لهم الشيطان
اغترهم بالشبهة ولبس عليهم أمر دينهم..) (4). وما عن تفسير علي بن إبراهيم
عن أبي جعفر عليه السلام، في قوله تعالى: (والذين كسبوا السيئات...) قال: (هؤلاء
أهل البدع والشبهات والشهوات...) وقريب منه خبره الآخر (5)، فان الظاهر من
أهل الشبهات من يعرفون بالعمل بها وترويجها، كالبدع، وكأنه إلى هذا المعنى
يشير ما عن أمير المؤمنين عليه السلام: (وانما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق، فأما
أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين، ودليلهم سمت الهدى، وأما أعداء الله فدعاؤهم
فيها الضلال ودليلهم العمى) (6).
الثاني: مجرد عدم تشخيص الوظيفة الفعلية ولو كانت ظاهرية، في مقابل

(1) الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواي صفات القاضي ح: 6
(2) الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي ح: 9.
(3) الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاصي ح: 47.
(4) الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاصي ح: 49.
(5) الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي ح 52 و 53. و 53.
(6) الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي ح: 20.
65

كون الانسان على بصيرة من أمره، نظير ما عن أبي عبد الله عليه السلام: (العامل على غير
بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعدا) (1).
ويستفاد هذا المعنى من مقابلة الشبهة بالبينة في مرسل موسى بن بكر:
(فإن كنت على بينة من ربك، ويقين من أمرك، وتبيان من شأنك فشأنك، والا
فلا ترو من أمرا أنت منه في شك وشبهة) (2)، ومقابلتها بالحجة في كتاب أمير
المؤمنين عليه السلام للأشتر: (اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك...
أوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج...) (3).
هذا، ولا يخفى التناسب بين المعنيين، وعلى أحدهما يمكن حمل بقية
نصوص المقام، بجعل الشبهة فيها كناية عن عدم البصيرة في الامر في مقابل
البينة التي يكفي فيها تشخيص الوظيفة الفعلية الظاهرية.
وإرادة خصوص الجهل بالحكم الواقعي من الشبهة اصطلاح متأخر
للأصوليين من أصحابنا لا ملزم بحمل النصوص المذكورة عليه.
ومجرد مقابلتها في مثل حديث التثليث بالحلال البين والحرام البين، لا
يقتضيه، لقرب حملهما على ما يعم تبين الوظيفة الظاهرية، ليطابق النصوص
الكثيرة المتقدمة ويناسبها.
ويشهد بما ذكرنا - مضافا إلى ذلك - أمران:
الأول: أن المنسبق من النصوص المستدل بها هو التنبيه إلى أمر ارتكازي
إرشادي، ومن الظاهر أن الامر الارتكازي هو الوقوف عند الشبهة بالمعنى الذي
ذكرناه، لا بالمعنى الذي يريده المستدل، بل هو أمر تعبدي شرعي بعيد عن مفاد
النصوص جدا.

(1) الوسائل، ج 18 باب: 4 من أبواب صفات القاضي حديث: 11.
(2) الوسائل، ج 18 باب: 12 ص ت أبواب صفات القاضي حديث: 1.
(3) الوسائل، ج 18 باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 18.
66

ثم إنه لأجل ذلك يكون عموم النهي عن ارتكاب الشبهة آبيا عن
التخصيص بالإضافة إلى الشبهات الموضوعية التي لا خلاف في الرجوع فيها
للبراءة، والوجوبية الحكمية التي اشتهر بين الأخباريين فيها ذلك. وحينئذ يتعين
التزام ورود أدلة البراءة عليها وكونها رافعة لموضوعها - نظير ما تقدم في
الاستدلال بالكتاب - وهو موقوف على حملها على ما ذكرناه من المعنى.
نعم، قد يدعى قصور العموم المذكور عن شمول الشبهة الوجوبية، إما لما
سبق من شيخنا الأعظم قدس سره من أن ظاهر الوقوف السكون المطلق وعدم المضي،
فإن الاحتياط بذلك إنما يناسب الشبهة التحريمية لا الوجوبية، أو لما تضمنه
بعض النصوص - كحديث التثليث - من أن الاقتحام في معرض الوقوع في
الحرام الواقعي.
اللهم إلا أن تعمها لعموم التعليل الارتكازي في النصوص بلزوم الهلكة،
فلابد أن يراد من الوقوف في الشبهة عدم الاقتحام في احتمال المخالفة الواقعية
معها، وإن كان ذلك يختلف باختلاف نوعي الشبهة، ففي الشبهة التحريمية
بالفعل، وفي الشبهة الوجوبية بالترك. فتأمل.
الثاني: أن ظاهر كثير من نصوص المقام المفروغية عن منجزية الشبهة،
لا الحكم بمنجزيتها تعبدا وتأسيسا، فإن الظاهر من مثل قولهم عليهم السلام في غير
واحد من النصوص: (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة)،
وقولهم عليهم السلام: (من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم)
المفروغية عن ترتب الهلكة على تقدير الوقوع في الحرام الواقعي، وأن النهي
وارد للارشاد إلى ذلك، لبيان أن تحمل كلفة الاحتياط أهون من الوقوع في
الهلكة المحتملة، لا لبيان ترتب الهلكة، تأسيسا، ليقتضي منجزية الشبهة تعبدا،
نظير بيان ترتب العقاب على بعض الأمور لبيان حرمتها تعبدا.
نعم، لو قيل: الاخذ بالشبهة موجب للهلكة كان مسوقا لبيان ذلك، لا
67

المفروغية عنه.
فالمقام نظير قول القائل في مقام الامر بالحمية: ترك الاكل أهون من
علاج المرض، فإنه ظاهر في المفروغية عن كون الاكل معرضا للمرض، ولبس
كقولنا: الاكل يوجب المرض، في كونه مسوقا لبيان ذلك.
وحينئذ فحيث لا مفروغية عن منجزية الشبهة بالمعنى الذي يريده
المستدل، لما هو الملوم المتفق عليه ظاهرا من أن مقتضى الأصل العقلي عدم
منجزية الشبهة بالمعنى المذكور، فلا مجال لحمل النصوص عليه، بل على
المعنى الذي ذكرناه، الذي هو مفروغ عن تنجز التكليف معه.
ولأجل ما ذكرنا فلو فرض حمل الشبهة في النصوص المذكورة على
المعنى الذي يريده المستدل تعين اختصاصها بما ثبت من الخارج تنجز
التكليف معه، ولم تنهض هذه النصوص بإثبات منجزيتها مطلقا، إذ ليست
مسوقة لبيان المنجزية تعبدا، بل للارشاد للتوقف عن الشبهة المفروض
منجزيتها، والتعرض للهلكة بالاقدام عليها.
ونظير ذلك ما تقدم من المثال، فإنه لا إطلاق للاكل المنهي عنه في المثال
الأول يقتضي المنع عن كل أكل، بل لا منع إلا مما كان منه مضرا، ولابد من اثباته
من الخارج، بخلاف المثال الثاني، فإن الاطلاق فيه مستحكم، كما هو ظاهر.
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن النصوص المذكورة واردة للارشاد
إلى لزوم التوقف في الشبهات التي يتنجز فيها التكليف الواقعي، من دون فرق
بين الشبهات الموضوعية والحكمية التحريمية والوجوبية، لعموم التعليل فيها
لو فرض قصورها لفظا عن شمول الشبهات الوجوبية، ولا تنهض باثبات
منجزية التكليف الواقعي بمجرد الشك فيه، لينفع في ما نحن فيه في معارضة
أدلة البراءة، أو الورود عليها، بل أدلة البراءة هي المقدمة لورودها على
المضمون المذكور، لأنها موجبة للعلم بالوظيفة الفعلية والامن من العقاب
68

والهلكة.
نعم، في موثقة مسعدة بن زياد عن الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله، قال: (لا تجامعوا
في النكاح على الشبهة. يقول: إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها وأنها لك
محرم وما أشبه ذلك، فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) (1).
وهي ظاهرة في لزوم التوقف مع احتمال الحرمة، وأن المراد بالشبهة ذلك.
إلا أنها - مع معارضتها بموثقة مسعدة بن صدقة التي تقدمت في أدلة
القول بالبراءة، حيث تعرضت لموردها نصا. وأنها واردة في الشبهة الموضوعية
التي هي مجرى البراءة حتى عند الأخباريين، فلا يبعد حملها لأجل ذلك على
الكراهة. فتأمل - محمولة على أن المراد بالهلكة فيها ليس هو العقاب، بل
المفسدة والملاك الواقعي المقتضي للتحريم، الذي يكون ارتكاب الشبهة
معرضا للوقوع فيه، لاهتمام الشارع به في باب النكاح، فيكون الوقوع فيه من
المحاذير التي يصح إطلاق الهلكة عليها توسعا. أو تحمل على الارشاد بلحاظ
المشاكل المترتبة على تقدير انكشاف الحال. على أنها لو تمت فليست ظاهرة
في منجزية الشبهة تأسيسا وتعبدا، ليتعدى عن موردها بعموم التعليل - لما
عرفت من عدم ظهور اللسان المذكور في ذلك - بل في الارشاد بعد المفروغية
عن منجزية الشبهة ولو لأدلة اخر، فلا يمكن التعدي لغير موردها بعد عدم
ثبوت المنجزية فيه من دليل آخر. فتأمل جيدا.
ومما ذكرنا يظهر حال كثير من النصوص المذكورة في الباب الثاني عشر
من باب صفات القاضي من الوسائل، التي لم تتضمن عنوان الشبهة إلا أنها قد
سيقت مساق نصوصها، في لزوم السكوت، والكف عند عدم العلم والحيرة
والريب، والنهي عن التفريط، وعن الإقامة على الظن والشك، إلى غير ذلك من

(1) التهذيب ج: 7 باب الزيادات في فقه النكاح، ح: 112 ص 474 والوسائل، ج 18، ص 116
69

المضامين الراجعة إلى لزوم التوقف في القول والعمل عند عدم وضوح الحجة
وتخوف الهلاك. فلاحظها.
الطائفة الثالثة: مما تضمن الامر بالاحتياط، كصحيح عبد الرحمن بن
الحجاج، سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان، الجزاء
بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال: (لا، بل عليهما أن يجزى كل واحد
منهما الصيد) قلت: ان بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه. فقال: (إذا
أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا) (1)،
وموثقة عبد الله بن وضاح، كتبت إلى العبد الصالح عليه السلام: يتوارى القرص ويقبل
الليل، ثم يزيد الليل ارتفاعا، وتستتر عنا الشمس، وترتفع فوق الجبل حمرة،
ويؤذن عندنا المؤذنون، أفأصلي حينئذ، أو أفطر إن كنت صائما، أو أنتظر حتى
تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إلي: (أرى لك أن تنتظر حتى تذهب
الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدينك) (2)، وخبر الجعفري عن الرضا عليه السلام: (ان أمير
المؤمنين عليه السلام قال لكميل بن زياد: أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت) (3)،
وما أرسله الشهيد قدس سره عن الصادق عليه السلام: (لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة
لدينك) (4)، وخبر عنوان البصري عن أبي عبد الله عليه السلام: (سل العلماء ما جهلت،
وإياك أن تسألهم تعنتا وتجربة، وإياك أن تعمل برأيك شيئا، وخذ بالاحتياط في
جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا، واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل
رقبتك عتبة للناس) (5)، وما أرسل عنهم عليهم السلام: (ليس بناكب عن الصراط من

(1) ج 4، كتاب الحح، ص 391.
(2) التهذيب ج 2، ص 259.
(3) الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي ح 41.
(4) الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاصي ح: 58.
(5) الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي ح: 54.
70

سلك سبيل الاحتياط) (1).
والجواب: أما عن الصحيح فبأنه لا إطلاق له، ولا عموم فيه، ينفع في ما
نحن فيه، بل هو مختص بمورده. ولعل الامر فيه بالاحتياط لكون المراد
بقوله عليه السلام: (بمثل هذا) هو السؤال عما لا يعلم الذي يجب فيه الاحتياط بترك
الجواب، أو الابتلاء بمثل واقعة الصيد مما لا يعلم حكمه مع التمكن من
الفحص، الذي لا إشكال في وجوب الاحتياط فيه عملا قبل الفحص.
ومثله في ذلك الموثقة، لظهورها في السؤال عن حكم الشبهة الموضوعية
في دخول الليل الحاصلة من تواري القرص وظهور ظلام الليل وأذان المؤذنين،
ولا إشكال في أن مقتضى استصحاب النهار وجوب الانتظار.
كما أنه لو فرض بعيدا كون السؤال للشبهة الحكمية الراجعة إلى احتمال
كفاية سقوط القرص في دخول الليل وعدم اعتبار غيبوبة الحمرة، فحيث لم
يكن الجواب بالاحتياط وظيفة الإمام عليه السلام بل وظيفته رفع الشبهة، فلعل التعبير
بالاحتياط لأجل التقية لايهام أن الوجه في التأخير هو حصول الجزم بغيبوبة
القرص، لا أن المغرب لا يدخل مع غيبوبته، كما نبه له شيخنا الأعظم قد س سره.
وبالجملة: لا إطلاق في الموثقة ليتعدى به عن موردها.
ودعوى: أن قوله عليه السلام: (وتأخذ بالحائطة لدينك) مسوقة مساق التعليل
الموجب لعموم الحكم لجميع موارد الشبهة.
مدفوعة: - مضافا إلى أنه لا يبلغ مرتبة الظهور الحجة، وغايته الاشعار.
وأن مورده الشبهة الموضوعية التي لا إشكال في عدم وجوب الاحتياط فيها -
بأن ظاهر الاحتياط في الدين هو الاحتياط الذي يلزم من تركه تعرض الدين
للخطر، وهو مختص بما إذا تنجز الواقع، فهو نظير أخبار الشبهة ظاهر في عموم

(1) جامع أحاديث الشيعة ج 1 ص 332.
71

لزوم الاحتياط مع تنجز الواقع إرشادا، ولا ينهض بإثبات منجزية الاحتمال
تعبدا، لينفع في ما نحن فيه.
ومنه يظهر الجواب عن خبر الجعفري. وكذا مرسل الشهيد قدس سره مضافا
إلى أنه لا ظهور لهما في الوجوب، خصوصا الثاني، بل هو لا يخلو عن إجمال،
بل لعله مشتمل على التصحيف.
وأما خبر عنوان البصري فهو - مع ضعف سنده - ظاهر في وجوب
الاحتياط في كل شئ، ولا ريب في عدم كون القضية المذكورة شرعية تعبدية
إلزامية، فلابد من حملها على الارشاد إلى لزوم الضبط والاتقان في مقام تحصيل
الواقع الذي يهتم بتحصيله وعدم التفريط فيه، وهو متفرع على فرض الاهتمام
بالواقع، ولا ينهض بإثبات اهتمام الشارع بالأحكام الواقعية غير الواصلة بنحو
يقتضي لزوم الاحتياط فيها مع عدم قيام الحجة عليها، بل يحتاج إلى دليل آخر،
نظير ما تقدم. ومن جميع ما ذكرنا يظهر وجوه الوهن في الاستدلال بالمرسل
الأخير.
وهناك روايات اخر قد ذكرها في الوسائل لا مجال لإطالة الكلام فيها،
لظهور قصور دلالتها جدا.
وأما العقل، فقد يقرب إلزامه بالاحتياط بوجهين:
الأول: ان الأصل في الافعال غير الضرورية الحظر.
لكن ذكرنا في الامر الخامس من التمهيد الذي قدمناه لمباحث الأصول
العملية أن المراد بالأصل المذكور..
تارة: حكم العقل بالحظر قبل ورود الأحكام الشرعية.
وأخرى: أنه بعد فرض ورود الأحكام الشرعية فالعقل يحكم بأن الأصل
في مورد الشك في نوع الحكم كون الحكم الواقعي هو الحظر لا الإباحة.
وثالثة: أنه بعد فرض ورودها والشك في نوع الحكم فالعقل يلزم ظاهرا
72

بالاحتياط في مقام العمل، مراعاة لاحتمال التكليف من دون تعرض للحكم
الواقعي، وذكرنا - أيضا - أنه على الأولين فالأصل المذكور - مع أنه غير تام في
نفسه - أجنبي عن محل الكلام.
كما ذكرنا في أول الكلام في حكم الشك في التكليف انه لا مجال لتقرير
الأصل بالوجه الثالث، بل المرجع أصالة البراءة الراجعة إلى حكم العقل بقبح
العقاب من غير بيان.
هذا، مع أنه لو تم الأصل المذكور كانت أدلة البراءة الشرعية واردة عليه
رافعة لموضوعه.
الثاني: حصول العلم الاجمالي باشتمال الشريعة على تكاليف في
الوقائع التي هي محل ابتلاء المكلف، وحيث يحتمل كون مورد الشبهة منها وجب الاحتياط فيه، بناء على ما هو الحق من كون العلم الاجمالي منجزا لجميع
أطرافه ومقتضيا للاحتياط فيها.
ولا يخفى أن هذا الوجه - لو تم - لا يقتضي إنكار جريان البراءة في محل
الكلام - وهو الشك في أصل التكليف - بل إنكار الصغرى لذلك، بدعوى أن
الشك دائما في تعيين التكليف، الذي يأتي الكلام فيه في الفصل الثالث إن شاء
الله تعالى. وإنما ينبغي التعرض له هنا لكمال مناسبته له، لرجوعه إلى عدم ترتب
العمل على محل الكلام لعدم الصغرى له.
إذا عرفت هذا، فاعلم أنه قد يجاب عن العلم الاجمالي بوجوه..
الأول: أن العلم المذكور لا أثر له بعد قيام الطرق المعتبرة على ثبوت
التكاليف في كثير من الوقائع بنحو لا يعلم بثبوتها في غيرها من الوقائع المشتبهة
الحكم، لان الطرق المذكورة موجبة للتعبد بثبوت التكاليف في مواردها
المستلزم لتمييز المعلوم بالاجمال وارتفاع العلم الاجمالي.
وفيه: أن الطرق المذكورة لا تصلح لتمييز المعلوم بالاجمال، لعدم
73

تعرضها لتعيين التكاليف الواقعية المعلومة بالاجمال وحصرها بمواردها ونفيها
عن غيرها، بل ليس مفادها إلا ثبوت التكاليف في مواردها بنحو لا ينافي احتمال
ثبوتها في غيرها الذي هو مقتضى العلم الاجمالي.
وهذا هو العمدة، لا ما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره من أن احتمال خطأ
الطريق مانع من صلوحه لرفع العلم الاجمالي.
إذ فيه: أن الاحتمال المذكور لا أثر له بعد فرض حجية الطريق، ولذا لا
إشكال في ارتفاع أثر العلم الاجمالي معه لو كان شارحا للمعلوم بالاجمال،
ومعينا لمورده.
الثاني: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من منع تعلق تكليف غير القادر على
تحصيل العلم بغير ما أدى إليه الطرق غير العلمية المنصوبة له، فهو مكلف
بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق، لا بالواقع من حيث هو، ولا بمؤدى هذه
الطرق من حيث هو، حتى يلزم التصويب أو ما يشبهه، لان ذلك هو المتحصل
من ثبوت الاحكام الواقعية للعالم وغيره، وثبوت التكليف بالعمل بالطرق.
وفيه: أن الجمع بين أدلة الاحكام الواقعية وأدلة الطرق إنما هو بحمل
الأولى على جعل الاحكام ثبوتا، والثانية على جعل الطريق لاحرازها إثباتا،
المستلزم لتنجيزها أو التعذير منها، فلا ينافي تنجزها بالعلم الاجمالي أيضا بعد
كونها أحكاما فعلية حقيقية.
ولا مجال لتقييد الأولى بالثانية، بحيث لا يكون الحكم الواقعي فعليا عند
عدم قيام طريق عليه، فلا يتنجز بالعلم الاجمالي، إذ لا ظهور لأدلة الطرق إلا
في لزوم العمل بها، لا في حصر العمل بها لتصلح للتقييد. بل يمتنع الحكم
الواقعي بقيام الطريق عليه إلا بتكلف لا مجال له في المقام، أشرنا إليه في مبحث
القطع الموضوعي.
مع أن لازم ذلك عدم ثبوت الحكم في حق من لم يقم عنده طريق، وهو
74

خلاف الاجماع على اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل،
الذي لأجله التزم قدس سره ببطلان التصويب في موارد الطرق.
بل لازم ذلك ارتفاع موضوع الأصول العملية، للعلم بعدم التكليف
الفعلي في غير موارد الطرق، فلا وجه للاهتمام بها. بل يلزم من ذلك عدم
وجوب العمل بالحكم الواقعي لو فرض العلم به تفصيلا من دون قيام طريق
عليه. إلى غير ذلك مما لا مجال للالتزام به.
الثالث: النقض بالشبهات الوجوبية، فإن ما سبق من العلم الاجمالي جار
فيها، مع أن المعروف عند الأخباريين عدم وجوب الاحتياط فيها.
وزاد بعض مشايخنا فنقض بالشبهات الموضوعية التي لا خلاف في عدم
وجوب الاحتياط فيها.
لكنه غير ظاهر، لعدم العلم الاجمالي بالتكليف في الشبهات الموضوعية
التي هي محل ابتلاء المكلف. ولو فرض وجوده خرج عن محل الكلام.
نعم، قد يعلم المكلف قبل الابتلاء بالشبهات بأن ما سوف يبتلى به من
الشبهات يشتمل على تكاليف واقعية يلزم من الرجوع للأصول الترخيصية
مخا لفتها.
إلا أن العلم المذكور لا أثر له، بل هو كالعلم إجمالا بخطأ بعض الطرق. أو
الأصول المنصوبة التي تقوم تدريجا في الشبهات الموضوعية التي يبتلى بها
المكلف تدريجا، لان الشبهات المذكورة لما لم يلتفت إليها بأنفسها حين العلم
المذكور فلا تصلح للخطاب، والالتفات إليها بعنوان الشبهة لا أثر له في
التنجيز، إذ موضوع التنجيز هو مصداق الشبهة المتوقفة على فعلية الالتفات.
وليست الشبهة الا عنوانا تعليليا لا تقييديا. فتأمل.
وبالجملة: لا إشكال في أن العلم الاجمالي المذكور ليس كالعلم الاجمالي
المدعى في المقام، فلا مجال للنقض به.
75

الرابع: انحلال العلم الاجمالي المذكور بسبب قيام الطرق المعتبرة، لعدم
العلم بوجود التكاليف في غير موارد الطرق المذكورة، ويمكن انطباق المعلوم
بالاجمال على مواردها، كما تقدم نظيره عند الاستدلال بحكم العقل على حجية
خبر الواحد.
وقد أطال غير واحد في المقام في أن الانحلال حقيقي أو حكمي، وهو
مبني على ضابط أحد الا مرين، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك في
الفصل الثاني، ولا ينبغي الكلام فيه هنا.
هذا تمام الكلام في حجج القائلين بالاحتياط، وقد عرفت وهنها، وأن
المرجع في المقام أدلة البراءة.
ولا فرق في جميع ذلك بين عدم النص واجماله، لعدم صلوح النص
المجمل للبيان، فلا ينهض برفع اليد عن أدلة البراءة المتقدمة.
والظاهر أنه لا إشكال في ذلك لو كان إجمال النص ناشئا من إجمال ما
يدل على الحكم، كما لو دار الامر بين الوجوب والاستحباب، أو دار النهي بين
الحرمة والكراهة.
أما لو كان ناشئا من إجمال ما يدل على الموضوع - كما لو فرض إجمال
الغناء بالإضافة إلى بعض الافراد، أو إجمال العموم الافرادي وتردده بين الأقل
والأكثر - فقد يتوهم لزوم الاحتياط، لصلوح الدليل لاثبات التكليف بالعنوان
المجمل على ما هو عليه، فيجب عقلا إحراز الفراغ عنه بالاحتياط.
وفيه: أن أخذ العنوان اللفظي في التكليف ليس الا بلحاظ حكايته عن
معناه، فالمكلف به ليس إلا المعنى، وحيث فرض إجمال العنوان اللفظي فهو
وإن احتمل حكايته عن مورد الشك، إلا أنه لا يكون بيانا له قطعا، بل للقدر
المتيقن، فلا يتنجز مورد الشك حتى يجب الفراغ عنه، ولا مجال لتنجز المعنى
على ما هو عليه بعد فرض اختصاص البيان بالمتيقن.
76

نعم، لو فرض ظهور العنوان المكلف به في نفسه والشك في محققه
الخارجي لزم الفراغ عنه، كما في موارد الشك في المحصل. ولعله يأتي في
التنبيه الثاني ما ينفع في المقام.
تنبيهات
التنبيه الأول: في الشبهة الموضوعية
تقدم أن هم الأصولي البحث عن حكم الشبهات الحكمية التحريمية أو
الوجوبية، وأن الشبهات الموضوعية خارجة عنه، إلا أنها داخلة في ملاك
البحث، لشمول أكثر الوجوه المتقدمة للبراءة والاحتياط لها، كما أشرنا إليه.
ولأجل ذلك يتعين البناء فيها على البراءة. بل بعض النصوص صريح في
إرادتها، كموثقة مسعدة بن صدقة المتقدمة، ولعله لذا حكي الاجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها حتى من الأخباريين.
نعم، قد يتوهم وجوب الاحتياط فيها، لأنه مع فرض البيان الشرعي على
التكليف لا تجري أدلة البراءة منه، بل يتنجز، فيجب الفراغ عنه بالاحتياط في
جميع موارد الشبهات الموضوعية.
وفيه: أن الجعل الشرعي للحكم الكلي لا يقتضي فعلية التكليف الصالح
للاشتغال والمقتضي للامتثال إلا بفعلية موضوعه، فمع فرض الشك في ذلك لا
يعلم بثبوت التكليف كي يجب إحراز الفراغ عنه. ب‍
وبعبارة أخرى: الأدلة الشرعية إنما تقتضي العلم بالكبريات الشرعية،
وهي لا تقتضي العلم بالنتيجة - وهي الحكم الفعلي الموضوع للطاعة
والمعصية - إلا بعد إحراز الصغرى، فمع فرض عدم إحرازها لا يكون التكليف
الفعلي معلوما، كي يمتنع جريان أدلة البراءة منه.
ومنه يظهر أنه لا مجال لتوهم أنه لو فرض العلم بفعلية التكليف للعلم
77

بتحقق بعض مصاديق الموضوع لزم الاحتياط في موارد الاشتباه، للزوم الفراغ
عن التكليف المعلوم، كما لو كان هناك خمر معلوم تنجز التكليف بسببه وسائل
مشتبه الخمرية.
لاندفاعه: بأن التكليف الكلي ينحل إلى تكاليف متعددة بعدد
الموضوعات الخارجية، فالعلم بثبوت بعضها بسبب العلم بتحقق موضوعه لا
ينافي الشك في غيره، ليمنع من جريان البراءة فيه.
وبعبارة أخرى: العلم بالصغرى إنما يوجب العلم بالنتيجة بالإضافة إليها،
دون بقية الصغريات المجهولة، بل المرجع فيها البراءة.
ثم إنه لا ريب في الخروج عن أصالة البراءة في الشبهات الموضوعية
بالأصول الموضوعية المنقحة لموضوع الحكم بالتحريم، كاستصحاب النجاسة
في الماء الحاكم على أصالة البراءة من حرمة شربه، على ما هو الشرط
في التمسك بجميع الأصول الحكمية، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
أما لو فرض عدم جريان أصل كذلك فمقتضى ما عرفت هو الرجوع
لأصالة البراءة، إلا أنه يظهر من بعضهم في موارد متفرقة عدم الرجوع لأصالة
البراءة فيما لو أحرز مقتضي التحريم وشك في وجود المانع، بدعوى: بناء
العقلاء على العمل بالمقتضى وعدم التعويل على احتمال المانع وإن لم يحرز
عدمه. وهو المراد بقاعدة المقتضي في كلام بعضهم.
لكن البناء المذكور لم يثبت بنحو معتد به في الخروج عن مقتضى أدلة
الأصول، بل لابد في البناء على التحريم في المقام من إحراز عدم المانع ولو
بالأصل.
كما أن بعض الأعاظم قدس سره قد استثنى من الرجوع للبراءة ما لو كان الحكم
الترخيصي التكليفي أو الوضعي - كالطهارة - معلقا على عنوان وجودي، فقد
ذكر قدس سره أن إناطة الترخيص بالعنوان الوجودي ملازمة عرفا للبناء على عدمه عند
78

عدم إحرازه ولو بالأصل.
ولم يتضح الوجه في ما ذكره، لوضوح أن الحكم الواقعي المجعول على
العنوان في ظاهر الدليل مما لا مجال لاثباته مع عدم إحراز موضوعه، كما هو
الحال في سائر موارد الشك في موضوع الحكم المأخوذ في دليله، من دون فرق
بين الاحكام الترخيصية والالزامية، ولا بين الموضوعات الوجودية والعدمية،
لامتناع التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام بلا كلام، وليس
المدعى إلا البناء على الرخصة الظاهرية، لأنها الأصل مع الشك.
وحينئذ فإن كان المدعى أن إناطة الترخيص الواقعي بالعنوان الوجودي
تستلزم عرفا إيجاب الشارع للاحتياط مع عدم إحراز موضوعه، تخصيصا لأدلة
البراءة.
فهو ممنوع جدا، لعدم المنشأ للتلازم المذكور بين الحكمين، ولا سيما
مع عدم السنخية بينهما، لان مؤدى الدليل حكم واقعي، ووجوب الاحتياط
حكم ظاهري، كما نبه لذلك سيدنا الأعظم قدس سره.
ومثله دعوى: أن جعل الحكم بالنحو المذكور مستلزم عرفا لتعبد الشارع
بعدمه أو بعدم موضوعه ظاهرا عند عدم إحرازه، فالتعبد المذكور عبارة عن
أصل شرعي حكمي أو موضوعي خاص حاكم على أصل البراءة أو أصالة
الطهارة ونحوهما من الأصول الترخيصية التكليفية أو الموضوعية.
وإن كان المدعى بناء العرف على عدم الرجوع للبراءة حينئذ، فيكون
البناء المذكور مخصصا لأدلتها.
فهو غير ثابت، مع أنه لو تم لم يبعد صلوح عموم أدلة البراءة الشرعية
للردع عنه، نظير ردعها عن بنائهم على الفحص في الشبهات الموضوعية لو تم،
لا أنه يكون مخصصا لها.
وإن كان المدعى بناء هم على أصالة عدم الترخيص الواقعي حينئذ عند
79

عدم إحراز موضوعه، نظير بنائهم على أصالة عدم القرينة، ويكون الأصل
المذكور حاكما على أصالة البراءة كحكومة الأدلة الاجتهادية عليها.
فهو ممنوع جدا، وغاية ما يلزم من عدم إحراز الموضوع هو عدم إحراز
حكمه، لا البناء على عدمه.
وإن كان المدعى بناء هم على أصالة عدم الامر الوجودي المأخوذ في
موضوع الحكم - لو فرض عدم إحرازه ولو بالأصل - بدعوى: أن الامر الوجودي
محتاج إلى عناية، وليس كالعدم، فالأصل عدمه ولو لم يجر الاستصحاب.
فهو غير ثابت، والمتيقن من بنائهم ما إذا كان العدم موردا للاستصحاب
وهو الذي ثبت من الشارع إمضاء سيرتهم فيه.
على أنه لو تم فالفرق فيه بين الحكم الإلزامي والترخيصي بعيد جدا،
ولا سيما مع استلزامه تفكيكهم في أحكام العنوان الواحد لو فرض كون العنوان
الواحد موردا للحكمين.
ثم إنه قدس سره فرع على ذلك أصالة الحرمة في الدماء والفروج والأموال..
قال الكاظمي في تقريره لدرسه: (فإن الحكم بجواز الوطئ - مثلا - قد
علق على الزوجة وملك اليمين، والحكم بجواز التصرف في الأموال على كون
المال مما قد أحله الله، كما في الخبر: لا يحل مال إلا من حيث أحله الله. فلا
يجوز الوطئ أو التصرف في المال مع الشك في كونها زوجة أو ملك يمين، أو
الشك في كون المال مما قد أحله الله).
ومما ذكره قدس سره وإن تم في الفروج لقوله تعالى: (والذين هم لفروجهم
حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن
ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) (1). إلا أنه لا يتم في الدماء ولا
في الأموال.

(1) المؤمنون: 5 / 6 / 7.
80

أما في الدماء فلظهور ما دل على أن الاسلام يحقن به الدم من
النصوص (1) في أن الحكم الإلزامي هو المنوط بالعنوان الوجودي، وهو
الاسلام، وحينئذ فمقتضى استصحاب عدم الاسلام جواز الاهراق على ما يأتي
الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
وأما هدر الدم في موارد الحدود ونحوها فهو غالبا ليس حكما ترخيصيا،
بل إلزامي، لرجوعه غالبا إلى وجوب إهراقه، فهو خارج عما نحن فيه.
مع أنه غالبا مجرى للأصل الموضوعي المقتضي لحرمة الاهراق، فلا
موضوع معه للأصل الذي أصله.
وأما الأموال فلا إشكال في أن مقتضى الأصل عدم حلها وضعا الذي هو
بمعنى تملكها وترتيب آثار الملك عليها، لان التملك وآثاره حوادث مسبوقة
بالعدم، فينفيها الاستصحاب في غير مورد اليقين، ولا حاجة فيها للأصل الذي
أصله.
وأما إباحة التصرف الخارجي في مقابل المنع التكليفي فلم يتضح من
الأدلة إناطتها بعنوان وجودي، كالحيازة والاذن من المالك.
وأما الحديث الذي أشار إليه فهو خبر محمد بن زيد الطبري: (كتب رجل
من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه السلام يسأله الاذن في
الخمس، فكتب إليه: (بسم الله الرحمن الرحيم، إن الله واسع كريم، ضمن على
العمل الثواب، وعلى الضيق الهم، لا يحل مال إلا من وجه أحله الله، إن الخمس
عوننا على ديننا وعلى عيانا، وعلى أموالنا، وما نبذله ونشتري من أعراضنا ممن
نخاف سطوته، فلا تزووه عنا...) (2).
وهو ظاهر في التحليل الوضعي المسؤول عنه، الذي عرفت أنه خلاف
الأصل، لا حل التصرف الخارجي في مقابل تحريمه تكليفا.

(1) راجع بعض هذه النصوص في الكافي ج 2 ص: 24 و 25.
(2) الوسائل ج: 6، باب: 3 من أبواب الأنفال وما يختص بالامام من كتاب الخمس، حديث: 2.
81

مع أن العنوان المذكور فيه ليس موضوعا للحلية شرعا، كي ينفع في ما
نحن فيه، بلحاظ كونه عنوانا وجوديا، مخالفا للأصل، بل هو منتزع من كون
الشئ سببا للحلية، فهو مسوق للحكاية عن الأسباب الشرعية بعناوينها الخاصة
كالاذن من المالك والحيازة ونحوهما، ولا دلالة فيه على كون جميع العناوين
المحكية به وجودية، لينفع في ما نحن فيه.
بل المرتكز أن جواز التصرف في المباحات الأصلية ليس لكونها واجدة
لعنوان وجودي يقتضي التحليل، بل لعدم وجود ما يمنع من التصرف فيها، وهو
يناسب كون حرمة التصرف هي المنوطة بالامر الوجودي، بل هو الظاهر من
بعض النصوص الظاهرة في حقن الاسلام للمال.
نعم، مال المسلم لا يحل إلا بطيب نفسه، فلو فرض العلم بأن المال
مملوك للمسلم، ولم يحرز بالأصل أو غيره طيب نفسه ولا عدمه كان من
صغريات الأصل الذي أصله.
فالانصاف: أن الأصل الذي ذكره لا ينفع في الثمرة المذكور بوجه معتد به، بل
هي لو تمت تبتني على أمر آخر.
هذا، والذي يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره: أن عدم الرجوع للبراءة ليس
لانقلاب الأصل فيها، بل لان الحل فيها منوط بالعنوان الوجودي كالزوجية
التي هي مجرى لاستصحاب العدم الحاكم على أصل البراءة.
كما أن الامر في الأموال يبتني على أن الحل فيها هو المحتاج إلى السبب
فيكفي في نفيه إحراز عدمه بالأصل، أو أن التحريم هو المحتاج إلى السبب،
فيكفي في نفيه إحراز عدمه بالأصل. وعلى الأول يكون الأصل في الأموال
التحريم، وعلى الثاني يكون الأصل فيها الحل.
وقد استدل على الأول بخبر محمد بن زيد الطبري المتقدم والاستقراء.
وهو صريح في أن الحل والتحريم مقتضى الأصل الموضوعي الحاكم على
82

أصالة البراءة.
ولا يخفى أن ما ذكره في الفروج وإن كان متينا إلا أنه إنما ينفع مع جريان
استصحاب عدم الزوجية أو ملك اليمين، أما مع عدمه - كما في تعاقب الحالتين
والجهل بالتاريخ - فمقتضى أصالة البراءة جواز الاستمتاع وإن لم يحرز عنوان
الزوجية أو ملك اليمين، ومن البعيد جدا التزامه بذلك.
وكذا ما ذكره في الأموال، فإنه لو تم في نفسه لا ينفع مع عدم جريان
الأصل الموضوعي كما في مورد تعاقب الحالتين، كما لو فرض العلم بسبق رضا
المالك بالتصرف وعدم رضاه به مع الجهل بالتاريخ.
مع أنه إن أريد بتعليق الحل على السبب تعليقه على عنوان وجودي. فقد
عرفت أن الخبر لا ينهض به. والاستقراء - مع أنه لا يصلح للاستدلال - غير تام،
لما أشرنا إليه من أن التصرف في المباحات الأصلية منوط ارتكازا بأمر عدمي،
وهو عدم استحقاق أحد للمال.
وإن أريد به تعليقه على السبب الأعم من الوجودي والعدمي. فهو - مع أنه
ظاهر لا يحتاج إلى الاستدلال بالاستقراء أو الخبر - لا ينفع، لان الأصل قد لا
يحرز نفيه، بل قد يكون عدميا محرزا بالأصل.
وأما استصحاب عدم تحقق السبب بعنوان كونه سببا، فلا مجال له، لان
عنوان السبب من العناوين الانتزاعية المتأخرة رتبة عن جعل الحكم الشرعي
على موضوعه، وليس هو من العناوين التقييدية المأخوذة في موضوع الحكم،
ليكون مجرى للأصل الموضوعي.
والذي تحصل من جميع ما ذكرنا: أن ما في كلام شيخنا الأعظم قدس سره
وبعض الأعاظم قدس سره لا ينهض بإثبات انقلاب الأصل في الدماء والفروج
والأموال.
والظاهر أن الأصل يختلف في كل منها باختلاف الصور ولا بأس
83

بالتعرض لما يناسب المقام ويساعده الوقت، فنقول:
أما الدماء فالشك في جواز إهراقها..
تارة: يكون للشك في احترام الدم ذاتا، كما لو دار الامر بين إسلام
الشخص وكفره.
وأخرى: يكون للشك في ما يوجب احترام الدم بعد هدره ذاتا، كما لو
شك في دخول الكافر في الذمة.
وثالثة: يكون للشك في طروء ما يوجب هدر الدم بعد احترامه ذاتا، كما
لو احتمل ارتداد المسلم، أو زناه عن إحصان.
أما في الصورة الأولى فإن كان الكفر متيقنا سابقا كان استصحابه هدر الدم
ولا إشكال في العمل بمقتضاه، حتى على ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره أو على
قاعدة المقتضي المتقدمة لها الإشارة آنفا.
وإلا فقد يدعى أن مقتضى الأصل هو احترام الدم، لمثل صحيح زرارة عن
أبي جعفر عليه السلام قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كل مولود يولد على الفطرة. يعني:
المعرفة بأن الله عز وجل خالقه...) (1)، وصحيح فضل بن عثمان الأعور عن أبي
عبد الله عليه السلام أنه قال: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه اللذان يهودانه
وينصرانه ويمجسانه...) (2) وغيرهما مما يظهر منه أن الكفر طارئ فالأصل
عدمه.
ويشكل: بأنها لا تتضمن أصالة الاسلام، لوضوح أن الاسلام كسائر
الأديان يحتاج إلى تعليم، بل المراد من الفطرة معرفة الله تعالى والتوحيد، كما
صرح به في غير واحد من النصوص (3)، ومنها صحيح زرارة السابق وهي لا
تكفي في احترام الدم بلا إشكال، بل حيث كان ظاهر بعض النصوص اعتبار

(1) الكافي ج: 2 ص: 13.
(2) الوسائل، ج 11، باب: 48 من أبواب جهاد العدو ح: 3.
(3) الكافي ج: 2 ص 12.
84

الاسلام في حقن الدم كان استصحاب عدم الاسلام ولو من حال الصغر أو العدم
الأزلي كافيا في إثبات هدر الدم.
اللهم إلا أن يدعى أن المستفاد مما تضمن وجوب عرض الاسلام قبل
قتال الكفار هو أن هدر الدم لا يكون بمحض عدم الاسلام، بل برفضه وعدم
الدخول فيه بعد وصول حجته، وهذا مما لا مجال لاستصحابه، بل الأصل عدمه.
وتمام الكلام في الفقه.
وكيف كان، فإن استفيد من الأدلة توقف هدر الدم على الكفر أو رفض
الاسلام ونحوهما من الأمور الوجودية كان مقتضى أصالة عدمها هو الاحترام،
وإن استفيد منها توقف الاحترام وحقن الدم على الاسلام كان مقتضى أصالة
عد م الاسلام عدم الاحترام وجواز إهراقه.
وإن فرض إجمال الأدلة كان مقتضى أصل البراءة جواز الاهراق أيضا.
إلا أن يفرض قيام الاجماع على وجوب الاحتياط مع احتمال الاسلام،
فيخص به عموم دليل الاستصحاب أو أصل البراءة.
ومنه يظهر الحال في الصورة الثانية، فإن استصحاب عدم دخول
الشخص في الذمة يقتضي جواز قتله.
إلا أن يفرض الاجماع على وجوب الاحتياط حينئذ مراعاة لاحتمال
الذمة، وهو المناسب لما يعلم من اهتمام الشارع بحفظ الذمة.
وأما في الثالثة فاستصحاب عدم ما يوجب الهدر، كالزنا ونحوه يقتضي
الاحترام. نعم، قد يحرز بالأصل موضوع الهدر، كما لو فرض العلم بزنا شخص،
وكان مقتضى الاستصحاب إحصانه، فاللازم العمل عليه حينئذ.
وأما الفروج فالامر فيها ظاهر مع الشك في حدوث السبب المحلل
المقتضي لاستصحاب عدمه، كما تقدم، من دون فرق بين الشك في حدوث
زوجية امرأة والشك في كون امرأة خاصة هي الزوجة، للشك في الثاني في
85

حدوث زوجية المرأة الخاصة، فيستصحب عدمه.
وأما مع تعاقب الحالتين في المرأة الواحدة فربما يدعى لزوم الاجتناب،
لا لما تقدم من بعض الأعاظم، ولا القاعدة المقتضي المشار إليها آنفا، بل
للتمسك بعموم وجوب حفظ الفرج، كما قد يظهر من بعضهم.
ويشكل: بأن العموم المذكور قد خصص بالزوجة وملك اليمين،
فالتمسك به مع الشك فيها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية الذي هو
خلاف التحقيق، خصوصا في المخصص المتصل.
فالظاهر أن وجوب الاحتياط في المقام للارتكازيات المتشرعية الكاشفة
عن اهتمام الشارع الأقدس به بنحو لا يرضى بالاقدام من دون إحراز السبب
المحلل، ويكون هذا مخصصا لعموم أدلة أصل البراءة.
بل قد يقال: المستفاد من قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم
حافظون...) وجوب حفظ الفرج عن غير الزوجة وملك اليمين، وحفظه ليس
عبارة عن مجرد عدم الاستمتاع واقعا، بل هو عبارة عن المحافظة عليه والتوقي
الراجع إلى الاحتياط فيه، فالآية بنفسها ظاهرة في وجوب الاحتياط تخصيصا
لأدلة البراءة، ولا مخرج عنه إلا أن تحرز الزوجية بالاستصحاب أو غيره.
ونظير ذلك يقال في وجوب حفظ الفرج من النظر، بناء على ما في بعض
النصوص من أنه المراد بحفظ الفرج في قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من
أبصارهم ويحفظوا فروجهم... وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن
ويحفظن فروجهن) (1).
ومن ثم لا يبعد القول - بل قد قيل - بوجوب الاحتياط بالتستر على من لم
يأمن الناظر وإن لم يعلم بوجوده، وهذا بخلاف غض النظر عن الجسد المحرم،
فإنه لا يجب الا مع العلم به، لعدم تضمن دليله الحفظ ونحوه مما يقتضي

(1) سورة النور: 30 - 31.
86

الاحتياط.
وربما يستفاد ذلك أيضا من بعض النصوص الخاصة الواردة في
المقامين، وإن كان محتاجا إلى مزيد فحص وتتبع.
وأما الأموال فإن شك في طروء الملك عليها في قبال احتمال عدم تملك
أحد لها أصلا، بأن بقيت على الإباحة الأصلية فلا ينبغي الاشكال في جواز
التصرف فيها، لاستصحاب عدم تملك أحد لها وعدم سبق أحد إليها، ولو من
باب العدم الأزلي.
بل قد يجوز لأجله تملكها بالحيازة الذي عرف أنه خلاف الامل، فضلا
عن التصرف الخارجي الذي هو مقتضى أصالة البراءة.
وإن علم بطروء الملك عليها وشك في جواز التصرف للشك في
المالك..
فتارة: يكون لدورانه بين الآذن في التصرف وغيره.
وأخرى: يكون لدورانه بين الشخص الشاك والأجنبي.
وثالثة: يكون لدورانه بين محترم المال وغيره.
ورابعة: يكون للشك في احترام المالك مع تعيينه.
وخامسة: يكون للشك في إذن المالك مع تعيينه.
وهناك صور أخرى قد يعرف حكمها من الكلام في هذه الصور.
أما الصورة الأولى فالظاهر لزوم الرجوع فيها لاستصحاب عدم إذن مالك
العين وعدم طيب نفسه، المقتضي لحرمة التصرف فيها.
ودعوى: أن الاستصحاب المذكور من استصحاب الفرد المردد، لدورانه
بين من يعلم بتحقق الاذن منه ومن يعلم بعدم تحققها منه.
مدفوعة: بأن تردد الفرد لا يمنع من استصحاب إذا أمكنت الإشارة إليه
بالعنوان الذي هو موضوع الأثر شرعا، كالمالك في المقام، لأنه بذلك يحرز
87

موضوع الأثر بعنوانه المقتضي لترتب الأثر عليه، وإنما يمنع منه مع امتناع
الإشارة إليه بالعنوان المذكور، على ما يذكر في محله. فتأمل.
وأما الصورة الثانية فإن جرى فيها استصحاب ملكية المكلف أو الغير
فهو، وإلا فقد يقال: إن المتيقن من الأدلة عدم جواز التصرف في ملك الغير،
وحينئذ فمقتضى استصحاب عدم تملك الغير - وإن كان أزليا - جواز التصرف
فيه للمكلف وإن لم يحرز كونه ملكا له.
وأما احتمال توقف جواز التصرف على تملك المتصرف للعين، بنحو
يكفي أصالة عدم تملكه لها في حرمة التصرف ظاهرا فلم يثبت بنحو معتد به.
ولا أقل من إجمال الموضوع الذي يمنع من جريان الاستصحاب، فيرجع
لأصالة البراءة.
وأما الاستدلال على الحرمة بصحيح جميل بن صالح، قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: (رجل وجد في منزله دينارا. قال: يدخل منزله أحد؟ قلت: نعم،
كثير. قال: هذا لقطة. قلت: فرجل وجد في صندوقه دينارا؟ قال: يدخل أحد يده
في صندوقه غيره، أو يضع فيه شيئا؟ قلت: لا، قال: فهو له) (1)، لظهور صدره في
احتمال كون الدينار له، ومع ذلك لم يحكم فيه بالحل.
ففيه: أن الظاهر منه كون الجهة الملحوظة في السؤال والجواب هي الحل
الوضعي الذي هو عبارة عن الملكية، لترتيب آثارها، وقد عرفت أنها خلاف
الأصل، لا الحل التكليفي الذي هو محل الكلام وهو المطابق للأصل.
مع أن الدينار مسبوق بملكية الغير، فيحرم التصرف فيه بمقتضى
استصحاب ملكية الغير له وعدم ملكية الواجد له، فلا ينفع في محل الكلام،
وهو ما لم يجر فيه الاستصحاب المذكور.
ومنه يظهر الحال في الصورة الثالثة، فإن مقتضى استصحاب عدم ملك

(1) الوسائل، ج 17 باب 3، من أبواب اللقطة، ح 1.
88

المحترم له فيها جواز التصرف فيه، بلا حاجة إلى إحراز كونه ملكا لغير المحترم،
ولا أقل من إجمال الموضوع المقتضي للرجوع للبراءة، نظير ما تقدم.
كما أن الحال في الصورة الرابعة يظهر مما تقدم في الدماء، لأنهما بملاك
واحد.
وأما الصورة الخامسة فمقتضى أصالة عدم طيب نفس المالك وعدم إذنه
حرمة التصرف فيها.
نعم، قد يشكل جريان الأصل المذكور فيما لو علم بصدور الاذن منه
وبصدور المنع منه، وشك في المتأخر منهما، لعدم جريان الأصل في مجهولي
التاريخ إما ذاتا أو من جهة التعارض، فيتعين الرجوع لأصالة البراءة من حرمة
التصرف الخارجي، وإن امتنع التصرف الاعتباري، لأصالة عدم ترتب الأثر.
اللهم إلا أن يقال: إن المرتكزات العقلائية تقتضي اعتبار طيب نفس
المالك في جواز التصرف في ماله، والاكتفاء بالاذن إنما هو من حيث كاشفيته
عنه، وهو مقتضى الجمع العرفي بين ما دل على اعتبار كلا الامرين. كما أن
الاكتفاء بالاذن السابق إنما هو من جهة أصالة عدم عدول الانسان عن رأيه الذي
هو من الأصول العقلائية المعول عليها في المقام وغيره، وحينئذ فمع تعاقب
الحالتين لا مجال للأصل المذكور، بل يجري استصحاب عدم وقوع التصرف
عن طيب النفس المقتضي لتحريمه. فافهم.
أو يقال: إن بناء العقلاء في باب الحقوق على لزوم إحراز رضا صاحب
الحق في التصرف في الحق والتجاوز عليه، ولا يعتنى باحتمال رضاه وإن لم
يحرز عدمه.
والظاهر أن البناء المذكور مطابق للمرتكزات المتشرعية، فهو ممضى
شرعا صالح لتخصيص عموم أدلة البراءة.
ولو غض النظر عن ذلك فالظاهر أن التصرف في المقام مما تأباه
89

المرتكزات المتشرعية جدا، وتكون هي المخصصة لأدلة البراءة. وبها يكون
انقلاب الأصل في المقام.
هذا ما تيسر ذكره في المقام. فتأمل فيه جيدا. وبه سبحانه الاعتصام.
التنبيه الثاني: في قاعدة الاشتغال.
ما تقدم إنما هو مع الشك في ثبوت التكليف، أما مع تنجز التكليف - بعلم
تفصيلي أو إجمالي - والشك في الفراغ عنه للشك في امتثاله، فلا خلاف ظاهرا
في لزوم الاحتياط عقلا، وكذا لو فرض تنجز التكليف بطريق معتبر أو أصل أو
غيرهما مما يقتضي منجزية الاحتمال، كما في موارد الشك في التكليف قبل
الفحص.
وهو المراد بما اشتهر من أن (الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني)،
فلا يراد بالاشتغال اليقيني إلا تنجز التكليف بأحد الوجوه المتقدمة. كما أن
المراد بالفراغ اليقيني مطلق إحراز الامتثال ولو كان بتعبد شرعي لا يوجب العلم.
ومن ثم كان التعبد الشرعي بثبوت التكليف أو الامتثال منقحا لموضوع
القاعدة.
هذا، ولا يبعد البناء على أن لشارع الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في موارد
تنجز التكليف من دون تعبد بتحقق الامتثال، وأن حكم العقل بلزوم الامتثال
اليقيني إنما هو مع عدم اكتفاء الشارع بما دونه، لا بنحو يمتنع الاكتفاء بما دونه
شرعا، لان الدليل على القاعدة ليس الا الارتكازيات العقلية القطعية، وهي
مختصة بذلك. نظير ما ذكرناه آنفا من أن حكم الشارع بوجوب الاحتياط في
مورد الشك مانع من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، وإن لم يكن الحكم
المذكور بيانا للتكليف الواقعي الذي هو موضوع العقاب.
وقد يشهد بما ذكرنا أنه حيث لا إشكال في سلطان الشارع على التعبد
90

بالامتثال في موارد الاحتمال فليس الفرق بينه وبين الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي
إلا بمحض الجعل والاعتبار من دون فرق حقيقي أصلا، ومن البعيد جدا دخل
الاعتبار في حكم العقل المذكور.
ودعوى: أن العقل يختص بمقام الامتثال ولا دخل للشارع فيه. إنما تسلم
بالإضافة إلى أصل وجوب الامتثال ثبوتا، لا بالإضافة إلى مقام الاثبات عند
الشك فيه، فكما يكون للشارع التعبد به مع الشك المذكور له الاكتفاء بالامتثال
الاحتمالي.
وبالجملة: لا ملزم يمنع اكتفاء الشارع بالامتثال الاحتمالي بنحو يتعين رد
ظواهر الأدلة لو وردت به أو تأويلها.
ومن هنا فلا ضرورة للالتزام بأن القواعد الشرعية التي هي المرجع في
مقام الامتثال، كقاعدة الفراغ والقرعة، من الطرق أو الأصول المتضمنة للتعبد
بالامتثال شرعا، بل لا مانع من الالتزام برجوع أدلتها إلى الاكتفاء بالامتثال
الاحتمالي في مواردها. إلا أن يفرض ظهور أدلتها في التعبد المذكور.
ثم إن الشك في الامتثال..
تارة: يكون للشك في تحقق المكلف به مع وضوحه مفهوما ومصداقا،
كما لو شك المكلف في أنه هل صلى أولا.
وأخرى: يكون للشك في انطباق المكلف به على بعض الأمور، إما
لتردده بين المتباينين بنحو الشبهة الحكمية - كالتردد بين الظهر والجمعة - أو
الموضوعية - كتردد النجس بين الثوبين - أو لاحتمال توقف تحققه على
خصوصية زائدة، بحيث لا يتحقق بدونها،
أما الأول فهو أظهر موارد قاعدة الاشتغال.
وأما الثاني فما كان التردد فيه بين المتباينين يبتني الكلام فيه على منجزية
العلم الاجمالي التي يأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى في الفصل الثالث.
91

وأما ما احتمل اعتبار خصوصية فيه فهو..
تارة: يرجع إلى احتمال اعتبار الخصوصية في المكلف به بحسب أصل
التكليف، كاحتمال اعتبار الاستغفار في الصلاة.
وأخرى: يرجع إلى احتمال اعتبار الخصوصية في تحقق المكلف به
خارجا، من دون أن تكون معتبرة في المكلف به بنفسه.
أما الأول فالتحقيق الرجوع فيه للبراءة، لرجوع الشك فيه إلى الشك في
التكليف بالخصوصية، على ما يأتي الكلام فيه في الفصل الرابع إن شاء الله
تعالى.
وأما الثاني فاللازم الرجوع فيه لقاعدة الاشتغال، لأن المفروض تنجز
التكليف وعدم الاجمال فيه، وليس الشك الا في امتثاله، الذي عرفت عدم
الاشكال بينهم في لزوم تحصيل القطع به.
وربما يقع الكلام في تشخيص حال بعض الصغريات وأنها راجعة لهذا
القسم أو للقسم الأول - أعني الشك في التكليف بالخصوصية - والمهم من ذلك
موردان..
الأول: أن يكون المكلف به مسببا توليديا لا يكون موردا لاختيار
المكلف إلا بتوسط سببه ويحتمل اعتبار الخصوصية في سببه، كالطهارة المسببة
عن الوضوء الذي قد يحتمل اعتبار مرتبة من الموالاة فيه.
الثاني: أن يؤخذ في المكلف به عنوان زائد على ذاته، ويحتمل توقف
انطباق العنوان على ما في الخارج على الخصوصية المشكوكة.
أما الأول فهو الصعبر عنه بالشك في المحصل. والمعروف فيه الرجوع
لقاعدة الاشتغال، لان المسبب التوليدي قد انشغلت الذمة به بسبب ورود البيان
بالتكليف به، فلا مجال لاجراء البراءة منه، كما لا مجال للرجوع للبراءة من
الخصوصية المحتملة في سببه، لعدم احتمال التكليف بها لنفسها، وإنما يؤتى
92

بها لاحراز الفراغ عن المسبب الذي أحرز التكلف وانشغال الذمة به.
ودعوى: أنه لا مجال للتكليف بالمسبب لعدم تعلق القدرة به، فلابد من
صرف القدرة لما هو المقدور، وهو السبب، وحينئذ فاحتمال دخل شئ في
السبب راجع إلى احتمال اعتبار خصوصية في المكلف به، وفي مثله يكون
المرجع البراءة، بناء على ما هو الحق في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
مدفوعة.. أولا: بأن المسبب وإن لم يكن موردا للقدرة بالمباشرة، إلا أن
تعلق القدرة به بتوسط سببه كاف عقلا في صحة التكليف به شرعا، فتنشغل
الذمة به ويجب إحراز الفراغ عنه.
وثانيا: بأن رجوع التكليف للسبب ليس بنحو يكون بذاته موردا
للتكليف، ليكون تردده بين الأقل والأكثر راجعا إلى الشك في التكليف
بالخصوصية الزائدة فيرجع فيها للبراءة - كما أشرنا إليها في القسم الأول - بل هو
راجع إلى التكليف به بعنوان كونه سببا، فلابد من إحراز العنوان المذكور في
مقام الامتثال على ما يأتي في المورد الثاني.
نعم لو كان الشك في اعتبار الخصوصية في السبب ناشئا من الشك في
كمية المسبب المكلف به فإن المرجع حينئذ هو البراءة من التكليف بالزيادة
فيه، وذلك يقتضي الاكتفاء بالمسبب الفاقد للخصوصية المحتملة.
وأما الثاني فظاهر جماعة الرجوع فيه لقاعدة الاشتغال أيضا، منهم شيخنا
الأعظم قدس سره، فيلزم مراعاة الخصوصية المحتملة ليحرز تحقق العنوان الذي اخذ
في المكلف به.
وظاهر المحقق الخراساني وسيدنا الأعظم (قدس سرهما) في مبحث
الصحيح والأعم الرجوع فيه للبراءة.
وحاصل ما يقال في وجهه: أن العنوان المكلف به إذا كان متحدا مع فعل
المكلف بحيث يصح حمله عليه - كعنوان الناهي عن الفحشاء المتحد مع
93

الافعال الصلاتية - يكون حاكيا عنه، فتردد الفعل بين واجد الخصوصية وفاقد ها
موجب لاجمال العنوان الحاكي عنه من هذه الجهة، فلا يصلح للبيان إلا
بالإضافة إلى المتيقن، دون الخصوصية المحتملة، ومرجع الشك حينئذ إلى
الشك في التكليف بالخصوصية، فيكون من صغريات مسألة الدوران بين الأقل
والأكثر التي عرفت الرجوع فيها للبراءة.
نعم، إذا كان العنوان المكلف به لا يحكي عن فعل المكلف بنفسه، بل
عن أثره المسبب عنه - كما في الشك في المحصل - لم يكن احتمال دخل
الخصوصية موجبا لاجمال المكلف به، بل يجب الفراغ عنه، كما تقدم.
والذي ينبغي أن يقال: العنوان المنطبق على فعل المكلف الحاكي عنه..
تارة: يحكي عنه بنفسه.
وأخرى: يحكي عن جهة خاصة قائمة به زائدة عليه، منتزعة من ترتب
شئ عليه، كما في العناوين التسبيبية - كالناهي عن الفحشاء، والمطهر، والدواء،
والمحرق - أو من نحو إضافة خاصة بينه وبين غيره - كالأكبر، والمماثل،
والأصغر - أو غير ذلك.
أما الأول فاحتمال اعتبار الخصوصية في فعل المكلف مستلزم لاجماله،
لتردد ما يحكي عنه العنوان المكلف به بين واجد الخصوصية والأعم منه، فلا
يصلح العنوان للبيان بالإضافة إلى الخصوصية المحتملة، ويتجه حينئذ الرجوع
في الخصوصية إلى البراءة، بناء على أنها المرجع في الدوران بين الأقل والأكثر
الارتباطيين.
وأما الثاني فاحتمال اعتبار الخصوصية في تحققه لا يوجب إجماله، لان
العنوان متقوم بجهة انتزاعه وحاك عنها، ولا يلزم من احتمال اعتبار الخصوصية
إجمال تلك الجهة المحكية بالعنوان، بل قد تكون واضحة جلية مفهوما، فيصلح
العنوان المأخوذ في الدليل للحكاية عنها وبيان التكليف بها، الموجب لانشغال
94

الذمة بها، فيجب إحراز الفراغ عنها حينئذ بالمحافظة على كل ما يحتمل دخله
في تحققها.
ولا مجال للرجوع للبراءة من الخصوصية المحتملة، لان عدم وجوبها
بنفسها من حيث هي لا ينافي لزوم الاتيان بها لاحراز الفراغ عن العنوان الذي
انشغلت الذمة به تبعا لقيام الدليل عليه.
إن قلت: هذا القسم من العنوان كما يحكي عن منشأ انتزاعه يحكي عن
الذات المعنونة به، وهي في المقام فعل المكلف بنفسه، فإذا فرض تردد الفعل
الواجب بين واجد الخصوصية وفاقدها لزم إجمال العنوان الحاكي عنه، كما في
القسم الأول.
قلت: حكاية هذا القسم من العنوان عن الذات بنحو الابهام المطلق،
بحيث لا يكون للزيادة والنقيصة دخل في مفهوم العنوان، وإنما يحكى عنها من
حيثية منشأ انتزاع العنوان لا غير، فالا يلزم من الشك في اعتبار الخصوصية
إجمال العنوان المكلف به، بل هو على ظهوره صالح لتنجيز الذات الواجدة
لمنشأ انتزاع العنوان على إبهامها، فيلزم إحرازها في مقام الامتثال بالمحافظة
على تمام ما يحتمل اعتباره في تحقق منشأ انتزاع العنوان.
نعم، لو فرض أن أخذ العنوان في التكليف ليس لكونه بمنشأ انتزاعه
موضوعا له، بل لمحض حكايته عن الافعال الخارجية بأنفسها كان الشك في
اعتبار الخصوصية موجبا لاجمال المكلف به، الموجب للرجوع لأصالة البراءة.
لكنه خروج عن الفرض.
ومن هنا ذكر شيخنا الأعظم قدس سره أن الموضوع له في الحقائق الشرعية
- كالصلاة والحج وغيرهما - إن كان هو الاجزاء والشرائط بشخصها اتجه
الرجوع مع الشك في اعتبار الخصوصية إلى البراءة، وإن كان هو العنوان البسيط
المنتزع منها - كعنوان الناهي عن الفحشاء - لزم الرجوع في ذلك إلى الاشتغال.
95

وكأن المراد ببساطته ما أشرنا إليه من عدم حكايته عن الفعل إلا بنحو الابهام لا
تغير فيه الزيادة والنقيصة والكثرة والقلة. فلاحظ.
تذنيب
حيث عرفت المعيار في الرجوع لقاعدتي البراءة والاشتغال فينبغي
الكلام تبعا لغير واحد من الأعاظم في الفرع المشهور، وهو من عليه فوائت لا
يحصى عددها، فقد حكي عن غير واحد وجوب الاحتياط حتى يعلم أو يظن
بالفراغ، ونسب إلى المشهور، قال شيخنا الأعظم قدس سره: (بل المقطوع به من المفيد
إلى الشهيد الثاني أنه لو لم يعلم كمية ما فات قضى حتى يظن الفراغ منها،
وظاهر ذلك - خصوصا بملاحظة ما يظهر من استدلال بعضهم من كون الاكتفاء
بالظن رخصة وأن القاعدة تقتضي وجوب العلم بالفراغ - كون الحكم على
القاعدة).
ومما ذكره يظهر أنه لا مجال لدعوى: أن الأصل في الحكم صحيح مرازم:
(سأل إسماعيل بن جابر أبا عبد الله عليه السلام فقال: أصلحك الله إن علي نوافل كثيرة
فكيف أصنع؟ فقال: اقضها، فقال: إنها أكثر من ذلك. فقال: اقضها. (قال: خ. ل)
قلت: لا أحصيها، قال: توخ) (1).
إذ لو تم ذلك اقتضى وجوب تحصيل الظن ابتداء، لا الترخيص في
الاكتفاء به مع كون مقتضى القاعدة لزوم العلم.
مضافا إلى وهن الاستدلال في نفسه بأن الصحيح المذكور وارد في
النافلة، ولا مجال للتعدي منها للفريضة، ولا سيما مع كون الامر المذكور
استحبابيا فالتعدي منه للمقام لا يجدي إلا بدعوى: أن المستفاد منه أن الوجه
المذكور لازم لمشروعية القضاء تابع له، فيجب بوجوبه ويستحب باستحبابه،

(1) الوسائل ج: 3، باب: 19، من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، حديت: 1.
96

وهو تحكم لا شاهد له، خصوصا مع الفرق بين الواجب والمستحب بجريان
البراءة من الأول دون الثاني.
بل لا يبعد أيضا عدم جريان قاعدة الشك بعد خروج الوقت في الثاني
لمن لم يبن على الامتثال ولم يتعود عليه. فتأمل.
ومما ذكرنا يظهر وهن الاستدلال بالأولوية في الفرائض، فإنها إنما
تقتضي الاستحباب لا الوجوب، بل هو فيها يبتني على ما ذكرنا.
وأما استدلال لوجوب تحصيل الظن في الفريضة بصحيح إسماعيل بن
جابر، عن أبي عبد الله عليه السلام سألته عن الصلاة تجتمع علي؟ قال: (تحر
واقضها) (1).
فلا مجال له، إذ لا يبعد حمله على النافلة بقرينة ما في صحيح مرازم
المتقدم، لقرب حكايتهما عن واقعة واحدة، ولبعد تجمع الفرائض، لعدم
معروفية ترك الصلاة في تلك العصور، خصوصا من مثل إسماعيل بن جابر، ولا
سيما مع إشعار السؤال بتكرر ذلك أو توقعه من دون استنكار، كما أشار لبعض
ذلك في الجواهر.
مع أنه لو عم الفرائض لم ينفع، لمعلومية امتناع حمله على الوجوب مع
عمومه للنوافل، والتفكيك في الا مر الواحد في الوجوب والاستحباب ممتنع.
فالاستدلال به موقوف على أن يستفاد منه أن الوجه المذكور لازم
لمشروعية القضاء تابع له في الوجوب والاستحباب.
أو حمله على خصوص الفرائض، فيتمسك فيه بظهور الامر في
الوجوب.
وقد عرفت أن الأول تحكم لا شاهد له.
كما أن الثاني بعيد جدا، خصوصا في مورد الرواية، لما تقدم.

(1) الوسائل ج: 3 باب 19 من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، حديث: 2.
97

وكيف كان، فقد يوجه اقتضاء القاعدة لزوم اليقين بالفراغ بالاحتياط
بوجوه..
الأول: أن ذلك مقتضى قاعدة الاشتغال بالفوائت الواقعية المعلومة
إجمالا، فإنه يجب الفراغ عنها بعد العلم بتعلق التكليف بها.
وفيه: أن التكليف بقضاء الفوائت انحلالي بقدرها، فلكل فائتة تكليفها
المستقل المتعلق بها، فالشك في فوت كل فريضة مساوق للشك في وجوب
قضائها، كما هو الحال في سائر الشبهات الموضوعية التي تقدم جريان البراءة
فيها.
قال شيخنا الأعظم قدس سره: (كما لو شك في مقدار الدين الذي يجب قضاؤه،
أو في أن الفائت منه صلاة العصر فقط أو هي مع الظهر، وكذا فيما لو تردد فيما
فات عن أبويه أو في ما تحمله بالإجارة بين الأقل والأكثر).
الثاني: أنه مقتضى قاعدة الاشتغال في كل فريضة بنفسها، للعلم
بالاشتغال بها في الوقت، والشك في الخروج عن عهدة التكليف المذكور
بالأداء، فيجب إحراز الفراغ عنها.
ودعوى: أن التكليف المتيقن ثبوته في الوقت هو التكليف بالأداء المقيد
بالوقت، ومن المعلوم سقوطه بالامتثال أو بخروج الوقت، وإنما المحتمل
حدوث التكليف بالقضاء بعد ذلك، والمرجع فيه البراءة لا الاشتغال.
مدفوعة: بأن ظاهر الامر بالأداء وإن كان هو كون الوقت قيدا في المكلف
به، فيتعذر ويسقط بخروجه، ومن ثم احتاج إيجاب القضاء إلى أمر جديد، إلا
أنه لابد من رفع اليد عن الظهور المذكور بعد ورود الامر بالقضاء، لأنه كاشف
عن كون الوقت مأخوذا بنحو تعدد المطلوب، لا في أصله، كما هو الحال في
سائر القيود التي تسقط بالتعذر، فالامر بالقضاء بعد الامر بالأداء كاشف عن أن
المورد كالأمر بالدين والامر بتعجيله، وليس القضاء عرفا أجنبيا عن الأداء مترتبا
98

على تركه، كالأمر بالكفارة المترتب على عصيان بعض التكاليف، كما أوضحناه
في مبحث الواجب الموقت.
وحينئذ ففي المقام تكليفان الأول التكليف بأصل الفريضة، والاخر
التكليف بأدائه في الوقت، والذي علم بسقوطه بخروج الوقت هو الثاني، أما
الأول فهو مما يحتمل بقاؤه ويشك في امتثاله، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال.
مع أنه لو فرض كون القضاء مباينا للأداء فمقتضى أصالة عدم الاتيان
بالواجب في وقته هو وجوب القضاء، بناء على ما هو غير بعيد من أن موضوعه
مجرد عدم الاتيان الذي هو مقتضى الأصل، لا الفوت الذي هو أمر وجودي على
خلاف الأصل.
نعم، لو كان الشك في مقدار الفائت مسببا عن الشك في أصل وجوبه في
الوقت كما لو شك في تقدم البلوغ وتأخره، أو في استمرار الحيض مثلا اتجه
الرجوع لأصالة البراءة بل للاستصحاب الموضوعي المقتضي لها. إلا أن الظاهر
خروجه عن محل الكلام.
وفيه: أنه لابد من رفع اليد عن ذلك بما تضمن من النصوص عدم الاعتناء
بالشك بعد خروج الوقت، ولولا ذلك لزم بمقتضى الوجه المتقدم القضاء مع
الشك في فوت فريضة واحدة. بل مقتضى أصالة عدم الاتيان لزوم الاحتياط
في المحتمل في قضاء الولي عن الميت.
وما في الجواهر من ظهور النصوص المذكورة في الشك في أصل
الفوت، دون المقام مما علم فيه بالفوت وشك في مقدار الفائت.
ممنوع جدا، إذ لا منشأ معتد به للظهور المذكور، فإن كل فريضة بنفسها
يشك في أصل فوتها.
نعم، لو فرض كون الشك في كل فريضة حادثا في الوقت ومستمرا إلى
ما بعده اتجه وجوب القضاء لقصور النص المذكور حينئذ، بل التصريح فيه
99

بوجوب الصلاة بالشك قبل خروج الوقت وتحقق الحائل. لكن هذا لا يتوقف
على العلم بتحقق الفوت في الجملة، بل يجري حتى مع الشك في أصل الفوت،
وهو خارج عن محل الكلام، كما لا يخفى.
ثم إنه لا يبعد الخروج بالنص المذكور عن الوجه الأول لو فرض تماميته
في نفسه، لان التعبد بالفراغ رافع لموضوع قاعدة الاشتغال بالإضافة إلى المقدار
المشكوك. فتأمل.
الثالث: ما عن بعض المحققين قدس سره في حاشيته على المعالم من أن أدلة
البراءة لما كانت مغياة بحصول العلم، وكان الغالب تحقق العلم بالفوت في وقته،
وإنما يشك فيه لو فرض وقوعه لنسيانه بعد العلم به، امتنع الرجوع لأدلة البراءة
فيه، لاحتمال تحقق الفوت واقعا وحصول العلم به في حينه، فيكون التمسك
بعموم الأدلة فيه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
وكذا الحال في قاعدة الشك بعد خروج الوقت، فإنها أيضا من الأصول
العملية المضروبة في حال الشك، فلا تجري مع العلم.
وأما البراءة العقلية فلانه مع سبق العلم لا يكون العقاب بلا بيان، وحينئذ
فلابد من الاحتياط، لعدم المؤمن.
نعم، لو فرض اليقين بعدم سبق العلم بالفوت لو فرض تحققه اتجه
الرجوع حينئذ للبراءة العقلية والشرعية وقاعدة الشك بعد خروج الوقت، للعلم
بشمول أدلتها وتحقق موضوعاتها.
وفيه: - كما ذكره غير واحد - أن العلم لا يصلح لتنجيز متعلقه إلا مع بقائه،
أما مع فرض ارتفاعه بالنسيان فلا يصلح للتنجيز حتى يكون بيانا رافعا لموضوع
البراءة العقلية.
كما أنه لا يراد بمانعية العلم من التمسك بالقواعد الظاهرية - كقاعدتي
البراءة والشك بعد خروج الوقت - إلا مانعيته في ظرف بقائه، لا مطلقا، ولذا
100

لا ريب في الرجوع إليها لو فرض تزلزل القطع بالتكليف وانقلابه إلى الشك، فإن
ذلك ملازم لاحتمال كون القطع السابق علما.
مع أن ذلك لو تم جرى في غير الفوائت أيضا مما يحتمل العلم به،
كالدين ونحوه، ولا يظن منهم البناء على لزوم الاحتياط فيها، وإن حكي عنه
الجزم به فيها أيضا حينئذ.
ومنه يظهر وهن ما في الجواهر من عدم الاشكال في الرجوع للاشتغال
لو فرض سبق العلم بكمية الفائت ثم طرأ النسيان له، لبقاء الخطاب واقعا بذلك
المنسي ولو من جهة الاستصحاب، فلا مجال للرجوع للبراءة.
لظهور اندفاعه: بأن الخطاب بالواقع التابع للعلم به هو عبارة عن تنجزه،
وبارتفاع العلم يعلم بارتفاعه، فلا مجال لاستصحابه. مع أنه من الأمور العقلية
التي يمتنع استصحابها.
وأما الخطاب الشرعي الواقعي بالفائت الواقعي فيعلم ببقائه بلا حاجة
للاستصحاب، إلا أنه لا يتنجز إلا بالإضافة إلى المعلوم، وهو الأقل، ولا يجدي
في وجوب الأكثر بعد عدم العلم به حتى يستصحب. فلاحظ.
الرابع: ما أشار إليه شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) من أن الرجوع للقواعد
الظاهرية إنما هو حيث يكون جريانها موجبا للأمان من العقاب، ولا مجال
لذلك في المقام لو احتمل التفويت العمدي، لان تعمد الفوت موجب
لاستحقاق العقاب، ولا يرتفع بجريان البراءة بعد ذلك لو فرض طروء النسيان.
نعم، لو علم بعدم تعمد التفويت، وإنما احتمل حصوله عن عذر فلا مانع
من التمسك بالأصل، للأمن معه من العقاب.
ويندفع: بما أشار إليه أيضا من أن البراءة ونحوها من الطرق الظاهرية،
إنما ترفع عقاب ترك القضاء المفروض تحقق الشك في وجوبه، وأما تفويت
الفريضة عمدا فلا يرتفع عقابه حتى لو فرض الاحتياط بالقضاء، بل لا يرفعه إلا
101

التوبة ونحوها من ماحيات الذنوب التي يمكن فرض تحققها في المقام بالتوبة
من كل ذنب إجمالا. مع ترك القضاء، اعتمادا على الطرق الظاهرية.
وبالجملة: لا يتضح الوجه في فتوى المشهور بوجوب الاحتياط في
المقام، بل مقتضى قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت هو عدم
وجوب القضاء إلا لما يتيقن فوته.
التنبيه الثالث: في حكم الشك في حلية اللحوم
لا ريب في أن أصل البراءة والحل كسائر الأصول إنما يكون مرجعا في
مقام العمل إذا لم يكن هناك أصل حاكم عليه موضوعي كاستصحاب النجاسة
في الطعام المقتضي لحرمة أكله، أو حكمي كاستصحاب الحرمة. والكلام في
ضابط حكومة الأصول بعضها على بعض موكول إلى مباحث الخاتمة للأصول،
حيث يأتي الكلام في ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى.
وقد رتب على ذلك شيخنا الأعظم قدس سره استصحاب عدم التذكية في
الحيوان مقدم على أصالة البراءة والحل في أكله، كما أشار إلى بعض ما يتفرع
على ذلك.
وقد أطال غير واحد ممن تأخر عنه في صور ذلك، وفصلوا الكلام في
أحكامها، كما تعرضوا لاحكام الشك في حلية اللحوم من غير جهة التذكية.
وذلك وإن كان خارجا عن محل الكلام، إلا أن أهمية الآثار المرتبة عليه
ألزمنا بمتابعتهم فيه، فنقول بعد الاستعانة به تعالى وطلب التوفيق منه:
الشك في حلية الحيوان.. إما أن يكون بنحو الشبهة الحكمية، أو بنحو
الشبهة الموضوعية، وحيث كان ملاك الكلام مختلفا فيهما فالمناسب الكلام
فيهما في مقامين..
102

المقام الأول: في الشبهة الحكمية
اعلم أن الشك في حلية اللحم بنحو الشبهة الحكمية..
تارة: يكون للشك في حل الحيوان المأخوذ منه من غير جهة التذكية،
كالشك في حلية لحم الأرنب.
وأخرى: يكون للشك في تذكيته، إما للشك في ما يعتبر في التذكية
شرعا، كما لو شك في اعتبار كون آلة الذبح حديدا، أو للشك في قابلية الحيوان
لها، كما في الحيوان المتولد من طاهر العين ونجس العين، ولا يلحق عرفا
بحيوان خاص معلوم الحال، إذ لو الحق بحيوان معلوم الحال كان مشمولا لأدلته
المقتضية لقابلية للتذكية أو لعدمها فيستغنى به عن النظر في مقتضى الأصل.
أما الأولى فالظاهر أنه لا مانع فيها من أكل اللحم عملا بأصالة البراءة
والحل.
ودعوى: أنه يمكن الرجوع لاستصحاب حرمة الاكل الثابتة حال الحياة،
لبقاء الموضوع عرفا، وهو اللحم، وليست الحياة إلا من حالاته الخارجة عنه..
هذا، بناء على حرمة الحيوان حال الحياة، فيحرم ابتلاع العصفور حيا
مثلا، أما لو قيل بجوازه أمكن استصحاب الحرمة الثابتة قبل أن يشعر أو يوبر،
كما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره.
مدفوعة: بأن موضوع الحرمة هو الاكل لا اللحم، ومن الظاهر اختلاف
الاكل باختلاف قيوده من الحياة والموت وغيرهما، لأنه أمر كلي قابل للتقييد،
فلا مجال للاستصحاب حينئذ لتبدل الموضوع، كما هو الحال في غالب
الأحكام التكليفية، بخلاف النجاسة والطهارة ونحوهما مما يكون متعلقا بنفس
الامر الخارجي الخاص ومحمولا عليه، كاللحم الذي لا يتبدل عرفا باختلاف
العوارض المذكورة، فإنه يجري الاستصحاب فيها على ما يأتي توضيحه في
مباحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
103

هذا، وقد يدعى أن عمومات الحل حاكمة على استصحاب الحرمة لو
كان جاريا، وعلى أصالة الحل والبراءة لو لم يجر، مثل قوله تعالى: (قل لا أجد
في ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة...) (1)، وقوله
تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات) (2)، وقوله تعالى:
(اليوم أحل لكم الطيبات) (3)، وما في الصحيحين: (وإنما الحرام ما حرم الله
في القرآن) (4)، وقريب منهما غيرهما (5).
وفيه: أن العمومات المذكورة لا تنهض بالاستدلال، لما هو المعلوم من
كثرة التخصيص في الآية الأولى بنحو قد يلزم بحملها على الحصر الإضافي.
وإن كان قد ينافيه صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: (أنه سئل
عن سباع الطير والوحش حتى ذكر له القنافذ والوطواط والحمر والبغال والخيل،
فقال: ليس الحرام إلا ما حرم الله في كتابه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله يوم خيبر
عنها، وإنما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوه، وليست الحمر بحرام، ثم قال:
اقرأ هذه الآية: (قل لا أجد في ما أوحى إلى محرما...) (6).
لكن لابد من رفع اليد عنه، لمنافاته للنصوص الكثيرة المعول عليها عند
الأصحاب الدالة على تحريم كثير من الأمور، بنحو يلزم كثرة التخصيص
المستهجن، كما ذكرناه في الآية، فلابد من حمله على المحرمات المغلظة - كما
عن الشيخ قدس سره وذكره الطبرسي في الآية - أو على التقية في الجواب والاستدلال.
نعم، ربما يجمع بين الآية وأدلة المحرمات بالنسخ، لان سورة الأنعام
مكية - كما في مجمع البيان - وحينئذ فلا مانع من الاستدلال بها في غير مورد

(1) سورة الأنعام: 145.
(2) سورة المائدة: 4.
(3) سورة المائدة: 5.
(4) الوسائل، ج 16 باب 4، من أبواب الأطعمة المحرمة ح 1، 7.
(5) الوسائل، ج 16 باب 5، من أبواب الأطعمة المحرمة ح 6.
(6) الوسائل، ج 16 باب 5، من أبواب الأطعمة المحرمة ح 6.
104

ثبوت النسخ.
لكنه لا يخلو عن إشكال، لعدم كون ذلك جمعا عرفيا. ومنه يظهر حال
النصوص المشار إليها. وأما الآية الثانية فسيأتي الكلام فيها.
وأما الآية الثالثة فالاستدلال بها موقوف على كون الطيب أمرا يدركه
العرف، وأنه عبارة عما لا يستقذر ويستخبث عندهم. وحينئذ فيشكل الحل فيها
بكثرة التخصيص أيضا.
فلابد من حملها على الإشارة إلى طيبات معهود ة، فتكون مجملة، أو على
أن الطيب أمر لا يدركه الا الشارع، بحيث يكون تحريم شئ كاشفا عن عدم
كونه طيبا، لا أنه مخصص للعموم المذكور، أو على ما يأتي في الآية الثانية.
فتأمل جيدا.
والحاصل: أنه لا مجال لاستفادة عموم حل الحيوانات، ليكون حاكما
على الأصول الجارية في المقام، من استصحاب الحرمة الثابتة حال الحياة، أو
أصالة الحل التي عرفت التعويل عليها.
ومثل ذلك ما عن شارح الروضة من أن اللازم البناء على الحرمة، لان
المحللات محصورة، فإذا لم يدخل الحيوان في المحصور منها كان الأصل
حرمة لحمه.
للاشكال فيه بأنه..
إن أريد من عدم دخوله في المحصور العلم بعدم دخوله فيه، بأن يفرض
كون الحل محصورا بعناوين خاصة، كالبقر، والغنم ونحوهما، ويعلم بعدم
دخول الحيوان الخاص فيها، فيعلم بحرمته، ويراد من الأصل حينئذ هو عموم
الحرمة المستفاد من الحصر المذكور، لا الأصل المقابل للدليل الجاري مع
الشك.
ففيه: أنه لا دليل على الحصر بالنحو المذكور، وأدلة تحليل الأمور
105

المذكورة لا ظهور لها فيه، بل ظاهر أدلة تحريم كثير من الأمور أن تحريمها
لجهة تخصها - كالمسخ - لا لعدم دخولها في العناوين التي حصر بها التحليل.
وإن أريد من عدم دخوله في المحصور الشك في دخوله فيه، فقد يوجه
بأن ظاهر قوله تعالى اسمه: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما
علمتم من الجوارح...) حصر المحلل في الطيبات، فالشك في حلية الحيوان
راجع إلى الشك في كونه طيبا، فيحرم ظاهرا.
لكنه يندفع.. أولا: بأن عطف صيد الجوارح على الطيبات شاهد بعدم
كون المراد بالطيب الطيب بذاته في مقابل الخبيث بذاته - كالخنزير - ليمكن
الشك في صدقه على بعض الحيوانات - كالأرنب - بل الطيب العرضي، وهو
المذكى بالذبح، كما يشهد به ما في مجمع البيان قال: (وعن أبي حمزة الثمالي
والحكم بن ظهيرة أن زيد الخيل وعدي بن حاتم الطائيين أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله
فقالا: إن فينا رجلين لهما ستة أكلب، تأخذ بقرة الوحش والظباء، فمنها يدرك
ذكاته ومنها ما يموت، وقد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا من هذا؟ فأنزل الله:
(فكلوا مما أمسكن عليكم...).
ولا أقل من إجمالي الطيبات على ذلك المانع من الاستدلال بالآية، ولا
سيما مع أشرنا إليه من الاشكال في عموم حل الطيبات.
وثانيا: بأن الشك في صدق الطيب - لو تم الحصر - لا يقتضي البناء على
التحريم ظاهرا، بل على الحل، لأنه مقتضى الأصل.
ولا مجال للرجوع إلى أصالة عدم كون الحيوان طيبا، إذ لا يبعد كون
الطيب من لوازم الماهية، فلا يحرز سبق عدمه في الحيوان ولو كان أزليا. فتأمل.
نعم، بناء على أن تعليق الحل على أمر وجودي يقتضي البناء على عدمه
عند عدم إحرازه، كما تقدم في التنبيه الأول من بعض الأعاظم قدس سره فقد يتجه البناء
على الحرمة.
106

وإن استشكل فيه بعض الأعاظم على ذلك أيضا بوجه لا يهم الكلام فيه
بعد ما تقدم من ضعف المبنى المذكور.
وثالثا: بأن ذلك لو تم اقتضى البناء على الحرمة في غير اللحوم، ولا يظن
من أحد الالتزام به.
ودعوى: اختصاص الحصر في الآية باللحوم. غير ظاهرة المأخذ.
وبالجملة: كما لا مجال للرجوع إلى عموم الحل في اللحوم لا مجال
للرجوع إلى عموم الحرمة فيها، بل المرجع فيها أصالة الحل بعد ما تقدم من
عدم جريان استصحاب الحرمة. فلاحظ.
هذا تمام الكلام في الصورة الأولى.
وأما الثانية، فالكلام فيها يبتني على أمور ينبغي التعرض لها في المقام..
الأول: اختلفوا في حقيقة التذكية، فذهب المحقق الخراساني وبعض
الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدس سرهما إلى أنها أمر مركب من الذبح والتسمية
وغيرهما مما يجب شرعا، فالشك في اعتبار شئ فيها موجب لاجمالها وتردد
مفهومها بين الأقل والأكثر.
وذهب سيدنا الأعظم قدس سره وشيخنا الأستاذ وبعض مشايخنا إلى أنها أمر
بسيط مترتب على فعل المكلف المذكور، فالذبح وغيره مقدمة توليدية، وليس
متحدا مع التذكية مفهوما، فلا يكون الشك في اعتبار شئ فيها موجبا لاجمالها
بل لاجمال سببها.
وقد استدل بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدس سرهما على ما ذكراه
بقوله تعالى: (إلا ما ذكيتم)، لان نسبة التذكية للفاعلين تدل على أنها من
فعلهم.
وفيه: أن ذلك إنما يدل على أن التذكية مصدر فعل متعد مستند للمكلف،
وهو مما لا يظن بأحد إنكاره بملاحظة هيئتها، لكنه لا ينفع في كون مفهومها
107

مركبا، لامكان كونها فعلا توليديا للمكلف ينطبق على الذبح ونحوه مما يكون
فعلا له بالمباشرة بلحاظ ترتب أثره وهو الذكاة، فيكون مفهومها بسيطا منتزعا
من الأثر المذكور، نظير: التطهير، والاحراق، والتحسين.
وبعبارة أخرى: لا إشكال في أن التذكية فعل للمكلف يقتضي استناد
الذكاة إليه، وإنما الاشكال في أنها متحدة مفهوما مع الذبح ونحوه بحيث تكون
الذكاة هي الانذباح، وهو فعل المكلف بالمباشرة، فتكون أمرا مركبا، كغسل
الثوب من البول مرتين، أو أن صدقها على الذبح ونحوه بلحاظ كونه سببا للذكاة
فهي فعل المكلف بالتسبيب، وتكون أمرا بسيطا مفهوما، كالتطهير المترتب على
غسل الثوب، والآية الكريمة ونحوها من الاستعمالات الشرعية لا تنهض
بإثبات الأول، لصحة النسبة في الثاني أيضا بلا تجوز.
نعم، قد يستشهد لما ذكروه بما في كلام غير واحد من اللغويين من أنها
الذبح، كما في الصحاح، ولسان العرب، والقاموس وغيرها، أو الذبح والنحر،
كما في نهاية ابن الأثير، ومجمع البحرين.
لكن من القريب تسامحهم في التعريف المذكور بأن يكون ذكرهم الذبح
والنحر من حيث كونهما موجبين للتذكية وسببا لها، لا لاتحادهما معها مفهوما،
كما يشهد به ما في مفردات الراغب: (وذكيت الشاة ذبحتها، وحقيقة التذكية
إخراج الحرارة الغريزية. لكن خص في الشرع بإبطال الحياة على وجه، دون
وجه) فإنه صريح في أن اطلاق التذكية على الذبح من حيث كونه سببا لها.
ويؤيده عدم مناسبة الذبح والنحر مفهوما لبقية المعاني المذكورة لمادة
التذكية، من ذكاء النار، وذكاء الفهم وذكاء الرائحة ونحوها، لبعد الاشتراك جدا.
ويشهد بما ذكرنا أيضا ما في لسان العرب عن بعضهم: (وأصل الذكاة في
اللغة كلها إتمام الشئ، فمن ذلك الذكاء في السن والفهم، وهو تمام السن. قال:
وقال الخليل: الذكاء في السن أن يأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استتمام
108

القوة...)، وقريب منه في مجمع البيان.
وكأن إطلاق التذكية على الذبح والنحر بلحاظ ذلك، كما يشهد به ما في
لسان العرب: (يقال: ذكيت النار إذا أتممت إشعالها. وكذلك قوله تعالى: (إلا ما
ذكيتم) ذبحه على التمام) وقريب منه ما عن ابن الأنباري، وحيث أنه لا معنى
لتمامية الذبح إلا بلحاظ ترتب الأثر المطلوب عليه، تعين كون إطلاق التذكية
عليه بلحاظ ترتب أثره المطلوب منه من رفع خباثة الموت وقذارته المرتكزة
في أذهان العرف والمتشرعة.
وبالجملة: لا مجال للاستشهاد بما ذكره اللغويون على أن التذكية مفهوما
نفس الذبح والنحر مع تمام ما يعتبر شرعا، بل تنزيل كلامهم على كون هذه
الأمور سببا لها قريب جدا.
بل مقتضى الجمود على ما تقدم منهم كون جميع ما اعتبر شرعا من
القيود زيادة على الذبح والنحر خارجا عن التذكية زائدا عليها، لا مقوما لها - كما
ادعاه من عرفت - بل يلزم كون إطلاق التذكية والذكاة في غير مورد الذبح والنحر
- كما في صيد البر والبحر والجراد وقتل الحيوان الممتنع - شرعيا تنزيليا لا
حقيقيا، ولا يمكن الالتزام بذلك.
فلابد إما من تنزيل كلام اللغوين على ما تقدم، أو البناء على تصرف
الشارع في معنى التذكية والخروج بها عما ذكروه.
فالذي ينبغي أن يقال: الظاهر أن الذكاة عند الشارع نحو من الطهارة، كما
يشهد به التأمل في الاستعمالات الشرعية الكثيرة، مثل ما في غير واحد من
النصوص من إطلاق الذكي على ما لا تحله الحياة من أجزاء الحيوان (1)، وما عن
الباقر عليه السلام: (ذكاة الأرض يبسها) (2)، وما عن أمير المؤمنين عليه السلام: (غسل الصوف

(1) الوسائل، ج 16 باب 33، من أبواب الأطعمة المحرمة
(2) راجع نهاية ابن الأثير ولسان العرب ومجمع البحرين في مادة (ذكا).
109

الميت ذكاته) (1)، وما في صحيح الحلبي، سألته عن الثنية تنفصم وتسقط أيصلح
أن تجعل مكانها سن شاة؟ قال: (إن شاء فليضع مكانها سنا بعد أن تكون
ذكية) (2)، وما في غير واحد من النصوص من إطلاق الذكي على الجلد، مثل ما
ورد في الكيمخت والخفاف والفراء المأخوذة من المسلمين (3)، وما ورد من
إنكار ما عليه بعض العامة من أن دباغ جلد الميتة ذكاته (4)، ومثلها ما تضمن
إطلاقه على المسك (5)، وغير ذلك مما يظهر منه أن الذكاة نحو من الطهارة
والنظافة.
وكأن إطلاق الذكاة على المعنى المذكور بلحاظ تشبيهه بالنور الذي هو
كالنار يوصف لغة بالذكاء، ومن ثم سميت الشمس (ذكاء)، كما أشار إليه في
الجملة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته)، أو بلحاظ ملازمة الطهارة للنمو والبركة،
فيناسب التمام الذي تقدم رجوع الذكاة إليه في أصل اللغة.
نعم، ليست الذكاة خصوص الطهارة المقابلة للنجاسة المعروفة، بل قد
يراد بها الطهارة المذكورة، كما في ما تقدم في الصوف والسن، ولعله إليه يرجع
ما تقدم في اليبس. ولو مجازا من حيث مشابهة اليابس للطاهر في عدم
التنجيس.
كما قد يراد بها عند مقابلتها بالموت أمر آخر، وهو الخلوص من خبث
الموت وقذره المرتكز في أذهان العرف والمتشرعة، وهو يختلف باختلاف
الحيوانات، فحيث كان الموت في ما له نفس سائله موجبا لنحو من الخبث
يستلزم تنجسه كانت ذكاته ملازمة لخلوصه من التنجس، وحيث كان في غيره

(1) الوسائل، ج 2 باب 56، من أبواب النجاسات ح 5.
(2) الوسائل، ج 2 باب 68، من أبواب النجاسات ح 5.
(3) الوسائل، ج 2 باب 50، من أبواب النجاسات وباب: 55 من أبواب لباس المصلي.
(4) راجع الوسائل، ج 2 باب 61، من أبواب النجاسات.
(5) الوسائل، ج 3 باب 41، من أبواب لباس المصلي ح 2.
110

موجبا لنحو آخر من الخبث يقتضي الاجتناب عنه في بعض الأمور، كالأكل أو
اللبس أو الصلاة أو نحوها كانت ذكاته ملازمة لعدم ترتب الآثار المذكورة،
وليس هذا لاختلاف مفهوم الذكاة، بل لاختلاف خصوصياتها، وليست هي إلا
الطهارة والنظافة، كما ذكرنا.
الامر الثاني: اختلفوا في قبول بعض الحيوانات للتذكية، كالمسوخ
والحشرات، وربما قيل: إن الأصل قبول كل حيوان لها إلا ما خرج بالدليل،
كالانسان ونجس العين، بل عن الحدائق: (لا خلاف بين الأصحاب (رضي الله
عنهم) في ما أعلم أن ما عدا الكلب والخنزير والانسان من الحيوانات الطاهرة
يقع عليه الذكاة).
وقد يستدل عليه..
تارة: بما دل على حلية ما أمسك الكلاب أو ذكر اسم الله عليه وما يصطاد
بالسيف أو الرمح أو نحوهما، وغير ذلك مما ورد في بيان كيفية التذكية، فان
مقتضى إطلاقها تأثيرها للتذكية في كل حيوان.
وأخرى: بعموم حلية الحيوانات، كقوله تعالى: (قل لا أجد في أوحي
إلى محر ما...) (1) لتوقف الحلية على التذكية.
لكن الاجماع لم يثبت بنحو معتد به بعد معروفية الخلاف في كثير من
الحيوانات، فقد ذهب في الشرايع إلى عدم وقوع التذكية على المسوخ - كالفيل
والدب والقرد - والحشرات - كابن عرس والفأرة - وحكى في الجواهر الثاني
عن المشهور، بل ربما حكي الأول عنهم أيضا، وعن المفيد والشيخ في الخلاف
وسلار وابن حمزة عدم وقوعها على السباع، كالأسد والنمر.
وأما ما ورد في شرح التذكية فلا ينهض بإثبات المطلوب، إذ لم أعثر على
دليل شارح لكيفية التذكية من جميع الجهات ليكون إطلاقه نافيا لخصوصية

(1) سورة الأنعام: 145
111

بعض الحيوانات، بل غالب الأدلة وارد لبيان اعتبار بعض الأمور فيها، كالتسمية
وفري الأوداج ونحوها، وهو إنما يقتضي عدم تحقق التذكية بدونها لا تحققها
معها في كل حيوان.
بل ما تضمن جواز الاكل مما ورد عليه بعض الأسباب - كالأدلة المشار
إليها - وارد في كيفية التذكية بعد الفراغ عن حلية الحيوان، فضلا عن قبوله
للتذكية، فلا يدل على قابلية شئ من غير المأكول لها، فضلا عن عموم قابلية
الحيوانات لها.
وأما عموم حلية الحيوانات فقد استشكل فيه سيدنا الأعظم قدس سره بأنه مقيد
بما دل على اعتبار التذكية في حل الحيوان، مع أن الآية الشريفة قد استثنى فيها
الميتة، وهي غير المذكى، كما يفهم من جملة من النصوص، فلا ينهض العموم
بإحراز التذكية مع الشك في القابلية، لان العام لا يحرز عنوان الخاص.
ويندفع: بظهور العموم في المفروغية عن قبول جميع الحيوانات
للتذكية، وأن صيرورتها ميتة من حالاتها غير اللازمة، ولذا احتاج الخنزير إلى
الاستثناء بالخصوص.
وبعبارة أخرى: المستفاد بعد الجمع بين العموم المذكور وأدلة التقييد أن
التخصيص بالتذكية من سنخ التخصيص الأحوالي لا الافرادي بلحاظ بعض
أنواع الحيوان. فتأمل.
فالعمدة في الاشكال ما تقدم من أن كثرة التخصيص في العموم المذكور
مانعة من الاستدلال به.
جمع أنه لا ينفع في غير المأكول، لخروجه عن العموم تخصيصا، فكما لا
يكون العموم حجة في حلية أكله لا يكون حجة في إثبات قابليته للتذكية، إلا بناء
على أن سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية - بسبب التخصيص أو غيره - لا
يوجب سقوط الدلالة الالتزامية عنها، وهو خلاف التحقيق.
112

هذا، وقد يستدل ببعض النصوص في المقام..
منها: موثق ابن بكير عن أبي عبد الله عليه السلام: (فإن كان مما يؤكل لحمه
فالصلاة في وبره، وبوله، وشعره، وروثه، وألبانه وكل شئ منه جائز إذا علمت
أنه ذكى وقد ذكاه الذبح، وإن كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك
أكله فالصلاة في كل شئ منه فاسد ذكاه الذبح أو لم يذكه)، لظهوره في قابلية ما
لا يؤكل لحمه للتذكية وأنه قد يتصف بها بالفعل وقد لا يتصف.
وقد استشكل فيه سيدنا الأعظم قدس سره: بأن الجمود على العبارة يقتضي أن
يكون الذبح موجبا للذكاة تارة وغير موجب له أخرى، وهو ملازم لعدم قابلية
بعض الحيوانات للتذكية.
بل ذكر شيخنا الأستاذ أنه ظاهر في ذلك، لظهوره في أن الذبح مفروض
الوجود في حالي التذكية وعدمها.
وفيه: أن ظاهر الحديث كون حصول التذكية بالذبح وعدم حصوله به
حالتين متبادلتين على الحيوان الذي لا يؤكل لحمه كتبادلهما على الحيوان الذي
يؤكل لحمه، وذلك إنما يكون بأن يراد من عدم التذكية بالذبح عدم ذبحه بالوجه
الشرعي بل يموت بوجه آخر، لا عدم تذكية الذبح له مع حصوله، والا كان ذلك
لازما في بعض الحيوانات، وكان المناسب أن يقال: كان مما يذكيه الذبح أو لا، أو
يقال: كان الذبح مذكيا له أولا.
وبعبارة أخرى: الظاهر أن المقابلة بين فعلية التذكية في الحيوان وعدمها،
المستلزم للمفروغية عن قابليته لها، لا بين قابلية التذكية وعدمها، الراجع إلى
عدم قابلية بعض الحيوانات لها.
هذا، ولا يفرق في دلالة الحديث بين النسخة المتقدمة والنسخة الأخرى
المتضمنة لابدال (الذبح) ب‍ (بالذابح)، لان فرض الذابح ملازم لفرض الذبح،
فالتفريق بينهما - كما يظهر من سيدنا الأعظم قدس سره وصرح به شيخنا الأستاذ (دامت
113

بركاته) (1) - في غير محله فراجع وتأمل.
نعم، يشكل الاستدلال بالحديث بأنه وإن كان ظاهرا في المفروغية عن
قابلية غير المأكول للتذكية، إلا أنه لا ينهض بالعموم، لعدم وروده في مقام البيان
من هذه الجهة، وإنما ذكرت عرضا، وليس المقصود بالبيان إلا مانعية غير
المأكول للصلاة وتعميمها لحال التذكية.
مع أنه مختص بما يكون له لحم، دون غيره كالحشرات. فلاحظ.
ومنها: صحيح علي بن يقطين، سألت أبا الحسن عليه السلام عن لباس الفراء
والسمور والفنك والثعالب وجميع الجلود. قال: (لا بأس بذ لك) (2)، ونحوه صحيح
الريان بن الصلت عن الرضا عليه السلام (3)، فإن جواز لبس جميع الجلود ملازم
لقابليتها للتذكية بناء على ما هو المشهور من عدم جواز لبس الميتة مطلقا
وقد استشكل سيدنا الأعظم قدس سره في ذلك: بأنه لو ثبت عدم جواز لبس
الميتة كان ذلك مخصصا للصحيحين بالمذكى، فلا يصح التمسك بهما في مورد
الشك في التذكية - ولو للشك في القابلية - بناء على ما هو التحقيق من عدم
التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
ويندفع: بظهور الصحيحين بقرينة الأمثلة في العموم الافرادي بلحاظ
أنواع الحيوانات، وهو يقتضي جواز لبسها في الجملة. واستفادة التعميم من
حيث التذكية وعدمها لو تمت فهي بالاطلاق. وحينئذ فلو دل الدليل على عدم
جواز لبس الميتة فالمتيقن رفع اليد به عن الاطلاق المذكور، ويكشف عن
صدور الكلام للبيان من هذه الجهة، لا عن العموم الافرادي، بل مقتضى الجمع

(1) كما ذكره في أصوله - على ما في تقريرنا لدرسه - فقد صرح بأنه يمكن الاستدلال بالحديث
على العموم المدعى بناء على نسخة (الذابح) بخلاف نسخة (الذبح) لما تقدم. لكن يظهر منه
العدول عن ذلك في الفقه - في تقرير درسه شرحا للعروة الوثقى في فروع مسألة نجاسة البول
والغائط المطبوع - فقد صرح بإمكان الاستدلال حتى على نسخة (الذبح) بل عليها أولى. وإن ظهر
منه في آخر كلامه التردد فيه. فراجع (منه، عفي عنه).
(2) الوسائل، ج: 3 باب: 5 من أبواب لباس المصلي ح: 1 و 2.
(3) الوسائل، ج: 3 باب: 5 من أبواب لباس المصلي ح: 1 و 2.
114

بينهما هو قابلية جميع الجلود للتذكية، لظهور العموم في جواز لبسها في الجملة
المستلزم لذلك بعد فرض اعتبار التذكية فيه. فتأمل جيدا.
فالعمدة في الاشكال في الاستدلال - مع اختصاصه بالحيوانات ذات
الجلد القابل للبس - عدم ثبوت حرمة لبس الميتة وغيره من الاستعمالات
والانتفاعات غير المشروطة بالطهارة، بل الظاهر عدمه.
نعم، من القريب جدا كون السؤال عن اللبس بالنحو المتعارف المستلزم
للمساورة والمترتب على الشراء المختص بالمذكى، فعدم التنبيه على نجاسة
بعض الجلود وعدم جواز شرائها لعدم قابليتها للتذكية ظاهر في قابلية الجميع
للتذكية. إلا أن في بلوغ ذلك حد الاستدلال إشكالا.
ومنها: خبر علي بن أبي حمزة، سألت أبا عبد الله وأبا الحسن عليهما السلام عن
لباس الفراء والصلاة فيها؟ فقال: (لا تصل فيها إلا ما كان منه ذكيا). قلت: أو ليس
الذكي مما ذكي بالحديد؟ قال: (بلى، إذا كان مما يؤكل لحمه). قلت: وما لا يؤكل
لحمه من غير الغنم؟ قال: (لا بأس بالسنجاب، فإنه دابة لا تأكل اللحم، وليس هو
مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ نهى عن كل ذي ناب ومخلب). (1).
وفيه: أن ظاهره الإشارة إلى ما هو المعهود من سبب التذكية وتقريره من
دون تعرض لشرحه، ولذا قال: (ما ذكي بالحديد) ولم يقل: ما ذبح به، كما لم
يتعرض لبقية ما يعتبر في التذكية، فلا إطلاق له من حيث السبب، فضلا عن أن
يكون له إطلاق من حيث الحيوان المذكى، ليكشف عن قابلية كل حيوان لها.
مضافا إلى ضعف سنده بجهالة عبد الله بن إسحاق العلوي ومحمد بن سليمان
الديلمي.
هذا ما عثرنا عليه في كلماتهم في الاستدلال على العموم المذكور.
وقد عرفت عدم نهوض دليل يعتد به في إثباته.

(1) الوسائل، ج 3 باب 3، من أبواب لباس المصلي ح 3.
115

نعم، ذكر سيدنا الأعظم قدس سره وجها لا يخلو عن قوة، وحاصله: أن التذكية
ليست من مخترعات الشارع الأقدس، بل هي من المفاهيم العرفية، وهي عبارة
عما يرفع قذر الموت وخبثه المرتكز في أذهان العرف، وقد جرى الشارع على
المفهوم المذكور، كما تقدم. ومخالفته للعرف فيها ليست لمخالفته لهم في
مفهومها، بل لمخالفته لهم في بعض مصاديقها.
وحينئذ فحيث كان للعرف طرق خاصة لتحقيق مصاديقها من حيث
الموضوع القابل لها والافعال المحصلة لها - من الذبح ونحوه - ولم يصدر من
الشارع الأقدس شرح تام وتحديد كامل لمصاديقها، فمقتضى الاطلاقات
المقامية جري الشارع فيها على ما عند العرف، إلا في المورد الذي يثبت خلافه
منه وردعه عنه.
ويشهد بجميع ذلك عدم تعرض أدلة أحكام التذكية من الآيات
والروايات على كثرتها لشرح مفهومها ولا لتحديد مصاديقها تحديدا كاملا، بل
التحديد من خصوص بعض الجهات، إما لخروج الشارع عما عند العرف فيها،
كما في اعتبار التسمية والاستقبال ونحوهما، أو لعدم وضوح ما عند العرف، أو
لاحتمال ردعه عما عندهم وغير ذلك.
بل التعبير بالتذكية في الآية الكريمة مع نزولها في صدر التشريع ظاهر في
المفروغية عن التذكية مفهوما ومصداقا، ولا يكون ذلك إلا بالجري على ما عند
العرف، ومتابعتهم.
والظاهر أن العرف يرى قابلية كل حيوان ذي نفس سائلة قابل للذبح
للتذكية. وخروج نجس العين إنما هو لان التذكية بنظر العرف والشرع مختصة
برفع القذارة العرضية والخبث المسبب عن الموت، دون الخبث الذاتي.
نعم، لازم ذلك تخفيف التذكية لقذارته، بحيث يكون الميت منه أشد
نجاسة وخبثا من المذبوح، فيلزم ترجيح المذبوح منه عند الاضطرار، ولا بأس
116

بالالتزام بذلك. إلا أن يقوم الاجماع على خلافه، فيكون رادعا عما عند العرف.
فتأمل جيدا.
الامر الثالث: لو شك في التذكية للشك في قابلية الحيوان لها، أو للشك
في سببها بعد الفراغ عن قابلية الحيوان لها، فإن كان هناك دليل يقتضي حصولها
عمل به وإن كان هو الاطلاق المقامي المتقدم، بناء على تماميته. وإلا تعين
الرجوع للأصول.
وحينئذ فحيث تقدم في الامر الأول أن إطلاق التذكية على الذبح ونحوه
بلحاظ ترتب الأثر الخاص عليه فلا يكون الشك في السبب أو القابلية موجبا
لاجمال التذكية، لأنها منتزعة من أمر بسيط لا إجمال فيه، وهو الأثر الخاص، فلا
مانع من الرجوع لاستصحاب عدم التذكية، لليقين به حال حياة الحيوان،
فيستصحب بعد موته.
ودعوى: أنه ان قيل بطهارة الحيوان قبل الذبح تعين استصحابها
وأحرزت الذكاة حينئذ، لما تقدم من أنها عبارة عن الطهارة.
مدفوعة: بما تقدم أيضا من أن الذكاة ليست هي الطهارة المصطلحة
المقابلة للنجاسة، بل هي طهارة خاصة لا موضوع لها حال الحياة كي
تستصحب، بل لا تحصل في الحيوان إلا بعدها، فمقتضى الاستصحاب عدمها.
هذا، وأما على القول الآخر الراجع إلى كون التذكية أمرا مركبا من فعل
الذابح مع الشرائط المعتبرة فالشك في اعتبار شئ فيها موجب لاجمالها المانع
من جريان الاستصحاب فيها نفيا واثباتا، لعدم جريان الاستصحاب في المفهوم
المردد بين معلوم البقاء ومعلوم الارتفاع. من دون فرق بين الشك في ما يعتبر
في السبب - كالحديد - والشك في القابلية، لرجوعهما معا إلى إجمال مفهوم
التذكية المانع من الاستصحاب.
وأما ما قد يظهر من سيدنا الأعظم قدس سره في حقائقه من التمسك عند الشك
117

في القابلية بأصالة عدم التذكية، بمعنى عدم الذبح في المحل القابل، نظير
استصحاب عدم الغسل بالكر عند الغسل بماء مشكوك الكرية.
فهو مندفع: بأن القابلية ليست أمرا معتبرا في التذكية شرعا كسائر
شروطها، بل هي منتزعة من حكم الشارع بأن ذبح الحيوان ذكاته، فما حكم
الشارع عليه بأن ذبحه ذكاته يكون قابلا لها، وما لم يحكم عليه بذلك لا يكون
قابلا لها.
وإلا فعنوان قابلية الحيوان للتذكية - كقابلية الذابح والآلة لها - متفرع على
التذكية ومتأخر عنها رتبة، فكيف يكون مأخوذا في موضوعها شرعا؟! وحينئذ
فمرجع الشك في قابلية الحيوان للتذكية إلى إجمال التذكية، وأنها الذبح المطلق
الصادق على ذبحه أو المقيد بغيره، ولا مجال مع ذلك للاستصحاب.
ومنه يظهر أن الوجه في عدم جريان الاستصحاب في نفس القابلية
وعدمها هو عدم جريان الاستصحاب في الأمور الانتزاعية غير المجعولة، لا ما
ذكره غير واحد من عدم العلم بالحالة السابقة للقابلية وعدمها، لعدم جريان
استصحاب العدم الأزلي إما مطلقا أو في خصوص المقام. لان القابلية من لوازم
الماهية، كالكلبية والكرية، فتأمل جيدا.
نعم، لو أريد بالقابلية معنى في الحيوان زائد على ذاته - كطهارة العين -
أمكن أخذه شرعا في التذكية. فلو علم بأخذه كان الشك في وجوده في الحيوان
شكا في مصداق التذكية لا يوجب إجمال مفهومها، وأمكن جريان استصحاب
عدم التذكية حينئذ بالتقريب الذي ذكره قدس سره.
بل قد يجري استصحاب عدم القابلية ولو بنحو العدم الأزلي لو فرض
كون الامر المذكور من لوازم الوجود - كالبياض - لا من لوازم الماهية التي لا
يحرز عدمها في الحيوان حتى بلحاظ ما قبل وجوده - كالسبعية -.
كما أنه قد تحرز القابلية بالأصل، كما لو فرض أنها عبارة عن طهارة
118

العين التي هي مقتضى الأصل.
لكن لا يخفى أنه لا مجال للوجه المذكور لتوقفه على العلم بتقييد
موضوع التذكية بقيد ما والشك في وجود القيد بنحو الشبهة الموضوعية، نظير
ما لو علم بتقييد آلة التذكية بكونها حديدا مع الشك في كون السكينة حديدا،
وهو خارج عن محل الكلام، إذ الكلام في الشبهة الحكمية.
ومما ذكرنا يظهر حال ما لو علم بقابلية حيوان للتذكية ثم طرأ عليه ما
يوجب الشك في بقاء قابليته لها كالجلل، فإنه لو فرض رجوع القابلية إلى أمر
خاص معتبر شرعا أمكن التمسك باستصحاب القابلية، لأنها مأخوذة شرعا في
موضوع التذكية، وكان حاكما على استصحاب عدم التذكية.
أما على ما ذكرنا فلا مجال لاستصحاب القابلية، لأنها أمر انتزاعي، ولا
لاستصحاب عدم التذكية لاجمال المستصحب.
نعم، لو قيل باعتبار الاستصحاب التعليقي أمكن التمسك به في المقام،
فيقال: كان لو ذبح لذكي فهو باق على ما كان. لكن التحقيق عدم اعتباره.
هذا كله بناء على أن التذكية أمر مركب، وقد عرفت أن التحقيق أنها أمر
بسيط منتزع من الأثر المترتب على الافعال الخارجية، وأنه مع ذلك يجري
استصحاب عدم التذكية مطلقا.
ثم إنه لو فرض عدم جريان استصحاب عدم التذكية تعين الرجوع
للأصول الحكمية الأخرى، كأصالة الطهارة أو استصحابها في الحيوان، وأصالة
الحل في أكله، وغير ذلك.
الامر الرابع: لو فرض إحراز عدم التذكية بالدليل فلا إشكال ظاهرا في
ترتب حرمة الاكل والنجاسة وغيرهما من أحكام الميتة، إذ لا إشكال في أن كل
ما لم يذك فهو متحد مع الميتة مفهوما أو مصداقا. وأما لو أحرز عدم التذكية
بالأصل ففي ثبوت حرمة الاكل والنجاسة معا به، أو عدم ثبوتهما معا به، أو
119

ثبوت الحرمة دون النجاسة وجوه أو أقوال.
فذهب شيخنا الأعظم قدس سره وجماعة إلى الأول. إما لان موضوع الحرمة
والنجاسة ليس خصوص الميتة، بل غير المذكى، كما يشهد به قوله تعالى: (وما
أكل السبع إلا ما ذكيتم)، بل الاجماع على كون غير المذكى بحكم الميتة
والنصوص به متظافرة.
أو لان المراد من الميتة، في لسان الشارع الأقدس هو ما لم يذك - كما
يشهد به مقابلة الميتة بالمذكى في النصوص الكثيرة - فهي أمر عدمي يكفي في
إحرازه أصالة عدم التذكية، ولا تكون من الأصل المثبت.
ولو تم هذا فلا مجال لدعوى معارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم
الموت، والرجوع بعد تساقطهما لأصالة الحل والطهارة، كما هو مبنى القول
الثاني على ما قيل.
لاندفاعها: بأن الميتة بمعنى غير المذكى مقتضى الأصل، وبمعنى آخر
ليست موضوعا للأثر ليجري الأصل فيها وينهض بمعارضة أصالة عدم التذكية
المفروض اقتضاؤها الحرمة والنجاسة.
بل لا مجال لفرض المعارضة المذكورة أصلا، لان موضوع الحرمة أو
النجاسة أو غيرهما إن كان هو الميتة بما هي عنوان وجودي جرى أصالة عدم
كون الحيوان ميتة ولم تجر أصالة عدم التذكية، لعدم الأثر لها، وإن كان هو غير
المذكى - ولو لرجوع الميتة إليه - جرى أصالة عدم التذكية لا غير. فتأمل.
وذهب بعض مشايخنا إلى الثالث بدعوى: أن موضوع الحرمة هو غير
المذكى، كما يشهد به الاستثناء المشار إليه، وكذا عدم جواز الصلاة في أجزاء
الحيوان (1).

(1) لم يذكر هنا الوجه فيه. وكأنه لما في غير واحد من النصوص من أخذ الذكاة في جواز اللبس
في الصلاة، كموثق ابن بكير وخبر علي بن أبي حمزة المتقد مين في الامر الثاني وغيرهما.
120

أما الطهارة فليس موضوعها غير المذكى بما هو أمر عدمي، بل الميتة،
وليست هي خصوص ما مات حتف أنفه، ولا مطلق ما لم يذك - لتكون أمرا
عدميا محرزا بالأصل، كما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره - بل هي في عرف المتشرعة
مطلق ما استند موته إلى سبب غير شرعي. فهي أمر وجودي مضاد للمذكى، فلا
تنهض بإثباته أصالة عدم التذكية، بل مقتضى الأصل عدمه.
ولعله نزل المقابلة في النصوص، المشار إليها - بين المذكي والميتة على
مجرد التضاد من دون أخذ عدم التذكية في مفهوم الميتة.
كما أن الاجماع الذي تقدمت دعواه على أن غير المذكى بحكم الميتة لا
يراد به إلا عدم اختصاص أحكام الميتة بما مات حتف أنفه، وهو لا ينافي كون
موضوع الاحكام هو الميتة بالمعنى المتقدم، ولا مجال لاستفادة عنوان الحكم
من الاجماع ونحوه من الأدلة اللبية غالبا.
وأما النصوص - المشار إليها أيضا - المتضمنة لا لحاق غير المذكى بالميتة
فهي مختصة بحرمة الاكل واللبس في الصلاة ولم ترد في النجاسة.
هذا، ويشكل ما ذكره: بأنه لا مجال لاخذ الوجه الشرعي للموت في
مفهوم الميتة، لأنه إن كان المراد بالوجه الشرعي ما يحل إحداث الموت به
ويحرم بغيره تكليفا، فمن الواضح أنه يجوز إحداث الموت للحيوان بأكثر
الطرق التي يجري معها حكم الميتة، كالجرح في غير المذبح.
وإن كان المراد بالوجه الشرعي هو الوجه المصحح لترتيب الغرض من
ويشهد به النصوص المتضمنة عدم جواز الصلاة في ما لم يحرز تذكيته، مع أن الأصل إنما
يحرز عدم تذكيته لا الموت بالمعنى الذي ذكره هنا.
لكن هذا موقوف على رفع اليد عن النصوص الكثيرة الظاهرة في مانعية الموت، وتنزيلها على
أن مانعيته بالعرض لملازمته لعدم التذكية، وهو صعب جدا. وكفى بهذا موهنا لما ذكره من
الفرق بين الامرين، ومقربا لما ذكره غيره من رجوع أحدهما للآخر، كما سيأتي الكلام فيه.
(منه. عفي عنه).
121

الحيوان كالأكل، واللبس، والبيع ونحوها كان عنوان الميتة من العناوين المنتزعة
من الأحكام الشرعية، المتأخرة عنها رتبة، وامتنع أخذها في موضوعها، مع
وضوح أخذها في أكثر الأحكام المذكورة، وهو كاشف عن كون عنوان الميتة
من العناوين المتقررة في أذهان العرف المتشرعي مع قطع النظر عن الأحكام المذكورة
، ولا يناسب المعنى الذي ذكره.
فالظاهر أن المأخوذ في الميتة التي هي موضوع الاحكام هو عدم التذكية.
وحينئذ يقع الكلام في أن أخذه بنحو يقتضي كون الميتة من العناوين
الوجودية المضادة للتذكية؟ بأن يكون الميتة ما مات بسبب لا يوجب التذكية، أو
بنحو يقتضي كونها من العناوين العدمية؟ بأن تكون عبارة عما مات ولم يذك،
فيكون التقابل بين الميتة والمذكى من تقابل العدم والملكة، كما صرح به سيدنا
الأعظم قدس سره في مبحث لباس المصلي.
والذي ينبغي أن يقال: لا ريب في أن الميتة بحسب أصل اللغة ما اتصف
بالموت المقابل للحياة، فيصدق على المذكى وغيره، كما أنه قد يستعمل في
خصوص ما مات حتف أنفه، إلا أنه لا ريب عندهم في قصور أحكامها عن
المذكى وشمولها لكل ما لم يذك.
وكأنه لما ارتكز عندهم من أن الأحكام المذكورة إنما ثبتت للميتة بلحاظ
خبث الموت وقذره، وذلك يقتضي اختصاصها بصورة عدم التذكية الرافعة
لقذر الموت، كما تقدم. وهذا مناسب لكون التذكية من سنخ الرافع للأحكام
المذكورة أو المانع منها، فالأحكام المذكورة ثابتة لولاها.
وهو يقتضي أخذ عدم التذكية في مفهوم الميتة أو في أحكامها - كما ذكره
شيخنا الأعظم قدس سره وغيره - فموضوع الاحكام هو الميتة بمعنى ما لم يذك، على أن
يكون التقابل بين الموت - الذي هو موضوع الاحكام - والتذكية تقابل العدم
والملكة، لا الضدين.
122

ويؤيد ذلك أمور..
الأول: أن أخذ أحد الضدين الوجوديين في مفهوم الآخر غير مألوف ولا
معهود، بل المعهود أخذ عدم أحد المتقابلين في الآخر كالعمى والبصر والغنى
والفقر.
الثاني: ما في كلام غير واحد من اللغويين، ففي الصحاح والقاموس:
(الميتة ما لم تلحقه الذكاة)، وفي لسان العرب: (والميتة ما لم تدرك ذكاته)، وفي
مفردات الراغب: (والميتة من الحيوان ما زال روحه بغير تذكية)، وفي مجمع
البيان: (حرمت عليكم المية: أي حرم عليكم أكل الميتة والانتفاع بها، وهو كل
ما له نفس سائلة... فارقه روحه من غير تذكية. وقيل: الميتة كل ما فارقته الحياة
من دواب البر وطيره بغير تذكية...) وقريب منه ما في تفسير الطبري. فان هذه
الكلمات - كما ترى - متفقة على أخذ عدم التذكية في الميتة، إما بنفسها أو من
حيث كونها موضوعا للأحكام الشرعية.
نعم، نسب بعض مشايخنا التصريح بالمعنى الذي ذكره إلى مجمع
البحرين تارة، وإلى المصباح أخرى (1).
لكن لم أعثر في مجمع البحرين على تعرض لشرح مفهوم الميتة. كما. أن
ما في المصباح لا ينهض به، لأنه قال: (والميتة من الحيوان ما مات حتف أنفه...
والمراد بالميتة في عرف الشرع ما مات حتف أنفه أو قتل على هيئة غير
مشروعة)، وهو ظاهر في بيان مصاديقها، وأنها أعم من المعنى اللغوي الذي
ذكره، لا في شرح مفهومها، لينافي ما ذكرنا.
الثالث: أن التفكيك بين الأحكام المذكورة بعيد جدا عن مساق أدلتها،

(1) نسب إلى مجمع البحرين في تقرير درسه الأصولي المسمى بكتاب (الدراسات)، ونسبه إلى
المصباح في تقرير درسه الفقهي المسمى بكتاب (التنقيح) بر شرح العروة الوثقى ج 1، من
كتاب الطهارة، ص 34 من الطبعة الثانية، فراجع. (منه. عفي عنه).
123

لجريها على نسق واحد، إذ من الصعب جدا الالتزام بأن أخذ الميتة في أدلة
النجاسة من حيث كونها بنفسها موضوعا لها، ولا دخل لعدم التذكية فيها، أما في
أدلة حرمة الاكل والمانعية من الصلاة فأخذها من حيث كونها ملازمة لعدم
التذكية الذي هو الموضوع في الحقيقة.
وكيف يمكن ذلك، في مثل صحيح الحلبي، سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
الخفاف التي تباع في السوق، فقال: (اشتر وصل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه) (1)
وكذا في أدلة تحريم أكل الميتة الكثيرة، لظهور جميع ذلك في دخل عنوان
الميتة بنفسه، وهو لا يلائم ما يظهر منه من كون الدخيل عدم التذكية إلا بارجاع
أحدهما للآخر، كما ذكرناه.
الرابع: أنه قد وردت نصوص كثيرة (2) في الصيد والذباحة قد تضمنت
لزوم العلم باستناد الموت للسبب المذكي.
والظاهر المفروغية عند الأصحاب على ترتيب جميع أحكام الميتة،
ومنها النجاسة، لا خصوص حرمة الاكل والمانعية من الصلاة، مع أن الأصل لا
يحرز استناد الموت لغير سبب التذكية، وهو شاهد بالمفروغية عما ذكره من
عرفت من كفاية أصالة عدم التذكية في إثبات جميع الأحكام المذكورة.
الخامس: أن عدم جواز البيع في ظاهر الأدلة من أحكام الميتة، لا من
أحكام عدم التذكية، وبناء على ما ذكره بعض مشايخنا يجوز بيع ما يشك. في
تذكيته، لأصالة عدم كونه ميتة، الحاكمة على أصالة فساد البيع، وهو لا يناسب ما
تضمنته النصوص الكثيرة من جعل سوق المسلمين أمارة على التذكية بنحو
يجوز ترتيب أحكامها من الاكل واللبس في الصلاة وغيرهما.
فالانصاف: أن التأمل في جميع ما ذكرنا شاهد برجوع الميتة لغير المذكى

(1) الوسائل، ج 2 باب 5، من أبواب النجاسات ح 2.
(2) الوسائل، ج 16 باب 5، 4، 18، 9 1، 22 من أبواب الصيد وباب 13 من أبواب الذبح.
124

ونهوض الأصل المحرز لأحدهما في إثبات الآخر وفي ترتيب الأحكام المذكورة
. فلاحظ وتأمل جيدا.
المقام الثاني: في الشبهة الموضوعية
أي علم أن الشك في حلية اللحم بنحو الشبهة الموضوعية يكون..
تارة: للشك في حليته بعد العلم بوقوع التذكية عليه، كما لو دار الامر بين
كونه من الأرنب وكونه من الغنم.
وأخرى: للشك في قبوله للتذكية، كما لو تردد بين كونه من الكلب وكونه
من الغنم.
وثالثة: يكون للشك في وقوع التذكية عليه، كما لو شك في ذبح الحيوان،
أو كون الذابح مسلما.
أما في الأولى فالمرجع أصالة الحل، بناء على ما تقدم في المقام الأول من
عدم جريان استصحاب حرمة الاكل الثابتة حال الحياة.
ولا مجال هنا لتوهم الرجوع لعموم الحل أو الحرمة، لأنه لو فرض
تماميته في نفسه وجواز الرجوع إليه في الشبهة الحكمية فلا مجال للرجوع إليه
في الشبهة الموضوعية، لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من
طرف المخصص على التحقيق.
كما لا مجال لتوهم الرجوع لأصالة عدم كونه من النوع المحرم، كالأرنب
- كي يبقى تحت عموم الحل لو تم - أو أصالة عدم كونه من النوع المحلل،
كالغنم - كي يبقى تحت عموم التحريم لو تم - لان الخصوصية النوعية من شؤون
الذات التي ليست لها حالة سابقة معلومة في الحيوان، فلا مجال لجريان
الاستصحاب فيها ولو بنحو استصحاب العدم الأزلي.
نعم، لو كان احتمال التحريم ناشئا من احتمال طروء سببه فيه بعد العدم
- كالوطئ - أمكن استصحاب عدم حصول سببه، فيحرز به حل الحيوان، ويكون
125

حاكما على أصالة الحل ومغنيا عنها.
كما أنه لو فرض انقلاب الأصل في اللحوم بدعوى تعليق الحل فيها على
عنوان وجودي - كالطيب - ومع عدم إحرازه يبنى على الحرمة امتنع الرجوع هنا
لأصالة الحل. لكن أشرنا في المقام الأول إلى منع ذلك صغرى وكبرى.
وأما في الثانية فالمرجع أصالة عدم التذكية التي تقدم في المقام الأول
جريانها حتى مع الشك في القابلية، بناء على ما هو التحقيق من أن التذكية
متقومة بالأثر المسبب عن الذبح.
ولا مجال هنا للرجوع إلى عموم قابلية الحيوانات للتذكية - لو فرض
تماميته في نفسه - لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، كما لا مجال
للرجوع لأصالة عدم كونه من النوع الذي لا يقبل التذكية - كالكلب، نظير ما سبق
في الصورة الأولى.
نعم، بناء على ما تقدم احتماله من قابلية كل حيوان للتذكية حتى نجس
العين، وأن عدم طهارته لان التذكية ترفع خبث الموت دون النجاسة الذاتية
يتجه البناء على تذكية الحيوان في المقام، والرجوع إلى أصالة الطهارة فيه عن
النجاسة الذاتية. فتأمل.
كما أنه لو كان احتمال عدم قابلية الحيوان للتذكية لاحتمال طروء ما يمنع
عنها - كالجلل - اتجه استصحاب عدمه، ليحرز وقوع التذكية عليه. ولا مجال
لاستصحاب القابلية بنفسها، لما تقدم من أنها من الأمور الانتزاعية، وليست
هي موضوعا لاثر شرعي.
وأما في الثالثة فلا إشكال في الرجوع لأصالة عدم التذكية حتى بناء على
كون التذكية أمرا مركبا من الذبح والتسمية ونحوهما مما يؤخذ فيها، إذ لا إجمال
في المستصحب حينئذ حتى يمتنع استصحابه.
بل قد تظافرت النصوص بترتيب آثار عدم التذكية عند الشك فيها، كما لو
126

شك في استناد الموت إلى سبب التذكية من الصيد والذبح - على ما تقدمت
الإشارة إليه - وكما لو أخذ من غير المسلم.
نعم، قد يظهر من بعض النصوص البناء على الحل مع الشك، وهو
محمول على صورة وجود الامارة على التذكية، كسوق المسلمين ونحوه على ما
يذكر في الفقه مفصلا.
هذا، وقد تقدم أن أصالة عدم التذكية لو جرت أحرز بها حرمة الاكل
والبيع والمانعية من الصلاة والنجاسة، خلافا لما تقدم من بعض مشايخنا من
عدم ترتيب النجاسة، بل عرفت ان لازم ما ذكره جواز البيع أيضا. فتأمل جيدا.
والله سبحانه وتعالى العالم العاصم. وله الحمد. ومنه نستمد العون والتوفيق.
التنبيه الرابع: في حسن الاحتياط
لا ريب في حسن الاحتياط في الشبهة البدوية عقلا - وإن يكن لازما، لما
تقدم - لأنه نحو من الانقياد للمولى ومظهر من مظاهر العبودية له، كما تشهد
بذلك المرتكزات العقلية والعرفية. وهو موجب لاستحقاق الثواب، لا بمعنى
لزومه على المولى، لأنه لا يجب حتى مع الإطاعة الحقيقية، بل بمعنى أهلية
المحتاط والمنقاد للتفضل بالثواب المبني على الشكر والجزاء، وليس ثوابه
ابتداء تفضل كالابتداء به على من لم يعمل شيئا أو كان عاصيا. كما تقدم في آخر
مبحث التجري.
إن قلت: هذا إنما يتم بناء على أن الإرادة التشريعية التي تنتزع منها
الأحكام الشرعية من سنخ الإرادة التكوينية، لوضوح أن تحصيل ما يحتمل إرادة
المولى له كتحصيل ما يعلم بإرادته له من مظاهر العبودية والفناء في ذاته
والاهتمام بشأنه.
أما بناء على ما هو التحقيق من أنها سنخ آخر متقوم بجعل السبيل على
127

المكلف وتحميله المسؤولية فلا موضوع لها مع فرض عدم المنجز، لان جعل
الحكم ليس علة تامة لتحقق السبيل، بل هو مشروط بوجود المنجز له، فمع
فرض عدم المنجز لا يتحقق السبيل على المكلف قطعا، فلا موضوع للاحتياط.
وليس معنى فعلية الاحكام الواقعية في ظرف عدم المنجز لها إلا فعلية
ملاكاتها، ومن الظاهر أن مجرد الاهتمام بتحصيل الملاك والسعي له لا يكون
انقيادا للمولى ولا يحسن بملاك حسن إطاعته ما لم يكن مضافا إلى المولى
لتكليفه به.
قلت: عدم فعلية السبيل لفرض عدم المنجز لا ينافي تحقق موضوع
الانقياد، بلحاظ احتمال جعل الحكم الذي هو المقتضي في جعل السبيل، وهو
معنى فعلية الحكم، وبه يكون الملاك مضافا للمولى، وليس معنى فعليته مجرد
كون ملاكه فعليا من دون أن يكون مضافا للمولى.
ولا مجال لدعوى اختصاص موضوع الانقياد بفعلية السبيل الموقوفة
على المنجز، فإنها مدفوعة: بالمرتكزات العقلائية والمتشرعية على حسن
الاحتياط لاحتمال التكليف غير المنجز، المؤيد بمثل نصوص قاعدة التسامح
في أدلة السنن الظاهرة في الارشاد إلى حسن الاحتياط.
بل ذكرنا في مسألة الضد في تقريب إمكان التقرب بالملاك أن الملاك إذا
بلغ مرتبة جعل الحكم كان صالحا للمقربية وإن ارتفع واقعا بسبب المزاحم،
فصلوحه للمقربية والانقياد في المقام أولى بلحاظ احتمال وجوده وفعلية
الحكم الواقعي على طبقه. فتأمل جيدا.
وبالجملة: لا إشكال ظاهرا في حسن الاحتياط عقلا في مورد البراءة، بل
في مطلق احتمال التكليف الواقعي وإن قامت الحجة على خلافه، ولذا جرت
سيرة الفقهاء - خصوصا في العصور المتأخرة - على التنبيه للاحتياط، بل الحث
عليه في موارد الفتوى بخلافه، وحيث عرفت ذلك ينبغي التعرض لأمور
متعلقة بالمقام..
128

الامر الأول: الاحتياط وإن كان حسنا في نفسه عقلا، لما فيه من الانقياد
للمولى، كما تقدم، إلا أنه قد يزاحم بما هو الأهم عقلا، كالإطاعة الحقيقية في
التكاليف المنجزة الالزامية أو غيرها، فيلزم تركه عقلا، أو يرجح وإن لم يخرج
عن كونه حسنا في نفسه، كما هو الحال في تزاحم الاحتياطين غير اللازمين أو
تزاحم التكليفين المنجزين.
كما أنه قد يردع عنه شرعا، لعدم وفائه بالغرض لتوقف الغرض على
الجزم بالتكليف، أو لاستلزامه محذورا لازم الدفع، كما أشرنا إليه في أواخر
مبحث التجري.
لكن الظاهر أن الردع المذكور راجع إلى تقييد التكليف الواقعي أو
المكلف به، بغير صورة الاحتياط فلا يكون الاحتياط إطاعة له، كي يكون انقيادا
وحسنا، فالردع عن الاحتياط مخرج له عن الانقياد وعن موضوع الحسن، لا أنه
ردع عن بعض أفراد الانقياد، بل هو في الحقيقة موجب لسد باب الاحتياط.
وتوضيح ذلك: أن قوام التكليف باقتضائه للعمل وداعويته له، وحينئذ
فان تنجز صار موردا للمسؤولية ولزم عقلا إطاعته بملاك أهلية المولى لها، أو
بملاك دفع الضرر، وامتنع ردع الشارع عن إطاعته، لمنافاته لمقتضى التكليف،
إلا أن يرجع إلى رفع التكليف نفسه.
وإن لم يتنجز قصر عن مقام المسؤولية لكن حسن عقلا الاهتمام بموافقته
بالاحتياط انقيادا للمولى بملاك أهليته وإن لم يترتب الضرر.
وحينئذ كما يمتنع الردع عن الإطاعة في فرض تنجز التكليف إلا برفع
التكليف نفسه، كذلك يمتنع الردع عن الاحتياط في فرض عدم تنجزه إلا بتقييد
التكليف أو المكلف به بنحو لا يشمل حال الاحتياط، ليخرج عن مورد
التكليف، فلا يكون احتياطا ولا انقيادا. والا فمع فرض شمول التكليف له
وفعلية التكليف به يكون الاحتياط انقيادا للمولى، فيمتنع الردع عنه، لأنه علة
129

تامة في الحسن كالإطاعة، وإن افترقا باللزوم وعدمه.
نعم، قصور التكليف الواقعي عن شمول الاحتياط لابد أن يكون بنتيجة
التقييد، وإلا فالاحتياط متفرع عن التكليف ومتأخر عنه رتبة، فلا يعقل أخذه
قيدا في موضوعه.
كما أن خروج مورد الاحتياط عن التكليف إن كان لخروجه ملاكا كان
مقتضيا لعدم الاجزاء لو فرض مصادفته لثبوت التكليف واقعا، وإن كان لأجل
محذور خارج مع كونه واجدا لملاك التكليف الواقعي اتجه الاجزاء، إلا أن
يكون عبادة، ويكون الردع بنحو التحريم، فيمتنع التقرب معه، وينسد باب
الاحتياط حتى بلحاظ الملاك، ولا يتصور الاجزاء إلا مع الغفلة عن النهى، كما
يذكر نظيره في مبحث اجتماع الأمر والنهي.
إذا عرفت هذا، فربما يستظهر من بعض النصوص عدم حسن الاحتياط،
ففي خبر الحسن بن الجهم، قلت لأبي الحسن عليه السلام: اعترض السوق فأشتري
خفا لا أدري أذكي هو أم لا. قال: (صل فيه)، قلت: فالنعل؟ قال: (مثل ذلك).
قلت: اني أضيق من هذا، قال: (أترغب عما كان أبو الحسن عليه السلام يفعله؟!) (1)،
وفي صحيح البزنطي: (سألته عن الرجل يأتي السوق، فيشتري جبة فراء لا
يدري أذكية هي أم غير ذكية. أيصلى فيها؟ فقال: (نعم، ليس عليكم المسألة، إن
أبا جعفر عليه السلام كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، إن الدين
أوسع من ذلك) (2)، ونحوه غيره مما تضمن النهى عن السؤال، ومرسل الفقيه،
سئل علي عليه السلام: أيتوضأ من فضل وضوء جماعة المسلمين أحب إليك أو يتوضأ
من ركو أبيض مخمر؟ فقال: (لا، بل من فضل وضوء جماعة المسلمين، فإن

(1) الوسائل، ج 2 باب 50، من أبواب النجاسات ح 9.
(2) الوسائل، ج 2 باب 5، من أبواب النجاسات ح 3.
130

أحب دينكم إلى الله الحنيفية السمحة السهلة) (1)، وما عن تفسير النعماني
باسناده عن علي عليه السلام: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما
يحب أن يؤخذ بعزائمه) (2)، فإن النصوص المذكورة ونحوها مما يتضمن
الحث على التيسير ظاهرة في عدم رجحان الاحتياط، بل بعضها ظاهر في
مرجوحيته.
لكنها - مع ضعف سند أكثرها - لا تدل على ذلك.
لظهور الأول في الردع عن ضيق النفس عن العمل بأمارية السوق، وهو
راجع إلى عدم سكون النفس للحكم الشرعي، المنافي للتسليم الكامل به، وهو
لا ينافي رجحان الاحتياط برجاء إدراك الواقع لمحض الانقياد مع التسليم
والاطمئنان بالرخصة، كما قد يشهد به خبر أبي بصير، سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
الصلاة في الفراء؟، فقال: كان علي بن الحسين عليه السلام رجلا صردا... فكان يبعث
إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى
القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك فقال: إن أهل العراق يستحلون لباس
جلود الميتة ويزعمون أن دباغه ذكاته) (3).
كما أن صحيح البزنطي وأمثاله بصدد التأكيد على حجية السوق والردع
عن التزام التضييق كالخوارج، فلا ينافي حسن الانقياد بالاحتياط.
وأما مرسل الفقيه فلا ظهور له في مرجوحية الاحتياط بتجنب احتمال
النجاسة في فضل وضوء جماعة المسلمين، إذ لعل السؤال فيه من حيثية
استعمال الماء لتوهم كراهة الوضوء من فضل وضوء الغير، فهو مسوق لبيان
عدم كراهة الوضوء فيه، بل استحبابه بلحاظ مصلحة التيسير.

(1) الوسائل ج 1، باب: 8 من أبواب الماء المضاف والمستعمل حديث 3.
(2) الوسائل ج 1، باب: 25 من أبواب مقدمة العبادات، حديث 1.
(3) الوسائل ج 1، باب: 61 من أبواب لباس المصلي حديث: 2.
131

مع أنه لو كان رادعا عن الاحتياط في مورد احتمال النجاسة، فلا يدل على
الردع عنه ذاتا، بنحو ينافي حسنه عقلا، بل عرضا لمنافاته لمصلحة التيسير،
لظهوره في أن مصلحة التيسير المقتضية للسعة عملا مما يهتم الشارع به، بحيث
تكون أهم من مصلحة المحافظة على طهارة الماء في ظرف الجهل، وحيث أنه
لا إشكال في لزوم الوضوء بالماء الطاهر واقعا المستلزم لحسن الانقياد عقلا
بالاحتياط فيه كان المقام من مزاحمة حسن الانقياد بحسن الطاعة بالإضافة إلى
مصلحة التيسير الاستحبابية، وحيث كان الثاني أهم كان هو الأرجح عقلا وإن
كان الاحتياط باقيا على حسنه، فيكون مرجع الردع الشرعي في المقام إلى
إحداث حكم شرعي تكون طاعته مزاحمة للاحتياط عقلا من دون أن ترفع
حسنه، كما تقدم في أول الكلام في هذا الامر.
ومنه يظهر الحال في ما عن تفسير النعماني ونحوه مما تضمن الامر
بالتيسير، فإنه راجع إلى استحباب الاتيان بالرخص، ويكون الحكم المذكور
مزاحما لحسن الاحتياط، لا رافعا لحسنه.
فتحصل أن النصوص المذكورة لا تنافي حسن الاحتياط ذاتا، بملاك
الانقياد، وإنما تدل على أمرين لا ينبغي الاستهانة بهما..
الأول: أن الاحتياط قد يكون مرجوحا بالعرض لو كان ناشئا من عدم
سكون النفس للترخيص الشرعي وعدم ركونها للعمل به، لمنافاة ذلك للتسليم
الكامل به.
الثاني: أنه ينطبق على ترك الاحتياط عنوان راجح شرعا يحسن عقلا
الاتيان به بداعي إطاعة الشارع وانقيادا له، كما يحسن الانقياد له بالاحتياط، وهو
عنوان التيسير واستعمال الرخصة. فتأمل جيدا.
الامر الثاني: حيث عرفت حسن الاحتياط عقلا فقد وقع الكلام بينهم في
حسنه شرعا والامر به مولويا. فقد استفاضت النصوص المتقدمة التي استدل بها
132

الأخباريون على وجوب الاحتياط بالامر به والحث عليه، وبعد فرض عدم
حملها على الوجوب وتحكيم أدلة البراءة، فهل تحمل على الارشاد لحسنه
عقلا بملاك الانقياد، أو على الاستحباب المولوي، كما هو الامل في الأوامر
الشرعية؟
ولا يخفى أن نصوص الاحتياط على قسمين:
الأول: ما تضمن الامر به بملاك تحصيل الواقع المحتمل من دون أن
يتضمن أثرا زائدا على ذلك، كما هو مفاد التعليل بمثل قولهم عليهم السلام: (من أخذ
بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم) (1).
الثاني: ما تضمن الامر به بملاك أمر آخر غير تحصيل الواقع المشتبه،
مثل قولهم عليهم السلام (فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك) (2).
أما الأول فقد ذكر شيخنا الأعظم قدس سره وغيره أنه ظاهر في الارشاد لحسن
الاحتياط عقلا، بملاك الانقياد من حيث كونه تحصيلا لمصلحة الحكم الواقعي.
واستشكل فيه بعض مشايخنا بأن حكم العقل بحسن الانقياد لما لم يكن
إلزاميا فهو لا يوجب رفع اليد عن ظهور الأوامر الشرعية في المولوية.
وكأنه لان حكم العقل بحسن الاحتياط قد لا يكون موجبا لانبعاث
المكلف، ويكون الامر الشرعي المولوي موجبا له، فلا يكون لاغيا.
وهذا بخلاف أوامر الطاعة فقد ذكر أنه يمتنع حملها على المولوية، للزوم
لغويتها وإن لم نقل باستحالة التسلسل، لان الأوامر الشرعية لا تقتضي الانبعاث
ما لم تنته إلى الالزام من جهة العقل بجعل وجوب الطاعة، فلابد من صرف
أوامر الطاعة الشرعية إلى الارشاد لذلك.
وفيه: أن مجرد عدم محركية الأحكام الشرعية إلا بانتهائها إلى الدافع

(1) الوسائل، ج 18 باب: 12 من أبواب صفات القاضي ح 9.
(2) الوسائل، ج 18 باب: 12 من أبواب صفات القاضي ح 22.
133

العقلي المقتضي للزوم الطاعة عقلا، لا يلزم بحمل أوامر الشارع بالطاعة على
الارشاد، لامكان وجوب الطاعة بحكم العقل والشرع معا، نظير ما التزم به هنا
من حسن الاحتياط شرعا وعقلا.
على أن عدم صلوح الأحكام الشرعية للمحركية إلا بضميمة حكم العقل
كما يتوجه في الاحكام المنجزة التي يحكم العقل بلزوم طاعتها، كذلك يتوجه
في الاحكام غير المنجزة التي يحكم العقل بحسن الانقياد بموافقتها، فإنها لا
تقتضي الانبعاث لولا الحكم العقلي المذكور.
ومجرد الاختلاف بين الحكمين بالالزام وعدمه لا يصلح فارقا، ولا سيما
مع كون إطاعة الامر الاستحبابي والنهي التنزيهي مع تنجزهما حسنة عقلا غير
واجبة، مع عدم الاشكال بينهم في كون أوامر الشارع بإطاعتها للارشاد.
فاللازم النظر في الفرق بين الامر المولوي والارشادي ذاتا ثم تحديد
مصاديقهما..
فنقول: الأمر والنهي إن صدرا بداعي جعل السبيل على المخاطب بهما،
بنحو يقتضي إضافة الفعل للآمر والناهي وحسابه عليه، انتزع منهما الحكم
المولوي الذي يكون موضوعا للطاعة والمعصية وموردا لأهلية المخاطب
للثواب والعقاب من قبل الآمر.
وإن صدرا لمحض إرشاد المخاطب لآثار الافعال الثابتة لها مع قطع النظر
عن الأمر والنهي من دون أن يقتضيا إضافة الفعل للآمر وحسابه عليه، لم يكونا
منشأ لانتزاع الحكم، ولا يكون الداعي العقلي لموافقتها إلا بحسب داعويته
للأثر المستكشف بهما.
فإذا أمر الأب ولده بالتدثر مثلا، فإن كان أمره لمحض إرشاده لحاجته إليه
كان إرشاديا ولا يتحقق الداعي العقلي لموافقته إلا بتبع داعويته لسد الحاجة
المفروضة. وإن كان أمره مبنيا على جعله مسؤولا من قبله بحيث يأتي به لحسابه
134

استحبابا أو وجوبا كان مولويا وصار موضوعا للداعي العقلي بنفسه - مع قطع
النظر عن الملاك الموجب له - على حسب قوة الداعي لطاعته وضعفه.
ومنه يظهر الوجه في عدم استغناء الحكم الواقعي المولوي المنجز في
مقام المحركية عن الداعي العقلي، فإن الانبعاث عن الامر المولوي فعل
اختياري للمكلف، فلا يعقل صدوره إلا لغرض دافع له، من حب موافقة الآمر -
لأهليته ذاتا أو بالعرض - أو خوف عقابه أو رجاء ثوابه. والداعوية المذكورة هي
مرجع حكم العقل بحسن الإطاعة أو وجوبها في الأحكام الشرعية.
كما ظهر أيضا الوجه في عدم استغناء الحكم الواقعي المولوي غير
المنجز في مقام المحركية عن الداعي العقلي، فإنه لولا حكم العقل بحسن
الانقياد لا داعي للمكلف في الاندفاع عن احتمال الحكم المذكور.
ثم إنه حيث كان الحكم المولوي من أفعال المولى الاختيارية فلابد من
صدوره عن داع وغرض له فيه، من حفظ ملاك أو غيره على الكلام في ذلك.
إذا عرفت هذا يقع الكلام في أوامر الطاعة والاحتياط. فاعلم: أن الامر
بالطاعة إن كان ناشئا عن ملاك آخر غير ملاك ذات الفعل كان مولويا، كما لو
فرض أن تعلق التكليف بالفعل وصدق عنوان الطاعة عليه موجب لحدوث
ملاك آخر فيه غير ملاكه الذي أوجب حدوث أمره، فان اهتمام الشارع بالملاك
المذكور موجب لامره به مولويا بعنوانه المذكور، بحيث يكون مضافا للمولى
ومحسوبا عليه، ويكون مؤكدا للامر المولوي الأول المتعلق بذات الفعل.
ولا مجال معه لتوهم لغوية الامر الثاني، لان تأكد الامر موجب لتأكيد
الداعوية المولوية، الموجب لتأكد الداعوية العقلية، فكما يكون الفعل موضوعا
لحكمين شرعيين أحدهما متعلق بذاته، والآخر متعلق به بعنوان كونه إطاعة،
كذلك يكون موضوعا لحكمين عقليين في طول الحكمين الشرعيين
المذكورين يقتضيان إطاعة كل منهما، وإن اتحد الحكم الشرعي الثاني والحكم
135

العقلي الأول موضوعا.
وإن لم يكن ناشئا عن ملاك مستقل، بل ليس إلا ملاك الامر الأول امتنع
كونه مولويا، لعدم الغرض فيه بعد قيام الامر الأول به، وتعين كونه إرشاديا
لا يبتني على جعل السبيل، ولا على إضافة الفعل للمولى، فلا يكون حكما
حقيقة، ولا موضوعا للطاعة والمعصية، ولا يستتبع عقابا ولا ثوابا غير ما يقتضيه
الامر الأول.
ومن هنا تعين حمل أوامر الشارع بالإطاعة على الارشاد، لما هو المفروغ
عنه من عدم كون منشئها ملاكا مستقلا، وعدم استتباعها ثوابا ولا عقابا غير ما
يقتضيه الا مر الأول.
مضافا إلى أن ظاهرها الامر بإطاعة كل حكم ولو كان غير إلزامي، فلو كان
الامر المذكور مولويا كان ظاهره الوجوب المقتضي لوجوب إطاعة الأوامر
الاستحبابية، وهو مقطوع ببطلانه، وحمل الامر بالإطاعة على الاستحباب، أو
على مطلق الطلب ليس بأولى من حمله على الارشاد بعد كون كل منهما خلاف
الأصل في الامر، بل الثاني أقرب ارتكازيا.
كما أن ظاهر الامر بالإطاعة عمومه لكل أمر يفرض حتى نفس وجوب
الإطاعة كما هو مقتضى كون القضية حقيقية، وهو مستلزم للتسلسل، فحمله
على ما عدا أمر الإطاعة دفعا للتسلسل ليس بأولى من حمله على الارشاد، بل
الارشاد أقرب ارتكازا. فتأمل جيدا.
وأما الامر بالاحتياط فإن كان واردا بلحاظ حفظ الواقع والانقياد له، للتنبيه
على أهمية الواقع بنحو ينبغي للمكلف حفظه والاهتمام به كان إرشاديا مطابقا
لحكم العقل، ولا يترتب على موافقته إلا ما يترتب بحكم العقل على الانقياد.
وإن كان واردا بلحاظ غرض خاص قائم بعنوان الاحتياط له إن كان هو
حفظ الواقع من جهة الشارع، لاهتمامه به الموجب لخطابه به، بنحو يقتضي
136

إضافة الفعل إليه وحسابه عليه، كان مولويا واقتضى تأكد الداعي العقلي
للاحتياط من حيث كونه انقيادا للواقع المحتمل وطاعة للامر بالاحتياط
المعلوم، كما أنه يقتضي شدة الثواب لتأكد الجهة المقتضية له. فتأمل.
ولعل منه ما ورد في كراهة مساورة الحائض المتهمة، وكراهة كسب
الغلام، لأنه إن لم يجد سرق، وكراهة كسب الجارية لأنها إن لم تجد زنت.
هذا، والتأمل في نصوص الاحتياط المذكورة يشهد بالأول، لظهورها في
أهمية الواقع بنحو يقتضي اهتمام المكلف به، كما هو مقتضى التعليل بعدم
الوقوع في الهلكة، لا بنحو يهتم الشارع بحفظه فيكون ملاكا لتشريع الاحتياط
مولويا. فليس الاحتياط مرغوبا للشارع تبعا لاهتمامه بالواقع، بل مما ينبغي
للمكلف تبعا لأهمية الواقع في حقه.
إن قلت: حكم العقل بحسن الانقياد ليس كأمر الشارع بالاحتياط، لكشف
الثاني عن أهمية الواقع.
قلت: هذا لا يستلزم كون حفظ الواقع ملاكا يهتم الشارع به، ليستلزم
المولوية، وإنما يكشف عن أهمية الواقع في حق المكلف، الموجب لتأكد
حسن الانقياد به عقلا. نظير ما في بعض الأدلة الشرعية من بيان أهمية بعض
التكاليف الموجبة لتأكد حكم العقل بإطاعتها من دون أن تقتضي الامر
المولوي بها.
وبعبارة أخرى: ظاهر الامر بالاحتياط - سواء كان وجوبيا، كما يقوله
الأخباريون، أم استحبابيا كما يقوله غيرهم - ليس إلا حكما طريقيا لاحراز الواقع
كاشفا عن أهمية الواقع في حق المكلف، من دون أن يقتضى حكما نفسيا في
قباله موضوعا للإطاعة والمعصية ومنشأ للعقاب والثواب.
غايته أنه إن كان وجوبيا كان مستلزما لتنجز الواقع، وصار الواقع به
موضوعا لوجوب الإطاعة عقلا، وإن كان استحبابيا كان إرشادا لحكم العقل
137

بحسن الانقياد بتحصيل الواقع رجاء.
ومنه يظهر الحال في ما تضمن الامر بالاحتياط من دون تعليل، فإن
المنسبق من الامر بالاحتياط ليس إلا الحكم الطريقي بالوجه المذكور.
وأما القسم الثاني من الاخبار: فقد ذكروا أنه ظاهر في المولوية، لان
الملاك المذكور فيه لا دخل له بملاك الواقع المحتمل، ليكون إرشادا إلى حسن
الانقياد بتحصيله.
لكن الانصاف: أن الملاك المذكور مناسب للارشاد جدا. فإن البعد عن
الحرام مما يحسن عقلا احتياطا للنفس بملاك حسن الطاعة. ومعه يشكل ظهور
الأوامر المذكورة في المولوية الراجعة إلى ابتناء خطاب الشارع على جعل
السبيل وإضافة الفعل له وحسابه عليه ليكون موضوعا للطاعة والمعصية ومنشأ
للثواب زائدا على الفائدة المذكورة، بل لا يبعد كونه نظير أمر الطبيب.
ومن ثم لا يبعد حمل كثير من النصوص المتعرضة لآثار بعض الأفعال
المرغوب فيها أو عنها على الارشاد للآثار المذكورة، من دون أن تقتضي
الاستحباب أو الكراهة المولويين.
إلا أن يفرض ظهورها في تبني الشارع للحكم، فيكون الأثر المذكور
ملاكا للحكم الشرعي ومنشأ لتشريعه، ولا تكون مسوقة لمحض الارشاد. وإن
كان الامر لا يخلو عن إشكال.
هذا كله بناء على شمول النصوص المتقدمة للاحتياط في موارد عدم
تنجز التكليف، كما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره وغيره، لكنه خلاف الظاهر، لما
تقدم عند الكلام في استدلال الأخباريين بها من أن القسم الأول من النصوص
ظاهر في وجوب الاحتياط في خصوص موارد منجزية الشبهة، وليس شاملا
لصورة عدم تنجز التكليف، ليحمل على استحباب الاحتياط، ولا سيما بملاحظة
التعليل فيه باحتمال الهلكة فإنه آب عن الحمل على الاستحباب.
138

وأما ما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره من حمل الهلكة فيه على مطلق ما
يترتب على الاقتحام في الشبهة ومخالفة احتمال التكليف وإن لم يكن لازم
الدفع عقلا، فإن كان التكليف منجزا كان هو ضرر العقاب اللازم الدفع، وإن لم
يكن منجزا كان هو ضرر فوت الواقع الذي يحسن دفعه ولا يلزم.
فهو خلاف الظاهر جدا، لظهور الهلكة في أهمية الضرر بنحو يجب دفعه
- كالعقاب - دون ما لا يجب دفعه كفوت الملاك الواقعي، الذي قد يكون عرفا
من سنخ فوت النفع، لا الوقوع في الضرر، فضلا عن أن يكون وقوعا في الهلكة
ليكون مشمولا للتعليل المذكور.
نعم، تقدم في موثقة مسعدة بن زياد تطبيق التعليل المذكور على النكاح
في مورد الشبهة الموضوعية التي لا يجب فيها الاحتياط. لكنها مختصة
بموردها، ولا مجال للتعدي عنه، كما يظهر مما ذكرنا هنا وهناك.
وأما القسم الثاني فالتعليل فيه وإن كان لا ينافي الاستحباب، إلا أن ظاهر
الشبهة فيه خصوص موارد تنجيز الاحتمال، ولا أقل من كون المتيقن منه ذلك.
وكذا ما تضمن الامر بالاحتياط ونحوه، كما يظهر بما تقدم في استدلال
الأخباريين بالنصوص المذكورة. فراجع.
بل شمول نصوص الاحتياط للشبهة غير المنجزة لا يناسب أدلة الأصول
والقواعد الترخيصية، بل أدلة الحجج من اليد والسوق ونحوهما، لظهورها في
الحث على العمل بمؤداها بالنحو الذي لا يناسب نصوص الاحتياط، ولا سيما ما
تضمن منها إطلاق الهلكة. بل التأمل في الأدلة المذكورة شاهد بمباينتها موردا
لاخبار الاحتياط، بل هي رافعة لموضوعها عرفا، لاختصاصها بالشبهات
المنجزة، كما ذكرنا.
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أنه لا طريق لاثبات حسن الاحتياط
شرعا، وليس حسنه إلا عقليا. ويأتي في الامر الثالث ما ينفع في المقام إن شاء
الله تعالى.
139

الامر الثالث: قد تضمنت كثير من النصوص الحث على العمل الذي ورد
عليه الثواب. كصحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (من بلغه عن
النبي صلى الله عليه وآله من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله لم
يقله) (1)، وصحيحه الآخر عنه عليه السلام، قال: (من سمع شيئا من الثواب على شئ
فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه) (2)، وخبر محمد بن مروان عنه عليه السلام،
قال: (من بلغه عن النبي صلى الله عليه وآله شئ من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلى الله عليه وآله
كان له ذلك الثواب وإن كان النبي صلى الله عليه وآله لم يقله) (3) وغيرها.
وقد وقع الخلاف في مفاد النصوص المذكورة، والمحتمل منها بدوا وجوه..
الأول: حجية الخبر الدال على الثواب مطلقا وإن كان ضعيفا في نفسه.
وهو ظاهر التعبير عن مؤدى النصوص في كلماتهم بالتسامح في أدلة السنن
لظهوره في أن ما ليس حجة في نفسه فهو حجة في السنن.
الثاني: علية بلوغ الثواب على العمل لاستحبابه شرعا بعنوانه الأولي
الذي أخذ في موضوع الثواب.
الثالث: عليته لاستصحاب العمل شرعا أيضا، لكن بقيد الاتيان به رجاء
إدراك الواقع وترتب الثواب، لا مطلقا، كما في الوجه السابق.
الرابع: مجرد ترتب الثواب على العمل الذي ورد عليه الثواب لمن جاء به
برجاء إدراك الواقع من دون أن يقتضي استحبابه شرعا والامر به مولويا، بل غاية
ما يقتضي الحث على الانقياد والارشاد لحسنه بملاك ترتب الثواب عليه. وعليه
فلا تكون النصوص المذكورة دالة على حكم شرعي أصلا، بخلاف الوجوه

(1) الوسائل ج 1، باب: 8 من أبواب مقدمة العبادات، حديث 3.
(2) الوسائل ج 1، باب: 18 من أبواب مقدمة العبادات، حديث 6.
(3) الوسائل ج 1، باب: 18 من أبواب مقدمة العبادات، حديث 4.
140

السابقة، حيث تكون على الأول، دالة على حكم أصولي، وعلى الثاني والثالث
دالة على حكم فرعي.
وينبغي الكلام..
تارة: في الثمرة بين الأقوال.
وأخرى: في تحقيق الحق منها.
وثالثة: في فروع ذلك ولواحقه.
المقام الأول: في الثمرة بين الأقوال..
لا يخفى أن الوجوه المذكورة تختلف في مقام العمل، فعلى الأول يشرع
الاتيان بالعمل لداعي أمره الواقعي الذي تضمنه الخبر المتضمن لثبوت الثواب
عليه، لفرض حجيته في مضمونه بنحو يصح الجزم به تعبدا، ولا مجال لذلك
على بقية الوجوه، لعدم ثبوت الامر المذكور شرعا، بل لا مجال لقصده إلا رجاء.
نعم، على الثاني والثالث يتجه الجزم باستحبابه من جهة النصوص
المتقدمة، أما على الرابع فلا مجال للجزم بالامر الشرعي مطلقا.
كما أنه على الأولين يكفي الاتيان بالفعل الذي بلغ عليه الثواب بقصد
عنوانه الذي أخذ في ترتب الثواب - كعنوان الصلاة والدعاء - ولولا بداعي بلوغ
الثواب عليه، وورود الامر الواقعي المحتمل به، لثبوت استحبابه بعنوانه المذكور
بهذه الاخبار على الثاني، وبالخبر المتضمن للثواب - المفروض حجيته بهذه
الاخبار - على الأول.
أما على الأخيرين فلابد من قصد بلوغ الثواب والامر المحتمل داعيا
للعمل، لفرض أخذ ذلك قيدا في ما هو المستحب شرعا على الثالث، ولتوقف
ترتب الثواب وتحقق الانقياد على الرابع.
هذا وربما توجه الثمرة بوجهين آخرين..
الأول: أنه على الأول يتجه للفقيه الفتوى باستحباب العمل بعنوانه
141

بمجرد عثوره على خبر يدل على استحبابه من دون أن ينبه العامي على ورود
الخبر المذكور، إذ بعد فرض حجية الخبر يكون كسائر الحجج التي يصح للفقيه
الاعتماد عليها. ولعله لذا جرى الأصحاب على ذلك. وعن شيخنا الأعظم قدس سره أن
ذلك منهم ظاهر في اختيار الوجه المذكور.
أما على الثاني والثالث فلا مجال لفتواه بالاستحباب اعتمادا على الخبر
الذي دل على الثواب، لعدم حجيته، ولا على أخبار المقام، لان وظيفته بيان
الاحكام الفرعية الكلية، واستحباب العمل الخاص حكم فرعي جزئي مستفاد
من الأخبار المذكورة، وليس الحكم الكلي إلا نفس ما تضمنته هذه الأخبار من
استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب، فله الفتوى به على عمومه، كما له
الاخبار بموضوعه - وهو ورود الثواب على العمل - كما يخبر عن سائر
الموضوعات الخارجية التي يطلع عليها، كمسجدية المسجد،.
بل يكون إخباره بذلك محققا للموضوع، لصدق البلوغ به حقيقة، وليس
كإخباره بسائر الموضوعات متمحضا في الكشف عنها.
أما على الرابع فليس له إلا التنبيه على ورود الخبر، ليتحقق البلوغ الذي
هو موضوع النصوص، من دون إخبار بحكم شرعي كلي، ولا بموضوع شرعي.
لكن تشكل الثمرة المذكورة: بأن ظاهر نصوص المقام اختصاص مؤداها
بمن بلغه الثواب، فلو فرض دلالتها على حجية الخبر الدال على الثواب فهي لا
تدل على حجيته في نفسه مطلقا، كما اقتضت السيرة حجية خبر الواحد في
نفسه، بل على حجيته في حق خصوص من بلغه، وهو المجتهد المطلع عليه،
دون العامي، وحينئذ لا مجال لفتوى المجتهد للعامي بمؤداه، ليرتب عمله عليه،
لان وظيفة العامي الرجوع للمجتهد في تشخيص مؤدى الحجج الثابتة في حقه،
لا الثابتة في حق المجتهد نفسه دونه.
فلو فرض أن الخبر الموثق حجة على الرجال دون النساء، لم يكن لهن
142

الرجوع للمجتهد الرجل في تشخيص أحكامهن التي يتضمنها الموثق، وإن جاز
للمجتهد نفسه الرجوع إليه في تشخيص أحكامهن المتعلقة به، فله أن يطأ
المرأة التي دل الموثق على نقائها، إن لم يكن لها تطبيق عملها على ذلك.
ودعوى: أن الحجج لا تكون حججا في حق العامي بعد تعذر أخذ حكمه
منها عليه، وليس الحجة في حقه إلا فتوى المجتهد، واللازم على المجتهد
الفتوى اعتمادا على ما هو الحجة في حقه.
مدفوعة: بأنه ليس المتعذر على العامي إلا أخذ حكمه من الحجج بلا
واسطة. أما أخذ حكمه منها بتوسط المجتهد فلا يكون متعذرا عليه، ومعه لا
وجه لسقوط حجيتها في حقه، كما لا وجه لرجوعه لفتوى المجتهد المبنية على
ما هو حجة في حق المجتهد دونه، لقصور بناء العقلاء - الذي هو عمدة أدلة
التقليد - عن ذلك.
وعلى ذلك فاللازم على المجتهد تحقيق موضوع الحجية في حق العامي
بنقل الخبر له، ثم الفتوى له بمضمونه، كما هو الحال على الوجه الثاني والثالث.
وقد ذكرنا نظير ذلك في أخبار التخيير، فإن مقتضاها لو كان هو حجية
الخبر الذي يختاره المكلف فلا وجه لعمل العامي بالحكم المستنبط من الخبر
الذي يختاره المجتهد.
ودعوى: أن المجتهد يقوم مقام العامي في الفحص عن الأدلة، وينوب
عنه فيه، فيتعين الاكتفاء ببلوغ الخبر للمجتهد في حجيته في حق العامي، كما
يتعين الاكتفاء باختيار المجتهد له.
مدفوعة: بأن المجتهد إنما يقوم مقام العامي في تشخيص الأدلة الثابتة في
حق العامي بملاك كونه من أهل الخبرة، لا في تحقق موضوع الحجية من البلوغ
والاختيار ونحوهما.
نعم، لو استفيد من نصوص المقام حجية الخبر المتضمن للثواب في
143

نفسه، بحمل البلوغ فيه على محض الطريقية من دون أن يؤخذ في موضوع
الحجية كان للمجتهد الفتوى بمضمونه في حق من لم يطلع عليه.
لكنه - مع مخالفته لظاهر التقييد بالبلوغ، ولا سيما مع دخله ارتكازا -
يقتضي جواز الفتوى على الوجه الثاني أيضا، غايته أنه يكون منه بيانا للحكم
الجزئي لا الكلي، وهو مما لا بأس به بعد تشخيص موضوعه، نظير فتواه بنجاسة
الكحول بعد تشخيص كونه مسكرا.
نعم، لا مجال لذلك على الوجه الثالث، لاختصاص الاستحباب بما يكون
بداعي حصول الثواب الوارد، المتوقف على التفات المكلف لورود الثواب
على العمل.
وكذا الحال على الرابع، بل هو أولى، لعدم الاستحباب الشرعي، كي يفتي
به المجتهد.
الثاني: أنه بناء على الوجوه الثلاثة الأول يتجه البناء على مشروعية العمل
الذي بلغ عليه الثواب بالوجه الذي دل عليه الخبر المتضمن للثواب وترتيب
آثار ذلك.
فلو ورد خبر باستحباب غسل مسترسل اللحية في الوضوء جاز المسح
ببلله، لأنه - كبلل الحاجبين - من بلة الوضوء بمقتضى نصوص المقام المقتضية
لاستحبابه، أو لحجية الخبر الدال على استحبابه، ولو ورد خبر باستحباب غسل
خاص اجتزئ به عن الوضوء، بناء على إجزاء جميع الأغسال عن الوضوء، إلى
غير ذلك.
أما بناء على الوجه الرابع فلا مجال لشئ من ذلك لعدم ثبوت
المشروعية، فلا تترتب آثارها.
وفيه: أنه بناء على الوجه الأول فنصوص المقام وإن اقتضت حجية الخبر
الدال على الاستحباب والمشروعية، إلا أنه لا إطلاق لها يقتضي حجيته في تمام
144

مدلوله وآثاره، بل من حيثية الاستحباب وترتب الثواب لا غير، ولذا لو دل الخبر
الضعيف على وجوب الشئ الذي تضمن الثواب عليه لا يكون حجة في إثبات
الوجوب بلا إشكال، بل في أصل الطلب المستلزم للثواب.
والتفكيك في الحجية بين أجزاء المدلول وآثاره غير عزيز، وإنما يلتزم
بعموم الحجية مع عموم دليلها وإن كان هو بناء العقلاء، كما في خبر الثقة، لا في
مثل المقام مما كان دليل الحجية فيه تعبديا لا عموم فيه.
وأما بناء على الوجه الثاني والثالث فنصوص المقام وإن اقتضت
استحباب الفعل ومشروعيته إلا أنها حيث لم تثبت مشروعيته بالعنوان الأولي،
بل بالعنوان الثانوي، وهو عنوان البلوغ، فلابد من الاقتصار على الآثار الثابتة
لمطلق الفعل المشروع، دون خصوص ما ثبت لما كان مشروعا بالعنوان الأولي،
كما هو الظاهر في الاثرين المشار إليهما، فإن المسح إنما يجوز ببلة الوضوء
المشروع بعنوان كونه وضوء، لا بعنوان كونه قد بلغ عليه الثواب، وكذا الحال في
إجزاء الغسل عن الوضوء. فتأمل جيدا.
المقام الثاني: في تحقيق ما هو الحق من لأقوال..
قد يقرب دلالة النصوص المتقدمة على الوجه الأول بظهور ذكر ترتب
الثواب الموعود به في الحث على العمل بالخبر المتضمن للثواب ومتابعته
عملا، والامر بمتابعة الطريق والعمل به كناية عن حجيته في نفسه.
ودعوى: أن نصوص المقام بصدد بيان ترتب الثواب على العمل الذي
بلغ عليه الثواب، لا بيان ما يتحقق به البلوغ، فلا إطلاق لها ينهض بعدم اعتبار
شرائط الحجية في الخبر الذي يتحقق به البلوغ، بنحو يقتضي حجية الخبر
الضعيف، بل مقتضى أدلة اعتبار تلك الشروط اعتبارها في الخبر المتضمن
للثواب أيضا.
مدفوعة: بأن البلوغ ليس أمرا شرعيا، بل هو أمر وجداني يتحقق بالخبر
145

الضعيف وغيره، ومقتضى إطلاق نصوص المقام الحث على العمل بجميع
أفراد البلوغ. وما دل على عدم حجية الخبر الضعيف لا ينافي تحقق البلوغ به
الذي هو الموضوع في هذه النصوص.
نعم، قد يقال: على ذلك تكون النسبة بين نصوص المقام وما دل على
اعتبار شروط الحجية من الثقة أو العدالة أو غيرهما العموم من وجه لا العموم
المطلق، لان نصوص المقام وإن اختصت بالاستحباب ونحوه مما يتضمن بلوغ
الثواب، إلا أنها تعم الخبر الواجد لشرائط الحجية، فيرجع في مورد التعارض
إلى أصالة عدم الحجية.
لكنه يندفع: بأن عمدة الدليل على اعتبار الشروط المذكورة هي الاجماع
الذي لا يشمل المستحبات، وسيرة العقلاء التي تنهض نصوص المقام - لو
تمت دلالتها - بالردع عنها في المستحبات.
نعم، لا يبعد ثبوت الاطلاق لبعض النصوص بنحو يشمل المستحبات،
مثل ما عن الكاظم عليه السلام: (لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا، فإنك إن
تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذي خانوا الله ورسوله...) (1).
إلا أنه لو تم سنده فنصوص المقام أرجح منه، لأنها أكثر عددا وأصح سندا
وأشهر رواية.
هذا، مع أنه لا يبعد كون نصوص المقام أقوى دلالة من الاطلاق المذكور،
لان حملها على خصوص الخبر الواجد لشرائط الحجية عملا بالاطلاق المذكور
مستلزم لالغاء خصوصية موردها، بخلاف حمل الاطلاق على غير المستحبات
عملا بالنصوص المذكور. وذلك من أهم المرجحات الدلالية بين العامين من
وجه.
هذا حاصل ما يوجه به دلالة نصوص المقام على الوجه الأول.

(1) الوسائل، ج 18، باب: 11 من أبواب صفات القاضي ح: 42.
146

ويندفع: بأن الأخبار المذكورة لا ظهور لها في الحث على العمل بالخبر
المتضمن للثواب الذي هو بمعنى الاعتماد عليه لتكون ظاهرة في حجيته، بل
غاية ما تضمنته الحث على موافقته عملا ولو لرجاء إصابة الواقع، ولا ظهور
لذلك في الحجية، بل ما تضمنته من التنبيه على احتمال خطأ الخبر لا يناسب
لسان الحجية المبنية على إلغاء احتمال الخلاف وغض النظر عنه.
وأما مجرد ترتب الثواب فهو ليس من لوازم الحجية، بل هو من لوازم
الإطاعة الحقيقية أو الحكمية، والأولى منوطة بإصابة الواقع لا بقيام الحجة،
والثانية منوطة بالانقياد الحاصل بالموافقة الاحتمالية وإن لم يكن هناك حجة.
وأما الوجه الثاني فقد يوجه حمل النصوص عليه بأن الوعد بالثواب فيها
على العمل الذي بلغ عليه الثواب ظاهر في الامر به واستحبابه، كما يستفاد الامر
في سائر الموارد المتضمنة للوعد بالثواب على العمل كالحج وزيارة
المعصومين عليهم السلام والاحسان للمؤمنين ونحوها.
لكن من الظاهر أن هذا لو تم لا يقتضي الوجه الثاني، بل الثالث، لوضوح
أن الوعد بالثواب لم يترتب على ذات الفعل الذي بلغ عليه الثواب، ليكشف عن
استحبابه مطلقا، بل المتيقن منه خصوص الفعل المأتي به بداعي تحقق الامر
الواقعي وتحصيل الثواب البالغ، كما هو مقتضى التفريع في مثل صحيحي هشام
المتقدمين، لظهوره في تفرع العمل على البلوغ الظاهر في كون البلوغ علة له،
بلحاظ داعويته له، بل هو صريح مثل خبر محمد بن مروان المتقدم.
على أن الوجه المذكور غير تام في نفسه، لان الوعد بالثواب إنما يكشف
عن الامر المولوي إذا لم يكن للثواب منشأ غيره، كما في الموارد المشار إليها،
بخلاف المقام، لقرب كون ترتب الثواب بلحاظ الانقياد الناشئ من بلوغ الثواب
ورجاء تحصيله، نظير الوعد بالثواب على الطاعة، من دون أن يكون لازما للامر
المولوي، ولا كاشفا عنه.
147

بل لو كان الثواب الموعود به في هذه النصوص ناشئا عن أمر مولوي
سيقت هذه النصوص لبيانه لزم عدم ترتبه في حق من لم يلتفت لمفاد هذه
النصوص - لجهله بها أو لغفلته عنها - وأتى بالفعل الذي بلغ عليه الثواب
لمحض الانقياد رجاء تحقق الامر الواقعي وترتب الثواب البالغ، لوضوح عدم
قصده امتثال الامر الثانوي المستفاد من هذه النصوص، كي يستحق ثوابه، بل
ليس منه إلا الانقياد الحاصل في سائر موارد الاحتمال.
ولا يظن من أحد الالتزام بذلك. وما ذلك إلا لظهور هذه النصوص في أن
منشأ الثواب الموعود به مجرد الاتيان بالعمل برجاء تحصيل الثواب الذي بلغ،
لا لأجل كونه إطاعة لأمر مولوي آخر، وذلك حاصل في حق من غفل عن مفاد
هذه النصوص، وهو راجع إلى الارشاد لحكم العقل بحسن الانقياد، كما هو
مقتضى الوجه الرابع. ولا أقل من كونه المتيقن بعد عدم القرينة على إرادة
الوجوه الأخرى.
نعم، قد يشكل الحمل على ذلك..
تارة: بأن أمر الشارع هنا بالاحتياط يكشف عن أهمية الواقع بنحو لا
يدركه العقل، فلا مجال لحمله على الارشاد.
وأخرى: بأن الحمل على الارشاد موقوف على حكم العقل باستحقاق
الثواب على الانقياد، والتحقيق عدمه، وأن الثواب معه تفضل من المولى غير
لازم عليه، وحينئذ يكون وعد الشارع بفعلية الثواب راجعا إلى أمره به، لتضمنه
أمرا زائدا على ما يحكم به العقل، فهو كالوعد بالثواب على سائر المستحبات
المولوية.
وثالثة: بأن تحديد الثواب بخصوص ما بلغ أمر زائد على ما يحكم به
العقل، فيدل على الامر المولوي.
ورابعة: بأن البناء على الارشاد يستلزم إلغاء خصوصية البلوغ، لان
148

الانقياد لا يختص به، بل يجري في كل احتمال وإن كان حدسيا في الشبهة
الموضوعية.
لكن الجميع في غير محله..
أما الأول فلما تقدم في أوامر الاحتياط من أن أمر الشارع بالاحتياط وإن
كشف عن أهمية الواقع بنحو لا يدركه العقل، إلا أنه لا يقتضي المولوية، بل
يقتضي حكم العقل بتأكد حسن الانقياد به.
بل لا يبعد عدم سوق نصوص المقام لبيان أهمية الملاك الواقعي
المحتمل في مورد بلوغ الثواب، بل لمحض الارشاد لحسن الانقياد والحث
عليه من حيث هو، لظهورها في أن منشأ الحث والثواب ليس اهتمام المكلف
بالحكم الشرعي وطلب قول النبي صلى الله عليه وآله الذي هو عين الانقياد الحسن بحكم
العقل بملاك شكر المنعم.
وأما الثاني فلان العقل وإن لم يستقل باستحقاق الثواب على الانقياد إلا
أنه يحكم بأهلية الفاعل له، كما هو الحال في الإطاعة الحقيقية، وحينئذ لعل
الوعد بالثواب في هذه النصوص بلحاظ ذلك، كما هو الحال في الوعد به على
الإطاعة الحقيقية.
مع أنه لو تم ما ذكر في هذا الوجه فالنصوص وإن لم تصلح للارشاد، إلا
أنها لا تقتضي الامر المولوي، لامكان أن يكون الوعد بالثواب محض تفضل، لا
يستتبع الامر، ولا قرينة على كونه ناشئا عن أمر بحيث يقتضي إضافة الفعل
للمولى وحسابه عليه زائدا على ما يحكم به العقل من حسن الانقياد.
وأما الثالث فلان تحديد الثواب ليس من وظيفة العقل حتى في الإطاعة
الحقيقية، فتعرض الشارع له هنا كتعرضه له في بعض موارد الإطاعة الحقيقية لا
ينافي الارشاد في أصل الحث على الانقياد المستفاد من ذلك.
ومنه يظهر اندفاع الرابع، إذ لا مانع من اختلاف مراتب الانقياد في
149

الأهمية وفي مقدار الثواب بالنحو الذي يدركه الشارع، فلا مانع من اختصاص
الانقياد في مورد بلوغ الثواب بمزية تقتضي الوعد بتمام الثواب البالغ بان لم يتم
ذلك في سائر موارد الانقياد.
وبالجملة: الوجوه المذكورة لا تنهض بإثبات الامر المولوي الثانوي،
لملاك خاص بنحو يقتضى إضافة الفعل للمولى وحسابه عليه مع قطع النظر عن
حسن الانقياد ذاتا بلحاظ الامر الأولي المحتمل، بل يتعين الحمل على الارشاد،
كما هو مفاد الوجه الرابع.
بقي شئ، وهو أنه قد يدعى صرف نصوص المقام إلى ما لو كان البالغ
بالخبر الضعيف مقدار الثواب، مع كون أصل الاستحباب والمشروعية معلوما،
لامتناع التقرب بالعبادة مع عدم إحراز الامر، ولا مجال لحملها على التوصليات
مع كون الشايع من موارد بلوغ الثواب هو العبادات.
ويقتضيه أيضا ما يأتي من ظهور نصوص المقام في فرض تحديد
الثواب الموعود على العمل، لا في بلوغ أصل ترتب الثواب على العمل.
وعليه فتكون النصوص واردة للارشاد إلى حسن الطاعة في فرض إحراز
الامر، لا إلى حسن الانقياد في فرض احتماله.
وفيه: أن التقرب مع احتمال الامر غير متعذر، كما سيأتي إن شاء الله تعالى
بعد الفراغ من هذه القاعدة، وكفى بنصوص المقام شاهدا على ذلك.
وظهور هذه النصوص في فرض تحديد الثواب - لو تم - لا ينافي شمولها
لما إذا لم يكن أصل الاستحباب والامر مفروغا عنه، لامكان انحصار دليل
الاستحباب بالخبر الضعيف المحدد للثواب.
بل هو المناسب لتفريع العمل على البلوغ الظاهر في عدم ترتبه لولاه.
ولا سيما مع قوله عليه السلام في بعضها: (ففعل ذلك طلب قول النبي صلى الله عليه وآله) الظاهر في
أن منشأ الاستحقاق ليس الا الرغبة في إصابة قول النبي صلى الله عليه وآله وطلب سنته
150

الحاصل مع الشك في أصل المشروعية، فلا موجب للخروج عما ذكرنا.
المقام الثالث: في فروع هذه القاعدة ولواحقها..
المهم في هذا المقام هو الكلام في عموم نصوص المقام لبعض الموارد
وعدمه، تبعا لما يستفاد من ظواهر ها، ومن قرائن المقام، وحيث كان ذلك لا
يوجب اليقين غالبا فهو إنما ينفع بناء على تضمن النصوص المذكورة حكما
شرعا أصوليا أو فرعيا - كما هو مقتضى الوجوه الثلاثة الأول - لان الظاهر لما كان
حجة أمكن الاعتماد عليه في إثبات الحكم الشرعي والتعبد به
وهذا بخلاف الحال على الوجه الرابع، فإن حسن الانقياد عقلي قطعي لا
يختص بمورد النصوص، فلا أثر لعموم مفادها أو خصوصه فيه، ولا تمتاز إلا
بالوعد بفعلية الثواب في موردها، وليس هو حكما شرعيا، كي تنهض الحجة
بإثباته وتحديده، بل هو أمر واقعي لا دخل لقيام الحجة فيه بوجه، حتى ينفع
تحديد مؤداها.
ولا مجال لدعوى: أن قيام الحجة على الوعد بالثواب ملزم للمولى
بتنفيذه وإن كانت مخطئة.
لان أدلة الحجية منصرفة إلى التعبد بمضمون الحجة في مقام العمل،
المقتضي لمعذريتها ومنجزيتها، لا إلى التعهد بتنفيذ مؤداها وتحقيقه على كل
حال وإن كانت مخطئة.
بل ليس ملاك لزوم تنفيذ الوعد بالثواب في ظرف قيام الحجة عليه إلا
حسن الوفاء من المولى بوعده، فلو فرض خطأ الحجة وعدم صدور الوعد منه
واقعا فلا ملزم له بالتنفيذ.
ومن ثم كان ما تضمنته نصوص المقام من ثبوت نفس الثواب الموعود به
في الاخبار وإن كانت كاذبة تفضلا غير لازم عليه حتى لو كانت تلك الأخبار
حجة في نفسها، ولا يلزم بمقتضى حجيتها.
151

نعم، قد ينفع تشخيص الظهور في قوة احتمال الوعد بالثواب الموجب
لقوة الداعي للانقياد وإن لم يتيقن بترتب الثواب، كما قد يقوى الاحتمال
المذكور لأسباب اخر غير الظهور، بل قد يقوى الداعي المذكور مع ضعف
الاحتمال، لأهمية نفس الثواب البالغ.
وحيث عرفت هذا، يقع الكلام في أمور..
أحدها: أنه تقدم في آخر الكلام في المقام الثاني الإشارة إلى اختصاص
نصوص المقام بما إذا تضمن الخبر تحديد ثواب العمل، لا أصل ترتب الثواب
عليه من دون تعيين له.
وهو ظاهر قولهم عليهم السلام: (من بلغه شئ من الثواب له، وقولهم عليهم السلام: (من
بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك التماس ذلك الثواب) ونحو هما. وحمل
(من) في الأول على أنها بيانية خلاف الظاهر جدا.
لكن ذكر شيخنا الأعظم قدس سره في صحيحة هشام بن سالم المحكية عن
المحاسن عن أبي عبد الله عليه السلام: (من بلغه عن النبي صلى الله عليه وآله شئ من الثواب فعمله
كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقله) (1) أن المراد من: (شئ من
الثواب) بقرينة ضمير: (فعمله) وإضافة الاجر إليه هو الفعل المشتمل على
الثواب. وحينئذ يمكن فرض الاطلاق له بنحو يشمل العمل الذي بلغ ترتب
الثواب عليه من دون تحديد.
ويعضده إطلاق ما عن الاقبال عن الصادق عليه السلام: (من بلغه شئ من الخبر
فعمل به كان له ذلك وإن لم يكن الامر كما بلغه) (2).
لكن صحيح هشام كما يمكن توجيهه بما تقدم يمكن إبقاء الثواب فيه
على حقيقته، وحمل ضمير: (فعمله) على الاستخدام، بأن يراد منه فعلم ما

(1) الوسائل ج 1، باب: 8 من أبواب مقدمة العبادات، حديث 3..
(2) الوسائل ج 1، باب: 8 من أبواب مقدمة العبا دات، حديث 9. 9.
152

يوجبه، ويتجه حينئذ إضافة الاجر إليه، ولعله الأنسب ولو بملاحظة نصوص
الباب. ولا أقل من الاجمال المانع من الاستدلال.
وأما ما عن الاقبال فإرساله مانع من الاستدلال به، ولا سيما مع قرب
رجوعه إلى بعض النصوص المسندة وأنه منقول بالمعنى.
والحاصل: أنه لا مجال لاستفادة التعميم من نصوص المقام.
نعم، قد تلغى خصوصية تحديد الثواب لعدم دخلها عرفا بعد ظهور
ورود النصوص مورد الامتنان والحث على فعل الخير والتأسي بالنبي صلى الله عليه وآله
وطلب قوله، إذ الفرق حينئذ بين بلوغ أصل الثواب وبلوغ مقدار خاص منه بعيد
جدا، بل الأول أولى بالامتنان، لان الانقياد فيه آكد.
لكنه مبني على حمل النصوص على الارشاد لحسن الانقياد، أما بناء على
حملها على بيان حكم أصولي أو فرعي فحيث يكون مضمونها تعبديا محضا
فلا مجال لأعمال القرينة الارتكازية المذكورة فيه.
وإن كان عمل الأصحاب على التعميم. وعليه يبتني الكلام في جل الفروع
الآتية أو كلها. ولعله لفهم عدم الخصوصية. فتأمل جيدا.
ثانيها. أنه لما كان الموضوع في نصوص المقام هو بلوغ الثواب فلا فرق
بين بلوغه صريحا وبلوغه ضمنا والتزاما - كما يظهر من بعض عبائرهم
المفروغية عنه - لاطلاق النصوص في ذلك، ولا سيما بملاحظة الارتكاز المشار
إليه في الامر الأول.
ومن هنا يتجه الاكتفاء بالاخبار المتضمنة للأحكام وإن لم يصرح فيها
بالثواب، لما هو المفروغ عنه من ملازمة امتثال الحكم الشرعي للثواب.
كما أن مقتضى إطلاق النصوص العموم لجميع الاحكام الاقتضائية التي
يترتب الثواب بامتثالها حتى الحرمة والكراهة، ولا وجه لتخصيصها بالوجوب
والاستحباب، فضلا عن خصوص الاستحباب.
153

وأما ما يظهر من غير واحد من اختصاص الاخبار بهما، لاختصاصها
بالخير والعمل الذي بلغ عليه الثواب، وهو ظاهر في الامر الوجودي، كما يشهد
له التفريع بقولهم عليهم السلام: (فعمله) و (فصنعه) فلا يشمل بلوغ الثواب على الترك.
فهو غير ظاهر، لان المراد بالعمل مطلق فعل المكلف وإن كان عدميا،
خصوصا بلحاظ أن فعله هنا بمعنى حمل النفس عليه، لا بمعنى محض تحققه،
لان ذلك هو الذي يكون موضوع الثواب.
ولذا لا ريب ظاهرا في شمولها لما إذا دل الخبر على استحباب الترك
وترتب الثواب عليه صريحا، وذلك هو المناسب للارتكاز المشار إليه آنفا.
نعم، أشرنا في المقام الأول إلى أن القول بحجية الخبر المذكور لا يستلزم
حجيته في تمام مدلوله، لعدم الاطلاق في دليل الحجية، بل المتيقن منها حجيته
في ترتب الثواب بالنحو المستلزم للرجحان من دون أن تحرز خصوصية الالزام
أو الندب.
وحيث كان هذا متفقا عملا مع الاستحباب اتجه منهم التسامح والتعبير
بحجية الخبر في الاستحباب في مثل ذلك. وإلا فلا معنى لحجية الخبر الظاهر
في الوجوب أو الحرمة أو الكراهة في الاستحباب، كيف وقد يقطع بعدم
الاستحباب لدوران الامر بين أحد الأحكام المذكورة والإباحة.
ومنه يظهر أنه لا مجال للايراد عليهم: بأن ضعف الخبر الدال على
الوجوب لا يكون قرينة عرفا على حمله على الاستحباب.
هذا كله بناء على دلالة نصوص المقام على حجية الخبر المتضمن
للثواب.
أما بناء على دلالتها علي استحباب متابعته - كما هو مفاد الوجه الثاني
والثالث - فالمتعين البناء في الجميع على الاستحباب الثانوي بسبب البلوغ،
وليس هو من باب مخالفة الحكم الظاهري للواقعي - كما يظهر من الآشتياني في
154

حاشية الرسائل - بل من باب ارتفاع الحكم الواقعي الأولي بالحكم الواقعي
الثانوي، كما لعله ظاهر.
ثالثها: أن موضوع النصوص لما كان هو بلوغ الثواب وسماعه كان
مختصا بالخبر المبني على الحكاية دون سائر الطرق الكاشفة، كالأولوية،
وتنقيح المناط، ونحوهما. كما أن الظاهر عمومها للخبر الحسي والحدسي -
كفتوى المفتي - ولا يختص بالأول، لاطلاق بعض النصوص المتقدمة.
ولا مجال لدعوى انصرافها للخبر الحسي قياسا على أدلة حجية الخبر،
للفرق بينها: بأن أدلة الحجية لما كانت ظاهرة في إمضاء سيرة العقلاء المختصة
بالخبر الحسي كانت تابعة لها، بخلاف نصوص المقام، لأنها إن حملت على
الانقياد فهو يناسب العموم، وإن حملت على حجية الخبر للثواب أو استحباب
العمل على مقتضاه كانت أدلة تعبدية لا تصلح السيرة لتقييدها.
نعم، ما تضمن من النصوص تقييد البلوغ بكونه عن النبي صلى الله عليه وآله قد يوهم
الاختصاص بالحسي، لاشعاره بالإشارة إلى الروايات المتعارفة، إلا أن مناسبة
العموم للارتكاز تقتضي إلغاء خصوصيتها عرفا.
على أنه يكفي إطلاق النصوص الاخر الخالية عن التقييد، التي لا مجال
لرفع اليد عنها بنصوص التقييد، لعدم التنافي بينها.
ولذا لا ريب - ظاهرا - في شمولها لفتوى الفقيه في حق من يجب عليه
تقليده، ولا فرق بينه وبين غيره من العوام والمجتهدين إلا بقصور دليل الحجية،
الذي لا يضر في شمول نصوص المقام، كما شملت الخبر الضعيف.
نعم، لو فرض الاطلاع على مستند الخبر الحدسي كانت النصوص
منصرفة عنه، لظهورها بقرينة التفريع في صلوح الخبر لاحداث الداعي من
حيث كونه مثيرا لاحتمال التكليف، والخبر الحدسي بعد الاطلاع على مستنده لا
أثر له في إثارة الاحتمال، ولا في إحداث الداعي على طبقه، بل الأثر لمستنده،
155

فإن صدق على مستنده البلوغ شملته نصوص المقام، وإلا خرج عنها.
ومنه يظهر قصورها عن الخبر الحسي المعلوم كذبه وإن فرض احتمال
تحقق الامر وترتب الثواب في مورده، كما لو فرض العلم بكذب الراوي في
النقل عن الإمام عليه السلام واحتمل ثبوت مضمون الرواية في الواقع، لان الخبر
المذكور لا أثر له في إثارة الاحتمال ولا في تحقق الداعي، بل المحدث للداعي
هو الاحتمال الذي لا يستند للخبر ولا يصدق معه البلوغ.
رابعها: أن بلوغ الثواب..
تارة: يكون مشفوعا باحتمال الحرمة أو الكراهة.
وأخرى: لا يكون مشفوعا بذلك.
أما الثاني فهو المتيقن من نصوص المقام، وأما الأول فهو محل كلام
بينهم.
والذي ينبغي أن يقال: انه مع تنجز احتمال الحرمة - بحجة أو غيرها - لا
مجال للبناء على شمول نصوص المقام، لقرب انصرافها عنه، لظهورها في كون
البلوغ صالحا للداعوية في نفسه مع قطع النظر عن مفاد هذه النصوص، كما هو
مقتضى التفريع الظاهر في علية البلوغ للعمل، فهي ظاهرة في إمضاء العامل، لا
في تشريعه ابتداء، ومن الظاهر أن البلوغ إنما يكون صالحا للداعوية في ظرف
عدم تنجز احتمال ما ينافيه بنحو يوجب كونه موردا للحظر.
بل بناء على ما ذكرنا من ظهور النصوص للارشاد لحسن الانقياد لا ينبغي
الاشكال في ذلك، لخروج المورد عنه.
أما قيام الحجة على الكراهة فلا يمنع من شمول الاخبار، لأنها لما لم
تكن حكما إلزاميا، فلا تكون مخالفتها في ظرف قيام الحجة عليها تمردا، لينافي
الانقياد الحاصل بموافقة احتمال الاستحباب ويمنع من تحقق الداعي به،
ليوجب انصراف النصوص عنه، كما في الحرمة.
156

ودعوى: أن قيام الحجة على الكراهة موجب للعلم بها تعبدا، فتنصرف
نصوص المقام عنه.
غير ظاهرة، إذ لا منشأ للانصراف مع صدق البلوغ المثير للاحتمال
والصالح للداعوية، وعليه يكون المقام من تزاحم الإطاعة الحقيقية لمؤدى
الحجة مع الاحتياط، بناء على أن مفاد نصوص المقام الارشاد، ومن تعارض
الحجتين الموجب لتساقطهما، بناء على أن مفادها حجية الخبر الدال على
الثواب.
وأما بناء على أن مفادها استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب فيكون
المقام من تزاحم الحكم الأولي - الذي هو مؤدى الحجة - مع الحكم الثانوي -
الذي هو مؤدى نصوص المقام - المقتضي لفعلية الثاني دون الأول.
نعم، لو فرض صدق البلوغ على الحجة القائمة على الكراهة كان من
تزاحم الحكمين الثانويين، فلو فرض عدم المرجح لأحدهما تعين الرجوع
للحكم الأولي الذي هو مؤدى الحجة، وهو الكراهة. فلاحظ.
وأما مع عدم تنجز احتمال الحرمة أو عدم قيام الحجة على الكراهة، فإن
كان احتمال الحرمة أو الكراهة مجردا عما يصدق معه بلوغ الثواب فالظاهر
شمول النصوص وترتب مضمونها أيضا، كما عن شيخنا الأعظم قدس سر في رسالته
في المقام، لاطلاق النصوص المذكورة حتى ما تضمن منها التقييد بطلب قول
النبي صلى الله عليه وآله وتحصيل الثواب، لان الاحتمال المذكور لا ينافي ذلك.
وحينئذ فإن قلنا بورود هذه النصوص للارشاد لحسن الانقياد كان المقام
من تزاحم الاحتياطين.
كما أنه لو قيل بدلالتها على حجية الخبر المتضمن للثواب يكون من
تزاحم الإطاعة الحقيقية لمؤدى الخبر مع الانقياد بالاحتياط في احتمال الحرمة
أو الكراهة، لان حجية الخبر في الرجحان وترتب الثواب لا يمنع من تحقق
157

الانقياد بلحاظ احتمال الحرمة. لحسن الاحتياط مع الاحتمال مطلقا حتى مع
قيام الحجة على عدم التكليف في مورده. بل ذكرنا أن حجية الخبر المتضمن
للثواب - لو قيل بها - تختص بحيثية الرجحان المستلزم للثواب، لا في تمام
مدلوله بنحو ينهض بنفي احتمال الحرمة والكراهة في المقام، فيكون المؤمن
من الحرمة هو الأصل، لا الخبر المتضمن للثواب وإن فرض كونه حجة بهذه
النصوص.
وأما بناء على دلالتها على استحباب الفعل الذي دل الخبر على ترتب
الثواب عليه فاللازم البناء على عدم الحرمة أو الكراهة ولو لأجل العنوان الثانوي
الطارئ، وهو بلوغ الثواب.
وإن كان احتمال الحرمة أو الكراهة مشفوعا بخبر يصدق معه بلوغ
الثواب - بناء على ما سبق من شمول نصوص المقام لما دل على الحرمة أو
الكراهة - كان المقام من تزاحم الاحتياطين، أو الاستحبابين الثانويين، أو
تعارض الحجتين على الكلام في مفاد نصوص المقام، كما لعله ظاهر.
خامسها: أن قصور سند الخبر لا يمنع من عموم النصوص له - كما
تقدم - بخلاف قصور دلالته، لعدم صدق البلوغ والسماع معه، وإن تحقق معه
الاحتمال الصالح لاحداث الداعي العمل.
أما لو انعقد ظهور الخبر في ترتب الثواب، إلا أنه عورض بما هو أقوى
دلالة، بحيث يكون قرينة عرفية على صرفه عن ظاهره - كما في العام والخاص،
والحاكم والمحكوم - فالظاهر أنه لا يوجب قصور النصوص عنه، لصدق البلوغ
معه، وليس قصوره عن الحجية في غير المقام إلا كقصور السند لا يوجب
الخروج عن موضوع النصوص، إلا أن يفرض كونه موجبا للعلم بذلك أو
الاطمئنان بكذب الظاهر بنحو لا يصلح لاحداث الداعي نظير ما تقدم في الامر
الثالث.
158

نعم، بناء على أن مفاد نصوص المقام حجية الخبر المتضمن للثواب
يكون المقام من تعارض الحجتين. وكذا الحال لو فرض التعارض بين المثبت
للثواب والنافي له من دون ترجيح يقتضي الجمع العرفي. فلاحظ.
سادسها: أنه ربما نسب للمشهور اختصاص نصوص المقام بالاخبار
عن الحكم الشرعي الكلي، دون الموضوع الخارجي، مثل ما ورد عنهم عليهم السلام من
تعيين بعض المساجد والمراقد ونحوها مما يترتب عليها أحكام شرعية جزئية
تستلزم الثواب.
وهو الذي أصر عليه بعض مشايخنا، بدعوى انصراف النصوص إلى ما
يكون بيانه من وظيفة الشارع، وهو الكبريات الشرعية.
وفيه: أنه لم يتضح المنشأ في الانصراف المدعى، لان وظيفة النبي صلى الله عليه وآله
والأئمة عليهم السلام لا تختص ببيان الاحكام الكلية، بل تعم بيان موضوعاتها الخفية،
وإن لم يكونوا ببيانها مشرعين، وأخذ خصوصية التشريع في نصوص المقام لا
شاهد له.
نعم، مقتضى ذلك شمول النصوص للاخبار بالموضوعات وإن لم يستند
للنبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام كأخبار المؤرخين ونحوهم.
اللهم إلا أن يقال أكثر نصوص المقام مختص بالاخبار عن النبي صلى الله عليه وآله
للتقييد فيها بذلك، والمطلق منها وإن كان بعضه معتبرا سندا كصحيح هشام بن
سالم عن أبي عبد الله عليه السلام: (قال: من سمع شيئا من الثواب على شئ فصنعه كان
له وإن لم يكن على ما بلغه) (1)، إلا أن من القريب حمله على النصوص المقيدة
وإن لم يكن بينها تناف، لارتكاز أن منشأ الحكم في نصوص المقام هو الاهتمام
بسنة النبي صلى الله عليه وآله والاحتياط فيها بمتابعة الاحتمال، فلا يشمل الاخبار عن غيره.
لكنه لا يخلو عن إشكال، لقرب أن يكون منشأ الحكم المذكور هو

(1) الوسائل ج 1، باب: 8 من أبواب مقدمة العبادات، حديت 6.
159

الاهتمام بالواقع، والحث على الانقياد فيه، فيعم الاخبار الذي لا ينتهي إليه صلى الله عليه وآله،
عملا بإطلاق النصوص المذكورة.
سابعها: قال الآشتياني قدس سره في حاشيته على الرسائل: (ذكر غير واحد أنه
كما يتسامح في السنن يتسامح في القصص والمواعظ والفضائل. بل استظهر
مما عرفت عن الشهيد قدس سره في الذكرى أن اخبار الفضائل يتسامح فيها عند أهل
العلم، كونه مسلما عن القائلين بالتسامح، وعن ثاني الشهيد ين في الدراية
التصريح به، حيث قال: جواز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في القصص
والمواعظ وفضائل الأعمال، لا في صفات الله تعالى وأحكام الحلال والحرام.
وهو حسن حيث لم يبلغ الضعف حد الوضع والاختلاق).
أقول: لا يبعد أن يكون المراد بالتسامح فيها هو التسامح في نقلها من
دون نسبتها إلى الرواية، فلا يتقيد بثبوتها بطرق معتبرة، كما عليه ديدن الوعاظ
وخطباء المنبر الحسيني في عصورنا هذه.
ولكن الوجه فيه غير ظاهر مع ما هو المفروغ عنه ظاهرا من حرمة الاخبار
من دون علم.
وأما الاستدلال عليه بنصوص المقام - كما يظهر من الآشتياني - بتقريب:
أن الاخبار بها إخبار عن ترتب الثواب على نقلها، بضميمة استحباب نقل ما هو
الحق منها، لما فيه من حفظ الحق وإشاعته وترويجه وتأييده.
ففيه: - مع ابتنائه على شمول النصوص للاخبار عن الموضوعات
الخارجية التي يترتب الثواب عليها. واختصاصه بما يستحب حفظه وإشاعته
وتدوينه لو كان حقا، كفضائل أهل البيت عليهم السلام ومصائبهم ومخازي أعدائهم
ونحوها، دون مطلق القصص والفضائل - أن نصوص المقام - كما تقدم في الامر
الرابع - لا تشمل مورد تنجز احتمال الحرمة، كما في المقام، لما عرفت من عموم
حرمة الاخبار من دون علم.
160

ومثله في الضعف ما عن النراقي قدس سره من الاستدلال بما دل على رجحان
الا بكاء على أهل البيت عليهم السلام وترتب الثواب عليه.
لاندفاعه: بأنه مختص بما إذا كان السبب مباحا في نفسه، وإلا لم يصلح
الرجحان لمزاحمة حرمة السبب.
والذي ينبغي أن يقال: ذكر الأمور المذكورة ونحوها إن كان مبنيا على
الاخبار بها والتعهد بوقوع مضمونها على كل حال فالظاهر أنه لا مجال له حتى مع
قيام الطريق المعتبر عليها، لعدم وضوح جواز الاعتماد على الحجة في الحكاية
عن الواقع، ودليل الحجية منصرف إلى مقام العمل بمؤداها، لا الاخبار به ونحوه
مما هو من شؤون العلم به.
وإن كان مبنيا على الاخبار بها من حيث قيام الطريق عليها، بأن يكون
راجعا لبا إلى بيان مؤدى الطريق وإن لم يصرح به، لانصراف مقام الاخبار إليه
وقصده ضمنا، فهو تابع لعموم الطريق المفروض وخصوصه، فإن اختص
بالطريق المعتبر لم يجز التعدي عنه، كما هو الحال في اخبار المفتي بالأحكام الشرعية
، وإن عم مطلق النقل لم وإن لم يكن معتبرا جاز الاخبار اعتمادا عليه، ولا
يلزم الكذب المحرم، كما لعله الظاهر من حال الخطباء والوعاظ والقصاصين.
هذا، ولو كان المراد بالتسامح في الأمور المذكورة نقلها مع التصريح
بنسبتها إلى الرواية التي اطلع عليها الناقل فلا ينبغي الاشكال في جوازه حتى مع
العلم بالاختلاق، وحتى في صفات الله تعالى، وأحكام الحلال والحرام، ولا
وجه لاستثنائهما في كلام الشهيد الثاني المتقدم.
كما أنه لو أريد بالتسامح فيها ترتيب الآثار الاعتقادية عليها، كاعتقاد
تقديم من وردت الرواية بثبوت بعض الفضائل له، كما قد يظهر من بعض
العامة، فهو غير جائز حتى مع قيام الطريق المعتبر، لما أشرنا إليه آنفا من
انصراف دليل الحجية إلى مقام العمل بالحجة، دون مثل الاخبار والاعتقاد،
161

ولعله إليه يرجع ما اشتهر بينهم من عدم جواز الاعتماد على الظن في أصول
الدين.
ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في النصوص المتقدمة التي استدل بها
لقاعدة التسامح في أدلة السنن. وإن بقيت بعض الأمور غير المهمة لا مجال
لإطالة الكلام فيها، ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق، وهو أرحم
الراحمين.
الامر الرابع: لما كان الاحتياط هو متابعة التكليف المحتمل فلابد فيه من
تحصيل تمام ما يعتبر في الفعل المحتمل ورود التكليف عليه. وهو واضح في
الأمور التوصلية.
وأما في العبادات فقد يستشكل فيه بتوقفها على قصد امتثال الامر
المتوقف على إحراز الامر، فمع فرض عدم إحرازه يتعذر الاحتياط، لتعذر
الفعل الذي يحتمل التكليف به بتعذر شرطه.
بل لو فرض إحراز الامر وتردده بين الوجوب والندب فقد يشكل
الاحتياط بتعذر نية الوجه التي قيل باعتبارها في العبادات.
وإن كان الظاهر اندفاعه بعدم الدليل على اعتبارها، بل قيام الدليل على
عدمه، كما تقدم في الفصل الخامس من مباحث القطع. بل لعله مورد اتفاق
بينهم في فرض تعذر قصد الوجه لتعذر الاطلاع على حال الامر.
فالعمدة الاشكال من الجهة الأولى.
وقد يدفع: بأنه يمكن قصد الامر الوارد عليها من قبل أوامر الشارع
بالاحتياط، ويتحقق بذلك الشرط المقوم لعبادية العبادة.
لكن قد يستشكل فيه بوجهين..
الأول: أن أوامر الشارع بالاحتياط ليست عبادية، بل توصلية - وإن كان
الامر المحتاط فيه قد يكون عباديا - فلا تجعل متعلقها عباديا، بل لابد في عباديته
162

من قصد أمر آخر وارد عليه.
ودعوى: أن الامر بالاحتياط في العبادات تعبدي وفي غيرها توصلي،
كالأمر بالوفاء بالنذر.
مدفوعة: بأنه لا وجه للتفكيك المذكور مع وحدة الدليل لا في الاحتياط،
ولا في الوفاء بالنذر ونحوه، بل الظاهر أن الأوامر المذكورة توصلية لا غير،
واعتبار التقرب فيما لو كان المنذور عبادة ليس من جهة أمر النذر، بل من جهة
الامر الأولي وإن تأكد بالامر النذري، ولذا يكون التقرب بقصده. ولو فرض قصد
الامر النذري أيضا كان من باب داعي الداعي.
وفيه: أن أوامر الاحتياط وإن كانت توصلية، إلا أنها قابلة لان يتقرب بها
وتصير منشأ للعبادية، لوضوح أن الامر التوصلي ليس إلا ما لا يعتبر في امتثاله
قصد التقرب به، لا أنه غير قابل لان يتقرب به، بل ترتب الثواب على امتثاله
موقوف على قصد التقرب به، فلا مانع من صيرورته منشأ لعبادية الفعل التي
فرض أن تحقق المأمور به المحتمل وتحصيل ملاكه موقوف عليها، ولزوم
التقرب بالامر المذكور ليس لخصوصية فيه، لينافي فرض كونه توصليا، بل
لخصوصية في متعلقه في المقام، فالتقرب به لتحصيل المتعلق الذي لابد منه في
الامر التوصلي.
الثاني: أن ما يحتمل الامر به لما كان هو العبادة، فلابد في صدق الاحتياط
عليه ودخوله في أوامره من فرض تحقق التقرب فيه في مرتبة سابقة، إذ ما لم
يكن كذلك لا يكون احتياطا، كي تشمله أدلته، فلا تكون أوامر الاحتياط هي
الموجبة لعباديته وصدق الاحتياط عليه.
وما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره من أن أوامر الاحتياط تتعلق بذات الفعل
العبادي دون نية القربة، فإذا تعلقت به كان للمكلف قصد امتثالها به، وتكون
عبادية الفعل مسببة عنها.
163

لا مجال له بعد وضوح أن الاحتياط لا يكون إلا بتحقيق المأمور به
الواقعي وسقوط أمره بتحصيل تمام ما هو الدخيل في غرضه، فإذا فرض أن
متعلق الامر المحتمل وموضوع الغرض هو العبادة المعتبر فيها التقرب، فلا
مجال لصدق الاحتياط على الذات المجردة عن القيد المذكور.
وفيه: أن عنوان الاحتياط المأمور به وإن كان لا ينطبق في المقام على
الفعل بذاته، بل على خصوص المقيد بقصد التقرب منه، إلا أنه لا مانع من كون
تحقق القيد المذكور خارجا مبنيا على ورود الامر بالاحتياط على الفعل وناشئا
منه، لان ما هو السابق رتبة على الامر ليس إلا أخذ قيود المأمور به فيه، لا تحقق
القيود خارجا، بل تحققها تابع للامتثال الخارجي المتأخر عن الامر والمتفرع
عليه.
وبعبارة أخرى: ما ينشأ من الامر بالاحتياط ليس هو تقيد المأمور به
بالعبادية، بل تحقق القيد المذكور خارجا بعد أن كان متعذرا، لعدم إحراز الامر،
فغاية ما يلزم هو توقف القدرة على الاحتياط في المقام على الامر به، ولا
محذور فيه.
فالعمدة في الاشكال في الوجه المذكور أمران..
الأول: أن أوامر الشارع بالاحتياط - كما تقدم في الامر الثاني - ليست
مولوية، لتكون صالحة للمقربية، بل إرشادية بلحاظ حسن الاحتياط عقلا، فلا
تصلح للمقربية.
ودعوى: أن أوامر الاحتياط لما كانت شاملة للعبادات غير مختصة
بالتوصليات، وكان الاحتياط في العبادات موقوفا على إحراز الامر، كانت كاشفة
عن تعلق الامر العبادي بها، ليكون الاحتياط فيها ممكنا.
مدفوعة: بأن عمومات الاحتياط إنما تقتضي الامر به في ظرف القدرة
عليه، ولا تنهض ببيان القدرة عليه، لتكون كاشفة عن الامر بالوجه المذكور، فلا
164

مانع من الالتزام بتعذر الاحتياط في العبادات المانع من فعلية الامر به فيها، وإن
كان شاملا لها ذاتا، كما هو الحال في سائر موارد تعذر المكلف به.
نعم، لو فرض العلم بمشروعية الاحتياط في العبادات تعين البناء على
القدرة عليه فيها، إما باستكشاف الامر بالوجه المذكور، أو بوجه آخر، كما
سيأتي.
الثاني: أن الفراغ عن الامر العبادي إنما يكون بقصده أو بقصد ملاك
المحبوبية المستكشف به، ولا يكون بقصد امتثال أمر آخر، فلا يفرغ المكلف
عن أمر الزكاة إذا دفعها بداعي امتثال أمر إعانة المؤمن، لا بداعي امتثال أمرها، إلا
أن يقصد إعانة المؤمن بنحو داعي الداعي، كما تقدم في النذر.
فلو سلم أن الامر بالاحتياط مولوي أو كاشف عن أمر مولوي، إلا أن
قصده لا يكفي في امتثال أمر العبادة الواقعي، ولا يكون امتثاله إلا بقصده،
والمفروض أنه لا مجال لقصده مع عدم إحرازه.
نعم، لو فرض تقييد العبادة المأمور بها بالامر الواقعي المحتمل بقصد
الامر بنحو الطبيعة الصادقة على كل أمر فرض اتجه كون شمول الامر بالاحتياط
أو غيره لها موجبا للقدرة عليه، وكفى قصده، فلاحظ.
ومما ذكرنا يظهر الحال فيما لو صدق بلوغ الثواب في بعض العبادات،
لورود خبر غير معتبر باستحبابها، فإنه لا مجال لتصحيح الاحتياط فيها لأجل
النصوص المتقدمة، بناء على ما تقدم من سوقها مساق أوامر الاحتياط للارشاد
إلى حسن الانقياد.
وكذا بناء على تضمنها استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب، لمباينة
الامر المذكور للامر الواقعي العبادي الذي لابد من قصد امتثاله في صحة الفعل
العبادي الذي يراد الاحتياط فيه، فلا يكفي قصد الامر الذي تضمنته النصوص
المذكورة، ولا يكون فعلا للامر الذي بلغ عليه الثواب.
165

نعم، بناء على تضمنها حجية الخبر المذكور أمكن قصد امتثال الامر
الواقعي الذي تضمنه للجزم به حينئذ من جهة الخبر، وخرج عن باب الاحتياط
الذي نحن بصدده.
فالأولى في دفع شبهة تعذر الاحتياط في العبادات البناء على الاكتفاء في
امتثال الامر العبادي بالاندفاع عن الامر المحتمل، ولا يتوقف امتثاله على قصده
بنحو يستلزم العلم به، كما تقدم توضيحه في الفصل الخامس من مباحث القطع،
فقد ذكرنا هناك الاجتزاء بالوجه المذكور مع إمكان العلم بالحال فضلا عما لو
كان متعذرا، فراجع.
الامر الخامس: إذا تعددت جهات الاحتياط، فإن اختار المكلف
المحافظة على تمامها فهو، وإلا فالظاهر الترجيح بين الاحتياطين ارتكازا
بأحد أمرين:
الأول: أهمية التكليف المحتمل، فكلما كان التكليف أهم كان الاحتياط
فيه أولى.
الثاني: قوة احتمال التكليف، فكلما كان احتمال التكليف أقوى كان أولى
بالمراعاة.
ومنه يظهر الحال لو لزم من الاحتياط التام محذور مانع منه، كاختلال
النظام، فإن المتعين حينئذ الاكتفاء بالتبعيض، والأولى ملاحظة المرجحين
المذكور ين.
وأما اختيار المكلف للاحتياط التام حتى إذا لزم المحذور ترك الاحتياط
بالمرة، فإن لزم منه مخالفة المرجحين المذكورين كان مرجوحا، وإن لم يلزم
منه مخالفتهما - بأن فرض تساوي جهات الاحتياط من حيث الأهمية، وقوة
الاحتمال - فلا موجب لمرجوحيته.
وأما ما يظهر من بعض مشايخنا من أن الأولى اختيار التبعيض من أول
166

الامر والاستمرار عليه حينئذ، لما ورد عنهم عليهم السلام أن القليل المدوم عليه خير
من الكثير الذي لا يدوم (1).
ففيه: - مع أنه يبتني على كون الاحتياط مستحبا مولويا - أنه لا يبعد ظهور
النصوص المذكورة في أولوية القليل من الكثير الذي يقطع ضجرا ويهمل
مللا، لا لأجل تعذره أو لزوم المحذور منه.
بل لعل استحباب التعجيل بالخير يقتضي أولوية الكثير حينئذ. فتأمل
جيدا.
التنبيه الخامس: في حكم الشك في القدرة
تقدم أن الرجوع للبراءة كما يتجه في الشبهات الحكمية يتجه في
الشبهات الموضوعية.
ويخرج عن ذلك ما لو كان الشك في التكليف للشك في قيده العقلي،
وهو القدرة، فيجب الاحتياط حتى يعلم بالتعذر المسقط للتكليف، والظاهر
عدم الاشكال فيه بينهم.
وربما يستدل عليه: - كما في بعض كلمات سيدنا الأعظم قدس سره (2) - بعموم
دليل التكليف، بناء على أن العام حجة في الشبهة المصداقية من طرف الخاص
إذا كان التخصيص لبيا، كالتخصيص مع التعذر في المقام.
وفيه: - مع عدم تمامية المبنى المذكور، واختصاصه بما إذا كان الخاص
خفيا محتاجا للبحث، لا في مثل المقام مما كان التخصيص من الوضوح بحد
يكون من سنخ القرائن المتصلة المانعة من ظهور العام في العموم، فتكون

(1) الوسائل ج 1، باب: 21 من أبواب مقدمة العبادات، وحديث 10 باب 29 من أبواب المذكورة.
(2) راجع مستمسك العروة الوثقى في شرح المسألة السابعة والعشرين من فصل مسوغات التيمم.
167

الشبهة فيه من طرف العام التي لا يكون العام فيها حجة بلا كلام - أن التخصيص
بالقدرة وإن كان عقليا، إلا أنه قد تظافرت به الأدلة اللفظية، كحديث الرفع
المتضمن لرفع ما اضطروا إليه وما لا يطيقون وغيره. فتأمل.
فلا يبعد أن يكون الوجه فيه بناء العقلاء على لزوم الاحتياط فيه، نظير
بنائهم على لزومه مع الشك في الفراغ، لأنه بعد فرض ثبوت الملاك فليس
التعذر إلا من سنخ الاعذار والموانع التي لا يصح الاتكال عليها إلا بعد إحرازها،
ولا يكتفى باحتمالها عندهم في قبح العقاب ورفع مسؤولية الخطاب.
ومنه يظهر الوجه في قصور عمومات البراءة الشرعية، لارتكاز ورودها
جريا على ما عند العقلاء من قبح العقاب بلا بيان وتأكيدا لذلك، فتنصرف عن
المورد المذكور الذي ليس بناؤهم على السعة فيه.
هذا، ولا يبعد جريان ذلك مع الشك في الاعذار الشرعية، كالحرج
والضرر ونحوهما مما يظهر من أدلة عدم ارتفاع الملاك الأولي معه، وأن ارتفاع
التكليف معه تخفيف من الشارع الأقدس، توسيعا للقدرة المعتبرة، فيكون عذرا
شرعيا كالتعذر الذي هو عذر عقلي، فلا يسوغ الاكتفاء باحتماله بحسب
مرتكزات المتشرعة. فلاحظ.
ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في الشك في أصل التكليف. وهناك
بعض الجهات التي قد يتضح حالها مما يأتي في بعض الفصول الآتية إن شاء الله
تعالى. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
168

الفصل الثاني
في الشك في تعيين التكليف
مع وحدة المتعلق
وهو مختص بالدوران بين وجوب شئ وحرمته الذي اشتهر في كلماتهم
بالدوران بين المحذورين.
ويقع الكلام فيه في مقامين..
المقام الأول: في مقتضى الأصل العقلي الأولي مع قطع النظر عن الجعل
الشرعي.
والظاهر حكم العقل في المقام بالسعة وعدم الحرج في كل من الفعل
والترك، الراجع إلى عدم منجزية احتمال كل منهما وإن علم إجمالا بثبوت
أحدهما، لعدم الأثر للعلم المذكور بعد فرض تعذر موافقته ومخالفته القطعيتين،
ولزوم مخالفته وموافقته الاحتماليتين، فلا يصلح للمنجزية.
والظاهر أنه إليه يرجع ما قيل من جريان البراءة العقلية من كل من
الحكمين، بمعنى قبح العقاب على كل من الامرين، لأنه من غير بيان، بعد فرض
المانع من منجزية العلم الاجمالي.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من منع جريان البراءة العقلية، لان مدركها
قبح العقاب بلا بيان الذي لا مجال له في المقام، للقطع بعدم العقاب بعد فرض
امتناع منجزية العلم الاجمالي، فلا يحتاج إلى حكم العقل بالقبح المذكور.
فهو مندفع: بأن عدم منجزية العلم الاجمالي إنما يقتضي القطع بعدم
169

العقاب من جهته، أما عدم العقاب بلحاظ كل من الاحتمالين في نفسه، فهو
كعدم العقاب في مورد الشك في التكليف لا مجال للقطع به لولا قاعدة قبح
العقاب بلا بيان.
ومثله ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن امتناع خلو المكلف
عن الفعل والترك واضطراره لأحدهما موجب لحصول الترخيص في رتبة
سابقة على الترخيص الظاهري الناشئ من عدم البيان الذي هو مفاد البراءة
العقلية.
لاندفاعه: بأن الاضطرار المذكور إنما يمنع من منجزية العلم الاجمالي
المقتضي للاحتياط في الاحتمالين معا، ولا يلزم بالترخيص في كل من الامرين،
بل لا منشأ للترخيص في كل منهما إلا عدم البيان المفروض، لعدم صلوح كل
من الاحتمالين له.
ودعوى: أن كلا من الاحتمالين وإن كان من صغريات عدم البيان الذي
هو موضوع البراءة العقلية، إلا أن عدم منجزيته في المقام ليس بالملاك المذكور،
بل لتعارضهما الموجب لاستحالة منجزيتهما معا تعيينا لتعذر الاحتياط فيهما
معا، ولا تخييرا للزوم اللغوية لامتناع خلو المكلف عن أحدهما، كما سيأتي، كما
لا يمكن منجزية أحدهما بخصوصه، لعدم المرجح.
مدفوعة: بأن استلزام التعارض للمحذور المذكور موقوف على كون كل
منهما مما يقتضي في نفسه التنجيز والاحتياط وإذا كان كل من الاحتمالين في
نفسه من صغريات عدم البيان لم يكن صالحا لذلك بمقتضى البراءة العقلية مع
قطع النظر عن التعارض وفي رتبة سابقة عليه، فالوجه المذكور لا ينافي جريان
البراءة العقلية بالإضافة إلى كل من الاحتمالين، وإنما ينهض ببيان عدم منجزية
العلم الاجمالي في المقام. فلاحظ.
اللهم إلا أن يكون مراده قدس سره الإشارة إلى ما يأتي في مسألة الاضطرار إلى
170

بعض غير معين من أطراف العلم الاجمالي من احتمال كونه موجبا لسقوط
التكليف المعلوم بالاجمال ثبوتا، لا لسقوط العلم الاجمالي عن تنجيزه مع
فعليته واقعا، إذ بناء على ذلك لا مجال للرجوع للبراءة بملاك عدم البيان، لأنه
فرع احتمال التكليف الفعلي، كما لا يخفى.
لكن الظاهر عدم تمامية ذلك، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى، فلا
رافع لموضوع البراءة، على أن حمل كلامه على ذلك بعيد، لظهوره في إرادة
الترخيص العقلي بملاك الاضطرار، لا الترخيص الشرعي الراجع إلى عدم فعلية
التكليف. فراجع وتأمل.
وأما ما يقال من أن المرجع في المقام هو التخيير، فإن أريد به إلزام العقل
بأحدهما تخييرا، نظير إلزام الشارع بأحد طرفي الواجب التخييري، والتخيير بين
المتزاحمين، فضعفه ظاهر، لعدم الأثر للالزام المذكور بعد. فرض امتناع خلو
المكلف عن أحد طرفي التخيير، كما لا يخفى.
ومن ثم لا مجال للتخيير في مثل ذلك حتى مع فرض تزاحم التكليفين -
الذي لا ريب أن مقتضى الأصل فيه التخيير - كما لو فرض انطباق عنوان واجب
وآخر محرم على كل من الفعل والترك.
وإن أريد به مجرد عدم الحرج في كل من الفعل والترك المستلزم لاختيار
المكلف لأحدهما بعد فرض، امتناع خلوه منهما لعدم الداعي العقلي لاحد
الطرفين، نظير تخييره مع الإباحة الواقعية، فهو راجع إلى ما ذكرناه وعرفت وجهه. ولا يبعد كون ذلك هو مراد القائلين بالتخيير.
هذا، وربما يدعى أن مقتضى الأصل العقلي الأولي، هو مراعاة احتمال
الحرمة دون الوجوب، لان دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، لما قيل من
أن الوجوب ناشئ عن المصلحة، والحرمة ناشئة عن المفسدة.
وفيه.. أولا: أن الوجوب لما كان ناشئا عن المصلحة الملزمة كان فوتها
171

ملازما للمفسدة أو من سنخها، قال شيخنا الأعظم قدس سره: (إذ مجرد فوات المنفعة
عن الشخص وكون حاله بعد الفوت كحاله في ما قبل الفوت عليه لا يصلح وجها لالزام شئ على المكلف ما لم يبلغ حدا يكون في فواته مفسدة...).
وعليه لابد من توجيه ما اشتهر من تبعية الأوامر للمصالح والنواهي
للمفاسد بعد اشتراكها في الحفاظ على المقدار اللازم، بأن الواجب ما يكون له
دخل في تحقق المرتبة اللازمة من الكمال، أو في حفظها، والحرام ما يكون له
دخل في منع تحقق المرتبة المذكورة، أو رفعها، فمثلا لو فرض أن مرتبة من
نشاط المزاج لازمة الحفظ، فالواجب ما كان محققا لها من دواء أو مبقيا لها من
غذاء، والحرام ما كان مانعا منها أو رافعا لها. وما لا دخل له في المرتبة المذكورة،
بل هو دخيل بأحد النحوين في المرتبة الزائدة عليها يكون مستحبا أو مكروها.
ولا يبعد أن يكون ذلك هو المراد بالمصلحة في القاعدة المشار إليها،
حيث لا ريب في عدم نهوضه مهما كان مهما بمزاحمة المرتبة اللازمة المذكورة.
وعليه ترجع القاعدة إلى ترجيح التكاليف الالزامية على غيرها، لا ترجيح
التحريم على الوجوب.
وثانيا: أن القاعدة المذكورة لو تمت فهي من القواعد الواقعية الراجعة إلى
ترجيح دفع المفسدة على تحصيل المصلحة في فرض التزاحم بينهما، وليست
من القواعد الظاهرية الراجعة إلى تقديم احتمال المفسدة على احتمال
المصلحة عند الدوران بينهما، لتنفع في ما نحن فيه، لما هو المرتكز من أن منشأ
الأولوية أهمية المفسدة من المصلحة، ومن الظاهر أن أهمية أحد التكليفين إنما
تقتضي ترجيح الأهم عند التزاحم، لا تقديم احتماله على احتمال المهم في
ظرف الدوران بينهما.
بل لما كان في احتماله زيادة كلفة لم يبعد جريان الأصل لنفيها، كما هو
المناسب لجريان الأصل في نفيه من رأس لو لم يعارض باحتمال تكليف آخر،
172

كما في دوران الامر بين الحرمة وغير الوجوب، كما نبه له بعض مشايخنا.
نعم، لو كان ملاك الترجيح راجعا للمكلف من حيث أن دفعه للضرر عن
نفسه أولى من جلب النفع له فهو ينفع في المقام، لوضوح أن أهمية دفع الضرر
من جلب النفع كما تقتضي ترجيح الأول عند التزاحم تقتضي الاحتياط فيه عند
الدوران بينه وبين النفع، بملاك لزوم دفع الضرر المحتمل.
لكنه موقوف على كون احتمال الحرمة مستلزما لاحتمال الضرر بنحو
يقتضي تنجيزه، وهو لو تم يقتضي الاحتياط في الشبهة البدوية، ولا مجال له،
كما يتضح بمراجعة ما تقدم منا في الفصل السادس من مباحث التعبد بغير
العلم.
المقام الثاني: في مقتضى الأصل الثانوي الشرعي
ربما يدعى أن مقتضى الأصل الشرعي الإباحة، لعموم أدلتها.
والذي ينبغي أن يقال: إن كان المراد بالإباحة ما هو أحد الأحكام الخمسة
، أو ما يعم الأحكام الثلاثة غير التكليفية كما يظهر من المحقق
الخراساني، فلا مجال للبناء عليه، لامتناع التعبد ظاهرا بما يعلم بعدم ثبوته
واقعا، بل لابد من احتمال مطابقة الحكم الظاهري للواقعي.
مع أنه لا دليل على الأصل المذكور في غير المقام من موارد الشك في
أصل التكليف، لان حديث الرفع والسعة والاطلاق ونحوها ظاهرة في رفع
الحرج وجعل السعة من حيث احتمال التكليف، من دون أن تقتضي التعبد
بالحل بأحد المعنيين المذكورين.
وأما مثل قوله عليه السلام: (كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه)
فهو وإن كان ظاهرا في التعبد بالحل، إلا أنه - مع اختصاصه بالشبهة الموضوعية،
كما تقدم - ظاهر في إرادة الحل بالمعنى المقابل للحرمة المتقوم بالترخيص
والاذن، فيعم الوجوب ولا يضاده، كما يناسبه المقابلة بين الحل والحرمة
173

وظهور كون القضية ارتكازية، لبيان عدم صلوح احتمال الحرمة للتنجيز، والبناء
على المعنى المذكور في المقام لا بأس به، كما يصح البناء عليه أيضا في الترك
الملازم لعدم الوجوب، فيبنى على جواز كل من الفعل والترك، وهو يطابق
الإباحة بالمعنى الثاني عملا.
هذا، وأما الاشكال في الإباحة ظاهرا من جهة المخالفة الالتزامية. فلا يهم
في المقام، لان الالتزام بالأحكام، إنما يجب تبعا لوجوب الالتزام بالشريعة
والانقياد لها، وهو إنما يقتضي الالتزام بها على حسب وصولها، فإذا فرض
وصولها إجمالا كفى الالتزام بها كذلك، وهو لا ينافي التعبد بالإباحة ظاهرا في
مقام العمل لو فرض إمكان جعلها.
نعم، لو أريد الالتزام بها على أنها الحكم الواقعي اتجه المنع عنه، كما
يتجه المنع عنه مع دوران الامر بين الحرمة وغير الوجوب، لان أصالة الحل وإن
كانت جارية حينئذ بلا كلام إلا أنها إنما تقتضي الالتزام بالحل على أنه الحكم
الظاهري العملي، لا الحكم الواقعي المجعول على الموضوع بعنوانه الأولي. بل
لا يجوز ذلك حتى في مؤديات الحجج، لأنه قول بغير علم وتشريع محرم، كما
أشرنا إليه عند الكلام في أصالة عدم الحجية.
وإن كان المراد بالإباحة مجرد البراءة الشرعية من التكليفين المعلومين
بالاجمال، الراجع إلى جعل السعة ورفع الحرج شرعا فهو في محله، لتحقق
موضوعها - وهو الشك - بالإضافة إلى كل منهما، والعلم الاجمالي بثبوت
أحدهما لا يكون مانعا من جريانها بعد عدم صلوحه للتنجيز.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره في منع جريان البراءة الشرعية من أن
إمكان رفع الحكم شرعا فرع إمكان وضعه، وحيث امتنع جعل الحكمين تعيينا
أو تخييرا - لما تقدم - امتنع رفعهما بمقتضى البراءة.
ففيه: أنه يكفي في تصحيح رفعهما معا إمكان وضع أحدهما، حيث لا
174

إشكال في سلطان الشارع عليه، ولا يعتبر إمكان وضعهما معا، لان نقيض السالبة
الكلية الموجبة الجزئية.
ومن هنا أمكن للشارع رفع الحكمين واقعا بجعل الإباحة الواقعية، مع
تعذر جعلهما معا واقعا تعيينا أو تخييرا.
مع أنه لو تم مختص بما إذا ادعي رفع كلا الحكمين بتطبيق واحد، أما لو
ادعي رفع كل منهما بتطبيق خاص، لتمامية موضوع البراءة وهو الشك من
حيثيته، فلا إشكال، لان ما يرفع بكل من التطبيقين حكم واحد قابل للوضع
بإيجاب الاحتياط فيه، كما لعله ظاهر.
ومثله في الاشكال ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من اختصاص
جريان البراءة بما إذا لم يكن هناك ما يقتضي الترخيص في الفعل والترك بمناط
آخر من اضطرار ونحوه غير مناط عدم البيان، لرجوعه إلى ما تقدم منه في منع
جريان البراءة العقلية، وتقدم دفعه.
هذا، وقد أشار شيخنا الأعظم قدس سره إلى القول بوجوب مراعاة احتمال
الحرمة شرعا، لبعض الوجوه الظاهرة الوهن كما يظهر بملاحظة كلامه قدس سره
نعم، قد يقال: الوجوه المذكورة ونحوها وإن لم تنهض بإثبات ترجيح
احتمال الحرمة شرعا، إلا أنها تكفي في احتمال ذلك، وهو مانع من الرجوع فيه
للبراءة. لكون المقام من موارد الدوران بين التعيين والتخيير.
وفيه: - بعد تسليم الرجوع لأصالة تعيين في الشك المذكور - أنه مختص
بما إذا كان هناك تكليف شرعي مردد بين الوجهين، ولا يجري في مثل المقام
مما كان التخيير فيه راجعا إلى مجرد رفع الحرج في كل من الطرفين من دون أن
يستتبع خطابا تخييريا بهما، لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في جعل الشارع
لوجوب الاحتياط بالإضافة إلى احتمال الحرمة، والمرجع فيه البراءة العقلية
وعموم أدلة البراءة الشرعية، ومن ثم كان الاحتياط الذي ادعاه الأخباريون
175

محتاجا إلى دليل.
هذا كله لو أريد احتمال ترجيحه شرعا، وأما لو أريد احتمال ترجيحه
عقلا، فهو مندفع باستحالة تردد الحاكم في حكمه. ومن ثم لم نتعرض لذلك في
المقام الأول.
ثم إنه قد يدعى لزوم ترجيح احتمال الحرمة لاحتمال أهمية الحرمة من
الوجوب ثبوتا بلحاظ ما سبق من أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة
ونحوه مما لو لم يوجب اليقين بأهمية الحرمة فلا أقل من كونه موجبا
لاحتمالها. وهو مبني على مرجحية احتمال أهمية أحد التكليفين في المقام،
ويأتي الكلام فيه في التنبيه الثاني إن شاء الله تعالى.
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن كلا من الاحتمالين في نفسه مورد
للبراءة العقلية والشرعية بعد عدم صلوح العلم الاجمالي للمنع عن الرجوع
إليهما.
هذا، وأما الرجوع لاستصحاب عدم كل من التكليفين بالتقريب الذي
تقدم في آخر أدلة البراءة فالكلام فيه مبني على جريان الاستصحاب في أطراف
العلم الاجمالي مع عدم لزوم المخالفة القطعية، الذي يأتي الكلام فيه في مبحث
الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
وينبغي التنبيه على أمور..
الأول: أن الكلام المتقدم مبني على جريان البراءة في كل من الاحتمالين
في نفسه، فلو فرض عدم جريانها في خصوص أحدهما، لوجود المنجز المانع
من جريانها فلا ريب في لزوم متابعة المنجز المذكور عملا بدليله. والرجوع في
الاحتمال الثاني للبراءة لعموم دليلها، سواء كان المنجز دليلا اجتهاديا أم أصلا
إحرازيا - كالاستصحاب - أو غيره، كالاحتياط الواجب عقلا بمقتضى العلم
الاجمالي أو غيره، أو شرعا في موارد انقلاب الأصل التي سبقت الإشارة إليها أو
176

غيرها.
ولعله لذا حكى شيخنا الأعظم قدس سره عن ظاهر كلام السيد الشارح للوافية
جريان أخبار الاحتياط في المقام، إذ لا يبعد ابتناؤه على ما عليه الأخباريون من
دلالتها على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية دون الوجوبية المقتضي
للاحتياط في احتمال الحرمة وترجيحه في المقام. أما لو كان المراد به الاحتياط
من جميع الجهات فلا مجال له مع فرض الدوران بين محذورين.
هذا، وقد استشكل شيخنا الأعظم قدس سره في الاستدلال لترجيح احتمال
الحرمة بأخبار التوقف عن الشبهة بأنها ظاهرة في ما لا يحتمل الضرر بتركه، فلا
يشمل ما لو احتمل الوجوب، كما في المقام.
وهو - لو تم - لا ينافي ما ذكرنا لرجوعه إلى قصور أدلة الاحتياط التي
استند إليها الأخباريون عن شمول المقام، والكلام إنما هو بعد فرض لزومه في
نفسه
على أنه غير تام، على مسلك الأخباريين، لان احتمال الوجوب مورد
لأدلة السعة المؤمنة اتفاقا، فلا يحتمل من جهته الضرر، لتنصرف عنه أخبار
الاحتياط المنجزة لاحتمال الحرمة عند الأخباريين.
إلا أن يدعى قصورها عن شمول صورة احتمال الوجوب مع احتمال
الحرمة، لا من جهة ملازمته للضرر.
لكنه غير ظاهر بعد فرض كونها واردة لتنجيز احتمال الحرمة لخصوصيته
تعبدا.
وأما على مسلكنا من ورود الأخبار المذكورة للارشاد إلى اجتناب
الشبهات المنجزة في أنفسها دفعا للضرر المحتمل فالأولى الجواب بقصورها
عن شمول المقام لعدم منجزية كل من الاحتمالين في نفسه.
نعم، لو فرض منجزيتهما كما في مورد التقصير في الفحص تم ما ذكره
177

شيخنا الأعظم قدس سره من عدم شمولها للمقام، للوجه الذي ذكره. فتأمل جيدا.
الثاني: لو فرض احتمال أهمية أحد التكليفين اللذين يتردد الامر بينهما
فظاهر المحقق الخراساني قدس سره لزوم ترجيحه، وربما يحمل كلامه على قياسه
بدوران الامر بين التعيين والتخيير في موارد التزاحم بين التكليفين.
وعن بعض الأعاظم في قدس سره عدم صحة القياس المذكور، وهو الذي صرح به
غير واحد من مشايخنا.
والوجه فيه: أن احتمال أهمية التكليف في باب التزاحم، مستلزم للعلم
بثبوته ملاكا والشك في سقوطه خطابا بالمزاحمة، والمرجع فيه الاحتياط، ولا
يرفع اليد عنه بالتكليف الاخر، للعلم بسقوطه خطابا بالمزاحمة بالمساوي أو
الا هم.
أما في المقام فالشك في أصل وجود الأهم ملاكا وخطابا، والمرجع فيه
البراء ه، كما يرجع إليها لو شك فيه بدوا من دون علم بثبوت أحد التكليفين.
ومما ذكرنا يظهر أنه لا ملزم بالترجيح مع العلم بأهمية أحد التكليفين
المحتملين في نفسه ثبوتا، إذ العلم بأهميته لا ينفع مع الشك في أصل وجوده،
كما أشرنا إليه عند الكلام في ترجيح احتمال الحرمة عقلا.
نعم، لو كانت الأهمية بنحو يعلم معه بجعل الاحتياط وانقلاب الأصل
اتجه الترجيح بها، لما تقدم في التنبيه الأول.
كما أنه لا مجال لتوهم ترجيح الأهم أو محتمل الأهمية، لأصالة التعيين
عند دوران الامر بينه وبين التخيير، لما تقدم عند الكلام في ترجيح احتمال
الحرمة شرعا من خروج المقام عن ذلك.
الثالث: هل يكون الظن في المقام مرجحا يلزم اتباعه، أولا بل يبقى
التخيير بحاله؟.
مقتضى ما ذكروه في دليل الانسداد هو ترجيح الظن لو تمت مقدماته في
178

المقام، وحيث كان من أهمها امتناع الاهمال بعد فرض تعذر معرفة الحكم
تفصيلا فاللازم النظر في منشأ امتناع الاهمال.
فإن كان هو العلم الاجمالي بثبوت التكاليف، لعدم سقوطه عن التنجيز
بتعذر الاحتياط التام كان لازمه عدم جواز الاهمال في المقام، والتنزل للظن بعد
تعذر العلم بالامتثال لأقربيته.
وإن كان هو العلم باهتمام الشارع بالأحكام لسقوط العلم الاجمالي عن
التنجيز بتعذر الاحتياط التام، لما في الاهمال حينئذ من الخروج عن الدين
بالنحو الذي يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به، فلا مجال له في المقام، لقلة
الاحكام المجهولة بالنحو المذكور، فلا يلزم من إهمالها محذور الخروج عن
الدين، ولا سيما مع تعذر المخالفة القطعية في المقام.
هذا، وحيث تقدم عدم نهوض مقدمات الانسداد بتعيين الظن إلا في
مورد تعلق غرض المكلف بحفظ التكليف الواقعي، لتنجزه على كل حال،
بحيث يكون فوته موجبا لاستحقاق العقاب ولو مع تعذر تحصيله، اختص
الرجوع إليه في المقام بذلك، كما لو كان اشتباه الحال بسبب تقصيره في
الفحص اللازم عليه. أما في غير ذلك فلا دليل على لزوم مراعاة الظن، بل
مقتضى ما عرفت من عموم أدلة البراءة العقلية والشرعية عدمه.
ثم إنه لو فرض لزوم مراعاة الظن بالتكليف فالمراد به الظن بتعيين
المعلوم بالاجمال بأحد الطرفين. لتكون متابعته امتثالا ظنيا للمعلوم بالاجمال،
لا الظن بثبوت التكليف في أحد الطرفين من غير جهة العلم الاجمالي، كما لو
تردد متعلق اليمين بين دخول المسجد وعدمه من دون ظن بأحد الامرين، وظن
بوجوب الدخول لإزالة النجاسة المظنونة الوجود فيه، فإن متابعة الظن في
المقام حيث لا تستلزم الظن بالخروج عن التكليف المنجز بالعلم الاجمالي لم
ينهض العلم الاجمالي بالالزام بها، وكان الظن المذكور كسائر موارد الظن
179

البدوي بالتكليف غير منجز لمورده.
الرابع: لو تعددت الوقائع مع الدوران في كل واقعة بين المحذورين فهل
يكون التخيير استمراريا وفي كل واقعة، بحيث يجوز المخالفة بين الوقائع في
العمل وإن استلزم المخالفة القطعية الاجمالية فيها، أو ابتدائيا وفي خصوص
الواقعة الأولى مع لزوم العمل في بقية الوقائع على طبقها حذرا من لزوم
المخالفة القطعية؟.
صرح شيخنا الأعظم قدس سره هنا بالأول، لعدم الدليل على حرمة المخالفة
القطعية في المقام، ووافقه على ذلك غير واحد من أعيان من تأخر عنه، على
اختلاف مسالكهم في الاستدلال عليه.
فقد ذكر بعض الأعاظم في وجه ذلك أن المخالفة القطعية ليست محرمة
شرعا، بل قبيحة عقلا، وحكم العقل بقبحها فرع تنجز التكليف، والمفروض أنه
لا منجز له في المقام، لعدم صلوح العلم الاجمالي في كل واقعة للمنجزية، لا
بلحاظ الموافقة القطعية، لتعذرها، ولا بلحاظ الموافقة الاحتمالية، للزومها، ولا
وجه لضم بعض الوقائع إلى بعض، كي يدعى تنجز العلم الاجمالي فيها بلحاظ
المخالفة القطعية في بعضها إجمالا.
وقد استشكل في ذلك بعض مشايخنا: بأن العلم الاجمالي في كل من
الواقعتين وإن لم يكن منجزا إلا أنه يتولد منهما علم إجمالي آخر لا مانع من
تنجيزه بنحو يمنع من المخالفة القطعية، مثلا لو دار الامر بين وجوب الدخول
للمسجد وحرمته في كل جمعة من الشهر فالعلم الاجمالي المذكور الحاصل في
كل جمعة يتولد منه علوم إجمالية اخر، حيث يعلم إجمالا مثلا بحرمة الدخول
في الجمعة الأولى أو وجوبه في الثانية، وبوجوبه في الأولى أو حرمته في الثانية.
والعلم المذكور وإن امتنعت موافقته القطعية، إلا أنه يمكن موافقته
الاحتمالية بالفعل في الجمعتين معا أو الترك فيهما معا، فلا وجه لسقوطه عن
180

التنجيز بالكلية بنحو تجوز مخالفته القطعية بالمخالفة بين الجمعتين في العمل.
لكن لا يخفى أن ما ذكره وإن رجع إلى القدرة على المخالفة القطعية لاحد
العلمين المتولدين، إلا أن من الظاهر أن المخالفة القطعية المذكورة مستلزمة
للموافقة القطعية للعلم الآخر منهما، ففي المقام علمان إجماليان يتمكن من
الموافقة القطعية والمخالفة القطعية لكل منهما، إلا أن موافقته أحدهما تستلزم
مخالفة الآخر، وحيث كان كل منهما مقتضيا للموافقة ومانعا من المخالفة، كانا
متزاحمين في تمام مقتضاهما وسقطا عن التأثير بالإضافة إلى كل من الامرين،
وليس الجمع بينهما بالتنزل للموافقة الاحتمالية في كل منهما بأولى من موافقة
أحدهما في تمام مقتضاه وإهمال الآخر في تمام مقتضاه.
وبعبارة أخرى: إن العلم الاجمالي بالوجوب أو الحرمة في كل واقعة
لا يصلح للتنجيز، لامتناع موافقته ومخالفته القطعيتين، وكذا العلم الاجمالي
المتولد منه، لأنه وإن أمكنت موافقته ومخالفته القطعيتان إلا أنه من
مزاحم بمثله.
والحاصل: أن التخيير الابتدائي سالم عن محذور المخالفة القطعية، إلا أنه
خال عن الموافقة القطعية أيضا، والتخيير الاستمراري وإن استلزم المخالفة
القطعية في بعض الوقائع ولبعض العلوم الاجمالية المتولدة في المقام، إلا أنه
يستلزم الموافقة القطعية في بعض الوقائع ولبعض العلوم الاجمالية المتولدة
الاخر، وليس الأول أولى من الثاني بنظر العقل، بل هما من حيث موافقة الغرض
الذي يقتضيه التكليف سواء.
نعم، قد يقال: إنه بناء على اقتضاء العلم الاجمالي للموافقة القطعية ليس
كاقتضائه لترك المخالفة القطعية، وأن الأول بنحو يقبل الردع، والثاني بنحو لا
يقبله، لأنه بنحو العلية التامة، فاللازم ترجيح ترك الموافقة القطعية على المخالفة
القطعية لأهميتها.
181

وقد أجاب عن ذلك بعض الأعيان المحققين قدس سره: بأن ذلك إنما يتم لو كان
الترخيص ظاهريا بمناط عدم البيان. أما لو كان بمناط الاضطرار وكبرى لا يطاق
فلا مجال لمنجزية العلم التفصيلي فضلا عن الاجمالي، لقصور المعلوم عن مقام
الفعلية المانع من صلوح العلم لتنجيزه، لا بالإضافة إلى المخالفة القطعية ولا
بالإضافة إلى الموافقة القطعية كي يقع التزاحم بينهما في المقام، وينظر في
الأولى منهما.
ويظهر الاشكال فيه مما تقدم في المقام الأول، فإنه إن كان المراد
بالترخيص لأجل الاضطرار سقوط التكليف الواقعي عن الفعلية بسبب عدم
إمكان الجمع بين المحتملات، على ما قد يدعى في الاضطرار إلى بعض غير
معين من أطراف العلم الاجمالي، فهو - مع عدم مناسبته لمختاره في تلك
المسألة - غير تام في نفسه.
وإن كان المراد به الترخيص العقلي بسبب امتناع خلو المكلف عن الفعل
والترك، فهو إنما يقتضي امتناع منجزية العلم الاجمالي في كل واقعة بالإضافة
إلى الموافقة القطعية ولا يمنع من منجزيته بالإضافة إلى المخالفة القطعية بنحو
لا يجوز ارتكابها في البعض لأجل الموافقة القطعية في الآخر، لفرض كونها
أهم، كما هو المدعى للخصم.
وبالجملة: كلامه قدس سره لا يخلو عن غموض وإشكال، وربما نوفق في
مناسبة أخرى للتعرض لما ذكره.
ولعل الأولى الجواب عن الدعوى المذكورة: بأنه ليس الفرق بين العلية
التامة والاقتضاء إلا بإمكان الردع الشرعي على الثاني دون الأول، وذلك خارج
عن محل الكلام، لفرض عدم البيان الشرعي في المقام، وبقاء العقل على ما
يستقل به، وهو لا يفرق في المقام بين الامرين لو خلي ونفسه، كما ذكرنا.
إن قلت: إذا تم كون العلم الاجمالي علة تامة لمنع المخالفة القطعية دون
182

لزوم الموافقة القطعية فلابد أن يكون لأهمية تجنب المخالفة القطعية من
تحصيل الموافقة القطعية بنظر العقل، وهو مستلزم لترجيحه عند المزاحمة.
قلت: ليس ملاك العلية التامة هو الأهمية، بل إن المنع عن المخالفة
القطعية بعد فرض فعلية التكليف يستلزم الردع عن تنجيز العلم الاجمالي
وعدم ترتب العمل عليه، أو عن وجوب إطاعة التكليف، وكلاهما ممتنع مع
كون منجزية العلم ذاتية ووجوب الإطاعة من المستقلات العقلية، بخلاف
الترخيص في ترك الموافقة القطعية، وهذا لا يقتضي الترجيح بينهما في المقام،
لأن جواز المخالفة القطعية في بعض الوقائع ليس لعدم منجزية العلم الاجمالي
في نفسه، ولا لعدم وجوب إطاعة التكليف، بل لمزاحمتها بالموافقة القطعية في
الواقعة الأخرى.
مع أنه لو فرض أن ملاك ذلك هو الأهمية فهو أجنبي عما نحن فيه،
لوضوح أن مخالفة العلم الاجمالي القطعية مستلزمة لفوت موافقته أيضا،
فالموافقة القطعية فائتة على كل حال، وليس الممنوع منه إلا المخالفة القطعية
زائدا عليها. أما في المقام فالمخالفة القطعية في بعض الوقائع مستلزمة لحصول
الموافقة القطعية في الأخرى وليست الموافقة القطعية فائتة على كل حال. ولعله
يأتي في الفصل الآتي ما ينفع في المقام.
ثم إنه كما يكون التخيير استمراريا إذا كان تعدد الواقعة لتعدد أفراد
الموضوع الطولية بحسب أجزاء الزمان، كذلك يكون التخيير انحلاليا إذا كان
تعدد الواقعة لتعدد أفراد الموضوع العرضية، كما لو تردد الامر في يوم بين وجوب إكرام العلماء وحرمة إكرامهم، فإنه كما يتخير المكلف بين إكرام الكل
وترك إكرامهم فلا يلزم إلا المخالفة الاحتمالية في الكل، كذلك له التفريق
بينهم، المستلزم للمخالفة القطعية في بعضهم والموافقة القطعية في بعض، لعين
ما تقدم.
183

الخامس: ما تقدم من تعذر الموافقة والمخالفة القطعيتين في المقام إنما
هو فيما إذا كان الوجوب والحرمة المحتملان واردين على موضوع واحد، لا
اختلاف في قيوده، لتكون موافقة أحدهما مخالفة للآخر، سواء كان توصليا،
كدخول المسجد، أم تعبديا، كصوم يوم الشك لو قيل بحرمة صوم يوم العيد ولو
برجاء أن لا يكون عيدا، بخلاف ما لو اختلف الموضوع ولو بلحاظ القيود
المعتبرة فيه، كما لو كان أحدهما المعين أو كلاهما تعبديا لا يمكن امتثاله إلا
بقصد التقرب به، كما لو دار الامر بين كون الماء مملوكا يجب التقرب بالوضوء
به، ومغصوبا يحرم التصرف فيه مطلقا، أو بين وجوب فعل شئ بقصد القربة
وتركه كذلك، فإن الموافقة القطعية في مثل ذلك وإن كانت متعذرة، إلا أن
المخالفة القطعية ممكنة، حيث يمكن في المثال الأول استعمال الماء في غير
الوضوء القربي. وفي الثاني الترك أو الفعل لا بقصد القربة، ونظير ذلك جميع
موارد دوران الوجوب بين الضدين اللذين لهما ثالث.
وقد ذكر شيخنا الأعظم قدس سره وغيره في مثل ذلك حرمة المخالفة القطعية،
لمنجزية العلم الاجمالي بالإضافة إليها، وإن لم يكن منجزا بالإضافة إلى الموافقة
القطعية، لفرض تعذرها، بناء منهم على أن تعذر الموافقة القطعية لا يوجب
سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية بالإضافة إلى المخالفة القطعية.
وقد لا يتم ذلك على مذهب المحقق الخراساني قدس سره من أن الاضطرار إلى
بعض الأطراف يوجب سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية بالكلية.
ومن ثم استشكل عليه غير واحد حيث وافق شيخنا الأعظم قدس سره في المقام.
وتمام الكلام في ذلك في مسألة الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الاجمالي من
الفصل الآتي.
السادس: لو دار الامر بين جزئية شئ للمركب ومانعيته فهو وإن رجع
إلى الدوران بين محذورين بالإضافة إلى المركب الخارجي من حيث صحته
184

وفساده، إلا أنه خارج عن محل الكلام، لعدم كون إبطال المركب بالاتيان بالمانع
منه محرما، فمرجع الشك في المقام إلى الدوران بين وجوب المركب الواجد
للامر المذكور والفاقد له، واللازم فيه الاحتياط بالجمع بينهما، كما يأتي في
الفصل الآتي.
ولو فرض تعذره كان من تعذر بعض أطراف العلم الاجمالي الذي يأتي
الكلام فيه هناك أيضا.
نعم، لو فرض حرمة إبطال المركب - كما هو المعروف في الصلاة - كان
من هذه الجهة من الدوران بين محذورين، وإن كان من حيثية الامر بالمركب
داخلا في الدوران بين المتباينين المقتضي للاحتياط فيهما بالتكرار.
على أنه يلزم تجنب ذلك بالدخول في كلتا الصورتين برجاء مشروعيتها،
فلا يحرم إبطالها من هذه الجهة، لعدم قصد الامتثال بها مطلقا، بل معلقا على
مشروعيتها، ولا تبطل في ظرف مشروعيتها.
نعم، لو حدث له التردد في الأثناء بعد الجزم بالامتثال حين الدخول في
العمل تعذر عليه تجنب احتمال حرمة الابطال بكل من الفعل والترك.
وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من ابتناء المقام على مسأله الدوران بين
الأقل والأكثر الارتباطيين، فإن قلنا فيها بالبراءة كان المكلف مخيرا بين
الوجهين، وإن قلنا فيها بالاحتياط كان اللازم الجمع بالتكرار.
فلا يكاد يتضح وجهه، ضرورة أنه إن كان المقام من دوران الامر بين
المتباينين - كما ذكرنا - كان العلم الاجمالي مقتضيا للاحتياط خروجا عن
مقتضى البراءة، حتى لو فرض أنها الأصل الأولي في تلك المسألة، وإن كان من
دوران الامر بين المحذورين الذي يتعذر معه الاحتياط لزم التخيير حتى بناء
على لزوم الاحتياط في تلك المسألة، إذ لا مجال له في فرض التعذر.
185

وقد أطال قدس سره الكلام بما لا مجال لتعقيبه، فراجع ما ذكره في التنبيه الرابع
من تنبيهات مسائل الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
186

الفصل الثالث
في الشك في تعيين التكليف
مع اختلاف المتعلق
وهو المعروف بينهم بدوران الامر بين المتباينين.
وقد تقدم أنه يعم صورة اتحاد سنخ التكليف، كما في الدوران بين
وجوب القصر ووجوب التمام، واختلافه، كما في الدوران بين وجوب شئ
وحرمة آخر.
والكلام في المقام إنما هو في أنه هل يلزم في ذلك الجمع في مقام
الامتثال بين أطراف الترديد تحصيلا للموافقة القطعية، أو يكفي الاقتصار على
بعضها بنحو يخرج به عن المخالفة القطعية، أو يجوز ترك تمام الأطراف وإن
حصلت المخالفة القطعية، كل ذلك من جهة العلم الاجمالي المفروض في
المقام وتحديد مقتضاه.
وينبغي التعرض لمنشأ حرمة المخالفة ولزوم الموافقة القطعيتين في
سائر موارد تنجيز التكليف تمهيدا لمحل الكلام، فنقول:
اندفاع المكلف للعمل يبتني على أمور مترتبة في أنفسها..
الأول: جعل التكليف.
الثاني: تنجزه.
الثالث: حدوث الداعي لامتثاله.
أما الأول فهو مما يستقل به المولى، ولا يشركه فيه غيره، حتى في
187

المستقلات العقلية بناء على التحسين والتقبيح، لظهور أن وظيفة العقل ليست
إلا إدراك الحسن والقبح الملزمين بنظر العقل للمولى بجعل الحكم على
طبقهما، وليس عمل المكلف مترتبا على استقلال العقل بالحسن والقبح إلا
بضميمة استكشاف الحكم الشرعي المقتضي لحفظ الملاك من قبل الشارع بما
يستتبعه من الثواب والعقاب الصالحين للداعوية بملاك دفع الضرر، الذي هو
أمر فطري، وإلا فالحكم العقلي بمجرده لا يكفي في الداعوية وحفظ الملاك.
وأما الثاني فهو قد يستند لجعل المولى للحجج والأصول المنجزة
لمؤداها بحكم العقل، كما قد يستقل به العقل، كما في موارد الظن الانسدادي
بناء على الحكومة. وقد يستند إلى السبب التكويني، وهو العلم، بناء على ما
سبق منا في مباحث القطع من كون ترتب العمل عليه ذاتيا لا يستند لحكم عقلي
أو شرعي،
وأما الثالث فهو مما يستقل به العقل الحاكم بوجوب إطاعة المولى بملاك
شكر المنعم، أو ثبوت الحق له، بالنحو المقتضي لاستحقاق العقاب، الصالح
للداعوية، وليس الحكم المذكور مما يمكن الردع عنه شرعا، إلا أن يرجع إلى
رفع موضوعه، وهو التكليف الشرعي، أو رفع منشأ تنجيزه لو كان مستندا له.
هذا كله في فرض كون عمل المكلف إطاعة للتكليف ثبوتا، فلو فرض
الشك في ذلك لم ينهض ما سبق باحداث الداعي للمكلف نحو العمل، لان ما
سبق إنما يقتضي لزوم الإطاعة الواقعية ثبوتا في رتبة سابقة على الشك.
بل لابد في فرض الشك من أمر آخر مترتب على ما سبق، وهو حكم
العقل بلزوم إحراز الفراغ عن التكليف المنجز، وعدم الأمان من مسؤولية
التكليف بدونه، وهو مفاد قاعدة الاشتغال المسلمة عند الكل، ومن الظاهر أن
حكم العقل المذكور طريقي في طول حكمه بوجوب الإطاعة الواقعية، وليس
عينه.
188

ولا ريب عندهم في اختصاص العقل بالحكم المذكور، والاستغناء به عن
الرجوع للشارع، كما لا ريب في سلطان الشارع على تحقيق مقتضاه بأن يتعبد
بتحقق الامتثال بجعل الطريق إليه، أو الأصل العملي المحرز له، إذ لا يراد بإحراز
الامتثال اللازم عقلا إحرازه وجدانا، بالقطع، بل ما يعم الاحراز التعبدي.
وإنما الاشكال في سلطان الشارع على الردع عن الحكم المذكور
بالاكتفاء بالامتثال الاحتمالي من دون إحراز له.
وقد تقدم منا في التنبيه الثاني من تنبيهات أصل البراءة تقريب ذلك وإن
كان على خلاف ظاهرهم، كما تقدم بقية الكلام في القاعدة المذكورة.
إذا عرفت هذا، فمن الظاهر أن منع العقل عن المخالفة القطعية في مورد
تنجز التكليف بعلم أو علمي أو غيرهما يرجع إلى حكمه بوجوب الطاعة.
كما أن الزامه بالموافقة القطعية راجع إلى حكمه بلزوم إحراز الفراغ الذي
هو مفاد قاعدة الاشتغال.
وقد عرفت امتناع ردع الشارع عن الأول، إلا برفع موضوعه، وهو
التكليف، أو رفع منشأ تنجيزه لو كان مستندا له.
كما عرفت إمكان ردعه عن الثاني، كما أنه مسلط على رفع موضوعه
برفع التكليف أو منشأ التنجيز، وعلى تحقيق مقتضاه بجعل ما يوجب إحراز
الامتثال تعبدا بنصب الطريق إليه، أو جعل الأصل العملي فيه.
وحيث كان المعيار في المخالفة والموافقة القطعيتين ذلك في سائر موارد
التنجيز، فلندخل في ما هو المقصود بالمقام. ويقع الكلام فيه في مقامين..
189

المقام الأول: في المخالفة القطعية
والمعروف المشهور عدم جواز المخالفة القطعية للعلم الاجمالي
المفروض في المقام. وربما قيل بجوازها إما لقصور العلم الاجمالي عن اقتضاء
المنع عنها، أو لوجود المانع بعد فرض تمامية المقتضى.
أما الأول فيدفعه ما تقدم في الفصل الخامس من مباحث القطع من عدم
الفرق بين العلم الاجمالي والتفصيلي في التنجيز المقتضي - كما عرفت هنا -
للمنع من المخالفة القطعية، لاشتراكهما في الجهة المقتضية للعمل. ومجرد
ابتلاء العلم الاجمالي بالجهل بالموضوع وتردده بين الأطراف لا أثر له في الجهة
المذكورة.
ولا مجال للاستدلال على منجزية العلم الاجمالي المانعة من الترخيص
في المخالفة بلزوم التناقض بين الترخيص والحكم المعلوم بالاجمال، كما
يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره.
لما سبق من عدم صحة الاستدلال بلزوم التناقض بالوجه المذكور حتى
في العلم التفصيلي.
كما لا مجال للاستدلال على امتناع الترخيص في المخالفة القطعية بعموم
دليل التكليف الواقعي للمعلوم بالاجمال - كما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره -.
إذ ليس الاشكال في فعلية التكليف الواقعي في مورد العلم الاجمالي،
كيف ولا إشكال في فعليته مع الشك البدوي، لما هو المعلوم من اشتراك
الاحكام بين العالم والجاهل، وإنما الاشكال في تنجز التكليف المذكور بالعلم
الاجمالي، والمتعين فيه ما ذكرنا.
وأما الثاني فلا منشأ له إلا توهم أن مقتضى عموم أدلة الأصول الترخيصية
من البراءة وغيرها جواز إهمال احتمال التكليف في جميع الأطراف وإن استلزم
المخالفة القطعية.
190

وحيث كان الكلام في ذلك مهما جدا، لما يترتب عليه من الفوائد في
المقام وغيره فاللازم النظر..
أولا: في عموم أدلة الأصول ذاتا لأطراف العلم الاجمالي.
وثانيا: في إمكان جريانها في المقام بنحو تسوغ المخالفة القطعية وتمنع
من حرمتها، فيقع الكلام في أمرين:
الامر الأول: في عموم أدلة الأصول ذاتا لأطراف العلم الاجمالي.
وقد وقع الكلام في ذلك بينهم..
ولا يخفى أن الكلام هنا مختص بالأصول أما الطرق والامارات فلا ريب
في قصور أدلتها عن شمول أطراف العلم الاجمالي المستلزم للعلم بكذب
أحدها، من دون فرق بين ترتب الأثر عليها في جميع الأطراف وترتبه في
بعضها، كما لا فرق بين العلم الاجمالي بثبوت الترخيص والعلم بثبوت التكليف
المنجز وغيره، لأنها لما كانت حجة في لوازم مؤدياتها كانت متكاذبة في ما بينها
بلحاظ مداليلها الالتزامية، فيمتنع حجيتها في تمام الأطراف، لاستحالة التعبد
بالمتعارضين المستلزم للتعبد بالنقيضين، ولا في خصوص بعضها معينا، لعدم
المرجح، ولا مخيرا، لعدم الدليل عليه.
ومن ثم كان الأصل في المتعارضين التساقط، على ما يأتي مفصلا في
مباحث التعارض إن شاء الله تعالى.
نعم، لو لم تكن الامارة حجة في لازم مؤداها لم يلزم المحذور المذكور،
بل تكون نظير الأصل الاحرازي الذي يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
إذا عرفت هذا، فاعلم أنه اختلف المتأخرون في أن الأصول هل تجري
ذاتا في أطراف العلم الاجمالي، وينحصر المانع مات جريانها بالمحذور المتقدم،
أو لا تجري ذاتا لقصور أدلتها عن شمولها؟
وقد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره الثاني، حيث قال في مبحث الشبهة
191

المحصورة، في دفع توهم اقتضاء أدلة قاعدة الحل لجواز المخالفة القطعية:
(ولكن هذه الأخبار وأمثالها لا يصلح للمنع، لأنها كما تدل على حلية كل واحد
من الشبهتين كذلك تدل على حرمة ذلك المعلوم إجمالا، لأنه أيضا شئ علم
حرمته له.
وقال في مسألة تعارض الاستصحابين إذا لم يكن أحدهما سببيا: (فالحق
التساقط... لان قوله: (لا تنقض اليقين بالشك، ولكن تنقضه بيقين مثله)، يدل
على حرمة النقض بالشك ووجوب النقض باليقين، فإذا فرض اليقين بارتفاع
الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كل منهما تحت عموم
حرمة النقض بالشك، لأنه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله،... وقد
تقدم نظير ذلك في الشبهة المحصورة، وأن قوله عليه السلام: (كل شئ حلال حتى
تعرف أنه حرام)، لا يشمل شيئا من المشتبهين).
وما ذكره قدس سره لا يخلو عن غموض، وقد يحمل على وجوه ينبغي التعرض
لها حتى لو فرض عدم ظهور كلامه فيها لتوقف الكلام في المقام على النظر
فيها..
الأول: أن المعلوم بالاجمال لما كان هو الخصوصية المبهمة الصالحة
للانطباق على كل من الطرفين بنفسه، فهو متحد مع أحد الأطراف واقعا، فيكون
أحد الأطراف بواقعه موضوعا لليقين الرافع للأصل، ولا مجال لجريان الأصل
في كليهما للزوم التناقض.
وفيه: أن انطباق المعلوم بالاجمال على أحد الطرفين بخصوصه واقعا لا
ينافي صدق موضوع الأصل - وهو الشك - فيه بعنوانه التفصيلي، لان طروء العلم
والشك على الموضوع إنما يكون بلحاظ عنوانه لا بنحو يكون دخل العنوان
فيهما لمحض الحكاية - كما في قولنا: جاء العالم - ولا لكونه محض علة فيه -
كما في قولنا: أكرم العالم - بل لكونه جهة تقييدية بنحو تكون صفتا العلم
192

والجهل طارئتين على المعنون من حيثية العنوان، لا مطلقا، فلا مانع من
اجتماعهما في الموضوع الواحد بلحاظ العناوين المختلفة المنطبقة عليه، وعليه
لا مانع من كون أحد الطرفين موضوعا للعلم بعنوان كونه أحد الامرين اللذين
يقوم العلم الاجمالي بهما، وموضوعا للشك بعنوانه الخاص به، ولا يكون العلم
الاجمالي موجبا لخروجه عن موضوع الأصل واقعا.
فالأصل يجري في كل منهما بخصوصه ذاتا تبعا لتحقق موضوعه، وإن
كان لا يجري في الامر المبهم على إبهامه، لارتفاع موضوعه فيه بسبب العلم
الاجمالي المفروض، ولازم ذلك ترتيب أثر كل من الخصوصيتين تبعا لجريان
الأصل فيهما، دون أثر المعلوم بالاجمال المنطبق على أحدهما على ما هو عليه
من الابهام، لارتفاع موضوع الأصل فيه.
نعم، هذا الوجه يبعد عن كلام شيخنا الأعظم قدس سره المتقدم، لان مقتضاه
قصور دليل الأصل واقعا عن أحد الطرفين على إجماله، لا عن كليهما، مع ظهور
كلامه قدس سره في خروج كلا الطرفين بسبب الغاية في أدلة قاعدة الحل، والذيل في
أخبار الاستصحاب عن عموم الأصل.
بل هو الذي صرح به في بقية كلامه، حيث قال: (فليس المقام من قبيل ما
كان الخارج من العام فردا معينا في الواقع غير معين عندنا. ليكون الفرد الآخر
الغير المعين باقيا تحت العام... إذ لا استصحاب في الواقع حتى يعلم بخروج
فرد منه وبقاء فرد آخر...).
الثاني: أن إطلاق العلم المجعول غاية في أخبار قاعدة الحل، واليقين في
ذيل أخبار الاستصحاب شامل للعلم واليقين الاجمالي، فيرتفع تبعا له الحكم
بالحل وبالاستصحاب في كل من الطرفين، لي وإن لم يعلم الحال فيهما تفصيلا.
وهذا الوجه وإن كان بعيدا عن ظاهر كلاميه المتقدمين، خصوصا الأول،
إلا أنه قد يتعين حملهما عليه بملاحظة تتمة كلامه في الاستصحاب، حيث قال
193

في رد احتمال الخير: (وقد عرفت أن عدم العمل بكلا الاستصحابين ليس
خالفة لدليل الاستصحاب سوغها العجز، لأنه نقض اليقين بالمقين، فلم يخرج
من عموم: (لا تنقض) عنوان ينطبق على الواحد التخيير)، فإنه صريح في أن
عدم جريان الاستصحاب فيهما لتحقق اليقين الرافع له، لا لقصور عموم دليل
الاستصحاب عن شمول الشك المفروض فيهما.
وكيف كان، فيندفع الوجه بأن المستفاد من أخبار قاعدة الحل كون الرافع
للحل الظاهري هو العلم بالتكليف المنافي للشك فيه، فالعلم الاجمالي وإن
نهض برفع الحل بالإضافة إلى الواحد المردد على ما هو عليه من الابهام
والترديد بين الأطراف، لعدم الشك فيه، إلا أنه لا ينهض برفعه بالإضافة إلى كل
طرف بخصوصيته بعد فرض الشك فيه.
كما أن ظاهر أخبار الاستصحاب وجوب نقض اليقين باليقين المنافي له،
ولا يتنافى اليقينان إلا مع اتحاد متعلقهما، لا مع اختلافه ولو بالاجمال والتفصيل،
كما اعترف قدس سره بذلك في الجملة في رد القول العاشر من أقوال الاستصحاب.
الثالث: أنه لما كان العلم واليقين في أدلة الأصول يعم العلم الاجمالي،
فالعلم الاجمالي وإن لم يناف الشك - الذي هو موضوع الأصل - في كل طرف
بخصوصه، وإنما ينافيه في الامر المردد على إجماله، إلا أن عموم موضوع
الأصل لأطراف العلم الاجمالي مستلزم للتناقض بين التعبدين، وهما التعبد
بمؤدى الأصل في كل من الطرفين بلحاظ حصول الشك فيه، والتعبد بمقتضى
العلم الرافع للأصل في المعلوم بالاجمال على إجماله، للتناقض بين مفادي
الموجبة الكلية والسالبة الجزئية، فيمتنع التعبد بهما معا، ويتعين البناء على
قصور الأصول عن شمول الأطراف دفعا لذلك، ولا طريق مع ذلك لاحراز
تحقق موضوع الأصول ذاتا في الأطراف.
ولعل هذا الوجه هو الظاهر من كلامه قدس سره المتقدم في الاستصحاب.
194

إن قلت: التناقض المذكور كما يندفع بتقييد الشك في الأدلة بغير صورة
العلم الاجمالي، كذلك يندفع بتقييد العلم الذي يجب العمل به بغير العلم
الاجمالي، وليس الأول أولى من الثاني.
قلت: لما كان مفاد الأصل أمرا تعبديا كان التقييد فيه أهون من التقييد
لقضية لزوم العمل بالعلم الارتكازية، بل هي آبية عن ذلك جدا.
ولا سيما مع كون عموم الأصل للأطراف لا يقتضي فعلية العمل بها، من
أجل المحذور الآتي، فتحمل على الحكم الاقتضائي الذي هو خلاف الظاهر في
نفسه.
ويندفع الوجه المذكور: بأن وجوب العمل بالعلم وارتفاع موضوع
الأصل معه وإن ذكر في أدلة الأصول، إلا أنه ليس أمرا تعبديا شرعيا، لما هو
المعلوم من أن حجية العلم ذاتية لا تقبل الامضاء والردع الشرعي، فليس في
المقام إلا تعبد شرعي واحد، وهو مفاد الأصل، وليس موضوعه إلا الشك
المفروض تحققه في الأطراف، ولا يلزم من جريان الأصل فيها التناقض، لتعدد
الموضوع، بل غاية ما في المقام هو العلم بكذب أحد الأصلين، وليس هو
محذورا ما لم يستلزم المخالفة العملية، على ما يأتي توضيحه.
نعم، قد يقال: وجوب العمل بالعلم وإن لم يكن تعبدا شرعيا، بل أمر
تكويني أو عقلي، إلا أن التنبيه في أدلة الأصول له على أنه أمر مفروغ عنه مانع
من عمومها لأطراف العلم الاجمالي، لان العلم الاجمالي لما كان منافيا عملا
للأصول الجارية في أطرافه كان عموم أدلة الأصول لها مع التنبيه فيها للعمل
بالعلم مستلزما للتناقض في دليل التعبد الواحد، وإن لم يلزم التناقض بين
التعبدين، فيتعين البناء على قصور الأدلة المذكورة عن أطراف العلم الاجمالي
دفعا لذلك.
وفيه.. أولا: أن القرينة المذكورة لو تمت فهي مختصة بما إذا كان العلم
195

الاجمالي مقتضيا للعمل بنحو ينافي مقتضى الأصل في الأطراف، كما لو علم
إجمالا بحرمة أحد الانائين ولم يعلم حرمتهما سابقا. أما لو لم يترتب عليه
العمل فلا وجه لمنعه من جعل الأصل، ليكون التعرض له في الأدلة المذكورة
مانعا من عمومها للأطراف، كما لو علم إجمالا بتطهير أحد الانائين المعلومي
النجاسة سابقا، لوضوح أن العلم المذكور وإن اقتضى السعة بالإضافة إلى
المعلوم بالاجمال، إلا أن اشتباه المعلوم بالاجمال بالنجس مانع من ترتب العمل
على العلم المذكور، فلا يصلح للمنع من جعل الأصل الذي يترتب عليه العمل،
مع أن شيخنا الأعظم قدس سره صرح بعموم مانعية العلم الاجمالي من جريان الأصل.
وثانيا: أن هذا المقدار من التنافي لا يوجب قصور موضوع الأصول عن
شمول الأطراف تخصيصا بحيث تخرج عنه ذاتا، بل يكفي في رفعه البناء على
عدم فعليتها في مورد المنافاة لوجوب العمل بالعلم مع تحقق موضوعها ذاتا،
لما هو المرتكز عرفا من أن موضوع الأصول ليس إلا الشك الذي تضمنته
الأدلة، وهو حاصل في الأطراف، وليس منافاة مفاد الأصل عملا لمقتضى العلم
إلا من سنخ المانع عن فعليتها، فإن ذلك كاف في القرينة الارتكازية على حمل
الأدلة على ذلك في مقام الجمع بين الغاية والمغيى في أخبار قاعدة الحل،
والصدر والذيل في أخبار الاستصحاب، لأنه أقرب ارتكازا من التزام
التخصيص بالوجه المذكور.
ولا سيما خلو كثير من أدلة الأصول - كبعض نصوص الاستصحاب
والبراءة وقاعدة الفراغ وغيرها - عن التنبيه لحجية العلم، فلا مخرج عن ظهورها
في كون موضوع الأصول محض الشك، لعدم ابتلائها بالقرينة المذكورة، غاية
الامر أن العموم المذكور مما لا مجال للعمل به في مورد المنافاة للعلم
الاجمالي، إلا أن هذا من سنخ المانع ارتكازا وليس من سنخ المخصص.
وتوضيح ذلك: أن المرتكز في رفع المنافاة بين عموم أدلة الأصول
196

وحجية العلم الاجمالي هو الالتزام - بتعدد الحيثية والجهة، بنحو تؤثر كل جهة
لمقتضاها في نفسها مع إعمال القواعد الارتكازية عند اجتماع الجهتين
المختلفتين في مقام العمل، فدليل الأصل لا يقتضي ترتيب مضمونه مطلقا ومن
جمع الجهات، بل من حيثية الشك المأخوذ في موضوعه، كما أن العمل بالعلم
إنما يقتضي متابعته في مورده لا غير، فمع اجتماع الجهتين واختلاف مقتضاهما
عملا - كما في مورد العلم الاجمالي - يرجع لقواعد التزاحم بين الجهتين،
فتختص فعلية التأثير في مقام العمل بإحدى الجهتين دون الأخرى، وإن تم
المقتضي في كلتيهما.
مثلا: لو علم اجمالا بحرمة أحد الانائين، فمقتضى الأصل في كل من
الطرفين إهمال احتمال التكليف فيه من حيثية الشك، وهو لا ينافي تنجز
المعلوم بالاجمال الملزم بالاحتياط في كل منهما، لان الاحتياط المذكور ليس
لمحض الشك، لينافي الأصل الجاري فيهما، بل لأجل العلم الذي هو أمر زائد
على الشك كاف في التنجيز.
كما أنه لو علم إجمالا بتطهير أحد الانائين المعلومي النجاسة سابقا فالعلم
الاجمالي وإن اقتضى السعة بالإضافة إلى المعلوم بالاجمال، إلا أنه لا ينافي تنجز
احتمال التكليف في كل من الخصوصيتين بلحاظ سبق اليقين بنجاسته والشك
في طهارته المقتضي لاستصحاب النجاسة.
وقد أشار إلى ذلك شيخنا الأعظم قدس سره في مبحث الشبهة الوجوبية
المحصورة، فإنه بعد أن أشار لنظير ما تقدم منه في الشبهة التحريمية في وجه
امتناع الرجوع للأصول قال: (فلابد إما من الحكم بعدم جريان هذه الأخبار في
مثل المقام مما علم وجوب الشئ إجمالا وإما من الحكم بأن شمولها للواحد
المعين وجوبه ودلالتها بالمفهوم على عدم كونه موضوعا عن العباد وكونه
محمولا عليهم ومأخوذين به وملزمين عليه دليل علمي - بضميمة حكم العقل
197

بوجوب المقدمة العلمية - على وجوب الاتيان بكل من الخصوصيتين. فالعلم
بوجوب كل منهما لنفسه لم إن كان محجوبا عنا، إلا أن العلم بوجوبه من باب
المقدمة ليس محجوبا عنا، ولا منافاة بين عدم وجوب الشئ ظاهرا لذاته
ووجوبه ظاهرا من باب المقدمة، كما لا تنافي بين عدم الوجوب النفسي واقعا
وثبوت الوجوب الغيري كذلك).
وقد أشار إلى ذلك سيدنا الأعظم قدس سره أيضا في أول الكلام في الدوران بين
المتباينين من حقائقه.
هذا، ويشهد لما ذكرنا من تحقق موضوع الأصل ذاتا في أطراف العلم
الاجمالي ما هو المفروغ عنه بينهم من إمكان التفكيك في الأصول بين الأمور
المتلازمة، فمن توضأ أو اغتسل بمايع مردد بين البول والماء، يستصحب
الحدث وطهارة الأعضاء من الخبث مع العلم إجمالا بانتقاض إحدى الحالتين،
وهو مستلزم لعدم مانعية العلم المذكور من شمول الأصل للأطراف ذاتا، وليس
عدم جريان الأصل إلا لمحذور المخالفة العملية غير اللازم في المقام. فلاحظ.
ثم إن بعض الأعاظم قدس سره مع اعترافه بتحقق موضوع الأصل في أطراف
العلم الاجمالي ادعى امتناع جريان الأصول التنزيلية الاحرازية فيها،
كالاستصحاب وقاعدة الفراغ وغيرهما، لخصوصية في مفادها.
وحاصل ما ذكره: أن الأصول المذكورة وإن لم تكن من سنخ الامارات
متضمنة للحكاية عن الواقع، إلا أنها تتضمن التعبد بمؤداها على أنه الواقع فهي
متضمنة لاحراز الواقع لا بتوسط جعل الطريق إليه، وحينئذ يمتنع جريانها في
أطراف العلم الاجمالي، لمناقضتها معه، إذ كيف يعقل الحكم ببقاء النجاسة مثلا
في كل واحد من الانائين مع العلم بتطهير أحدهما؟ وهو مستلزم للتناقض بين
مفاد الأصل والواقع المعلوم.
وهذا بخلاف الأصول غير الاحرازية - كأصالة البراءة والحل والطهارة -
198

فإنها لا تتضمن إلا بيان الوظيفة العملية وتطبيق العمل على مقتضى الأصل من
دون تعبد بالواقع، فلا ينافي العلم الاجمالي بمخالفة الواقع في أحد الطرفين،
لان الأصل يجري في كل طرف بخصوصه، ولا يعلم بكذبه ومخالفته للعلم
الاجمالي المذكور.
وفيه: أن الأصل الاحرازي لما كان يجري في كل من الطرفين بخصوصه
مع قطع النظر عن الطرف الآخر فلا يناقض العلم الاجمالي، لعدم العلم بانطباق
المعلوم بالاجمال عليه، والجمع بين التعبدين لا يستلزم المناقضة للعلم
الاجمالي وإن رجعا إلى دليل واحد، لوضوح أن الدليل المذكور يتضمن أحكاما
انحلالية بحسب الموضوعات المتكثرة، ولا يتضمن تعبدا واحدا بمجموع
الامرين ليكون مناقضا للعلم المذكور، فلا فرق بين الأصل الاحرازي وغيره
في ذلك.
على أن ما ذكره قدس سره لو تم لامتنع جريان الاستصحاب في من توضأ بمايع
مردد بين البول والماء ونحوه من موارد التفكيك بين الأمور المتلازمة بسبب
الأصل الاحرازي، مع عدم الاشكال عندهم في جواز الرجوع له، كما تقدم.
وقد حاول قدس سره بيان الفرق بين ذلك وما نحن فيه، وحاصل ما ذكره: أن
جريان الأصول في ذلك لا يوجب إلا العلم الاجمالي بكذب الأصلين،
لاختلافهما في المؤدى، وعدم رجوعهما إلى أمر واحد يعلم بكذبه تفصيلا، أما
في ما نحن فيه فيلزم العلم التفصيلي بكذب ما يؤدي إليه الأصلان، لرجوعهما
إلى أمر واحد يعلم بعدم ثبوته، ففي استصحاب نجاسة الانائين المعلوم طهارة
أحدهما يعلم تفصيلا بكذب ما يؤدي إليه الأصلان، لأنهما ينفيان طهارة
أحدهما المعلوم ثبوتها تفصيلا.
وقد أطال في تقريب ذلك بما لا يرجع إلى محصل ظاهر، لوضوح أن ما
ذكره من الوجه في المنع - لو تم - لا يختص بالعلم التفصيلي بكذب الأصل، بل
199

يجرى في العلم الاجمالي أيضا، إذ ليس ملاكه إلا امتناع إحراز ما يعلم خلافه،
ولا يفرق فيه بين العلم الاجمالي والتفصيلي.
مع أنه إن أريد بالمعلوم بالتفصيل المتميز في الذهن بخصوصيته - كما
هو الظاهر منه - فالمفروض أنه لا معلوم بالتفصيل في المقام.
وإن أريد به ما يشار إليه بعنوان واحد وإن كان مبنيا على الا بهام والترديد -
كعنوان أحد الامرين - فهو متحقق في مورد النقض أيضا، للعلم بانتقاض الحالة
السابقة في أحد الامرين من الحدث وطهارة الأعضاء في الفرض السابق.
ومجرد اتفاق مؤدى الأصلين في ما نحن فيه في السنخ والعنوان - كالطهارة
والنجاسة - بخلاف مورد النقض، لا يصلح فارقا بعد كون مجرى الأصل هو
الامر الخاص المباين للامر الآخر وإن اتحد معه سنخا.
على أن الظاهر أن المنع عنده لا يختص بما إذا اتحد مجرى الأصلين
سنخا، بل يجرى في مثل ما لو دار الامر بين وجوب شئ وحرمة آخر، أو بين
نجاسة شئ وغصبية آخر، وكان مقتضى الاستصحاب فيهما مخالفا لمقتضى
العلم الاجمالي.
نعم، لو كانت نجاسة كلا الطرفين في ما نحن فه مقتضى أصل واحد،
بنحو يكون الاستصحاب مثلا مقتضيا لنجاستهما بنحو الارتباطية، لقيام الأثر
بهما معا، مع العلم بطهارة أحدهما لزم العلم التفصيلي بكذب الأصل.
لكنه خلاف الفرض، مع أنه جار في الأصل غير الاحرازي أيضا.
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن العلم الاجمالي لا يوجب خروج
أطرافه عن الأصول ذاتا، وغاية ما يدعى أنه من سنخ المانع عنها بعد تمامية
مقتضيها.
هذا تمام الكلام في الامر الأول.
الامر الثاني: أنه بعد الفراغ عن شمول أدلة الأصول ذاتا لأطراف العلم
200

الاجمالي يقع الكلام في نهوضها بالمنع من حرمة المخالفة القطعية، التي تقدم
اقتضاء العلم الاجمالي لها ذاتا.
ومما تقدم في أول الكلام في هذا الفصل يظهر امتناع ذبك، لما تقدم من
أن ترخيص الشارع في المخالفة القطعية في مورد تنجزه.
ولا مجال للثاني في المقام بعد كون تنجيز العلم الاجمالي كالتفصيلي من
شؤون ذاه التي لا تنالها يد التشريع رفعا ووضعا، كما تقدم في الفصل الخامس
من مباحث القطع ولا سيما مع ظهور بعض أدلة الأصول في المفروغية، عن
حجية العلم، كما تقدم.
كما لا مجال للأول، لأنه وإن كان في نفسه ممكنا، بأن يكون العلم
الاجمالي رافعا لفعلية الحكم الواقعي المعلوم، حيث تقدم إمكان ذلك في
الفصل الثالث من مباحث القطع، إلا أن أدلة الأصول لا تنهض به، لظهورها في
النظر لمقام تنجز التكليف، وجعل الوظيفة العملية فيه في ظرف الشك فيه إثباتا
بعد الفراغ عن فعليته ثبوتا وصلوحه لترتب العمل عليه في نفسه لو فرض
وجوده، فلا تنهض بتقييد أدلة الواقع.
بل هو المقطوع به بعد فرض كون مفاد الأصول أحكاما ظاهرية غير
رافعة للأحكام الواقعية ولا منافية لها.
ودعوى: لزوم البناء في المقام على ذلك تصحيحا لجريانها، فتكون
أدلتها دالة عليه بدلالة الاقتضاء.
مدفوعة.. أولا: بأن البناء على ذلك لا يصحح جريانها، بل يمنع منه، إذ
فرض عدم فعلية الواقع مانع من تحقق موضوعها وهو الشك في التكليف.
وثانيا: بأن دلالة الاقتضاء على شئ موقوفة على انحصار رفع لغوية
الدليل بالحمل عليه، وليس الامر هنا كذلك لامكان حمل عموم دليل الأصل
201

على ما أشرنا إليه آنفا من عدم فعلية مؤداه في مورد العلم الاجمالي، لكونه من
سنخ المانع، بل الحمل على ذلك أقرب عرفا من حمل دليل الأصل على رفع،
فعلية الواقع، لو فرض إمكانه في نفسه وغض النظر عن الوجه الأول.
نعم، لو ورد الترخيص في خصوص مورد العلم الاجمالي المنجز كان،
حمله على رفع فعلية التكليف الواقعي بدلالة الاقتضاء متعينا.
ولكنه يكون ترخيصا واقعيا لا ظاهريا كما هو مفاد الأصل.
هذا، وقد يشكل ما ذكرنا في صحيح عبد الله بن سنان عن أبي
عبد الله عليه السلام: (كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام
منه بعينه فتدعه) (1)، فإن فرض التقسيم فيه للحلال والحرام، الظاهر في كونه
منشأ الاشتباه، ثم جعل الغاية للحل معرفة الحرام المفروض اشتباهه ظاهر في
إرادة العلم الاجمالي، وفي فعلية الترخيص في أطرافه، وتوقف التنجيز على
العلم التفصيلي بالحرام.
لكنه حيث كان باطلاقه منافيا لما عرفت من فعلية الواقع في حال الجهل
به ومنجزية العلم الاجمالي الذاتية تعين حمله على خصوص العلم الاجمالي
غير المنجز، لعدم انحصار الشبهة، المستلزم لعدم الابتلاء ببعض، الأطراف.
كما يشير إليه ورود المضمون المذكور في خبر عبد الله بن سليمان الوارد
في الجبن، ومرسل معاوية بن عمار الوارد في الجبن وغيره (2)، لوضوح أن
المراد بهما إهمال احتمال حرمة بعض أفراد النوع، مع وضوح عدم الابتلاء
بتمام أفراد النوع.
بل ذلك كالصريح من خبر أبي الجارود: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن

(1) الوسائل، ج 12، باب: 4 من أبواب ما يكتسب به، ح: 1.
(2) الوسائل، ج 17، باب: 4 من أبواب الأطعمة المباحة، ح: 1 و 7. 7.
202

فقلت له: أخبرني من رآى أنه يجعل فيه الميتة، فقال: أمن أجل مكان واحد
يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله، وإن م
تعلم فاشتر وبع وكل. والله إني لأعترض السوق فاشترى بها اللحم والسمن
والجبن، والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان) (1).
ويناسبه ما تضمن منجزية الشبهة المحصورة، كالنصوص الواردة في
الانائين المشتبهين (2) والثوبين المشتبهين (3) والشاة الموطوءة المشتبهة
في الغنم (4).
وكيف كان، فلا مجال للخروج عما عرفت من القاعدة، ولو ورد ما ينافيها
لزم طرحه، أو حمله على رفع فعلية الحكم الواقعي في حال الجهل، لخصوصية
في مورده، لانحصار الامر بذلك بعد فرض حجية العلم ذاتا.
وأما تو هم: أن العمل بالأصل لا ينافي منجزية العلم الا جمالي لو كان
ارتكاب الأطراف تدريجيا، لعدم العلم بحرمة كل طرف حين ارتكابه، ليكون
تنجزه مانعا من جريان الأصل فيه، وغاية ما يلزم هو العلم بالمخالفة بعد
ارتكاب كلا الطرفين، ولا محذور فيه ما دام التكليف غير منجز حينها.
فمندفع: بأن المحذور ليس في الارتكاب نفسه بعد فرض الترخيص
الظاهري، بل في نفس الترخيص الظاهري، لفرض أن الترخيص في تمام
الأطراف غير تدريجي، لد خولها في أدلة الأصول في عرض واحد، ومن الظاهر
منافاة الترخيص الفعلي الظاهري في تمام الأطراف لتنجز التكليف المعلوم
بالاجمال المقتضى لحرمة مخالفته القطعية، فلا بد من الالتزام بعدم فعلية مفاد

(1) الوسائل ج 17، باب: من أبواب الأطعمة المباحة، ح: 5.
(2) الوسائل، ج 1 باب: 8 من أبواب الماء المطلق، ح: 2 و 14.
(3) الوسائل ج 2، باب: 64 من أبوال النجاسات، ح: 1.
(4) الوسائل، ج 16، باب: 30 من أبواب الأطعمة المباحة، ح: 1 و 4.
203

الأصول في الأطراف حينئذ.
نعم، لو فرض كون الترخيص تدريجيا، لاختلاف زمان الابتلاء
بالأطراف، بحيث لا يبتلى بكل طرف إلا بعد المخالفة في غيره، أو قبل الابتلاء
بغيره لم يمتنع جريان الأصول في الجميع بنحو التدريج، لعدم منافاة للعلم
الاجمالي، بل لا يكون العلم الاجمالي حينئذ منجزا، كما يأتي في محله إن شاء
الله تعالى.
هذا، وإلى ما ذكرنا من المحذور يرجع ما قيل في وجه عدم جريان
الأصول الترخيصية في أطراف العلم الاجمالي بالتكليف من لزوم الترخيص في
المعصية، إذ لا يراد بالمعصية إلا مخالفة التكليف المنجز.
ثم إن ما ذكرنا وإن كفى في محل الكلام، إلا أن المناسب التعرض للضابط
العام في امتناع جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي.
فنقول: المحذور المذكور وإن اختص بالعلم الاجمالي بالتكليف، إلا أنه
لما كان الملاك فيه هو حجية العلم الذاتية غير القابلة للرفع، كان اللازم تعميم
المنع من جريان الأصول لكل مورد ينافي حجيته، بنحو يمتنع فعلية جريانها
معها، سواء وافقته عملا أم خالفته، وسواء تعلق العلم بالتكليف أم بغيره من
الاحكام.
فمثلا: لو علم إجمالا باستحباب أحد أمرين، امتنع جريان الأصل النافي
للاستحباب فيهما معا، وإن لم يلزم منه ترخيص في المعصية، لان العلم
باستحباب أحدهما لما كان يترتب عليه العمل بالإضافة للاستحباب المعلوم
بالاجمال بمقتضى ذاته، فهو ينقح موضوع حسن الطاعة بملاك تنقيح العلم
بالوجوب لموضوع وجوبها، لم تنهض الأصول برفع ذلك.
ومن ثم حكموا بأنه لو عالم ببطلان إحدى النافلتين لم تجر قاعدة الفراغ
فيهما.
204

كما أنه لو علم بإباحة أحد أمرين وحرمة الآخر فكما يمتنع جريان
الأصل النافي للحرمة فيهما معا، للزوم الترخيص في المعصية، كذلك يمتنع
جريان الأصل المثبت للحرمة فيهما معا، لان الغرض من الأصل المذكور إن كان
محض لزوم اجتنابهما فهو مما يترتب عقلا بسبب العلم بحرمة أحدهما إجمالا
- بناء على لزوم الموافقة القطعية للعلم الاجمالي، كما سيأتي إن شاء الله تعالى -
فيلغو جعل الأصل بلحاظه. وإن كان الغرض من الأصل تنجيز احتمال التكليف
في كل منهما، بحيث يكون تركه بملاك المعصية، لا لمحض الاحتياط
في التكليف الواحد الذي يقتضيه العلم الاجمالي بنفسه. فهو مناف للعلم
الاجمالي بإباحة أحدهما، وأنه ليس الحرام إلا أحدهما ولا عقاب إلا عليه.
وبعبارة أخرى: لما كان الحكم الظاهري طريقيا في طول الحكم الواقعي
فأطاعته لا تجب إلا من حيث كونها إطاعة للحكم الواقعي المحتمل في مورده،
فمع فرض العلم بوحدة التكليف الواقعي لا معنى لحكم العقل بإطاعة التكليف
الظاهري في كل منهما بملاك كونها إطاعة للتكليف المحتمل في مورده، بل
ليس له إلا حكم واحد بإطاعة التكليف الواقعي الواحد المردد بين الطرفين،
وهو يرجع إلى لزوم الاتيان بكل من الطرفين احتياطا الذي هو مقتضى العلم
الاجمالي، ويلغو جعل الأصل حينئذ.
نعم، لو فرض عدم العلم بإباحة أحد الطرفين، بل دار الامر بين حرمتهما
معا وحرمة أحدهما، كان الأصل المثبت للتكليف في كل منهما موردا للأثر،
لاقتضائه الاجتناب عنه من حيث كونه بنفسه إطاعة للتكليف المنجز فيه، لا من
حيث كونه احتياطا في التكليف الواحد الذي اقتضاه العلم الاجمالي المفر وض،
وليس الأثر المذكور منافيا لعلم في المقام حجة بالذات.
وكذا لو فرض ترتب الأثر على الأصل الجاري في بعض الأطراف بالنحو
الذي لا يقتضيه العلم الاجمالي، كما لو كان لاحد الانائين المعلوم طهارة
205

أحدهما ونجاسة الآخر ملاق، فإن العلم الاجمالي لما لم يقتض الاجتناب عنه
كان لاستصحاب نجاسة الملاقى أثر عملي مصحح لجريانه، وليس الأثر
المذكور منافيا للعلم الاجمالي ليمنع من جريانه، بخلاف ما لو كان لكل منهما
ملاق، لان العلم الاجمالي الملاقيين مانع من جريان الأصل في الطرفين لعين
الملاك المتقدم.
نعم، يجري الأصل في الطرفين معا في مثل من توضأ بمايع مردد بين
الماء والبول، فإن أثر الأصل في كل طرف لا ينافي العلم الاجمالي عملا ليمنع
من جريانه، ولا يستند له ليلغو جريانه.
وبالجملة: لابد في جريان الأصل من ترتب العمل عليه بنحو لا يترتب
على العلم، ولا ينافيه عملا، إذ لو كان مترتبا على العلم كان التعبد بالأصل لغوا،
وإن كان منافيا له كان العلم مانعا منه لحجيته ذاتا، ولا يختص ذلك بما إذا لزم
الترخيص في المعصية، بل ليس محذور الترخيص في المعصية إلا من
صغريات ذلك.
ثم إن سيدنا الأعظم قدس سره قد رتب على ذلك أنه لو علم إجمالا بحرمة شئ
واستحباب آخر امتنع الرجوع لأصالة البراءة في محتمل الحرمة وسائر القواعد
النافية للتكليف عقلية كانت أو شرعية، لان العلم الاجمالي بيان على الواقع
مصحح للعقاب على مخالفته.
وقد ذكر ذلك في مباحث خلل الوضوء من مستمسكه (1).
وكأن الوجه في ذلك: أن حجية العلم الاجمالي في المقام تقتضي تنجيز
المعلوم بالاجمال على إجماله، فيجب الفراغ عن الحرمة التي يحتمل انطباق
المعلوم بالاجمال عليها، لتنجزها بذلك، ويمتنع مع ذلك الرجوع للقواعد

(1) راجع ج: 2 المسألة: 42 و 44 من فصل شرائط الوضوء.
206

الظاهرية المرخصة فيها.
وفيه: أن العلم الاجمالي وإن كان حجة ومقتضيا للعمل - كما تقدم - إلا أنه
مع فرض وجود مشترك في مقام العمل بين الأطراف فهو إنما يقتضي
العمل بالنحو المشترك بينها، لأنه المتيقن، لا بالنحو المختص ببعضها، ليمنع
من الأصل المنافي له.
فحيث كان وجوب الإطاعة عقلا من شؤون الحكم الإلزامي المعبر عنه
بالتكليف، ورجحانها من شؤون الحكم الاقتضائي وإن لم يكن إلزاميا فالعلم
الاجمالي إن تعلق بوجوب أحد أمرين أو حرمته اقتضى وجوب الإطاعة
لاحراز موضوعها، وإن تعلق باستحباب أحد أمرين أو كراهته اقتضى رجحانها،
وإن تعلق بوجوب أمر أو حرمته واستحباب آخر أو كراهته لم يكن وجه
لاقتضائه وجوب الإطاعة، لعدم العلم بموضوعه - وهو التكليف - بل ينبغي
الاقتصار على رجحانها، للعلم بتحقق موضوعه، وهو الحكم الاقتضائي الأعم،
وحينئذ لا وجه لمنع العلم الاجمالي المذكور من الرجوع للقواعد الظاهرية
الشرعية والعقلية المقتضية للترخيص ورفع الحرج بالإضافة لاحتمال التكليف
بعد فرض تحقق موضوعها وهو الشك.
هذا، وقد صرح قدس سره في مباحث خلل الصلاة (1) بأن العلم الاجمالي
في الفرض المذكور لا يكون بيانا على التكليف فلا يمنع من الرجوع لقاعدة قبح
العقاب بلا بيان، إلا أنه يمتنع معه الرجوع للأصل الشرعي - كأصالة الحل - لان
مفاده حكم طريقي، والعلم الاجمالي - كالعلم التفصيلي - رافع لموضوع الحكم
الطريقي، للزوم التناقض ونقض الغرض وغير ذلك مما يمنع من جعل الحكم

(1) راجع المسألة: 21 من ختام خلل الصلاة ومقتضى ما حكى عن نسخته المخطوطة إن هذا الوجه هو
الذي بنى عليه أولا، وانه قد عدل عنه إلى ما سبق. (منه، عفى عنه).
207

الظاهري مع العلم.
وفيه: أن العلم الاجمالي إن كان منجزا لاحتمال التكليف في الفرض كان
رافعا لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، كما ذكره قدس سره أولا.
وإلا لم يمنع من الرجوع للأصل الشرعي النافي له، كما في سائر موارد
جعل الحكم الظاهري الملازم لاحتمال مخالفة الحكم الواقعي غير المنجز.
والحاصل: أن عموم حجية العلم الاجمالي في الأحكام التكليفية وغيرها
إنما يمنع من الرجوع للأصول الشرعية والعقلية مع منافاتها عملا لمقتضى العلم
الاجمالي، لا في مثل المقام مما كان العلم الاجمالي قاصرا عن اقتضاء العمل
بنحو ينافي الأصل.
ومن هنا قد يتجه ما ذكره السيد الطباطبائي قدس سره في العروة الوثقى من أنه لو
توضأ المكلف وضوئين، وصلى بعد أحدهما فريضة وبعد الآخر نافلة، وعلم
إجمالا بالحدث بعد أحد الوضوئين بالنحو المستلزم لبطلان إحدى صلاتيه،
فلا تجري قاعدة الفراغ، لا في الفريضة ولا في النافلة، بل تجب إعادة الفريضة
وتستحب إعادة النافلة. وأقره على ذلك جماعة من المحشين المعاصرين.
للفرق بأن قاعدة الفراغ لا تختص بالفريضة، بل هي كما تقتضي عدم
وجوب الإعادة فيها تقتضي عدم استحبابها في النافلة، فتنافي العلم الاجمالي
المذكور عملا، وكذا الحال في سائر الأصول المنافية عملا لمقتضى العلم
الاجمالي، سواء كانت من سنخ واحد - كالاستصحابين - أم من سنخين إذا
فرض التعارض بينها في الأطراف. بخلاف أصل البراءة فإنه مختص
بنفي التكليف، فلا ينافي العلم الاجمالي في الفرض المتقدم، لأنه لا يقتضي
الالزام، كما ذكرنا.
لكن الفرق المذكور إنما يمنع من جريان قاعدة الفراغ بناء على أن مفاد
الأصول والقواعد الترخيصية الظاهرية - ومنها قاعدة الفراغ - إثبات الرخصة
208

مطلقا ومن جميع الجهات، بنحو تنافي العلم الاجمالي المقتضي للعمل، حيث
لابد حينئذ من قصور أدلتها تخصيصا أو تخصصا عن شمول الأطراف، أما بناء
على ما سبق من أن مقتضى أدلة الأصول جعل مضمونها من ترخيص أو غيره
من حيثية موضوعها وهو الشك، لا مطلقا، فلا تنافي العمل بالعلم الاجمالي، فلا
مانع من جريان قاعدة الفراغ في المقام.
وتوضيحه: أن المقتضي للإعادة أمران:
الأول: قاعدة الاشتغال في كل من الصلاتين، لأن الشك إنما هو في امتثال
التكليف والفراغ عنه بعد إحرازه.
الثاني: العلم الاجمالي ببطلان إحدى الصلاتين المستلزم للعلم بثبوت
أحد الحكمين.
وليس مفاد قاعدة الفراغ إلا إهمال الشك من الحيثية الأولى، وأن الشك
في الامتثال لا يعتنى به من حيثية كونه شكا بعد الفراغ، وهو لا ينافي الإعادة من
الحيثية الثانية، وهي حيثية العلم الاجمالي.
وحيث عرفت أن العلم الاجمالي بثبوت الوجوب أو الاستحباب لا
يقتضى تنجيز احتمال الوجوب بنحو يلزم بالعمل، بل هو حجة في إثبات أصل
المشروعية والحكم الاقتضائي بالمعنى الأعم، المقتضى لرجحان العمل وحسن
الاحتياط، فلا مجال للبناء في المقام على لزوم إعادة الفريضة، بل غاية الامر
رجحان إعادة كل من الصلاتين.
وبعبارة أخرى: وجوب إعادة الفريضة في المقام إن كان من جهة العلم
الاجمالي، فقد عرفت أنه لا ينجز احتمال الوجوب في مثل ذلك.
وإن كان من جهة قاعدة الاشتغال للشك في الامتثال مع إحراز التكليف،
فلا مجال لها مع عموم أدلة قاعدة الفراغ المقتضية لالغاء الشك المذكور في كل
من الصلاتين وعدم وجوب الإعادة من حيثيته، وقد تقدم أن ذلك لا ينافي
العمل بالعلم الاجمالي من حيثيته. فتأمل جيدا.
209

المقام الثاني: في الموافقة القطعية
والمعروف المشهور وجوبها في المقام، وعن بعض دعوى الاجماع
عليه، وإن كان القول بجواز تركها والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية محكيا عن
بعض، وليس هو شاذا كإنكار حرمة المخالفة القطعية.
وكيف كان، فجواز ترك الموافقة القطعية..
إما أن يكون لدعوى: قصور العلم الاجمالي عن اقتضائها.
أو لدعوى وجود المانع بعد فرض تمامية اقتضائه لها في نفسه.
أما الأولى فيظهر اندفاعها مما تقدم في مباحث القطع، من أن العلم
الاجمالي كالعلم التفصيلي في التنجيز، وما تقدم في التمهيد لمحل الكلام من أن
تنجيز التكليف يقتضي بحكم العقل لزوم إحراز الفراغ عنه المساوق لوجوب
الموافقة القطعية، وهو المراد بقاعدة: (ان الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ
اليقيني.
وقد يظهر خلاف ذلك، مما حكاه شيخنا الأعظم قدس سره عن المحققين
الخونساري والقمي قدس سرهما حيث ذكرا في دوران الواجب بين أمرين أن الدليل إذا
دل على وجوب شئ معين في الواقع مردد عندنا - كما في اختلاف الأمة على
قولين - حرم ترك كلا الامرين، للعلم بحصول العقاب به، وجاز الاكتفاء
بأحدهما في الخروج عن العقاب، لعدم الدليل على وجوب الجمع بينهما
حينئذ.
بل ذكر المحقق القمي قدس سره أن التكليف بالامر المجمل على إجماله مستلزم
لتأخير البيان عن وقت الحاجة الذي اتفق أهل العدل على استحالته.
نعم، ذكرا أنه لو فرض دلالة الدليل على وجوب الشئ المعين في الواقع
من دون اشتراطه بشئ من العلم كان الواجب الاحتياط بالجمع بين
المحتملين.
210

إلا أن المحقق القمي قدس سره قال: (ولكن من أين هذا الفرض وأنى يمكن
إثباته؟).
وظاهرهما أن وجوب الموافقة القطعية هو المحتاج إلى الدليل، وأن
مجرد التكليف إجمالا لا يقتضيه، بل غاية ما يقتضي المنع عن المخالفة القطعية.
ولا يخفى اضطراب كلامهما، كما أطال شيخنا الأعظم قدس سره في تعقيبه، فإنه
إن كان مرادهما أن الأصل في الواجب أن يكون مشروطا شرعا بالعلم، وأن
التكليف به على إجماله محتاج إلى دليل.
فيدفعه: أن أخذ العلم في الواجب وإن كان ممكنا في الجملة، ولو بنحو
نتيجة التقييد، إلا أنه خلاف إطلاق الأدلة، وخلاف ظاهر أدلة الأصول، كما أشرنا
إليه في المقام الأول، بل خلاف الاجماع المدعى على اشتراك الاحكام بين
العالم والجاهل.
وعليه يكون الأصل في الواجب عدم الاشتراط بالعلم، من دون حاجة
إلى دليل خاص ليتسنى إنكاره من المحقق القمي قدس سره.
وإن كان المدعى أن الواجب شرعا وإن كان مطلقا، إلا أن العلم به على
إجماله لا يقتضي تنجيزه عقلا بالنحو المقتضي لوجوب الفراغ عنه.
فهو مخالف لما عرفت من عدم الفرق بين العلم الاجمالي والتفصيلي في
التنجيز بالنحو المقتضي لوجوب الامتثال، ووجوب إحرازه عند الشك فيه عقلا.
ودعوى: أنه لما كان العلم الاجمالي عبارة عن العلم بوجوب أحدهما
فهو لا يقتضي إلا تنجيز أحدهما بالنحو المقتضي لعدم تركهما معا، دون ما زاد
عليه من الخصوصية، لعدم المنجز لها بعد الجهل بها، فالامتثال بأحد الأطراف
إطاعة قطعية للتكليف المنجز، وإن كان إطاعة احتمالية للتكليف الواقعي.
مدفوعة: بأن تنجيز العلم على حسب الواقع المعلوم، والمفروض أن
التكليف المعلوم مشتمل على إحدى الخصوصيتين، فالخصوصية معلومة على
211

إبهامها إجمالا، فيلزم إحراز الفراغ عنها.
وليس التكليف المعلوم واردا على أحدهما، ليتنجز أحدهما معرى عن
الخصوصية، وإلا كان علما تفصيليا بوجوب أحد الامرين، كما في الواجب
التخييري، لا علما إجماليا، كما هو المفروض.
هذا، مضافا إلى أن ما ذكره المحقق القمي قدس سره في وجه امتناع التكليف
بالامر المجمل من استلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة مناف لما ذ كراه من
فرض دلالة الدليل على وجوب الش ء المعين من دون اشتراطه بالعلم، الظاهر
في إمكانه ثبوتا وإن احتاج في مقام الاثبات إلى الدليل.
مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة - لو فرض كونه علة تامة في القبح
بحيث لا يرتفع قبحه بالمزاحمة - مختص بالاجمال الناشئ من قبل الشارع،
دون ما ينشأ من الطوارئ الخارجية كظلم الظالمين، وكذب المفترين، وخطأ
الرواة والمجتهدين.
بل لا يبعد اختصاصه بما يوجب توهم خلاف الواقع في مقام العمل،
كالعام المراد به الخصوص، دون ما لا يوجب إلا إجمال الحال، الموجب للتخير
بدوا، ثم الرجوع للقواعد العقلية والشرعية المقتضية للبراءة أو الاحتياط، كما
في الا مقام.
اللهم إلا أن يكون المراد بتأخير البيان عن وقت الحاجة الإشارة إلى قبح
العقاب من غير بيان، فيراد بوقت الحاجة ما يساوق التنجيز المصحح للعقاب.
لكن يشكل حينئذ: بأنه يكفي في البيان الرافع للقبح المذكور العلم
الاجمالي، بعد ما عرفت من منجزيته عقلا بالنحو المقتضي لوجوب الموافقة
القطعية.
وبالجملة: ما ذكراه لا يرجع إلى محصل ظاهر يمكن الركون إليه
في الخروج عما ذكرنا من تمامية المقتضي لوجوب الموافقة القطعية في المقام.
212

وأما الثانية، فلا منشأ لها إلا توهم كون ذلك مقتضى أدلة الأصول بعد
امتناع جريانها في تمام الأطراف، فاللازم النظر في صلوح أدلة الأصول لذلك
وعدمه.
وتوضيحه: أنه تقدم في التمهيد لمحل الكلام أن وجوب الموافقة
القطعية راجع إلى حكم العقل بأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني،
المعبر عنه ب‍ (قاعدة الاشتغال)، وأن رفع اليد عنه بالاكتفاء بالموافقة الاحتمالية
يتوقف على أحد أمور..
الأول: رفع موضوع القاعدة المذكورة، إما برفع فعلية التكليف في فرض
الشك في امتثاله، بحيث يكون الشك المذكور رافعا للتكليف على تقدير عدم
امتثاله، أو برفع تنجيزه حينئذ.
الثاني: تحقيق مقتضاها بالتعبد بما يحرز الامتثال، بنصب الطريق إليه أو
جعل الأصل العملي فيه.
وكأنه إلى هذا يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من جواز الترخيص في
بعض أطراف العلم الاجمالي بنحو جعل البدل الظاهري، بأن يكون مراده به
التعبد بأنه الحرام المعلوم بالاجمال الذي يكون امتثاله بمراعاته، وأن الطرف
المرخص فيه غيره.
وإلا فلا معنى لجعل البدل الظاهري بمجرد تحريم أحد الطرفين
والترخيص في الآخر، مع المحافظة على لزوم إحراز الفراغ الذي هو مقتضى
قاعدة الاشتغال، بل لازمه عدم لزوم إحراز الفراغ اليقيني، مع أن ظاهره
المفروغية عن لزومه وعدم جواز الخروج عنه.
وبعبارة أخرى: تفسير جعل البدل بما ذكرنا وإن كان هو صريح كلام
213

بعضهم، إلا أن كلام شيخنا الأعظم قدس سره غير صريح فيه (1)، بل قد يظهر منه أنه
عبارة عن مجرد المنع من بعض الأطراف والترخيص في بعضها، وإنما يتعين
حمل كلامه على ما ذكرنا بضميمة ظهور كلامه في لزوم إحراز الفراغ، وهو لا
يحرز بمجرد المنع عن بعض الأطراف، بل لابد من ابتنائه على ما ذكرنا.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الترخيص في بعض الأطراف - ولو
لاختصاص الأصل الشرعي المرخص لبعضها - يستلزم بدلية الآخر قهرا، وانه
كاف في تحقق الفراغ التعبدي الذي هو مقتضى قاعدة الاشتغال نظير الفراغ
التعبدي بمقتضى قاعدة التجاوز والفراغ.
فيندفع: بأن مجرد الترخيص من دون نظر للمعلوم بالاجمال لا يرجع إلى
التعبد بالفراغ عنه، لوضوح أن الفراغ عن التكليف متفرع عنه ووارد عليه، فلابد
من نظر دليل التعبد بالفراغ للتكليف الذي يراد الفراغ عنه وامتثاله، كما ذكره
شيخنا الأستاذ.
أما مجرد الترخيص من دون نظر للتكليف المنجز ولا شرح لاجماله فهو
عبارة أخرى عن الترخيص في المخالفة الاحتمالية، والردع عن وجوب
الموافقة القطعية الذي يأتي الكلام فيه، وهو راجع إلى رفع اليد عن مقتضى
قاعدة الاشتغال لا تحقيق مقتضاها. فلاحظ.
الثالث: الردع عن وجوب إحراز الامتثال والاكتفاء بالامتثال الاحتمالي،
بناء على ما تقدم منا من أن حكم العقل بلزوم إحراز الامتثال اقتضائي قابل
للردع.
أما الأول فلا مجال لاستفادته من أدلة الأصول، لما تقدم في المقام الأول،
من أنها واردة في مقام تنجز التكليف وجعل الوظيفة العملية فيه بعد الفراغ عن

(1) ربما يستظهر هذا من بعض كلماته قدس سره فراجع. (منه عفي عنه).
214

فعليته ثبوتا.
كما تقدم أيضا امتناع الردع عن منجزية العلم الاجمالي كالتفصيلي، لأنها
من شؤون حجيته الذاتية. ولا سيما مع ظهور بعض أدلة الأصول في المفروغية
عن حجية العلم.
وكذا الحال في الثاني، لوضوح أن أدلة الأصول ظاهرة في رفع التكليف
الواقعي في مقام التنجيز، وهو يقتضي رفع التكليف في تمام الأطراف بمقتضى
عموم أدلتها، بعد فرض تحقق موضوعها فيها، وهو يستلزم جواز المخالفة
القطعية، ولا نظر فيها للمعلوم بالاجمال والتعبد بتعيينه في بعض الأطراف
لتكون مراعاته امتثالا تعبديا للمعلوم بالاجمال محققا لمقتضى قاعدة الاشتغال،
بل ذلك محتاج إلى بيان آخر نظير أدلة القرعة الظاهرة في رفع الاجمال لها.
وأين ذلك من مفاد أدلة الأصول الظاهرية؟!.
إن قلت: احتمال الحلية في أطراف العلم الاجمالي ليس كاحتمالها في
موارد الشبهة البدوية، فإن احتمالها في موارد الشبهة البدوية في عرض واحد،
فيكون مفاد أدلة الحل والبراءة الترخيص فيها كذلك.
أما احتمالها في أطراف العلم الاجمالي فهو بنحو آخر، لان احتمال
الحلية في كل منها راجع إلى احتمال الحرمة في الآخر، فإعمال أدلة البراءة
والحل في كل منها كما يقتضي الترخيص فيه يقتضي البناء على الحرمة في
الآخر، ولا يقتضي الترخيص في الجميع ليستلزم المخالفة القطعية. بل يكون
المحصل من ذلك هو البناء على حرمة أحد الأطراف تخييرا. وربما يكون ذلك
هو مراد شيخنا الأعظم قدس سره في تقريب جعل البدل الظاهري في المقام.
قلت: هذا الوجه لو تم لا يقتضي دلالة أدلة الأصول على جعل البدل
الظاهري في أطراف العلم الاجمالي، لما عرفت من لزوم ابتنائه على التعبد
بتعيين المعلوم بالاجمال المستلزم للتعبد بتحقق الامتثال بمراعاة بعض
215

الأطراف، كي لا يكون التعبد به منافيا للزوم إحراز الفراغ، وهذا الوجه لا يتضمن
إلا مجرد الترخيص في بعض الأطراف والمنع عن بعضها، من دون أن يتضمن
تعيين المعلوم بالاجمال، لعدم النظر في أدلة الأصول إلى تعيين الواقع المجهول
وشرحه، كما أشرنا إليه.
وتوهم: أن التعبد بالحرمة ظاهرا في بعض الأطراف تخييرا وإن لم
يوجب تعيين المعلوم بالاجمال، إلا أنه موجب لانحلال العلم الاجمالي وعدم
تنجيزه، وهو كاف في المقام.
مدفوع: بأن العلم الاجمالي إنما ينحل بالتعبد بالتكليف في بعض
الأطراف تعيينا، لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال على مورد التعبد الموجب
لعدم الأثر للتكليف المعلوم بالاجمال.
أما التعبد بالحرمة تخييرا فلا يكفي في حل العلم الاجمالي، للعلم بعدم
انطباق موضوع التعبد على المعلوم بالاجمال بعد فرض قيام المعلوم بالاجمال
بإحدى الخصوصيتين بعينها.
بل الترخيص الظاهري في كل منهما تخييرا مناف للتكليف المعلوم
بالاجمال فيمتنع، ولذا لا يكون التحريم التخييري الواقعي مانعا من منجزية
العلم الاجمالي، ولا يوجب انحلاله، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد إنائي زيد،
وكان زيد قد منع من شرب أحدهما وأجاز شرب الآخر تخييرا.
هذا بناء على رجوع الوجه المذكور إلى التعبد بالترخيص والمنع
التخييريين، أما بناء على ما يأتي من أنه لابد من رجوعه إلى المنع عن أحدهما
والترخيص في الآخر تعيينا لكن بشرط الاختيار، فيكون الاختيار بين الشكين
شرطا في المنع التعييني لا من آثار المنع التخييري، فالتعبد بالمنع المذكور وإن
كان صالحا لحل العلم الاجمالي، إلا أنه لا يصلح لحل العلم الاجمالي في المقام،
لتأخره عنه العلم الاجمالي رتبة وزمانا، لوضوح أن اختيار إعمال دليل الأصل
216

في أحد الشكين متأخر عن حدوث الشك، وحيث أن الشك بالوجه المذكور
من لوازم العلم الاجمالي، يكون التعبد متأخرا عن العلم الاجمالي ولا يصلح
لحله. فتأمل جيدا.
هذا كله مع أن الوجه المذكور غير تام في نفسه..
أولا: لأنه إن أريد به التلازم بين احتمال الحل في بعض الأطراف
واحتمال الحرمة في بعضها الآخر، فهو مسلم، للتلازم بين المحتملين، إلا أن
ذلك لا يخرج عن الأصل المثبت.
وإن أريد به وحدة الاحتمال، فيد فعه: أن المعيار في وحدة الاحتمال
وحدة المحتمل، ومن الظاهر تعدد المحتملين، وهما الحل والحرمة، وتعدد
متعلقيهما.
مع أن وحدة الاحتمال لا تكفي في إثبات حرمة الطرف الآخر بعد أن كان
مفاد أدلة الحل والبراءة البناء على الحل والسعة لا غير، فإن اللازم الاقتصار على
مفاد دليل التعبد، ولا إطلاق له يقتضي التعبد بمؤدى الاحتمال المذكور من
جميع الجهات حتى جهة الحرمة في الطرف الآخر.
وثانيا: لان ظاهر أدلة الحل والبراءة البناء على الحل والسعة مع احتمالها
في جميع مواردهما بنحو العموم الاستغراقي، وهو يقتضي في المقام التعبد في
كل طرف بالضدين، فيتعين سقوط العموم فيهما معا.
وحمله في المقام على التخيير بين الاحتمالين لا دليل عليه ولا يناسبه
لسان دليل الجعل. ومجرد امتناع الاستغراق هنا لا يعينه ما لم يكن أقرب عرفا
من غيره بنحو يعين العرف حمل الاطلاق عليه، وليس الحال كذلك في المقام.
وتوهم قياسه على ما إذا علم بعدم وجوب الجمع بين فردين من أفراد
العام ودار الامر بين خروجهما معا وخروج أحدهما تخييرا، كما لو وجب إكرام
العلماء، وعلم بعدم وجوب الجمع بين إكرام زيد وعمرو، واحتمل وجوب
217

إكرام أحدهما تخييرا، فإنه يجب البناء عليه، اقتصارا في مخالفة العموم على
المتيقن.
مدفوع: بالفرق بين المقامين، فإن الامر في المقيس عليه يدور بين خروج
الفردين عن العموم رأسا وبقائهما معا مع تقييد الحكم فيهما بما يناسب
التكليف التخييري، والثاني أقرب إلى العمل بالعام.
أما في المقام فلا مجال للحكم التخييري، لوضوح أنه يلزم في الحكم
الظاهري أن يكون قابلا للانطباق على الحكم الواقعي، بنحو يحتمل إصابته له،
وحيث كان المعلوم بالاجمال هو التكليف التعييني فلابد من كون التعبد
المفروض بحكم تعييني أيضا، وحيث كان التعبد في كلا الطرفين كذلك
مستلزما للتعبد بالضدين - كما ذكرنا - وتطبيق العام على أحدهما بخصوصه
ترجيحا بلا مرجح، تعين خروج كلا الفردين عن عموم العام بدوا.
ولابد أن يكون مرجع التخيير في المقام إلى كون اختيار المكلف لاحد
الطرفين شرطا لانطباق العموم عليه، فلا يكون الموضوع محض الشك، بل
الشك مع الاختيار.
ومن الظاهر أن أخذ الاختيار في موضوع الحكم محتاج إلى مؤنه زائدة
غير عرفية.
فالمقام نظير عموم الحكم الوضعي - كالنجاسة ونحو ها مما لا يقبل
الوجود التخييري - لو فرض تعذر عمومه لفردين، فإن إمكان العمل به في
أحدهما مشروطا باختياره وإن كان ممكنا، إلا أنه ليس عرفيا، فلا يحمل عليه
العموم.
بل الأقرب عرفا البناء في مثل ذلك على شمول العام لكل منهما اقتضاء
مع عدم فعلية حكمه لأجل المحذور المذكور.
نعم، لو دل الدليل الخاص على الرجوع للتخيير كان متعينا، كما ورد في
218

من تزوج أختين أو خمسا في عقد واحد (1)، على كلام لا مجال لاستقصائه.
إن قلت: أدلة الأصول وإن لم تنهض بتعيين المعلوم بالاجمال، وجعل
البدل فيه، لعدم النظر فيها إلى الواقع، إلا أنه لما كان الترخيص في أطراف العلم
الاجمالي ممتنعا إلا بجعل البدل، الراجع إلى تعيين المعلوم بالاجمال في بعض
الأطراف ولو بسبب بناء المكلف عليه واختياره له، كان مقتضى عموم أدلة
الأصول للأطراف ثبوت اللازم المذكور شرعا، وجعل البدل وإن لم يكن
مقتضى أدلة الأصول مطابقة، إلا أنها تدل عليه بدلالة الاقتضاء تصحيحا
لجريانها في الأطراف الذي هو مقتضى عمومها.
وربما يحمل كلام شيخنا الأعظم قدس سره في تقريب جعل البدل على ذلك.
فراجع.
قلت: جعل البدل بالنحو المذكور لا يصحح جريان الأصل، بل يمنع عنه،
لأنه مع فرض إحراز المعلوم بالاجمال في بعض الأطراف يتعبد بعدم التكليف
في الآخر، فلا يحتاج معه للأصل الظاهري الترخيصي، بل هو نظير الأصل
المسببي الذي لا يحتاج إليه مع الأصل السببي.
نعم، لو فرض الشك في ثبوت التكليف فيه زائدا على المعلوم بالاجمال
احتيج للأصل. لكنه لا يتوقف على جعل البدل، بل يجري بدونه وإن لم يترتب
عليه الأثر بسبب لزوم الاجتناب من جهة العلم الاجمالي.
هذا، مع أنه إذا توقف عموم العام لفرد على إعمال عناية زائدة على حكم
العام فلا تنهض أصالة العموم بإثبات العناية المذكورة تصحيحا لعمومه له.
خصوصا مع كون مقتضى ذلك في المقام هو الترخيص التخييري بالوجه
المتقدم، وظاهر العام هو الشمول لتمام الأطراف بنحو الاستغراق، إذ لا منشأ

(1) الوسائل، ج 14، باب: 4 من أبواب ما يحرم المصاهرة، ح 1 و 2.
219

لحجية أصالة العموم إلا بناء العقلاء، وهو غير ثابت في مثل ذلك.
بل الأقرب عندهم البناء على تحقق مقتضي حكم العام مع عدم فعليته،
لأجل المانع المفروض، كما تقدم.
نعم، لو فرض ورود الترخيص في خصوص بعض أطراف العلم
الاجمالي تعين حمله على جعل البدل بالوجه المذكور لو فرض انحصار إمكان
الترخيص به، رفعا للغوية، ويكون مفاده مباينا لمفاد الأصل، بل يكون نظير
القرعة الرافعة لاجمال المعلوم.
وبالجملة، لا مجال لاستفادة جعل البدل من أدلة الأصول، كما لا مجال
لحملها على التعبد بتحقق الامتثال المعلوم بالاجمال، الذي هو مقتضى قاعدة
الاشتغال.
وأما الثالث - وهو الردع عن وجوب الموافقة القطعية والاكتفاء بالامتثال
الاحتمالي - فهو وإن كان ممكنا بناء على ما سبق منا، إلا أنه لا مجال لحمل أدلة
الأصول الترخيصية عليه لانصرافها لبيان رفع التكليف عملا، الراجع إلى عدم
منجزية الاحتمال له، لا الترخيص في مخالفته الاحتمالية بعد فرض المنجز له
من علم ونحوه.
إن قلت: هذا قد يتم في مثل التكليف التحريمي لو فرض بقاء الابتلاء
بجميع أطرافه، للعلم حينئذ ببقائه، أما التكليف الوجوبي مع الامتثال الاحتمالي
ببعض أطرافه، أو التحريمي لو طرأ ما يوجب سقوط التكليف عن بعض أطرافه
لخروجه عن محل الابتلاء أو انعدامه - كما لو أريق أحد الانائين - فلا يعلم ببقائه
حينئذ، بل يكون مشكوكا، ومقتضى أدلة البراءة رفعه ظاهرا وإن لم يقطع
بموافقته، وهو مستلزم لعدم وجوب إحراز الفراغ عنه والترخيص في مخالفته
الاحتمالية على خلاف مقتضى قاعدة الاشتغال.
قلت: المنصرف من الشك في أدلة الحل والبراءة وغيرهما هو الشك في
220

أصل ثبوت التكليف الذي لا منجز معه عقلا، لا الشك في ثبوت التكليف
الناشئ من احتمال امتثاله أو سقوط التكليف عنه بعد فرض المنجز له، فإن
تنجيزه حينئذ بالعلم السابق الذي لا يمكن الردع عنه، لا بالشك لتنهض الأصول
برفع تنجيزه.
نعم، يمكن للشارع الردع عن امتثاله اليقيني بعد فرض تنجزه بالعلم وقد
ذكرنا عدم نهوض أدلة الأصول بذلك.
وبالجملة: أدلة الأصول المذكورة مسوقة مساق قاعدة قبح العقاب بلا
بيان لا بنحو تنافي قاعدة الاشتغال، ولذا لا يتوهم اقتضاؤها نفي التكليف
المحتمل امتثاله مع العلم التفصيلي به، كما نبه له بعض الأعيان المحققين قدس سره.
ومن ثم لا يكون ما دل على الاعتناء بالشك قبل تجاوز المحل أو قبل
خروج الوقت من سنخ المخصص لأدلة الأصول المذكورة.
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن ما يصحح الاكتفاء بترك الموافقة
القطعية بين ما يمتنع جعله في المقام وما لا تنهض أدلة الأصول به، فيتعين
لذلك البناء على وجوبها، كما في العلم التفصيلي.
بقي الكلام في ثمرة ذلك، فاعلم: أن حرمة المخالفة القطعية إنما تمنع من
العمل بالأصل الترخيصي مع تحقق موضوعه في جميع الأطراف، لامتناع العمل
به في جميعها، لأنه مستلزم للمخالفة القطعية، وفي البعض المعين، لأنه ترجيح
من غير مرجح، وفي البعض المخير، لامتناع التخيير في الحكم الظاهري مع
عدمه في الحكم الواقعي، وعدم الدليل على أخذ الاختيار زائدا على الشك في
موضوع الأصل، كما تقدم عند الكلام في الوجه الأول من وجهي استفادة جعل
البدل من أدلة الأصول.
أما لو اختص موضوع الأصل الترخيصي ببعض الأطراف مع عدم جريان
أصل آخر لا ترخيصي ولا إلزامي فلا تصلح حرمة المخالفة القطعية للمنع من
221

العمل به، لعدم لزوم شئ من المحاذير السابقة، وإنما يمتنع ذلك بناء على وجوب الموافقة القطعية.
ومن ثم صرح غير واحد بامتناع جريان الأصل في الفرض - لو وقع -
خلافا لبعض الأعاظم قدس سره وبعض مشايخنا.
ودعوى: أن أدلة الأصول وإن لم تنهض بالترخيص في المخالفة
الاحتمالية والردع عن وجوب الموافقة القطعية، إلا أن ذلك لما كان ممكنا عقلا -
كما تقدم - لم يصلح وجوب الموافقة القطعية للمنع من جريان الأصل
الترخيصي في بعض الأطراف معينا في الفرض المذكور، بل مقتضى عموم دليل
الأصل جواز الرجوع إليه وإن لزم منه المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم
بالاجمال، فهو وإن لم يكن مسوقا للردع عن وجوب الموافقة القطعية إلا أنه
يستفاد منه ذلك تبعا.
مدفوعة: بأن مفاد الأصل ليس إلا رفع منجزية الاحتمال وجعل السعة من
حيثية الشك، فهو لا يقتضي إلا الترخيص في الطرف بخصوصيته من الحيثية
المذكورة، وهو لا ينافي لزوم الاحتياط فيه من حيثية وجوب الموافقة القطعية
للتكليف المعلوم بالاجمال بعد فرض عدم ثبوت الردع عنه.
نعم، لو كان مفاد الأصل الترخيص مع الشك مطلقا ومن جميع الجهات
بنحو ينافي وجوب الموافقة القطعية تم ما ذكر.
إلا أنه تقدم عند الكلام في المخالفة القطعية أنه لا مجال لحمل أدلة
الأصول على ذلك.
وبعبارة أخرى: المستفاد من الأدلة كون موضوع الأصل حيثية تقتضي
الترخيص، كما أن العلم الاجمالي حيثية تقتضي الالزام، وعند اجتماعهما تقدم
الحيثية الثانية في مقام العمل، ولا وجه لكون حيثية الأصل رادعة عن مقتضى
حيثية العلم الاجمالي بعد عدم كون مفاد الأصل الترخيص من جميع الجهات
222

بنحو يمنع من تأثير الحيثيات الأخرى.
نعم، لو فرض كون مقتضى الأصل الشرعي أو العقلي في بعض الأطراف
معينا هو تنجز احتمال التكليف، كان موجبا لانحلال العلم الاجمالي - كما يأتي
توضيحه إن شاء الله تعالى - فلا يكون منجزا للمعلوم بالاجمال بنحو يمنع عن
المخالفة القطعية، فضلا عن المخالفة الاحتمالية، فيتجه العمل بالأصل
الترخيصي في بعض الأطراف بلا إشكال.
ومنه يظهر حال ما ذكره بعض مشايخنا من النقض على من يدعي امتناع
جريان الأصل في بعض الأطراف..
تارة: بما إذا علم إجمالا بملاقاة النجاسة لاحد إنائين أحدهما متيقن
النجاسة سابقا.
وأخرى: بما إذا علم المكلف إجمالا بأنه لم يأت بإحدى الصلاتين، إما
صاحبة الوقت أو التي مضى وقتها، حيث أنه في الأول لا إشكال في جريان
أصالة الطهارة أو استصحابها في الاناء الذي لا يعلم نجاسته سابقا، وفي الثاني لا
ريب في جريان قاعدة الحيلولة في التي مضى وقتها، وإن لزم منهما المخالفة.
الاحتمالية.
فإنه يندفع: بانحلال العلم الاجمالي في الأول باستصحاب النجاسة في
متيقنها سابقا، وفي الثاني بقاعدة لزوم الاعتناء بالشك قبل خروج الوقت
بالإضافة إلى صاحبة الوقت، فلا منجز فيهما للمعلوم بالاجمال حتى يجب
الفراغ عنه.
ونظير ذلك: ما لو كان ثبوت التكليف في بعض الأطراف من آثار نفيه في
الطرف الآخر شرعا، بحيث يكون الأصل النافي فيه صالحا للتعبد بالتكليف في
صاحبه، كما لو احتمل واجد مقدار الاستطاعة ثبوت دين في ذمته يمنع منها،
حيث يعلم إجمالا بوجوب أحد الامرين من الحج ووفاء الدين، إلا أن
223

استصحاب عدم تحقق الدين لما كان منقحا للاستطاعة التي هي موضوع وجوب الحج كان موجبا لانحلال العلم الاجمالي المذكور.
هذا، وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره في وجه إمكان جريان الأصل
الترخيصي في بعض الأطراف معينا لو اختص به موضوعه..
تارة: من كونه موجبا لكون الطرف الآخر بدلا قهريا عن المعلوم
بالاجمال وبه يحصل الفراغ التعبدي عنه.
وأخرى: من كونه موجبا لانحلال العلم الاجمالي، لان العلم الاجمالي
كما ينحل بالمنع من بعض الأطراف، ينحل بالترخيص في بعضها، لان الأصل
النافي يوجب التأمين عن الطرف الذي يجري فيه، ويبقى الطرف الآخر بلا
مؤمن.
فيندفع بكلا وجهين..
أما الأول، فلان الترخيص في بعض الأطراف لا يكفي في كون الآخر بدلا
عن المعلوم بالاجمال، ولا في حصول الفراغ التعبدي، ما لم يكن ناظرا للمعلوم
بالاجمال وشارحا له، كما تقدم في أول الكلام في جعل البدل.
وأما الثاني فلان الأصل الجاري في بعض الأطراف إنما يوجب التأمين
عنه من حيث كونه مشكوكا، ولا يوجب التأمين عن التكليف المعلوم بالاجمال
المنجز في نفسه بعد عدم نظره إليه ولا شرحه لاجماله.
بل الطرف المذكور من ناحية المعلوم بالاجمال كالطرف الآخر الذي لا
يجري فيه الأصل، فإن الاقدام على كل منهما موجب لاحتمال الوقوع في
مخالفته، فمع فرض تنجز المعلوم بالاجمال، ولزوم إحراز الفراغ عنه يتعين
الاجتناب عن كلا الطرفين، المستلزم لعدم العمل بالأصل الترخيصي الجاري
في بعض الأطراف.
هذا، مضافا إلى اختلاف مبنى الوجهين، لابتناء الأول على منجزية العلم
224

الاجمالي مع اقتضاء الأصل التعبد بالامتثال الذي هو مقتضى قاعدة الاشتغال،
وابتناء الثاني على عدم منجزية العلم الاجمالي بسبب انحلاله، فلا موضوع
للقاعد ة.
ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من أن العلم الاجمالي لا يزيد على العلم
التفصيلي، فكما يجوز أن يكتفي الشارع مع العلم التفصيلي بالامتثال الاحتمالي
- كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز - كذلك يجوز له الاكتفاء به مع العلم
الاجمالي بطريق أولى.
لاندفاعه: بأنه إن أريد من الاكتفاء بالفراغ الاحتمالي التعبد بالفراغ في
ظرف الاحتمال - كما يظهر منهم في مورد قاعدة الفراغ - فقد تقدم عدم صلوح
الأصل له. وإن أريد به الاكتفاء به مطلقا ولو مع عدم التعبد بالفراغ فهو وإن كان
ممكنا - كما تقدم منا - إلا أن أدلة الأصول لا تنهض به، كما عرفت.
هذا، مضافا إلى النقض على ذلك بما أشار إليه بعض الأعاظم قدس سره، وهو ما
لو علم إجمالا بنجاسة أحد إنائين أحدهما متيقن الطهارة سابقا دون الآخر، فإن
استصحاب الطهارة في متيقنها يعارض بأصالة الطهارة في الآخر، وبعد
تساقطهما تتعارض أصالة الطهارة في الأول مع أصالة الحل في الآخر، وبعد
تساقطهما تجري أصالة الحل في الأول بلا معارض، فيلزم جواز ارتكابه، مع أنه
لا مجال للالتزام به.
وقد أجاب قدس سره عن ذلك: بأن ملاك التعارض بين الأصول لما كان هو
تعارض مؤدياتها وما هو المجعول فيها وكان مفاد استصحاب الطهارة وأصالة
الطهارة واحدا لزم سقوطهما معا بالمعارضة لأصالة الطهارة في الاناء الآخر.
ومجرد حكومة الاستصحاب في مورد ه على قاعدة الطهارة لا يوجب
سقوط استصحاب الطهارة أولا، ثم انفراد أصالة الطهارة فيه بالجريان.
ومن ثم ذكر قدس سره أنه لم يعثر على مورد لجريان الأصل في بعض الأطراف
225

دون الآخر.
لكن ما ذكره قدس سره لا يناسب مسلكه في تقدم الأصول الحاكمة على
المحكومة، كما ذكره شيخنا الأستاذ (دامت بركاته).
ولا ينبغي تطويل الكلام في ذلك بعد ما تقدم مما يقتضي المنع عن
العمل بالأصل في الفرض.
بقي الكلام في ما نقله شيخنا الأعظم قدس سره عن بعضهم من الرجوع للقرعة
في المقام.
فاعلم: أنه لا ريب في صلوح القرعة لتمييز المعلوم بالاجمال وشرحه
بنحو يرجع إلى التعبد بالامتثال في بعض الأطراف، الذي هو مقتضى قاعدة
الاشتغال، والذي تقدم أن جعل البدل راجع إليه.
ولا فرق في ذلك بين كونها من الطرق وكونها من الأصول، لان الأصل
إنما لا يصلح لتشخيص المعلوم بالاجمال إذا تمحض في تشخيص الوظيفة
العملية من دون نظر للواقع، أما إذا كان ناظرا إليه وواردا لشرحه فاللازم العمل به
على حسب مقتضاه.
ولعله لذا ورد الارجاع للقرعة في مورد العلم الاجمالي في ما روي عن
محمد بن عيسى عن الرجل عليه السلام، أنه سئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة،
قال: (إن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسمها نصفين أبدا حتى يقع
السهم بها فتذبح وتحرق وقد نجت ساير ها) (1).
هذا، ولم ينقل شيخنا الأعظم قدس سره القول بالرجوع للقرعة إلا في الشبهة
الموضوعية التحريمية، وربما يتعدى عنها للشبهة الموضوعية الوجوبية، وأما
الشبهة الحكمية فقد ادعى المحقق الخراساني قدس سره الاجماع على عدم الرجوع

(1) الوسائل، ج 16، باب: 4 من أبواب الأطعمة المباحة، ح: 1.
226

فيها للقرعة، وظاهر غير واحد ممن تأخر عنه التسالم على ذلك.
ويشهد به المعلوم من سيرة الأصحاب في الأصول والفقه من عدم كون
القرعة من أدلة الاحكام.
وحينئذ يقع الكلام في وجه الرجوع إليها في الشبهات الموضوعية
خروجا عما عرفت من القاعدة المقتضية للاحتياط، وهو موقوف على النظر في
عموم أدلة القرعة ونهوضها بالحجية في المقام فنقول:
نصوص القرعة على طوائف ثلاث..
الأولى: ما تضمن الارجاع لها في موارد خاصه، هي بين ما لا تعين فيه
للواقع، مثل من أوصى بعتق ثلث مماليكه (1)، أو نذر عتق أول مملوك يملكه
فملك أكثر من واحد (2)، وما يكون الواقع فيه متعينا في نفسه، إلا أنه تجري
فيه الأصول الشرعية أو العقلية، مثل ما لو وطأ الجارية جماعة فجاءت بولد (3)،
وما لو انهدمت الدار وبقي صبيان اشتبه الحر منهما بالعبد (4) وما يكون مجرى
لأصالة الاحتياط، كالرواية المتقدمة.
الثانية: ما تضمن تشريعها في موارد التنازع كما في صحيح عاصم بن
حميد عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام: (ليس من قوم تقارعوا ثم فوضوا أمر هم
إلى الله الا خرج سهم المحق) (5) وغيره.

(1) الوسائل، ج: 18، باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء، ح: 10 و 16.
(2) الوسائل، ج: 18، باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء، ح: 2 و 15.
وباب: 57 من أبواب العتق.
(3) الوسائل، ج: 18، باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء، ح: 10 و 14.
(4) الوسائل، ج 18، باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء، ح: 7 و 8
و ج: 17، باب 4 من أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليه.
(5) الوسائل، ج: 18، باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء، ح: 6.
227

الثالثة: ما تضمن تشريعها في المجهول، ولم أعثر له إلا على رواية محمد
بن حكيم (حكم. ج. ل) أو حسنته، سألت أبا الحسن عليه السلام عن شئ، فقال لي:
(كل مجهول ففيه القرعة)، فقلت له: إن القرعة تخطئ وتصيب قال: (كلما حكم
الله به فليس بمخطئ) (1).
وأما ما في بعض كلماتهم من ورود تشريعها في كل مشكل فلم أعثر عليه في
النصوص، ولعله متصيد من النصوص المتقدمة.
أما الطائفة الأولى، فهي مختصة بمواردها، ومجرد ورود بعضها في مورد
أصل الاحتياط لا يكفي في عموم الرجوع إليها في موارده والخروج عن القاعدة
المتقدمة، ولا سيما مع اختصاصها بصورة لزوم الضرر المالي المعتد به من
الاحتياط.
بل ما ورد في الانائين والثوبين المشتبهين كالصريح في عدم الرجوع
وأما الطائفة الثانية، فهي أجنبية عما نحن فيه، لوضوح عدم الرجوع في
شئ من موارد التنازع لقاعدة الاحتياط في فصل الدعوى ليتوهم منافاة تشريع
القرعة لذلك، لعدم جواز المطالبة ممن له الحق فيما لو اشتبه حقه بين أمرين
بمقتضى الاحتياط، لأنه أكثر من حقه.
وأما بقية الأصول - كالاستصحاب ونحوه - بل الامارات - كاليد والبينة
ونحوهما - فقد يدعى أن إطلاق أدلتها معارض لاطلاق هذه الطائفة، لان النسبة
بينها العموم من وجه، لاختصاص أدلة الأصول والامارات بخصوصيات
موضوعاتها - كالحالة السابقة في الاستصحاب والشك في التكليف في البراءة
وغيرهما - واختصاص هذه الطائفة بموارد التازع.

(1) الوسائل، ج: 18، باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء، ح: 11.
228

وربما يدفع: بأن ذكر تفويض الامر إلى الله تعالى في هذه الطائفة يوجب
اختصاصها بما إذا رضي الخصمان بالرجوع إليها، فهي نظير الصلح لا تشرع
بنحو الالزام حتى تكون في عرض الحجج والأصول، بل في ظرف رضا
صاحب الحق، فلو لم يرض وكان له أصل أو حجة تعضده لم يصلح دليلها لرفع
اليد عنه والزامه بها.
وفيه: أن ورود هذا المضمون من النبي صلى الله عليه وآله في مقام إمضاء ما فعله أمير
المؤمنين عليه السلام من إجراء القرعة بين المتنازعين، الظاهر في عدم استئذانه عليه السلام
منهم وعدم اصطلاحهم عليها، يوجب ظهوره في عدم اعتبار رضا الخصمين بها،
وأنها مشرعة بنحو يلزمان بها ولو لكون الحاكم قائما مقامها.
نعم، ذكر التفويض إلى الله تعالى ظاهر في أن الرجوع إليها في ظرف
الاحتياج إلى حكمه لعدم حكم له في الواقعة، فلا يشمل ما لو كان له تعالى حكم
فيها ظاهري أو واقعي مغن عن الرجوع إليها.
وإن شئت قلت: لا إطلاق لهذا اللسان يقتضي مشروعية القرعة في مطلق
صورة جهل الحق، بل هو منصرف إلى ما إذا لم يكن لمعرفته طريق شرعي
ظاهري أو واقعي، حتى يحتاج إلى تفويض الامر إليه تعالى وطلب كشف الحال
منه، فأدلة الطرق والأصول تكون واردة على العموم المذكور لا معارضة له، ولا
سيما مع عدم تضمن العموم المذكور الالزام بتفويض الامر إليه تعالى بالاقراع،
بل مجرد مشروعية ذلك، فلا ينهض بمعارضة أدلة الطرق والأصول الظاهرة في
الالزام بمؤدياتها. فلاحظ.
مضافا إلى ما هو المعلوم من ظهور أدلة أحكام المدعي والمنكر في عدم
الرجوع للقرعة مع فرضهما في مورد النزاع، لمطابقة قول أحدهما للحجة
ومخالفة الآخر لها، فلابد من اختصاص عموم القرعة بما إذا لم يكن هناك مدع
ومنكر، لمخالفة كلا المتنازعين للحجة، وهذا كاف في تقديم عمومات أدلة
229

الطرق والأصول على العموم المذكور. فتأمل جيدا.
وأما الطائفة الثالثة، فهي وإن كانت شاملة لما نحن فيه، إلا أن عمومها لكل
مجهول موجب لكثرة تخصيصها، لوجوب الخروج عنها في جميع موارد
الأصول الشرعية، لأنها أخص منها، وفي الشبهات الحكمية من موارد الأصول
العقلية، لما تقدم من تسالمهم على عدم الرجوع إليها في الشبهات الحكمية،
وفي كثير من موارد الاشتباه الاخر، كاشتباه درهم الودعي بين شخصين،
وميراث الغرقى والمهدوم عليهم والخنثى المشكل، واشتباه القبلة، والثوبين،
والإنائين المشتبهين وغير ذلك مما دل الدليل الخاص على عدم الرجوع فيه
للقرعة، وذلك يوجب طروء الاجمال على العموم المذكور بنحو يسقطه عن
الحجية، فلا يمكن الاستدلال به في ما نحن فيه.
ولا سيما مع إعراض الأصحاب عن العموم المذكور، واشتهار القول
بوجوب الاحتياط بينهم، وورود بعض النصوص به في بعض الموارد، مثل ما
ورد في الانائين المشتبهين، والثوبين المشتبهين، واشتباه القبلة، فإن ذلك كله
موهن للعموم المذكور ومانع من الخروج به عن مقتضى القاعدة التي عرفتها.
هذا تمام الكلام في مقتضى العلم الاجمالي بالتكليف. والحمد لله رب
العالمين.
230

تنبيهات
التنبيه الأول: فيما لو ثبت التكليف إجمالا بتعبد شرعي
إن من أهم المقدمات التي ابتنى عليها ما سبق من حرمه المخالفة القطعية
ووجوب الموافقة القطعية وامتناع جريان الأصول الترخيصية في الأطراف هو
حجية العلم الاجمالي الذاتية غير القابلة للتصرف الشرعي، وذلك مختص
بالعلم الاجمالي الحقيقي، ولا يجري في العلم الاجمالي التعبدي الراجع إلى
التعبد الشرعي بالتكليف ظاهرا في بعض الأطراف إجمالا، كما في موارد قيام
الطريق الشرعي على ثبوت التكليف في بعض الأطراف إجمالا، أو قيام الأصل
عليه، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الانائين ثم احتمل تطهيره، حيث يقتضي
الاستصحاب نجاسته.
فإن التعارض هنا بين الأصول الترخيصية الجارية في الأطراف
بخصوصياتها والطريق أو الأصل الإلزامي الجاري في البعض الاجمالي منها،
حيث قد يدعى أن رفع اليد عن عموم الأصل الترخيصي في بعض الأطراف
ليس بأولى من رفع اليد عن عموم حجية الطريق أو الأصل الإلزامي في بعضها
الاجمالي بعد فرض إمكانه لكونه تابعا للشارع، بل قد يدعى أولوية الثاني، لأنه
أقل تخصيصا.
وتوهم لزوم تقديم الطريق أو الأصل الإلزامي هنا بملاك التقدم الرتبي
المقرر في سائر الموارد من جهة الحكومة أو الورود، فكما يقدم الطريق أو
الاستصحاب على أصل البراءة، مع الاتفاق في الاجمال والتفصيل يقدم عليه
في المقام، وإن تحقق الاختلاف فيهما.
مدفوع: بأنه مع الاتفاق في الاجمال والتفصيل يتحد موضوع الطريق أو
231

الاستصحاب مع موضوع أصل البراءة مثلا، فيتجه تقديمهما عليه بملاك
الحكومة أو الورود، لدعوى ارتفاع موضوعه بسببه حقيقة أو تعبدا، على ما
يذكر في محله مفصلا.
ولا مجال لذلك مع الاختلاف في الاجمال والتفصيل، لاختلاف
الموضوع بسبب ذلك، فارتفاع موضوع الأصل الترخيصي بالإضافة إلى المعلوم
بالاجمال لا يستلزم ارتفاعه بالإضافة إلى كل طرف بخصوصه، كيف وقد تقدم
أن العلم الاجمالي الحقيقي لا يوجب ارتفاع موضوع الأصل في الأطراف
بخصوصيتها، فلابد أن يكون عدم جريان الأصل الترخيصي فيها لتخصيص
عموم دليلها، وليس هو بأولى من تخصيص عموم دليل حجية الطريق أو
الاستصحاب أو غيرهما مما يقتضي التعبد بالتكليف إجمالا، لاشتراكهما في
أصالة العموم.
على أن ذلك لو تم فلا مجال له لو كان الأصلان من سنخ واحد، كما لو
كان مقتضى الاستصحاب ثبوت التكليف في بعض الأطراف إجمالا، وعدمه في
كل طرف بخصوصه، إذ لا مجال لتوهم التقدم الرتبي حينئذ.
هذا، وقد حاول سيدنا الأعظم قدس سره توجيه تقديم دليل التكليف الاجمالي
على دليل الأصل الترخيصي في الأطراف لدعوى حكومته عليه، لان أصالة
الظهور إنما تجري في مورد يحتمل مطابقة مؤداها للواقع، ومع العلم بعدم
مطابقته للواقع يرتفع موضوعها، وإعمال أصالة الظهور في دليل التكليف
يوجب العلم بعدم مطابقة أصالة الظهور في دليل الأصل للواقع، لأنه يوجب
تنجيز التكليف عند العقل فيمتنع الترخيص في مخالفته، فيعلم بعدم مطابقة
ظهور دليل الأصل الترخيصي للواقع، فيرتفع موضوع حجيته.
أما إعمال أصالة الظهور في دليل الأصل الترخيصي فلا يوجب العلم
بعدم مطابقة دليل التكليف للواقع، وإنما يوجب سقوط ظهوره عن الحجية مع
232

بقاء موضوعه، وهو الشك، إذ المصحح للترخيص الظاهري عدم الحجة على
التكليف لا عدم التكليف واقعا.
وفيه: أن التنافي إن فرض بين نفس التعبدين فمن الظاهر أن كلا منهما لا
يوجب العلم بكذب الآخر، فكما لا يكون التعبد بالترخيص في كل طرف
بخصوصه موجبا للعلم بعدم التكليف الاجمالي، ولا مستلزما للعلم بكذب
التعبد به، كذلك لا يكون التعبد بالتكليف الاجمالي موجبا للعلم بثبوت
التكليف في كل طرف بخصوصه، ولا مستلزما للعلم بكذب التعبد بالترخيص
فيه، بل غاية الامر التنافي بين التعبدين عملا.
وإن فرض التنافي بين عمومي دليلي التعبدين، وهو عموم دليل حجية
الطريق أو دليل الأصل الإلزامي المقتضي للتعبد بالتكليف الإلزامي، وعموم
دليل الأصل الترخيصي، فمن الظاهر أن التنافي بين التعبدين يوجب امتناع
الجمع بينهما، فاعمال أصالة العموم في كل مستلزم للعلم بكذب أصالة العموم
في الآخر، بلا فرق بينهما في ذلك، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر.
وكلامه قدس سره مبني على فرض التنافي بين عموم التعبد بالأصل الترخيصي
ونفس مؤدى الطريق الدال على التكليف، حيث يكون إعماله موجبا لتنجيز
التكليف المانع من الترخيص في الأطراف، والموجب للعلم بكذب عموم دليله
فيها، فيرتفع موضوع أصالة العموم فيه، وهو الشك، ولا عكس، لان إعمال
عموم دليل الأصل الترخيصي لا يوجب العلم بكذب الطريق الدال على
التكليف.
ولكنه ليس بأولى من العكس، فيفرض التنافي بين عموم دليل التعبد
بالطريق - وهو دليل حجيته - ونفس مؤدى الأصل الترخيصي، فإن الترخيص
في الأطراف لما كان منافيا لتنجز التكليف الاجمالي فهو يوجب العلم بكذب
عموم دليل حجية الطريق الموجب له، فيرتفع به موضوع أصالة العموم فيه، أما
233

عموم حجية الطريق فهو لا يوجب العلم بكذب الترخيص في كل طرف
بخصوصه، بل يمنع منه مع تحقق موضوعه، وهو الشك، كما لعله يظهر بالتأمل.
هذا، ويتضح الوجه في تقديم التعبد بالتكليف الاجمالي بملاحظة ما
ذكرناه في وجه الجمع بين منجزية العلم الاجمالي وعموم الأصل الترخيصي
للأطراف، من أن الأصل إنما يقتضي الترخيص في كل طرف بخصوصيته من
حيثية موضوعه، وهو الشك المفروض فيه، وهو لا ينافي لزوم الاحتياط فيه
لحيثية أخرى، وهي حيثية تنجز المعلوم بالاجمال، فتنجز المعلوم بالاجمال لا
يوجب خروج الأطراف عن عموم دليل الأصل تخصيصا، بل يمنع من فعلية
الترخيص مع تحقق مقتضيه، فإن هذا نحو من الجمع بين دليل الأصل ومنجزية
العلم أولى من تخصيص عموم دليل الأصل وإهماله بالمرة.
فإنه بلحاظ هذا الوجه يتعين في المقام تقديم عموم دليل التعبد
بالتكليف إجمالا في مقام العمل على عموم دليل الأصل الترخيصي في
الأطراف، لان إعمال عموم دليل التعبد بالتكليف لا يوجب إهمال دليل الأصل
في الأطراف رأسا والخروج عنه تخصيصا، بل يوجب عدم فعلية العمل بالأصل
الترخيصي تحقق مقتضيه، أما العمل بعموم دليل الأصل الترخيصي في الأطراف
والبناء على فعلية مؤداه فهو مستلزم لاهمال دليل التعبد بالتكليف الاجمالي
رأسا والخروج عنه تخصيصا، إذ لو فرض تحقق مقتضيه كان مقدما عملا على
مقتضي الأصل الترخيصي عند اجتماعهما، والأول أقرب عرفا، لأنه نحو من
العمل بالدليلين، بخلاف الثاني.
234

التنبيه الثاني فيما لو اختلفت الأطراف حقيقة أو خطابا
لا فرق في منجزية العلم الاجمالي ومانعيته من الرجوع للأصول
الترخيصية بين اندراج الأطراف تحت حقيقة واحدة وعدمه، فكما يكون العلم
الاجمالي بنجاسة أحد المائين منجزا، كذلك يكون العلم الاجمالي بنجاسة
الثوب أو البدن منجزا.
خلافا لما حكاه شيخنا الأعظم قدس سره عن صاحب الحدائق مما ظاهره عدم
التنجز مع اختلاف الحقيقة، إذ لا وجه له بعد ما تقدم في وجه منجزية العلم
الاجمالي.
وقد أشار شيخنا الأعظم قدس سره إلى تفصيل آخر ربما يرجع ما تقدم عن
صاحب الحدائق إليه، وهو أنه لابد من رجوع التكليف في جميع الأطراف إلى
خطاب واحد معلوم تفصيلا - ولو مع اختلاف حقيقة الأطراف - كما في التردد
بين القصر والتمام الراجع إلى العلم بوجوب الصلاة، والتردد بين نجاسة الثوب
أو البدن الراجع إلى العلم بحرمة الصلاة في النجس.
أما لو دار الامر بين خطابين فلا يكون العلم منجزا، كما لو دار الامر بين
غصبية أحد الانائين ونجاسة الآخر، أو بين كون المايع الخاص خمرا وكون
الزوجة حائضا، بل وكذا لو علم بنجاسة الثوب أو الطعام، لان المعلوم بالاجمال
وإن كان أمرا واحدا - وهو النجاسة - إلا أنه في الثوب لا يكون موضوعا إلا
لحرمة الصلاة في النجس، وفي الطعام لا يكون موضوعا إلا لحرمة أكل النجس.
وربما يوجه: بأن منشأ تنجيز العلم الاجمالي هو شمول إطلاق دليل
التكليف للواحد المعلوم بالاجمال المردد بين الأطراف، وهو إنما يتم مع
اندراجهما تحت خطاب واحد، إذ مع التردد بين خطابين لا يعلم شمول إطلاق
كل منهما للمعلوم بالاجمال.
وفيه: أن إطلاق الخطاب إنما ينفع لاحراز التكليف المعلوم بالاجمال،
235

وهو مع تعدد الخطاب محرز أيضا، للعلم بشمول أحد الاطلاقين له، وذلك
وحده لا يكفي ما لم نقل بمنجزية العلم الاجمالي بالتكليف، فإن قلنا بذلك كفى
مطلقا، وإلا لم يتنجز التكليف حتى مع وحدة الخطاب، لوضوح أن الخطاب
الواحد ينحل إلى تكاليف متعددة بعدد الافراد. فالعلم بأحد فردين لخطاب
واحد راجع إلى العلم الاجمالي بأحد تكليفين، ولا يكون علما تفصيليا بتكليف
واحد.
وبالجملة: لا أثر لتعدد الخطاب ووحدته في منجزية العلم، ولذا لا ريب
في منجزية العلم التفصيلي بالتكليف وإن تردد المكلف به بين خطابين، كما لو
علم تفصيلا بحرمة أكل طعام خاص إما لكونه نجسا أو لكونه مغصوبا.
فالتفصيل المذكور لا يرجع إلى محصل ظاهر يخرج به عما عرفت من القاعدة
المقتضية للاحتياط في جميع موارد العلم الاجمالي بالتكليف.
التنبيه الثالث: في المعيار لترتيب الآثار
لما كان معيار منجزية العلم الاجمالي هو العلم بالتكليف المستتبع للعمل
فلابد من الاقتصار على الآثار التكليفية المتيقنة إجمالا، سواء كانت من سنخ
واحد كما في العلم بنجاسة أحد المائين، حيث يكون أثر كل منهما حرمة شربه
وبطلان الوضوء به وغيرهما، أم من سنخين، كما لو علم بغصبية الطعام أو
نجاسة الثوب، حيث يكون أثر الأول حرمة التصرف فيه، وأثر الثاني بطلان
الصلاة به.
وأما الأثر الوضعي فإن كان منتزعا من الأثر التكليفي كان طرفا للتنجيز،
كمانعية النجاسة من الوضوء أو الصلاة المنتزعة من تقييد الواجب بغير النجس،
لأنه يقتضي نحوا من العمل لا يترتب بدونه.
وإن كان مجعولا بنفسه - كنجاسة الملاقي وطلاق الزوجة ونحوهما - لم
236

يكن طرفا للتنجيز بنفسه، بل يكون التنجيز بلحاظ أثره التكليفي إن كان له أثر
فعلي، فلو لم يكن له أثر فعلي لم يصلح العلم للتنجيز، لعدم ترتب العمل عليه.
ومنه يظهر عدم منجزية العلم الاجمالي بنجاسة أحد الدرهمين مثلا،
لعدم الأثر لنجاستهما فعلا، ومجرد استلزامهما نجاسة اليد الملاقية برطوبة
المستلزم لبطلان الصلاة معها - مثلا - لا يكفي ما لم يكن ذلك فعليا.
وكذا لو دار الامر بين نجاسة أحد الامرين من اليد والدرهم، فإن الأثر
التكليفي وهو حرمة الصلاة في النجس لما كان مختصا باليد لم يكن معلوما
إجمالا ولم يصلح العلم للتنجيز، بل يجوز الرجوع لأصالة الطهارة في اليد.
هذا، ولا ريب ظاهرا في أنه لو اشتركت الأطراف في أثر واحد، أو امتاز
كل منها باثر وجب الاحتياط في الجميع، للعلم بثبوت ما به الاشتراك أو الامتياز
إجمالا.
وإنما الاشكال فيما لو اشتركت في بعض الآثار، وامتاز أحدها بخصوص أثر
له، كما لو علم الرجل إجمالا بأن أحد الثوبين حرير، والآخر من أجزاء ما لا
يؤكل لحمه، فإنهما يشتركان في المانعية من الصلاة، ويمتاز الحرير بحرمة
اللبس في غير الصلاة، فهل يتنجز الأثر المذكور أولا؟
ظاهر شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) عدم تنجزه، لان منجزية العلم
الاجمالي إنما هي بلحاظ الآثار التكليفية المتيقنة إجمالا، والمتيقن في المقام من
الآثار خصوص المشترك بين الأطراف، أما ما يختص به أحدها فحيث لا يختص
الآخر بما يقابله لا يكون طرفا لعلم إجمالي، بل يكون مشكوكا بالشك البدوي،
فلا مانع من الرجوع فيه للأصل.
وفيه: أن الأثر المشترك ليس عبارة عن تكليف تفصيلي يصلح لحل العلم
الاجمالي، كي يرجع في الزائد للبراءة، بل هو عبارة عن تكليف إجمالي مردد
بين الطرفين، لما هو المعلوم من انحلال التكاليف الكلية إلى تكاليف جزئية
237

متباينة في أنفسها حسب تباين أفراد موضوعاتها، فالامر في الحقيقة يدور بين
تكليف واحد في أحد الطرفين وتكليفين في الطرف الآخر أحدهما من سنخ
التكليف المحتمل في الطرف الأول والثاني مباين له سنخا، فكلا التكليفين
المحتملين في الطرف الآخر في عرض واحد من حيثية كونهما طرفا للعلم
الاجمالي.
ومجرد سنخية أحدهما مع التكليف المحتمل في الطرف الأول لا يوجب
خصوصيته في كونه طرفا للعلم الاجمالي المفروض، بحيث يكون التكليف
الآخر - الذي به الامتياز - خارجا عن العلم الاجمالي ومشكوكا بالشك البدوي،
ليرجع فيه إلى الأصل.
فالمقام نظير ما لو علم إجمالا بتكليف واحد في أحد الطرفين وتكليفين
في الطرف الآخر، كلاهما مباين سنخا للتكليف المحتمل في الطرف الأول، كما
لو علم إجمالا بنجاسة المسجد أو الماء، حيث لا أثر للأول إلا وجوب التطهير،
وأثر الثاني بطلان الوضوء به وحرمة شربه، فكما يكون بطلان الوضوء وحرمة
الشرب في ذلك معا طرفا للعلم الاجمالي لعدم المرجح بينهما، كذلك يكون
مانعية الصلاة وحرمة اللبس معا في المثال المتقدم طرفا للعلم الاجمالي.
ولا فرق في ما ذكرنا بين أن يكون دليل الأثر المشترك بين الأطراف
مختلفا، كالمثال المتقدم - حيث كان دليل مانعية لبس الحرير من الصلاة مباينا
لدليل مانعية ما لا يؤكل لحمه منها - وأن يكون واحدا كما لو علم إجمالا بنجاسة
أحد المائين المضاف والمطلق، حيث يمتاز المطلق ببطلان الوضوء به مع
اشتراكهما في عموم دليل واحد، وهو دليل حرمة فناول النجس.
وكذا لا فرق بين كون ما به الامتياز في بعض الأطراف مختلفا مع ما به
الاشتراك فيه دليلا، كالمثال المتقدم - لان دليل مانعية لبس الحرير في الصلاة
مباين لدليل حرمة لبسه على الرجل - وكونه متحدا معه دليلا، كما لو علم
238

المكلف بغصبية أحد الطعامين أو نجاسة الآخر، حيث يشتركان في حرمة
الاكل، ويمتاز الغصب بحرمة بقية التصرفات كالبذل للحيوانات، لوضوح أن
دليل حرمة أكل المغصوب هو دليل حرمة بقية التصرفات.
كل ذلك لعموم ما ذكرنا من الوجه، وهو كون الأثر المشترك معلوما
بالاجمال لا بالتفصيل، وطرف الترديد في الواجد للأثرين كلا الأثرين، لا
خصوص ما به الاشتراك منهما.
نعم، لو كان الأثر المشترك بين الاحتمالات التي هي طرف العلم
الاجمالي معلوما بالتفصيل لاتحاد المتعلق لم يتنجز إلا الأثر المشترك، وجاز
الرجوع للأصل الترخيصي في الأثر المختص ببعض الاحتمالات، لكون الشك
فيه بدويا بعد انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي، كما لو علم اجمالا بأن
ثوبا معينا إما حرير أو من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، فإن مانعيته من الصلاة معلومة
تفصيلا وليست طرفا لعلم إجمالي، فلا مانع من الرجوع لأصالة الحل في لبسه
في غير الصلاة.
وربما يحمل ما ذكره شيخنا الأستاذ على ذلك، لاختصاص أمثلته به، وإن
كان عنوان كلامه شاملا لما سبق أيضا.
هذا كله بناء على أن العلم الاجمالي يمنع من العمل بالأصول الترخيصية
حتى في بعض الأطراف بملاك اقتضائية الموافقة القطعية، كما تقدم، وأما بناء
على أنه لا يمنع من جريان الأصول إلا في تمام الأطراف، لاستلزامه المخالفة
القطعية. وأنه لا مانع من جريانها في بعض الأطراف لو فرض اختصاص
موضوعها به كما تقدم من بعض الأعاظم وبعض مشايخنا - فالامر يختلف عما
ذكرنا كثيرا، ففيما لو علم المحدث: نجاسة الثوب أو الماء لا أثر لنجاسة الثوب
إلا المانعية من الصلاة، وأثر نجاسة الماء المانعية من الوضوء وحرمة الشرب،
والمتعين تنجز جميع الآثار، للعلم إجمالا بامتناع الصلاة في الثوب، أو امتناع
239

الوضوء وحرمة الشرب للماء معا.
أما بناء على المبنى المشار إليه فلا تتنجز حرمة شرب الماء، لان العلم
الاجمالي وإن أوجب سقوط أصالة الطهارة في كلا الطرفين بالمعارضة، إلا أنه لا
يمنع من جريان أصالة الحل من شرب الماء، لعدم معارضتها بمثلها في الثوب،
إذ لا يحرم شرب النجس.
لكن بعض الأعاظم قدس سره مع جريه على المبني المذكور منع - في ما حكي
عنه - من الرجوع لأصالة الحل في الفرض. وهو مبني على ما سبق منه في آخر
الكلام في الموافقة القطعية من دعوى سقوط جميع الأصول المترتبة في بعض
الأطراف بالمعارضة للأصل الجاري في الطرف الآخر وإن كان واحدا، فتسقط
أصالة الطهارة والحل معا في الماء بالمعارضة لأصالة الطهارة في الثوب.
وقد أشرنا هناك إلى عدم مناسبة ذلك لمسلكه في تقدم الأصول الحاكمة
على الأصول المحكومة. فراجع.
أما بعض مشايخنا فهو وإن أنكر على بعض الأعاظم قدس سره ذلك، وحكم
بجواز شرب الماء، لما ذكرنا، إلا أنه التزم بنظيره فيما لو كان الأصل الجاري في
أحد الطرفين مغايرا سنخا للأصل الجاري في الطرف الآخر، كما لو علم إجمالا
بنجاسة أحد المائين أو غصبية الآخر، فإن الأصل الجاري في الأول هو أصالة
الطهارة، وفي الثاني أصالة الحل، وبعد تساقطهما تجري أصالة الحل في الأول،
دون الثاني.
لكنه منع من الرجوع لأصالة الحل في الأول، بدعوى: أنه لما كان المانع
من جريان الأصول في الأطراف منافاتها للعلم الاجمالي بالتكليف، فالعلم
الاجمالي كما ينافي مفاد أصالة الطهارة في الأول في ظرف اجتماعها مع أصالة
الحل في الثاني، كذلك ينافي مفاد أصالة الحل في الأول في ظرف اجتماعها مع
أصالة الحل في الثاني، لان الترخيص في كليهما ترخيص في المعصية، وفي
240

أحدهما بلا مرجح، سواء كان الترخيص بلسان أصالة الطهارة أم بلسان أصالة
الحل.
ولا يخفى أن ما ذكره من محذور اجتماع أصالة الحل في الأول مع أصالة
الحل في الثاني وإن كان تاما، إلا أن اجتماعهما لا وجه له، لسقوط أصالة الحل
في الثاني بالمعارضة مع أصالة الطهارة في الأول، المفروض جريانها في رتبة
سابقة على أصالة الحل في الأول، فلا يجري بعد ذلك إلا أصالة الحل في الأول
ولا يلزم منها المخالفة القطعية، ولا الترجيح من غير مرجح.
نعم، لو غض النظر في هذا المقام عن الترتب بين الأصلين - كما جرى
عليه بعض الأعاظم قدس سره اتجه ما ذكره.
لكن يلزمه موافقة بعض الأعاظم قدس سره في الفرع السابق، لوضوح أنه يعلم
إجمالا فيه بامتناع الصلاة في الثوب أو امتناع الوضوء بالماء مع حرمة شربه،
وحينئذ كما يكون الجمع بين أصالة الطهارة في الماء والثوب منافيا للعلم
الاجمالي، كذلك يكون الجمع بين أصالة الطهارة في الثوب وأصالة الحل في
الماء منافيا له، فلولا الترتب بين الأصلين في الماء وسقوط أصالة الطهارة في
مرتبة سابقة لم يكن وجه لما التزم به من جواز شرب الماء عملا بأصالة الحل.
وقد أطال في المقام بما لا حاجة إلى الإطالة فيه بعد ما تقدم من الضابط
على المبنيين، وضعف المبنى الثاني، فراجع وتأمل.
التنبيه الرابع: في أنه لابد من فعلية التكليف على كل حال
لما كان ملاك منجزية العلم الاجمالي هو العلم بالتكليف الذي هو
صغرى لكبري وجوب الإطاعة عقلا، فلابد من صحة الخطاب بالتكليف على
كل حال من دون فرق بين طرف وآخر، بنحو يستتبع وجوب العمل والإطاعة
عقلا.
241

فلو كان بعض الأطراف مبتلى بالمانع من فعلية التكليف - كالاضطرار
والتعذر والاكراه والحرج ونحوها - لم يصلح العلم الاجمالي لتنجيز التكليف
بالإضافة إلى الأطراف الاخر، لعدم العلم في الحقيقة بالتكليف الفعلي، بل
بمقتضي التكليف الذي هو لا يستتبع العمل ولا يكون منشأ للطاعة والمعصية،
وليس التكليف الفعلي في الطرف الخالي عن المانع إلا مشكوكا بالشك البدوي
غير المنجز، فيصح الرجوع فيه للأصل المرخص، لو فرض تحقق موضوعه
إن قلت: لا مجال لذلك في مثل التعذر، لأن الشك في التكليف راجع إلى
الشك في القدرة على امتثاله مع إحراز موضوعه ولو إجمالا، والمرجع مع الشك
في القدرة هو الاحتياط، وكذا الحال في الاكراه والحرج ونحوهما مما يلحق
بالتعذر شرعا، ويكون من سنخ العذر عرفا، حيث لا يصح الاعتماد على احتمال
العذر في إهمال التكليف، بل لابد من إحرازه، وهو غير محرز في المقام،
لاحتمال انطباق التكليف المعلوم بالاجمال على غير مورده.
قلت: المتيقن من وجوب الاحتياط مع الشك في القدرة ونحوها من
الاعذار هو وجوب السعي لتحصيل ما يحرز تحقق الامتثال به في ظرف الشك
في القدرة عليه، لا تحصيل ما يعلم بالقدرة عليه في ظرف الشك في تحقق
الامتثال به، كما في المقام، فإن الطرف غير الواجد لعنوان العذر يعلم بالقدرة
عليه ويشك في كونه محققا للامتثال.
وإن شئت قلت: وجوب الاحتياط إنما هو مع الشك في سعة القدرة، ولا
شك في ذلك في المقام، بل في حال المقدور.
هذا كله لو كان الشك في امتثال التكليف الواحد، كما لو وجب على
المكلف عتق رقبة مؤمنة، وعلم بأن إحدى الرقبتين اللتين يتعذر عليه عتق
إحداهما ويتيسر له عتق الأخرى مؤمنة، فإن التكليف وارد على العنوان المردد
242

طريق امتثاله.
أما لو تردد الامر بين تكليفين فالامر أظهر، كما لو علم بنجاسة أحد
الطعامين المكره على استعمال أحدهما، لوضوح أن حرمة استعمال النجس
تكليف انحلالي إلى تكاليف متعددة متباينة تبعا لتباين أفراد النجس، وليس
تكليفا واحدا قائما بالعنوان، فليس الشك في القدرة على امتثال التكليف، بل في
التكليف بالمقدور من الأطراف، والمرجع فيه البراءة بلا إشكال.
ثم إن شيخنا الأعظم قدس سره ذكر أن من جملة ما يمنع من فعلية التكليف عدم
الابتلاء بمتعلقه، بحيث يعد أجنبيا عن المكلف عرفا ويستهجن لوجيه
الخطاب إليه به.
ورتب على ذلك عدم منجزية العلم الاجمالي إذا كان بعض أطرافه
خارجا عن الابتلاء لما سبق في الحرج ونحوه.
وكلامه قدس سره في تحديد عدم الابتلاء لا يخلو عن غموض، لاختلاف سنخ
الأمثلة التي ذكرها له، لرجوعها إلى أقسام أربعة:
الأول: ما لا يكون فيه للامر المعلوم أثر تكليفي أصلا ولو تعليقيا، كوقوع
قطرة بول على ظهر حيوان، فإنه لا أثر لذلك حتى بالإضافة إلى الملاقي، لما هو
المعلوم من عدم نجاسة الحيوان مطلقا أو بعد زوال عين النجاسة، فالملاقي
لا ينجس إلا مع بقاء عين النجاسة، فيستند التنجيس لملاقاتها، لا لملاقاة ظهر
الحيوان.
الثاني: ما يكون له أثر تعليقي لا تنجيزي، كنجاسة ظهر الاناء، حيث لا
توجب تكليفا فعليا إلا أن يلاقي ما لنجاسته أثر تكليفي، كالثوب.
الثالث: ما لا يكون من شأن المكلف التعرض له، لوجود صوارف
خارجية عنه، وإن لم يخرج بذلك عن القدرة عقلا ولا شرعا، كنجاسة الأرض
التي ليس من شأن المكلف بحسب وضعه المتعارف التعرض للسجود عليها.
243

الرابع: ما يكون مورد التكليف فعلي مخرج له عن قدرة المكلف شرعا،
كتنجس إناء الغير، حيث يحرم استعماله مع قطع النظر عن ارتكابه.
ومن الظاهر أن الأول خارج عن محل الكلام، لان عدم التكليف فيه لعدم
الموضوع، لا لعدم الابتلاء.
وكذا الثاني، إذ التكليف التعليقي ليس موردا لانشغال الذمة، وفعلية
النجاسة ليست بنفسها موردا للتكليف.
نعم، لو علم بتحقق ما يوجب فعلية التكليف لم يبعد دخوله في محل
الكلام، ويبتني الكلام في منجزية العلم الاجمالي معه على ما يأتي في
التدريجيات إن شاء الله تعالى.
وأما الثالث فلا يبعد كونه المراد بعدم الابتلاء في كلام شيخنا الأعظم قدس سره
وأن ذكر غيره بناء منه على رجوعه إليه، وهو الظاهر من المحقق الخراساني قدس سره.
وقد وجه المحقق الخراساني قدس سره عدم فعلية التكليف معه: بأن الغرض من
النهي لما كان هو داعويته للمكلف نحو الترك فلا موقع له مع تحقق الترك من
المكلف بسبب عدم الابتلاء بالفعل عادة، لأنه يكون بلا فائدة ولا طائل، بل
يكون من قبيل طلب الحاصل.
ومن هنا فقد عم الحكم للامر، فاعتبر في فعليته إمكان ترك المكلف
للمأمور به عادة واستحكام الداعي إليه كان الامر به عبثا كالنهي في الفرض
السابق.
وبعبارة أخرى: لابد في صحة التكليف من صلوحه لاحداث الداعي في
نفس المكلف عادة نحو مقتضاه، فعلا كان أو تركا، فلو لم يصلح لذلك لتحقق
مقتضاه بحسب طبع المكلف وظروفه المحيطة به ولم يصلح التكليف لان
يحدث فيه شيئا كان التكليف مستهجنا عرفا، لعدم تحقق غرضه.
هذا، وقد ذكر بعض مشايخنا أن الغرض من التكاليف الشرعية ليس
244

مجرد حصول متعلقها في الخارج، بل هو مع صلوح الامر للداعوية، ليكون
مقربا للعبد، فتكمل نفسه، ولذا صح الزجر عما لا يوجد الداعي إلى فعله دائما
أو غالبا، كنكاح الأمهات، وأكل لحوم الانسان والقاذورات، ومن الظاهر أن عدم
الابتلاء بالمعنى المتقدم لا يمنع من صلوح التكليف للداعوية، بترويض النفس
على التعبد بالنهي المولوي وجعله داعيا ولو في عرض الدواعي الأخرى.
نعم، يتجه ذلك في التكاليف العرفية، إذ ليس الغرض منها إلا حصول
متعلقها في الخارج.
لكن لا يخفى أن ما ذكره من الغرض ليس مقوما للتكليف الذي يكون به
موضوعا لحكم العقل بوجوب الإطاعة وقبح المعصية، ومن ثم كان التقرب
المعتبر في العبادة قيدا في المأمور به مخالفا لاطلاقه، لا مقوما للتكليف.
نعم، هو أثر مناسب لمطلق المشروعية غير المختصة بالتكليف، بل لا
تختص بالتكاليف الشرعية، فإن انفتاح باب التقرب يجري حتى في التكاليف
العرفية، وإن امتازت التكاليف الشرعية بحكم العقل بحسن التقرب والتعبد
بالتكليف، لمناسبته لمقام العبودية، وكونه سببا لتطهير النفس ورقيها في
درجات الكمال.
وكيف كان، فهو لا ينفع في ما نحن فيه من منجزية العلم الاجمالي ولزوم
الخروج عنه بالاحتياط في أطرافه دفعا لضرر العقاب.
وأما الزجر عن الأمور المشار إليها فمن الظاهر أنه لم يرد الخطاب
الشخصي بها من الشارع الأقدس في حق من استحكم الداعي في نفسه لتحقيق
مقتضاها مع قطع النظر عنها، بل ورود الخطاب بها بنحو القضية الحقيقية، لبيان
الضوابط الشرعية العامة في حق جميع الناس، بمن فيهم من لم يستحكم في
نفسه الداعي المذكور، فلا تنافي عدم فعلية التكليف في مورد عدم الابتلاء، كما
لا تنافي عدم فعليته في حق العاجز.
245

ولا سيما مع أن استحكام الداعي في النفس قد يكون مسببا عن استهجان
العرف العام للفعل المسبب عن التكليف، ولولاه لم يستهجن الفعل حتى
يستحكم الداعي في نفس ذوي الشرف والمروءة إلى تركه، فإن مثل هذا مما
يوجب حسن الخطاب بالتحريم بوجه العموم، وإن امتنع فعليته في حق من
استحكم في نفسه الداعي.
على أن كثيرا من هذه الأمور لم يرد خطاب لفظي بها بالخصوص، بل هي
بين ما ورد الخطاب به في ضمن غيره مما لا يستحكم الداعي لتركه، وما دلت
الأدلة اللبية من الاجماع ونحوه على تحريمه، وهي لا تقتضي فعليته في حق من
استحكم الداعي في نفسه.
أما بعض الأعيان المحققين قدس سره فقد استشكل في ما سبق من المحقق
الخراساني قدس سره: بأن لازمه لغوية النهي في كل مورد يكون حصول الترك من جهة
تنفر الطبع على الاقدام على الفعل، ككشف العورة بمنظر من الناس، خصوصا
بالنسبة إلى أرباب المروءة، والكذب بالنسبة إلى أهل الشرف، وشرب الخمر
بالنسبة إلى كثير من الأشخاص، مع عدم إمكان الالتزام بذلك.
لكن لم يتضح الوجه في امتناع الالتزام بذلك، خصوصا مع عدم الأثر
العملي له إلا في مورد العلم الاجمالي، حيث يظهر الأثر بالإضافة إلى الأطراف
الواقعة تحت الابتلاء، ولم يتضح من المرتكزات العقلائية لزوم الاحتياط.
إلا أن يريد استهجان الخطابات العامة بالأحكام المذكورة، نظير ما تقدم
من بعض مشايخنا، وتقدم الجواب عنه.
فالأولى الاشكال في ما تقدم من المحقق الخراساني قدس سره بأن الغرض من
التكليف ليس هو إحداث الداعي في نفس المكلف، ولا تحصيل المتعلق في
الخارج، ولذا يحسن مع العلم بعدمهما بسبب المزاحمة بالقوى الشهوية
والغضبية المستحكمة في نفس المكلف المانعة من تأثير التكليف. فما ذكره
246

قدس سره في توجيه مدعاه غير تام.
والعمدة في وجهه: أن الغرض من التكليف هو جعل السبيل على
المكلف من قبل المكلف، بحيث يكون طرفا لمسؤوليته وتحميله كما ذكرناه في
حقيقة الإرادة التشريعية، وفي مبحث الجمع بين الاحكام الواقعية
والظاهرية، ولا يتضح بعد ملاحظة المرتكزات العقلائية صلوح الخطاب
لاحداث المسؤولية المذكورة مع استحكام الداعي في نفس المكلف، بحيث
يكون مخالفته لمقتضى التكليف على خلاف طبيعته الثانوية، وإن كانت ناشئة
من بعض الأسباب الخارجية، كصعوبة الفعل واستهجانه ونحوهما من
الصوارف في النهي، وشدة عادته له أو استحكام الداعي له في الامر، بل الظاهر
مع ذلك عدم انتزاع المسؤولية المقومة للتكليف، وبها يكون موضوعا لحكم
العقل بالطاعة والمعصية.
نعم، لا يكفي في ذلك مجرد تعلق الإرادة الفعلية على مقتضى التكليف،
لأسباب موقتة طارئة، فإن مجرد تعلق الإرادة لا ينافي السعة بالإضافة إليه،
فيصلح التكليف لرفع السعة المذكورة واحداث المسؤولية. فتأمل جيدا.
ثم إن بعض الأعاظم قدس سره جعل المعيار في عدم الابتلاء هو كون الفعل غير
مقدور عادة لبعد مقدماته وصعوبتها الموجبة لصعوبته، لدعوى اعتبار القدرة
العادية في المنهي عنه زائدا على القدرة العقلية، لان الغرض من النهي لما كان
هو ترك الفعل المنهي عنه لم يحسن الخطاب بترك ما يكون متروكا عادة، بل
كان مستهجنا للغويته.
ومن هنا خص اعتبار القدرة العادية بالمنهي عنه دون المأمور به، حيث
يصح التكليف بتحصيل ما لا يكون مقدورا عادة مع القدرة عليه عقلا لأهمية
ملاكه، بنحو يلزم تحصيله ولو مع صعوبته، نعم، يمكن التفضل شرعا برفعه،
كما في موارد الحرج ونحوه.
247

وفيه: - مع الغض عما عرفت من أن الغرض من التكليف ليس هو
حصول متعلقه في الخارج، بل جعل السبيل على المكلف - أن ذلك يقتضي
اعتبار عدم حصول الترك عادة لوجود الصارف النفسي ولو مع القدرة العادية
وسهولة تحصيل الفعل (1).
بل لو فرض عدم القدرة العادية على الفعل إلا أنه لم يوجب انصراف
المكلف عنه، بل تعلق له الغرض بتحصيل الفعل وتحصيل مشقته فلا إشكال
في حسن النهي عنه، لعدم تحقق الترك عادة لولا النهي.
على أن نظير ما ذكره في النهي ليس هو اعتبار القدرة العادية في فعل
المأمور به، ليصح الفرق بينهما بما تقدم، بل هو اعتبار القدرة العادية على ترك
المأمور به، فلو لم يكن تركه مقدورا عادة كان الفعل حاصلا مع قطع النظر عن
الامر به، فيكون الامر به عبثا مستهجنا كالنهي مع عدم القدرة العادية على الفعل.
وأضعف منه ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من اعتبار القدرة العادية
على الفعل في كل من الأمر والنهي، لا لأجل لزوم العبث واللغوية، بل لأجل
استهجان العرف للخطاب بالامر بالشئ أو النهي عنه مع كون المكلف أجنبيا
عنه عرفا، لعدم قدرته عليه بحسب العادة، ولذا يستهجن تكليف الفقير المعدم
تنجيزا بوجوب تزوج بنات الملوك وأكل طعامهم، كما يستهجن تحريمهما
عليه، بل لا يحسن التكليف بهما تحريما أو إيجابا إلا معلقا على الابتلاء.
إذ فيه: - مع ما عرفت من عموم ملاك الاستهجان وعدم إناطته بالتعذر
العادي - أنه لا مجال لتوهم امتناع الامر بما لا يقدر عليه عادة مع القدرة عليه
عقلا بتهيئة مقدماته له إن كانت بعيدة شاقه، وليس الحج في حق النائي إلا من

(1) يظهر مما حكاه عنه مقرر درسه عنه في آخر كلامه عدوله عما ذكره أولا من الضابط الذي
أشرنا إليه، وتعميمه الحكم لما إذا كان الفعل أجنبيا عن المكلف ولو مع القدرة العادية. فراجع. (منه،
عفي عنه).
248

ذلك، خصوصا في العصور السابقة التي كانت وسائط النقل فيها غير مريحة.
إلا أن يريد من عدم القدرة العادية ما يساوق عدم القدرة الفعلية لانسداد
طرق التحصيل وإن كان الفعل ممكنا ذاتا.
لكن عدم التكليف حينئذ ليس هو للاستهجان العرفي، بل للامتناع
العقلي، لاعتبار القدرة الفعلية بحكم العقل، ولا دخل لذلك بعدم الابتلاء الذي
هو محل الكلام.
ومنه يظهر أن تكليف الفقير المعدم بتزويج بنات الملوك وأكل طعامهم
إن كان مع قدرته عليهما فعلا ولو مع صعوبة المقدمات وكثرتها فهو غير
مستهجن، غاية ما في الامر أنه قد يكون حرجيا، وإن كان مع تعذرهما عليه فعلا
لانسداد المقدمات فهو ممتنع عقلا، كتكليفه بالجمع بين الضدين، والطيران في
الجو، وقلع الجبال الرواسي.
وقد تحصل: أن المعيار في عدم الابتلاء هو ما ذكره المحقق
الخراساني قدس سره، والوجه في عدم فعلية التكليف معه هو ما أشرنا إليه من عدم
قابلية الخطاب معه، لانتزاع المسؤولية عقلا بالنحو المقوم للتكليف، الذي هو
موضوع حكم العقل بوجوب الطاعة وقبح المعصية.
وعليه يترتب عدم منجزية العلم الاجمالي في ظرف عدم الابتلاء ببعض
الأطراف، لان ملاك التكليف وموضوعه وإن أحرز إجمالا، إلا أنه لا يحرز فعليته
بالنحو الذي ينتزع منه المسؤولية وانشغال الذمة عقلا الذي هو الموضوع
لوجوب الطاعة وقبح المعصية، لعدم فعلية التكليف بالنحو المذكور على تقدير
مصادفته لمورد عدم الابتلاء، فلا مانع من الرجوع في الطرف المبتلى به للأصل
الترخيصي، وهذا قريب جدا للمرتكزات العقلائية في التنجيز والتعذير.
ولعل سيرة المتشرعة شاهدة به، لعدم اعتنائهم ارتكازا بالتكليف
الاجمالي في المورد المذكور، ومن القريب جدا استناد هم في ذلك للمرتكزات
249

العقلائية المشار إليها.
هذا، ولو فرض الشك في ذلك فمن الظاهر أن الامر المذكور لما كان من
الأمور الوجدانية، فالشك فيه لا يكون إلا لاضطراب الوجدان، نظير شك
المصلي في أن العارض له شك أو ظن، وحينئذ لا يبعد البناء على عدم تنجز
التكليف، لأن الشك في المقام ليس في تقييد موضوع التكليف والخطاب
بالبعث والزجر بالابتلاء، ليرجع في نفيه للاطلاق، بل في انتزاع التكليف من
الخطاب مع عدم الابتلاء، بنحو يدخل في كبرى حكم العقل بوجوب الإطاعة
وقبح المعصية، وصلوحه لاحداث الداعي العقلي للعمل على طبقه، أو لا، بل
لابد في تنجز الداعي العقلي نحو العمل من الابتلاء.
ومن الظاهر أن ذلك أجنبي عن الشارع، ولا دخل له بالاطلاق، إذ ليس
مفاد الاطلاق إلا البعث أو الزجر التشريعيين على تقدير تحقق الموضوع، وهو
لا ينافي عدم انتزاع التكليف منه بالنحو المتقدم على تقدير عدم الابتلاء.
نعم، لما كان الغرض من الخطاب الفعلي هو تحقيق موضوع الداعي
العقلي كان مستهجنا في مورد لا يصلح لحكم العقل المذكور، فلو ورد في
خصوص مورد كشف عن صلوحه لاحداث الداعي العقلي دفعا له عن اللغوية
لو فرض عدم إمكان حمله على الخطاب التعليقي.
أما لو كان مطلقا شاملا لبعض الموارد الصالحة لحدوث الداعي العقلي
بنحو يكفي في رفع لغويته لم ينهض بالكشف عن صلوح بقية الموارد
المشمولة للاطلاق لحدوث الداعي العقلي مع الشك فيها - لعدم الابتلاء مثلا -
لعدم توقف رفع اللغوية على ذلك.
إن قلت: إطلاق الخطاب يقتضي فعلية التكليف تبعا لتحقق موضوعه في
موارد الشك في حدوث الداعي العقلي، وحيث كانت فعليته مستلزمة لصلوحه
لاحداث الداعي العقلي وإلا كان لغوا، كان الاطلاق حجة في اللازم المذكور.
250

قلت: الاطلاق إنما يكون حجة في نفي ما يحتمل دخله في موضوع
الحكم المجعول مما يكون من شأن الجاعل بيانه، وصلوح المورد لحدوث
الداعي العقلي ليس دخيلا في موضوع التكليف، ولا من شأن الشارع بيانه،
وإنما هو شرط في رفع لغويته، ولا ظهور للاطلاق في رفع اللغوية، وإنما هو من
لوازم الخطاب القطعية بضميمة حكمة المخاطب التي يكفي فيها ترتب الأثر
عليه في الجملة ولو بلحاظ بعض موارده، ولذا لا يكون الخطاب ظاهرا في
صلوح المورد لحدوث الداعي العقلي لو فرض عدم كون المخاطب حكيما، مع
كون الاطلاق ظاهرا في عموم موضوع الحكم وحجة له وعليه في ذلك.
وبعبارة أخرى: الشك في فعلية الحكم إن كان للشك في سعة موضوعه
أو نحوه مما يكون من شأن الشارع بيانه، كان المرجع فيه الاطلاق، وإن كان
لجهات اخر راجعة للعقل فلا دخل للاطلاق فيه، بل الاطلاق إنما يقتضي
الفعلية من حيثية الموضوع، لا من جميع الجهات ولو كانت خارجة عن وظيفة
الشارع.
إلا أن يفرض تصدي المتكلم لبيان الفعلية من جميع الجهات حتى
الخارجة عن وظيفته، فيكون الاطلاق ظاهرا حينئذ في ما يعم محل الكلام، لكنه
محتاج إلى قرينة خاصة ومؤنة زائدة لا يقتضيها طبع الكلام.
ولعل نظير ذلك ما ذكروه في مبحث الأصول المثبتة من أنه لو ورد التعبد
في مورد خاص بالأصل في أمر لا أثر له عملي إلا بواسطة عقلية، كشف عن
التعبد بالأثر المذكور دفعا للغوية، للغوية التعبد الظاهري مع عدم الأثر العملي.
ولا مجال لاستكشاف ذلك من إطلاق دليل الأصل لو فرض تحقق
موضوعه - كاليقين والشك في الاستصحاب - في ما لا أثر له إلا بواسطة عقلية، إذ
يكفي في رفع لغوية الاطلاق شموله لموارد كثيرة يكون فيها مجرى الأصل
موردا للأثر العملي بلا واسطة، أو بواسطة شرعية.
251

ومما ذكرنا يظهر الحال فيما لو فرض العلم بشرطية الابتلاء في تنجز
التكليف لكن شك في تحديد المرتبة المعتبرة منه.
فإنه لا مجال للرجوع في مورد الشك إلى إطلاق التكليف، كما يظهر من
شيخنا الأعظم قدس سره، لعين ما ذكرناه في فرض الشك في أصل شرطية الابتلاء.
ولعله إلى ما ذكرنا يرجع ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في حاشية
الرسائل في وجه امتناع التمسك بالاطلاق مع الشك في تحديد الابتلاء المعبر.
قال قدس سره: (إنما يجوز الرجوع إلى الاطلاقات في دفع قيد كان التقييد به في
عرضه ومرتبته، بأن يكون من أحوال ما أطلق وأطواره، لا في دفع ما لا يكون
كذلك، وقيد الابتلاء من هذا القبيل، فإنه بحكم العقل والعرف من شرائط تنجز
الخطاب المتأخر عن مرتبة أصل إنشائه، فكيف يرجع إلى الاطلاقات الواردة
في مقام أصل إنشائه في دفع ما شك في اعتباره في تنجزه؟!).
فلا مجال للايراد عليه..
تارة: بمنع كون الابتلاء بمتعلق التكليف - كالطعام والأرض ونحوهما -
من الانقسامات الثانوية اللاحقة له، بل هو من الانقسامات السابقة عليه التي
يمكن تقييده بها في الخطاب.
وأخرى: بعدم كونه من شروط تنجيز التكليف، لانحصار المنجز بما
يوصل التكليف علما أو تعبدا كالطريق والأصول، فراجع ما ذكره بعض الأعاظم
وبعض الأعيان المحققين قدس سرهما في المقام.
لاندفاع الأول: بأنه لا يريد كون الابتلاء من الانقسامات الثانوية وعدمه،
إذ لا إشكال في عدم ترتبه مفهوما على التكليف كالعلم به، بل هو كالقدرة مما
يمكن لحاظه في رتبة سابقة على التكليف.
بل يريد أن الشك ليس في تقييد موضوع التكليف الذي هو من وظيفة
الشارع، بل في توقف التنجيز على الابتلاء، ولما كان ذلك خارجا عن وظيفة
252

الشارع، بل هو من شؤون التكليف المتأخرة رتبة عن الخطاب، والثابتة له بحكم
العقل والعرف، فلا يكون الاطلاق حجة في نفيه، بل يمتنع الاطلاق والتقييد معا
بالإضافة إليه، لعدم كونه من شؤون الحكم الشرعية، بل من لواحقه العقلية،
كوجوب إطاعته.
واندفاع الثاني بأنه لا يريد بالتنجز ما يساوق الوصول وقيام الحجة، بل ما
يساوق صلوح الخطاب لاحداث الداعي العقلي وانتزاع التكليف المستتبع
لحكم العقل منجزا بوجوب إطاعته وقبح معصيته.
وكذا الحال في ما ذكره في الكفاية من أن التمسك بالاطلاق إنما هو فيما
إذا شك في التقييد بشئ بعد الفراغ عن صحة الاطلاق بدونه، لا في ما شك نجي
اعتباره في صحة الاطلاق.
فإن من القريب جدا رجوعه إلى ما ذكرنا من أن الشك في المقام في
لغوية الخطاب في مورد عدم الابتلاء، لعدم صلوحه لاحداث التكليف، لا في
تقييد التكليف مع صلوح المورد للاطلاق.
وحينئذ لا مجال لما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الاطلاق بنفسه يكشف
عن إمكان عموم الحكم لمورد الشك، وإلا لا نسد باب التمسك بالاطلاقات في
جميع موارد الشك، لاحتمال عدم ثبوت الملاك فيها المستلزم لامتناع عموم
الحكم لها.
فإنه إنما يتم لو كان مراد المحقق الخراساني قدس سره من امتناع الاطلاق امتناعه
بالغرض بسبب قصور الملاك المستلزم لوجوب التقييد عقلا.
أما لو كان مراده امتناعه لقصور المورد عن جعل الحكم المستلزم للغوية
الخطاب به من دون أن يحتمل التقييد - كما ذكرنا - فلا يرد عليه ذلك، لما تقدم
من أن الاطلاق إنما يكون حجة في نفي التقييد الذي هو من شؤون الشارع، لا
في تحديد اللغوية الذي يكون المرجع فيه العقل في مرتبة متأخرة عن
253

الخطاب.
هذا، وقد أطال بعض الأعيان المحققين قدس سره في توجيه مراده ودفعه بما لا
مجال لإطالة الكلام فيه بعد ما ذكرنا.
وكيف كان، فلا مجال للتمسك بالاطلاق لا مع الشك في أصل اعتبار
الابتلاء في التنجيز ولا مع الشك في تحديد الابتلاء بعد الفراغ عن اعتباره في
الجملة.
بل اللازم الرجوع للبراءة في الطرف الذي هو محل الابتلاء، لعدم ثبوت
المانع عنه، بعد توقف العقل عن الحكم بتنجز التكليف المعلوم بالاجمال،
بنحو يقتضي إيجاب الطاعة والمنع عن المعصية منجزا.
هذا، ولكن ذكر بعض الأعيان المحققين قدس سره لزوم الاحتياط في المقام،
لرجوع الشك في المقام إلى الشك في القدرة التي يجب فيها الاحتياط عقلا،
لعدم دخل الابتلاء في ملاك التكليف، بعد فرض تمامية الملاك وعدم دخل
القدرة العقلية والعادية فيه يستقل العقل بلزوم رعاية الملاك بالاحتياط وعدم
الاعتناء باحتمال الموانع الراجعة إلى قصور العبد عن الامتثال حتى يتحقق
العجز، ولا مجال في مثله لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لاختصاصها بما
إذا احتمل قصور المورد عن ملاك التكليف رأسا، وقد ذكر ذلك بعض
الأعاظم قدس سره أيضا.
إلا أن مقرر درسه حكى عنه العدول عنه، لاستلزامه وجوب الاحتياط
حتى فيما لو علم بخروج بعض الأطراف عن الابتلاء، لان ذلك لا يوجب العلم
بتحقق المسقط في مورد الملاك، لاحتمال تحقق الملاك في الطرف المبتلى به.
فلابد من الالتزام بأن الشك في الخروج عن الابتلاء لا يكفي في وجوب
الاحتياط، لان مجرد وجود الملاك لا يكفي في حكم العقل لزوم رعايته ما لم
يكن تام الملاكية.
254

وهذا راجع إلى ما أشرنا إليه في صدر هذا التنبيه من توهم أن احتمال
انطباق المعلوم بالاجمال على مورد الاضطرار أو التعذر يوجب دخوله في
الشك في القدرة الذي يجب فيه الاحتياط، وقد تقدم دفعه بما لا مزيد عليه وأن
القياس في غير محله. فراجع.
فالعمدة في الجواب عن الوجه المذكور وجهان:
الأول: أن وجوب الاحتياط مع الشك في القدرة إنما هو مع الشك في
تحقق القدرة بنحو الشبهة الموضوعية والعلم بسقوط التكليف معها، لا في مثل
المقام مما فرض فيه العلم بتحقق الابتلاء في الجملة والشك في مسقطيته، فإن
الشك المذكور نظير الشك في مانعية الموجود، لا نظير الشك في وجود المانع،
فإن أمكن الرجوع فيه لاطلاق التكليف - كما لو شك في مقدار الحرج المسقط -
فهو، وإلا كان المرجع البراءة.
الثاني: أن القدرة المعتبرة في التكليف..
تارة: تكون بمعنى القدرة على موافقته، في مقابل العجز عنها المستلزم
لفوت ملاكه.
وأخرى: تكون بمعنى القدرة على مخالفته في مقابل العجز عنها،
المستلزم لعدم الأثر العملي للتكليف من دون أن يفوت ملاكه.
ووجوب الاحتياط إنما يسلم مع الشك في القدرة بالمعنى الأول، حذرا
من تفويت الملاك المفروض التمامية مع عدم إحراز العذر المسوغ له.
اما الشك في القدرة بالمعنى الثاني فلا وجه لوجوب الاحتياط فيه، إذ لا
يحرز قابلية المورد للتكليف بسبب اللغوية المحتملة، كما لا يحرز فوت الواقع
حينئذ، أما مع العلم التفصيلي بالتكليف فواضح، وأما مع العلم الاجمالي
فلاحتمال كون مورد التكليف غير المقدور فلا يفوت، واحتمال كون مورده
المقدور ليلزم من عدم الاحتياط فيه فوته مدفوع بالأصل.
255

وبعبارة أخرى: الشك في المقام ليس في المسقط مع تمامية المقتضي
للتكليف، بل في صلوح المقتضي للتأثير، للشك في تحقق شرط اقتضائه،
فالفرق بينهما يشبه الفرق بين الشك في تحقق المانع مع العلم بالمقتضي،
والشك في تحقق شرط تأثير المقتضي، ووجوب الاحتياط في الأول لا يستلزم وجوبه في الثاني.
ومن الظاهر أن الشك في الابتلاء نظير الشك في القدرة بالمعنى الثاني، لا
بالمعنى الأول الذي لا إشكال في وجوب الاحتياط معه.
ومنه يظهر الحال في الشك في الابتلاء بنحو الشبهة الموضوعية لو
فرض، فإنه لا وجه لما يظهر من غير واحد من وجوب الاحتياط فيه، كما لا وجه
لما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره من قياسه على الشك في القدرة الذي
يجب فيه الاحتياط.
بل اللازم الرجوع معه للبراءة في الطرف الذي يعلم بالابتلاء به، لعدم
حكم العقل بمنجزية العلم الاجمالي فيه بعد عدم إحراز الابتلاء بالمعلوم
بالاجمال.
كما لا مجال لتوهم التمسك بإطلاق التكليف حينئذ، لما سبق. مضافا إلى
أنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. إلا أن يدعى جوازه مع كون
المخصص لبيا، كما في المقام.
لكنه في غير محله، كما حقق في مباحث العموم والخصوص.
وأما القسم الرابع من الأمثلة التي ذكرها شيخنا الأعظم قدس سره لعدم الابتلاء،
وهو ما يكون موردا لتكليف فعلي مخرج له عن قدرة المكلف شرعا، كتنجس
طعام الغير، حيث يحرم ارتكابه مع قطع النظر عن نجاسته، فقد وقع الكلام فيه
بين الاعلام.
وقد فصل فيه بعض الأعاظم قدس سره ما إذا كان المانع الشرعي في معرض
256

الزوال، كما لو كان المالك في مقام بيع العين وكان المكلف بصدد شرائها، وما
إذا لم يكن كذلك، فقرب منجزية العلم الاجمالي في الأول، لعدم قبح توجيه
التكليف بحرمة النجس - مثلا - في مثل ذلك، بخلاف الثاني، لقبح توجيه
التكليف مع عدم القدرة الشرعية وإن فرض تحقق القدرة العادية، لامكان مثل
السرقة، كما لا يجري الأصل الترخيصي فيه بعد عدم إمكان تطبيق العمل عليه
بسبب التكليف المعلوم بالتفصيل، فلا يعارض الأصل الجاري في الطرف
الآخر، بل يكون العمل عليه.
لكن لا يخفى أنه لو فرض كون القدرة الشرعية كالقدرة العادية شرطا في
فعلية التكليف لا يكون التكليف فعليا، بل تعليقيا، وقد تقدم في القسم الثاني أنه
لا يوجب انشغال الذمة فعلا، فلا مجال معه لمنجزية العلم الاجمالي، بل يمكن
الرجوع للأصل الترخيصي في الطرف الآخر.
ولعله لذا أطلق بعض مشايخنا مانعية التكليف في بعض الأطراف من
منجزية العلم الاجمالي.
نعم، لو علم بزوال المانع الشرعي اتجه البناء على منجزية العلم
الاجمالي، كما أشرنا إليه آنفا، ولا يكفي مجرد التوقع.
هذا، وقد أنكر بعض الأعيان المحققين قدس سره مانعية التكليف في بعض
الأطراف من منجزية العلم الاجمالي مطلقا.
وتوضيح ما أفاده: أن التكليف بشئ بعنوان لا يمنع من التكليف به
بعنوان آخر، بل يتعين تأكد التكليف الموجب لتأكد الداعي العقلي الذي هو
الملاك في منجزية العلم الاجمالي.
وما اشتهر من اعتبار القدرة الشرعية في متعلق التكليف كالقدرة العادية لا
دخل له بما ذكرنا، فإن ذلك إنما هو بمعنى لزوم القدرة الشرعية على موافقة
التكليف، فيمتنع تحريم ما هو واجب مثلا، لئلا يلزم التكليف بما لا يطاق، أما
257

بمعنى لزوم القدرة الشرعية على مخالفة التكليف، بأن يمتنع تحريم ما هو حرام
من جهة أخرى، فلاوجه له.
ولا مجال لقياسه على القدرة العادية، لان الوجه في اعتبار القدرة العادية
إنما هو لغوية التكليف بدونها، لعدم الأثر له في الداعوية العقلية، وذلك لا
يجري في القدرة الشرعية، إذ مع عدمها بسبب تكليف سابق لا يلغو جعل
التكليف الآخر، لصلوحه لتأكيد الداعوية بسبب تأكد ملاكها العقلي. وهو ضرر
العقاب المترتب على المخالفة.
كما أنه يمكن أن تجري الأصول الترخيصية والالزامية بالإضافة إلى
الجهة المشكوكة، ويترتب على ذلك استحقاق العقاب زائدا على عقاب الجهة
المعلومة وعدمه بالإضافة إليها.
وعليه لا مانع من جرجان الأصول الترخيصية في تمام أطراف العلم
الاجمالي في المقام، ووقوع المعارضة بينها، خلافا لما تقدم من بعض
الأعاظم قدس سره إذ ليس مفاد الأصل الترخيصي الترخيص من جميع الجهات، لينافي
فرض العلم التفصيلي بالتكليف في بعض الأطراف، بل الترخيص من حيثية
التكليف المشكوك لا غير، ومن الظاهر أن الأصل المذكور يترتب عليه الأثر في
الطرف المذكور، لاقتضائه المعذرية بالإضافة إلى التكليف الزائد وعدم
استحقاق العقاب من جهته، وهو كاف في رفع لغويته وصلوحه للمعارضة.
وبالجملة: مجرد كون أحد الأطراف موردا لتكليف تفصيلي لا يمنع من
كونه طرفا لعلم إجمالي صالح للداعوية العقلية مانع من جريان الأصول في
الأطراف.
نعم، لو لم يكن التكليف قابلا للتأكيد - كما قد يدعى في باب التنجس -
كان ابتلاء أحد الأطراف بالتكليف تفصيلا مانعا من منجزية العلم الاجمالي، بل
كان مانعا في الحقيقة من تحقق العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي - نظير ما تقدم
258

في القسم الأول - وأما المعلوم بالاجمال فليس هو إلا تحقق مقتضي التكليف
زائدا على التكليف المعلوم بالتفصيل في أحدهما.
لكن لا يبعد خروجه عن محل كلامهم. ولا أقل من عموم كلامهم لغيره،
كما يشهد به تمثيلهم بالعلم الاجمالي بنجاسة أحد الانائين المغصوب أحدهما.
هذا، والذي ينبغي أن يقال: التكليف بأحد الأطراف بخصوصه إن كان
مؤثرا في داعوية المكلف نحو امتثاله، لقيام الحجة عليه وخضوع المكلف
للتشريع المقدس اتجهت مانعيته من منجزية العلم الاجمالي، لعين ما تقدم في
القسم السابق، من عدم الأثر للتكليف الآخر بنحو يصحح انتزاع الكلفة، وجعل
السبيل الذي هو الملاك في تنجز التكليف المتقومة بداعوية العقل لامتثاله.
ومجرد تحقق مقتضيه وملاكه لا يكفي مع فرض عدم إحداثه الكلفة
بسبب تأثير التكليف الأول في فعلية الداعي في نفس المكلف وصرفه إلى
موافقته، كما يظهر بالتأمل في ما سبق.
أما لو فرض قصور التكليف التفصيلي عن التأثير في صرف المكلف
لتمرده وعصيانه فاللازم منجزية العلم الاجمالي.
وما تقدم من بعض الأعاظم قدس سره قد عرفت عدم نهوضه بالمنع.
ومثله ما لو كان قصوره عن الداعوية لعدم قيام الحجة عليه. وإن لم يبعد
خروجه عن محل كلامهم.
ومن هنا لا ريب بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية في أن المقدم على
تمام أطراف العلم الاجمالي التي يكون بعضها موردا لعلم تفصيلي مستحق
للعقاب من الجهتين، لا من خصوص جهة التكليف التفصيلي، وليس كالمقدم
على مخالفة التكليف التفصيلي وحده في غير مورد العلم الاجمالي. وما ذلك إلا
لتنجيز التكليف الاجمالي بالعلم المفروض. فلاحظ.
اللهم إلا أن يقال: هذا إنما يقتضي تنجز التكليف الاجمالي في ظرف عدم
259

داعوية التكليف التفصيلي بنحو يمنع من المخالفة القطعية بارتكاب كلا
الطرفين، ولا يقتضي منجزيته بنحو يقتضي الموافقة القطعية باجتناب تمام
أطرافه بما فيها الطرف الذي لا يكون موردا للتكليف التفصيلي.
كيف! ولازم ذلك أنه لو فرض عدم كون المكلف ممن يهتم بموافقة
التكليف التفصيلي لخصوصية فيه، إلا أنه وافقه من دون استحكام الداعي
لموافقته، لم يكفه ذلك في الخروج عن عهدة التكليف الاجمالي، بل يلزمه
مراعاة احتمال التكليف في الطرف الآخر، خروجا عن العلم الاجمالي، وهو مما
لا تناسبه المرتكزات العقلائية والمتشرعية جدا، بل هي حاكمة بكفاية موافقة
التكليف التفصيلي وإهمال العلم الاجمالي معه، بل هو مما يغفل عنه حينئذ.
فمن لم يكن في مقام الإطاعة ولم يعتن بكل من التكليفين التفصيلي
والاجمالي لو وعظه الواعظ حتى أقنعه بالاقلاع عما هو فيه يكتفى منه بموافقة
المعلوم بالتفصيل، كغيره ممن استحكم تدينه من أول الامر، ولا يفرق بينهما
بتنجز العلم الاجمالي في حق الأول بنحو يقتضي الموافقة القطعية، بخلاف
الثاني.
ولعله لان التكليف الجديد وإن أوجب تأكد التكليف السابق، وشدة
العقاب لو صادف مورده، إلا أن الأثر المذكور لما كان راجعا للمولى، ولا دخل له
في عمل المكلف لم يصلح لتنجيز العلم الاجمالي في مقام العمل بنحو يقتضي
الموافقة القطعية، بل غاية ما يقتضيه هو تنجزه في مقام المسؤولية بالنحو الذي
لا يستتبع العمل زائدا على ما يقتضي التكليف التفصيلي.
ومرجع ذلك إلى تنجز مورد التكليف التفصيلي من جهتين، جهة
التكليف التفصيلي المعلوم، وجهة التكليف الاجمالي المحتمل تحققه فيه،
فيتنجز على ما هو عليه من الملاك، ولا يتنجز الطرف الآخر، لعدم صلوح العلم
الاجمالي للتنجيز العلمي بعد عدم العلم بترتب العمل على المعلوم زائدا على ما
260

يقتضيه التكليف التفصيلي.
وبعبارة أخرى: وجود القدر المتيقن يمنع عن منجزية العلم الاجمالي لما
زاد عليه، سواء كان المتيقن المذكور من حيثية الامر المعلوم، أم من حيثية العمل
المترتب عليه، فالأول كما لو دار الامر بين وجوب شئ واستحباب آخر، حيث
لا يتنجز إلا القدر المشترك بين الوجوب والاستحباب، وهو الرجحان في كل
منهما، لأنه المتيقن من المعلوم، ولا يتنجز كل من الطرفين على إجماله، ليلزم
تنجز احتمال الوجوب كما سبق في آخر الكلام في حرمة المخالفة القطعية،
والثاني كما في المقام، حيث لا يكون العلم التفصيلي موجبا لوجود المتيقن في
المعلوم، للعلم بثبوت تكليفين، أحدهما معلوم بالتفصيل والآخر معلوم
بالاجمال، وإنما يوجب وجود المتيقن في مقام العمل، حيث يلزم العمل في
الطرف الذي يعلم التكليف فيه تفصيلا على كل حال، مع قطع النظر عن العلم
الاجمالي، والعلم الاجمالي لا يقتضي العلم بترتب عمل زائد على مقتضاه، بل
يقتضي احتمال ذلك في الطرف الآخر، فلا يكون منجزا للعمل المذكور، بل
يتعين الرجوع فيه للأصل الترخيصي بعد عدم المانع منه.
ولا يعارض الأصل المذكور بالأصل الجاري في الطرف المعلوم
بالتفصيل، والمقتضي للسعة من حيثية احتمال انطباق التكليف المعلوم
بالاجمال عليه، لعدم ترتب العمل على الأصل الجاري فيه بعد العلم التفصيلي
بثبوت التكليف الآخر فيه، وإنما يكون مقتضى الأصل - وهو السعة - اقتضائيا
لا غير، فلا يعارض الأصل الجاري في الطرف الآخر المقتضي للسعة فعلا.
هذا، غاية ما يقرب به سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية في مقام
العمل بالنحو المستتبع للموافقة القطعية، وهو مناسب للمرتكزات المتشرعية
والعقلائية في مقام العمل.
ولو فرض التشكيك في ذلك، فالامر قد يهون بملاحظة ما تقدم في
261

القسم السابق من أن المرجع مع الشك هو الأصل الجاري في الطرف المبتلى به
المقتضي للسعة فيه. فتأمل جيدا. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم وهو ولي
التوفيق والتسديد.
ومما ذكرنا يظهر الحال فيما لو كان بعض الأطراف موردا لعلم إجمالي
بتكليف آخر، أو طرفا لعلم إجمالي كذلك. فالأول كما لو علم بنجاسة واحد من
عشرة أو ان منها خمسة بيض يعلم بوجود مغصوب بينها والثاني كما لو علم
بنجاسة واحد من عشرة أوان، منها ثلاثة بيض قد علم بوجود مغصوب بينها أو
بين ثلاثة بيض أخرى خارجة عن العلم الاجمالي بالنجاسة.
فإن العلم الاجمالي القائم ببعض الأطراف في الأول، والشامل لها في
الثاني إذا كان منجزا مقتضيا للعمل بالإضافة إلى تلك الأطراف، منع من منجزية
العلم الاجمالي الآخر الشامل الأطراف المذكورة، فلا يصلح لتنجيز بقية أطرافه،
فيجوز الرجوع في غير البيض من العشرة في المثالين إلى الأصول الترخيصية
الجارية فيها.
من دون فرق بين احتمال اتحاد التكليفين المعلومين بالاجمال موردا،
وعدمه، كما لو علم بأن النجس على تقدير وجوده في البيض من العشرة فهو
في غير المغصوب منها.
وذلك لان المانع من منجزية العلم الاجمالي ليس هو اتحاد التكليفين
المعلومين بالاجمال موردا، بل هو كون أحد التكليفين مقتضيا لعمل المكلف
بنحو لا يكون المعلوم بالاجمال مما يعلم بترتب العمل عليه بنحو زائد على ما
اقتضاه العلم الأول، ولا يفرق في ذلك بين كون العمل ناشئا من كون الطرف
موردا للتكليف الآخر عينا وكونه طرفا للعلم الاجمالي به.
بقي في المقام أمر ينبغي الكلام فيه وهو أن عروض ما يمنع من فعلية
التكليف في بعض الأطراف..
262

تارة: يكون قبل طروء التكليف الاجمالي أو مقارنا له.
وأخرى: يكون متأخرا عنه.
كما أن العلم به..
تارة: يكون قبل حصول العلم الاجمالي، أو مقارنا له.
وأخرى: يكون متأخرا عنه.
فالصور أربع..
الأولى: أن يكون المانع سابقا على التكليف الاجمالي أو مقارنا له، كما
أن العلم به سابق أو مقارن للعلم الاجمالي.
ولا ريب هنا في عدم منجزية العلم الاجمالي، لما تقدم، بل هذه الصورة
هي المتيقن من جميع الصور المفروضة في المقام بالإضافة للوجه المتقدم
لعدم المنجزية.
نعم، ما تقدم من عدم منجزية العلم الاجمالي مع كون بعض أطرافه طرفا
لعلم إجمالي آخر مفارق له في بعض الأطراف مختص بما إذا كان العلم
الاجمالي المانع متقدما، أما مع تقارن العلمين فلا مجال لمانعية أحدهما من
منجزية الآخر، لعدم المرجح لأحدهما في التنجز، كي يصلح لمنع الآخر منه، بل
حيث كان كل منهما مقتضيا في نفسه للتنجز في تمام أطرافه لزم تأثير ه.
ومجرد اشتراكهما في بعض الأطراف لا ينفع بعد عدم كون مراعاة
احتمال التكليف فيه موجبه للموافقة القطعية لاحد العلمين، ليتنجز على كل
حال بنحو يمنع من منجزية كل منهما لبقية أطرافه، بل حال الطرف المذكور
حال بقية الأطراف في احتمال انطباق التكليف المعلوم بالاجمال عليه، فلا
يتنجز إلا تبعا لمنجزية العلم الاجمالي في تمام أطرافه، وحيث لا مرجح لاحد
العلمين اتجه منجزيتهما معا في تمام أطرافهما، غايته أن الطرف المشترك
يتنجز من جهتين.
263

وهذا بخلاف ما لو كان أحد العلمين أسبق، فإنه لما كان منجزا في نفسه،
ومقتضيا للعمل في تمام أطرافه كان مانعا من منجزية العلم الثاني المتأخر، إذ لا
يعلم معه بترتب العمل على الثاني بنحو زائد على ما اقتضاه الأول.
وهل المعيار على سبق العلم أو المعلوم؟ يظهر الكلام فيه مما يأتي في
الصورتين الأخيرتين.
وكذا لو كان بعض الأطراف موردا لعلم تفصيلي أو إجمالي أخص، فإنه
يتنجز على كل حال ويمنع من منجزية العلم الاجمالي الأكثر أطرافا، وإن كان
مقارنا له. فلاحظ.
الصورة الثانية: أن يكون المانع متأخرا عن التكليف الاجمالي حدوثا،
والعلم به متأخرا عن العلم الاجمالي به.
والظاهر عدم الاشكال بينهم هنا في عدم سقوط العلم الاجمالي عن
المنجزية.
وقد اختلفت كلماتهم في توجيهه في مسألة الاضطرار إلى بعض معين من
الأطراف. والظاهر عدم الفرق بين الاضطرار وغيره مما يسقط التكليف ويمنع
من منجزية العلم الاجمالي.
وكيف كان فقد يوجه بوجوه..
الأول: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من تحقق العلم الاجمالي
التدريجي بالتكليف في الطرف المبتلى بالمانع قبل طروئه، أو في الطرف الآخر
مطلقا، وهو كاف في المنجزية.
وفيه: - بعد إصلاحه بأنه كالتدريجي من حيثية تحقق بعض الأطراف بعد
ارتفاع بعضها، لا من حيثية تحقق بعض الأطراف قبل تحقق بعضها، لفرض
اجتماع الأطراف سابقا قبل طروء المانع في المقام - أن العلم الاجمالي
التدريجي إنما يوجب تنجيز التكليف إذا علم الابتلاء بتمام الأطراف، ومن
264

الظاهر في المقام أن العلم بالتكليف في كل طرف مشروط بعدم طروء المانع
فيه، فلا يعلم به إلا حين العلم بعدم طروء المانع، أما مع الشك في طروئه في
الزمان اللاحق فيشك في التكليف، وينحصر العلم به بحال العلم بفقد المانع في
الطرفين فهو المنجز لا غير.
نعم، بعد طروء المانع يعلم بالتكليف إما في طرف المانع سابقا أو في
الطرف الآخر فعلا. لكن مثل هذا العلم الاجمالي التدريجي لا أثر له، لأنه حادث
بعد خروج بعض الأطراف عن الابتلاء بانتهاء أمده.
كما أنه لو فرض العلم قبل طروء المانع بطروئه في ما بعد في بعض
الأطراف دون بعض اتجه منجزية العلم الاجمالي المذكور. فتأمل جيدا.
أن منجزية العلم الاجمالي التدريجي قبل خروج الطرف الأول عن
الابتلاء بنحو تمنع من الاقدام عليه مبنية على ما يأتي من كفاية العلم بالابتلاء
بالتكليف في وقته في تنجزه قبل وقته، ولا دخل لذلك في المقام.
أما منجزيته بعد خروج الطرف الأول عن الابتلاء بمضي وقته، فهو مبني
على الكلام هنا في وجه منجزية العلم الاجمالي، لوضوح أنه مع العلم بعدم
التكليف ببعض الأطراف لخروج وقته أو وجود المانع فيه لا يعلم بالتكليف
إجمالا. فما وجه تنجز بقية الأطراف؟! فافهم.
الثاني: أن الشك في المقام في انطباق التكليف المعلوم بالاجمال على
مورد المانع راجع إلى الشك في سقوط التكليف بعد العلم بثبوته وانشغال الذمة
به، والمرجع فيه الاشتغال، بخلاف الصورة الأولى، حيث كان مرجع الشك
المذكور فيها إلى الشك في أصل ثبوت التكليف، والمرجع فيه البراءة.
وفيه: أن المانع لما كان من حدود التكليف العقلية أو الشرعية، فالشك
فيه شك في التكليف، فهو يوجب ارتفاع العلم الاجمالي المفروض كونه هو
المنجر، ومعه لا مجال لقاعدة الاشتغال، لأنها فرع وجود المنجز للتكليف.
265

ومن ثم لو شك في طروء المانع في فرض العلم التفصيلي بالتكليف لم
تنفع قاعدة الاشتغال في لزوم مراعاة احتمال التكليف، بعد فرض ارتفاع العلم
به، بل لابد من منجز للتكليف، من أصل موضوعي، كاستصحاب نجاسة الماء،
المحرز لحرمة شربه، أو حكمي إحرازي، كاستصحاب حرمة شرب الماء - لو
تم في نفسه - أو غير إحرازي، كما في موارد انقلاب الأصل، كالشك في القدرة
وغيره. ولولا ذلك لتعين الرجوع للبراءة من التكليف بعد فرض ارتفاع العلم به.
الثالث: استصحاب بقاء التكليف أو عدم طروء المانع منه، فلو علم
بنجاسة أحد الانائين - مثلا - ثم علم بتطهير أحدهما معينا، فاستصحاب نجاسة
ما كان منهما نجسا سابقا يقتضي وجوب اجتنابه بترك الفرد الآخر.
وفيه: أن استصحاب بقاء التكليف لا ينفع في اجتناب لطرف الآخر
الخالي عن المانع، إلا بناء على الأصل المثبت، لملازمة بقاء التكليف الاجمالي
لتحققه فيه.
إن قلت: مراعاة احتمال التكليف في الطرف الخالي عن المانع ليس
لاحراز كونه هو مورد التكليف المستصحب، ليبتني على الأصل المثبت، بل
لاحتمال تحققه فيه وتوقف الفراغ عنه عليه، فيجب مراعاة ذلك بمقتضى قاعدة
الاشتغال بعد فرض تنجز التكليف بالاستصحاب، فالاستصحاب بالإضافة إلى
الطرف المذكور كالعلم الاجمالي بالإضافة إليه، لا يقتضي تنجزه إلا بضميمة
قاعدة الاشتغال، ولا فائدة فيه إلا تنجيز التكليف على إجماله بدلا عن العلم به
المفروض ارتفاعه بسبب طروء المانع.
قلت: لا مجال لجريان الاستصحاب بنحو يقتضي التعبد بالتكليف
المعلوم بالاجمال، لان مقتضاه التعبد بالمستصحب ظاهرا تنجيزه على كل حال،
كما هو الحال في سائر موارد التعبد بالمضمون شرعا، وهو لا يجتمع مع اليقين
بثبوت الحكم الواقعي في مورده على تقدير اتحاد متعلقه مع الطرف المبتلى
266

بالمانع.
مثلا: لو علم بنجاسة إناء زيد، واشتبه بين الخزف والنحاس، ثم طهر
الخزف، فاستصحاب نجاسة إناء زيد يقتضي التعبد بنجاسته وحرمة شربه على
كل حال حتى لو كان هو الخزف، وهو لا يجتمع مع العلم بطهارة الخزف وجواز
شربه، فالحكم الظاهري بإطلاقه مناف للعلم الذي يترتب عليه العمل لحجيته
ذاتا
وأما ما هو المعروف من عدم التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي، فهو
مختص بما إذا لم يكن الحكم الواقعي بنحو يترتب عليه العمل، لعدم وصوله
للمكلف، لا في مثل المقام مما فرض فيه وصول الحكم الواقعي وترتب العمل
عليه بنحو يمتنع معه جعل الحكم الظاهري عقلا وإن فرض تحقق موضوعه.
وبعبارة أخرى: التنافي بين الحكم الواقعي الواصل والحكم الظاهري
يوجب امتناع جعل الحكم الظاهري في المقام، لأنه يؤدي إلى احتمال اجتماع
المتنافيين، وهو ممتنع كاليقين به.
ويشهد بما ذكرنا أنه لو فرض خطأ القطع التفصيلي بعدم التكليف في
بعض الأطراف، وبقاء التكليف الذي كان معلوما بالاجمال فيه لزم من جريان
الاستصحاب المذكور استحقاق العقاب بارتكابه، لمخالفة التكليف الواقعي
والظاهري معا فيه، مع أنه لا مجال له قطعا، لمنافاته لحجية القطع التفصيلي وإن
كان خطأ.
ولا فرق في ما ذكرنا بين جميع ما يطرأ على بعض الأطراف مما يمنع من
بقاء العلم الاجمالي، سواء كان رافعا شرعيا للتكليف الفعلي - كالاضطرار
والحرج - أو لموضوعه - كالتطهير في المثال السابق - أم عقليا - كالامتثال،
والمعصية، والخروج عن الابتلاء، وتنجيس أحد الأطراف معينا، وغير ذلك -
وذلك لامتناع جعل الحكم الظاهري معها، فيمتنع التعبد به بالإضافة إلى المعلوم
267

بالاجمال المحتمل انطباقه على الطرف الواجد للمانع قطعا، فيلزم منافاة الحكم
الظاهري باطلاقه للعلم.
نعم، لو رجع مفاد الاستصحاب إلى تنجيز مضمونه على تقدير انطباقه
على خصوص الطرف الخالي عن المانع لا مطلقا، أمكن جريانه في المقام،
لعدم منافاته للعلم المفروض.
لكن هذا خلاف مقتضى أدلة الاستصحاب وجميع أدلة الاحكام
الظاهرية التعبدية، فإن مقتضى التعبد بالتكليف تنجزه على كل حال بحكم
العقل.
وإنما يمكن تنجز التكليف على خصوص بعض التقادير إذا كان مفاد
الجعل الشرعي مجرد وجوب الاحتياط فيه، من دون تعبد به وإحراز له، وهو
خارج عن مفاد دليل الاستصحاب محتاج إلى دليل خاص مفقود في المقام.
ويأتي إن شاء الله تعالى في الجواب عن الشبهة العبائية ما ينفع في المقام.
إذا عرفت هذا، فالظاهر أن وجوب الاحتياط في المقام يبتني على
منجزية العلم السابق بعد ارتفاعه بسبب طروء المانع.
ولا ينبغي الريب فيه لو كان ارتفاعه ناشئا عن امتثال بعض الأطراف، لما
هو المعلوم من أن وجوب الموافقة القطعية لا يختص بالحكم التحريمي، بل
يجري في الحكم الوجوبي، الذي يكون الشك في امتثاله ملازما للشك في بقاء
التكليف وارتفاع العلم به، فلو ارتفعت منجزية العلم تبعا لارتفاعه بذلك لم يبق
موضوع لوجوب الموافقة القطعية ولا لقاعدة الاشتغال بالتكليف، من دون فرق
في ذلك بين العلم التفصيلي والاجمالي، ففرض اقتضاء العلم للموافقة القطعية
ارتكازا ملازم لفرض منجزيته بعد ارتفاعه في المقام.
ومثل ذلك ما لو كان المانع هو العصيان في بعض الأطراف، كما لو أخر
الصلاة حتى ضاق الوقت عن الجمع بين الصلاتين، فإن العصيان وإن كان
268

مسقطا للتكليف على تقدير انطباقه على مورده، إلا أن ملاك الحكم بوجوب
الموافقة القطعية، وهو دفع الضرر المحتمل يقتضي تجنب المعصية في الطرف
الآخر، المحتمل كونها معصية للتكليف المعلوم المنجز حذرا من العقاب.
وأما في غير ذلك من الموانع مما يمنع من استمرار التكليف مع اليقين
بإطاعة التكليف في الزمان الأول الذي يعلم بتحقق التكليف فيه إجمالا، فقد
يصعب توجيه وجوب الاحتياط بعد فرض ارتفاع العلم الاجمالي من غير جهة
الشك في المعصية والامتثال، ولذا لا ريب في عدم وجوبه مع العلم التفصيلي لو
فرض معه احتمال طروء المانع، إلا بضميمة أصول اخر إحرازية، كالاستصحاب
الذي عرفت عدم جريانه في المقام، أو غيرها، كما في موارد الشك في طروء
التعذر، حيث تقدم غير مرة انقلاب الأصل معه، وتقدم في أول الكلام في هذا
التنبيه أنه لا مجال له في المقام، لاختصاصه بما إذا شك في سعة القدرة لا في
حال المقدور.
لكن الانصاف: أن المرتكزات قاضية بعدم كفاية إعدام موضوع التكليف
في بعض الأطراف في جواز ارتكاب بقيتها، فلا يكفي إراقة أحد الانائين
المعلوم إجمالا نجاسة أحدهما في جواز استعمال الآخر، ومن ثم كان وجوب
إهراق الانائين المشتبهين معا، والتيمم ارتكازيا لا تعبديا محضا.
ولا منشأ لذلك إلا أن العلم الاجمالي لما فرض تنجيزه للمعلوم بالاجمال
على ما هو عليه، وجب إحراز الفراغ عنه على ما هو عليه. ومجرد العلم بطروء
المانع في بعض الأطراف لا يرفع ذلك، وإن ارتفع معه العلم الاجمالي بالتكليف
الفعلي، فيجب مراعاة احتمال التكليف في الطرف الآخر لاحتمال انطباق
المعلوم بالاجمال السابق عليه، فهو نظير ارتفاع العلم بسبب الشك في الامتثال
لا يمنع من منجزيته.
ولا فرق في ذلك ارتكازا بين إعدام الموضوع، وانعدامه بنفسه، وفقد
269

شرط التكليف وغير ذلك من الموانع. فتأمل جيدا.
هذا كله بناء على منجزية العلم الاجمالي ذاتا بنحو يقتضي الموافقة
القطعية.
وأما لو كان منشأ منجزيته في ذلك تساقط الأصول الترخيصية في
الأطراف بالمعارضة، فالامر أشكل، فإن طروء المانع من التكليف في بعض
الأطراف مانع من جريان الأصل فيه، لان ما هو الشرط لجريانه حدوثا شرط
لجريانه بقاء، وبعد سقوط الأصل فيه لا يبقى معارض للأصل في الطرف الآخر،
فلا مانع من جريانه عملا بعموم دليله.
ودعوى: أن عروض المانع من التكليف في بعض الأطراف وامتناع
جريان الأصل فيه لا يوجب رجوع الأصل في الطرف الآخر بعد سقوطه، بل
التعارض بينهما في الزمان السابق موجب لسقوطهما إلى الأبد.
مدفوعة: بأن المانع من جريان الأصل لما كان هو التعارض بين الأصلين
فلا معنى لبقائه في ظرف سقوط أحدهما، مهما كان منشأ السقوط.
وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أن المحذور العقلي - وهو لزوم
الترخيص في المعصية - كما يقتضي عدم شمول دليل الأصل لكل من الطرفين
في زمان واحد يقتضي عدم شموله لهما في زمانين، فالعلم بحرمة أحدهما لا
بعينه يقتضي سقوط الأصول في جميع الأزمنة، كان كلاهما موجودا أو كان
أحدهما معدوما.
ففيه: أنه مع فرض سقوط أحدهما لا يلزم من جريان الآخر وحده
الترخيص في المعصية، كما لا يلزم الوقوع فيها إلا بناء على منجزية العلم
الاجمالي بالإضافة إلى الموافقة القطعية مطلقا مع قطع النظر عن تعارض
الأصول، حيث يتنجز المعلوم بالاجمال في الزمان السابق حينئذ على كل حال،
فجريان الأصل في بعض أطرافه بعد سقوط الآخر مما يحتمل معه الترخيص
270

في المعصية، الذي هو قبيح كالعلم به.
وبالجملة: توجيه منجزية العلم الاجمالي على المبنى المذكور في غاية
الاشكال، لكن هذا مما يخدش به المبنى المذكور في منجزية العلم الاجمالي،
وإلا فعدم سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية في المقام مسلم بين الكل
ومطابق للمرتكزات، كما ذكرنا.
الصورة الثالثة: أن يكون حدوث المانع متأخرا عن التكليف المعلوم
بالاجمال، إلا أن العلم به مقارن للعلم الاجمالي أو متقدم عليه.
كما لو اضطر عند الزوال إلى إناء معين، وعلم بعده إجمالا بتحريم ذلك
الاناء أو إناء آخر من قبل الزوال.
وعن شيخنا الأعظم قدس سره وغيره عدم منجزية العلم الاجمالي حينئذ.
وهو متجه بناء على أن المعيار في منجزية العلم الاجمالي تساقط
الأصول الترخيصية في الأطراف بالمعارضة، لوضوح أن الأصل في الطرف
المبتلى بالمانع لو جرى قبل حدوث المانع لم يعارض الأصل الجاري في
الطرف الآخر، لعدم العلم الاجمالي حينئذ بالتكليف، كما أنه حين حدوث العلم
الاجمالي حيث لا يجري الأصل في الطرف المذكور، لفرض سبق حدوث
المانع فيه، فلا معارض للأصل الجاري في الطرف الآخر، ولا منجز للعلم
الاجمالي المذكور.
لكن تقدم ضعف المبنى المذكور، وأنه لو تم لزم سقوط العلم الاجمالي
عن المنجزية في الصورة السابقة أيضا.
وأما الفرق بينهما: بأن الأصل في هذه الصورة يجري في الطرف غير
المبتلى بالمانع من أول الامر، بخلاف تلك الصورة، حيث لا يجرى الأصل في
الطرف المذكور من أول الامر، لفرض سقوطه بالمعارضة قبل عروض المانع.
فهو غير فارق، بعد ما أشرنا إليه آنفا من أن عروض المانع في تلك
271

الصورة على بعض الأطراف لما كان مسقطا للأصل فيه فهو يوجب ارتفاع
المانع عن جريان الأصل في الطرف الآخر، لعدم المعارض له حينئذ.
وعليه يشكل الامر بناء على منجزية العلم الاجمالي في نفسه بنحو
يقتضي الموافقة القطعية مع قطع النظر عن تعارض الأصول - كما هو المختار -
لان العلم في المقام صالح للتنجيز بعد فرض كون المعلوم إجمالا هو التكليف
الفعلي الخالي عن المانع، أن المانع المحتمل طروؤه في مورد التكليف لا
يمنع من حدوث التكليف، لفرض تأخره عنه، بل غاية ما يقتضي سقوطه بعد
حدوثه، كما في الصورة الثانية.
ودعوى: أنه يعتبر في منجزية العلم الاجمالي العلم بترتب الأثر على
المعلوم حين العلم، فلو لم يعلم بترتيب الأثر عليه ولو لاحتمال سقوطه بعد
ثبوته لم يصلح العلم لتنجيزه، كي يجب إحراز الفراغ عنه. وبه يفرق بين هذه
الصورة والصورة الثانية، حيث كان المفروض في تلك الصورة عدم حدوث
المسقط حين العلم بالتكليف، بل يعلم بترتب الأثر على التكليف حينئذ.
مدفوعة: بأنه لا مجال لاعتبار ذلك في منجزية العلم الاجمالي، إذ لا فرق
بينه وبين العلم التفصيلي في المنجزية، ومن الظاهر أنه يكفي في منجزية العلم
التفصيلي العلم بترتب الأثر على المعلوم حين حدوثه وإن احتمل سقوطه حين
العلم بطروء المانع من الامتثال، أو الاضطرار أو غير هما.
اللهم إلا أن يقال: هذا إنما يتم مع الشك في الامتثال، أما مع كون المانع
المحتمل أمرا آخر كالاضطرار ونحوه فليس المنجز مع العلم التفصيلي هو العلم
السابق، بل استصحاب التكليف أو موضوعه، أو انقلاب الأصل في مورده، كما
تقدم في الصورة الثانية، وقد تقدم فيها عدم جريان الاستصحاب ولا غيره في
مورد العلم الاجمالي، وأنه لا موجب لمراعاة احتمال التكليف الا قاعدة
الاشتغال، التي هي فرع تنجز التكليف، والعلم الاجمالي لا يصلح للتنجيز في
272

المقام، بخلاف الصورة الثانية، لما ذكرناه هنا من الفرق بينهما. وإن كان الامر
لا يخلو عن إشكال.
الصورة الرابعة: أن يكون حدوث المانع متقدما على المعلوم بالاجمال،
أو مقارنا له إلا أن حدوث العلم به بعد حدوث العلم الاجمالي، كما لو علم
المكلف بنجاسة أحد الانائين حين الزوال، ثم علم بتعذر استعمال أحدهما من
قبل الزوال.
والظاهر هنا عدم منجزية العلم الاجمالي، فيجوز ارتكاب الاناء الآخر،
لان العلم بسبق حدوث المانع مستلزم لانكشاف خطأ العلم الاجمالي بالتكليف
الذي يترتب عليه العمل، وإن كان العلم بتحقق مقتضيه مصيبا، ولا مجال مع
ذلك لمنجزية العلم المذكور، لأنها مختصة بما إذا لم يرتفع وينقلب إلى الشك
البدوي في بعض الأطراف.
وما سبق في الصورة الثانية من تنجيز العلم السابق بعد ارتفاعه مختص
بما إذا كان ارتفاعه لتبدل حال المعلوم مع عدم ارتفاع العلم بحدوثه، ولا يجري
في مثل المقام مما كان المرتفع هو العلم بالحدوث وأن الواقع ليس على النحو
الذي قطع به سابقا.
فالمقام نظير ما لو علم المكلف بملاقاة النجاسة لاحد مائين كان يعتقد
قلتهما، فاعتقد بنجاسة أحدهما، ثم علم بسبق كرية أحدهما، حيث لا ينبغي
الريب في عدم المنجز لاحتمال التكليف في الآخر، بل لا مانع من الرجوع فيه
لاستصحاب الطهارة.
ولا فرق في هذا بين جميع الموانع المفروضة في المقام، لأنها بأجمعها
تقتضي قصورا في المعلوم، فبانكشافها يظهر خطأ العلم السابق بوجود تكليف
يترتب عليه العمل على كل تقدير، الذي هو المدار في التنجز، كما سبق.
273

التنبيه الخامس: فيها لو كانت الأطراف تدريجية.
لا ريب في منجزية العلم الاجمالي لو كانت أطرافه في عرض واحد
بحيث يبتلى المكلف بها دفعة واحدة، سواء أمكن مخالفتها في زمان واحد، كما
لو علم بحرمة لبس أحد ثوبين، حيث يمكن لبسهما معا، أم لم يمكن، كما لو
علم وهو جنب، بمسجدية أحد المكانين، حيث لا يمكن المكث فيهما في
وقت واحد.
لان فعلية الأطراف في الزمان الواحد تستلزم العلم بفعلية التكليف
الاجمالي الموجب للموافقة وعدم المخالفة.
وأما لو كانت الأطراف تدريجية الحصول، كما لو علم المكلف بأنه نذر
زيارة الحسين عليه السلام في إحدى ليلتين، أو علم بحيض امرأته في خمسة أيام من
أول الشهر أو آخره، فقد وقع الكلام بينهم في منجزية العلم، وظاهر شيخنا
الأعظم قدس سره التفصيل بين المثالين المتقدمين بالتنجيز في الأول دون الثاني، على
إشكال منه في وجه الفرق، وظاهر المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على
الرسائل موافقته في التفصيل المذكور للوجه الآتي في الفرق، وجزم بعض
الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدس سرهما وغير هما بالمنجزية مطلقا.
والذي ينبغي أن يقال: حيث تقدم غير مرة أنه لابد في منجزية العلم
الاجمالي من كون المعلوم أمرا يترتب عليه العمل على كل حال، بحيث يكون
موردا للمسؤولية وصالحا لاحداث الداعي العقلي، ليجب الفراغ عنه بعد تنجزه
بالعلم، فالكلام في المقام يبتني على تحقيق حال الطرف المتأخر، وأنه صالح
للداعوية وموضوع للمسؤولية، أو لا، بعد الفراغ عن صلوح المتقدم لذلك.
ولا ينبغي التأمل في ذلك بعض الرجوع للمرتكزات العقلية، إذ لا ريب
في قبح تعجيز المكلف نفسه عن امتثال التكليف المتأخر، بحيث يلزم منه
تفويت التكليف التام الملاك في وقته.
274

وعليه يبتني وجوب المحافظة على مقدمات المكلف به المفوتة، وهي
التي لا يمكن تحصيلها إلا قبل الوقت، حيث يظهر منهم الاتفاق عليه تبعا
للمرتكزات العقلائية والمتشرعية، وإن اختلفوا في وجهه.
فإن ذلك كاشف عن صلوح التكليف بالامر المتأخر للداعوية العقلية قبل
الوقت، فيصلح لان يكون طرفا لعلم إجمالي منجز.
ولا يهم مع ذلك تحقيق أن الامر المتأخر دخيل في المكلف به مع فعلية
التكليف والملاك قبله، لامكان التكليف الفعلي بالامر المتأخر - كما في الواجب
المعلق عند صاحب الفصول قدس سره - أو هو دخيل في التكليف عقلا أيضا، لاستحالة
التكليف بالامر المتأخر، إما مع فعلية ملاكه لتمامية موضوعه الشرعي، كالنذر في
المثال الأول، أو مع عدم فعليته لاخذ الامر المتأخر في موضوعه شرعا،
كالحيض في المثال الثاني.
نعم، لو كانت المنجزية موقوفة على فعلية التكليف أو فعلية الملاك، كان
تحقيق ذلك مهما جدا، وابتنى على الكلام في الواجب المشروط والمعلق.
وكأنه إلى ذلك نظر المحقق الخراساني قدس سره وجه التفصيل بين المثالين
المتقدمين، فإنه حيث ذهب إلى إمكان كل من الواجب المعلق الذي يكون فيه
التكليف فعليا والمكلف به استقباليا، والواجب المشروط بالمعنى المشهور،
وهو الذي يكون الشرط فيه شرطا للتكليف، ولا يكون التكليف قبله فعليا، اتجه
منه التفصيل بين المثالين، لظهور كون النذر الذي هو موضوع وجوب الوفاء
فعليا، وإن احتمل كون المنذور أمرا استقباليا، أما الحيض الذي هو موضوع
حرمة الوطئ فحيث لم يكن محرزا لم يحرز فعلية التكليف المعلوم بالاجمال
معه، فلا يكون منجزا بناء على أن المدار في منجزيته العلم بالتكليف الفعلي،
ولا يكفي العلم بأحد تكليفين تدريجيين كل منهما فعلي في وقته، كما يظهر منه
في حاشية الرسائل.
275

أما شيخنا الأعظم قدس سره فلا يتجه منه التفصيل المذكور، بناء على ما سلكه
في الواجب المشروط من لزوم رجوع جميع الشروط للمادة لبا، وامتناع
رجوعها للهيئة عقلا، حيث يلزمه فعلية التكليف في المثالين معا المستلزم
لمنجزية العلم الاجمالي بلا إشكال.
وأما ما ذكره قدس سره في وجه عدم المنجزية في الثاني من امتناع التكليف
الفعلي قبل الحيض بترك وطئ الحائض، لان تركه ناشئ من عدم الابتلاء به، فلا
يطلب بالخطاب الشرعي إلا أن يعون الخطاب به تعليقيا.
فهو - مع جريانه في المثال الأول، ولذ استشكل قدس سره في الفرق بينهما -
رجوع عما ذكره في الواجب المشروط من لزوم فعلية التكليف وامتناع
تعليقيته. فراجع وتأمل.
وكيف كان، فبعد ما عرفت من أن التكليف الفعلي التام الملاك في وقته
صالح للتنجيز والداعوية العقلية، ولا تتوقف داعويته على فعليته حينها يتعين
البناء على المنجزية في جميع موارد العلم الاجمالي التدريجي الأطراف.
إن قلت: هذا مناف لما تقدم في التنبيه السابق من أن عدم الابتلاء ببعض
الأطراف مانع من منجزية العلم الاجمالي، حيث لا ريب في خروج الامر
المتأخر عن الابتلاء الفعلي.
قلت: عدم الابتلاء المانع من المنجزية هو الموجب للغوية التكليف
وعدم صلوحه لاحداث المسؤولية عرفا، بسبب استحكام الدواعي لموافقة
التكليف وشدة الصوارف عن مخالفته، لا مجرد عدم الابتلاء الفعلي الناشئ من
الفاصل الزمني مع تحقق الابتلاء بالتكليف في وقته، فإنه لا يمنع من إحداث
المسؤولية عرفا وعقلا، ولذا يكون منشأ للسعي نحو المقدمات وفعلية الداعي
العقلي لتحصيلها.
هذا، ولا يخفى أن ما ذكرنا مشروط بالعلم بالابتلاء بالطرف المتأخر في
276

وقته، بنحو صالح للتنجيز لو فرض انطباق المعلوم بالاجمال عليه، لاجتماع
شرائط التنجيز وفقد الموانع المتقدمة. فلو لم يعلم بذلك لا مجال لمنجزية
العلم الاجمالي.
نعم، لو كان عدم العلم ناشئا من احتمال الموت أو العجز المسقط
للتكليف فالظاهر منجزية العلم لأصالة السلامة المعول عليها عند العقلاء،
وأصالة الاحتياط مع الشك في القدرة، إذ الشك في المقام في سعة القدرة، لا في
حال المقدور، كي لا يجب معه الاحتياط لما تقدم.
والظاهر أنه لا يكفي الاستصحاب - بناء على جريانه في الأمور
المستقبلة - لو فرض كون منشأ الشك في الابتلاء هو احتمال ارتفاع ما هو
الشرط فيه.
مثلا: لو علم الرجل إجمالا بحيض امرأته في أول الشهر أو آخره،
واحتمل خروجها في آخره بطلاق أو نحوه لم يكف استصحاب زوجيتها إلى
آخر الشهر في تنجيز العلم المذكور، لان الابتلاء ليس من آثار الزوجية شرعا،
ليمكن التعبد به تبعا للتعبد بها، كما لا مجال لاستصحاب الابتلاء نفسه، لعدم
كونه حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي، وإنما هو شرط في منجزية العلم
الاجمالي عقلا.
نعم، لو علم المكلف بالابتلاء في الوقت بسبب الاستصحاب أو غيره من
الأصول لزم منجزية العلم الاجمالي التدريجي المذكور، كما لو احتمل الرجل
في المثال المتقدم أن يكون قد حلف على ترك وطئ زوجته في آخر الشهر، فإن
استصحاب عدم الحلف المذكور لما كان مقتضيا لجواز وطئه لها ظاهرا، وقدرته
على ذلك عقلا أوجب العلم بالابتلاء في الوقت، فيتنجز التكليف المعلوم
بالاجمال تبعا للعلم بالحيض.
فهو كما لو علم إجمالا بحيض إحدى زوجيته، وكانت إحداهما
277

مستصحبة الزوجية، حيث يكفي استصحاب زوجيتها في منجزية العلم
الاجمالي، لكونه محققا للابتلاء بها فعلا.
والفرق بينه وبين المثال الأول أن الاستصحاب لا يوجب اليقين بالقدرة
على ارتكاب الطرف المتأخر في المثال الأول، لامكان انكشاف الخلاف في
وقته الرافع للحكم الظاهري، وللقدرة العقلية المقومة للابتلاء المعتبر في
المنجزية، أما في هذا المثال فالاستصحاب يوجب اليقين بالقدرة، إذ ليس
المانع إلا احتمال اليمين، والمفروض أن الاستصحاب مؤمن منه في وقته. إلا أن
يحتمل معه انكشاف الخلاف في وقته أيضا، بأن احتمل تذكره لليمين حينئذ،
فيتجه عدم منجزية العلم الاجمالي، لعدم كون الاستصحاب موجبا لليقين
بالابتلاء في وقته.
ففي الحقيقة أن الموجوب للعلم بالابتلاء هو العلم بجريان الأصل في وقته
وصلوحه للعمل حينئذ، فلو احتمل ارتفاع موضوعه في وقته بنحو لا يصلح
للعمل لانكشاف الحال لم يعلم بالابتلاء من مجرد إجراء الأصل في الأول، بل لا
يجري حينئذ لعدم الأثر. فتأمل جيدا.
ثم إن الظاهر أنه لابد في منجزية العلم الاجمالي التدريجي من الالتفات
للأطراف وتحديدها ولو إجمالا. لتكون موردا للتنجيز، حيث لا يدفع العقل
للعمل إلا بعد تحديد موضوعه، ولا يكفي مجرد العلم بالابتلاء بالحرام والوقوع
فيه من دون تحديد للأطراف، حيث يكثر من المكلف العامل بالأصول
الترخيصية، حيث يتعرض للمخالفة الواقعية، ويعلم إجمالا بحصولها في ما
يبتلى به من الوقائع التدريجية في شهره أو سنته أو مدة عمره، خصوصا في
الأموال والطهارة والنجاسة وغيرهما مما يكثر فيه مخالفة الأصول الترخيصية
للواقع. ولولا ذلك لاختل نظام المعاش والمعاد، وقلت الفائدة في جعل الأصول
المذكورة.
278

فالعلم المذكور نظير العلم بالخطأ في ما يحصل من العلوم التفصيلية في
الوقائع التدريجية، حيث قد يحصل العلم المذكور بسبب الالتفات لتحقق الخطأ
في كثير من العلوم السابقة، مع عدم الاشكال في عدم منجزية العلم المذكور
بنحو يمنع من التعرض للفحص في الوقائع وتحصيل العلم التفصيلي مقدمة
للتحرز من المخالفة فيها. فافهم.
ومما ذكرنا يظهر الاشكال في ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من التمثيل للعلم
الاجمالي التدريجي بما إذا علم المكلف أنه يبتلى في يومه أو شهره بمعاملة
ربوية، فإن المعاملات المذكورة حيث لم تكن حين العلم الاجمالي محددة لم
يصلح العلم المذكور لتنجيز التكليف فيها بحيث يجب الاحتياط فيها.
نعم، احتمال كون المعاملة ربوية بنحو الشبهة الحكمية منجز بنفسه مع
قطع النظر عن العلم الاجمالي المذكور، لوجوب الفحص عن الأحكام الشرعية
بنحو يمنع من الرجوع للأصول الترخيصية، وهذا بخلاف ما إذا كان الاحتمال
المذكور بنحو الشبهة الموضوعية، كما لو شك في كون العوضين من المكيل
والموزون، حيث لا مانع من الرجوع لأصالة عدم كونهما كذلك، المقتضية
لصحة المعاملة.
ومجرد العلم بالابتلاء بالمعاملة الربوية في طول الشهر أو السنة من دون
تحديد لها لا يصبح للتنجيز بل هو كالعلم بالابتلاء بشرب النجس كذلك.
والامر محتاج إلى مزيد من التأمل. والله سبحانه ولي العصمة والسداد.
279

التنبيه السادس: فيما لو اقترن العلم الاجمالي بما يمنع
من الموافقة القطعية
اعلم أن طروء ما يوجب الترخيص في مورد العلم الاجمالي..
تارة: بأن يكون العنوان المقتضي للترخيص منطبقا على كل طرف
بخصوصه.
وأخرى: بأن يكون منطبقا على أحدهما المعين في نفسه.
وثالثة: بأن يكون منطبقا على الجامع بينهما المقتضي للتخيير بينهما في
مقام العمل.
أما الأول فهو يوجب القطع بعدم التكليف، كما لو اضطر إلى ارتكاب
جميع أطراف العلم الاجمالي بالحرمة. ولا موضوع معه للاحتياط.
وأما الثاني فهو يوجب احتمال ارتفاع التكليف، لاحتمال انطباقه على
المعلوم بالاجمال، سواء كان ذلك الطرف معلوما للمكلف تفصيلا، كما لو علم
إجمالا بنجاسة ماء الرمان أو القراح، فاضطر لاستعمال ماء الرمان، أم كان مشتبها
عنده بين الأطراف، كما لو علم إجمالا بملاقاة أحد المائين للنجاسة، وباتصال
أحدهما بالمادة.
والكلام في وجوب الاحتياط في الصورة الأولى بالإضافة إلى الأطراف
الخالية عن المانع يظهر مما تقدم في التنبيه الرابع، حيث تقدم اختلاف ذلك
باختلاف الصور من حيث سبق المانع وتأخره عن العلم.
وأما في الصورة الثانية فيختلف الكلام باختلاف الصور المذكورة على
تفصيل لا مجال له هنا، وقد يظهر بالتأمل في ما سبق، كما يختلف باختلاف
العناوين الموجبة للترخيص بما لا مجال للكلام فيه فعلا.
وأما الثالث فهو محل الكلام في المقام، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد
المائين، واضطر لرفع عطشه بأحدهما، بلا دخل لخصوصية كل منهما في
280

رفع اضطراره.
ومثل ذلك يتصور في الحرج، واختلال النظام، والمزاحمة لتكليف آخر
أهم أو مساو للتكليف المعلوم بالاجمال وغير ذلك، مما قد لا يكون مانعا إلا
من الموافقة القطعية.
وقد جعل شيخنا الأعظم قدس سره خصوص الاضطرار، وتبعه على ذلك من
تأخر عنه، ولا وجه لتخصيص الكلام به إلا محض التمثيل، كما يظهر منه قدس سره.
نعم، قد يختص ببعض الجهات التي قد تظهر في ما يأتي من الكلام إن
شاء الله تعالى.
إذا عرفت هذا، فقد وقع الكلام بينهم في أن سقوط الموافقة القطعية هل
يستتبع سقوط الموافقة الاحتمالية أيضا، أو لا بل لابد من التنزل إليها وتحريم
المخالفة القطعية؟
صرح شيخنا الأعظم قدس سره بالثاني بدعوى: أن المانع المذكور لما لم يقتض
الترخيص في كلا الطرفين، بل في أحدهما على البدل فهو لا ينافي إلا وجوب
الموافقة القطعية، ولا يصلح لرفع التكليف رأسا، بل يقتضي التنزل إلى الموافقة
الاحتمالية بامتثال التكليف المذكور من الطريق الذي رخص الشارع بامتثاله به،
وهو الأطراف الباقية بعد العمل بالترخيص البدلي.
وقد نظر لذلك بجميع الطرق الشرعية المنصوبة لامتثال التكاليف
الواقعية، حيث يرجع جعلها إلى القناعة عن الواقع بمؤدياتها والاكتفاء في امتثاله
بمتابعتها، من دون أن يرجع جعلها إلى رفع اليد عن الواقع المعلوم إجمالا
وإهماله رأسا، وإن احتمل عدم إصابتها له.
ولا يخفى ما في التنظير، لوضوح أن الطرق الشرعية إن كانت ناظرة
للمعلوم بالاجمال وشارحة له فهي محرزة للفراغ عنه، فتكون متابعتها موافقة
قطعية له.
281

وإن لم تكن ناظرة له فحيث كانت منجزة لمؤدياتها كانت مانعة من
منجزية العلم الاجمالي، لما تقدم ويأتي في مباحث الانحلال من أنه يعتبر في
منجزيته صلوحه للتأثير في جميع أطرافه، فالشارع وإن لم يرفع اليد عن الواقع
على تقدير المخالفة إلا أن الواقع لا منجز له حتى يجب امتثاله.
ولا مجال لذلك في المقام، لوضوح أن دليل الترخيص في المقام لا نظر
له للمعلوم بالاجمال، ليصلح لشرحه وللتعبد بامتثاله.
كما أنه لا يقتضي المنع من بقية الأطراف، ليكون هو المنجز لها لو فرض
سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية، إذ المفروض أن مفاده الترخيص على
البدل لا المنع على البدل، فتنجيز بقية الأطراف موقوف على منجزية العلم
الاجمالي، فلابد من توجيه صلوحه للمنجزية مع الترخيص المذكور.
وهو مورد الاشكال في المقام، لما هو المعلوم من أن تنجيز العلم
الاجمالي موقوف على فعلية المعلوم بالاجمال بحيث يثبت على كل حال، ولا
مجال لذلك مع الترخيص المذكور.
نعم، لو رجع كلامه قدس سره إلى تصرف الشارع في مقام الإطاعة بحيث يكتفي
بالإطاعة الاحتمالية من دون تعبد بتحققها في مورد الاحتمال كفى في دفع
الاشكال، على ما يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.
إلا أنه قد سبق منه قدس سره الاصرار على امتناع ذلك، وأنه لا مجال للترخيص
في بعض أطراف العلم الاجمالي إلا مع المنع عن بقيتها، ليرجع إلى تعيين
الامتثال به وإحرازها معه اللازم بحكم العقل، كما هو الحال في جعل الطرق
الشرعية، الذي جعله نظيرا للمقام، وعرفت ما فيه.
كما أن ظاهر غيره المفروغية عن ذلك، لان وجوب الموافقة القطعية من
الاحكام العقلية غير القابلة للتخصيص.
ومن ثم ذكر المحقق الخراساني قدس سره أن الترخيص بالنحو المذكور مناف
282

للتكليف المعلوم بالاجمال، المقتضي لاجتناب متعلقه على كل حال، فلابد من
ارتفاع التكليف المذكور حين الترخيص المذكور.
نعم، بعد العمل بمقتضى الترخيص، وارتكاب بعض الأطراف، وسقوط
دليل الترخيص بذلك، يحتمل كون الطرف الباقي هو الحرام.
لكن لا منجز للاحتمال المذكور بعد ارتفاع العلم الاجمالي، بل يتعين
الرجوع فيه للأصل الترخيصي.
وقد تصدى غير واحد لدفع ذلك وتوجيه منجزية العلم الاجمالي في
المقام، والمتحصل من كلماتهم وجوه..
الأول: ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الاضطرار ونحوه
وإن كان مقتضيا للترخيص، إلا أنه لا يقتضي ارتفاع التكليف الواقعي رأسا،
ليكون كلا الطرفين حلالا لا موضوع معه للاحتياط، بل يقتضي الاقتصار في
تقييد التكليف الواقعي الذي يقتضيه الاضطرار.
وتوضيحه: أن الاضطرار حيث لا يقتضي الترخيص في كل طرف
بخصوصه، بل يقتضي الترخيص في بعضها لاغير بنحو البدلية، فهو لا يقتضي
رفع التكليف الواقعي القائم بأحد الأطراف رأسا، بل يقتضي تقييده بما إذا لم
يرتكب غيره من الأطراف، فأي منها كان موردا للتكليف الواقعي فالتكليف به
مشروط بذلك، ولا يرتفع التكليف عنه إلا إذا لم يرتكب غيره، أما إذا ارتكب
غيره فحيث كان ذلك الغير كافيا في تحقق مقتضى الترخيص فلا ملزم برفع
التكليف عن مورده. فإذا ارتكب جميع الأطراف فقد خالف التكليف الواقعي
الفعلي قطعا، حيث ارتكب الحرام الواقعي مع ارتكاب غيره الذي هو شرط في
فعلية التكليف به.
وفيه: أن التكليف الاجمالي القائم ببعض الأطراف المعين في نفسه إنما
يكون فعليا في ظرف ارتكاب غيره إذا كان ارتكاب الغير هو الرافع للاضطرار،
283

أما إذا كان الرافع للاضطرار هو الطرف الذي هو مورد للتكليف الاجمالي،
فالتكليف فيه لا يكون فعليا سواء ارتكب غيره بعد ذلك أم لا، فمن اضطر
لشرب أحد الانائين المعلوم بنجاسة أحدهما، فشرب النجس الواقعي أو لا،
ورفع اضطراره به كان حلالا له وإن شرب غيره بعد ذلك، وحينئذ فالعلم بفعلية
التكليف موقوف على العلم برفع الاضطرار بغير الحرام، والمفروض عدم
حصول العلم المذكور.
نعم، ذكر سيدنا الأعظم قدس سره أن ذلك إنما يقتضي جواز ارتكاب جميع
الأطراف تدريجا، أما ارتكابها دفعة فلا مجال له، للعلم معه برفع الاضطرار بغير
مورد التكليف، الملازم لفعلية التكليف في مورده المانعة من مخالفته.
ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية، كالدوران بين
القصر والتمام، لان مخالفة احتمال التكليف في جميع أطرافها دفعية، إلا أن
يكون العلم الاجمالي تدريجيا، كما لو علم بوجوب إكرام زيد يوم الجمعة أو
عمرو يوم السبت واضطر لترك أحدهما.
لكن يشكل ما ذكره قدس سره: بأن التكليف قبل رفع الاضطرار إن كان فعليا وقد
انشغلت به الذمة وجب إحراز الفراغ عنه وامتنع رفع الاضطرار، وإن لم يكن
فعليا لم يجب الفراغ عنه.
فالتحقيق: أنه بعد فرض أن الاضطرار ونحوه في المقام من قيود نفس
التكليف لمنافاته له يتعين البناء على ارتفاع التكليف ما دام الاضطرار موجودا،
لوضوح التنافي بين التكليف بأحد الطرفين المعين في نفسه مع الترخيص في
مخالفته ورفع الاضطرار به، ومن الظاهر أن الترخيص المذكور مستمر إلى آخر
أزمنة ارتفاع الاضطرار حتى مع المخالفة في جميع الأطراف دفعة واحدة.
نعم، بعد سقوط الترخيص المذكور والعمل بمقتضاه في رفع الاضطرار
ونحوه يتعين رجوع التكليف لو فرض بقاء موضوعه، إلا أنه غير معلوم في
284

المقام مع الارتكاب التدريجي، ومعلوم العدم مع الارتكاب الدفعي، فلا منجز
للتكليف حتى يجب الفراغ عنه بالاحتياط.
الثاني: ما في كلام بعض الأعاظم قدس سره ونسب إليه الجزم به من أن العنوان
الموجب للترخيص - كالاضطرار - لما لم ينطبق على مورد التكليف الاجمالي
بخصوصه لم يكن صالحا لرفعه، فالحرام غير مضطر إليه في المقام حتى ترتفع
حرمته، ومجرد الاضطرار للجامع بينه وبين الحلال لا يوجب رفع التكليف عنه،
ولذا لا يكون الاضطرار بالنحو المذكور للتكليف عنه مع العلم به تفصيلا،
فالاضطرار في المقام لا يرفع التكليف الواقعي، كما لا يمنع من منجزية العلم
الاجمالي، وغاية ما يقتضيه جواز رفعه بأحد الأطراف وإن صادف الحرام
الواقعي، ولا وجه لجواز ارتكاب غيره بعد كونه طرفا للعلم الاجمالي المنجز.
وفيه.. أولا: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من أنه لو تم عدم صلوح الاضطرار
المذكور لرفع التكليف الواقعي لم يجز رفعه في المقام بأحد الأطراف، لامتناع
الترخيص في مخالفة التكليف الواقعي الفعلي.
بل عليه يمتنع ارتفاع التكليف لو كان لكل من الخصوصيتين دخل في
التكليف، كما لو اضطر إلى أكل الميتة أو الدم لعدم الاضطرار إلى كل منهما
بخصوصيته ليرتفع التكليف به، وليس الجامع بينهما موضوعا للتكليف، ليرتفع
بالاضطرار إليه.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن ما يختاره المكلف يكون مصداقا
للمضطر إليه فيرتفع التكليف به حين اختياره، لا حين حدوث الاضطرار
للجامع.
فهو كما ترى! لوضوح أنه لا دخل لاختيار المكلف في تغيير نحو الاضطرار،
فالاضطرار للجامع لا ينقلب اضطرارا للفرد بخصوصيته بمجرد اختياره.
وثانيا: أن ما ذكره وإن كان هو مقتضى الجمود على لسان دليل الاضطرار،
285

لان مقتضى قوله صلى الله عليه وآله: (رفع عن أمتي... ما اضطروا إليه) (1)، وقوله عليه السلام: (ليس
شئ مما حرم الله إلا وقد أحله الله لمن اضطر إليه) (2)، هو ارتفاع حكم المضطر
إليه، والمفروض في المقام عدم الاضطرار لمورد التكليف، إلا أنه لا مجال له في
مثل دليل العسر والحرج، لان ظاهره رفع الحكم الموجب لهما، ومن الظاهر أن
التكليف في المقام بسبب اشتباه مورده المستلزم للاحتياط عقلا موجب للعسر
وإن كان لا يوجبه لو فرض العلم التفصيلي، حيث لا يقتضي إلا موافقته في
مورده والمفروض عدم لزوم العسر منها.
وكذا الحال في مثل المزاحمة للتكليف الأهم، لان التكليف المهم بسبب
تردد متعلقه المقتضي للاحتياط يكون بنفسه مزاحما للأهم، فيسقط وإن كان
لا يزاحمه لو علم به تفصيلا. بل لما كان المستفاد من دليل الاضطرار اهتمام
الشارع بسد ضرورة المكلف ورفع اضطراره كان الاضطرار في المقام منافيا
للتكليف وإن لم ينطبق عنوان الاضطرار على مورده.
كيف! ومن الظاهر أن العسر ليس أهم من الاضطرار.
ومما ذكرنا يظهر الفرق بين المقام وما إذا كان مورد التكليف معلوما
بالتفصيل، لان الاضطرار في المقامين وإن كان إلى الجامع بين الحلال والحرام،
لا إلى الحرام بخصوصه، إلا أن التكليف لما كان يقتضي الموافقة القطعية عقلا،
فالاضطرار إن كان منافيا لها كان منافيا للتكليف عملا، فيقتضي رفعه، وإلا فلا وجه لرفعه له، لعدم التنافي بينهما، ومن الواضح الفرق في ذلك بين صورتي
العلم التفصيلي والاجمالي.
ومنه يظهر الوجه في إعماله بالإضافة إلى أحد التكليفين لو كان لكل من

(1) تقدم في أدلة البراءة ص: 35.
(2) الوسائل، ج: 16 باب: 12 من كتاب الايمان، ح: 18.
286

الخصوصيتين دخل في التكليف بها، كما لو اضطر إلى الميتة أو الدم، فإنه لما
كان الاضطرار منافيا للعمل بأحد التكليفين لا غير تعين رفع اليد عن أحدهما
فقط تخييرا، ورجع ذلك إلى تقييد كل منهما بما إذا لم يعمل على طبق الآخر،
كما في تزاحم التكليفين. فتأمل جيدا.
الثالث: ما في كلامه أيضا ونسب إليه أيضا الجزم به، واختاره غير واحد
من تلامذته، وهو يبتني على ما تقدم في الوجه السابق من عدم صلوح
الاضطرار لرفع التكليف، إلا أنه يفترق عنه بأن ما يختاره المكلف لرفع
الاضطرار لا يكون مرخصا فيه واقعا - كما في الوجه المذكور - بل حيث يشك
في انطباق التكليف عليه يكون مرخصا فيه ظاهرا مع بقاء التكليف الواقعي
على ما هو عليه، لفرض عدم صلوح الاضطرار لرفعه.
وفيه: - مع ما تقدم من الاشكال في المبنى المذكور - أنه لا مجال للبناء
على الترخيص الظاهري في المقام بعد كون الاضطرار معلوما وكونه موجبا
للترخيص الواقعي، وليس كالشك موجبا للترخيص الظاهري.
وحينئذ إن فرض صلوحه لرفع التكليف في المقام لزم البناء على الرفع
والترخيص الواقعي، وإلا لزم البناء على بقاء التكليف الواقعي على كل تقدير
المستلزم لعدم جواز رفع الاضطرار، لما تقدم.
وأما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن العلة الموجبة للترخيص لما كانت هي
الجهل بمورد التكليف لا الاضطرار، ولذا لو علم بمورد التكليف تفصيلا تعين
رفع الاضطرار بغيره، كان الترخيص في المقام ظاهريا لا واقعيا.
ففيه: - مع ما تقدم في الوجه السابق - أن الجهل إنما يوجب الترخيص
الظاهري إذا رجع إلى الجهل موضوع التكليف الواقعي أو ببعض حدوده
وقيوده، المستلزم للجهل بالتكليف نفسه، كما لو جهل بأصل الاضطرار لمورد
التكليف وكان مقتضى الأصل تحققه مثلا، أو جهل مورده مع العلم بوجوده، كما
287

لو اشتبه ماء الرمان بماء العنب واضطر المكلف لشرب ماء الرمان وقامت البينة
- مثلا - على تعيينه بينهما، أما في المقام فحيث فرض العلم بالتكليف بأحد
الأطراف بخصوصه، وفرض العلم بعدم صلوح الاضطرار إلى الجامع لرفعه، فلا
معنى للترخيص الظاهري.
غاية الامر أن المكلف يحتمل كون ما يختاره هو الحلال الواقعي مع قطع
النظر عن الاضطرار.
لكن المفروض أن هذا الاحتمال لا أثر له مع العلم الاجمالي بالتكليف
الفعلي، ولا يكون مصححا لجريان الأصل الترخيصي في الطرف المذكور.
ومما ذكرنا يظهر الاشكال في ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرهما من
أنه بناء على عدم علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية لا يكون
الترخيص الناشئ من الاضطرار منافيا للتكليف المعلوم بالاجمال، يكون
ترخيصا ظاهريا، كسائر الاحكام الظاهرية غير المنافية للأحكام الواقعية.
وغاية ما يلزم رفع اليد به عن وجوب الموافقة القطعية لا غير، كما هو
الحال فيما لو اختص بعض الأطراف بأصل ترخيصي. وجه الاشكال: أن الاضطرار لا يقتضي الترخيص الظاهري، بل الواقعي،
فلا وجه لقياس المقام بمسألة اختلاف الاحكام الواقعية والظاهرية.
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أنه بناء على ما يظهر منهم من المفروغية
عن عدم جواز الترخيص الشرعي في ترك الموافقة القطعية لوجوبها عقلا فلا
ينهض شئ مما تقدم بدفع ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من منافاة الترخيص
الناشئ من الاضطرار، للتكليف المعلوم بالاجمال، المستلزم لارتفاعه قبل
رفع الاضطرار وجواز رفع الاضطرار بجميع الأطراف دفعة فضلا عن
ارتكابها تدريجا.
غايته أنه مع الارتكاب التدريجي يحتمل حدوث التكليف بعد ارتكاب
288

الطرف الأول وفعليته بعد رفع الاضطرار به، وهو مدفوع بالأصل.
نعم، لازم ذلك أنه لو دار الامر بين رفع الاضطرار بأطراف المعلوم
بالاجمال ورفعه بما يعلم التكليف به تفصيلا كان المكلف مخيرا بينهما، فلو
علم المكلف بنجاسة أحد إنائين إجمالا، وبنجاسة ثالث تفصيلا، واضطر
لشرب أحدها، فكما يجوز له رفع اضطراره بأحد المشتبهين يجوز رفعه
بالثالث، لعدم الفرق بين التكليفين في المنافاة للترخيص الناشئ من قبل
الاضطرار، المستلزم لرفع أحدهما تخييرا، كما لو اضطر لاحد الانائين
النجسين، وهو مما تأباه المرتكزات العقلائية جدا، ولا يظن من أحد الالتزام به.
بل يلزم في كثير من الفروع ما يصعب الالتزام به جدا، مثلا لو دار الامر
بين القصر والتمام، وضاق الوقت عن الجمع بينهما يجوز ترك المبادرة إلى كل
منهما وانتظار خروج الوقت، لتعذر الموافقة القطعية بالإضافة إلى الامر الأدائي،
إلى غير ذلك.
ومن ثم كان الامر في غاية الاشكال.
لكن الاشكال مختص بما إذا قيل بامتناع ترخيص الشارع في ترك
الموافقة القطعية والتنزل للموافقة الاحتمالية.
أما بناء على ما تقدم منا في صدر الكلام في هذا الفصل من إمكان ذلك
فلا مورد للاشكال المذكور، إذ الترخيص حينئذ في ارتكاب بعض الأطراف
بنحو البدل لا ينافي التكليف، كي يمنع من بقائه وتنجزه بالعلم، وإنما ينافي
وجوب موافقته القطعية لا غير، فلا يقتضي إلا رفعها شرعا مع بقاء
التكليف بحاله، وإن لم يعاقب عليه على تقدير رفع الاضطرار به عملا
بمقتضى الترخيص.
فالترخيص الناشئ من قبل الاضطرار واقعي لا ظاهري، إلا أنه ليس
ترخيصا في مورد التكليف بخصوصه، ليكون منافيا له مستلزما لرفعه، بل في
289

ترك موافقته القطعية مع بقائه بنحو يقتضي الموافقة الاحتمالية في الطرف
الآخر.
نعم، بعد رفع الاضطرار يحتمل سقوط التكليف لارتفاع موضوعه بعد
ثبوته وتنجيزيه، وهو يقتضي الاحتياط.
إن قلت: مقتضى أدلة الرفع سقوط التكليف الواقعي وحلية الفعل واقعا،
لابقائه على الحرمة مع جواز مخالفته الاحتمالية وعدم العقاب عليها لا غير.
قلت: لا ملزم بذلك، بل ظاهر الأدلة عدم جعل الأحكام الشرعية بنحو
تستلزم الضرر والحرج وتنافي الاضطرار ونحوه، فهي لا تقتضي إلا اهتمام
الشارع الأقدس برفع الأمور المذكورة وترخيصه في التخلص منها، وهو كما
يكون برفع التكليف رأسا - كما في الاضطرار إلى المعين - يكون برفع وجوب
موافقته القطعية والاكتفاء بموافقته الاحتمالية في مثل المقام، لأنه نحو من
التصرف الشرعي المحقق للغرض.
نعم، الجمود على لسان دليل الاضطرار ونحوه قد يقتضي ذلك، لتضمنه
تحليل الفعل المضطر إليه واقعا المنافي لحرمته.
إلا أنه لا ينفع في المقام الذي فرض فيه الاضطرار للجامع لا لمورد
التكليف بخصوصه، ولا مجال لتعميمه له إلا بضميمة أن المستفاد منه اهتمام
الشارع برفع الاضطرار على كل حال، كما تقدم في مناقشة الوجه الثاني، ويكفي
في ذلك رفع وجوب الموافقة القطعية في المقام.
هذا، في الروافع الشرعية كالحرج والضرر، وأما العقلية كالتعذر،
والمزاحمة لتكليف أهم فهي كذلك، لما أشرنا إليه في صدر الكلام في هذا
الفصل من أن وجوب الموافقة القطعية عقلا حكم طريقي في طول وجوب
الإطاعة الواقعية، فتعذرها لا يقتضي بحكم العقل إلا سقوطها واكتفاء الشارع
بالموافقة الاحتمالية، لا سقوط أصل وجوب الإطاعة المساوق لسقوط التكليف
290

رأسا، بل مقتضى إطلاق دليل التكليف ثبوته.
وكأن هذا هو مراد شيخنا الأعظم قدس سره، وهو الذي ارتكز في ذهن غيره ممن
تقدم، إلا أنه لما لم يلائم مبانيهم اضطربت كلماتهم في المقام، ولم تنهض
بتوجيه مرادهم.
بقي في المقام أمران:
الأول: أنه لا فرق في وجوب الاحتياط مع الاضطرار إلى غير المعين بين
سبق الاضطرار على التكليف المعلوم بالاجمال أو على العلم الاجمالي نفسه
ولحوقه لهما، لان الترخيص الناشئ من الاضطرار لما لم يناف التكليف فهو
لا يمنع من تنجزه بالعلم وإن كان الاضطرار سابقا، فيجب لأجله الاحتياط في
بقية الأطراف.
كما أنه بناء على عدم وجوب الاحتياط لا يفرق أيضا بين الصور
المذكورة، لابتنائه على منافاة الترخيص المذكور للتكليف ورفعه له، ولا فرق
بين سبق الاضطرار ولحوقه في كونه موجبا للترخيص المذكور.
غايته أن سبقه مانع من حدوث التكليف ولحوقه رافع له بعد ثبوته
وتنجيزه، ولا أثر لذلك في وجوب الاحتياط، إذ ليس المحتمل بعد رفع
الاضطرار إلا رجوع التكليف بعد ارتفاعه، ولا إشكال في كونه مجرى البراءة.
الثاني: تقدم في صدر هذا الفصل أن للتكليف مراحل ثلاثا مترتبة في
نفسها: جعله، وتنجزه، ووجوب إطاعته.
ومرجع القول بعدم وجوب الاحتياط إلى كون الاضطرار مانعا من جعل
التكليف، فلا يبقى موضوع لتنجزه وإطاعته.
أما القول بوجوب الاحتياط فهو يرجع إلى نحو من التصرف في بعض
هذه المراحل حسب اختلاف الوجوه المتقدمة.
فمقتضى الوجهين الأولين كون الاضطرار موجبا لثبوت التكليف في
291

حال دون حال، لا في جميع الأحوال، وهو المعبر عنه بالتوسط في التكليف،
غايته أنه على الوجه الأول يكون التوسط في التكليف من حين حدوث
الاضطرار المقتضي للترخيص، أما على الوجه الثاني فالتوسط إنما يكون حين
رفع الاضطرار والعمل بمقتضى الترخيص، مع كون التكليف قبله ثابتا مطلقا
وفي جميع الأحوال.
أما على الوجه الثالث فلا توسط في التكليف، بل هو ثابت على كل حال،
والتوسط إنما هو في تنجيزه، حيث يكون الترخيص عليه ظاهريا مانعا من تنجز
التكليف الواقعي في ظرف رفع الاضطرار به، لامن ثبوته واقعا.
وأما على ما ذكرنا فلا توسط لا في التكليف ولا في التنجيز، بل في
وجوب الإطاعة، حيث تجب الإطاعة الاحتمالية دون القطعية. والله سبحانه
وتعالى العالم وهو ولي التوفيق والتسديد.
التنبيه السابع في ملاقي بعض الأطراف
لزوم مراعاة احتمال التكليف..
تارة: يكون راجعا إلى إحرازه تبعا للتعبد بموضوعه.
وأخرى: يكون لمحض وجوب الاحتياط شرعا أو عقلا لتنجز التكليف
ففي الأول تترتب جميع آثار الموضوع مع إطلاق دليل التعبد به، كما قد
يقال في البلل المشتبه قبل الاستبراء، لان المستفاد من أدلة الاستبراء أن وجوب
التطهر بدونه مبني على التعبد شرعا بكون الخارج منيا أو بولا، فتترتب جميع
آثار هما، لا خصوص التطهر الذي تضمنته النصوص.
نعم، لو فرض عدم إطلاق دليل التعبد واختصاصه ببعض الآثار تعين
عدم التعدي لغيرها، إذا لا مانع من التفكيك بين الآثار في التعبد بالموضوع،
ملاقي أحد الأطراف
292

نظير ما في بعض النصوص من أن المقر بالسرقة مرة واحدة لا يقطع (1)، مع أنه
يضمن المال إلزاما له بإقراره.
أما في الثاني فلا مجال لترتيب الآثار الاخر، لعدم إحراز موضوعها.
وعليه يبتني ما لعله المشهور بينهم من عدم نجاسة ملاقي أحد أطراف
العلم الاجمالي بالنجاسة وعدم وجوب الاجتناب عنه، لان نجاسة الملاقي من
آثار نجاسة ملاقيه، وهو غير ثابت بالعلم الاجمالي، وإن وجب اجتنابه احتياطا
بحكم العقل، بل مقتضى استصحاب طهارة الملاقى الحكم بطهارة الملاقى.
ومما ذكرنا يظهر حال ما عن الحدائق، حيث تعجب من حكمهم بعدم
النجاسة في ما نحن فيه وحكمهم بها في البلل، مع كون كل منهما مشتبها حكم
عليه ببعض أحكام النجاسة.
هذا، وقد أطال شيخنا الأعظم قدس سره وغيره ممن تأخر عنه في بيان مباني
الكلام في ذلك، وينبغي التعرض لذلك في ضمن أمور..
الأول: قال شيخنا الأعظم قدس سره: (وهل يحكم بتنجس ملاقيه؟ وجهان، بل
قولان مبنيان على أن تنجس الملاقي إنما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك
النجس، بناء على أن الاجتناب عن النجس يراد به ما يعم الاجتناب عن ملاقيه
ولو بوسائط، ولذا استدل السيد أبو المكارم في الغنية على تنجس الماء القليل
بملاقاة النجاسة بما دل على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى: (والرجز
فاهجر) (2) ويدل عليه أيضا ما في بعض الاخبار من استدلاله على حرمة
الطعام الذي مات فيه فأرة بأن الله حرم الميتة (3)، فإذا حكم الشارع بوجوب

(1) راجع الوسائل، ج: 18 باب: 3 من أبواب حد السرقة.
(2) سورة المدثر: 5.
(3) وهو خبر جابر عن أبي جعفر عليه السلام: (أتاه رجل فقال: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت،
فما ترى في أكله؟ قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: لا تأكله، فقال له الرجل: الفارة أهون علي من أن أترك
طعامي من أجلها. فقال له أبو جعفر عليه السلام: إنك لم تستخف بالفارة، وإنما استخففت بدينك، إن الله
حرم الميتة من كل شئ لما الوسائل ج: 1 باب: 5 من أبواب الماء المضاف ح: 2.
293

هجر كل واحد من المشتبهين فقد حكم بوجوب هجر ما لاقاه، وهذا معنى ما
استدل به العلامة قدس سره في المنتهى على ذلك بأن الشارع أعطاهما حكم النجس،
وإلا فلم يقل أحد إن كلا من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره.
أو أن الاجتناب عن النجس لا يراد به إلا الاجتناب عن العين وتنجس
الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتب على العنوان الواقعي من
النجاسات، نظير وجوب الحد للخمر، فإذا شك في ثبوته للملاقي جرى فيه
أصل الطهارة وأصل الإباحة. والأقوى هو الثاني...).
هذا، ولا يخفى أن البناء على أن الاجتناب عن النجس يراد به ما يعم
الاجتناب عن ملاقيه إن رجع إلى ظهور دليل الاجتناب في كونه كناية عن
الانفعال، نظير ظهور بعض النصوص الناهية عن إدخال اليد النجسة في الاناء
في تنجسه بها - كما لعله المناسب لما نقله عن الغنية من الاستدلال - فهولا ينفع
في المقام، ضرورة أن وجوب الاجتناب عن الأطراف - مع عدم كونه مستفادا
من خطاب شرعي لفظي، بل هو ثابت بحكم العقل - ليس كناية عن نجاسة
الملاقى فضلا عن الملاقي، بل للاحتياط، ولذا يختص بما يصلح للتكليف،
كالماء الذي يحرم شربه إذا كان نجسا، والثوب الذي تمتنع الصلاة به إذا كان
كذلك، دون مثل القلنسوة والخاتم.
وإن رجع إلى دعوى: أن تحريم الشئ يستلزم تحريم ملاقيه عقلا أو
عرفا أو شرعا، كما لعله المناسب لوجه الاستدلال بالحديث المشار إليه.
فهو - مع عدم صلوحه لاثبات النجاسة، بل لوجوب الاجتناب لا غير - لا
ينفع أيضا، لان الملزوم هو وجوب الاجتناب الشرعي الواقعي - كما في الميتة
294

لا العقلي الظاهري، كما في المقام.
وكذا الحال لو رجع إلى دعوى: ملازمة وجوب الاجتناب عن الشئ أو
نجاسته لنجاسة ملاقيه، لعين ما ذكر.
وكأن ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في فوائده وحاشيته على الرسائل
راجع إلى بعض ما ذكرنا. فراجع.
ومما ذكرنا يظهر الاشكال في قوله قدس سره: (فإذا حكم الشارع بوجوب هجر
كل واحد من المشتبهين) وفي ما حكاه عن المنتهى من أن الشارع أعطاهما
حكم النجس.
بل ما يظهر منه قدس سره في صدر كلامه من وجود القول بتنجس الملاقي بعيد
جدا، فإن العلم الاجمالي لا يقتضي نجاسة الملاقى فضلا عن الملاقي، بل غاية
ما يدعى في المقام هو وجوب الاحتياط باجتناب الملاقي كالملاقي من دون
تعبد بنجاسته، وإن كان لا يبعد عموم ذلك لملاقي الملاقي وإن تعدد الوسائط،
لعين ما يذكر فيه مما تقدم ويأتي إن شاء الله تعالى.
نعم، لو أمكن دعوى: أن امتثال الاجتناب عن الملاقى لا يكون إلا
باجتناب ملاقيه، نظير إكرام زيد الذي لا يكون إلا باكرام ولده، فيكون اجتناب
الملاقي محققا لامتثال التكليف بالملاقى، اتجه البناء على وجوبه في المقام،
فإنه وإن لم يعلم بنجاسته ولا بملاقاته للنجس، إلا أن احتمال ذلك كاف في
لزومه بمقتضى الإطاعة اليقينية للمعلوم بالاجمال، الذي يحتمل انطباقه على
الملاقى الذي لا يتحقق الفراغ عنه إلا باجتناب الملاقي.
إلا أن ذلك - مع كونه بعيدا عن كلام شيخنا الأعظم قدس سره جدا - مما لا يظن
من أحد الالتزام به، لوضوح أن لملاقي النجس تكليفا مباينا لتكليف الملاقى، له
إطاعته ومعصيته، فلابد من تنجزه بنفسه بعلم ونحوه، ولا يكفي تنجز الملاقى
في تنجيزه. على أنه لا يبعد كون مقتضى أصالة عدم ملاقاة النجس الواقعي
295

للملاقي عدم توقف اطاعته على اجتنابه، لولا ذلك لزم البناء على اجتناب ما
يحتمل ملاقاته للنجس.
ومجرد الفرق بين ما نحن فيه وبينه بعدم العلم بتحقق الملاقاة فيه
بخلاف ما نحن فيه حيث يعلم بتحققها - ليس فارقا بعد كون المعلوم في ما نحن
فيه مطلق الملاقاة لا ملاقاة النجس. فتأمل.
الامر الثاني: المتصور بدوا في تنجس الملاقي وجهان:
الأول: أن يكون من باب السراية والانبساط في نجاسة الملاقى، بمعنى
أن نجاسة الملاقى بنفسها تتسع بنحو تشمل الملاقي وتعرض عليه، نظير
الحرارة الشديدة في الماء التي تسري إلى ما يختلط به.
الثاني: أن يكون من باب التسبيب بحيث تكون للملاقي نجاسة أخرى
غير نجاسة الملاقي ناشئة منها ومسببة عنها شرعا.
وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من فرض وجه ثالث، وهو
محض التعبد من دون تسبيب ولا سراية، بأن يكون الملاقي موضوعا مستقلا
في عرض الملاقى قد حكم الشارع عليه بالنجاسة بشرط الملاقاة.
فالظاهر رجوعه إلى الثاني، إذ لا يراد بالتسبيب إلا السببية الشرعية
الراجعة إلى موضوعية الملاقاة للنجاسة.
إلا أن يفرق بينهما بابتناء الثاني على مقايسة الانفعال الشرعي في المقام
بالانفعال العرفي في القذارات العرفية، فكما أن العرف يستقذر الملاقي ويرى
حمله القذارة من الملاقى كذلك الشارع، وابتناء الثالث على إهمال ذلك
ومحض التعبد نظير الحكم بنجاسة الكافر.
وكيف كان، فلا إشكال على الوجهين الأخيرين، وأما على الأول فقد
يدعى أن اللازم اجتناب الملاقي، لان نجاسته تكون عين نجاسة الملاقى التي
هي طرف العلم الاجمالي ومن مراتبها، فيكون العلم الاجمالي منجزا لهما معا.
296

نظير: ما إذا علم إجمالا بتكليف في طرف أو تكليفين في طرف آخر،
حيث لا ريب في لزوم الاحتياط بلحاظ كلا التكليفين، لا خصوص أحدهما،
لعدم المرجح.
ومثله ما لو قسم أحد الانائين قسمين، حيث لا ريب في وجوب
الاجتناب عنهما معا، لتنجزهما بالعلم الاجمالي السابق على القسمة.
وفيه: أن النجاسة بنفسها ليست موضوعا للتنجيز، لعدم كونها حكما
تكليفيا عمليا، وإنما يكون التنجيز للحكم التكليفي المترتب عليها، ومن الظاهر
أن سعة النجاسة الواحدة وسريانها من الملاقى للملاقي يوجب تجدد التكليف
تبعا لتجدد موضوعه، وهو المتنجس، وإن اتحدت النجاسة، والمفروض أن
المنجز بالعلم الاجمالي هو التكليف المحتمل في الملاقى، دون التكليف
المحتمل في الملاقي.
ومنه يظهر الفرق بين ذلك وبين مورد التنظير، لان المتنجز بالعلم سابقا
هو كلا التكليفين رأسا في الأول، ومتحدا مع كلا القسمين في الثاني، من دون
أن توجب القسمة احتمال حدوث تكليف جديد.
وقد أشار لذلك بعض الأعيان المحققين قدس سره على اضطراب في كلامه،
حيث يظهر من صدره إقرار الوجه المذكور، ومن آخر الجواب عنه بذلك.
فراجع.
أما بعض الأعاظم قدس سره فقد بنى الكلام على الفرق بين الوجهين بنحو آخر
يأتي التعرض له إن شاء الله تعالى.
الامر الثالث: ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن كل ما للمعلوم بالاجمال من الآثار
والاحكام يجب ترتيبه على كل طرف، سواء كان حكما تكليفيا كحرمة الأكل والشرب
للنجس أم وصفيا، كمانعية الغصب من البيع، فإن العلم الاجمالي
بغصبية أحد المالين، كما يقتضي تنجز احتمال حرمة التصرف تكليفا في كل
297

منهما، كذلك يقتضي تنجز احتمال الحرمة الوضعية الراجعة إلى مانعية الغصب
من البيع، ولا يعتبر في ذلك فعلية الابتلاء بالحكم في كل من الطرفين، فلو فرض
تلف أحد المالين بعد العلم إجمالا بغصبية أحدهما وقبل بيع كل منهما لم يجز
بيع الثاني، لتنجز احتمال مانعية الغصب من البيع فيه بالعلم الاجمالي السابق،
وإن لم يكن موردا للابتلاء حينه.
وقد رتب على ذلك وجوب الاجتناب عما للأطراف من المنافع والتوابع
المنفصلة والمتصلة كالنماء آت، فلو علم بمغصوبيته إحدى الشجرتين أو إحدى
الدارين، فإنه كما يجب الاجتناب عن نفس الشجرتين والدارين يجب
الاجتناب عن ثمرة كلتا الشجرتين ومنافع كلتا الدارين المتجددة بعد ذلك، وإن
فرض تجدد الثمرة والمنفعة لإحدى الشجرتين والدارين بعد تلف الأخرى
منهما، لان النهي عن التصرف في الشجرة أو الدار بنفسه يقتضي النهي عن
التصرف في الثمرة أو المنفعة.
إذا عرفت هذا، فإن قلنا بأن نجاسة الملاقي مباينة لنجاسة الملاقى،
والملاقي فرد آخر للنجس في عرض الملاقى فلا مجال لتنجزه بالعلم
الاجمالي المفروض في المقام، لقيام العلم الاجمالي بالملاقي وصاحبه لاغير.
وأما لو قلنا بأن نجاسة الملاقي عين نجاسة الملاقى، لاتساع نجاسة
الملاقى وسريانها للملاقي وانبساطها فيه - على ما تقدم الكلام فيه في الامر
الثاني - تعين تنجز الملاقي بالعلم الاجمالي المذكور، لان نجاسة الملاقى تكون
تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الملاقي، وقد ذكرنا أنه يجب ترتيب
جميع أحكام المعلوم بالاجمال على تمام الأطراف، لتنجزها بالعلم الاجمالي،
فكما يتنجز بالعلم الاجمالي حرمة شرب الملاقى يتنجز حرمة أكل الطعام
الملاقي له، لأنهما معا من أحكامه التي هي طرف للعلم الاجمالي، ويكون هو
تمام الموضوع لها.
298

ثم إنه بعد أن قرب الوجه الأول ذكر أن رواية جابر المشار إليها في كلام
شيخنا الأعظم قدس سره السابق مشعرة بالوجه الثاني بدعوى: أنه عليه السلام جعل أكل الطعام
الذي وقعت فيه فأرة استخفافا بالدين، وفسره بتحريم الميتة، ولولا كون نجاسة
الميتة ووجوب الاجتناب عنها يقتضي وجوب الاجتناب عن الطعام الملاقي
لها، لم يكن موقع للجواب بذلك، إذ لو كان فردا آخر من النجاسة لكان أكله
استخفافا بحرمته، لا بحرمة الميتة. هذا حاصل ما ذكره.
ويشكل بوجوه..
الأول: أن ما ذكره أولا من تنجز الحكم الوضعي بالعلم الاجمالي مما لم
يتضح وجهه بعد عدم كون الحكم الوضعي بنفسه عمليا، ولا موضوعا لحكم
العقل بالطاعة والمعصية، فلا معنى لتنجزه إلا تنجز التكليف المترتب عليه،
كحرمة شرب النجس وحرمة التصرف في المغصوب ونحو ذلك.
فمع فرض عدم فعلية الحكم التكليفي المترتب عليه، لعدم كونه تمام
الموضوع له، بل جزء ه لا وجه لمنجزية العلم الاجمالي، بل لابد في منجزيته من
تمامية الموضوع الموجب للابتلاء بالتكليف بالاجمال، وما ذكره قدس سره من عدم
اعتبار فعلية الابتلاء في غير محله جدا.
نعم، تقدم في التدريجيات الاكتفاء بالابتلاء الاستقبالي في تنجز العلم
الاجمالي، لكن بشرط العلم به، ولا يكفي احتماله.
وأما عدم نفوذ البيع ظاهرا في الفرض الذي ذكره فلانه لا مجال لبقاء
قاعدة السلطنة بالإضافة إلى كل من المالين، لاستلزامها المخالفة القطعية، لأنها
تقتضي مشروعية بيع كل من المالين وأكل ثمنهما، مع أنه يعلم بعدم جواز أكل
ثمن أحد المالين تكليفا، وسقوط قاعدة السلطنة فيهما راجع إلى تنجز احتمال
المانعية، إذ ليست المانعية إلا منتزعة من قصور قاعدة السلطنة.
ودعوى: أنه لا موضوع لذلك قبل البيع، إذ لا ثمن قبله.
299

مدفوعة: بأن عنوان الثمن وإن كان متفرعا على البيع إلا أن ذات الثمن غير
موقوف عليه، فهو نظير العلم بنجاسة أحد الثوبين المستلزم لمشروعية الصلاة
بكل منهما والاجتزاء بها في امتثال الامر.
وهذا بخلاف مثل مسببية الاتلاف للضمان، فإن الضمان وإن كان راجعا
إلى وجوب أداء الثمن تكليفا، وهو مشروط بكون المال التالف غير مملوك
للمتلف، إلا أن العلم بخروج أحد المالين عن ملكه لا يستلزم فعلية التكليف
قبل حصول الاتلاف، فاستصحاب الملكية في كل منهما لا يستلزم مخالفة
عملية بالإضافة إلى الضمان قبل حصول الاتلاف، كي يتنجز احتمال سببية
إتلاف كل منهما لضمانه.
نعم، بعد حصول الاتلاف لأحدهما يحتمل سببيته لضمانه، إلا أنه ليس
طرفا لعلم إجمالي، بل الأصل البراءة منه نظير ملاقاة أحد أطراف العلم
الاجمالي، الذي هو محل الكلام، حيث لا مجال قبلها لتنجز احتمال التكليف،
لعدم تحقق موضوعه، كي يلزم من جريان الأصل على خلافه مخالفة عملية، فلا
موضوع للأصل بالإضافة إلى الأثر المذكور.
مضافا إلى أن العلم بعدم ملكية أحد المالين موجب لتنجز احتمال حرمة
تسليمه بنحو يمنع من بيعه، لعدم القدرة معه على التسليم. فتأمل.
هذا كله مع سبق ملكية كلا المالين أما مع عدمهما فاستصحاب عدم
الملكية في كل منهما ولو بنحو العدم الأزلي كاف في امتناع بيعه مع قطع النظر
عن العلم الاجمالي المذكور، فهو نظير ملاقي أحد أطراف العلم الاجمالي مع
سبق نجاسة كل منهما، حيث يتعين معه البناء على نجاسته. بل لا أقل حينئذ من
أصالة فساد البيع وعدم ترتب أثره. فلاحظ.
الثاني: أن تنجز الأحكام الوضعية لو تم لا دخل له بما فرعه عليه من وجوب الاجتناب عن المنافع والنماء آت المتصلة والمنفصلة، لوضوح أن
300

حرمه التصرف في الأمور المذكورة ليس من أحكام غصبية الأصل الفعلية
التكليفية أو الوضعية، بل هو حكم آخر وارد على موضوعه، ولذا لا يكون فعليا
إلا تبعا لفعلية موضوعه، وهو تحقق الأمور المذكورة كما اعترف به قدس سره، ولا
موقع بعد ذلك لما ذكره من أن النهي عن التصرف في المغصوب بنفسه يقتضي
النهي عن التصرف في توابعه عند تحققها، فإنه إن كان المراد به وحدة الحكم أو
أن الثاني من شؤون امتثال الأول، فلا مجال له مع فرض تعدد الموضوع
المستلزم لتعدد الحكم بحيث يختص كل حكم بإطاعته ومعصيته، بل يمكن
التفكيك بين الحكمين في الإطاعة والمعصية، فقد يكون الغصب للشجرة دون
الثمرة، كما قد يكون العكس.
وإن كان المراد التلازم بين الحكمين فليس هو إلا لكون كل منهما فردا
من أفراد الغصب، كالسفينة والشجرة.
ومجرد الفرق بأن الثمرة من شؤون الشجرة وتوابعها في الوجود أو
الحكم، بخلاف السفينة، ليس فارقا بعد عدم التبعية بينهما في الامتثال، كي
يكون تنجز حكم الشجرة بالعلم الاجمالي كافيا في تنجز حكم الثمرة.
وعليه يلزم الرجوع في الثمرة والمنفعة إلى مقتضى القواعد، فإن فرض
كونها طرفا لعلم إجمالي آخر - كما لو كان لكلا الأصلين منفعة أو ثمرة - كان
منجزا كالعلم الاجمالي بحرمة الأصل.
أما لو اختصت المنفعة أو الثمرة بأحد الطرفين، فإن علم بالابتلاء بها حين
العلم الاجمالي بغصبية الأصلين كانت طرفا للعلم الاجمالي، ويكون العلم
الاجمالي تدريجيا بالإضافة إليها، فينجز تمام أطرافه، كما سبق.
وإلا فإن كان الأصلان مسبوقين بالملكية ثم خرج أحدهما عنها واشتبه،
كان استصحاب ملكية الأصل المثمر محرزا لملكية الثمرة.
وعدم ترتب العمل على الاستصحاب المذكور بالإضافة إلى الأصل
301

لتنجزه بالعلم الاجمالي لا ينافي ترتب العمل عليه بالإضافة إلى الثمرة لعدم
كونها طرفا له.
كما أنه لو كانا مسبوقين بملكية الغير كان مقتضى استصحاب ملكيته
للمثمر ملكيته للثمرة وعدم جواز تصرف غيره فيها.
وأما مع عدم الوجهين فمقتضى استصحاب عدم ملكية الأصل أو الثمرة
بنحو العدم الأزلي عدم ترتيب أحكام الملك من البيع ونحوه على الثمرة، وأما
التصرف الخارجي فهو مبني على الكلام في أن جوازه موقوف على إحراز ملك
المتصرف، أو أن حرمته موقوفة على إحراز ملك الغير، وتقدم الكلام في ذلك
عند الكلام في انقلاب الأصل في الدماء والفروج والأموال في التنبيه الأول من
تنبيهات الفصل الأول في البراءة.
نعم، لو فرض توقف التصرف في الثمرة أو المنفعة على التصرف في
الأصل - كما هو الغالب أو اللازم في المنفعة - امتنع التصرف فيها، لفرض تنجز وجوب الاجتناب عن الأصل بالعلم الاجمالي المفروض.
لكن ذلك لا يستلزم ضمانها، بل هو موقوف على إحراز ملكية الغير
للأصل بالوجه المتقدم.
الثالث: أن ما ذكره في تفريع حكم الملاقي لأربط له بالمقدمة التي قدمها،
فإن السراية بالمعنى المذكور لا أثر لها في وحدة التكليف، لما هو الظاهر من أن
الحكم الوضعي لو فرض تنجزه بالعلم الاجمالي بنفسه إلا أن تنجزه باعتبار
إضافته لموضوعه، فتنجز النجاسة ليس إلا بمعنى تنجز نسبتها للنجس. لا
تنجزها في نفسها مع قطع النظر عن معروضها، لعدم الأثر لها حينئذ أصلا حتى
بنحو التعليق، ومن الظاهر أن العلم الاجمالي إنما يقتضي تنجز النجاسة في كل
من الطرفين، أما الملاقي فحيث كان موضوعا آخر فلا مجال لتنجز نجاسته حتى
لو كانت من مراتب نجاسة الملاقي.
302

نعم، لو تم ما ذكره من تنجز حكم المنفعة والثمرة تبعا لحكم الأصل فقد
يتجه تنجز حكم الملاقي حتى لو كانت نجاسته مباينة لنجاسة الملاقى مسببة
عنها، إذ كما تكون ملكية الثمرة والمنفعة تابعة لملكية الأصل، كذلك تكون
نجاسة الملاقي تابعة لنجاسة الملاقى، والتفريق بينهما بلا فارق.
الرابع: أن ما ذكره في وجه إشعار رواية جابر بالسراية غير ظاهر، إذ هي
لم تتضمن تفسير الاستخفاف بالدين الحاصل من أكل الطعام بالاستخفاف
بتحريم الميتة الراجع إلى عصيانه، كيف! ولا ريب في عدم كونه معصية له مع
تعدد الموضوع المستلزم لتعدد التكليف وتعدد الطاعة والمعصية، بل تضمنت
تعليل الاستخفاف بالدين بتحريم الميتة، ويكفي في ذلك التلازم بين تحريم
الميتة وتحريم الملاقي، ولو لأجل الفراغ عن أن حرمة الميتة راجعة إلى
نجاستها المستلزمة لنجاسة الملاقي وحرمته.
على أنه لو فرض تمامية ما ذكره من التفسير فهو لا يقتضي السراية
بالمعنى المذكور، لما عرفت من أن السراية لا تقتضي وحدة التكليف الموجب
لتوقف إطاعة حكم الميتة على اجتناب ملاقيها، فالرواية أجنبية عما ذكره على
كل حال.
وبالجملة: ما ذكره من المقدمات غير تام في نفسه، ولا صالح لان يبتني
عليه القول بالتنجيز في المقام.
الامر الرابع: لا ريب في أن الملاقي يكون طرفا لعلم إجمالي كالملاقي،
فإذا علم إجمالا بنجاسة إحدى اليدين، ولاقى الثوب اليمنى منهما، فكما يعلم
بنجاسة إحدى اليدين يعلم أيضا بنجاسة اليد اليسرى أو الثوب.
وحينئذ قد يدعى أن العلم الثاني منجز لأطرافه كالأول، فيلزم اجتناب
الملاقي لذلك.
وقد تصدى غير واحد للكلام في حال العلم الاجمالي المذكور وتوجيه
303

عدم منجزيته مطلقا أو في بعض الصور.
وقد ذكر شيخنا الأعظم قدس سره أنه لا مجال للبناء على منجزية العلم الاجمالي
بالإضافة إلى الملاقي، لعدم المعارض لاستصحاب الطهارة فيه بعد سقوط
الأصل في الملاقى وطرفه بالمعارضة في مرتبة سابقة على جريانه فيه، إذ في
مرتبة جريان الأصل في الملاقى لا يجري الأصل في الملاقي، لأنه مسبب عنه،
فيتعارض الأصل الجاري في الملاقى والأصل الجاري في طرفه بسبب العلم
الاجمالي بكذب أحدهما ولزوم المخالفة القطعية منهما، وبعد سقوطهما
يجري الأصل في الملاقي بلا معارض.
وأما ما أشار إليه بعض مشايخنا من أن الأصل الجاري في الملاقي وإن
كان متأخرا رتبة عن الأصل الجاري في الملاقى، إلا أن كلا الأصلين في عرض
الأصل الجاري في الطرف الآخر، بلا ترتب بينهما، لان ملاك الترتب بين
الأصول الشرعية هو التسبب وكون مؤدى أحد الأصلين موضوعا لمؤدى الآخر،
ولا تسبب هنا بين الأصل الجاري في الطرف الآخر وكلا الأصلين الجاريين في
الملاقى والملاقي، وليس المراد باتحاد رتبة الأصلين إلا محض عدم المقتضي
لتقدم أحدهما على الآخر، لا وجود المقتضي للاتحاد ليمتنع اتحاد الشئ رتبة
مع كلا الامرين المترتبين.
فهو مندفع: بأن عدم الترتب بين الأصل الجاري في الطرف الآخر
والأصل الجاري في الملاقي لا يقتضي التعارض بينهما، لتوقف التعارض على
جريانهما في عرض واحد، والمفروض سقوط الأصل الجاري في الطرف
الآخر بمعارضة الأصل الجاري في الملاقى المفروض كونه في عرضه أيضا،
وحيث كان الأصل في الملاقي متأخرا رتبة عن الأصل في الملاقى تعين عدم
المعارض له في مرتبة جريانه، لسقوط معارضه في المرتبة السابقة عليه وإن لم
يكن متأخرا عنه رتبة.
304

وأشكل من ذلك ما ذكره من أن السبق والتأخر الرتبي إنما يترتب عليهما
الأثر في الاحكام العقلية المترتبة على الرتبة، وأما الأحكام الشرعية فهي مترتبة
على الموجودات الخارجية، ولا أثر فيها للتقدم والتأخر الرتبي، ولذا لو علم إما
ببطلان صلاة الصبح لبطلان وضوئها، أو ببطلان صلاة الظهر لخلل فيها، وجب
إعادة الصلاتين معا، وإن كان بطلان الصبح متأخرا رتبة عن بطلان الوضوء الذي
هو طرف العلم الاجمالي.
لاندفاعه: بأن ذلك إنما يتم في ما إذا كان الترتب في أحد الأطراف
لا يوجب الترتب بين الأصول الجارية فيها، كما لو علم إجمالا إما بترك الوضوء
لصلاة الصبح أو بترك السلام من صلاة الظهر، فإن الوضوء وإن كان سابقا رتبة
على صلاة الصبح، إلا أن الأصل الذي يرجع إليه في الشك فيه هو قاعدة الفراغ
في الصبح، وهي في مرتبة قاعدة الفراغ في الظهر، فيتساقطان.
أما إذا كان الترتب في نفس الأصول الجارية في الأطراف فالمتجه البناء
على سقوط الأصول المتقدمة رتبة بالمعارضة، وانفراد الأصل المتأخر رتبة
بالجريان في بعض الأطراف. كما هو الحال في المقام.
ومثله مورد النقض، لان قاعدة الفراغ من الوضوء للصبح سابقة رتبة على
قاعدة الفراغ من الصبح نفسها، وبعد سقوط الأولى بالمعارضة لقاعدة الفراغ من
الظهر تجري قاعدة الفراغ من الصبح بلا معارض.
ثم انه قد استثنى شيخنا الأعظم قدس سره مما تقدم ما لو فرض حين العلم
الاجمالي عدم جريان الأصل في الملاقى لتلف ونحوه مما يوجب خروجه عن
الابتلاء، فذكر أنه يتعين حينئذ لسقوط الأصل الجاري في الملاقي بالمعارضة
بالأصل الجاري في الطرف الآخر، لعدم المسقط للأصل في الطرف المذكور في
مرتبة سابقة على جريان الأصل في الملاقي، بل يجريان معا ويسقطان
بالمعارضة.
305

هذا حاصل ما اعتمده شيخنا الأعظم قدس سره في المقام، وتابعه فيه بعض
الأعاظم قدس سره.
لكنه لا يناسب ما تقدم منه عند الكلام في وجوب الموافقة القطعية
وجريان الأصول في الأطراف، من أنه لا أثر للترتب بين الأصول وحكومة
بعضها على بعض في رفع التعارض، بل تسقط الأصول المترتبة جميعها
بالمعارضة.
وكيف كان، فهو مبني على أن منشأ وجوب الاحتياط في أطراف العلم
الاجمالي تعارض الأصول فيها بنحو لو اختص بعضها بالأصل لجاز ارتكابه.
أما بناء على ما تقدم من منجزيته ذاتا بنحو يقتضي الموافقة القطعية فلا
ينفع عدم المعارض للأصل في الملاقي في مرتبة جريانه في جواز ارتكابه.
على أن لازم ذلك جواز ارتكاب الملاقي حتى مع فرض خروج الملاقى
عن الابتلاء حين العلم الاجمالي، ولا وجه لاستثنائه، لان الأصل في الملاقى
وإن لم يترتب عليه الأثر بالإضافة إليه، إلا أنه يترتب عليه الأثر بالإضافة إلى
الملاقي، فيجري بلحاظه ويعارض الأصل في الطرف الآخر، وبعد تساقطهما
يجري الأصل في الملاقي بلا معارض، ويتعين اجتناب الطرف الآخر وحده
لسقوط الأصل فيه بالمعارضة في الرتبة السابقة.
بل يلزم من ذلك عدم جواز ترتيب الطهارة على الملاقي في الفرض
الأول، إذ في مرتبة جريان أصالة الطهارة فيه تجري أصالة الحل في الملاقى
وطرفه، وبعد تساقط الأصول الثلاثة تجري أصالة الحل في الملاقي لا غير من
دون أن يترتب عليه آثار الطهارة، إلى غير ذلك مما يظهر بالتأمل في الموارد
على اختلاف سنخ الأصول الجارية فيها.
ولا يظن منهم الالتزام بذلك. وقد تقدمت الإشارة إليه عند الكلام في وجوب
الموافقة القطعية. فراجع.
306

وعليه يلزم الرجوع في المقام إلى القواعد المرعية في العلوم الاجمالية
المتداخلة من لزوم تقديم الأسبق منها وتعينه للمنجزية.
وتوضيح ذلك: أن في المقام علوما إجمالية ثلاثة..
الأول: العلم بنجاسة الملاقى والملاقي أو نجاسة صاحب الملاقي.
الثاني: العلم بنجاسة الملاقى أو صاحبه.
الثالث: العلم بنجاسة الملاقي أو صاحب الملاقى.
والأخيران أخص أطرافا من الأول، فمع عدم المرجح لأحدهما على الآخر
يتعين منجزيتهما معا، الراجعة إلى وجوب موافقة الأول، ومع ترجح أحدهما
في المنجزية يتعين منجزيته وعدم الأثر للآخر، ولا للأول، لما تقدم في التنبيه
الرابع من أن تنجز بعض أطراف العلم الاجمالي بعلم إجمالي آخر مانع من
منجزيته في الأطراف الآخر.
إذا عرفت هذا، فاعلم: أن المعلومات في هذه العلوم الثلاثة إما أن تتقارن،
بأن تكون الملاقاة مقارنة لحدوث النجاسة المعلومة بالاجمال بين الملاقي
وصاحبه. وإما أن يكون المعلوم بالعلم الثاني أسبق، بأن تتأخر الملاقاة عن
حدوث النجاسة المعلومة، ولا يعقل العكس، لاستحالة تنجس الملاقي قبل
الملاقى.
فالكلام في مقامين:
الأول: في ما لو كانت الملاقاة مقارنة لحدوث النجاسة، وله صور..
إذ.. تارة: تكون العلوم الثلاثة متقارنة حدوثا أيضا، بأن يعلم بالنجاسة
والملاقاة في وقت واحد، أو يسبق العلم بالملاقاة.
وأخرى: يكون العلم الثاني أسبق، بأن يعلم بنجاسة أحد الطرفين، ثم
يعلم بسبق ملاقاة ثالث لأحدهما.
وثالثة: يكون العلم الثالث أسبق، بأن يعلم بنجاسة الملاقي أو صاحب
307

الملاقى، ثم يعلم بنجاسة الملاقى أو صاحبه، وأنه لا منشأ لنجاسة الملاقي
المحتملة التي هي طرف العلم الاجمالي السابق الا الملاقاة.
أما الأولى: فالظاهر فيها عدم ترجح أحد العلمين الأخيرين في
المنجزية، بل يكون كل منهما منجزا، لاتحادهما زمانا علما ومعلوما، فهو كما لو
علم إجمالا بوقوع النجاسة في الاناء النحاس أو الانائين الخزف، حيث يجب
اجتناب الجميع بلا إشكال.
لكن ذكر بعض الأعاظم أن التنجيز يختص بالثاني، لأنه أسبق رتبة بلحاظ
سبق معلومه، لفرض أن نجاسة الملاقي متأخرة رتبة عن نجاسة الملاقى.
ومن ثم بنى على عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي مطلقا.
ويشكل: بأن التنجز ليس للنجاستين المترتبتين، بل لأحكامهما التكليفية
العملية، كوجوب الاجتناب، وترتب موضوعي التكليفين لا يوجب الترتب
بينهما، بعد عدم كون أحدهما موضوعا للآخر، لما تقدم من أن المترتب على
أمر مقارن لشئ لا يكون مترتبا على ذلك الشئ.
على أنه لو فرض الترتب بين الحكمين فلا يتضح مرجحيته في التنجيز
بعد عدم الترتب بينهما زمانا لا بنفسيهما ولا بلحاظ العلم الاجمالي بهما.
نعم، لو كان الترتب موجبا للترتب في الأصول الجارية في الأطراف كان
له الدخل في التنجيز، بناء على أن المعيار فيه تعارض الأصول وتساقطها،
كما تقدم.
لكنه خارج عن محل الكلام.
وأما الثانية: فظاهر المحقق الخراساني قدس سره فيها اختصاص المنجزية
بالعلم الثاني، لأنه أسبق حدوثا، فينجز أطرافه، ويمنع من منجزية العلم الثالث
والأول المتأخرين عنه حدوثا، وتابعه على ذلك غير واحد.
308

وربما يقال (1): إن العبرة في مرجحية أحد العلمين المتداخلين في
المنجزية، والمانعية من منجزية الآخر هو سبق معلومه زمانا، والمفروض عدم
ذلك في المقام، ولا أثر لسبق حدوث العلم بنفسه، لان العلم اللاحق بالمعلوم
السابق يوجب انقلاب العلم السابق وتبدله بالعلم الكبير، وهو العلم الأول،
فيتعين منجزيته ولزوم إحراز الفراغ عنه باجتناب تمام الأطراف.
لكن لا يخفى أن انقلاب العلم السابق إنما يوجب ارتفاع منجزيته إذا
رجع إلى ارتفاعه، كما لو قطع المكلف بنجاسة أحد إنائين، ثم تردد في النجاسة
بينهما وبين إناء ثالث، أما إذا رجع إلى زيادة المعلوم، كما لو علم بنجاسة أحد
إنائين ثم علم بنجاسة إناء ثالث معه فلا وجه لارتفاع منجزيته، ومن الظاهر أن
انقلاب العلم المدعى في المقام من الثاني، فهو لا يوجب سقوط العلم الثاني
عن المنجزية.
وإنما الاشكال في أن تنجيزه لطرفيه هل يمنع من منجزية العلم الثالث
الحاصل حين العلم بالملاقاة، لاشتراكه معه في بعض الأطراف، أو لا؟
ومن الظاهر أن الكلام لا يختص بالمقام، بل يجري في كل علمين إجماليين
بينهما عموم من وجه، تأخر أحدهما عن الآخر حدوثا، وقارنه معلوما، فهل
يكون تأخر العلم المذكور مستلزما لعدم تنجيزه، لتنجز بعض أطرافه بالعلم
السابق، الموجب لعدم العلم بالتكليف الذي يترتب عليه العمل على كل حال،
أو لا؟ بل يكون سبق معلومه وصلوحه لان يترتب عليه العمل حينئذ كافيا في
منجزية العلم به وإن كان حدوث العلم متأخرا؟
لا يبعد الثاني، لان المنجز وإن كان هو العلم، إلا أن منجزيته باعتبار

(1) ذكر ذلك بعض مشايخنا. ثم بعد ذلك ظهر عدوله عنه وجوابه عنه بما ذكرناه في الجواب عنه.
(منه. عفي عنه).
309

معلومه، فإذا كان المعلوم من شأنه التنجز تنجز مطلقا، وإن كان العلم به متأخرا.
وحيث فرض أن كلا من المعلومين يتنجز على ما هو عليه ولا يصلح كل
منهما لان يتقدم على الآخر تعين تنجزهما معا، وتأخر العلم بأحدهما لا أثر له
وبعبارة أخرى: حدوث العلم الاجمالي لا يقتضي تنجز المعلوم مطلقا،
بل في خصوص آن حدوثه، وليس المنجز في كل آن لاحق إلا بقاء العلم فيه،
ففي آن حدوث العلم اللاحق واجتماع العلمين لا وجه لاختصاص التنجيز
بالعلم الأسبق حدوثا بعد عدم المرجح لاحد المعلومين، إذ ليس العلم السابق
باستمراره إلا كالعلم اللاحق بحدوثه فيشتركان في التنجيز في زمان اجتماعهما،
وسبق الأول إنما يقتضي انفراده بالتنجيز في زمان انفراده لا غير.
ومنه يظهر اندفاع ما في بعض كلماتهم من أن التكليف إنما يتنجز
بوجوده العلمي المفروض تأخره في المقام، لا بوجوده الواقعي المفروض
مقارنته لوجود التكليف الآخر.
وجه الاندفاع: أن التأخر إنما يوجب قصور العلم عن التنجيز في الزمان
السابق، أما الزمان اللاحق فلا مرجح للعلم السابق فيه بعد كون تنجيز العلم فيه
باستمراره المقارن لحدوث العلم المتأخر لا بحدوثه المتقدم عليه. فتأمل جيدا.
إن قلت: تقدم في التنبيه الرابع أنه لو حصل المانع من منجزية العلم
الاجمالي في بعض الأطراف، ثم علم إجمالا بحدوث التكليف بينها قبل
حدوث المانع اتجه عدم منجزية العلم الاجمالي، فلو خرج أحد الانائين عن
ابتلاء المكلف يوم الجمعة، وعلم يوم السبت بسبق النجاسة من يوم الخميس
فيه أو في صاحبه الذي هو محل الابتلاء، لم يكن العلم المذكور منجزا للطرف
المبتلى به، لان المتيقن من منجزية العلم الاجمالي العلم بترتب الأثر على العلم
حين حدوثه، لا حين حدوث الامر المعلوم، ولازمه عدم منجزية العلم اللاحق،
لعدم العلم بترتب الأثر عليه حين حدوثه، لاحتمال انطباق المعلوم على الطرف
310

المتنجز بالعلم السابق، وإن كان يترتب الأثر عليه لو فرض سبقه أو مقارنته للعلم
الآخر، لعدم المرجح لأحدهما حينئذ.
قلت: ذلك يختص بما إذا كان المانع موجبا للخلل في المعلوم وعدم
صلوحه للداعوية، كعدم الابتلاء الخارجي والاضطرار، إذ لا يعلم معه بصلوح
التكليف لان يترتب عليه العمل.
وأما في المقام فليس المانع إلا تنجز بعض الأطراف الناشئ من العلم
بالتكليف، وحيث كانت منجزية العلم في طول منجزية التكليف، والمفروض
عدم المرجح للتكليف المذكور على التكليف المعلوم بالعلم اللاحق لتقارنهما
فمجرد سبق العلم به لا يوجب تعينه للمرجحية، لما سبق.
وبعبارة أخرى: سبق العلم في أحد المعلومين لا يوجد تبدل المعلوم
الآخر وعدم صلوحه لان يترتب عليه العمل، بل الجهة المقتضية للعمل به حين
حدوثه باقية على ما هي عليه، فيتعين تنجزهما معا في ظرف حصول العلم بكل
منهما وإن تأخر أحد العلمين.
كيف! ولازم اختصاص التنجيز بالمتقدم في المقام أنه لو ارتفع العلمان
بنسيان أو غفلة أو نوم، ثم رجعا معا، لكانا سعا منجزين، إذ لا أثر للعلم السابق
بعد ارتفاعه، بل لو فرض سبق رجوع اللاحق لاختص التنجيز به وهكذا، ولا
مجال للبناء على ذلك ارتكازا، بل لا يظن من أحد البناء عليه.
وأما الثالثة: فيظهر الكلام فيها مما تقدم، إذ لو كان تقدم أحد العلمين
رتبة موجبا لاختصاص التنجز به - كما ذكره بعض الأعاظم قدس سره - اختصت
المنجزية بالعلم الثاني وإن كان متأخرا حدوثا، وإن كان تقدمه حدوثا هو
الموجب لذلك اختصت بالعلم الثالث، كما هو ظاهر المحقق الخراساني قدس سره
وغيره، وأما بناء على ما عرفت منا فالمتعين البناء على منجزية العلمين معا،
لفرض تقارن المعلومين.
311

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن اللازم في الصور الثلاث البناء على
منجزية العلمين معا واجتناب جمع الأطراف.
هذا، ولو فرض طروء بعض موانع فعلية التكليف في بعض الأطراف -
كالاضطرار والخروج عن الابتلاء - فلا ريب في جواز ارتكابه، بل يجوز
ارتكاب بقية الأطراف لو كان طروء المانع رافعا للعلم الاجمالي - كما لو طرأ
على صاحب الملاقى أو على المتلاقيين معا - وكان قبل حصول العلم، بناء على
ما تقدم الكلام فيه في التنبيه الرابع.
أما لو لم يرفع العلم الاجمالي - كما لو اختص بأحد المتلاقيين - أو كان
بعد حصول العلم، فلا مجال لارتكاب بقية الأطراف، لتنجزها بالعلم الفعلي أو
السابق، كما تقدم في التنبيه المذكور.
ولو ارتفع المانع منه بعد ذلك - كما. لو لم يرفع المكلف اضطراره حتى
فات الوقت - فله صور، وملخص الكلام فيها: أن المانع إن كان مانعا من منجزية
العلمين معا - كما لو كان في صاحب الملاقى - لزم تنجزهما معا بارتفاعه، وإن
كان مانعا من منجزية أحدهما فليس المنجز إلا العلم الأسبق تنجزا، إما لعدم
حصول المانع في أطرافه، أو لسبق ارتفاعه عنها، أو لطروء المانع بعد تنجيزه،
ولا يكون اللاحق منجزا وإن ارتفع المانع من أطرافه بعد ذلك. ولعل ذلك
يتضح مما يأتي في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.
المقام الثاني: فيما لو كانت الملاقاة متأخرة عن النجاسة، وصوره أيضا
ثلاثة على النحو المتقدم في المقام الأول.
أما الأولى: فمقتضى إطلاق من تقدم منه أن المدار في اختصاص التنجيز
بأحد العلمين الاجماليين سبق حدوثه هو منجزية كلا العلمين فيها، لعدم ترجح
أحد هما.
لكن الظاهر هنا منجزية العلم الثاني، لسبق المعلوم فيه، الموجب لتنجزه
312

بالعلم به، لرجوعه إلى العلم بحدوث تكليف صالح للتنجيز، وأما العلم الثالث
فهو وإن كان علما بالنجاسة إجمالا، إلا أنه لا يرجع إلى العلم بحدوث تكليف
زائد على المعلوم بالعلم الثاني المفروض تنجزه، لامكان انطباق المعلوم بالعلم
المذكور على المعلوم بالعلم الثاني، فليس في المقام إلا العلم بحدوث
التكليف الأول الموجب لانشغال الذمة به، والشك في حدوث تكليف جديد
مدفوع بالأصل.
وبعبارة أخرى: إن أريد بتنجيز العلم الثالث منجزيته لمؤداه سواء كان هو
التكليف المعلوم بالعلم الثاني المنجز به أم غيره، فلا مجال لذلك، لاستحالة
انشغال الذمة بما انشغلت به سابقا، وإن أريد به تنجيزه لتكليف آخر غير
المتنجز بالعلم الثاني، فلا علم بحدوث التكليف المذكور، ليكون منجزا له.
ومنه يظهر الفرق بينه وبين المقام الأول الذي فرضت فيه الملاقاة مقارنة
للنجاسة الحادثة المعلومة إجمالا، لأنه لا مجال هناك لدعوى اليقين بشئ معين
والشك في ما عداه، بل المتيقن بالاجمال مردد رأسا بين تكليف واحد في
طرف واحد وتكليفين في طرفين من دون مرجح لاحد الطرفين يقتضي تميزه
في طرفية العلم الاجمالي وانشغال الذمة المفروض.
وأما الثانية: فلا يتنجز فيها إلا العلم الثاني قطعا، لأنه الأسبق حدوثا
ومعلوما ورتبة، فيتعين للتنجيز على جميع مباني المسألة المتقدمة.
ولا يبعد كون ذلك هو مورد ما نسب للمشهور من عدم وجوب اجتناب
الملاقي لاحد المشتبهين.
بل المتيقن من محل كلامهم ما إذا وردت الملاقاة على المشتبه بما هو
مشتبه بنحو تكون متأخرة عن العلم الاجمالي بالنجاسة الموجب لصدق عنوان
المشتبه على الملاقى، ولا يكفي تأخرها عن النجاسة ثبوتا فقط.
وأما الثالثة: فلا يتنجز فيها إلا العلم الثاني أيضا، بناء على ما تقدم في
313

الصورة الثانية من المقام الأول، والأولى من الثاني، من أنه لا أثر لسبق حدوث
العلم في التنجز، بل لسبق المعلوم، فإن العلم الثالث وإن كان أسبق حدوثا، إلا أنه
بحدوث العلم الثاني قد تبدل إلى الشك البدوي بحدوث تكليف زائد على
التكليف المعلوم بالعلم الثاني المنجز به.
وإن شئت قلت: قبل حصول العلم الثاني كان المعلوم بالعلم الثالث هو
التكليف المردد بين الملاقي وصاحب الملاقى، أما بعده فقد انكشف سبق
حدوث التكليف بالملاقى أو صاحبه وانشغال الذمة به، وانقلب العلم الثالث
بسببه إلى الشك في حدوث تكليف زائد على ذلك بالملاقاة، فإن العلم بوجود
التكليف بين الملاقي وصاحب الملاقى وإن لم يرتفع، إلا أنه خرج عن كونه
علما بتكليف مستقل صالح للتنجز، بل هو تكليف مردد بين ما انشغلت به الذمة
سابقا وتنجز بالعلم الثاني، غير الصالح لان تنشغل به الذمة بعد ذلك، وتكليف
آخر مشكوك الحدوث، ومع ذلك لا مجال لمنجزية العلم المذكور.
وقد تقدم في الصورة الثانية من المقام الأول ما له نفع في المقام. فراجع.
وقد تحصل أن اللازم في الصور الثلاث منجزية العلم الثاني لا غير،
وعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي.
والعمدة فيه: ما هو المرتكز من مرجحية تقدم المعلوم في تنجيز العلم،
وأن التنجيز وإن كان مستندا للعلم إلا أن منجزيته بلحاظ كشفه عن الواقع
المعلوم وفي تنجزه. فلاحظ.
هذا، ولو فرض طروء بعض موانع التنجز في الملاقى أو صاحبه -
كالاضطرار والخروج عن الابتلاء -
فتارة: يكون بعد حصول العلم الثاني وتنجزه.
وأخرى: يكون قبله.
أما في الصورة الأولى فلا أثر له في ما تقدم، بل يبقى الطرف الآخر منجزا
314

بمقتضى العلم المذكور، ويبقى الملاقي مجرى للأصل، لعدم المنجز له بعد
فرض كون العلم الثالث لا يصلح لتنجيز طرفه الآخر، إما لتنجزه بالعلم الثاني أو
لطروء المانع من تنجزه.
ولو فرض ارتفاع المانع بعد ذلك رجع مورده طرفا للعمل الاجمالي، إذ
ينكشف بذلك أن طروء المانع لم يوجب خروجه عن حيز التكليف المعلوم
بالاجمال مطلقا، بل في خصوص وقت وجود المانع، فيعلم بالتكليف في أحد
الطرفين مطلقا، وفي الآخر بعد ارتفاع المانع، نظير العلم الاجمالي التدريجي،
الذي يجب معه الاحتياط.
ولو فرض الالتفات لارتفاع المانع حين وجوده فالامر أظهر.
وأما في الثانية فالمتصور وجهان:
الأول: أن يكون المانع في صاحب الملاقى.
والظاهر ما نعيته من منجزية العلم الثاني بالإضافة إلى الملاقى، والثالث
بالإضافة إلى الملاقي، لعدم العلم معه بالتكليف الفعلي، فلا مانع من الرجوع
فيهما للأصل. وكذا الحال لو لم تكن نجاسة صاحب الملاقى موردا لاثر
تكليفي، كما لو كان خاتما أو كتابا أو نحوهما.
هذا، ولو ارتفع المانع المذكور بعد ذلك كان كلا العلمين منجزا، نظير ما
تقدم في المقام الأول، لتقارنهما معلوما، لان المعلوم المنجز هو التكليف الفعلي
المفروض توقف العلم بحصوله على ارتفاع المانع، لا النجاسة، ليكون العلم
الثاني هو الأسبق معلوما، كما سيأتي نظيره.
الثاني: أن يكون المانع في الملاقى.
ولا ينبغي الاشكال في أنه يمنع من منجزية العلم الثاني، والظاهر منجزية
العلم الثالث حينئذ، لعدم المانع من تنجيزه. فإن ارتفع بعد ذلك من الملاقى لم
يجب اجتنابه، كما ذكره المحقق الخراساني قدس سره، لان منجزية العلم الثالث قبله
315

مانعة من منجزية العلم الثاني به، نظير ما تقدم في الصورة الثانية، إذ يكون العلم
الثالث هو الأسبق معلوما، إذ ليس المعلوم المنجز هو حدوث النجاسة، ليكون
العلم الثاني هو الأسبق معلوما، بل التكليف الفعلي المسبب عنهما، وفي ظرف
وجود المانع لا يرجع العلم الثاني إلى العلم بالتكليف الفعلي، بل العلم الثالث
راجع إلى ذلك، فيكون هو الأسبق معلوما، وبعد ارتفاع المانع لا يعلم بحدوث
التكليف الفعلي، بل هو محتمل لا غير، فلا مجال لتنجيزه.
وما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من إباء الذوق عن اجتناب الملاقي دون
الملاقى، غير ظاهر بنحو يمكن الخروج به عما تقدم.
ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من أن عدم الابتلاء لا يمنع من جريان
الأصل في الملاقى، لترتب الأثر عليه في الملاقي، حيث يقتضي طهارته،
فيعارض الأصل الجاري في صاحب الملاقى، وبعد تساقطهما لا مجال للرجوع
إلى الأصل في الملاقى بعد رجوع الابتلاء به.
لاندفاعه: بأن منشأ التعارض بين الأصلين لما كان هو العلم الاجمالي
الثالث القائم بالملاقي وصاحب الملاقى فهو لا يقتضي سقوط الأصل الجاري
في الملاقى رأسا، بل سقوطه بالإضافة إلى خصوص ما يترتب عليه من العمل
في الملاقي فلا مانع من الرجوع إليه في الملاقى بلحاظ العمل المتعلق به لو
رجع الابتلاء به.
وأشكل منه ما ذكره من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لو فرض
تأخر العلم بالملاقاة عن العلم الاجمالي بالنجاسة، كما لو لم يكن الملاقى
خارجا عن الابتلاء.
لاندفاعه: بأن الملاقي طرف لعلم إجمالي لا قصور فيه، ولا مانع من
تنجيزه، وإنما يلتزم بعدم منجزيته مع الابتلاء بالملاقى لوجود المانع منه، وهو
منجزية العلم الاجمالي الثاني، القائم بالملاقي وبصاحبه، فمع فرض ارتفاع
316

المانع المذكور بسبب خروج الملاقى عن الابتلاء يتعين البناء على منجزية
العلم المذكور.
هذا تمام الكلام في حال العلم الاجمالي بالإضافة إلى الملاقي، حسب ما
تيسر لنا بعد النظر في كلمات مشايخنا. ومنه سبحانه نستمد العون والتسديد.
بقى أمور:
الأول: أن اشتباه حال الملاقي يكون..
تارة: لاشتباه النجس مع العلم بالملاقى تفصيلا.
وأخرى: لاشتباه الملاقى مع العلم بالنجس تفصيلا.
وثالثة: لاشتباههما معا.
وكلامهم مختص بالصورة الأولى.
وأما الصورتان الأخيرتان فلا مجال لتوهم وجوب الاجتناب عن الملاقي
فيهما، إذ لا مجال لتصوير علم إجمالي قائم بأحد الطرفين بعينه مع الملاقي
ليكون بينه وبين العلم الاجمالي الآخر عموم من وجه، وينظر في المرجحات
السابقة.
وغاية ما يمكن تصويره في الصورة الثالثة هو العلم الاجمالي القائم
بالملاقي وغير الملاقي من الطرفين على إجماله، المقتضي لاجتنابهما معا مع
الملاقي، وحيث كان العلم الاجمالي الأصلي القائم بهما أخص مطلقا كان مانعا
من منجزية العلم الاجمالي المذكور بلا إشكال.
نعم، لو كان الوجه في اجتناب الملاقي في ما تقدم هو البناء على السراية
بالتقريب المتقدم، فقد يتجه وجوب الاجتناب عن الملاقي في الصورتين
المذكورتين أيضا، بل قد يتجه حينئذ الاجتناب عما يحتمل ملاقاته للنجس
مطلقا، كما أشرنا إليه هناك. فراجع وتأمل.
الثاني: لما كان منشأ اجتناب الملاقي العلم الاجمالي بالوجه المتقدم
317

فلابد من كونه منجزا في نفسه، لكون كلا طرفيه - وهما الملاقي وصاحب
الملاقى - مما يترتب الأثر التكليفي على نجاسته، كالثوب والماء، فلو كانت
نجاسة أحدهما غير مستتبعة للتكليف - كما لو كان خاتما أو كتابا - فلا مجال
لمنجزية العلم الاجمالي المذكور بل هو نظير الخروج عن الابتلاء.
نعم، بناء على أن منشأ اجتناب الملاقي هو البناء على السراية بالوجه
المتقدم اتجه وجوب اجتناب الملاقي بمقتضى العلم الاجمالي القائم بالطرفين
وإن لم يترتب الأثر التكليفي عليهما معا، لان عدم ترتبه عليهما لا ينافي
التكليف بهما بلحاظ حكم الملاقي الذي قد يترتب عليه التكليف.
الثالث: ما ذكرناه في حكم الملاقي يجري في كل تكليف مترتب على
الامر المعلوم بالاجمال، كالضمان المترتب على الغصب المعلوم بالاجمال،
فيتنجز إذا كان حكما تكليفين بالوجه الذي يتنجز به الملاقي.
كما أنه يجري في الملاقي لما يتنجز حكم نجاسته إذا لم يكن المعلوم
بالاجمال هو النجاسة، بل مرددا بينها وبين غيرها، فلو علم إجمالا بغصبية الاناء
أو نجاسة الثوب جرى في ملاقي الثوب ما تقدم من الكلام.
وربما تكون هناك فروع أخرى قد يظهر حكمها مما تقدم، لا مجال
لإطالة الكلام فيها.
التنبيه الثامن: في الانحلال
ومراد نابه سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية بتنجز التكليف المعلوم
بالاجمال بنفسه في خصوص بعض الأطراف.
وبه يفترق عما تقدم في التنبيه الرابع من سقوط العلم الاجمالي بتنجز
التكليف في بعض أطرافه، إذ المراد هناك تنجز تكليف آخر مباين للتكليف
المعلوم بالاجمال لا نفسه.
318

ثم إن تنجز التكليف المعلوم بالاجمال في خصوص بعض الأطراف..
تارة: يكون بنحو يقتضي تعيين المعلوم بالاجمال فيه، وخلو الأطراف
الاخر عنه.
وأخرى: لا يقتضي ذلك، لتردد التكليف المعلوم بالاجمال بين الأقل
والأكثر، على ما يأتي الكلام فيه.
أما الأول فكما لو علم تنجيس الدم لثوبين من بين عشرة أثواب، ثم عثر
على الثوبين بالفحص. فإنه لا إشكال هنا في سقوط العلم الاجمالي عن
المنجزية في الأطراف الاخر، وإن احتمل ابتلاؤها بتكليف آخر غير التكليف
الذي كان معلوما بالاجمال، لارتفاعه حقيقة وتبدله بالعلم التفصيلي والشك
البدوي، لان مرجع العلم الاجمالي إلى قضية منفصلة لا مجال لها مع العلم
التفصيلي المذكور.
نعم، لو كان التنجز في بعض الأطراف بطاريق تعبدي غير العلم اتجه عدم
ارتفاع العلم الاجمالي حقيقة، بل حكما، كما لو قامت البينة في الفرض على
تعيين الثوبين الملاقيين للدم، فإن احتمال خطأ البينة مستلزم لبقاء العلم
الاجمالي، إلا أن مقتضى حجيتها الاكتفاء بمتابعتها في الفراغ عن التكليف
المعلوم بالاجمال، كما لا يخفى.
لكن هذا مختص بالامارات والطرق التعبدية، حيث قد يكون لسانها
تعيين المعلوم بالاجمال، ولا مجال فيه في الأصول التعبدية، لعدم النظر فيها
للمعلوم بالاجمال، لتكون صالحة لتعيينه تعبدا.
وأما الثاني فكما لو علم بنجاسة بعض من عشرة أثواب، ثم علم بالفحص
بثوبين منها، ولم يعلم بأنها تمام المعلوم بالاجمال أو بعضه، لتردد المتنجس
بين الأقل والأكثر.
إن قلت: لا معنى لتردد المعلوم بالاجمال بين الأقل والأكثر، لوضوح أن
319

المعلوم حينئذ خصوص الأقل، والزائد مشكوك لا غير مدفوع بالأصل، فيرجع
إلى الوجه الأول.
قلت: هذا مسلم، إلا أن الأقل لما لم يكن محدودا بحدود ذهنية خاصة
منطبقة على المعلوم بالتفصيل، بل مبهما مرددا بين الأطراف، لم يصلح العلم
التفصيلي لتعيين المعلوم بالاجمال، ولذا لو فرض كون النجس في الواقع أربعة
كان نسبة كل منها إلى العلم الاجمالي واحدة، لعدم المرجح، ولا مجال مع ذلك
لتعيين المعلوم بالاجمال بالمعلوم بالتفصيل، وهذا بخلاف الوجه الأول، لأن المفروض
فيه كون المعلوم بالاجمال محدودا بحدود ذهنية منطبقة على
المعلوم بالتفصيل، كالمتنجس بالدم مثلا.
والظاهر هنا عدم وجوب مراعاة احتمال التكليف في بقية الأطراف،
لارتفاع العلم الاجمالي حقيقة، كما في الوجه الأول، لما تقدم من أن مرجعه إلى
قضية منفصلة لا مجال لها مع العلم التفصيلي المفروض.
إن قلت: لما كان العلم الاجمالي منجزا للمعلوم بالاجمال على ما هو عليه
من الابهام والترديد فلا بد من إحراز الفراغ عنه، وهو لا يحرز بمراعاة العلم
التفصيلي بعد فرض عدم إحراز التطابق بينهما، وأن نسبة العلم الاجمالي لتمام
الافراد الواقعية واحدة لو فرض زيادتها على المعلوم بالتفصيل.
قلت: وجوب إحراز الفراغ فرع انشغال الذمة بالمعلوم بالاجمال
الموقوف على بقاء العلم العلم الاجمالي، فمع فرض ارتفاعه لا مجال لانشغال الذمة
ليجب إحراز الفراغ، لوضوح أن بقاء انشغال الذمة مشروط ببقاء العلم، ولا
يكفي فيه حدوثه مع ارتفاعه.
وقد تقدم نظير هذا في التنبيه الرابع، عند الكلام في طروء بعض موانع
التنجيز في خصوص بعض الأطراف، كالاضطرار ونحوه، وذكرنا هناك أن وجه
البناء على منجزيه العلم الاجمالي في بقية الأطراف منحصر بالمرتكزات
320

العقلائية، التي لا مجال لها هنا، للفرق بين المقامين بأن المانع المفروض هناك
من سنخ الطوارئ الثبوتية الرافعة للتكليف المعلوم بالاجمال، مع عدم التبدل
في مقام الاثبات، لبقاء العلم الاجمالي على ما هو عليه، بخلاف العلم التفصيلي
هنا، فإنه من سنخ الطوارئ الاثباتية، الموجبة لارتفاع العلم الاجمالي الذي به
قوام التنجيز، مع عدم تبدل التكليف المعلوم ثبوتا، بل عدم تبدل شئ في مقام
الثبوت أصلا، فقياس أحد المقامين بالآخر في غير محله، بل المرتكزات هنا
تمنع من الرجوع للأصول الترخيصية في بقية الأطراف.
هذا، ولو فرض قياس أحد المقامين بالآخر فحيث تقدم في التنبيه السابق
أن المعيار في سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية بطروء المانع على بعض
الأطراف على مقارنة المانع للتكليف المعلوم بالاجمال أو تقدمه عليه، وإن
تأخر العلم به عن حصول العلم الاجمالي، وأن عدم تأثير المانع مشروط بتأخره
تعين في المقام البناء على سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية، لأن المفروض
كون المعلوم بالتفصيل متحدا مع المعلوم بالاجمال غير مباين له، فهو في حكم
المقارن، وإن تأخر العلم به عن العلم الاجمالي.
ومنه يظهر الحال فيما لو كان المنجز في بعض الأطراف التفصيلية
طريقا شرعيا لا يوجب العلم، فإنه وإن لم يوجب ارتفاع العلم الاجمالي، لفرض
احتمال الخطأ، كما لا يوجب الفراغ اليقيني عن المعلوم بالاجمال، لفرض عدم
تضمنه تعيينه في ضمن الأطراف التفصيلية، إلا أنه لما كان مفاد الطريق المذكور
ثبوت مؤداه من حين حصول المعلوم بالاجمال، لفرض كونه عينه أو منه، اتجه
البناء على سقوط العلم الاجمالي عن التنجيز بقيامه بالملاك المذكور هناك.
بل لا يبعد إلحاق ذلك بما ذكرناه هنا في العلم التفصيلي من تبدل الحال
في مقام الاثبات، لان العلم الاجمالي الراجع إلى القضية المنفصلة المشار إليها
وإن كان موجودا حقيقة إلا أن قيام الطريق يوجب إلغاءه عملا والتعبد بقضية
321

حملية تعيينية في خصوص مورد الطريق وإن لم تكن معلومة حقيقة، وحيث لا
يكون التعبد بالوجه المذكور منافيا للعلم المفروض، لامكان صدقهما معا، فلا
مانع منه، ويتعين لأجله رفع اليد عملا عن خصوصية الترديد المقتضية عقلا
للاحتياط، والتي هي خارجة عن الانكشاف الذي به قوام المنجزية في العلم
الاجمالي.
وبعبارة أخرى: العلم الاجمالي متقوم بانكشاف تحقق المعلوم، وباجماله
وتردده، والأول هو المعيار في المنجزية ووجوب العمل عقلا، والثاني منشأ
لوجوب الاحتياط في مقام الامتثال.
ومن الظاهر أن الأول لا ينافي التعبد بالطريق المفروض في المقام، ليكون
ليكون مانعا منه، والثاني وإن نافاه، إلا أن التعبد بالطريق يقتضي إلغاءه عملا،
كإلغاء الطرق للجهل في سائر الموارد التي يكون فيها موردا للأصول الترخيصية
أو الالزامية، فتلحق الطرق بالعلم التفصيلي في ذلك. فتأمل.
كما تلحق به الأصول الاحرازية التعبدية، كالاستصحاب ونحوه، بخلاف
أصل الاحتياط، حيث لا مجال لرافعيته للاجمال تعبدا، لعدم تعرضه لاثبات
التكليف في مورده بوجه، وينحصر الوجه في سقوط العلم الاجمالي معه عن
المنجزية بما ذكرناه في الطرق أولا، من ابتنائه على ما تقدم في التنبيه
الرابع في وجه سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية بطروء بعض موانع التنجيز
في بعض الأطراف.
وقد تحصل مما ذكرنا: أن العلم التفصيلي في المقام موجب لرفع العلم
الاجمالي حقيقة، فلا موضوع معه للاحتياط في الأطراف الاخر. كما أن الطرق
والأصول التعبدية رافعة له حكما.
وأما الأصول غير الاحرازية - كالاحتياط فهي لا تصلح لشئ منهما، وإنما
تكون مانعة من منجزية العلم لاجمالي بملاك طروء بعض موانع التنجيز في
322

بعض الأطراف، الذي تقدم في التنبيه الرابع.
وعلى ما ذكرنا يبتني الكلام في كثير من المباحث المتقدمة، كالعمل بالعام
قبل الفحص عن المخصص، والدليل العقلي على حجية الخبر، ودليل الانسداد،
والدليل العقلي للأخباريين على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية، وربما
تقدم منا خلاف ذلك، ويظهر حاله مما ذكرناه هنا. فراجع.
بقي في المقام شئ، وهو أن المفروض في تقدم في ما التنبيه الرابع أن
التكليف المعلوم بالتفصيل مباين للمعلوم بالاجمال، كما أن المفروض هنا عدم
التباين بينهما، بل المعلوم بالتفصيل هنا عين المعلوم بالاجمال وإن لم يحرز أنه
تمامه.
وهناك صورة ثالثة ينبغي التعرض لها هنا إلحاقا بهذا التنبيه، وهي ما إذا
تردد المعلوم بالتفصيل بين الامرين، بأن يكون للمعلوم بالاجمال حد واقعي،
وعنوان ذهني، لا يعلم انطباقه على المعلوم ب لتفصيل، كما لو علم إجمالا
بنجاسة ثوبين من عشرة ثياب، وأنهما ثوبا زيد مثلا، وبعد الفحص علم تفصيلا
بنجاسة ثوبين لا يعلم أنهما ثوبا زيد أو غيرهما قد تنجسا بنجاسة أخرى غير
النجاسة المعلومة بالاجمال.
والظاهر أنه لا مجال لما تقدم هنا، لبقاء العلم الاجمالي بالمعلوم الخاص
على ما هو عليه من حدود واقعية وذهنية لا يعلم انطباقها على المعلوم
بالتفصيل، فتصدق بالإضافة إليه القضية المنفصلة المشار إليها، فثوبا زيد في
المثال مرددان بين المعلوم بالتفصيل وغيره.
إن قلت: مثل عنوان ثوب زيد لا أثر له في التكليف، بل هو معرف محض،
فلا أثر للعلم الاجمالي المتعلق به، وليس موضوع التكليف والتنجيز إلا
المصاديق الخارجية على ما هي عليه من الحدود الواقعية، لأنها التي يتعلق بها
العمل، وتكون موردا للإطاعة والمعصية، ومن الظاهر أنه لا مجال لفرض العلم
323

الاجمالي في المصاديق المذكورة بما هي بعد فرض العلم التفصيلي المذكور،
بل الحال كما تقدم في الصورة السابقة.
قلت: لما كان العنوان المذكور معرفا كان دخيلا في التنجيز، إذ ليس
المنجز إلا المحكي به، وهو المصداق الخاص المحدود بحدوده الواقعية،
المردد بين المعلوم بالتفصيل وغيره، ولا وجه لارتفاع العلم الاجمالي به مع بقاء
تردده، وهذا بخلاف ما إذا كان المعلوم بالاجمال مرددا بين الأقل والأكثر فإن
الأقل مبهم في الأكثر، وليس له حد واقعي يميزه فيه، ليمكن فرض الترديد فيه،
كما تقدم.
فالظاهر أن المقام مبني على ما تقدم في التنبيه الرابع من الكلام في
سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية مع ابتلاء بعض أطرافه بتكليف تفصيلي،
حيث يتعين حينئذ التفصيل بين تأخر المعلوم التفصيلي وعدمه، فلا يمنع من
منجزية العلم الاجمالي في الصورة الأولى، على التفصيل والكلام المتقدمين
هناك.
ومجرد الفرق بينه وبين ما سبق بالعلم هناك بالتباين بين المعلومين
الاجمالي والتفصيلي، والشك فيه هنا، ليس فارقا بعد بقاء العلم الاجمالي
والشك في الفراغ عنه بامتثال المعلوم بالتفصيل.
نعم، لا يبعد البناء على إلحاق صورة الشك في التأخر بصورة العلم بعدمه
في سقوط العلم الاجمالي معه عن المنجزية، لعدم اليقين معه بكون المعلوم
بالاجمال حين حدوثه تكليفا فعليا صالحا لترتب العمل عليه، كما لعله يظهر
بالتأمل في ما ذكرناه في التنبيه الرابع، والتنبيه السابع في وجه كون المعيار في
التقدم والتأخر على حال المعلوم، لا العلم.
ولا يسع المقام تفصيل ذلك. فراجع وتأمل.
324

التنبيه التاسع: في الشبهة غير المحصورة
وقد وقع الكلام بينهم في ضابطها.
ومن الظاهر أن ما يناسب المعنى اللغوي لغير المحصور هو الذي لا يعلم
عدده (1) ولو لتردده بين عددين، ولا يبعد أن يختص عرفا بما إذا كانت أطراف
الترديد بحد لا يسهل تشخيصها دقة، بحيث لا تشخص في طرف القلة إلا بما
يعلم بوجود ما زاد عليه، ولا في طرف الكثرة إلا بما يعلم بنقص الموجود عنه،
فلو تردد أهل البلد بين الألف والتسعمائة يكون من المحصور عرفا، وإن كان
من غيره لغة، ولا يكون من غير المحصور عرفا إلا إذا لم يسهل تشخيص الحد
بين الشك واليقين. بل لا يبعد مع ذلك اعتبار البعد بين الحدين.
هذا، ولكن لا أثر لتشخيص المعنى اللغوي أو العرفي لغير المحصور،
لعدم وروده في النصوص كما ذ كره في الجواهر - ولا غيرها من الأدلة الشرعية
اللفظية، وإنما ورد في كلمات بعض الأصحاب، ومن القريب جدا أن لا يكون
مرادهم دخله في موضوع الحكم تعبدا، بل سيق في كلامهم لمحض الإشارة
لمصاديقه، بلحاظ ما اشتملت عليه من خصوصيات دخيلة في الحكم، كالحرج
ونحوه، كما قد يناسبه تعليلهم بها، فالعنوان المذكور منتزع من الافراد التي ثبت
لها الحكم بحسب الأدلة، فيكون تحديده متفرعا على تحديد تلك الافراد، وهو
متفرع على تعيين دليل الحكم، لينظر في سعته وضيقه.
نعم، المتيقن من أفرادها التكاليف الاجمالية في الأمور العامة المنتشرة
الافراد، كالعلم بوجود متنجس في الماء أو الخبز أو الجبن، ووجود المغصوب
في الأسواق والبيوت.

(1) هذا بناء على أن عدم الحصر بلحاظ العدد، أما لو كان بحسب المكان فالمعيار فيه تردد المكان
بالوجه المذكور في العدد. (منه. عفي عنه).
325

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه قد استدل على عدم وجوب اجتناب أطراف
الشبهة المحصورة بأمور..
الأول: الاجماع، ففي جامع المقاصد: (الظاهر أنه اتفاقي) وعن الروض
التصريح به، وعن الوحيد في فوائده: (عدم وجوب الاجتناب عن غير
المحصور مجمع عليه بين الكل، ولا ريب فيه، ومدار المسلمين في الاعصار
والأمصار كان على ذلك). وفي الجواهر: (للاجماع بقسميه، وللسيرة
المستقيمة)، بل عن بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة.
وكأن ذلك بلحاظ السيرة التي أشير إليها في كلام الوحيد والجواهر، حيث
لا مجال لانكارها، لوضوحها، كما لا مجال لتخطئتها لعمومها للمتدينين، بل
ينسب مخالفها للوسواس، بل لولا ذلك لاختل نظام المعاش والمعاد.
ولعل دعوى الاجماع مبنية على السيرة المذكورة أيضا، لقلة المتعرضين
للعنوان المذكور وتأخر عصورهم، كما يظهر بمراجعة مفتاح الكرامة. فكأن
الاجماع المدعى ارتكازي مستند للسيرة المشار إليها.
ومنه يظهر أنه لا مجال للاشكال في الاستدلال المذكور بعدم كون
الاجماع تعبديا، لقرب استناده لاحد الوجوه الآتية أو غيرها، فيلزم النظر في
دليله.
لاندفاعه: بأن استناد الاجماع والسيرة والضرورة لاحد الوجوه المذكورة
وإن كان قريبا، إلا أنه لا مجال لاحتمال خطئها لو فرض عدم تمامية الوجوه
المذكورة عندنا، لوضوحها وارتكازيتها، لاتصالها بعصر المعصومين عليهم السلام، لما
هو المعلوم لكل أحد في العصور المذكورة من كثرة ابتلاء الناس بالمحرمات
الواقعية ووجودها في ما يتعرضون له من حوائجهم وأعمالهم، بنحو يستلزم
العلم الاجمالي لكل أحد غالبا، فلو كان الاحتياط واجبا لحصل التنبه له، أو
التنبيه عليه، بنحو يمنع من وقوع السيرة وجري النظام عليها.
326

ومثله الاشكال: بأن وجوب الاحتياط مع العلم الاجمالي لما كان عقليا
فلا مجال لرفع اليد عنه بالأدلة الشرعية التعبدية، كالاجماع ونحوه، بل لابد من
النظر في الوجوه العقلية الموجبة لذلك.
لاندفاعه أيضا بما ذكرناه في أول الكلام في العلم الاجمالي من إمكان
رفع الشارع لموضوع حكم العقل المذكور بالتصرف في بعض الجهات التي
يبتني عليها، فلو فرض عدم تمامية الأدلة المستدل بها كان الاجماع والسيرة
والضرورة وافية باثبات مقتضاها، لكشفها عن التصرف الشرعي المذكور.
نعم، لما كانت هي أدلة لبية لم تنهض بتحديد موضوعها، فيلزم الاقتصار
على المتيقن من موردها، وضبطه في غاية الاشكال، فيلزم النظر في بقية
الوجوه، ليعول عليها في التحديد، بل قد يظهر بها مورد السيرة، لقرب استنادها
إليها، كما ذكرنا.
الثاني: النصوص الظاهرة في عدم وجوب الاحتياط في الشبهة
المحصورة فضلا عن غيرها من موارد العلم الاجمالي، كصحيح عبد الله بن
سنان وغيره مما تقدم التعرض له في أدلة البراءة، وعند الكلام في حرمة
المخالفة القطعية الاجمالية، حيت ذكرنا هناك لزوم حمله على الشبهة غير
المحصورة، خروجا عن محذور مخالفة العلم الاجمالي المنجز.
لكن لا يخفى أن تخصيص النصوص المذكورة بغير المحصور لما لم
يكن مستفادا من دليل لفظي، بل من حكم العقل بامتناع مخالفة العلم الاجمالي
مع فرض فعلية التكليف المعلوم بالاجمال، فهو متفرع على تشخيص موارد
عدم حكم العقل بالاحتياط مع العلم الاجمالي.
فالنصوص المذكورة لا تكون دليلا على جواز ارتكاب الشبهة غير
المحصورة، بل شمولها لها متفرع على قيام دليل غيرها فيها.
الثالث: ما أشار إليه في الشرايع، ونسبه في مفتاح الكرامة إليهم من
327

التعليل بدفع المشقة.
وفيه: - كما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره - أن المراد بذلك إن كان هو المشقة
الشخصية، ليكون مرجعه إلى الاستدلال بقاعدة نفي الحرج - بناء على ما هو
الظاهر من جريانها في المقام بلحاظ لزوم الحرج من امتثال التكليف بسبب
الاشتباه المستلزم للاحتياط الحرجي وإن لم يكن التكليف بنفسه حرجيا - فمن
الظاهر أن بينه وبين المدعى عموما من وجه.
وإن كان هو المشقة النوعية بمعنى لزوم الحرج من الاحتياط في الشبهة
غير المحصورة نوعا على نوع المكلفين، بأن يكون الحرج حكمة لا علة، فهو
- مع عدم الضابط له - لا ينهض بالاستدلال، لان ظاهر أدلة رفع الحرج هو
الحرج الشخصي، لا النوعي.
وأما ما دل من النصوص على أن التشريع لا يتضمن حكما يستلزم
الحرج نوعا، مثل ما ورد في تعليل عدم وجوب الغسل من البول وغيره.
فالمراد به - لو تم عمومه - عدم تشريع كبرى شرعية مستلزمة للحرج
نوعا - كالمثال المذكور - ولا يمنع من فرض كبرى انتزاعية يلزم منها الحرج
نوعا، متفرعة على كبرى، أو كبريات، شرعية لا يلزم الحرج نوعا من كل منها،
كلزوم القيام بالواجبات البدنية الأولية على المريض، المنتزع من إطلاق أدلة
الاحكام الأولية الشاملة للمريض وغيره، المتضمنة للكبريات الشرعية التي
لا يلزم الحرج نوعا من كل منها، كوجوب الصلاة، والصوم، والحج، وتطهير
المسجد، وتغسيل الميت وغيرها، بل غاية ما يلتزم به هو ارتفاع الأحكام المذكورة
في مورد الحرج الشخصي، تحكيما لقاعدة نفي الحرج على
الكبريات المشار إليها، لا على الكبرى الانتزاعية المذكورة.
ومن الظاهر أن وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ليس مفاد
كبرى شرعية، بل هو منتزع من الكبريات الشرعية التي لا يلزم منها الحرج نوعا،
328

كحرمة أكل النجس وشربه، واعتبار الطهارة في الوضوء والصلاة، وحرمة
الغصب ونحوها من الاحكام التي تعم موارد الشبهة غير المحصورة وغيرها،
فإن عموم تلك الأحكام لموارد الشبهة غير المحصورة مقتضى لحكم العقل
بوجوب الاحتياط فيها، الذي ينتزع منه كبرى وجوب الاحتياط في الشبهة غير
المحصورة، من دون أن يكون ذلك كبرى شرعية، ليلزم محذور تشريع حكم
يلزم منه الحرج نوعا.
هذا، ولعل من ذكر المشقة في المقام لا يريد الاستدلال بأحد الوجهين
المذكورين، بل التنبيه على أن الاحتياط في الشبهة غير المحصورة لما كان
يستلزم الحرج نوعا فلو كان لازما لحصل الحرج المذكور، ولاضطرب أمر
الناس، وحيث لم يحصل ذلك كشف عن وضوح عدم لزومه، فهو مشير إلى
السيرة والارتكاز المشار إليهما آنفا. فلاحظ.
الرابع: ما قد يستفاد من شيخنا الأعظم قدس سره من أن كثرة الأطراف توجب
ضعف احتمال التكليف في كل منها بنحو لا يعتني به العقلاء في مقام العمل،
ولا يصلح للتنجيز بملاك دفع الضرر المحتمل. قال: (ألا ترى الفرق الواضح بين
العلم بوجود السم في أحد الانائين أو واحد من ألفي إناء).
وفيه: - مع أن الظاهر عدم اختصاص جواز الارتكاب في الشبهة غير
المحصورة عندهم بما إذا ضعف احتمال الحرام، بل يعم ما إذا قوي لكون
التكليف المشتبه من الكثير في الكثير، أو لقرائن خارجية تقتضي انطباق
المعلوم بالاجمال على خصوص بعض الأطراف - أنه لا ريب في أن ضعف
الاحتمال في خصوص بعض أطراف العلم الاجمالي المنجز لا يصحح ارتكابه
والخروج عن احتمال التكليف، ولذا يجب الاحتياط مع حصر الشبهة مطلقا.
وذلك لان قاعدة دفع الضرر المحتمل تجري مع ضعف الاحتمال إذا كان
مهما، كضرر العقاب وعدم الاحتياط في المثال المتقدم - لو تم - إنما هو
329

لمزاحمة محذور الاحتياط للضرر المعلوم بالاجمال، حيث يكون الاحتياط مع
كثرة الأطراف مستلزما لنحو من المشقة والمشاكل التي هي محذور يزاحم بها
الضرر المعلوم بالاجمال، ولا مجال لذلك في ضرر العقاب، لأهميته.
على أن فرض تجويز العقل الاقدام على الضرر لا يقتضي الأمان منه بنحو
لا يقع في العقاب لو صادف التكليف الواقعي في المقام، نظير الحال في الاضرار
التكوينية في مثل المثال المتقدم، ومثله التزاحم بين المحذورين بسوء اختيار
المكلف، حيث يلزم العقل باختيار المحذور الأقل والوقوع في ضرر عقابه من
دون أن يحكم بالأمان منه.
وليس في الوجه المذكور ما يقتضي حكم العقل بقبح العقاب المستلزم
للأمان منه.
وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن ضعف احتمال التكليف
في كل طرف بنفسه مستلزم لقوة احتماله في بقية الأطراف بنحو البدلية، بحيث
يظن بوجوده فيها، ومرجع بناء العقلاء المدعى على عدم الاعتناء بالاحتمال
الضعيف إلى أخذهم بالظن المذكور، فيرتفع به الاجمال تعبدا، كما في سائر
موارد قيام الطريق على تعيين المعلوم بالاجمال في بعض الأطراف، فلا
موضوع لقاعدة دفع الضرر المحتمل، للأمان من العقاب بسبب الطريق المذكور
لأنه يوجب حكم العقل بقبحه.
ففيه: - مع أن لازمه تبعيض الاحتياط في الشبهة غير المحصورة،
بالاقتصار في مخالفته على المقدار الذي يكون احتمال التكليف فيه ضعيفا جدا
لا يعتني به العقلاء، لان العمل بظن التكليف في الباقي يجعله حجة تعيينا، فينجز
جميع أطرافه، ولا يظن من أحد الالتزام به، إذ غاية ما قيل في المقام هو لزوم
ترك ما عدا مقدار الحرام وحرمة المخالفة القطعية - أن الحجية التخييرية بعيدة
عن بناء العقلاء، بل المرتكز عندهم تساقط الحجج المتعارضة مع ثبوت
330

مقتضي الحجية فيها، كخبر الواحد، فضلا عن مثل هذا الظن الذي لم يتضح
ثبوت مقتضي الحجية فيه.
فالظاهر أن عدم التزام العقلاء بالاحتياط مع الكثرة ناشئ من إهمال
احتمال التكليف في الطرف من دون بناء على حجية شئ ينحل به العلم
الاجمالي، وليكون مؤمنا من الضرر المفروض في المقام، لما أشرنا إليه من
المزاحمة التي لا مجال لها في ضرر العقاب.
الخامس: ما ربما يحمل عليه كلام شيخنا الأعظم قدس سره بدلا عن الوجه
السابق، من أن كثرة الأطراف مانعة من منجزية العلم الاجمالي بنحو يكون بيانا
على التكليف ليرتفع به موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وفيه: أنه لا يفرق في منجزية العلم الذاتية بين كثرة الأطراف وقلتها، كما
يتضح مما تقدم في وجهها، وعدم المحركية في بعض الموارد ناشئ من
المزاحمة، كما تقدم.
السادس: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره ويبتني على كون الضابط في الشبهة
غير المحصورة أن تكون كثرة الأطراف بنحو لا يمكن عادة جمعها في
الارتكاب، كالعلم بتنجس بعض خبز البلد أو غصبيته، أما لو أمكن جمعها في
الارتكاب - كما لو علم بتنجس حبة حنطة بين الف حبة - فهي من الشبهة
المحصورة.
وعليه لا يكون العلم منجزا، لا بالإضافة إلى المخالفة القطعية، لفرض
تعذرها، ولا بالإضافة إلى الموافقة القطعية، لتفرع وجوبها على حرمة المخالفة،
لأنها الأصل في منجزية العلم الاجمالي، لتفرع وجوب الموافقة - كما سبق
منه قدس ره - على تعارض الأصول وتساقطها في الأطراف، وهو يتوقف على حرمة
المخالفة القطعية، اللازمة من جريان الأصول في تمام الأطراف بعد فرض عدم
المرجح لبعضها في جريان الأصل، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية لم يقع
331

التعارض بين الأصول، فلا تجب الموافقة القطعية المتفرعة عليه.
وفيه: أن جريان الأصول في جميع الأطراف وتعارضها الملزم بالموافقة
القطعية غير مشروط بالقدرة على الجمع بينها، بل يكفي فيه القدرة على كل منها
ولو بدلا، لكفاية ذلك في فعلية التكليف المعلوم بالاجمال على تقدير انطباقه
على كل منها، فيصلح العلم الاجمالي لتنجيزه بنحو يمنع من جريان الأصول في
كل طرف بنفسه.
ولذا لا ريب في منجزية العلم الاجمالي مع ذلك في الشبهة المحصورة،
كما لو علم المكلف بحرمة السفر عليه عصر الجمعة إما إلى الموصل أو إلى
البصرة، أو نذر أن لا يصلي الظهر في دار زيد واشتبهت بين دارين أو نحوهما.
نعم، لو كان تعذر الجمع بين الأطراف راجعا إلى تعذر بعضها معينا كان
مانعا من منجزية العلم الاجمالي، لعدم العلم معه بفعلية التكليف المعلوم
بالاجمال، لاحتمال انطباقه على المتعذر، كما لا يجري الأصل حينئذ في
المعتذر، لعدم الأثر، فلا معارض للأصل الجاري في غير المتعذر.
وليس هذا نظرا لمحل الكلام، لان منع كثرة الأطراف من تعذر الجمع في
الشبهة غير المحصورة إنما يكون بالوجه الأول.
وكأن ما ذكره قدس سره مبني على اختلاط ذلك بما نحن فيه، حيث مثل به.
مضافا إلى أن المراد من تعذر الجمع بين الأطراف في الارتكاب إن كان هو تعذر
الجمع ولو تدريجا بمدة طويلة خرجت عن ذلك كثير من الشبهات غير
المحصورة عندهم.
وإن كان هو تعذره في زمان قصير فهو - مع عدم الضابط له - يستلزم عدم
المنجزية في كثير من الشبهات المحصورة - خصوصا التدريجية منها - التي
لا مجال للبناء على عدم التنجيز فيها.
وقد أشار إلى بعض ذلك بعض الأعيان المحققين قدس سره. فراجع.
332

السابع: ما ذكره الفقيه الهمداني من أن المعيار في عدم الانحصار ليس
كثرة أطراف الشبهة، بل عدم الإحاطة بتمام أطرافها، بحيث كل ما يفرض طرفا لها
يحتمل وجود غيره، سواء قلت الأطراف أم كثرت، كما لو علم بوقوع قطرة بول
واصابتها لبعض الأواني الموضوعة في الدار، لكن كل ما يحيط به المكلف من
أواني الدار يحتمل وجود غيره وإصابته بالنجاسة دونه.
وحينئذ يكون الوجه في عدم وجوب الاحتياط في الأطراف المعلومة
عدم معارضة الأصول الجارية فيها بأصول اخر، لعدم جريان الأصول في
الأطراف المحتملة الوجود التي لا يحيط بها المكلف، لعدم الأثر للأصل ما لم
يحرز كون موضوعه مما يعلمه المكلف ويبتلي به.
وفيه: أن الشك في وجود فرد آخر لا يحيط به المكلف لا ينافي الشك في
التكليف الذي هو موضوع الأصل، لعدم أخذ العلم بوجود المتعلق بشخصه في
موضوع التكليف زائدا على الشك في التكليف، فدليل أصل الطهارة مثلا يشمل
بدوا جميع ما في الدار على ما هو عليه من العدد.
نعم، عدم الإحاطة بالطرف إن رجع إلى عدم الابتلاء به على تقدير
وجوده أو الشك فيه، أو نحوهما مما يمنع من منجزية العلم وترتب الأثر على
الأصل، اتجه عدم منجزية العلم الاجمالي وعدم جريان الأصل في الطرف
المذكور، لذلك، لا لعدم الانحصار.
وإن لم يرجع إلى ذلك، بل علم بالابتلاء بتمام الأطراف على ما هي عليه
من التردد بين الأقل والأكثر، كان العلم الاجمالي منجزا، للعلم بتحقق التكليف
الصالح لترتب العمل عليه، كما لو فرض العلم في المثال السابق بأن الاناء
المشكوك يعثر عليه لو كان موجودا عند ارتفاع ضوء النهار ويكون فعلا موردا
للابتلاء المصحح للتكليف، وحينئذ يمتنع جريان الأصول في تمام الأطراف،
لاستلزامه المخالفة القطعية للتكليف المنجز بالعلم، كما لا تجري في بعضها
333

لعدم المرجح، وهو معنى تعارض الأصول في المقام.
وكأن نظره قدس سره إلى الصورة الأولى، مع تخيل أن المانع من جريان الأصل
فيها عدم الانحصار، لا ما ذكرنا.
هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم، وقد عرفت عدم نهوضها
بتحديد غير المحصور بنحو يتجه جواز الارتكاب فيه. فالظاهر أنه لا أثر لعدم
الانحصار بنفسه في رفع منجزية العلم الاجمالي.
نعم، كثرة الأطراف وعدم الإحاطة بها مستلزم غالبا لابتلاء العلم
الاجمالي بما يسقطه عن المنجزية، كتعذر بعض الأطراف أو خروجه عن
الابتلاء أو نحوهما، فيتجه البناء على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة
المذكورة لأجل ذلك، لا لخصوصية في عدم الانحصار.
ولعل هذا هو مرجع الاجماع والنصوص المتقدمة إليها الإشارة، لما
عرفت من عدم أخذ عدم الانحصار في النصوص، وأن أخذه في بعض كلماتهم
لا يستلزم دخل عنوانه في الحكم، ولا سيما بعد اختصاص الأمثلة التي يذكرونها
والتي هي مورد السيرة الارتكازية الشاهدة للاجماع بما ذكرنا.
ومنه يظهر الاشكال في ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من قيام
الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة، وأن محل
الكلام فيها ما إذا لم يبتل العلم الاجمالي بمانع آخر من المنجزية غير عدم
الانحصار.
إذ فيه: أن تخصيص محل كلامه هو بذلك تابع له، ولا ضير فيه، إلا أنه لا
مجال لجعل ذلك محل كلامهم، فضلا عن حمل الاجماع عليه.
بقي في المقام أمور..
الأول: الظاهر جواز المخالفة القطعية في الشبهة غير المحصورة، لو
فرض الابتلاء التدريجي بالأطراف، لعدم منجزية العلم الاجمالي عند ارتكاب
334

كل طرف بعد فرض عدم الابتلاء ببقية الأطراف ولو لارتكابها سابقا، فالمخالفة
في أي طرف فرض مورد للعذر الظاهري.
والعلم بحصول الحرام بعد ارتكاب تمام الأطراف ليس محذورا بعد
فرض عدم المنجز حينه.
وهو لا يستلزم طرح دليل التكليف الواقعي، لان مخالفة التكليف مع
وجود المؤمن ظاهرا لا تكون طرحا له، كما تقدم في وجه الجمع بين الاحكام
الواقعية والظاهرية.
ولا يفرق في ذلك بين العزم عليه من أول الامر وعدمه.
وما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من صدق المعصية عند مصادفة الحرام
الواقعي مع العزم المذكور.
غير ظاهر، لتوقف المعصية على تنجز التكليف والمفروض عدمه، وأن
العزم إنما هو على الأطراف لو فرض تحقق الابتلاء بها تدريجا بنحو لا يوجب
التنجز.
بل لا ضير في الارتكاب برجاء تحصيل الحرام، كما هو الحال في سائر
موارد احتمال الحرام عند المؤمن منه، إذ لا محذور في الرغبة في مخالفة الواقع
بالنحو المرخص به شرعا أو عقلا.
واختصاص الترخيص الشرعي أو العقلي بصورة عدم العزم، لا دليل
عليه، بل الدليل على عدمه.
فما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره من صدق التجري حينئذ في ارتكاب أول
الأطراف وإن لم يصادف الحرام الواقعي، غير ظاهر.
نعم، لو لم يستند الاقدام للعذر للجهل بكونه عذرا، أو لعدم الاهتمام
بالتكليف وتحصيل العذر فيه لم يبعد صدق التجري، كما تقدم في التنبيه الثاني
من تنبيهات مبحث التجري من مباحث القطع.
335

ولا فرق في ما ذكرنا بين جميع الوجوه المتقدمة حتى الاجماع، لظهور
كلامهم تبعا للارتكاز المشار إليه في عدم منجزية العلم الاجمالي مع عدم
الانحصار.
نعم، تقدم أن مقتضى الوجه الخامس بناء على ما ذكره بعض الأعيان
المحققين من ابتنائه على جعل البدل عدم جواز ارتكاب ما يعتد معه باحتمال
الحرام، فضلا عن المخالفة القطعية.
ثم إن الكلام هنا في ارتكاب تمام الأطراف من حيثية التكليف المعلوم
بالاجمال.
وأما ما قد يترتب على ذلك من حدوث تكليف تفصيلي أو إجمالي،
كالضمان المترتب على استعمال المغصوب.
فهو خارج عن محل الكلام. والمرجع فيه القواعد المقررة لمثله.
الثاني: لا يفرق في حكم الشبهة غير المحصورة بين ضعف احتمال
الحرام في الطرف وقوته، إما لاشتباه الكثير في الكثير - لفرض كثرة التكاليف
المعلومة بالاجمال - أو لقرائن خاصة توجب قوة احتمال انطباق المعلوم
بالاجمال على الطرف، وهو ظاهر على الوجه الذي ذكرناه وما عدا الوجه الرابع
والخامس من الوجوه المتقدمة حتى الاجماع، فإنه وإن كان دليلا لبيا، إلا أنه لا
مجال لاخراج هذه الصورة عنه مع كثرة الابتلاء بها الكاشف عن عموم السيرة
الارتكازية لها.
وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من إلحاق صورة اشتباه الكثير في الكثير
بالمحصور، لمشابهته له في نسبة مجموع التكاليف المعلومة بالاجمال
لمجموع الأطراف، فإذا علم بوجود خمسمائة شاة موطوءة في ضمن ألف
وخمسمائة كانت نسبة المعلوم بالاجمال إلى الأطراف نسبة الواحد إلى الثلاثة،
لان الامر متعلق بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة، ومحتملاته ثلاثة، وما
336

عداها لا ينفك عن الاشتمال على الحرام.
فهو إنما يتم مع الارتباطية بين مجموعات الأطراف في احتمال انطباق
المعلوم بالاجمال عليها، كما لو كان كل خمسمائة منها بلون وعلم أن
الخمسمائة الحرام بلون واحد، حيث يكون أطراف الترديد ثلاثة لا غير، أما مع
عدم الارتباطية بينها فأطراف الترديد تمام الألف والخمسمائة.
نعم، بناء على الوجه الرابع يتجه البناء على وجوب الاحتياط، كما تقدم
التعرض له هناك.
كما لا يبعد ذلك أيضا بناء على الوجه الخامس، وإن كان لا يخلو عن
كلام.
الثالث: ضابط الشبهة غير المحصورة يبتني على الوجوه المتقدمة،
ويختلف باختلافها، بنحو يظهر بالتأمل فيها.
نعم، لا يصلح بعضها لتحديده، لابتنائه على الاجمال، فيلزم الاقتصار فيه
على المتيقن، كما تقدم في الاجماع، والاخبار، ودليل العسر - ولو أريد به النوعي.
الرابع: لو شك في منجزية الشبهة للشك في تحقق الضابط المتقدم لغير
المحصورة فيها بنحو الشبهة الموضوعية ابتنى الكلام فيها على الكلام في حكم
الشك في تحقق موانع التنجيز، وقد تقدم أن الشك في الابتلاء كالعلم بعدمه في
عدم التنجيز، كما أن الشك في تعذر الامتثال أو لزوم العسر منه ونحوهما كالعلم
بعدمها في التنجيز.
ومنه يظهر أنه بناء على الوجه الثالث في الاستدلال على جواز ارتكاب
الشبهة غير المحصورة يتعين البناء على وجوب الاحتياط لو شك في تحقق
ضابطها.
وأما على الوجه الأول والثاني فحيث كان الاستدلال بهما موقوفا على
كشفهما عن جعل البدل أو رفع التكليف الواقعي، فعلى الأول يجب الاحتياط
337

مع الشك، وعلى الثاني لا يجب، ولا يبعد ترجح الأول. فتأمل.
كما أنه لا يبعد البناء على جواز الارتكاب على الوجه السابع لعدم إحراز
سقوط الأصل بالمعارضة.
وكذا على السادس، لكونه حينئذ نظير الشك في الابتلاء الذي عرفت
عدم وجوب الاحتياط معه.
وأما الشك في القدرة على المخالفة، الذي يجب الاحتياط معه فهو الشك
في القدرة على الامتثال، لا الشك في القدرة على المخالفة، الذي هو مبنى الوجه
السادس المذكور، كما ذكرناه في التنبيه الرابع عند الكلام في عدم الابتلاء.
وأما على الوجه الرابع والخامس فيشكل تحقق الشك المذكور، لان
أطراف الشك ومرتبته من الأمور الوجدانية غير القابلة للشك.
وإن كان صريح بعض الأعيان المحققين إمكان الشك على الوجهين
المذكورين، وأنه على الرابع يتعين الحاقه بالمحصور، لرجوعه إلى الشك في
جعل البدل، كما تقدم منه، وعلى الخامس يلحق بغير المحصور للشك في بيانية
العلم، ومع عدم إحراز البيان فالمرجع البراءة. فتأمل جيدا.
الخامس: عدم منجزية العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة إنما
يقتضي عدم وجوب الاحتياط في الأطراف من حيثية العلم المفروض.
ولا ينافي وجوب الاحتياط في الأطراف لأجل الشك لو فرض كونه
مجرى للاحتياط في نفسه، لانقلاب الأصل أو نحوه، لان الوجه المصحح لترك
الاحتياط لا يقتضي إلغاء الشك.
فما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره من التشكيك في ذلك، أو الميل إلى إلغاء
الشك، غير ظاهر.
نعم، بناء على الوجه الرابع قد يدعى أن عدم اعتداد العقلاء بالاحتمال
الضعيف في كل طرف لا يختص بحيثية العلم الاجمالي، خصوصا بناء على
338

رجوعه إلى جعل البدل.
إلا أن الالتزام بلوازم ذلك صعب جدا.
إلا أن يلحق الشك بالوسواس الذي لا ريب في عدم اعتداد العقلاء به،
وخروجه عن عموم الشك الذي هو موضوع الأصول.
هذا تمام الكلام في الشبهة غير المحصورة.
والحمد لله على ما سهل ويسر، ونسأله العون والتسديد، وهو حسبنا
ونعم الوكيل.
التنبيه العاشر: في الشبهة الوجوبية
لا فرق في ما تقدم في العلم الاجمالي بالتكليف بين الشبهة الوجوبية
والتحريمية، كما يظهر بالتأمل فيه.
إلا أنه ينبغي الكلام تبعا لهم في أمور ذكروها في خصوص الشبهة
الوجوبية..
الأول: قد يدعى التمسك لوجوب الموافقة القطعية في الشبهة الوجوبية
بالاستصحاب، فإنه بعد الاتيان ببعض الأطراف يكون مقتضى الاستصحاب
الموضوعي - وهو استصحاب عدم الاتيان بالواجب - أو الحكمي - وهو
استصحاب بقاء وجوب الواجب - لزوم الخروج عن عهدة التكليف بالاتيان
ببقية الأطراف.
وقد يورد عليه بوجوه..
أولها: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره من أن الغرض من الاستصحاب
المذكور إن كان هو إثبات وجوب الباقي شرعا فهو من الأصل المثبت، وإن كان
هو إثبات وجوبه عقلا تحصيلا للفراغ اليقيني عن التكليف الاجمالي
المستصحب، فهو مبني على حكم العقل بوجوب تحصيل الفراغ اليقيني، وهو
339

لو تم يغني عن الاستصحاب، لفرض اليقين بالاشتغال وجدانا قبل الاتيان بشئ
من المحتملين.
ولا مجال لتوهم ورود الاستصحاب على قاعدة الاشتغال في المقام.
لان المعتبر في ورود الاستصحاب على القاعدة أن يتضمن التعبد
بالتكليف في موردها، كاستصحاب نجاسة الثوب الوارد على قاعدة الاشتغال
بالصلاة لمن صلى به، والاستصحاب لا ينهض بالتعبد بالتكليف بالباقي، لابتنائه
على الأصل المثبت، كما ذكرنا، وإنما يتضمن التعبد بالتكليف الاجمالي، وهو لا
يصلح للعمل إلا بلحاظ الطرف الباقي، لاحتمال انطباق التكليف المعلوم
بالاجمال عليه، وهو متفرع على قاعدة الاشتغال، والمفروض تحقق موضوعها
مع قطع النظر عن الاستصحاب، فلا يبقى له أثر معها.
وفيه: أن أثر الاستصحاب المذكور هو جعل مخالفة الطرف الباقي مخالفة
قطعية بعد أن كانت بدونه مخالفة احتمالية، فإن مقتضى الاستصحاب التعبد
بالتكليف ووجوب العمل على طبقه بموافقة الطرف الباقي، أو بوجه آخر يقطع
أو يحتمل معه بالموافقة، فعدم العلم بمقتضى ذلك مخالفة قطعية لمؤدى
الاستصحاب، وإن كانت مخالفة احتمالية للواقع، ولا إشكال في عدم جواز
المخالفة القطعية لدليل التعبد، كما لا تجوز لدليل الواقع، وإن فرض جواز
المخالفة الاحتمالية لهما.
نعم، الموافقة الاحتمالية للتكليف المستصحب في باقي الأطراف قد
تستلزم الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال، كما لو فرض بقاء طرف
واحد.
وهو أجنبي عما ذكره من ابتناء العمل بالاستصحاب في المقام على
وجوب الموافقة القطعية.
فهو نظير ما لو علم المكلف إجمالا بإضافة أحد المائين وإطلاق الآخر،
340

ثم توضأ بأحدهما، فإن مقتضى استصحاب الحدث هو وجوب الوضوء بغيره،
وترك الوضوء حينئذ مخالفة قطعية لمؤدى الاستصحاب، والوضوء بالآخر وإن
كان موافقة احتمالية له، إلا أنه موجب للقطع بموافقة التكليف الواقعي.
فالتحقيق: أن ما ذكره قدس سره من عدم الأثر للاستصحاب لا يتم بناء على عدم
وجوب الموافقة القطعية عقلا - الذي هو محل الكلام في المقام - وإنما يتم بناء
على وجوبها عقلا - كما هو التحقيق - لان حكم العقل بوجوبها ما لزم بالاتيان
بالطرف الباقي مع قطع النظر عن الاستصحاب، وحيث لم ينهض الاستصحاب
بالورود على القاعدة - لما تقدم - كان التعبد به لا غيا.
ومنه يظهر الفرق بين الاستصحاب في ما نحن فيه واستصحاب عدم
الاتيان بالظهر لمن شك في الاتيان بها، لان الاستصحاب هناك بيان على بفاء
التكليف بالظهر، بنحو يكون الاتيان بها امتثالا قطعيا، فيكون واردا على قاعدة
الاشتغال، أما في المقام فالمفروض عدم إحراز انطباق المستصحب على
الطرف الباقي، ليحرز كونه امتثالا له بمقتضى الاستصحاب، بل ليس الاتيان به إلا
لاحتمال انطباقه عليه، الذي هو مفاد القاعدة.
نعم، لو كان لعدم الاتيان بالواجب أثر آخر غير الامتثال لا تقتضيه قاعدة
الاشتغال - كوجوب القضاء أو الكفارة - كان جريان الاستصحاب في محله،
لترتب العمل عليه. فتأمل.
ثانيها: أن الاستصحاب المذكور استصحاب للفرد الاجمالي المردد بين
معلوم الارتفاع ومشكوك الحدوث، وهو لا يجري على التحقيق، لوجود وقع
الكلام فيها من غير واحد، عمدتها منافاة إطلاق لسان التعبد بالاستصحاب في
المردد للعلم التفصيلي في الفرد المعلوم الارتفاع، بالوجه الذي تقدم في
الصورة الثانية من صور عروض المانع من منجزية العلم الاجمالي، التي سبق
الكلام فيها في التنبيه الرابع، ويأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
341

نعم، ذلك مختص بالشبهة الحكمية، ولا يجري في الشبهة الموضوعية،
كما لو صلى المكلف بأحد ثوبين يعلم نجاسة أحدهما إجمالا، فإن استصحاب
عدم الاتيان بالصلاة بالثوب الطاهر، أو استصحاب وجوب الصلاة فيه ليس من
استصحاب الفرد الاجمالي المردد، وإنما هو استصحاب للامر المعين في نفسه،
المترتب عليه العمل، الواجد لركني الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك
في البقاء، وإنما التردد في امتثاله وهو لا يجعله من استصحاب الفرد المردد.
لكنه مثله في الجهة المتقدمة المانعة من جريان الاستصحاب، فإن التعبد
في المثال بعدم الصلاة في الثوب الطاهر أو ببقاء وجوبها يقتضي بإطلاقه تنجيز
الصلاة المذكورة ولو في ضمن الثوب الذي صلى فيه لو فرض كونه الطاهر
واقعا، مع العلم التفصيلي بعدم وجوب الصلاة في الثوب المذكور، إما لنجاسته
أو لصحة الصلاة الواقعة به أولا، فلا مجال حينئذ للتعبد بوجوب الصلاة
المذكورة مطلقا وعلى كل حال، الذي هو مفاد الاستصحاب، لمنافاة الاطلاق
المذكور للعلم التفصيلي المذكور.
وغاية ما يمكن هو التعبد بوجوبها معلقا على بطلان الصلاة المذكورة
لنجاسة الثوب المذكور، أو الامر فعلا في غير الثوب المذكور احتياطا، لاحتمال
بطلان الصلاة الواقعة به، أو التعبد بوجوبها في ضمن غير الثوب المذكور.
والجميع أجنبي عن مؤدى الاستصحاب الذي هو عبارة عن التعبد
بالكبرى الشرعية الواقعية ابتداء، أو بتوسط التعبد بالموضوع المقتضي للعمل
بها مطلقا وعلى كل حال.
بل الأول مفاد الجعل الواقعي غير الصالح للتنجيز، لعدم إحراز موضوعه،
وهو بطلان الصلاة الأولى.
والثاني مفاد دليل الاحتياط، لا الاستصحاب.
والثالث مفاد قضية أخرى غير المتيقنة سابقا، لوضوح أن المتيقن سابقا
342

هو وجوب الصلاة بمطلق الثوب الطاهر الشامل للثوب المذكور، فالتعبد
بوجوبها في غيره لا يكون إبقاء ظاهريا للمتيقن.
ودعوى: أن امتناع الاطلاق في القضية عقلا يقتضي تقييدها، لا إلغاءها
رأسا.
مدفوعة: بأن ذلك إنما يتم في تقييد عموم الدليل وإخراج بعض أفراده،
وحيث كان العموم في المقام هو عموم دليل الاستصحاب ففرده الذي يمتنع
شموله له هو استصحاب الموضوع أو الحكم في محل الكلام، لا الثوب
المذكور، بل الثوب المذكور فرد لمتعلق القضية المستصحبة، التي يكون
تقييدها مستلزما لمباينة المستصحب للمتيقن وفقده لركن الاستصحاب، لا
لتقييد دليل الاستصحاب. فلاحظ.
بل لو فرض انحصار طريق الامتثال بالطرف الباقي - بأن لم يكن عند
المكلف في المثال إلا الثوب الذي لم يصل فيه من الثوبين المعلومين بالاجمال
- كان امتناع التعبد بمقتضى الاستصحاب من جهة عدم إحراز متعلق الامتثال
الموجب لامتناع إطلاق التعبد به بنحو يقتضي العمل عليه على كل حال.
وما قيل: من عدم الاعتناء باحتمال التعذر ولزوم ترتيب أثر القدرة معه.
مختص بما إذا شك في مقدار القدرة، لا في حال المقدور، كما أشرنا إليه في أول
التنبيه الرابع. فراجع.
نعم، لا يبعد جريان الاستصحاب لو فرض خروج الطرف الذي احتاط به
المكلف أولا عن الابتلاء - بتلف أو نحوه - بنحو لا يكون إطلاق القضية
المستصحبة عمليا بالإضافة إليه، وكان لمتعلقها فرد متيقن غير الطرف الآخر، إذ
لا محذور حينئذ في التعبد بالقضية المتيقنة على إطلاقها بعد فرض إحراز
متعلقها وعدم ترتب العمل المنافي للعلم التفصيلي عليها، كما لو كان للمكلف
ثوب طاهر تفصيلا من الصوف، وآخر مردد بين ثوبين من القطن، فصلى
343

المكلف في أحد ثوبي القطن، ثم تلف وبقي الآخر منهما مع الثوب الصوف،
فإن مقتضى الاستصحاب هو الصلاة في الثوب الطاهر الصالح للانطباق عليهما،
غاية الامر أنه إن صلى بالقطن أجزأه وإن لم تحرز طهارته، للعلم بامتثال الامر
الواقعي حينئذ الرافع لموضوع الاستصحاب.
هذا، وربما يستشكل في خصوص الاستصحاب الموضوعي: - وهو
استصحاب عدم الاتيان بالواجب - بأن الغرض من ذلك إن كان هو إثبات بقاء
التكليف ووجوب الفراغ عنه، فليس ذلك أثرا شرعيا له، بل هو أثر عقلي راجع
إلى مقام الامتثال. وإن كان أمرا آخر، كوجوب القضاء أو الكفارة أو نحوهما مما
يترتب شرعا، فهو خارج عن محل الكلام.
ويندفع: بأنه لما كان ارتفاع التكليف عقلا بامتثاله، وبقاؤه مع عدمه من
شؤون داعويته ومما يترتب عليه من العمل بلا واسطة صح الاستصحاب وغيره
من أنحاء التعبد المولوي بلحاظها وجودا وعدما، ولذا لا ريب في إمكان التعبد
بالامتثال بالاستصحاب وغيره، كأصالة الطهارة أو استصحابها في الثواب
المحرزة لصحة الصلاة فيه، وحصول الفراغ من التكليف بها.
بل لا إشكال في جواز الرجوع للأصول المحرزة لحصول الموانع أو فقد
الشروط للمكلف به، الراجعة للتعبد بعدم الامتثال في مواردها، الذي هو نظير
المقام.
الامر الثاني: لا فرق في ما ذكرنا من وجوب الاحتياط في الشبهة
الوجوبية والاكتفاء به بين العباديات والتوصليات.
لكن قد يشكل الامر في العباديات بتعذر التقرب المعتبر فيها في كل
طرف، لعدم إحراز انطباق المأمور به عليه.
وعلى ذلك ذكر شيخنا الأعظم قدس سره - على اضطراب في كلامه - أن مراتب
الامتثال أربعة: التفصيلي، ثم الاجمالي، ثم الظني، ثم الاحتمالي، ولا يجوز التنزل
344

للمرتبة اللاحقة مع التمكن من السابقة.
ويترتب على ذلك أمران:
الأول: أنه لو تمكن المكلف من الامتثال التفصيلي بالفحص أو غيره لم
يجز له الاكتفاء بالاجمالي. بل قد يجب عليه تقليل الاجمال لو فرض تعذر رفعه
كلية، فلا يجوز لمن قدر على الثوب الطاهر تفصيلا وعجز عن تعيين القبلة،
الصلاة في الثوبين المشتبهين إلى أربع جهات.
بل قد يلتزم بأنه لو كان المشتبه واجبين مترتبين شرعا، كالظهر والعصر
المترددين بين القصر والتمام لم يجز الدخول في محتملات اللاحق إلا بعد
الفراغ من محتملات السابق، محافظة على المقدار الممكن من مراتب الجزم
بالامتثال، ولا يجوز في مثل ذلك الاتيان بالصلاتين معا قصرا ثم تماما، لان
الدخول في العصر قصرا قبل الاتيان بالظهر تماما موجب لاحتمال عدم
مشروعيتها لكونها قصرا، ولعدم تحقق الظهر قبلها، وإن كانت الجهتان
متلازمتين خارجا ولم توجب الثانية زيادة التكرار، أما الدخول في العصر بعد
الفراغ من محتملات الظهر فهو موجب لعدم مشروعيتها من الجهة الأولى لا
غير.
الثاني: أنه لو تعذر الامتثال التفصيلي فلا مجال للاكتفاء بالامتثال
الاحتمالي، بل يتعين التنزل للامتثال الاجمالي، الراجع إلى قصد امتثال الامر
الاجمالي بكل من الأطراف على أن يكون الداعي في كل طرف هو امتثال الامر
الاجمالي به أو بصاحبه.
ولازم ذلك هو العزم على استيفاء تمام الأطراف، إذ لو عزم على الاقتصار
على بعضها لم يتحقق منه الجزم بامتثال الامر الاجمالي، فلا يصح العمل حتى
لو صادف الواقع، للاخلال بالتقرب المعتبر.
لكن لا وقع للاشكال من أصله بعد ما تقدم في مبحث العلم الاجمالي من
345

مباحث القطع وغيره من الاكتفاء في التقرب المعتبر في العبادة بالاندفاع عن
الامر المحتمل حتى مع التمكن من الامتثال التفصيلي، فلا يجب رفع الاجمال،
فضلا عن تقليله، كما يصح العمل مع الاجمال لو فرض مصادفته للواقع حتى
مع عدم العزم على استيفاء الأطراف.
ومبنى المسألة أنه لو كان العمل في التقرب وفروعه مع الشك على
السعة - كما هو الظاهر، عملا بالاطلاق اللفظي، أو المقامي، أو أصل البراءة - كان
الالتزام بكل قيد محتاجا إلى الدليل. وإن كان العمل على الاحتياط - لقاعدة
الاشتغال - كان نفي كل قيد محتمل هو المحتاج إلى الدليل.
الامر الثالث: لا فرق في وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية
المحصورة بين أن يكون الاشتباه في أصل الواجب - كالظهر والجمعة - وأن
يكون في بعض ما يعتبر فيه - كاشتباه القبلة بين جهتين، والتردد بين الجهر
والاخفات - لعموم ما تقدم من الوجه لذلك.
ودعوى: أنه لابد من رفع اليد في الثاني عن اعتبار الامر المشتبه محافظة
على الجزم بالامتثال حين العمل في العبادة.
مدفوعة: بما أشرنا إليه آنفا من عدم اعتبار الجزم المذكور.
على أنه لو تم اعتباره جرى في الاشتباه في أصل المركب، حيث يمكن
فيه المحافظة على الجزم المذكور بالبناء على التخيير بين الامرين المشتبهين،
ففرض وجوب الاحتياط فيه مبني على التنزل عن الجزم المذكور محافظة على
الواجب الأولي المعلوم بالاجمال، وذلك يجري في المقام أيضا، لعدم الفرق
بينهما ارتكازا.
نعم، قد يدل الدليل الخاص على سقوط الامر المعتبر في حال الاشتباه،
فيرتفع موضوع وجوب الاحتياط، كما هو الحال بناء على أن المتحير يصلي إلى
أي جهة شاء صلاة واحدة، المستلزم لسقوط شرطية الاستقبال في حقه.
346

كما قد يدل الدليل على الترخيص في المخالفة الاحتمالية مع بقاء أصل
الاشتراط فيه، كما لا يبعد البناء على ذلك في من يعسر عليه الصلاة إلى جهتين
عند اشتباه القبلة بينهما، حيث لا يبعد البناء على التخيير بينهما من دون أن
يسقط أصل الاستقبال في حقه، فلا يجوز له الصلاة إلى جهة غيرهما. وتمام
الكلام في الفقه.
الامر الرابع: لو فرض كون الشبهة الوجوبية غير محصورة فالظاهر
جريان ما تقدم فيها من أن رافعية عدم الانحصار فيها لتنجيز العلم الاجمالي
ليس لخصوصيته في ذلك، بل بلحاظ ما قد يصاحبه من حرج أو تعذر أو
نحوهما، وحينئذ فإن كان المانع المفروض مختصا ببعض الأطراف معينا كان
مانعا من تنجز التكليف الاجمالي مطلقا حتى بلحاظ الموافقة الاحتمالية،
فيجوز المخالفة القطعية.
وإن لم يختص ببعض الأطراف معينا بل مخيرا جرى فيه ما تقدم في
التنبيه السادس، وكان نظير الاضطرار إلى بعض غير معين من الأطراف، الذي
تقدم أن الظاهر فيه سقوط العلم الاجمالي فيه عن المنجزية بلحاظ وجوب
الموافقة القطعية لا غير، فيجب الاقتصار فيه على مالا يلزم منه المحذور المانع
من حرج ونحوه. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.
هذا تمام الكلام في مباحث العلم الاجمالي، ونسأله سبحانه وتعالى
التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.
347

الفصل الرابع
في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين
أشرنا في أول الكلام في الأصول العملية إلى أن النزاع هنا ليس في حكم
هذه المسألة كبرويا - كما هو الحال في الفصول السابقة - بل هو نزاع صغروي
راجع إلى أن محل الكلام من صغريات مسألة الشك في أصل التكليف، التي
عقدنا لها الفصل الأول، والتي كان التحقيق فيها البراءة، أو من صغريات مسألة
الشك في تعيين التكليف، التي عقدنا لها الفصل الثالث، والتي كان التحقيق فيها
وجوب الاحتياط، فالكلام فيها مبني على الفراغ عن حكم المسألتين
المذكورتين.
ولو فرض وقوع الكلام في بعض الجهات الاخر فهو غير مقصود
بالأصل.
ومن هنا ينبغي تقديم أمور تمهيدا للكلام في المقام..
الأول: أن دوران التكليف بين الأقل والأكثر يكون..
تارة: مع فرض أن الزائد المحتمل مورد لتكليف مستقل غير التكليف
المتيقن، ناشئ عن غرض آخر في قباله، بحيث يمكن التفكيك بينهما في
الإطاعة والمعصية، سواء كان أمرا مقابلا للمتيقن وموردا للعمل في عرضه، كما
لو دار الامر بين الدرهم والدرهمين، أم من شؤونه القائمة به، كما لو احتمل
وجوب إيقاع الفريضة في المسجد، لتعلق النذر به.
وأخرى: يكون مع فرض وحدة التكليف للارتباطية بين أجزاء متعلقه،
349

بحيث لا تكون له إلا إطاعة أو معصية واحدة.
والأول خارج عن محل الكلام داخل في الشك في أصل التكليف، ولا
وجه لتوهم دخوله في الشك في تعيين التكليف بعد فرض امتياز المتيقن عن
المشكوك عملا، وكون إطاعة المتيقن غير متوقفة على المشكوك.
وليس الكلام إلا في الثاني، لان الارتباطية المفروضة فيه قد توهم كون
الشك فيه راجعا إلى الشك في تعيين التكليف المعلوم، المقتضى لوجوب
إحراز الفراغ عنه بالاحتياط.
الثاني: أن احتمال دخل شئ في الواجب يكون..
تارة: مع التردد بين دخله فيه وعدمه من دون أن يحتمل قادحيته فيه.
وأخرى: مع التردد بين دخله فيه وقادحيته فيه.
وثالثة: مع التردد بين دخله فيه وقادحيته فيه وعدمها. ومحل الكلام في
المقام هو الصورة الأولى.
أما الثانية فهي راجعة إلى الدوران بين المتباينين، للتباين بين مفاد بشرط
شئ وبشرط لا، فيجري حكمه بلا كلام.
وأما الثالثة فالكلام فيها يبتني على الكلام في الصورة الأولى، فإن قيل
فيها بوجوب الاحتياط للشك في تعيين الواجب وجب الاحتياط في هذه
الصورة بالجمع بين الواجد والفاقد، وإن قيل بجريان البراءة فيها للشك في
زيادة التكليف كانت هي المرجع في هذه الصورة أيضا.
الثالث: الظاهر أن المعيار في الارتباطية بين المشكوك والمتيقن - التي
عرفت في الامر الأول اعتبارها في محل الكلام - على وحدة التكليف لبا، وعدم
انحلاله إلى تكاليف متعددة بعدد أفراد الماهية، بأن ينشأ من غرض واحد وله
إطاعة ومعصية واحدة، كي يكون تردده بين الأقل والأكثر موجبا لتردد إطاعته
بينهما.
350

أما لو كان انحلاليا مستغرقا لتمام أفراد الماهية، بأن يكون لكل منها
غرض وإطاعة ومعصية مختصة به، مع قطع النظر عن بقية الافراد، فلا مجال
لفرض الارتباطية فيه مع تردده بين الأقل والأكثر، إذ يكون للمتيقن من الافراد
تكاليف مستقلة مباينة للتكاليف بالافراد المشكوكة ذاتا، وغرضا، وطاعة،
ومعصية.
ومنه يظهر أن فرض الارتباطية في الشبهة الوجوبية يختص بما إذا كان
التردد بين الأقل والأكثر في العموم البدلي، دون الاستغراقي، فإذا وجب إكرام
علماء البلد يوم الجمعة فالشك في إطلاق الاكرام مما نحن فيه، والشك في
عموم العلماء خارج عنه.
كما أن فرض الارتباطية في الشبهة التحريمية يختص بما إذا كان ورود
النهي على الماهية بلحاظ مجموع أفرادها، فلا يكون له إلا إطاعة واحدة بترك
تمام الافراد، كما لو حرم قتل الحيوان وتردد بين مطلق القتل، وخصوص ما
يحرم اللحم بنحو لا يشمل التذكية.
أما لو كان النهي انحلاليا بلحاظ كل فرد فرد - كما هو الغالب في النواهي
الشرعية - فلا مجال لفرض الارتباطية فيه.
ولعل الغلبة المذكورة هي الوجه في تخصيص شيخنا الأعظم قدس سره الكلام
في المقام بالشبهة الوجوبية، وإلا فهو غير مختص بها.
غايته أن الاحتياط في الشبهة التحريمية بالبناء على حرمة الأقل الذي هو
المطلق عكس الشبهة الوجوبية.
هذا، وأما احتمال أخذ خصوصية في الترك المطلوب بحيث لا يمتثل
التكليف إلا بها - كالطهارة والتقرب - فهو راجع إلى الدوران بين الأقل والأكثر
في الواجب، لرجوعه إلى احتمال طلب الترك المقيد، فيكون القيد كالترك
مطلوب الحصول، لا محرما ليكون من دوران الحرام بين الأقل والأكثر أو
351

المطلق والمقيد.
ومما سبق يظهر حال ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من التمثيل للشبهة
التحريمية بما إذا تردد التصوير المحرم بين أن يعم بعض الصورة، وأن يختص
بتمامها لكن بحيث يحرم الشروع في الصورة في ظرف الاتمام، بأن يكون
للبعض حظ من الحرمة النفسية الواردة على التام، لان قوام الارتباطية انبساط
الحرمة على تمام الاجزاء، كما هو الحال في الواجب الارتباطي.
لاندفاعه: بأن عموم تحريم التصوير حيث كان استغراقيا انحلاليا لا
مجموعيا لم يكن مما نحن فيه، بل التصوير التام متيقن الحرمة، وتصوير البعض
مشكوكها.
وحديث انبساط الحرمة على الاجزاء لا دخل له في الارتباطية بين الأقل
والأكثر الذي هو محل لكلام، بل هو لازم للارتباطية بين أجزاء الأكثر على
تقدير حرمته، فالحرام هو الاجزاء بمجموعها، لا كل جزء، ولا عنوان الا
الاتمام الذي تكون الاجزاء مقدمة له.
الرابع: الدوران بين الأقل والأكثر..
تارة: يكون في نفس المكلف به، كما لو احتمل اعتبار الاستعاذة في
الصلاة.
وأخرى: يكون في سببه المحصل له من دون أن يستلزم الاجمال فيه،
كما لو وجب تطهير المسجد واحتمل اعتبار تعدد الغسلة فيه.
ومحل الكلام هنا الأول.
وأما الثاني فقد تعرض له غير واحد هنا، وتقدم منا تفصيل الكلام فيه في
التنبيه الثاني من تنبيهات الفصل الأول، وربما يأتي هنا ما ينفع فيه.
الخامس: بعد ما تقدم في الامر الثاني اختصاص محل الكلام بما إذا
احتمل اعتبار شئ في الواجب من دون احتمال قادحيته فلازم ذلك وجود
352

المتيقن في مقام الامتثال الذي يقطع بالفراغ عن التكليف الواقعي على تقدير
سلوكه وإن لم يعلم بالتكليف به، وذلك بالمحافظة على الامر المحتمل اعتباره
المفروض عدم قادحيته.
ولا يخفى أن وجود القدر المتيقن في مقام الامتثال كما يكون مع الشك
في حال متعلق التكليف مع العلم بنحو تعلقه - كما هو المفروض في محل
الكلام - كذلك يكون مع الشك في نحو التكليف نفسه بأن يتردد التكليف بين
التعييني والتخييري، كما لو ترددت الكفارة بين المخيرة والمرتبة.
وعمدة كلام شيخنا الأعظم قدس سره ومن بعده في الأول، وربما تعرض بعضهم
للثاني استطرادا.
وحيث كان الكلام فيه مهما كان المناسب التعرض له هنا.
كما أنه حيث كان مختصا ببعض الفروع والتنبيهات المهمة كان المناسب
تخصيص بحث له وفصله عن الأول، فيكون الكلام في هذا الفصل في مقامين،
ليختص كل منهما بما يناسبه من الفروع والتنبيهات. ومنه سبحانه نستمد العون
والتوفيق.
353

المقام الأول
في الشك في دخل شئ في المكلف به
وقد ذكروا له صورا ثلاثة، لان الشئ المشكوك..
تارة: يكون جزءا خارجيا متحدا مع الواجب، كالاستعاذة في الصلاة.
وأخرى: يكون جزءا ذهنيا منتزعا من خصوصية زائدة على الواجب
كالطمأنينة في الصلاة، والايمان في الرقبة.
وثالثة: يكون جزءا ذهنيا منتزعا من خصوصية متحدة مع الواجب عقلا،
كما لو تردد الامر بين الجنس والنوع أو الطبيعي والفرد.
ويعبر عن الشك في الأول بالشك في الجزئية، وفي الثاني بالشك في
الشرطية أو القيدية، وفي الثالث بالدوران بين التعيين والتخيير العقليين.
لكن الشك في الجزئية يرجع إلى الشك في الشرطية في الجهة المهمة
في محل الكلام، لان اعتبار الجزء في المركب الارتباطي راجع إلى تقييده به لبا،
كتقييده بالشرط الخارج عنه، والفاقد للجزء كالفاقد للشرط مباين للواجب
خارجا، لا بعض منه، وإنما يكون الجزء بعضا من المركب الواجب في ظرف
تماميته.
غايته أن الجزء ليس قيدا في تمام المركب كالشرط، بل في ما عداه من
الاجزاء كما أن أخذه فيها ليس بصريح التقييد، بل بنتيجة التقييد. كما أنه في
ظرف أخذه داخل في المركب ومتحد معه، بخلاف الشرط، فإنه خارج عنه.
لكن لا أثر لهذه الفروق في الجهة المبحوث عنها في محل الكلام.
354

ومن هنا لا وجه لفصل الكلام في أحدهما عن الكلام في الآخر، بل
المناسب الجمع بينهما في كلام واحد.
ومنه يظهر أنه لا مجال للفرق في الشرط بين ما إذا كان المشروط أمرا
متعلقا لفعل المكلف، كالطهارة في الصلاة، وما إذا كان عرضا قائما بالموضوع،
كالايمان في الرقبة.
بدعوى: ان الأول لما كان فعلا خارجيا كان موردا لتكليف زائد مدفوع
بالأصل، بخلاف الثاني.
لاندفاعها: بأن المعيار لما كان على التقييد، فهو مشترك فيهما، ولا أثر معه
لاختصاص الأول بكونه عملا خارجيا، لان وجوبه مقدمي ناشئ من التقييد.
على أن الثاني قد يكون موردا للعمل، كما لو انحصر العبد بمن يمكن هدايته
من غير المؤمنين، فإنه يجب هدايته تحصيلا للقيد المعتبر في الواجب.
نعم، لو كان ملازما لا يمكن اتصاف كل فرد به كالهاشمية والرجولة فقد
يدعى إلحاقه بالدوران بين التعيين والتخيير العقلي، على ما يأتي الكلام فيه إن
شاء الله تعالى.
نعم، الشك في أخذ الجزء الذهني المنتزع من الخصوصية المتحدة مع
الذات يختص بجهات ينبغي الكلام فيها مستقلا. ولا وجه لما صرح به بعض
الأعيان المحققين في صدر كلامه من خروجه عن محل النزاع بعد ترتب غرض
النزاع عليه وعموم بعض كلماتهم له، ولعله لذا تعرض له عند الكلام في تحقيق
المختار والاستدلال عليه. ومن ثم كان كلامه مضطربا.
وكيف كان، فيقع الكلام في مسألتين..
المسألة الأولى: في الشك في أخذ شئ في المكلف به جزءا كان أو
شرطا.
قال شيخنا الأعظم قدس سره: (وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا، فصرح
355

بعض متأخري المتأخرين بوجوبه، وربما يظهر من كلام بعض القدماء، كالسيد
والشيخ. لكن لم يعلم كونه مذهبا لهما، بل ظاهر كلماتهم الاخر خلافه. وصريح
جماعة إجراء أصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط، والظاهر أنه المشهور بين
العامة والخاصة المتقدمين منهم والمتأخرين، كما يظهر من تتبع كتب القوم،
كالخلاف والسرائر وكتب الفاضلين والشهيدين والمحقق الثاني ومن تأخر
عنهم.
بل الانصاف: أنه لم أعثر في كلمات من تقدم على المحقق السبزواري
على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الاجزاء والشرائط، وإن كان فيهم من
يختلف كلامه في ذلك، كالسيد والشيخ بل الشهيدين قدس سرهم).
وهو وإن ذكر ذلك في الشك في الجزئية، إلا أن الظاهر عدم الفرق بينه وبين
الشك في الشرطية عندهم، كما قد يظهر منه قدس سره ذلك.
وكيف كان، فيقع الكلام..
تارة: في مقتضى الأصل العقلي الأولي.
وأخرى: في مقتضى الأصل الثانوي المستفاد من الأدلة الشرعية الواردة ء
لبيان حكم الجهل بالتكليف، فقد اختلفت كلمات القوم في المقامين.
أما الأول، فالظاهر حكم العقل بالبراءة في المقام من الزائد المشكوك،
بملاك قبح العقاب بلا بيان الذي تقدم تقريبه في الشك في أصل التكليف، لعدم
الفرق في الملاك المذكور بين التكليف الاستقلالي والضمني بعد الرجوع
للمرتكزات العقلائية في باب التعذير والتنجيز المبنيين على المسؤولية
بالتكليف والعقاب عليه الذي هو المهم في المقام والدائر مدار البيان بلا كلام.
نعم، لو تعلق الغرض بتحصيل الواقع على ما هو عليه إما للاهتمام بأثره
الوضعي - كما في الأوامر الارشادية - أو لتنجزه من جهة أخرى - كما في موارد
التقصير في الفحص - أو للاهتمام بتحصيل غرض المولى قياما ببعض حقوقه،
356

أو مداراة له في دفع شره وجوره - كما في بعض الموالي العرفيين - زائدا على
ما تقتضيه المسؤولية التابعة للتنجيز عقلا، تعين الاحتياط فيه ولو مع عدم البيان
الواصل، كما هو الحال في الشك في أصل الواجب أيضا.
إلا أنه خارج عن محل الكلام، إذ المفروض عدم المنجز الخارجي، وأن
الغرض لم يتعلق إلا بالخروج عن تبعة التكليف والمسؤولية به عقلا، التي هي
منوطة بالبيان المفروض عدمه بالإضافة إلى المشكوك.
ولا ريب في ما ذكرناه بعد التأمل في المرتكزات العقلائية وفي سيرة أهل
الاستدلال الارتكازية، فإن المرتكز أن خصوصيات التكليف كأصله هي
المحتاجة إلى البيان.
هذا، وربما يستشكل في الرجوع للبراءة بوجوه..
الأول: دعوى تنجز التكليف الواقعي على ما هو عليه من الحد الواقعي
المردد بين الأقل والأكثر الملزم بإحراز الفراغ عنه بالاحتياط، وذلك من جهة
العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الوجهين المنجز لاحتمال كل منهما،
والملزم بالقطع بالفراغ عنه على ما هو عليه من الترديد والاجمال.
وقد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره دعوى انحلال العلم الاجمالي المذكور
بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل إما لنفسه أو مقدمة للأكثر، بنحو يقتضي تنجزه
على كل حال.
لكن يظهر من المحقق الخراساني قدس سره استحالة الانحلال في المقام، لان
تنجز التكليف المقدمي موقوف على تنجز التكليف النفسي لان داعويته في
طول داعويته، فلا مجال لتنجيزه دونه.
وعليه يكون تنجز التكليف بالأقل على كل حال حتى لو كان مقدميا
موقوفا على تنجز التكليف النفسي بالأكثر، ولا منجز له إلا العلم الاجمالي
المفروض، فكيف يكون تنجز الأقل على كل حال موجبا لانحلال العلم
357

الاجمالي ومانعا من تنجز الأكثر على تقدير وجوبه.
هذا، ومن الظاهر أن ما ذكراه قدس سرهما مبني على مقدمية الجزء للمركب، وعلى
تعلق التكليف المقدمي الغيري به تبعا له.
والتحقيق - تبعا لبعضهم - منع كلا الامرين، كما أوضحناه في مسألة
مقدمة الواجب.
بل صرح المحقق الخراساني قدس سره في المسألة المذكورة بمنع الثاني منهما،
وربما نسب ذلك لشيخنا الأعظم قدس سره أيضا وإن لم أتحققه.
على أنه لا ريب ظاهرا في انبساط الوجوب النفسي على الاجزاء، وجبت
بالوجوب الغيري أيضا، أم لم تجب، فيكفي في تقريب الانحلال وجوب
الاجزاء نفسيا على كل حال، كما ذكره بعض مشايخنا.
ولعله لذا جزم بعض الأعاظم قدس سره بعدم إرادة شيخنا الأعظم قدس سره لظاهر
كلامه، وأن مراده من وجوب الأقل تفصيلا هو وجوبه النفسي.
بل لا يبعد كون ذلك هو مراد المحقق الخراساني قدس سره أيضا، فيرجع ما تقدم
منه في منع الانحلال إلى دعوى الملازمة بين التكليف الاستقلالي والتكاليف
الضمنية في مقام التنجز، كما هي متلازمة في الملاك والجعل والامتثال، فلا
يعقل تنجز الأقل على كل حال إلا مع تنجز الأكثر، فلا يكون تنجزه مانعا من
تنجزه وموجبا لحل العلم الاجمالي المفروض.
لكنه يندفع: بأن التكليف الاستقلالي بالمركب متحد مع التكاليف
الضمنية بأجزائه، فداعويته عين داعويتها، وتنجزه عين تنجزها، لأنها من
حدوده، ولا موضوع للملازمة بينه وبينها.
وعليه لا يلزم في المقام التفكيك بين التكليف الاستقلالي والتكاليف
الضمنية في التنجز، بل اختصاص التنجز للتكليف الاستقلالي بحدوده التي
صارت موردا للبيان وعدم التنجز له بحده الذي لم يتعلق به البيان، وهو عبارة
358

أخرى عما تقدم منا من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في التكاليف الضمنية.
نعم، استشكل بعض الأعاظم قدس سره في الانحلال في المقام: بأن وجوب
الأقل المعلوم في البين ليس هو وجوبه على نحو الاطلاق واللابشرط، بل
وجوبه المردد بين كونه بشرط شئ وكونه لا بشرط، وهو عبارة أخرى عن
العلم الاجمالي المفروض في البين، وليس علما آخر ملازما له صالحا لحله،
فدعوى انحلال العلم الاجمالي بالعلم بوجوب الأقل بالنحو المذكور ترجع إلى
دعوى حل العلم الاجمالي لنفسه، وهو غير معقول، بل مقتضى لزوم إحراز
الفراغ عن المعلوم بالاجمال وجوب الاحتياط فيه بالاتيان بالأكثر.
فلعل الأولى أن يقال: إن كان المراد بالعلم الاجمالي هو العلم بالأقل أو
الأكثر، فليس هذا علما إجماليا، إذ لابد في العلم الاجمالي من أن ينحل إلى
قضية منفصلة يتباين طرفاها، وحيث كان التكليف بالأقل داخلا في التكليف
بالأكثر لا مباينا له لم تصدق القضية المنفصلة المذكورة، بل مرجع العلم
المذكور إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك في وجوب الزائد، كما نبه له
سيدنا الأعظم قدس سره، فلا علم إجمالي حتى يحتاج إلى الانحلال.
وإن كان المراد به أنه بعد العلم بوجوب الأقل تفصيلا فهو مردد بين أن
يكون بنحو اللابشرط وأن يكون بشرط شئ، لوضوح التباين بين المفادين،
فليس هذا العلم الاجمالي منجزا، لعدم كونه علما بالتكليف، لوضوح كون أحد
طرفيه السعة، ولا يقتضي الالزام على كل حال، نظير دوران الامر بين وجوب
شئ وإباحته، كما نبه له شيخنا الأستاذ قدس سره.
الثاني: ما قد يظهر من الفصول من أن المنجز وإن كان هو خصوص
الأقل، إلا أن مقتضى لزوم الفراغ اليقيني عنه هو الاتيان بالأكثر، لعدم إحراز
الفراغ عنه إلا بذلك بعد فرض الارتباطية على تقدير وجوب الأكثر، لان سقوط
التكليف منوط بتمامية المركب.
359

نعم، لو أحرز كون الأقل تمام الواجب اتجه الاكتفاء به في الفراغ عنه.
لكن الأصل لا ينهض بشرح المعلوم بالاجمال، إلا أن يكون مثبتا.
ويندفع: بأن اليقين بالفراغ لا يجب في مثل ذلك مما كان الشك فيه ناشئا
من عدم البيان مع العلم بحال المأتي به ومطابقته لما ورد البيان على التكليف به،
وإنما يجب اليقين بالفراغ في ما إذا كان الشك فيه ناشئا من الشك في حال
المأتي به وفي مطابقته لما ورد البيان بالتكليف به، وهو مورد قاعدة الاشتغال.
الثالث: أنه بناء على ما هو المشهور عند العدلية من تبعية الاحكام
للمصالح والمفاسد في متعلقاتها يكون المكلف به موردا لغرض المولى،
وحيث لا يحرز حصول غرضه بالاقتصار على الأقل تعين الاحتياط بالأكثر،
لوجوب إحراز غرض المولى.
نعم، بناء على تبعية الاحكام لمصالح فيها لا في متعلقاتها - كما عن بعض
العدلية - لا يجب الاحتياط، لاستيفاء المولى غرضه بنفس التكليف، وتعلق
غرض آخر له بنفس الفعل غير معلوم، ليجب إحرازه.
وكذا بناء على عدم تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد أصلا.
وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره في الجواب عن ذلك من تعذر العلم
بحصول غرض المولى حتى مع الاتيان بالأكثر، لاحتمال توقفه على معرفة
الاجزاء تفصيلا غير المتيسرة في المقام.
فهو - مع اختصاصه بالعبادات - مدفوع: بأن التأمل في مرتكزات العقلاء
والمتشرعة قاض بعدم دخل ذلك، كما تقدم في مبحث العلم الاجمالي من
مباحث القطع.
ولا سيما مع تعذره لانسداد باب العلم - كما في المقام - حيث اعترف قدس سره
غير مرة بإمكان الاحتياط وعدم اعتبار المعرفة التفصيلية حينئذ.
ومثله ما قد يقال من عدم وجوب إحراز الغرض إلا مع قيام الحجة عليه،
360

ولا يكون التكليف في المقام حجة إلا على تعلق الغرض بالأقل.
لاندفاعه: بأن التكليف إنما يكون حجة على وجود الغرض وتوقف
حصوله على الأقل، لا على تعلق الغرض به بنحو يعلم بحصوله معه، بل لا يعلم
بحصول الغرض المستكشف بالتكليف في المقام بعد فرض الارتباطية إلا
بالاتيان بالأكثر، لان الملاك أمر بسيط مترتب على مجموع أجزاء المركب، فلا
يحرز حصول شئ منه إلا بتمامية المركب.
وأشكل من ذلك إنكار وجوب تحصيل غرض المولى ثبوتا وقصر
موضوع وجوب الإطاعة عقلا على خصوص تكليف المولى المتقوم بجعل
السبيل من قبله.
فإنه مناف للمرتكزات العقلائية جدا، إذ لا فرق بنظرهم بين التكليف
بالشئ وتعلق الغرض به بالنحو الذي يبلغ مرتبة التكليف، فيلزمون بتحصيل
الغرض المذكور في مورد تعذر التكليف على طبقه لعجز المولى عن جعله،
لموانع خارجية من خرس أو خوف أو بعد مانع من توجيه الخطاب أو نحوها -
وإن استحال ذلك في حق الشارع الأقدس - بل يكتفون في الالزام بالعمل
بوجود مقتضي الغرض ولو مع غفلة المولى عنه للجهل بموضوعه، كما
لو تعرض المولى للخطر الذي من شأنه الاهتمام بدفعه، وكان غافلا عنه أو عن
تمكن المكلف من دفعه، مع تمكن المكلف منه والتفاته، فلا يصح للمكلف
حينئذ الاعتذار عن العمل بما يناسب الغرض المذكور بعدم صدور التكليف من
المولى على طبقه.
بل الظاهر أن وجوب إطاعة التكليف في طول وجوب موافقة الغرض
بلحاظ كشفه عنه وملازمته له، ولا دخل للتكليف بنفسه في ذلك.
ولذا لو علم بغرض المولى، وبعدم وفاء تكليفه به لغفلته، كان حفظ
غرضه منجزا بنحو يحسن العقاب بتعمد تخلفه بالاقتصار على مورد التكليف.
361

وهذا لا ينافي ما تقدم غير مرة من تقوم التكليف بجعل السبيل، لا بالإرادة
والكراهة، والمحبوبية والمبغوضية، لان المراد بالغرض هنا ما يكون من شأنه
جعل السبيل الذي هو منشأ انتزاع التكليف، لا ما يكون منشأ للإرادة والكراهة.
ودعوى: أن مقتضى ذلك الاستغناء عن مسألة الملازمة بين الاحكام
العقلية والشرعية، إذ لو فرض وجوب تحصيل الملاكات على المكلف عقلا،
بنحو يقتضي العمل ويستحق معه العقاب من دون حاجة إلى الحكم الشرعي لم
تكن للملازمة المذكورة أثر عملي يصحح الاهتمام بها.
مدفوعة: بأن وجوب تحصيل غرض المولى لا يرجع إلى وجوب
تحصيل الملاكات الواقعية بمجرد إدراك العقل لها، بل بعد تعلق غرض المولى
بها بحيث تكون مضافة له بالنحو المقتضي لجعل الحكم، فأثر الملازمة
المذكورة هو استكشاف تعلق غرض المولى بها الذي هو الموضوع لوجوب
الإطاعة، ولا طريق بدونها لاحراز كون الملاك مضافا للمولى وموردا لغرضه
ليجب تحصيله.
فالعمدة في الجواب عن الوجه المذكور: أن تنجز الغرض إنما هو بمقدار
وصوله، فكما كان بيان خصوصيات التكليف من وظيفة المولى، وبدونه
فالمكلف في سعة منها، ولا يعتنى باحتمال دخل شئ فيه وإن كان واحدا
ارتباطيا، كذلك بيان ما هو الدخيل في الغرض من وظيفة المولى، وليس على
المكلف الاهتمام بتحصيل ما يحتمل دخله فيه، فلو فرض فوت الغرض بسبب
قصور بيان المولى فالمكلف آمن منه، كما يأمن من فوت التكليف لذلك.
نعم، لو لم يتصد المولى لتحصيل الغرض - لغفلته أو عجزه عن التكليف،
وإن امتنع ذلك في حق الشارع - وعلم به المكلف لم يبعد البناء على وجوب
إحرازه، بخلاف ما إذا تصدى لذلك وشك في وفاء بيانه بغرضه، كما هو محل
الكلام في المقام.
362

كما أنه لو كان الأثر المترتب على الفعل موردا للتكليف المولوي، لا غاية
وغرضا منه اتجه لزوم إحرازه وكان من الشك في المحصل.
لكنه خروج عن محل الكلام، إذ الكلام في ما لو كان المكلف به مرددا
بين الأقل والأكثر بنفسه، لا بمحصله مع عدم الاجمال فيه.
هذا، ولا يخفى أن منشأ هذه الوجوه الثلاثة المفروضة للاحتياط هو
ملاحظة الارتباطية المفروضة في المقام، والموجبة لوحدة التكليف والغرض،
وإنا وإن أطلنا الكلام في دفعها تبعا للأصحاب، إلا أنا في غنى عن ذلك، لان ما
سبق آنفا في توجيه جريان البراءة من عدم الفرق في جريانها بين التكليف
الضمني والاستقلالي إن تم ارتكازا فهو واف بدفعها، لان فرض كون المشكوك
تكليفا ضمنيا مستلزم لفرض العلم الاجمالي - بالصورة المتقدمة - ولفرض
الشك في امتثال التكليف المتيقن، وفي حصول الغرض.
ومرجع تسليم البراءة إلى عدم تمامية الوجوه المذكورة بنحو يكشف عن
خلل في تصويرها إجمالا أو تفصيلا، لوضوح أن كبرياتها لما كانت ارتكازية لم
يمكن عمومها للمقام مع التسليم بجريان البراءة ارتكازا.
وإن لم يتم لم ينفع دفع هذه الوجوه في عدم وجوب الاحتياط والأمان
من العقاب بدونه، كما لعله ظاهر.
ثم إنه قد يستثنى مما ذكرنا ما لو كان التردد ناشئا من إجمال عنوان
المكلف، بنحو لا يعلم بصدقه على الأقل، لدعوى: أن التكليف بالعنوان يقتضي
تنجيزه في ذمة المكلف، فيجب إحرازه في مقام الامتثال، بخلاف ما إذا شك في
مقدار المكلف به من دون أن يتنجز بعنوان يخصه، فإن المتيقن منه خصوص
الأقل، فهو المتنجز لا غير، كما تقدم.
لكن تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات الفصل الأول أن ذلك إنما يتم فيما
إذا كان العنوان حاكيا عن المركب بلحاظ خصوصية زائدة عليه، مترتبة. عليه -
363

كعنوان الدواء الصادق على المركب بلحاظ ترتب الشفاء عليه فعلا أو اقتضاء -
أو قائمة به - كعنوان الأكبر والمطلوب - لرجوع التكليف بالعنوان حينئذ إلى
التكليف بمنشأ انتزاعه، المفروض عدم الاجمال فيه والشك في حصوله،
فيتنجز ويجب إحرازه، نظير حال الشك في المحصل.
أما إذا كان حاكيا عن المركب بنفسه - كعنوان السكنجبين الصادق على
الخل والسكر بشرط الغليان أو مطلق الامتزاج - فلا مجال لوجوب الاحتياط فيه،
لان التكليف بالعنوان إنما هو بلحاظ حكايته عن المعنون، والمفروض التردد
فيه بين الأقل والأكثر، فلا يكون بيانا على الأكثر. فراجع ما تقدم هناك وتأمل.
هذا تمام الكلام في الأصل العقلي.
وأما الثاني، وهو الأصل الشرعي الثانوي فقد اختلف فيه كما تقدم،
والكلام فيه..
تارة: بناء على المختار من جريان البراءة العقلية.
وأخرى: بناء على عدمه، وأن الأصل الأولي الاحتياط.
أما على الأول، فلا مانع من جريان البراءة من التكليف بالأكثر، لتحقق
موضوع الأصل فيه، وهو الشك، ولا يعارض بأصالة عدم وجوب الأقل، للعلم
بوجوبه على كل حال، المقتضي للاتيان به ولزوم امتثاله.
وربما يدعى جريان البراءة أيضا بالإضافة إلى خصوص الزائد للشك في
التكليف به ضمنا، فيرفع بالأصل.
وهو لا يخلو عن إشكال، لانصراف الأدلة إلى التكليف الاستقلالي، دون
التكليف الضمني، لعدم كونه في الحقيقة تكليفا مجعولا، وانحلال التكليف
الاستقلالي إليه ليس حقيقيا، بل هو من باب التحليل العقلي، فينصرف عنه
إطلاق الرفع.
ولذا كان الظاهر قصور حديث الرفع عنه في بقية الفقرات، فمن استكره
364

على ترك بعض أجزاء الواجب الارتباطي كان المرتكز في تطبيق الحديث في
حقه هو تطبيقه في التكليف بتمام الواجب المقتضي لسقوطه ابتداء، لا سقوط
خصوص أمر الجزء المكره عليه وسقوط غيره بتبعه بسبب الملازمة.
ومن ثم كان المرتكز مع الشك في أصل التكليف - كوجوب ركعتي
الوتيرة - تطبيق الحديث على التكليف التام، لا التكاليف الضمنية التي ينحل
إليها.
نعم، لو كان في أدلة البراءة ما يختص بالأقل والأكثر لم يبعد انصرافه إلى
خصوص الزيادة، لانصراف الشك إليها والغفلة عن فرضه بالإضافة إلى المركب
الواجد لها، كما هو الحال في البراءة العقلية أيضا لأنها ليست من سنخ العام
العنواني، ليتوجه دعوى انصرافه، بل هي دليل لبي وارد في كل مصداق بنفسه.
ولا يهم مع ذلك عدم كون التكليف الضمني مجعولا، لان المراد بالرفع
في أدلة البراءة محض السعة في مقام العمل من حيثية المشكوك، ولا مانع من
جعلها شرعا بالإضافة إلى الجزء وإن لم يكن التكليف به مجعولا.
لكن لا مجال لذلك في الأدلة العامة لما عرفت من انصرافها عن الجزء.
هذا، وقد يتمسك في المقام بالاستصحاب، لان مقتضاه عدم وجوب
الأكثر، لأنه حادث مسبوق بالعدم، كما تقدم نظيره في أدلة البراءة.
وهذا هو العمدة من وجوه الاستصحاب، دون مثل استصحاب عدم
وجوب الزائد، أو عدم جزئيته.
للاشكال في الأول بما عرفت من عدم كون وجوب الجزء مجعولا
بنفسه، ليصح نفيه بالاستصحاب، بل هو هنا أظهر، إذ لا إشكال في اختصاص
الاستصحاب بالمجعول الشرعي وموضوعه.
وفي الثاني بأن جزئية الجزء منتزعة من وجوب المركب المشتمل عليه،
فلا مجال لجريان الاستصحاب إلا في منشأ انتزاعها، وهو يرجع إلى الوجه الذي
365

ذكرناه.
وهناك بعض الوجوه الأخرى للاستصحاب لا ينبغي إطالة الكلام فيها
بعد وضوح إشكالها.
وأما على الثاني - وهو القول بعدم جريان البراءة العقلية ولزوم الاحتياط -
فقد عرفت أن منشأه إما العلم الاجمالي المدعى، أو قاعدة الاشتغال بالأقل
المتيقن، للشك في الفراغ عنه بدون الزائد، أو لزوم إحراز غرض المولى.
والظاهر امتناع جريان البراءة الشرعية على جميع الوجوه المذكورة.
أما على الأول، فلان مبنى منجزية العلم الاجمالي المذكور أحد أمرين..
الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن العلم بوجوب الأقل لنفسه
أو في ضمن الأكثر لا يصلح لحل العلم الاجمالي، لتوقف منجزيته على كل حال
على تنجز الأكثر، فلا تكون مانعة من تنجزه.
الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن العلم بوجوب الأقل لما كان بنحو
الاهمال مرددا بين لا بشرط وبشرط شئ فهو عين العلم الاجمالي، وليس علما
آخر صالحا لحله.
ولا يخفى أن أدلة البراءة من الأكثر لما لم تنهض بتعيين حال وجوب
الأقل المعلوم، وأنه لنفسه وبنحو اللابشرط، لا في ضمن الأكثر وبشرط شئ،
فهي لا تنفع في سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية.
من دون فرق بين القول بوجوب موافقة العلم الاجمالي القطعية لذاته
والقول بوجوبها لتعارض الأصول.
لان أصالة البراءة من وجوب الأقل إنما لا تجري ولا تعارض أصالة
البراءة من وجوب الأكثر إذا كان وجوب الأقل المردد بين الوجهين صالحا
للعمل بنفسه، ليكون العلم به صالحا لتنجيزه على كل حال ورافعا لموضوع
الأصل فيه.
366

أما بناء على أن الصالح للعمل والتنجيز هو العلم بوجوبه لنفسه بنحو
اللابشرط، فحيث لم يكن ذلك معلوما كان الأقل مشمولا لأدلة الأصول، فيكون
الأصل فيه معارضا للأصل الجاري في الأكثر.
لكن ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن أدلة البراءة - كحديث الرفع - تقتضي رفع
القيدية برفع منشأ انتزاعها وهو وجوب الأكثر الواجد للقيد، فتصلح لرفع
الاجمال عن الأقل ويثبت بها إطلاقه، إذ ليس الاطلاق إلا عبارة عن عدم لحاظ
القيد وعدم أخذه.
وهو لا يخلو عن غموض، إذ بعد الاعتراف بأن القيدية لا ترتفع بنفسها،
بل بمنشأ انتزاعها - وهو التكليف بالأكثر - كيف يمكن إثبات الاطلاق، مع
وضوح أن الاطلاق عبارة عن عدم لحاظ القيد في الأقل في فرض الامر به، وهو
أمر مباين لعدم وجوب الأكثر.
بل لو فرض تطبيق دليل البراءة بالإضافة إلى خصوص التكليف الضمني
بالزيادة - وغض النظر عما تقدم منا - لم ينفع في إثبات الاطلاق أيضا، فإن
الاطلاق غير متقوم بعدم وجوب الزيادة، بل بعدم أخذها في الواجب، الذي هو
عبارة عن عدم التقييد بها، ولا مجال لتطبيق أدلة البراءة عليه بعد عدم كونه
مجعولا بنفسه، ولا موردا للعمل، بل هو أمر انتزاعي لا مجال لتطبيق أدلة البراءة
إلا على منشأ انتزاعه، كما اعترف به قدس سره.
ونظيره ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في الكفاية، فإنه بعد الاعتراف بان
الجزئية منتزعة من وجوب الأكثر ورفعها يكون برفعه، ذكر أن نسبة حديث
الرفع الناظر إلى أدلة الاجزاء نسبة الاستثناء من تلك الأدلة، فيكون مفاد تلك
الأدلة معه جزئية الجزء إلا مع الجهل، ولازم ذلك اختصاص الامر بالاجزاء
المعلومة، وهي الأقل.
إذ فيه: أن ذلك موقوف على تطبيق الحديث على نفس جزئية
367

المشكوك، لا على منشأ انتزاعها وهو وجوب الأكثر، إذ رفع وجوب الأكثر
ظاهرا لا يقتضي الامر بما عداه إلا بالملازمة، الموجبة لكون الأصل مثبتا غير
حجة.
نعم، لو كان رفعه واقعيا كان حجة في لوازمه، كسائر الأدلة الاجتهادية.
لكن لا يظن منه البناء على ذلك وإن أوهمته بعض كلماته في نظائر المقام.
على أنه بعد فرض كون الوجوب الصالح للتنجيز والعمل هو خصوص
الوجوب النفسي الاستقلالي فتطبيق دليل البراءة على الأكثر معارض بمثله في
الأقل.
وبالجملة: لا مجال للجمع بين كون الجزئية أمرا انتزاعيا لا يرتفع بنفسه،
بل بمنشأ انتزاعه، وكون رفعها محرزا لوجوب الأقل.
نعم، يظهر منه قدس سره في حاشية الرسائل أن الجزئية مجعولة حقيقة تبعا
لمنشأ انتزاعها، وينالها الرفع كذلك تبعا له، وليس الجعل والرفع مختصا بمنشأ
الانتزاع.
وعليه يكون رفع الأكثر المشكوك مستلزما لرفع الجزئية المشكوكة، دون
الجزئية المعلومة لامتناع شمول الحكم الظاهري للمعلوم، ومقتضى الجمع بين
وجوب الأقل المعلوم على كل حال ورفع جزئية المشكوك التعبد بكون الأقل
تمام الواجب وكونه بنحو اللابشرط موردا للتكليف.
لكن هذا رجوع عن كون الجزئية أمرا منتزعا من التكليف بالمركب إلى
كونها أمرا حقيقيا مسببا عنه مجعولا مثله بتبعه. ولا مجال للبناء عليه، كما حقق
في محله.
ولعله لذا عدل في هامش الكفاية عن جريان البراءة الشرعية، حيث قال:
(لكنه لا يخفى أنه لا مجال للنقل في ما هو مورد حكم العقل بالاحتياط، وهو ما
إذا علم إجمالا بالتكليف الفعلي الامر الواقعي، وهو واضح البطلان).
368

ومما ذكرنا يظهر عدم جريان الاستصحاب في المقام، لان استصحاب
عدم وجوب الأكثر أو الزيادة لو تم لا يحرز إطلاق الامر بالأقل، وكون التكليف
به استقلاليا، واستصحاب عدم قيدية الزائد أو جزئيته لا يجري في نفسه بعد
عدم كونهما مجعولتين، بل منتزعتان من وجوب الأكثر.
وأما على الثاني، فعن الفصول توجيه عدم جريان البراءة الشرعية بأن
أصالة الاشتغال في الأكثر رافعة لموضوع الأصل، لعدم صدق حجب العلم
معها، نظير الأدلة الظنية، كخبر الواحد والبينة.
لكن يشكل: بأن موضوع أدلة البراءة الشرعية هو الشك في التكليف
الشرعي، وأصالة الاشتغال ليست كالأدلة الظنية بيانا على التكليف الشرعي، بل
هي عبارة عن حكم عقلي طريقي وارد في مورد بالجهل، فهي لا ترفع موضوع
أصل البراءة.
فالعمدة في ذلك: أن دليل البراءة أو الاستصحاب إنما يقتضي عدم
التكليف شرعا بالأكثر من حيث كونه محتمل التكليف، وهو لا ينافي لزوم
الاتيان به عقلا لاحراز الفراغ عن الأقل المتيقن التكليف.
ومنه يظهر الحال على الثالث، لوضوح أن عدم التكليف بالأكثر شرعا
بأدلة البراءة أو الاستصحاب من حيثية كونه مشكوكا لا يفي بتعيين الغرض، ولا
يحرز حصوله بفعل الأقل، كما لا ينافي لزوم الاتيان به عقلا لذلك.
نعم، لو كان مفاد أدلة البراءة أو الاستصحاب رفع القيدية أو الجزئية كانت
رافعة لموضوع قاعدة الاشتغال على الثاني ومحرزة لحصول الغرض على
الثالث، لصلوحها لشرح التكليف المجمل وإحراز الفراغ عنه وحصول غرضه
بالاقتصار على الأقل.
ولذا حكي عن الفصول سلوك ذلك في تقريب جريان البراءة.
لكن ذكرنا عدم تماميته لعدم جعل الجزئية والقيدية.
369

والمتحصل: أنه لما كان مبنى القول بوجوب الاحتياط وعدم جريان
البراءة العقلية عدم كفاية العلم بوجوب الأقل على كل حال في تنجيزه والاكتفاء
به في مقام الفراغ، ولم تكن الأصول الشرعية من براءة واستصحاب وافية بشرح
حال التكليف المعلوم، ولا محرزة لوجوب الأقل لا بشرط بنحو يكون تمام
الواجب، ليكون الاقتصار عليه محرزا للفراغ والغرض، لم تنهض برفع اليد عن
مقتضى الأصل العقلي المذكور، ولا تصلح لرفع موضوعه، كما هو الحال في
المتباينين.
هذا، وقد يدعى أن مقتضى الاستصحاب الاتيان بالأكثر، لاستصحاب
بقاء التكليف بعد الاتيان بالأقل، فيلزم العقل بالاتيان بالأكثر تحصيلا للفراغ
اليقيني، لا لاحراز وجوبه بالاستصحاب، ليدعى أنه مثبت.
والاستصحاب المذكور له نحو حكومة على البراءة العقلية أو الشرعية، لا
من جهة كونه بيانا رافعا لموضوعها، بل لكونه حكما ثابتا لجهة اقضائية مقدما
عملا على الحكم الأولى الثابت من جهة غير اقتضائية، إذ البراءة إنما تقتضي
عدم لزوم الاتيان بالأكثر من حيثية الشك في تعلق التكليف به، والاستصحاب
يقتضي لزوم الاتيان به من حيثية كونه محرزا للفراغ عن التكليف المستصحب.
وقد جعل بعض مشايخنا الاستصحاب المذكور من القسم الثاني من
استصحاب الكلي، لتردد التكليف المستصحب بين مقطوع الزوال ومقطوع
الارتفاع.
وأورد عليه.. تارة: بأن الرجوع لاستصحاب الكلي في القسم الثاني
موقوف على عدم إحراز حال الفرد ولو بضم الأصل إلى الوجدان، وإلا كان
الأصل المحرز لحال الفرد حاكما على استصحاب الكلي، كما لو علم المكلف
بالحدث الأصغر واحتمل حدوث الجنابة، فإن استصحاب عدم الجنابة حاكم
على استصحاب كلي الحدث، وفي المقام حيث كان الأقل متيقنا والأكثر
370

مشكوكا فاستصحاب عدم وجوب الأكثر حاكم على استصحاب الكلي
بالإضافة إلى التكليف.
وأخرى: بمعارضته باستصحاب عدم تعلق جعل التكليف بالأكثر لو لم
نقل بكونه محكوما له.
لكن يندفع الأول: بأنه لو تم ما ذكره من الشرط في استصحاب الكلي
وفي مثال الحدث فالمقام ليس نظيرا لذلك، لمنع ما ذكره من أن الأقل متيقن
سابقا والأكثر مشكوك، بل المتيقن هو التكليف بالأقل في الجملة ولو في ضمن
الأكثر، وهو لا يقتضي سقوطه بفعل الأقل، كما في الحدث الأصغر الذي يعلم
بارتفاعه بالوضوء، بل ذلك من لوازم التكليف بالأقل استقلا لا بنحو اللابشرط،
ومن المعلوم عدم إحرازه، غاية الامر أن اليقين المذكور لا يصلح إلا لتنجيز
الأقل.
نعم، لو علم سابقا بالتكليف بالأقل استقلا لا، ثم احتمل تبدله بالتكليف
بالأكثر، كان نظيرا لمثال الحدث.
وأما استصحاب عدم كون التكليف المتيقن تكليفا بالأكثر، فهو - لو جرى
في نفسه - معارض بمثله.
ويندفع الثاني: بعدم التعارض بين الأصلين المذكورين، لعدم التناقض
بين مؤدييهما، فإن عدم التكليف بالأكثر شرعا بعنوانه الخاص لا يناقض بقاء
التكليف الكلي، وإنما يلازم عدمه، والتفكيك بين المتلازمات بسبب
الاستصحاب غير عزيز. كما لا تنافي بين الأصلين عملا، لان استصحاب عدم
التكليف بالأكثر إنما يقتضي عدم الاتيان به امتثالا للتكليف به شرعا، وهو لا
ينافي الاتيان به لاحراز الفراغ عن التكليف الكلي المستصحب.
فالعمدة في المقام: أن الاستصحاب المذكور ليس من استصحاب الكلي،
لعدم الأثر العملي لكلي التكليف، بل العمل مترتب على كل تكليف بشخصه،
371

حيث يلزم موافقته عقلا، والموافقة الاجمالية عند العلم الاجمالي إنما هي لكون
العمل قائما بالفرد المردد بين الفردين، لا لقيامه بالكلي الجامع بينهما.
فالاستصحاب في المقام من استصحاب الفرد المردد بين مقطوع البقاء
ومقطوع الارتفاع، وقد تقدم في التنبيه العاشر من تنبيهات الفصل السابع أنه لا
مجال لجريانه.
بل يزيد هنا أنه إذا كان العلم بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر لا يقتضي
إلا تنجز الأقل - كما تقدم - فاستصحاب التكليف المذكور لا يزيد على ذلك
وحيث يمتنع تنجيز الأقل بعد فرض الاتيان به للعلم التفصيلي بعدم وجوبه
يمتنع الاستصحاب.
وحاصل محذور الاستصحاب هنا: أنه بنفسه ينافي العلم التفصيلي،
بخلافه هناك، فإنه لا ينافيه بنفسه، بل بإطلاقه.
نعم، لو فرض ترتب الأثر على كلي التكليف، كما لو نذر المكلف أن
يتصدق بدرهم إن بقيت ذمته مشغولة ساعة مثلا، جرى الاستصحاب المذكور،
وكان من القسم الثاني من استصحاب الكلي، لو كان مراده الانشغال الواقعي..
وإن كان مراده الانشغال العقلي المتفرع على التنجز فلا مجال للاستصحاب،
لورود أصالة البراءة الشرعية، بل العقلية عليه، لارتفاع الشك معها حقيقة.
المسألة الثانية: في الدوران بين التعيين والتخيير العقليين.
لا يخفى أن مرادهم بالتخيير العقلي هو التخيير في مقام الامتثال عقلا بين
أفراد الماهية التي تكون موردا للتكليف التعييني الشرعي، فكلما كان المكلف
به مرددا بين الماهية المطلقة - التي هي مورد التخيير العقلي - والمقيدة
بالخصوصية - الملزم بتعينها في مقام الامتثال - كان من الدوران بين التعيين
والتخيير العقليين، سواء كانت الخصوصية جزءا خارجيا متحدا مع الواجب
مأخوذا فيه - كالاستعاذة في الصلاة - أم قيدا مباينا للماهية موردا لفعل المكلف
372

في مقابلها - كالطمأنينة والطهارة في المصلاة - أم عرضا قائما بالموضوع قابلا
للزوال عنه - كالايمان في الرقبة - أم عرضا ليس من شأنه الارتفاع عن
الموضوع - كالرجولية والهاشمية في الانسان - أم خصوصية مقومة للذات
والماهية - كالانسانية في الحيوان - أم خصوصية مقومة للفرد - كخصوصية زيد
في الانسان - لعدم الفرق بين هذه الصور في الجهة المذكورة.
لكن الموضوع في هذه المسألة ليس ذلك على إطلاقه، وإلا دخلت فيها
المسألة الأولى، ولم تكن مقابلة لها، بل المراد خصوص قسم منه يمتاز عن
موضوع تلك المسألة، وإنما أطلقنا العنوان المذكور عليه لضيق التعبير، لعدم
عنوان يخصه.
والملاك في التمايز بين الموضوعين اشتمال أحدهما على خصوصية
تقتضي أولويته بجريان الاحتياط.
وقد سبق منا عدم الفارق بين الأقسام الثلاثة الأولى، وأن تخيل تميز الأول
عن الثاني والثالث في غير محله، كتخيل الفرق بين الثاني والثالث بعد اشتراكها
في احتمال التقييد وأخذ خصوصية زائدة في المتيقن.
ومن ثم كان موضوع المسألة الأولى شاملا للأقسام الثلاثة المذكورة، كما
يقتضيه عموم عنوانه.
وأما موضوع هذه المسألة فالمتيقن منه القسمان الأخيران، وربما يعمم
إلى القسم الرابع، على كلام يأتي التعرض له إن شاء الله تعالى.
إذا عرفت هذا فيقع الكلام..
تارة: في مقتضى الأصل العقلي.
وأخرى: في مقتضى الأصل الشرعي.
أما الأصل العقلي فلا ريب في أن مقتضاه الاحتياط، بناء على أن ذلك
مقتضاه في المسألة الأولى، لاشتراكها في الجهة المقتضية لذلك، من فرض
373

العلم الاجمالي، أو الشك في الفراغ، أو في حصول الغرض.
أما بناء على أن مقتضاه هناك البراءة فقد صرح غير واحد بجريانها هنا
أيضا، لعين الوجه المتقدم هناك من أن الخصوصية كلفة زائدة، والمرجع فيها
البراءة عقلا بملاك قبح العقاب بلا بيان، لعدم الفرق فيها بين أصل التكليف
وخصوصياته.
وما تقدم هناك من دفع شبهة العلم الاجمالي والشك في الامتثال وفي
حصول الغرض جار هنا.
وقد خالف في ذلك بعض الأعيان المحققين قدس سره فالتزم بالاحتياط، مدعيا
عدم تحقق ملاك الأقل والأكثر حتى بحسب التحليل العقلي، إذ الملاك في ذلك
كأن يكون الأقل بذاته - لا بحده - محفوظا في الأكثر، نظير الكليات المشككة
المحفوظ ضعيفها بذاته - لا بحد ضعفه - في ضمن شديدها.
ولا مجال لذلك في المقام، لان الأقل - وهو الماهية المعراة عن قيد
الخصوصية - كسائر الكليات المتواطئة تتحصص إلى حصص متعددة متباينة
في ضمن أفرادها المتباينة بحيث تكون الحصة المتحققة منها في ضمن كل فرد
مباينة للحصة المتحققة في ضمن الفرد الآخر، فالحيوانية المتحققة في ضمن
الانسان مباينة للحيوانية الموجودة في ضمن غيره من الأنواع، كما أن الانسانية
المتحققة في ضمن زيد مباينة للانسانية المتحققة في ضمن غيره من الافراد.
وعليه لا تكون الماهية المطلقة الجامعة بين الحصص محفوظة في ضمن
الخصوصية، ليمكن دعوى وجوبها على كل حال، وينحل بها العلم الاجمالي،
بل المحفوظ في ضمنها هو الحصة الخاصة من الماهية المباينة للحصص
الأخرى، فلا يمكن دعوى اندراج ما نحن فيه في الأقل والأكثر، بل ليس في
المقام إلا العلم الاجمالي بتعلق التكليف إما بالحصة الخاصة أو الجامع المطلق
بين الحصص المنطبق عليها وعلى غيرها، ومرجعه إلى العلم إما بوجوب
374

الحصة الخاصة وحرمة تركها مطلقا، أو وجوب غيرها في ظرف تركها.
وبعد عدم انطباق أحد التركين على الآخر، وعدم قدر متيقن في البين
مشمول للتكليف النفسي الأعم من الضمني والاستقلالي، يرجع الامر إلى
المتباينين، ويجب الاحتياط بالاتيان بالخصوصية، للقطع بالخروج عن عهدة
التكليف المعلوم في البين.
هذا ما ذكره فيما إذا كانت الخصوصية المحتملة منوعة أو مشخصة.
وقد الحق بذلك ما إذا كانت عرضية ولم يكن كل فرد قابلا للاتصاف بها،
بحيث يمكن تعاقبها، وجودا وعدما على الفرد الواحد - وهي القسم الرابع من
الأقسام الستة المتقدمة - كالهاشمية في الانسان.
بدعوى: رجوع الشك فيها إلى الشك في كون المكلف به خصوص
الحصة الواجدة للخصوصية، أو المطلق الجامع بينها وبين الفاقد لها، بخلاف ما
إذا كانت الخصوصية العرضية مما يمكن اتصاف كل فرد بها، كالقيام والعقود،
حيث يرجع الشك حينئذ إلى الشك في اعتبار الخصوصية زائدا على الحصة،
مع اليقين بالتكليف بأصل الحصة إما ضمنا أو استقلا لا.
هذا حاصل ما ذكره في المقام، وقد أطلنا في بيانه محافظة على
الخصوصيات والنكات التي اعتمدها في استدلا له.
لكنه يشكل.. أولا: بأنه لما كان الملاك في الأقل والأكثر أن يكون الأقل
محفوظا في الأكثر بذاته لا بحده، فلا مجال لتوجيه إخراج محل الكلام عنه بعدم
كون واجد الخصوصية واجدا للماهية المطلقة، ضرورة أن الماهية المطلقة هي
الأقل بحده، ولا ريب في عدم اعتبار حفظها في الأكثر في جميع الأقسام
المذكورة في المقام، بل ليس المحفوظ فيه إلا حصة منها وهي الماهية الخاصة،
المحفوظة في المقام أيضا في ضمن الأكثر الواجد للخصوصية.
وليس المراد بالقدر المتيقن الذي هو مورد التكليف النفسي - الأعم من
375

الاستقلالي والضمني - إلا الماهية المهملة الصالحة للانطباق على المطلقة
والمقيدة، وهو موجود في المقام، ضرورة أن التكليف بالأكثر الواجد
للخصوصية - في محل الكلام - راجع إلى وجوب الماهية الخاصة في ضمنه،
والتكليف بالأكثر راجع إلى التكليف بالماهية المطلقة، ومع التردد بينهما يعلم
بالتكليف الضمني أو الاستقلالي بالماهية في الجملة الصالحة للانطباق عليهما.
وغاية ما يتصور من الفرق بين محل الكلام وما إذا كانت الخصوصية
قابلة للارتفاع عن الفرد أمران..
الأول: مباينة الذات الواجدة للخصوصية للذات الفاقدة لها في محل
الكلام، والاتحاد بينهما فيما إذا كانت الخصوصية قابلة للارتفاع.
الثاني: غلبة بساطة مفهوم الواجد للخصوصية في محل الكلام، بسبب
كون العنوان الحاكي جامدا، وتركبه من الذات بمفهومها العام والخصوصية، في
ما إذا كانت الخصوصية قابلة للارتفاع، لافادتهما بعنوان اشتقاقي مركب من مفاد
الهيئة والمادة، أو بطريق التقييد الذي هو نحو نسبة قائمة بين القيد والمقيد.
لكن الأول ممنوع، فإن الاتحاد مع قابلية الخصوصية للارتفاع إنما هو
بين القابل للخصوصية والقابل لعدمها، ولا أثر له، لعدم دخل القابلية قطعا، وإنما
يحتمل أخذ فعلية الخصوصية، والتباين بين واجد الخصوصية وفاقدها فعلا
حين فعلية التكليف ظاهر، فلا يكون الاتيان بالفاقد محصلا لشئ من المكلف
به على تقدير أخذ الخصوصية فيه.
غايته أن منشأ التباين ليس هو الخصوصية، بل ما يقارنها مما يقوم الذات،
بخلاف ما لو كانت الخصوصية نوعية أو شخصية، فإنها بنفسها تكون منشأ
للتباين بين الحصتين، ولا أثر لذلك في حكم العقل، ولذا التزم قدس سره بالاحتياط في
الخصوصية العرضية غير القابلة للارتفاع، مع أنها ليست بنفسها منشأ للتباين
بين الحصص.
376

وأما الثاني فلا أثر له، لان إفادة الذات بعنوانها العام بعد فرض تقييدها
راجع إلى كون الموضوع خصوص الحصة المصاحبة للقيد، كما هو الحال في ما
لو أريدت الحصة بعنوان جامد يختص بها، وليس الفرق بينهما إلا في طريق
البيان، ولا أثر له في حكم العقل الصرف، وإن كان قد يحتمل دخله في الأمور
العرفية المبنية على الاستظهار من الاطلاق ونحوه، على ما يأتي الكلام فيه عند
الكلام في الأصل الشرعي إن شاء الله تعالى.
وثانيا: بأنه حيث كان المكلف به هو فعل المكلف المتعلق بواجد
الخصوصية وفاقدها فهو في جميع فروض المسألة من القسم الرابع، لامتناع
اتصاف كل فرد بالخصوصية، بل الفرد الواجد للخصوصية لا ينفك عنها،
لاستحالة انقلاب الشئ عما يقع عليه، فالعتق المتعلق بالرقبة المؤمنة لا يتعلق
بغيرها، كما أن الصلاة الواجدة للطهارة أو الاستعاذة يمتنع خلوها عنهما، كما
يمتنع اتصاف غير الهاشمي بالهاشمية.
والفرق الذي ذكره إنما يتصور في المتعلق نفسه، كالانسان المعتق، فإن
الخصوصية المأخوذة فيه قد تقبل الارتفاع كالايمان، وقد لا تقبله، كالذكورة، ولا
أثر لذلك بعد عدم كونه بنفسه مكلفا به، بل هو متعلق للمكلف به.
وبالجملة: ما ذكره قدس سره لا ينهض بإخراج ما نحن فيه عن مسألة الأقل
والأكثر، بل التحليل العقلي قاض بدخوله فيه.
نعم، التحليل المذكور أخفى من التحليل في الشك في الشرطية، لما
عرفت من غلبة التركيب في المفهوم هناك والبساطة هنا، كما أن التركيب في
الشك في الجزئية أظهر منه في الشك في الشرطية، لمقارنته للتركب الخارجي
بين الاجزاء، وإن كان بعضها قيدا في الآخر بمقتضي الارتباطية المفروضة، كما
في الشرط.
إلا أن هذا لا ينافي جريان البراءة العقلية في الجميع بعد فرض وجود
377

القدر المتيقن بحسب التحليل العقلي، وبعد أن كان ملاك قاعدة قبح العقاب
بلا بيان يعم الخصوصيات المأخوذة في التكليف الواحد، بمقتضى الارتباطية
المفروضة، كما تقدم في المسألة الأولى. هذا كله يرتبط بالأصل العقلي.
وأما الأصل الشرعي فإنما يتوقف الاستدلال عليه إذا قيل بعدم جريان
البراءة العقلية ولزوم الاحتياط، كما هو مختار المحقق الخراساني وبعض
الأعاظم قدس سرهما في جميع صور الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين، ومختار
بعض الأعيان المحققين قدس سره في خصوص هذه المسألة.
وقد منع بعض الأعاظم قدس سره من جريان البراءة الشرعية هنا مع التزامه
بجريانها في المسألة الأولى، وسبقه إلى ذلك المحقق الخراساني، وإن أشرنا إلى
اضطراب كلامه هناك، لالحاق الشك هنا بالمتباينين، فقد ادعى بعض
الأعاظم قدس سره التباين عرفا بين العام والخاص في المقام، بنحو تكون نسبة أدلة
البراءة الشرعية إلى كل منهما سواء، فتسقط بالمعارضة.
وما ذكره قدس سره قريب جدا بناء على مسلكه في تلك المسألة من عدم كفاية
العلم بالتكليف بالأقل في تنجيزه بنفسه، بل لابد من إثبات إطلاق الامر به، وأنه
يتم برفع التكليف بالأكثر بالأصل، لرجوعه إلى رفع قيدية الزائد واطلاق الامر
بالأقل.
فإن إحراز إطلاق الأقل من نفي التكليف بالأكثر بالأصل بالوجه المتقدم
موقوف على كون الخصوصية من سنخ القيد الزائد المعتبر في الأقل، ولا يجري
في مثل المقام مما كانت الخصوصية متحدة مع الذات، بنحو تكون مباينة
للماهية مفهوما، لا أمرا زائدا معتبرا فيه.
وبالجملة: لما كان مبنى البراءة الشرعية على الظهورات التي يكون
المرجع في تطبيقها العرف أشكل نفي اعتبار الخصوصية في المقام بعد أن لم
تكن من سنخ القيد الزائد عرفا، بل مقوما لاحد طرفي الترديد مع بساطة
378

مفهومه، ولا يكفي في ذلك التحليل العقلي المغفول عنه عرفا، لعدم ابتناء الأدلة
الشرعية عليه، بل على التطبيق العرفي، وإنما ينفع في الحكم العقلي المحض.
وعلى هذا لا يفرق بين القول بلزوم الموافقة القطعية للعلم الاجمالي
بنحو يمتنع جريان الأصل في بعض الأطراف لو فرض اختصاص موضوعه به
وعدم سقوطه بالمعارضة، والقول بامكان جريان الأصل في بعض الأطراف،
للاكتفاء بعدم لزوم المخالفة القطعية.
أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلمعارضة الأصل في الأكثر
بالأصل في الأقل بعد فرض التباين بينهما وعدم انحلال العلم الاجمالي بالعلم
بوجوب الأقل على كل حال، لفرض عدم جريان البراءة العقلية.
وأما ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره من جريان البراءة الشرعية
على القول الثاني في الأكثر، لعدم لزوم المخالفة القطعية بتركه في ظرف الاتيان
بالأقل بفرد آخر.
فهو مبني على إغفال تحقق موضوع الأصل في الأقل ومعارضته للأصل
في الأكثر المستلزم للمخالفة القطعية.
هذا، كله بناء على أن مقتضى الأصل العقلي الاحتياط، وأما بناء على أن
مقتضاه البراءة من الأكثر، ولزوم الاتيان بالأقل، بعد فرض العلم بالتكليف به
على كل حال إما ضمنا أو استقلا لا، فلا مانع من جريان البراءة الشرعية من
الأكثر، وإن لم يحرز بها إطلاق الامر بالأقل، لعدم معارضته بمثله في طرف الأقل
بعد فرض العلم بالتكليف به في الجملة، كما تقدم نظيره في المسألة الأولى.
379

تنبيهات
التنبيه الأول: في الشبهة التحريمية
تقدم أن الشبهة التحريمية يمكن فيها فرض التردد بين الأقل والأكثر
الارتباطيين، وأنه مختص بما إذا كان عموم النهي لافراد الماهية مجموعيا،
فلا يكون له إلا إطاعة واحدة بترك جميع الافراد، أو معصية واحدة بفعل بعضها،
فإنه إذا احتمل أخذ شئ في الحرام كان مما نحن فيه، وكان الضيق بالبناء على
الأقل وهو الاطلاق، والسعة بالبناء على الأكثر وهو ذو الخصوصية، عكس
الشبهة الوجوبية.
وحيث لم يكن الضيق ناشئا من أخذ الخصوصية في المنهي عنه، فلا
مجال فيه لفرض الأقسام السابقة، التي عرفت اختلاف الحال فيها وضوحا
وخفاء لاختلاف سنخ الخصوصية المحتملة.
بل حيث كان ناشئا من أخذ الافراد الفاقدة للخصوصية منضمة للأفراد
الواجدة لها في المنهي عنه، فلابد أن يكون انبساط التكليف عليها من سنخ
انبساطه على الاجزاء المتباينة في أنفسها، ويتعين رجوع الشك في المقام إلى
الشك في الجزئية، الذي تقدم أن جريان البراءة فيه متيقن بالإضافة إلى بقية
الأقسام.
التنبيه الثاني: في الشبهة الموضوعية
تقدم في أول الكلام في الأصول العملية خروج الشبهة الموضوعية عن
الغرض المهم في المقام، وإن حسن التعرض لها استطرادا لو اختصت ببعض
الجهات في تنبيه مستقل. ومن ثم عقدنا هذا التنبيه.
وحيث كان المعيار في الشبهة الموضوعية هو اشتباه الأمور الخارجية
380

والمصاديق مع تحديد الكبرى الشرعية وعدم الاجمال فيها، لوضوح عنوان
المكلف به، فالشك في المقام في دخل شئ في المكلف به..
تارة: يكون لعدم إحراز تحقق عنوان المكلف به بدونه، بأن يكون
للمكلف به عنوان منتزع من جهة زائدة على ذاته احتمل، توقفها على الامر
المحتمل، كما لو وجب تهيئة الحطب الذي يغلي به الماء، وشك في كميته، أو
وجب تهيئة سكين يصلح للذبح، وشك في توقف صلوح السكين له على
صقلها.
وأخرى: يكون لعدم إحراز انطباق عنوان التكليف عليه، بأن يؤخذ
العنوان فيه بماله من الافراد على نحو العموم المجموعي، ويشك في مقدار
تلك الافراد، كما لو وجب إكرام كل عالم في البلد وشك في كون زيد منهم.
أما لو كان بنحو العموم الاستغراقي كان مرجع الشك المذكور إلى
الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، الذي لا إشكال في جريان البراءة فيه.
كما أنه لو كان بنحو العموم البدلي كان مرجع الشك المذكور إلى الشك
في تحقق المكلف به من دون إجمال فيه، الذي لا إشكال في لزوم الاحتياط فيه.
ومثله ما لو علم مقدار المكلف به وشك في مقدار المأتي به، كما لو
وجب إكرام عشرة، وشك في بلوغ الجماعة الذين أكرمهم العدد المذكور.
فمحل الكلام مختص بالصورتين الأوليين.
أما الصورة الأولى، فقد تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات البراءة أن
المرجع فيها الاشتغال، لصلوح العنوان المذكور لتنجيز منشأ انتزاعه المفروض
عدم إجماله، فيجب إحراز الفراغ عنه، فهو ملحق بالشك في المحصل حكما،
وإن اختلفا موضوعا، بلزوم كون مورد التكليف في الشك في المحصل هو
المسبب المترتب على فعل المكلف، كالتذكية، وفي ما نحن فيه هو نفس فعل
المكلف المردد بين الأقل والأكثر.
381

وأما الصورة الثانية، فالظاهر جريان البراءة فيها، لان تحقق العنوان وسعة
انطباقه مأخوذ في موضوع التكليف، لا في المكلف به، ولذا لا يجب السعي
لتحقيق العنوان لو كان ممكنا، فلا يصلح الجعل الشرعي لفعلية التكليف إلا
بضميمة انطباق العنوان، فالشك في مقدار المعنون مستلزم لاجمال التكليف
الفعلي وتردده بين الأقل والأكثر، كسائر موارد الدوران بينهما، التي عرفت أنه لا
مجال فيها لتنجز التكليف بحده الواقعي، بل لا يتنجز منه الا المتيقن، وإن كان
ارتباطيا.
فلا فرق بين هذه الصورة وما لو كان العموم استغراقيا إلا الارتباطية التي
عرفت أنها لا تكون فارقا في جريان البراءة.
بخلاف الصورة الأولى، لان التكليف فيها بنفسه يقتضي تحصيل العنوان،
فهو صالح لتنجيزه بحده الواقعي بعد فرض عدم الاجمال فيه وصلوحه للبيان،
نظير: ما لو علم بمقدار المكلف به، وشك في مقدار المأتي به، الذي تقدم أنه لا
إشكال في لزوم الاحتياط فيه.
ولا يفرق في ما ذكرنا بين الشبهة الوجوبية والتحريمية، فلو فرض ورود
النهي عن الطبيعة بنحو يقتضي ترك مجموع الافراد، ولو ارتكب بعضها فلا
إطاعة له أصلا جرت البراءة في فردية شئ لها، للشك في فعلية التكليف
وسعته بالإضافة إليه، خلافا للمحقق الخراساني قدس سره حيث ذكر في بعض تنبيهات
البراءة أن اللازم في ذلك الاحتياط.
هذا، وقد مثل شيخنا الأعظم قدس سره للشبهة الموضوعية في المقام بمثالين:
الأول: ما لو وجب الطهور وهو الفعل الرافع أو المبيح للصلاة، وشك في
جزئية شئ للوضوء أو الغسل.
الثاني: ما لو وجب صوم شهر هلالي - وهو ما بين الهلالين - فشك في أنه
ثلاثون أو ناقص.
382

ويظهر من غير واحد أن الأول راجع إلى الشك في المحصل.
ويظهر الاشكال فيه مما تقدم من اختصاص الشك في المحصل بما إذا
كان المكلف به هو المسبب الذي هو فعل المكلف بالتسبيب، لا السبب الذي
هو فعله بالمباشرة، كما هو الحال في المثال المذكور.
وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره في الشك في المحصل - بعد
فرض كون المثال منه - من أنه بالنسبة إلى السبب تكون الشبهة حكمية لا
موضوعية.
فقد يدفع: بأن منشأ إلحاق المثال بالشبهة الموضوعية هو كون الاشتباه
في المصداق، وإن كان تشخيص المصداق وإحرازه بالرجوع إلى الشارع.
على أن كلامه يعم ما تقدم منا التمثيل به، وهو الشك في المقدار الذي
يغلي الماء من الحطب - وإن لم يمثل به شيخنا الأعظم قدس سره - مع وضوح عدم
الرجوع في تشخيصه له لشارع أصلا.
وأشكل من ذلك ما قد يظهر من بعض الأعاظم قدس سره من كون المثال الثاني
- أيضا - من الشك في المحصل، حيث ذكر أن شيخنا الأعظم قدس سره أرجع الشبهة
الموضوعية في الأقل والأكثر إلى الشك في المحصل، كما يظهر من تمثيله
بالطهور، وأن المناسب للمقام فصلهما والكلام في كل منهما على حدة، وكأنه
غفل عن ذلك، أو تخيل عدم إمكان وقوع الشك في نفس متعلق التكليف بين
الأقل والأكثر لأجل الشبهة الموضوعية.
لوضوح كون المثال المذكور أجنبيا عن الشك في المحصل جدا.
نعم، يشكل المثال المذكور: بأنه - بعد حمله على كون الوجوب ارتباطيا
لا انحلاليا - إن أريد بوجوب صوم ما بين الهلالين وجوب صوم شهر كلي يتخير
المكلف في تطبيقه على ما يشاء من الشهور، فلزوم الاحتياط فيه وإن كان متينا،
لانشغال الذمة بالعنوان المذكور بما له من المفهوم الظاهر، فيجب إحراز الفراغ
383

عنه بتحقيق ما يقطع بانطباقه عليه.
إلا أن هذا ليس من الدوران في المكلف به بين الأقل والأكثر، لفرض
صلوح المكلف به للانطباق على كل منهما، فهو نظير: ما لو وجب إشباع الفقير
واختلف الفقراء في مقدار ما يشبعهم، وجهل حال فقير خاص.
وإن أريد به وجوب شهر معين مردد بين المقدارين، كشهر رمضان
المعين، فهو وإن كان مرددا بين الأقل والأكثر بنفسه، إلا أن الظاهر جريان البراءة
فيه، لرجوعه إلى وجوب صوم كل يوم واقع بين الهلالين، بنحو يكون وقوع
اليوم بين الهلالين شرطا في وجوب صومه، فيرجع إلى الشك في عنوان
التكليف، نظير ما تقدم في الصورة الثانية.
إن قلت: ما الفرق بين الوجهين بعد فرض أخذ حد واحد فيهما؟
قلت: لما كان الحد مبينا بمفهومه مجملا بمصداقه، فإن ورد التكليف
على الكلي القائم بالمفهوم كان صالحا لتنجيز المفهوم، فيجب إحراز الفراغ عنه
بالفرد المتيقن انطباقه عليه.
وإن ورد على الشخصي المعين لم يتنجز المفهوم لعدم ورود التكليف
عليه، ولا المصداق بحده الواقعي، لفرض الاجمال فيه وعدم صلوح المفهوم
لبيانه، بل يتعين تنجيز خصوص المتيقن دخوله في الحد من المصداق.
وبعبارة أخرى: انطباق العنوان في الأول شرط في صلوح الفرد للامتثال
مع فعلية التكليف، واللازم مع الشك في الامتثال الاحتياط، وفي الثاني شرط
لفعلية التكليف الضمني والمرجع مع الشك فيه البراءة.
ومن هنا يتعين الفرق بين مثل وجوب إكرام علماء بلد بنحو يختار
المكلف أي بلد شاء في مقام الامتثال، ووجوب إكرام علماء بلد خاص، فيجب
الاحتياط بإحراز الاستيعاب في الأول، دون الثاني، بل يقتصر فيه على المتيقن
الفردية.
384

ثم إنه قد جعل بعض الأعاظم قدس سره من أمثلة الشبهة الموضوعية التي تجري
فيها البراءة ما إذا تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم وغيره.
بدعوى: أنه بناء على ما هو الظاهر من مانعية غير المأكول من الصلاة،
فالمانعية تختلف سعة وضيقا على حسب ما لغير المأكول من الافراد، ويكون
كل فرد منه مانعا برأسه، لان الأصل في باب النواهي النفسية والغيرية هي
الانحلالية، فالنهي عن الصلاة في ما لا يؤكل ينحل إلى نواهي متعددة بعدد ما
لغير المأكول من الافراد خارجا، ويكون عدم كل فرد قيدا للصلاة، فإذا شك في
فردية اللباس الخاص له فقد شك في مانعيته وأخذ عدمه قيدا للصلاة، فيؤول
الامر إلى الدوران بين الأقل والأكثر من جهة الشبهة الموضوعية، الذي تقدم منه
جريان البراءة الشرعية فيه دون العقلية. ووافقه على ذلك في الجملة سيدنا
الأعظم قدس سره في مبحث اللباس المشكوك.
وفيه: أن مانعية غير المأكول ليست مجعولة شرعا، بل هي منتزعة من
التكليف بالصلاة المقيدة بعدم استصحابه، فلابد من إحراز الصلاة المذكورة،
ولو بالأصل، ودليل البراءة لا ينهض بإحرازها. وليس الشك في سعة التكليف،
لعدم الاجمال في حدوده.
وما ذكر من الشك في سعة المانعية لا يرجع إلى معنى محصل.
إذ لو أريد بذلك نفس المانعية، فهي غير مجعولة، لتكون موردا للأصل.
وإن أريد بها النهي عن الصلاة في غير المأكول، بدعوى كونه انحلاليا
مشكوك الشمول للفرد المشكوك، فالنهي المذكور ليس مولويا، لا نفسيا ولا
غيريا، بل هو للارشاد إلى تقييد الصلاة المأمور بها بعدم استصحاب غير
المأكول.
وأما النهي الغيري فهو النهي عن استصحاب ما لا يؤكل لحمه تجنبا
لمقارنة الصلاة له، نظير الامر بالطهارة مقدمة لوقوع الصلاة مقارنة لها، وعدم
385

العلم بالنهي المذكور بالإضافة إلى الفرد المشكوك، لعدم إحراز موضوعه،
يكون موردا لأدلة البراءة، لعدم كونه بنفسه موردا للعمل والتنجيز والتعذير، بل
ليس موضوعها إلا التكليف النفسي، وهو الامر بالصلاة المقيدة، والمفروض
تنجزه ولزوم إحراز الفراغ عنه، ولذا لا تجري البراءة مع احتمال حصول الشرط
- كالطهارة - الرافع لموضوع الامر الغيري به، وإن استلزم الشك في فعلية الامر
الغيري المذكور.
وإن أريد بها تقييد الصلاة بعدم استصحاب غير المأكول الذي منه تنتزع
المانعية، فلا إجمال في التقييد المذكور بعد فرض عدم إجمال غير المأكول.
ودعوى: أن التقييد المذكور انحلالي ويشك في شموله للمشكوك.
مدفوعة: بأن الشك المذكور لا يكفي في جريان الأصل، لان القيد بنفسه
ليس موردا للتكليف الحقيقي الضمني أو الاستقلالي، لفرض خروجه عن
المكلف به، وإنما يجب تبعا لوجوب المقيد، وهو الحصة الخاصة المقارنة له.
فإجمال القيد وتردده بين الأقل والأكثر إن رجع إلى إجمال الخصوصية
المعتبرة في المكلف به، فحيث لا منجز للخصوصية المشكوكة لم يتنجز
المشكوك من القيد بتبعها، كما لو فرض إجمال الاستقبال المعتبر في الصلاة
وتردده بين استقبال الجهة العرفية واستقبال الكعبة الشريفة.
أما إذا لم يوجب إجمال الخصوصية، فحيث تكون الخصوصية في
الواجب منجزة في نفسها، لفرض بيان التكليف بها، فلا نجد من إحراز الفراغ عنها
ولو بالمحافظة على مشكوك القيدية، كما في المقام، لوضوح أن الصلاة غير
مقيدة بالافراد بخصوصياتها المفهومية، ليكون إجمال الفرد مستلزما لاجمالها،
بل هي مقيدة بالافراد بلحاظ الجهة العنوانية المشتركة بينها، على ما هي عليه من
الشيوع وعدم الحصر، وحيث كانت الجهة العنوانية المذكورة مبينة في نفسها
كانت صالحة لبيان الحصة المطلوبة من الصلاة وتنجيزها، فيحب إحراز الفراغ
386

عنها بتحصيل ما يشك في فرديته للقيد من جهة الشبهة الموضوعية، نظير ما
تقدم في النهي الغيري.
وهذا بخلاف ما إذا كانت الشبهة الموضوعية في نفس المكلف به، كما لو
شك في كون المايع خمرا، فإن الشك المذكور مساوق للشك في كون شربه
شربا للخمر المحرم، فيشك في سعة التكليف الضمني أو الاستقلالي به، أو
شك في وجود الساتر على بدن الأجنبية، فيشك في كون النظر إليها من النظر
المحرم، وبيان عنوان التكليف الكلي في مثل ذلك لا يرفع الاجمال في مصداقه
الذي هو التكليف الفعلي الذي يترتب عليه العمل، فيجري فيه أصل البراءة.
ولا يفرق في ما ذكرنا بين رجوع التقييد بعدم استصحاب ما لا يؤكل لحمه
إلى التقييد بالعدم المطلق المقابل لصرف الوجود، بنحو لو اضطر إلى نقض
العدم في بعض الافراد لم يجب حفظه في غيرها، ورجوعه إلى التقييد بالعدم
الساري، بنحو يجب المحافظة على كل مرتبة منه عند تعذر غيرها.
لعدم رجوع الثاني إلى التقييد بالخصوصيات الفردية بمفاهيمها المتباينة،
ليلزم إجمال المكلف به تبعا لاجمال الافراد، بل ليس التقييد إلا بالعنوان الجامع
الذي لا إجمال فيه، غايته أن القيد هو تمام المراتب المقدورة، والتقييد بكل
مرتبة منوط بتعذر ما فوقها على نحو الترتيب بين التقييدين، فمع الشك في
فردية بعض الخصوصيات المقدورة لا يحرز امتثال المأمور به - وهو الحصة
المقارنة للمرتبة المقدورة - إلا بالمحافظة عليها.
هذا، حاصل ما تيسر لنا في توجيه عدم الرجوع للبراءة في المقام ونحوه،
خلافا لما ذكره العلمان قدس سرهما، ولا مجال لتعقيب كلماتهما، لظهور حالها بما
ذكرناه. فتأمل جيدا.
ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
387

التنبيه الثالث: في الشك في القاطعية
ذكر شيخنا الأعظم قدس سره في الفرق بين المانع والقاطع أن المانع هو الذي
يكون عدمه معتبرا في المركب، فيكون وجوده بنفسه مخلا به، كالاخلال بسائر
ما يعتبر فيه من الاجزاء والشروط، والقاطع هو الذي لا يكون مخلا بنفسه، بل
بلحاظ قطعه للهيئة الاتصالية والارتباطية في نظر الشارع بين الاجزاء، بحيث
يسقط به الاجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للاجزاء اللاحقة بعد سبق قابليتها
لذلك.
هذا، ولا يخفى أن مجرد سقوط الاجزاء السابقة عن قابلية الانضمام
للاجزاء اللاحقة بسبب حدوث بعض الأمور لا يكشف عن اعتبار الهيئة
المذكورة زائدا على الاجزاء والشروط، بحيث يكون الامر الحادث قاطعا لا
مانعا، بل يجري ذلك في حدوث المانع وغيره من موارد الاخلال بما يعتبر في
المركب من الاجزاء والشروط، فإنه مقتضى الارتباطية المفروضة، حيث يكون
كل جزء بنفسه صالحا للانضمام لغيره ليحصل منها المركب ويتحقق الامتثال
به، إلا أنه لا يعتبر في فعلية ذلك حصول تمام ما يعتبر في المركب من الأمور
الوجودية والعدمية.
نعم، للشارع أن يعتبر الهيئة الاتصالية بين الاجزاء بجعل زائد عليها،
بحيث يكون المكلف متلبسا شرعا بالعمل وإن لم ينشغل بشئ من أجزائه،
لتخلل سكون أو نحوه، نظير اعتبار الاعتكاف مع خروج المعتكف عن المسجد
لقضاء حاجة معتادة، ونظير اعتبار الائتمام في الصلاة مع السكون وعدم
الانشغال بشئ من أجزائها.
وحينئذ يمكن للشارع جعل شئ قاطعا للهيئة المذكورة، فيخرج به
المكلف عن كونه منشغلا بالمركب بنظر الشارع، وإن لم يكن للقاطع بنفسه
دخل في نفس المركب، فالقاطع بهذا المعنى مباين للمانع.
388

وحيث لا مصحح للاعتبار الشرعي لأمر إلا فرض الآثار العملية الشرعية
له في الجملة فلابد من كون الهيئة المذكورة موضوعا لبعض الاحكام، بحيث لو
فرض انقطاعها لم يترتب الحكم المذكور، نظير حرمة شم الطيب على
المعتكف حال خروجه عن المسجد لقضاء حاجة معتادة.
ولا يلزم من عروض القاطع بهذا المعنى سقوط ما وقع من الاجزاء عن
قابلية الانضمام لبقيتها، بل يمكن بقاؤها على قابلية الانضمام، بأن يكتفي
الشارع برجوع المكلف للانشغال بالمركب وإتمامه بعد الخروج عنه وانقطاعه،
بل هو مقتضى الأصل، الذي لابد في الخروج عنه من دليل يدل على أخذ الهيئة
الاتصالية المذكورة وعدم انقطاعها قيدا في المركب، ليكون القاطع مخلا
بالمركب تبعا لا خلا له بها.
وقد تحصل: أن القاطع بمعنى ما يسقط الاجزاء السابقة عن قابلية
الانضمام للاحقة ليس مقابلا للمانع، بل أعم منه، ولا يتوقف على فرض الهيئة
الاتصالية، بل هو من لوازم الارتباطية المفروضة، وبمعنى ما يقطع الهيئة
الاتصالية موقوف على اعتبار الهيئة المذكورة شرعا، ولا يستلزم سقوط الاجزاء
السابقة عن قابلية الانضمام للاحقة، إلا أن يكون المركب المكلف به مقيدا
بوحدة الهيئة المذكورة، وفي مثل ذلك يكون القاطع مخلا بالعمل كالمانع، وإن
كان مباينا له.
ثم إن بعض الأعاظم قدس سره فرق بين المانع والقاطع: بأن المانع ما يكون
حصوله حين الانشغال بالاجزاء مخلا بالمركب، والقاطع هو الذي يخل مطلقا
وإن وقع في حال عدم الاشتغال بالاجزاء، لكشفه عن الهيئة الاتصالية زائدا على
الاجزاء الخارجية.
وما ذكره غير ظاهر، إذ لا وجه لتخصيص المانع بذلك، بل هو تابع لعموم
دليله وخصوصه، كما قد تختص قاطعية القاطع بخصوص حال تبعا لاعتبار من
389

بيده الاعتبار.
هذا، وقد ظهر مما ذكرنا: أن بين القاطع بالمعنى الأول والقاطع بالمعنى
الثاني عموما من وجه، حيث كان المعيار في الأول بطلان العمل وإن لم تفرض
له هيئة إتصالية اعتبارية، والمعيار في الثاني قطع الهيئة الاتصالية الاعتبارية وإن
لم يبطل به العمل، لامكان إتمامه بعد انقطاعه.
كما أن الانقطاع في كليهما ليس حقيقيا، لتوقفه على فعلية الاتصال
الحقيقي، ولم يؤخذ في الأول الاتصال أصلا، والمأخوذ في الثاني هو الاتصال
الاعتباري لا الحقيقي.
بقي في المقام أمران:
الأول: الظاهر أنه لا مرجح لاحد المعنيين إثباتا، فكما يمكن إطلاق
القاطع بلحاظ سقوط الاجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للاحقة لتكوين
المركب الارتباطي المحقق للامتثال، كذلك يمكن إطلاقه بلحاظ رفع الهيئة
الاتصالية في فرض اعتبارها، لان كلا من الارتباطية والهيئة الاتصالية منشأ
لفرض الوحدة في العمل المصححة لفرض انقطاعه وعدم إتمامه.
وما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أن إطلاق القاطع يكشف عن أن لاجزاء
المركب هيئة إتصالية في نظر الشارع.
غير ظاهر، إن أراد به الهيئة الاعتبارية. بل إن ورد ذلك في مقام بيان عدم
الاجتزاء بالعمل فالمتيقن منه المعنى الأول، ولا طريق معه لاثبات اعتبار الهيئة
زائدا على المركب الارتباطي.
ومن ثم أطلق القاطع في النصوص على ما يعم المانع، وفقد الشرط
ونحوهما مما يخل بالمركب الارتباطي، ولو مع عدم اعتبار الهيئة الاتصالية فيه،
حيث أطلق في الصلاة على القهقهة، والكلام، ونواقض الوضوء، وخروج الدم
الرافع للطهارة الخبثية، والالتفات المنافي للاستقبال.
390

بل أطلق على بعض المكروهات - كعبث الرجل بلحيته - بلحاظ منافاته
لكمالها. فراجع النصوص المذكورة في أبواب قواطع الصلاة من الوسائل، فإن
التأمل فيها شاهد بأن المراد بالقاطع فيها ما ينافي العمل ويفسده، وهو الذي
فهمه الأصحاب (رضوان الله عليهم) منها.
الثاني: الشك في قاطعية شئ بالمعنى الأول إن رجع إلى الشك في
اعتبار شئ في المكلف به كان المرجع ما تقدم في أصل المسألة.
ولا مجال معه لاستصحاب عدم قاطعيته، لعدم جعل القاطعية بالمعنى
المذكور، بل هي منتزعة من التكليف بالمقيد، فلابد من الرجوع للأصل فيه.
ومثله استصحاب صحة العمل، لعدم كون الصحة مجعولة أيضا، ولا
موضوعا للأثر الشرعي، فإن موضوع التكليف نفس الفعل، والمفروض تردده
بين المطلق والمقيد، وليست الصحة إلا منتزعة من مطابقة المأتي به للمأمور به،
وهي - مع عدم الأثر لها إلا الاجزاء العقلي - بالإضافة إلى المركب التام لا تحصل
إلا بعد تمامه، وبالإضافة إلى الاجزاء السابقة على حدوث مشكوك القاطعية
مراعاة بتمامية المركب، لفرض الارتباطية بينها وبين بقية الاجزاء، فلا يعلم
حصولها قبله كي تستصحب.
نعم، لو كان منشأ الشك في قاطعية شئ للمركب احتمال رافعيته لشرطه
المتيقن الحصول أمكن استصحاب الشرط نفسه، كما لو شك في قاطعية المذي
للصلاة لاحتمال نقضه لشرطها وهو الطهارة.
وأما الشك في قاطعية شئ للمركب بالمعنى الثاني المبني على فرض
اعتبار الشارع لهيئته الاتصالية فيمكن معه استصحاب الهيئة المذكورة بعد كونها
أمرا مجعولا، كالطهارة، فيترتب أثرها، سواء كان هو صحة العمل والاجتزاء به،
كما لو فرض تقييد المكلف به ببقاء الهيئة المذكورة، أم أمرا آخر.
نعم، الكلام في استصحابها هو الكلام في استصحاب الأمور التدريجية
391

التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود، كالكلام والمشي ونحوهما، الذي يأتي في
مباحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
وقد أطال غير واحد في المقام بما لا مجال لتعقيبه، لاتضاح الحال فيه
بعد ما ذكرنا. فراجع وتأمل جيدا.
التنبيه الرابع: في الشك في الركنية
إذا علم بأخذ شئ في المركب الارتباطي وشك في ركنيته فيه، فهل
الأصل ركنيته أو لا؟
وينبغي ذكر مقدمة يتضح بها محل الكلام في المقام.
فاعلم: أن عنوان الركن حيث لم يذكر في الأدلة، وإنما ذكر في كلمات
الفقهاء فلا ينبغي الاهتمام بتحقيق مفهومه، وأنه هل يراد به ما يبطل العمل
بنقصه سهوا فقط، أو مطلقا ولو عمدا، أو ما يعم بطلان العمل بزيادته سهوا أو
عمدا، بل ينبغي الكلام في الجهات المذكورة بنفسها، للاهتمام بها في مقام
العمل، كما نبه له في الجملة شيخنا الأعظم قدس سره.
نعم، ينبغي التنبيه لامرين:
الأول: أن الكلام في ذلك لا يختص بالجزء، وإن خصوه بالذكر في
تحرير محل الكلام، بل يعم الشرط الوجودي والعدمي، لاختلاف الشروط في
بعض هذه الجهات، حيث لا يكون الاخلال ببعضها سهوا مبطلا للعمل،
كالطمأنينة.
بل يمكن فرض الزيادة فيها، وإن كان الظاهر عدم الاشكال عندهم في
عدم بطلان المركب بها في ما هو محل الكلام، وهو ما إذا كان المأخوذ الماهية
بنفسها لا بشرط من حيثية الزيادة، إلا أن هذا لا يقتضي تخصيص الكلام بالجزء.
وشيخنا الأعظم قدس سره وإن حرر النزاع في الجزء، إلا أن ظاهر ما ذكره في
392

مسألتي الزيادة العمدية والسهوية المفروغية عن عموم جهة الكلام للشرط.
الثاني: جعل شيخنا الأعظم قدس سره، الكلام في جهات ثلاث: النقيصة السهوية،
والزيادة السهوية والعمدية.
وظاهره خروج النقيصة العمدية عن محل الكلام، لما صرح به من أن
عدم بطلان المركب بنقص الجزء عمدا مناف لفرض جزئيته، وتبعه في ذلك
بعض الأعاظم قدس سره.
لكن لا يخفى أن المعيار في جزئية الجزء وشرطية الشرط على أخذ هما
في المكلف به، لدخلهما في الغرض الداعي للتكليف، ولا يلزم من ذلك إلا
عدم تحقق الامتثال ولا تمام الغرض بدونهما، وهو لا يستلزم بطلان العمل، إذ لا
يراد ببطلانه في محل الكلام إلا عدم إجزائه بنحو تسقط معه الإعادة والقضاء،
ويكفي في الاجزاء بالمعنى المذكور تعذر تدارك الغرض، التام أو قصوره عن
جعل التكليف لحدوث المزاحم، بسبب فعل الناقص وإن لم يف بشئ من
الغرض، فضلا عما إذا كان وافيا ببعض مراتبه، ولا يختص الاجزاء بحصول
الامتثال وتحقق تمام الغرض، ليمتنع مع فرض نقص الجزء عمدا.
نعم، لا ريب في كون ذلك خلاف الأصل، فإن التكليف يدعو إلى متعلقه
بتمام ما يعتبر فيه من الاجزاء والشرائط، وسقوط التكليف بغير الامتثال محتاج
إلى دليل خاص.
ومن ثم لا ينبغي إطالة الكلام في النقيصة العمدية.
كما لا ينبغي إطالة الكلام في الزيادة السهوية، إذ لا خصوصية لها في
البطلان، بل الزيادة في نفسها إن لم تخل بالمركب ولو مع العمد فهي لا تخل به
مع السهو بالأولوية، كما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره وإن كانت مخلة به، لفرض أخذ
عدمها فيه، كان الاتيان بها سهوا راجعا إلى الاخلال بالشرط سهوا، فيلحقه حكم
النقيصة.
393

فينبغي قصر الكلام على مسألتين..
المسألة الأولى: في الاخلال ببعض ما يعتبر في المركب سهوا.
ولا إشكال في إمكان صحة العمل معها بمعنى إجزائه عن الإعادة
والقضاء، كما وقع في كثير من أجزاء الصلاة وشروطها.
ولتنقيح مقتضى الأصل في ذلك يقع الكلام في أمور..
الأول: أن دخل الجزء في المركب لما كان متفرعا على دخله في ملاك
التكليف به فلدخله بالوجه المذكور صورتان:
الأولى: أن لا يكون للنسيان دخل في الملاك، بل يكون اقتضاء الملاك
للتكليف بالتام مشتركا بين الملتفت والناسي.
وهي على وجهين:
الأول: أن لا يكون للاتيان بالناقص من الناسي أثر في الملاك بوجه، بل
يبقى على ما هو عليه من فعلية التأثير في التكليف.
الثاني: أن يكون الاتيان بالناقص من الناسي مانعا من بقاء التكليف بالعام
وموجبا لسقوطه وإن لم يستوف ملاكه، إما لكونه مانعا من استيفاء الملاك، أو
لكونه موجبا لحدوث جهة مزاحمة للملاك مانعة من تأثيره في التكليف، وإن
أمكن استيفاؤه بالاتيان بالتام، نظير ما تقدم في العامد.
الثانية: أن يكون الملاك مختصا بحال الالتفات لبا، بحيث يختلف
الملاك في حق الملتفت عنه في حق الناسي، إما لتبدل الملاك في حقه، أو لعدم
توقفه على الجزء المنسي، بل يحصل تمام الملاك منه بالفاقد له.
والفرق بينها وبين الوجه الثاني من الصورة الأولى أن قصور الملاك عن
تأثير التكليف بالتام في هذه الصورة يكون بمجرد عروض النسيان، وفي الوجه
المذكور لا يكون إلا بعد فعل الناسي للناقص.
وإن كانا يشتركان في إجزاء الناقص من الناسي، بخلاف الوجه الأول، فإنه
394

يتعين معه عدم الاجزاء، كما لعله ظاهر.
الثاني: إذا فرض عموم الملاك لحال النسيان تعين عموم التكليف
للناسي لبا، وليس النسيان كالاضطرار مانعا من فعلية التكليف مع فرض عموم
ملاكه، بل هو كالجهل مانع من منجزيته، لظهور كونه من شؤون مقام الاثبات
الدخيل في التنجيز، لا من الأمور الثبوتية الدخيلة في فعلية التكليف.
فما تردد في بعض كلماتهم من قبح تكليف الناسي بالامر المنسي إنما
يتم إن رجع إلى قبح عقابه مع عدم تقصيره، كما قد يعبر بذلك مع الجهل أيضا،
وهو المناسب للاجماع المدعى على التخطئة، واشتراك الاحكام بين العالم
والجاهل والملتفت والغافل.
وما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره من عدم توجه التكليف بالتام في حق
الناسي، غير ظاهر.
وأشكل منه ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من تعليله بعدم القدرة عليه في هذا
الحال.
إذ لا ينبغي التأمل في عدم دخل الالتفات في القدرة، لعدم السنخية بينهما
بوجه.
وأما دعوى: رافعية النسيان شرعا، بمقتضى حديث رفع النسيان،
لحكومته على الاطلاقات الأولية، وظهوره في الرفع الواقعي، لأنه الأصل.
فهي مدفوعة: بأن ذلك وإن كان ممكنا، الا أن المناسبات تمنع من حمل
الحديث عليه، إذ بعد ما ذكرنا من كون النسيان من الجهات الاثباتية الدخيلة في
التنجيز والمؤاخذة، كالجهل ارتكازا فظاهر الحديث إرادة ذلك بالإضافة إلى
الحكم المنسي، كما هو الحال في الخطأ أيضا جريا على الارتكاز المذكور، بل
يتعين ذلك بلحاظ ما أشرنا إليه من الاجماع على اشتراك الاحكام بين العالم
والجاهل والملتفت والغافل.
395

نعم، قد يكون الرفع واقعيا بالإضافة إلى الآثار المترتبة على التنجز التي
هي من سنخ الالزام والمؤاخذة، كالكفارات والحدود، كما هو الحال بالإضافة
إلى رفع ما لا يعلم أيضا، بخلاف مثل القضاء والإعادة المترتبين عقلا وشرعا
على مجرد عدم الامتثال، من دون أن يردا مورد الالزام والمؤاخذة، وقد تقدم في
الاستدلال للبراءة بحديث الرفع ما ينفع في المقام.
على أنه لو فرض كونه كالاضطرار مانعا من فعلية التكليف فمقتضى
فرض عموم الملاك للناسي عدم الاجتزاء بالناقص منه، كعدم الاجتزاء بالناقص
من المضطر، بل يجب عليه التدارك بالإعادة بعد ارتفاع نسيانه في الوقت،
لفرض عدم استيفائه الملاك، كما يجب عليه التدارك لو نسي أصل الواجب.
بل ذلك هو مقتضى إطلاق الخطاب، لان ثبوت التكليف في كل جزء من
أجزاء الوقت ليس بعناية البقاء والاستمرار من اللاحق للسابق، نظير الحكم
الاستصحابي، ليكون سقوطه في حال النسيان مانعا من فرض الاستمرار في ما
بعده، بل من حيت تمامية الموضوع فيه، فامتناع ثبوته في بعض الاجزاء من
جهة النسيان لا ينافي ثبوته في ما بعده، لتحقق الموضوع فيه.
وأما لو ارتفع النسيان بعد الوقت فوجوب القضاء مبني على إطلاق دليله،
فإن كان موضوعه عدم الاتيان بالواجب في ظرف تمامية ملاكه كان واجبا مطلقا،
وإن كان موضوعه عدم الاتيان بالواجب في ظرف فعلية وجوبه كان واجبا إن
قلنا بعدم رافعية النسيان للتكليف، وإلا لم يكن واجبا، كما هو الحال في
الاضطرار.
نعم، لو فرض كون المأتي به مانعا من استيفاء الملاك، أو موجبا لحدوث
المزاحم المانع من فعلية تأثره في التكليف - على ما تقدم في الوجه الثاني من
الصورة الأولى - نعين الاجتزاء به، كما سبق.
إلا أنه لا ريب في كون ذلك خلاف الأصل، لان سقوط التكليف بغير
396

الامتثال محتاج إلى دليل، كما أشرنا إليه في المخالفة العمدية.
أما لو فرض تبدل حال الملاك في حق الناسي، بحيث يكون الناقص منه
وافيا بالملاك الثابت في حقه - كما تقدم في الصورة الثانية - تعين الاجزاء، كما
هو الحال في سائر موارد الامتثال الذي يكون الاجزاء فيه عقليا.
وقد ظهر بما ذكرنا أن الاجزاء في الصورة الأولى وإن كان ممكنا إلا أنه
خلاف الأصل، أما في الصورة الثانية فهو المتعين.
الثالث: مقتضى إطلاق الخطاب بالمركب الواجد للجزء ثبوت التكليف
به في حق الناسي واشتراكه فيه مع الملتفت، المستلزم لاشتراكهما في الملاك
المقتضي للتكليف، فيرجع إلى الصورة الأولى التي عرفت أن إجزاء الناقص فيها
من الناسي خلاف الأصل.
وربما يدعى قصور الاطلاق عن شمول حال النسيان لان النسيان من
الجهات الثانوية المتفرعة على التكليف المتأخرة عنه رتبة، وأنه لابد في تعميم
الحكم للنسيان أو قصوره عنه من جعل آخر متأخر رتبة عن الجعل الأول متمم
له. كما التزم بعض الأعاظم قدس سره بنظير ذلك في تعميم الحكم لحال الجهل به
لكن تقدم منا دفع ذلك في مباحث القطع عند الكلام في القطع
الموضوعي، وذكرنا هناك، أنه لا مانع من التمسك بالاطلاق لعموم الحكم.
على أنه لا ريب ظاهرا في أنه لو فرض قصور الاطلاق اللفظي عن إثبات
عموم الحكم لحال النسيان كفى الاطلاق المقامي في ذلك، لبناء العرف في
تكاليفهم وخطاباتهم على العموم، واحتياج التقييد بحال الالتفات فيها إلى عناية
زائدة.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره في المقام المذكور من التمسك للعموم
بالاجماع المدعى على اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل.
فهو لا يتم بناء على ما يظهر منه من التمسك بالاجماع على العموم مع
397

دعوى تخصيصه في بعض الموارد، إذ لا معنى لتخصيص العموم القطعي، إلا أن
يرجع إلى الاجماع على العموم الظاهري، الذي يكون الدليل على خلافه واردا
عليه الا مخصصا له.
وهو بعيد جدا عن حال نقلة الاجماع.
نعم، لو ثبت عموم الاجماع - كما هو غير بعيد - أو خصوصه في بعض
الموارد كان التمسك به في محله.
وكيف كان، فلا إشكال في البناء على عموم التكليف بالمركب التام
للنسيان مع إطلاق دليله اللفظي أو المقامي.
وقد ذكرنا أن إجزاء الناقص من الناسي حينئذ مخالف للأصل ومحتاج
إلى دليل مخرج عنه.
وأما إذا لم يكن لدليل الحكم إطلاق قاض بشموله لحال النسيان، كما لو
قام إجماع على التكليف بالمركب التام، وفرض الشك في عمومه لحال
النسيان، فقد وقع الكلام في إمكان الاختلاف بين الملتفت والناسي في
المكلف به، بحيث يختص التكليف بالتام بالملتفت، ويكلف الناسي بالناقص
الذي يأتي به.
ولا يخفى أن الكلام في ذلك فرع إمكان اختلافهما في الملاك، كما تقدم
فرضه في الصورة الثانية، ولا ينبغي التأمل فيه، وقد تقدم في مباحث القطع عند
الكلام في القطع الموضوعي توجيه نظيره في الجهل، حيث ذكرنا إمكان رافعية
الجهل لفعلية الحكم. فراجع.
إذا عرفت هذا، فقد منع شيخنا الأعظم قدس سره من اختلاف التكليف بالنحو
المذكور، بدعوى: أن الناسي غير قابل لتوجيه الخطاب إليه بالنسبة إلى المنسي
إيجابا أو إسقاطا.
وكأنه راجع إلى أن الخطاب بالتكليف إنما يحسن مع إمكان الاندفاع عنه،
398

ليكون داعيا للمكلف نحو العمل ومنشأ للسبيل عليه، وذلك إنما يتم مع إمكان
التفات المكلف إلى تحقق موضوع التكليف في حقه، وحيث يمتنع التفات
الناسي إلى نسيانه إلا بعد ارتفاعه لم يصلح التكليف للداعوية نحو العمل في
حقه، فيكون الخطاب به لغوا.
وقد حاول غير واحد توجيه تكليف الناسي بما عدا الجزء المنسي،
بحيث يكون الناقص منه امتثالا، بأحد وجوه..
الأول: ما حكاه بعض الأعاظم قدس سره عن بعض تقريرات درس شيخنا
الأعظم قدس سره من أن امتثال التكليف لا يتوقف على قصده تفصيلا، بل يكفي قصده
إجمالا ولو مع الخطأ في التطبيق، ويتسنى للناسي قصد الامر الفعلي المتوجه
إليه الذي اخذ فيه النسيان، وإن تخيل أنه الامر المتوجه للملتفت، لغفلته عن
نسيانه.
وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من عدم كفاية ذلك بناء على أن
الدعوة والانبعاث عن الامر من لوازم وجوده العلمي، ومع فرض الغفلة عن
النسيان وعدم الالتفات إلى الامر الذي يخصه ولو إجمالا لا يكون الداعي
والباعث إلا أمر الملتفت، الذي لم يتوجه إليه حقيقة.
ففيه: - مع الغض عن عدم وضوح دخل المبنى المذكور في ذلك - أن
الغفلة عن النسيان إنما تستلزم عدم الالتفات إلى الامر الذي يخصه تفصيلا، ولا
تنافي الالتفات إليه إجمالا بعنوان كونه الامر الفعلي المتوجه إليه، نظير الغفلة عن
خروج الوقت المستلزمة لعدم الالتفات إلى أمر القضاء تفصيلا، وإن أمكن
الالتفات إليه إجمالا بالوجه المذكور.
نعم، قصد الامر الواقعي بالوجه المذكور وإن كان ممكنا إلا أنه ليس
بناؤهم ظاهرا على دوران الصحة مداره، ودعوى تحققه دائما لا تخلو عن
خفاء.
399

على أن الكلام ليس في كيفية تحقق الامتثال بعد الفراغ عن إمكان الامر
بالوجه المذكور ووقوعه، بل في أصل إمكان الامر، لعدم صلوحه للداعوية بعد
فرض امتناع الالتفات إلى موضوعه، ولذا يجري الاشكال في الأوامر التوصلية
التي لا يعتبر في امتثالها القصد، ومن الظاهر أنه لا يكفي في دفعه إمكان الالتفات
بالوجه المذكور - كما ذكر ذلك بعض الأعاظم قدس سره - ضرورة أن توجيه التكليف
للناسي بالناقص لغو بعد فرض وقوعه منه على كل حال، وإن لم يلتفت
للتكليف أصلا.
الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره وارتضاه غير واحد ممن تأخر عنه
من توجيه خطاب واحد مشترك بين الذاكر والناسي بالأركان التي يبطل العمل
بالاخلال بها حتى من الناسي، ثم توجيه خطاب يخص الذاكر لبا ببقية الاجزاء
التي لا يبطل الاخلال بها من الناسي.
وفيه: أن ذلك إنما يتم مع عدم الارتباطية بين الأركان وغيرها في حق
الذاكر، حيث يكون في المقام أمران:
الامر بالأركان المشترك بين الملتفت والناسي، والصالح للداعوية في حق
كل منهما بعد التفاتهما إلى موضوعه.
والامر بالزائد عليها المختص بالذاكر والصالح للداعوية في حقه، لفرض
التفاته إلى موضوعه أيضا. أما مع فرض الارتباطية ووحدة الامر في حق الذاكر
فالمتعين اختصاص الامر بالمطلق بالناسي، فيعود الاشكال.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من عدم دخل الارتباطية بوحدة الخطاب،
بل هي منوطة بوحدة الملاك، فرب ملاك واحد لا يستوفى إلا بخطابين.
بل الذي يظهر من جملة من النصوص ان التكليف بالصلاة إنما كان
بخطابين: خطاب من الله تعالى بما فرضه، وخطاب من النبي صلى الله عليه وآله بما سنه
وفرضه.
400

ففيه: أنه إن أريد من الخطاب مطلق بيان ما هو الدخيل في المكلف به
أمكن تعدده مع وحدة الملاك، كما في الأوامر الارشادية المسوقة لبيان الجزئية
والشرطية، بل أمكن الاستغناء عنه بالاخبار عن حال الاجزاء والشروط مثل
قولهم عليهم السلام: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب).
إلا أن مثل ذلك لا يكون منشأ لانتزاع الامر، ولا دخل له بالداعوية.
وإن أريد من الخطاب الامر المولوي الناشئ عن الإرادة التشريعية
والصالح للداعوية، فلا ينبغي الاشكال في وحدته تبعا لوحدة الملاك.
وما ذكره في بعض الموارد من عدم استيفاء الملاك الواحد بجعل واحد،
بل لابد من جعل آخر متمم للجعل الأول لا يرجع إلى محصل ظاهر، كما ذكرنا
ذلك في مبحثي التعبدي والتوصلي، والقطع الموضوعي.
وظهور بعض النصوص في تعدد الخطاب والجعل من الله سبحانه
والنبي صلى الله عليه وآله لابد أن يحمل على إرادة الجعول والخطابات الاقتضائية مع وحدة
الجعل والخطاب الفعلي المفروض فيه الارتباطية.
إن قلت: لا بأس بانكار الارتباطية بين الأركان وغيرها في حق الذاكر، بل
لا مانع من تعدد التكليف، نظير الواجب، وعدم صحة امتثال أمر الأركان وحده
إنما هو لكونه مفوتا لامتثال الامر الثاني ومعجزا منه، فيكون مبعدا يمتنع التقرب
به، نظير من نذر الصلاة في المسجد، فصلى في غيره.
قلت: لازم ذلك صحة امتثال أمر الأركان من المتردد في وجوب ما زاد
عليها برجاء. عدم وجوبه، إذا غفل عن احتمال التفويت، حيث لا يكون قاصدا
للتفويت المبعد المانع من التقرب.
على أن ذلك مختص بالعباديات، ولا يجري في التوصليات التي تصح
وتجزي وإن وقعت بوجه مبعد.
فلا ينبغي الاشكال في الارتباطية بعد التأمل في ذلك، وهي مستلزمة
401

لاختلاف التكليفين، واختصاص الناسي بالتكليف بالمطلق، الذي هو مورد
الاشكال.
ومنه يظهر اندفاع ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أنه لا اختلاف
بين التكليفين الثابتين في حال الذكر والنسيان بالذات، بل بالحدود فقط،
فالتكليف المتوجه إلى المكلف حال نسيانه هو بعينه المتوجه إليه حال ذكره،
غير أنه في حال النسيان بحد لا يشمل الجزء المنسى، فلا قصور في داعوية
ذات التكليف المحفوظة بين الحدين التي عليها مدار الدعوة والإطاعة عقلا،
لعدم الغفلة بالإضافة إليها.
وجه الاندفاع: أن اختلاف حد الواجب موجب لتعدده، ومع تعدده يتعدد
التكليف الذي هو موضوع الداعوية، لتقوم التكليف بالمكلف به كما يتقوم
بالمكلف والمكلف، لأنه نحو نسبة قائمة بها، وتعدد موضوع النسبة يوجب
تعددها، ولازم ذلك اختصاص الناسي بالتكليف بما عدا المنسي، فيعود
الاشكال.
الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره أيضا من إمكان تخصيص الناسي
بتكليف من دون أخذ عنوانه في الخطاب، بل بأخذ عنوان آخر ملازم للنسيان
صالح لان يلتفت إليه الناسي حال نسيانه، كي يندفع عن التكليف المنوط به، ولا
يلزم لغوية الخطاب المذكور.
وأورد عليه بعض الأعاظم قدس سره بوجهين:
أحدهما: أن ذلك مجرد فرض لا واقع له، بداهة أنه ليس في البين عنوان
يلازم نسيان الجزء دائما، بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر، خصوصا مع
تبادل النسيان في الاجزاء.
ويظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره أن العنوان المذكور هو عنوان
المتذكر لمقدار من الاجزاء الجامع بين البعض والتمام.
402

وهو كما ترى! ضرورة أن العنوان المذكور لا يستلزم نسيان الجزء ولا
يقتضي سقوط ما زاد على الأركان، بل هو أعم من ذلك ضرورة أن المتذكر
للبعض يشمل المتذكر للكل، الذي يجب عليه التام لا غير.
ثانيهما: أن العنوان المذكور حيث لم يكن هو الدخيل في التكليف
حقيقة، بل كان أخذه بلحاظ كونه معرفا وملازما لما هو الدخيل - وهو عنوان
الناسي - لم ينفع إمكان الالتفات إليه، بل المعتبر هو إمكان الالتفات لما هو
العنوان الحقيقي للموضوع.
لكنه يشكل.. أولا: بعدم الملزم بكون العنوان المذكور معرفا، بل يمكن
فرض كونه هو الموضوع حقيقة، إذ الكلام في تخصيص الناسي بتكليف خاص
ولو من جهة أمر يستلزم النسيان.
وثانيا: بأن اعتبار إمكان الالتفات للعنوان إنما هو من جهة مقدميته
للالتفات للتكليف، ليمكن داعويته، ويكفي في ذلك الالتفات للعنوان المعرف
الذي لا دخل له حقيقة. ولعله لذا أمر قدس سره بالتأمل.
الرابع: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من إمكان وحدة التكليف في
حالي النسيان والذكر، بأن يكون المكلف به هو الطبيعة الجامعة بين التام في حق
الذاكر والناقص في حق الناسي، التي هي الجامع الصحيحي، فيكون الفرق
بينهما في المصاديق، التي هي ليست موضوع الامر، ولا مورد الداعوية، بل ليس
الداعي إلا التكليف المشترك المذكور، الذي يكون داعيا للناسي، لالتفاته إليه،
وإن غفل عن خصوصية المصداق المأتي به منه.
وفيه: أن ذلك - مع اختصاصه بما يكون من المركبات معنونا بعنوان
شرعي خاص، كالصلاة والحج - مبني على وجود الجامع الصحيحي وكونه
موردا للامر، والجامع المنتزع من ترتب الأثر الواحد الذي اختاره هو قدس سره - مع
عدم تماميته في نفسه - لو كان موضوعا للامر لزم الرجوع مع الشك في اعتبار
403

شئ في المأمور به إلى الاشتغال، وهو خلاف مبناهم هنا، على ما ذكر في محله.
وتحصيل جامع غيره بين تمام أفراد الصحيح لا يخلو عن إشكال، بل
نعم، ذكرنا في محله إمكان تصوره في بعض مراتب الصحيح، وهو
خصوص ما يعتبر في تمام الافراد الصحيحة، كالتكبير، والقراءة، والركوع،
والسجود، والتشهد، والتسليم في الصلاة.
وهو مستلزم لكون الفاقد لشئ منها لو فرض إجزاؤه فهو فرد ناقص
مخالف بالحد للجامع المذكور، فتكليف الناسي به مباين لتكليف الذاكر بالتام.
كما أن ما زاد عليها من الخصوصيات قيود زائدة في الجامع المذكور،
فتخصيصها بالذاكر مستلزم لاختلاف الواجب في حق الذاكر والناسي بالحدود،
الموجب لتعدد الامر، ولازم ذلك اختصاص الناسي بالتكليف بالجامع المذكور
لا بشرط الزيادة، فيعود الاشكال.
هذا، تمام ما تيسر لي العثور عليه في كلماتهم في توجيه اختصاص
الناسي بالتكليف، وقد ظهر عدم تمامية شئ مما ذكروه.
فالعمدة في المقام أن ما هو الثمرة لاختصاصه بالتكليف، وهو لزوم
الاجتزاء بالناقص في حقه لا يتوقف على فعلية تكليفه بالناقص، بل يكفي فيه
قصور ملاك التام في حقه واختصاص الملاك في حقه بالناقص، وإن امتنع
تكليفه فعلا به، لوضوح أن تحصيل الملاك كاف في الاجزاء وإن لم يكن
التكليف فعليا، لامتناع الخطاب به عقلا، كما في موارد المزاحمة.
ومن هنا لو فرض عدم الاطلاق للخطاب بالتام الكاشف عن عموم ملاكه
لحال النسيان، فالمتيقن ثبوته في حال الذكر، والبناء في حال النسيان على عدم
الملاك له، والاكتفاء بالناقص لو فرض تحقق ملاكه في حقه المستلزم للاجزاء.
هذا، ولكن حيث كان اختلاف الملاك بسبب النسيان منافيا للتخطئة
404

وللاجماع المدعى على اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل
فلا مجال للبناء عليه.
وما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من تخصيص ذلك في بعض الموارد كالجهر
والاخفات والقصر والاتمام.
غير ظاهر، بل ليس الثابت فيها إلا الاجزاء الذي هو أعم من تبدل الملاك،
كما يظهر مما تقدم.
ودعوى: أن الاجماع مختص بما إذا أحرز المقتضي للملاك من إطلاق
الخطاب، في قبال تصويب المعتزلة الراجع إلى رفع اليد عن إطلاق الاحكام
الواقعية بأدلة الطرق، فمرجعه إلى أن النسيان لا يكون رافعا للملاك في فرض
ثبوت المقتضي له، فلا يعم ما لو لم يثبت المقتضى له، لعدم الاطلاق، كما هو
محل الكلام.
مدفوعة: بأن قصور المقتضي للملاك عن حال النسيان ممتنع، لتأخر
النسيان رتبة عن التكليف المنسي، فلا يكون مأخوذا في موضعه وملاكه، فلابد
في إمكان قصور الملاك في حال النسيان من فرض كونه رافعا للملاك في فرض
ثبوت مقتضيه، على ما أشرنا إليه هنا، وأطلنا الكلام في نظيره في مبحث القطع
الموضوعي. فراجع.
ثم إن الظاهر من حال المجمعين عدم الفرق بين الجهل والنسيان للحكم
والموضوع، فكما لا ترتفع الجزئية والشرطية بنسيانهما أو الجهل بهما، كذلك لا
يرتفعان بنسيان الجزء أو الشرط أو الجهل بعدم تحققهما، بل الظاهر أن عدم
ارتفاعه مع الجهل بالموضوع ونسيانه اتفاقي حتى من المصوبة.
وكأن ما ذكره غير واحد ممن تأخر عن شيخنا الأعظم قدس سره من إمكان
اختلاف التكليف بين الذاكر والناسي مبني على كون النسيان من الجهات
الثبوتية الرافعة للتكليف الواقعي، كالاضطرار، لامن الجهات الاثباتية كالجهل،
405

وقد تقدم الكلام في ذلك.
وأما ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره في توجيه اختلاف التكليف بين الذاكر
والناسي من أن مقتضى الجمع بين أدلة الجزئية والشرطية ومثل حديث: (لا تعاد
الصلاة...) (1) مما دل على صحة صلاة الناسي هو عموم التكليف بالأركان
وجزئيتها من المركب لحال النسيان، واختصاص جزئية ما عداها بحال الذكر.
فهو - لو تم - يقتضي الاختلاف بينهما حتى مع إطلاق دليل الجزئية
والشرطية لحال النسيان، مثل ما تضمن أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ولا صلاة
لمن لم يقم صلبه في الصلاة.
لكنه غير تام، لان مثل حديث: (لا تعاد...) إنما يدل على إجزاء الناقص
من الناسي، وهو أعم من تكلفه به وعدم تكليفه بالتام، كما تقدم.
كيف! والظاهر شمول الحديث للجهل بالحكم، بل هو صريح بعض
النصوص الاخر، مع أنه لا ريب في عدم تغير التكليف به.
وبالجملة: الظاهر عدم اختلاف التكليف بين الذاكر والناسي حتى مع
عدم الاطلاق لدليل التكليف بالتام، فإجزاء الناقص من الناسي يكون على
خلاف الأصل، لابتنائه على إجزاء غير الواجب عن الواجب، على ما تقدم.
الرابع: حيث تقدم ممن عرفت إمكان الشك في اختصاص الجزئية
والشرطية بحال الذكر وقصورها عن حال النسيان، فاللازم الكلام في تشخيص
الوظيفة العملية في ذلك في مقامين..
المقام الأول: في مقتضى الأدلة الاجتهادية
فاعلم أنه إن كان لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق يشمل حال النسيان
فلا إشكال في العموم، نظير قوله عليه السلام في من لم يقرأ الفاتحة: (لا صلاة له إلا أن

(1) الوسائل ج: 4، باب: 1 من أبواب قواطع الصلاة حديث: 4.
406

يقرأ بها) (1)، وقوله عليه السلام: (لا صلاة إلا بطهور) (2)، سواء كان لدليل أصل الواجب
عموم أو إطلاق أم لم يكن، وسواء قلنا بأن النسيان من الروافع الواقعية للتكليف
أم لم نقل.
ولا مجال لتوهم أنه على الأول يستحيل جزئية الجزء حال النسيان فلا بد
من تقييد الاطلاق المفروض.
لاندفاعه: بأن مرجع الاطلاق المذكور إلى عدم مشروعية المركب بدون
الجزء، المستلزم لسقوطه تبعا لسقوط الجزء بالنسيان، فيكون نسيان الجزء
راجعا إلى نسيان المركب المستلزم لسقوط التكليف به فعلا، وعوده بعد ارتفاع
النسيان، لعدم امتثاله، كما لو نسي أصل الواجب ولم يتصد لامتثاله.
ولذا يصح التمسك بمثل هذا الاطلاق لاثبات عموم الجزئية لمثل حال
الاضطرار إلى ترك الجزء، الذي لا ريب في كونه من الروافع الواقعية.
ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى: حكومة حديث رفع النسيان على العموم
المفروض بنحو يقتضي سقوط جزئية الجزء في حال النسيان، والتكليف بما
عداه.
لاندفاعها: بأن الحديث المذكور لا ينهض برفع الجزئية وحدها، بل
يقتضي رفع التكليف بالمركب التام، لما ذكرناه غير مرة من عدم جعل الجزئية
والشرطية ونحوهما بنفسها، بل هي منتزعة من التكليف الاستقلالي بالمركب،
فيكون هو مورد الرفع، من دون أن يثبت التكليف بالناقص.
وبعبارة أخرى: مقتضى عموم الجزئية لحال النسيان عموم وجوب التام
وعدم وجوب الناقص، ونسيان الجزئية راجع إلى نسيان وجوب التام وتخيل

(1) الوسائل ج: 4، باب: 1 من أبواب القراءة حديث: 1.
(2) الوسائل ج: 1، باب 1 من أبواب الوضوء حديث: 1.
407

وجوب الناقص. كما أن نسيان الجزء في مقام الامتثال راجع إلى نسيان التام
والآتيان بالناقص.
وحينئذ إن أريد بالحديث رفع نفس الجزئية مع بقاء أصل وجوب
المركب للالتفات إليه في الجملة وعدم نسيانه رأسا، فيستلزم وجوب الناقص.
فيدفعه: أن الجزئية ليست مجعولة، لتصلح للرفع بنفسها.
وإن أريد به رفع منشأ انتزاعها وهو وجوب التام.
فهو لا يقتضي وجوب الناقص، بل يكون الحال كما لو نسي التكليف
رأسا.
وإن أريد به إثبات التكليف بالناقص المتخيل تبعا لنسيان الجزئية، أو
المأتي به حين ترك الجزء.
فهو خارج عن مفاد دليل رفع النسيان، لتمحضه في الرفع فيه، وليس
شائبة الوضع.
هذا كله مع ما تقدم في الامر الثاني من أن رفع النسيان في الحديث
الشريف ظاهري راجع إلى عدم المؤاخذة على المنسي، من دون أن يقتضي
رفعا واقعيا، لينافي الاطلاق، ويكون حاكما عليه. فراجع.
ثم إنه لا يفرق في استفادة الاطلاق بين بيان الجزئية ونحوها باللسان
المتقدم وبيانها بلسان الامر أو النهي، كقوله عليه السلام في الميتة: (لا تصل في شئ منه
ولا شسع) (1).
وأما دعوى: أن الأمر والنهي حيث كان مفادهما التكليف القاصر عن حال
النسيان تعين قصور الجزئية والشرطية والمانعية المسببة عنهما عنه.
فهي - مع ابتنائها على كون النسيان رافعا واقعيا - مدفوعة: بأن الأوامر

(1) الوسائل: ج 3 من أبواب لباس المصلي حديت: 2.
408

والنواهي المذكورة إنما تقتضي الجزئية ونحوها إذا كانت للارشاد وبيان ماهية
المركب، ولا مانع من إطلاق مثلها لحال النسيان والاضطرار ونحوهما، وأما إذا
كانت واردة للتكليف النفسي فهي لا تدل على دخل متعلقها في المركب وجودا
وعدما، لتكون مما نحن فيه.
وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أن الأوامر والنواهي المذكورة حيث
كانت غيرية فهي مسببة عن الجزئية، فسقوطها في حق الغافل لا يقتضي سقوط
الجزئية، وليست الجزئية مسببة عنها. لتسقط في حال الغفلة تبعا لها.
فهو - مع ابتنائه على كون الامر الضمني بالجزء غيريا - مدفوع: بأن سقوط
التكليف الغيري وإن لم يستلزم سقوط الجزئية التي هي منشأ له، إلا أنه لا طريق
لاثبات عموم الجزئية لحال النسيان بعد فرض قصور دليلها عنه.
فالعمدة: أن الأوامر والنواهي المذكورة ليست متمحضة في الغيرية، بل
هي مسوقة للارشاد للجزئية ونحوها والكناية عنها، فلا مانع من إطلاقها لحال
النسيان والاضطرار ونحوهما، وإن كانت المقدمية للواجب هي المنشأ في
المناسبة المصححة للكناية.
بل الظاهر تمحض الأوامر والنواهي المذكورة في الارشاد وليست غيرية،
ولذا وردت في ما لا يجب غيريا، لكونه مقدمة لغير الواجب، كقوله عليه السلام:
(استقبل بذبيحتك القبلة) (1)، مع وضوح عدم وجوب التذكية.
نعم، لو كانت المانعية متفرعة على التكليف بوجوده الواقعي - كما لو
فرض مانعية الحرير بما هو حرام لا بنفسه - تعين ارتفاعها بنسيان التكليف، بناء
على كونه رافعا واقعيا له.
كما أنها لو كانت متفرعة على تنجز التكليف - كما في مانعية النهي من

(1) الوسائل ج: 16، باب: 14 من أبواب الذبايح كتاب الصيد والذبايح، ح: 1.
409

التقرب المعتبر في العبادة - تعين ارتفاعها بنسيان التكليف حتى بناء على ما
ذكرناه في رافعيته.
لكن هذا من نسيان التكليف الرافع للمانعية، لا من نسيان المانعية أو
المانع، الذي هو محل الكلام، ولذا لو التفت للتكليف وعصاه عامدا تحققت
المانعية وإن نسيها المكلف حين امتثال المركب. فلاحظ.
وأما إذا لم يكن لدليل الجزئية ونحوها إطلاق يشمل حال النسيان، فإن
كان لدليل بقية الاجزاء إطلاق أو عموم يقتضي عدم تقييدها بالجزء المشكوك،
تعين البناء على التكليف بالناقص في حق الناسي، المقتضي للاجتزاء به منه،
للزوم الاقتصار في تقييد إطلاق التكليف بما عدا الجزء المنسي على المتيقن
المفروض عدم شموله لحال النسيان، وإلا لزم الرجوع للأصول العملية التي
يأتي الكلام فيها في المقام الثاني.
المقام الثاني: في مقتضى الأصول العملية
وحيث كان المفروض الشك في مقدار التكليف حين النسيان فمقتضى
أدلة البراءة الاكتفاء بالمتيقن، وهو ما عدا الجزء المنسي، بناء على ما تقدم من
جريان البراءة في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وهو ظاهر بناء على
عدم ارتفاع التكليف واقعا بالنسيان، للعلم حينئذ بالتكليف حين النسيان
ودورانه بين الأقل والأكثر.
أما بناء على سقوطه واقعا، فيدور الامر بين عدم التكليف رأسا، لسقوط
المركب بنسيان جزئه، والتكليف بالناقص، فلا يعلم بتكليف مردد بين الأقل
والأكثر، ليعلم بكون الناقص امتثالا للمتيقن المنجز منه.
والأصل وإن لم يحرز الأول، لمنافاته للامتنان، إذ لا أثر لرفع التكليف
حين النسيان إلا عدم الاجتزاء بالناقص المأتي به ووجوب الاتيان بالتام، وهو
ضيق على المكلف، إلا أنه لا يحرز الثاني، لتمحض دليله في الرفع، وليس فيه
410

شائبة الوضع.
اللهم إلا أن يقال: سقوط التكليف لما لم يكن ملاكيا، بل خطابيا مع بقاء
الملاك بالنحو اللازم الاستيفاء ولو بعد الذكر، فلا يبعد بناء العقلاء على الرجوع
في الشك في الزائد إلى البراءة في مثل ذلك بنحو لا يحتاج إلى التدارك بالتام.
فتأمل.
أو يقال: الأصل وإن لم يحرز أحد الوجهين إلا أن رجوع التكليف بالتام
بعد الالتفات لا دليل عليه بعد فرض احتمال إجزاء الناقص من الناسي، لعدم
اقتضاء الملاك في حقه لما زاد عليه، بل الأصل عدمه.
وبالجملة: لا ينبغي الاشكال في الاكتفاء بالناقص من الناسي في الفرض
المذكور، سواء كان النسيان رافعا واقعيا أم ظاهريا.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن أصل البراءة إنما يقتضي رفع
الجزئية في حال النسيان، لا في تمام الوقت، إلا مع استيعاب النسيان له، فلو
تذكر المكلف في أثناء الوقت وجب عليه الاتيان بالتام، عملا بإطلاق دليله، لان
الواجب هو صرف وجود الطبيعة التامة الاجزاء والشرائط في مجموع الوقت،
ويكفي في وجوبها القدرة عليها في جزء منه، لا في تمامه، كما هو الحال في
غير النسيان من سائر الاعذار، حيث لا يجوز الاكتفاء بالناقص معها إلا مع
استيعابها لتمام الوقت.
ففيه: أن فرض الاطلاق لوجوب التام بنحو يكفي تجدد القدرة عليه بعد
النسيان، خارج عن محل الكلام، بل المفروض إجمال الخطاب بالواجب من
هذه الجهة، والمتيقن حال النسيان وجوب الناقص المفروض امتثاله، فيكون
كما لو امتثل المسافر أمر الصلاة بالقصر، ثم دخل بلده في الوقت.
وعدم الاكتفاء بالناقص في سائر الاعذار مع عدم استيعابها لتمام الوقت
موقوف على فرض الاطلاق المذكور، لا مع عدمه، كما يأتي في التنبيه الثاني إن
411

شاء الله تعالى.
ومثله ما ذكره أيضا من أنه لو طرأ النسيان في أثناء الوقت فمقتضى
الاستصحاب وجوب التام الثابت في أول الوقت، للشك في سقوطه بسبب
النسيان الطارئ الزائل في الوقت.
لاندفاعه.. أولا: بأنه لا مجال له بناء على ما يظهر منه قدس سره من كون النسيان
رافعا واقعيا للتكليف بالتام، للعلم معه بانتقاض الحالة السابقة، المقتضي
للرجوع بعد الذكر لاستصحاب عدم التكليف، أو لأصل البراءة منه.
الثاني: بأنه لا مجال للاستصحاب مع احتمال أخذ الذكر في موضوع
التكليف بالتام لدخله في ملاكه، لرجوع ذلك إلى عدم اليقين من أول الامر
بوجوب التام تعيينا، بل يحتمل التخيير من أول الامر بين التام الحاصل حين
الذكر، والناقص الحاصل حين النسيان. فلاحظ.
هذا، وقد ذكر بعض مشايخنا أنه لو فرض انحصار الامتثال بالعمل الذي
وقع النقص فيه كان لازم عموم الجزئية لحال النسيان بطلانه وتعذر الامتثال
المسقط للتكليف، ولازم اختصاصها بحال الذكر صحته ووجوب إتمامه،
وحينئذ مقتضى الأصل الأول، لأصالة البراءة من وجوب الاتمام، فلو وجب
صوم يوم معين، فنسي المكلف وأكل فيه، ثم التفت وشك في اختصاص
الامساك المنسي بحال الذكر المستلزم لوجوب إتمام صوم ذلك اليوم، وعموم
جزئيته المستلزم لبطلانه وجواز تركه كان له البناء على الثاني.
أقول: بناء على ما ذكرنا من عدم كون النسيان مسقطا واقعيا للتكليف التام
الملاك، فالمكلف بعد الالتفات يعلم بثبوت التكليف في حقه حين النسيان قبل
ترك الجزء إما بالتام أو بالناقص، الراجع إلى العلم بالتكليف بالناقص مرددا بين
كونه بشرط التمامية وكونه لا بشرط، ويحتمل سقوط التكليف المذكور بفوت
الجزء، لاحتمال كون التكليف بالتام المتعذر به، فمقتضى الاستصحاب بقاء
412

التكليف المذكور على ما هو عليه من التردد، وإن استلزم التكليف بالناقص
بنحو اللابشرط الذي هو مشكوك الحدوث، لان تنجيز الناقص لا يعتبر فيه
إحراز التكليف به بنحو اللابشرط، ليكون الأصل مثبتا، بل يكفي فيه إحراز
التكليف به في الجملة مرددا بين الوجهين، الذي هو عين المستصحب، ولذا
تقدم في أصل مسألة الدوران بين الأقل والأكثر أن العلم بالأقل على ما هو عليه
من الترديد صالح لتنجيزه.
نعم، بناء على أن النسيان مسقط للتكليف بالتام واقعا لا مجال
للاستصحاب، فإن المتيقن قبل النسيان هو وجوب التام، الذي لا يدعو للأقل إلا
في ضمن التام، وهو معلوم السقوط، غاية الامر أنه يحتمل تعقبه بالتكليف
بالناقص بسبب النسيان، والأصل عدمه، ولا مجال لاستصحابه، فتأمل.
إلا أن يفرض وجوب القضاء على تقدير الفوت، حيث يعلم حينئذ
إجمالا بوجوب المضي في الناقص أو قضاء التام، فيلزم الاحتياط بالجمع
بينهما.
وربما يأتي في التنبيه الخامس توضيح ذلك.
وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن الأصل عدم إجزاء الناقص من الناسي
فيما إذا كان لدليل الجزئية إطلاق يشمل حال النسيان، بل مطلقا بناء على ما
ذكرناه في الامر الثالث من عدم اختلاف الملاك بين الناسي والذاكر.
فلابد في الاجزاء من دلالة الدليل المخرج عن مقتضى الأصل المذكور،
من باب إجزاء غير الواجب عن الواجب، كما دل الدليل عليه في الصلاة في مثل
موارد: (لا تعاد...) وفي الصوم والحج وغير هما مما يوكل تفصيله إلى الفقه.
413

تنبيه
لا يختص ما ذكرناه بالنسيان، بل يأتي في الجهل بالحكم أو الموضوع،
بل الظاهر منهم عدم احتمال الاختلاف بين العالم والجاهل في الحكم الواقعي،
فلا يحتاج تعميم الجزئية لحال الجهل إلى الاطلاق، ولازمه أصالة عدم إجزاء
الناقص من الجاهل إلا بدليل خاص، قد ورد في بعض الموارد، كما ورد في
النسيان.
وتخصيص محل الكلام بالنسيان إنما كان تبعا لشيخنا الأعظم قدس سره
ولاختصاص بعض مبانيهم به، وإلا فاحتمال خصوصيته صدق الركن عند هم
بعيد. ومنه سبحانه نستمد العون والتسديد.
المسألة الثانية: في الزيادة.
وينبغي تمهيد محل الكلام بأمرين..
الأول: من الظاهر أن الزيادة والنقيصة من العناوين الإضافية، فلا تصدقان
إلا بلحاظ جهة متقومة بالحد، ليكون ما زاد عليه زيادة وما نقص عنه نقيصة،
فالانسان ذو الأصابع الأربع أو الست مثلا لا يكون ناقصا أو زائدا بالإضافة إلى
طبيعة الانسان لوقوعها بالوجهين، بل بالإضافة إلى خصوص الانسان الشايع
المتعارف، وصلاة الثلاث ركعات زائدة بالإضافة إلى صلاة الصبح، وناقصة
بالإضافة إلى صلاة العشاء، وتامة بالإضافة إلى صلاة المغرب.
هذا، وحيث كان الكلام هنا في الزيادة في الامتثال على المأمور به، فمنشأ
الإضافة هو الامر بلحاظ تعلقه بالمركب ذي الاجزاء التي يمكن الامتثال بما زاد
عليها أو نقص عنها.
كما أن الظاهر أن انتزاع الزيادة متفرع على وحدة الشئ المزيد فيه،
بحيث تكون الزيادة جزءا منه، لا خارجة عنه، فلابد من فرض جهة مصححة
لانتزاع الوحدة بينها وبين العمل الذي به الامتثال، كالوحدة الخارجية المنتزعة
414

من اتصال الاجزاء في مثل الماء الواحد والدرهم الواحد، والوحدة العرفية
المنتزعة من اجتماع الاجزاء بوجه خاص، كوحدة الدار والبستان والبذرة.
وأما الماهيات الشرعية، كالصلاة والحج، فحيث لا وحدة لها حقيقية ولا
عرفية، فلابد من كون منشأ الوحدة فيها هو قصد الامتثال بالعمل، المستلزم لعدم
صدق الزيادة فيه إلا بقصد الجزئية في الزائد، ولا يكفي فيه مجرد مقارنة الشئ
الخارج عن المأمور به للامتثال، سواء كان الزائد من سنخ الاجزاء كسجود
الشكر في أثناء الصلاة، أم من سنخ آخر كوضع اليدين على الفخذين، والنظر
إلى السماء، والإشارة، لعدم كون المقارنة بنفسها منشأ لانتزاع الوحدة المذكورة،
وإلا لزم صدقها على مثل النفس ولحظ العين وغيرهما، بل لم يمكن خلو
الامتثال عن الزيادة بالمعنى المذكور، وهو مما يقطع بعدم إرادته في المقام.
نعم، إذا كان الفعل الخارج عن المأمور به من سنخ الاجزاء المأمور بها
وكان له وجود معتد به، وكان للمركب هيئة إتصالية ولو من جهة التعارف فقد
يصح إطلاق الزيادة عليه توسعا بلحاظ الوحدة الحاصلة من الهيئة المذكورة.
وعليه قد يحمل ما في خبر زرارة عن أحدهما عليهما السلام (قال: (لا تقرأ في
المكتوبة بشئ من العزائم، فإن السجود زيادة في المكتوبة) (1)، لو ضوح أن
سجود العزيمة لامتثال أمره لا لامتثال أمر الصلاة، ليكون زيادة فيها.
وأما ما في خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام سألته عن الرجل يقرأ في
الفريضة سورة النجم أيركع بها أو يسجد ثم يقوم فيقرأ بغيرها؟ قال: (يسجد ثم
يقوم فيقرأ بفاتحة الكتاب ويركع، وذلك زيادة في الفريضة، ولا يعود يقرأ في
الفريضة بسجدة) (2).

(1) الوسائل ج: 4، باب: 4 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 1.
(2) الوسائل ج: 4، باب: 4 من أبواب القراءة في الصلاة، ح: 4.
415

فلعل المراد بالزيادة فيه نفس سورة العزيمة، لقصد الامتثال بها مع
خروجها عن المأمور به، لا سجدتها.
ثم إن الاقتصار في الخبر على مورده أو تعميمه لغيره عملا بعموم التعليل
موكول إلى الفقه، ولا مجال لإطالة الكلام فيه هنا.
الثاني: لا إشكال في صدق الزيادة في ما لا يكون من سنخ أجزاء المركب
لو نوى به الجزئية، وكذا ما يكون من سنخها إذا جئ به في غير محله أو على
غير وجهه المشروع، كما لو قرأ السورة قبل الفاتحة في الصلاة، أو جهر في
موضع الاخفات، بناء على أن الجهر شرط في جزئية الجزء لا في أصل المركب.
وأما إذا جئ به مع ما هو المشروع من سنخه وفي محله، كما لو ركع
مرتين أو سجد ثلاثا في ركعة واحدة، فيختلف الحال باختلاف صور أخذ الجزء
في المركب، إذ الجزء..
تارة: يكون هو الطبيعة الصادقة على القليل والكثير، بحيث يكون كل
منهما بحده تمام الجزء، نظير ما يذكر في تقريب التخيير بين الأقل والأكثر.
وأخرى: يكون هو الأكثر بحده.
وثالثة: يكون هو الأقل بحده بشرط لا، بحيث لو زاد وأخل بالحد خرج
الكل عن الجزئية.
ورابعة: يكون هو الأقل بحده لا بشرط، فالزيادة وإن خرجت عن الجزء
لا تخل بجزئيته.
ولا مجال لفرض الزيادة في الصورتين الأوليين، بل تختص بالأخيرتين،
غايته أنها في الثالثة تستلزم النقيصة، لتعذر الجزء وهو الأقل بحده بسببها.
إلا أن يفرض بطلان الجزء ببعض مراتب الزيادة بخصوصها، فيمكن
حينئذ استئنافه بعدها. نظير ما ورد في من زاد في تسبيح الزهراء عليها السلام على أربع
416

وثلاثين تكبيرة من لزوم استئناف الرابعة والثلاثين (1).
إذا عرفت هذا، فلا ريب في أصالة البطلان بالزيادة فيما لو رجعت إلى
الاخلال بما يعتبر في الواجب، لاخذ عدم الزيادة شرطا في جزئية الجزء، مع
تعذر تداركه، أو مع إمكانه وتركه، وإن كان البطلان في الثاني لا يستند للزيادة، بل
لترك التدارك بعدها الراجع إلى النقيصة، بل هو في الأول وإن استند للزيادة، إلا أنه
من جهة استلزامها النقيصة، لا بعنوان كونها زيادة.
وأما في غير ذلك فلابد في قادحية الزيادة من دليل، وبدونه فالأصل
عدمها، لرجوع الشك فيها إلى الشك في المانعية الذي هو مورد البراءة، كالشك
في الشرطية، بل هو راجع إليه، لان مانعية شئ من المركب ترجع إلى اعتبار
عدمه فيه.
وأما الاستدلال على مبطلية الزيادة: بأنها تغيير لهيئة العبادة الموظفة،
فتكون مبطلة، كما أشار إليه في المعتبر.
فقد أجاب عنه شيخنا الأعظم قدس سره: بأنه إن أريد تغيير الهيئة المعتبرة في
المركب فالصغرى ممنوعة، لان اعتبار الهيئة الخاصة التي تخل بها الزيادية أول
الدعوى.
وإن أريد أنه تغيير للهيئة المتعارفة فالكبرى ممنوعة، لمنع كون تغيير
الهيئة المتعارفة مبطلا.
نعم، قد يستشكل في الزيادة بأنها بعد أن كانت موقوفة على قصد
الجزئية كانت مبتنية على قصد أمر آخر غير الامر الواقعي مشتمل على الزيادة
المذكورة، فلا يتحقق امتثال الامر الواقعي، بل امتثال الامر الاختراعي
المفروض، فلا يصح العمل لا من حيثية الزيادة، بل من حيثية التشريع وعدم

(1) الوسائل ج: 4، باب: 21 من أبواب التعقيب من كتاب الصلاة حديث: 4.
417

قصد امتثال الامر.
لكنه - مع اختصاصه بالعبادة - إنما يتم لو رجع إلى قصد امتثال أمر آخر
غير الامر الواقعي، تشريعا، أو سهوا في أصل الامر، كما لو اعتقد وجوب الظهر
عليه، فصلى أربعا وكان الواجب عليه في الواقع الجمعة، أو غفلة في امتثاله، كما
لو صلى المسافر ثلاث ركعات بنية امتثال أمر المغرب غفلة عن أنه قد صلاها،
وأنه لا يجب عليه إلا ركعتين للعشاء.
وأما مع قصد الامر الواقعي ولو إجمالا والتصرف فيه تشريعا أو سهوا،
بأن اعتقد اشتماله على الزيادة، أو في امتثاله بأن قصد بالزيادة الامتثال، لاعتقاد
عدم سقوط أمر الجزء غفلة عن الاتيان به، أو لتخيل إمكان تبديل الامتثال، فلا
وجه للبطلان، لعدم منافاة الضميمة المذكورة للتقرب المعتبر.
إلا أن يفرض أخذ الضميمة قيدا في الامتثال، بأن يكون امتثال الامر
الواقعي بالاجزاء الواقعية معلقا على الامتثال بالزيادة ومقيدا به، فيتعين بطلان
العمل، لعدم وقوع الامتثال تبعا لعدم وقوع قيده الذي أنيط به.
ودعوى: أن الامتثال من الافعال الخارجية الجزئية غير القابلة للتقييد،
كالضرب والقيام، فلابد من كون الضمائم المذكورة من سنخ الداعي أو محض
المقارن، فلا تكون مضرة بفعلية الامتثال.
مدفوعة: بأن الافعال الخارجية الجزئية التي لا تقبل التعليق هي الافعال
الخارجية المستندة لأسبابها التكوينية، إذ مع تحقق أسبابها يستحيل انفكاكها
عنها، فلا معنى لتعليقها.
وأما إذا كانت قصدية - كالامتثال - فتمام علتها بالقصد القابل لان يتعلق
بالامر التنجيزي، كما يقبل أن يتعلق بالامر التعليقي، ولذا لا إشكال في قابلية
العقود والايقاعات للتعليق، بمعنى تعليق الامر المنشأ.
نعم، التقييد والتعليق بالوجه المذكور محتاج إلى مؤنة وعناية لا يجري
418

الانسان عليها بحسب طبعه وارتكازياته في مقام الامتثال، بل لا تخرج الضمائم
المذكورة عن الداعي أو الاعتقاد المقارن المحض الذي لا يخل بفعلية الامتثال.
ودعوى: أنه مع التشريع يحرم العمل، فيمتنع التقرب به.
مدفوعة: بأن التشريع إنما يقتضى حرمة الزيادة التي يؤتى بها بداعي الامر
الضمني التشريعي، لا حرمة غيرها مما لا دخل للتشريع في الداعوية له، بل لا
يؤتى به إلا بداعي الامر الواقعي ويكون امتثالا.
ومجرد مقارنته للتشريع في الامر الواقعي وفرضه على خلاف واقعه لا
يقتضي حرمة بقية الاجزاء وامتناع التقرب بها بعد عدم دخله في الداعوية لها.
وبالجملة: لا يكفي في حرمة العمل ومبعديته مقارنته للتشريع، بل لابد
من استناده إليه، وهو مختص بالزيادة، وحرمتها لا تمنع من التقرب ببقية أجزاء
المركب وتبطله.
هذا، وربما يتمسك لعدم قادحية الزيادة، بل غيرها مما يحتمل قادحيته
- مضافا إلى الأصل المذكور -..
تارة: باستصحاب صحة العمل.
وأخرى: بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
ولا تبطلوا أعمالكم) (1) فإن وجوب المضي في العمل يستلزم صحته وعدم
بطلانه بالزيادة.
وقد أطال شيخنا الأعظم قدس سره الكلام في الوجهين بما لا مجال لتعقيبه.
لكن أشرنا إلى اندفاع الأول في التنبيه السابق عند الكلام في الشك في
القاطعية.
ويندفع الثاني: بظهور الآية الكريمة في أن المراد من الابطال الاحباط

(1) سورة محمد: 33.
419

بالنفاق والشقاق لله تعالى ولرسوله ونحوهما، كما يناسبه صدرها وسياقها مع
قوله تعالى قبلها: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من
بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم) (1)،
واستشهاده صلى الله عليه وآله بها لذلك في خبر أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: (قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: من قال: سبحان الله، غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال:
الحمد لله، غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: لا إله إلا الله، غرس الله له
بها شجرة في الجنة، ومن قال: الله أكبر، غرس الله له بها شجرة في الجنة. فقال:
رجل من قريش: يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير. فقال: نعم، ولكن إياكم
أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها، وذلك أن الله عز وجل يقول: (يا أيها الذين
آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم)) (2).
مضافا إلى أن الشك في المقام في تحقق البطلان بالزيادة الرافع لموضوع
الابطال بعدها، فلا يحرز شمول الآية له، لا في جواز الابطال بعد فرض الصحة،
كما لا يخفى. فالعمدة في تقريب الأصل ما ذكرناه.
بقي في المقام أمران:
الأول: ان الأصل وإن كان يقتضي عدم مبطلية الزيادة ونحوها مما لم يقم
دليل على قادحيته في العمل - كما تقدم في أصل المسألة - إلا أن ذلك قد يشكل
في الصلاة ونحوها مما يحرم قطعه على تقدير صحته بحدوث علم إجمالي في
المقام ينجز احتمال القادحية، للعلم إجمالا معه إما بصحة العمل المقتضية
لوجوب إتمامه أو ببطلانه المقتضي لوجوب استئنافه، ومنجزية العلم الاجمالي
المذكور تمنع من الرجوع لأصالة البراءة من المانعية المقتضية للاستئناف كما

(1) سورة محمد: 32.
(2) الوسائل ج: 4، باب: 31 من أبواب الذكر حديث: 5.
420

تمنع من الرجوع لأصالة البراءة من وجوب الاتمام، فيتعين الاحتياط بالاتمام ثم
الإعادة.
ودعوى: أن أصالة البراءة من قادحية الزيادة ونحوها تقتضي صحة العمل
ووجوب إتمامه، فينحل بذلك العلم الاجمالي.
مدفوعة: بأن أصالة البراءة لا تحرز مطابقة العمل للتكليف الواقعي
وصحته الذي هو موضوع وجوب الاتمام، وإنما تقتضي المعذورية من احتمال
البطلان، وليس هو موضوع وجوب الاتمام.
ومثلها دعوى التمسك لذلك باستصحاب الصحة. لما تقدم من الاشكال
في الاستصحاب المذكور.
فلعل الأولى أن يقال: إن العلم الاجمالي المذكور - لو تم - لا يقتضي المنع
من الزيادة، ولا ينجز احتمال قادحيتها قبل الاتيان بها، بل هو مترتب على الاتيان
بها، فالزيادة شرط في حدوث العلم الاجمالي المذكور، وحيث كان الظاهر
عموم حديث: (لا تعاد...) في الصلاة للجهل ونحوه من الاعذار، ولا يختص
بالسهو، فهو يقتضي عدم قادحية الزيادة في المقام، للاتيان بها جهلا بعد فرض
عدم صلوح العلم الاجمالي لتنجيز احتمال قادحيتها قبل الاتيان بها، فيعلم
بصحة الصلاة معها ووجوب المضي فيها، إما لعدم قادحيتها ذاتا، أو من جهة
تحقق العذر فيها، ولا مجال مع ذلك لفرض العلم الاجمالي المذكور.
نعم، لو كان احتمال قادحية الزيادة قبل الاتيان بها منجزا - كما في الشبهة
الحكمية قبل الفحص - لم يبعد قصور حديث: (لا تعاد...) عنه، واتجه فرض
العلم الاجمالي المذكور.
كما يتجه بناء على اختصاص الحديث بالسهو وعدم شموله للجهل.
هذا كله بناء على عموم حرمة القطع لما إذا احتمل بطلان العمل بنحو
يقتضي الاحتياط، وأنه لا مجال للاحتياط إلا بالاتمام ثم الاستئناف.
421

وأما بناء على قصور دليل حرمة القطع عن ذلك، لان تجنب صعوبة
التكرار مع الرغبة في الاحتياط من جملة الاغراض العقلائية المسوغة للقطع،
فلا مجال لفرض العلم الاجمالي حتى في الموردين المذكورين، بل غاية ما
يحصل في المقام هو احتمال بطلان العمل بما يحتمل قادحيته، فلا مانع من
التنبيه الخامس: في تعذر بعض ما يعتبر في الواجب الارتباطي
إذا تعذر بعض ما يعتبر في الواجب، ودار الامر بين عموم اعتباره لحال
تعذره المستلزم لسقوط التكليف بالواجب رأسا، تبعا لتعذر قيده، واختصاصه
بحال القدرة عليه، المستلزم لبقاء التكليف بما عدا المتعذر، فهل الأصل يقتضي
الأول أو الثاني؟
والكلام في ذلك في مقامين..
الأول: في مقتضى القاعدة الأولية بالنظر إلى الأدلة الاجتهادية أو الأصول
العملية.
فاعلم أن في المقام صورتين..
الأولى: أن يكون لدليل اعتبار الامر المتعذر إطلاق يشمل حال التعذر.
ومن الظاهر أن مقتضى الاطلاق المفروض سقوط الواجب بتعذره، بمقتضى
فرض الارتباطية لتعذر المقيد بتعذر قيده.
ولا مجال معه لاستصحاب التكليف بالوجه الذي يأتي الكلام فيه، لكونه
محكوما للاطلاق المذكور.
ودعوى: أن سقوط وجوب المركب بمقتضى الاطلاق لا ينافي وجوب
الناقص بدلا عنه أو لكونه الميسور منه، فإن قوله عليه السلام: (لا صلاة إلا بطهور) مثلا
إنما يقتضي توقف الصلاة على الطهور المستلزم لسقوط وجوبها بتعذره، وهو
لا ينافي وجوب المركب الخالي عنه لكونه الميسور من الصلاة أو لكونه بدلا
422

عنها، واحتمال ذلك مصحح للاستصحاب.
مدفوعة: بأن الاطلاق المفروض في محل الكلام هو إطلاق اعتبار الشئ
في الواجب، المستلزم لسقوط الواجب بتعذره، لا إطلاق اعتباره في المركب
الذي يجب في بعض الأحوال، بنحو قد يخلفه غيره، فإن ذلك خارج عن محل
الكلام، لعدم استلزامه إطلاق اعتباره في الواجب. فلاحظ.
هذا، وقد تقدم في النقيصة السهوية من التنبيه السابق الكلام في بعض ما
يستفاد منه الاطلاق بما لا حاجة معه لإطالة الكلام فيه هنا، لان المقامين من
باب واحد.
الثاني: أن لا يكون لدليله إطلاق، وحينئذ فإن كان للتكليف بباقي الاجزاء
إطلاق يشمل صورة تعذر الامر المذكور لزم الاقتصار في جزئية المتعذر على
حال القدرة عليه والبناء على عدم جزئيته في حال تعذره، المستلزم لعدم سقوط
المركب حينئذ.
وإلا لزم البناء على الاجمال والرجوع للأصل العملي، من الاستصحاب
أو البراءة.
أما الاستصحاب فقد يتمسك به لاحراز وجوب الباقي للعلم بوجوبه
سابقا حين القدرة على التام ويحتمل بقاء التكليف به بعد التعذر.
وفيه: أن المعلوم سابقا هو وجوبه ضمنا في ضمن التكليف بالتام، وهو
معلوم الارتفاع بسقوط التام، غاية الامر أنه يحتمل حدوث الوجوب الاستقلالي
له بعده، والأصل عدمه.
ودعوى: أن وجوب الباقي المشكوك متحد مع وجوب التام المتيقن
سابقا، لوجوده في ضمنه، وليس الاختلاف بينهما إلا في الحدود، وهو لا
يوجب تعدد المحدود، كما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره.
مدفوعة: بأن اختلاف الحدود إنما لا يوجب تعدد المحدود إن رجع إلى
423

اختلاف مرتبة الوجود الواحد، كالسواد الخفيف الموجود في ضمن السواد
الشديد، لا في مثل اختلاف الوجوبين باختلاف حدود متعلقيهما، فإن كلا من
الوجوبين محتاج إلى جعل مستقل يباين جعل الآخر، وليس أحدهما بقاء
للآخر، لتقوم التكليف بمتعلقه على ما هو عليه من الحد الملحوظ للجاعل،
فلابد مع اختلاف الحدين من اختلاف الجعل، الموجب لتعدد المجعول.
فلاحظ.
وأما استصحاب كلي الوجوب الجامع بين الوجوب الضمني
والاستقلالي، الثابت سابقا للباقي والمشكوك في بقائه بعد التعذر فهو من القسم
الثالث من استصحاب الكلي، وهو لا يجري على التحقيق.
على أنه لو كان يجري في نفسه لكان مختصا بما إذا كان الأثر للكلي،
والأثر في المقام للفرد، وهو الوجوب الاستقلالي، والاندفاع إنما يكون عنه، لا
عن كلي الوجوب، بل ليس الاندفاع مع الوجوب الضمني إلا عن الوجوب
الاستقلالي، إذ ليس الوجوب الضمني إلا تحليليا، لا يكون موردا للأثر بنظر
العقلاء.
وإحراز كون الوجوب استقلاليا باستصحاب الكلي مبني على الأصل
المثبت.
ومثله في ذلك استصحاب الوجوب الاستقلالي للعنوان - كالصلاة -
لاحراز تحققه بالناقص وكونه فردا اضطراريا له.
نعم، قد يتمسك باستصحاب الوجوب الاستقلالي للناقص فيما إذا كان
متحدا مع التام عرفا، بأن يكون المتعذر لقلته من سنخ الحالات المتبادلة على
الموضوع الواحد غير الموجبة لتعدده، لا مقوما له عرفا، بناء على الاكتفاء
بالتسامح العرفي في موضوع الاستصحاب، كما جرى عليه غير واحد في مثل
استصحاب كرية الماء.
424

لكن المبنى المذكور غير تام في نفسه، على ما يأتي في مبحث
الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
هذا كله مع العلم بسبق التكليف بالتام تعيينا، بحيث لا يجوز تعجيز
النفس عنه، أما لو احتمل التكليف به من أول الامر تخييرا، بحيث يجوز التعجيز
عنه، لاختصاص ملاكه بحال القدرة عليه، فليس المتيقن سابقا هو التكليف
بالتام بنحو يسقط بالتعذر، ويحتمل حدوث تكليف آخر بالناقص، بل التكليف
بالباقي في الجملة إما مقيدا بالمتعذر لا غير فيسقط بالتعذر، أو مخيرا بينه وبين
المطلق في حال التعذر، فيبقى مع التعذر، ولا يبعد حينئذ جريان استصحاب
التكليف بالميسور على ما هو عليه من الترديد والاجمال، لصلوحه للداعوية
ظاهرا، نظير ما تقدم في مناقشة بعض مشايخنا في آخر الكلام في النقيصة
السهوية، وإن لم يكن عينه. لكنه محتاج إلى كثير تأمل.
ثم انه لو جرى الاستصحاب في نفسه اختص بما إذا كان مسبوقا بالقدرة
في الوقت وتجدد العجز في أثنائه، بحيث يعلم معه بفعلية التكليف سابقا في
حمه.
لكن عن بعض الأعاظم الاكتفاء بسبق القدرة ولو قبل الوقت، بدعوى: أن
الاستصحاب في الاحكام الكلية الذي هو وظيفة المجتهد لا يتوقف على فعلية
الموضوع خارجا، ومن ثم يتمسك الفقيه في حرمة وطئ الحائض بعد انقطاع
الدم قبل الاغتسال بالاستصحاب، مع عدم تحقق الموضوع خارجا.
وفيه: أنه مع عدم فعلية الموضوع يعلم بعدم التكليف، فلا معنى
لاستصحابه بعد الوقت مع الشك، بل المتعين استصحاب عدمه وإجراء
المجتهد للاستصحاب في الاحكام الكلية إنما هو بمعنى حكمه بأن وظيفة من
يفرض في حقه فعلية الموضوع والقطع بالتكليف هو البناء على بقائه، لا الحكم
فعلا بالبقاء في حقه مع عدم فعلية الموضوع في حقه، كما في المقام، فإنه خارج
425

عن مفاد الاستصحاب، كما أطال في توضيح ذلك بعض مشايخنا. فراجع.
نعم، بناء على جريان الاستصحاب التعليقي يتجه الرجوع له في المقام،
فيقال: كان الباقي حين القدرة على الجزء لو دخل الوقت لوجب، فهو بعد التعذر
كذلك.
وكذا بناء على كون الوقت شرطا للواجب لا للوجوب، لفعلية الوجوب
حينئذ قبله، فيتجه استصحابه.
وعلى أحد هذين الوجهين يتجه التعميم من شيخنا الأعظم قدس سره.
لكن الوجهين ضعيفان في نفسيهما، مخالفان لمذهب بعض الأعاظم قدس سره.
هذا، ويظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره التمسك باستصحاب جزئية
المتعذر في حال التعذر، المقتضي لسقوط التكليف رأسا بالتعذر، وحكومته
على استصحاب التكليف لو فرض جريانه في نفسه.
وقد أطال في ذلك بما لا مجال لمتابعته فيه، لضعفه. فراجع.
وأما أصل البراءة فقد يتمسك له لنفي جزئية المتعذر أو شرطيته حال
تعذره، بدعوى: أن المقام من صغريات الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
ويندفع بأن الجزئية والشرطية ليستا من الاحكام المجعولة، بل هما
منتزعتان من وجوب المركب الذي أخذ فيه المشكوك، وهو مما يقطع بارتفاعه
بسبب التعذر، فلا معنى لجريان البراءة منه، وإنما الشك في حدوث وجوب
الباقي، ودليل البراءة لا يثبته، بل ينفيه.
بل لو فرض جريان البراءة من الجزئية والشرطية في نفسها فلا مجال له
في مثل المقام مما لا يكون له أثر إلا الالزام بالناقص، لمنافاته للامتنان الذي هو
مساق أدلة البراءة.
نعم، لو فرض العلم بتجدد القدرة في الوقت تعين البناء على الاكتفاء
بالناقص حال التعذر، للعلم بالتكليف حينئذ، إما بالأكثر الذي لا يحصل إلا في
426

آخر الوقت، أو بالأقل الميسور في تمامه، ومقتضى الأصل الاكتفاء بالأقل.
وكذا لو فرض حصول العلم الاجمالي بالتكليف بسبب وجوب القضاء
أو الكفارة، حيث يعلم إجمالا إما بوجوب الأقل في الوقت، أو بوجوب الكفارة
أو القضاء في خارجه.
وفي ما عدا ذلك حيث يشك في التكليف بالناقص فالأصل البراءة منه.
إلا أن يكون محكوما لقاعدة الميسور الآتية، أو للاستصحاب الذي تقدم الكلام
فيه.
هذا، ولا يخفى أن ذلك لا يختص بمحل الكلام، وهو الشك في عموم
الجزئية لحال التعذر، بل يجري في ما يشك في أصل جزئيته - كالاستعاذة في
الصلاة - لو فرض تعذره، فإن الشك في أصل جزئيته إنما يكون مجرى للبراءة
مع العلم بفعلية التكليف في الجملة، أما مع الشك في أصل التكليف لتعذر ما
يحتمل دخله فيه فالمتعين جريان البراءة منه.
إلا أن يكون محكوما لقاعدة الميسور - لو فرض جريانها فيه على تقدير
اعتباره - أو لاستصحاب التكليف لو فرض تجدد العجز في أثناء الوقت، حيث
يمكن معه استصحاب التكليف على ما هو عليه من الاجمال والتردد بين الأقل
والأكثر الذي عرفت أنه صالح للداعوية للأقل، أو يكون طرفا لعلم إجمالي
منجز، كما لو فرض وجوب القضاء أو الكفارة، على ما أشرنا إليه، أو فرض
تجدد التكليف بتعدد الوقائع، حيث يعلم حينئذ إما بالتكليف بالأقل في الواقعة
المقارنة للتعذر، أو بالتام في الوقائع الأخرى، إلى غير ذلك مما يجب الخروج
فيه عن مقتضى أصل البراءة، ولو لاه لكان هو المرجع في ذلك وفي ما نحن فيه.
فلاحظ.
427

المقام الثاني: في مقتضى القاعدة الثانوية بعد الفراغ عما تقدم من
التفصيل في المقام الأول.
ولا إشكال في الاكتفاء بالميسور في كثير من فروع الفقه في الصلاة
والحج وغيرهما، وإنما الاشكال في ثبوت عموم يقتضي الاكتفاء به يكون هو
المرجع عند الشك، وهو ما يسمى بقاعدة الميسور، التي وقع الكلام فيها بين
الأصحاب.
وعمدة ما يستدل به لها أمران:
الأول: دليل رفع الاضطرار، وما لا يطيقون ونحوهما، بدعوى: أن مقتضاه
سقوط جزئية المتعذر، المستلزم لبقاء التكليف بما عداه بعد فرض ثبوت
مقتضيه لولا التعذر.
لكن تقدم في الامر الثاني من الكلام في النقيصة السهوية أنه لا مجال
لاستفادة ذلك من حديث الرفع، وأن مفاده رفع التكليف بالتام، لا تشريع
التكليف بالناقص. فراجع، فإن المقامين من باب واحد.
ومنه يظهر ضعف الاستدلال بما دل على الحلية بالاضطرار والتقية، بناء
على عمومها للحلية الوضعية.
الثاني: بعض النصوص المتضمنة لوجوب الاتيان بالميسور، وهي ما عن
عوالي اللآلي عن النبي صلى الله عليه وآله: (إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم لما، وعن أمير
المؤمنين عليه السلام: (الميسور لا يسقط بالمعسور)، وعنه عليه السلام أيضا: (ما لا يدرك كله لا
يترك كله).
بدعوى: ظهورها في لزوم تبعيض العمل الارتباطي بحسب الميسور من
أجزائه وشرائطه، فتكون حاكمة على إطلاق دليل اعتبار الامر المتعذر الشامل
لحال تعذره لو فرض ثبوته.
وينبغي الكلام في هذه النصوص..
428

تارة: في السند.
وأخرى: في الدلالة.
أما السند فلا إشكال في ضعفه في جميعها، لعدم ذكر أصحابنا لها في
كتب الحديث المعروفة، وإنما ذكرت مرسلة في محكي عوالي اللآلي الذي هو
من الكتب المتأخرة عصرا غير المعروفة بالضبط وانتقاء الحديث المعتبر، بل
طعن فيه صاحب الحدائق مع ما هو المعلوم من حاله من عدم شدة اهتمامه
باسناد الاخبار.
قال في رد مرفوعة زرارة الواردة في تعارض الخبرين: (مع ما هي عليه
من الرفع والارسال، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في
نقل الاخبار والاهمال، وخلط غثها بسمينها، وصحيحها بسقيمها، كما لا يخفى
على من وقف على الكتاب المذكور)، وإنما ورد الأول مسندا في كتب العامة
على اختلاف مضامينه بما يأتي الإشارة إليه.
نعم، قال شيخنا الأعظم قدس سره في توجيه حجية هذه النصوص: (وضعف
إسنادها مجبور باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات، كما لا
يخفى على المتتبع).
وفيه: أن تمسك الأصحاب بها غير ثابت، وغاية الامر موافقتهم لها، وهي
لا تصلح للجبر ما لم يثبت اعتمادهم عليها وتسالمهم على الرجوع إليها، ولا
مجال له بعد عدم تعرض القدماء لها في مقام الاستدلال في ما أعلم، وإلا لما
اقتصر على نسبتها للكتاب المذكور مع ما هو عليه من الوهن.
بل لم يجروا عليها في كثير من فروع العبادات فضلا عن غيرها، كما
يشهد به تتبع حالهم في الصوم، والخمس، والزكاة، وكثير من فروع الحج
والصلاة، فإنهم وإن تنزلوا في كثير من الموارد عن بعض المراتب، كاستبدال
القيام بالجلوس في الصلاة، واستبدال المشي أو الركوب بالحمل في الطواف
429

والسعي، بل وعن بعض الاجزاء والشرائط رأسا كالسورة والطمأنينة، إلا أنهم لم
يتنزلوا عن كثير من الاجزاء والشروط، فلا مجال عندهم للتبعيض في ركعات
الصلاة أو بعض مناسك الحج، واشتهر عندهم عدم صحة الصلاة من فاقد
الطهورين.
فمن القريب جدا أن يكون اجتزاؤهم بالناقص في كثير من فروع الطهارة
والصلاة، والحج لعدم إطلاق دليل الامر المتعذر، أو لقرائن خاصة كالاجماع،
والسيرة، والأخبار الكثيرة الواردة في كثير من تلك الفروع، والتي قد يتعدى
الفقيه منها لفهم عدم الخصوصية لمواردها، أو لنحو ذلك مما لا مجال معه
لدعوى انجبار الأخبار المذكورة بعمل المشهور.
وأما الدلالة فهي لا تخلو عن قصور في الجميع.
أما الأول فلان (من) وإن كانت ظاهرة في التبعيض، إلا أن التبعيض قد
يكون بلحاظ الوحدة النوعية، فيكون البعض هو الفرد من الكلي، وقد يكون
بلحاظ الوحدة الاعتبارية بين الأمور الخارجية، فيكون البعض هو الجزء من
الكل، والأول راجع إلى التكرار في المأمور به، والثاني هو الذي ينفع في ما نحن
فيه، ولا مجال لحمل الاطلاق عليهما معا، لعدم الجامع العرفي بينهما بعد
اختلاف الجهة المصححة للتبعيض، كما لا مجال للحمل على الثاني ولا سيما
بعد احتياجه إلى نحو من العناية في فرض الشئ مركبا ذا أجزاء من دون إشعار
للكلام به، فإطلاق الشئ يناسب إرادة الأول.
هذا، مع أن قرب أخذه مما رواه العامة يناسب الحمل على الأول، فعن
مسلم والترمذي في صحيحيهما عن أبي هريرة أنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله
فقال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا. فقال رجل: أكل عام يا
رسول الله؟ فسكت صلى الله عليه وآله حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لو قلت: نعم،
لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم
430

بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فاتوا منه ما استطعتم،
وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه).
بل رواه النسائي بالسياق المذكور هكذا: (فإذا أمرتكم بشئ فخذوا به ما
استطعتم) فيكون أجنبيا عما نحن فيه جدا وصريحا في المعنى الأول.
ودعوى: أن الحمل على إرادة التكرار لا يناسب عمل الأصحاب ولا سيرة
المسلمين في الاكتفاء بالمرة، بل هو خلاف المقطوع به في المورد.
مدفوعة: بأن ذلك لا يصلح قرينة عرفية على الحمل على المعنى الثاني
بعد أن كان خلاف الظاهر في نفسه، بل لعل الأولى الحمل على الاستحباب.
بل هو الظاهر في نفسه مما سبق في رواية العامة، كما يناسبه ظهور كونه
تخفيفا في مقابل الامر بوجوب الحج في كل عام، وظهور الاستطاعة فيه في
العرفية التي لا تسوغ ترك الواجب.
كما أنه مقتضى الجمع بينه وبين ما عن عوالي اللآلي عن الشهيد عن ابن
عباس قال: (لما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله بالحج قام إليه الأقرع بن حابس: أفي كل
عام؟ فقال: لا، ولو قلت لوجب، ولو وجب لم تفعلوا، إنما الحج في العمر مرة
واحدة، فمن زاد فتطوع) (1) وحكي نحوه عن أبي داود والنسائي وأحمد
والحاكم في صحاحهم.
نعم، لابد من تقييده بما يكون مشروعا في نفسه بنحو الاستغراق، كالحج
والصدقة، فيكون مسوقا لبيان معنى ارتكازي عقلي، وهو حسن الاستزادة من
الخير والاكثار منه بحسب المستطاع، بعد فرض كونه خيرا لكونه انحلاليا، لا
لبيان سقوط الارتباطية بالتعذر الذي هو معنى تعبدي محض.
بل هذا هو الظاهر منه عرفا، ولذا يصدق بلا تكلف على مثل الصدقة

(1) مستدرك الوسائل باب: 3 من أبواب وجوب الحج حديث: 4.
431

بالمقدار الميسور، ومساعدة المؤمن ونحوهما. فتأمل جيدا.
وما ذكرناه أولى من دفع الاستدلال باحتمال كون (من) في المقام بمعنى
الباء، أو بيانية، أو زائدة.
لان ورود (من) بمعنى الباء وإن حكي عن يونس مستشهدا عليه بقوله
تعالى: (ينظرون من طرف خفي) (1)، لكن من القريب جدا كونها في الآية
ابتدائية لبيان المنشأ، نظير: جرى الماء من الميزاب، فكأن الطرف منشأ للنظر
ومصدره.
مع أنه لو سلم فهي بمعنى باء الاستعانة أو الآلة، لا باء التعدية، كما هو
المدعى في المقام.
كما أنه لا يبعد رجوع البيانية التي يراد بها جنس ما قبلها، نظير: خاتم من
حديد، إلى الابتدائية - التي لا مجال لها في المقام - أو التبعيضية، فكأن المراد
خاتم ناشئ من حديد، أو بعض منه.
مع أنها تختص بما إذا كان ما بعدها جنسا لما قبلها - كالمثال المتقدم -
دون مثل المقام مما وقعت فيه بين الفعل ومتعلقه، إذ لم يعهد إرادة الجنس منها
حينئذ، كي يكون المراد هنا: إذا أمرتكم بشئ فحققوا نوعه ما استطعتم.
وأما زيادة (من) في غير ما إذا كان مدخولها نكرة مسبوقة بنفي أو نهي،
فهو وإن قيل في مثل قوله: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) (2) إلا أن
الظاهر رجوعها فيه للتبعيضية، وأن المراد الامر بانقاص النظر، إما بلحاظ المرتبة
في مقابل الاشباع وملء العين، أو بلحاظ المنظور، لان المنهي عنه هو النظر
لبعض الأشياء كالأجنبية.

(1) سورة الشورى: 45.
(2) سورة النور: 30.
432

وربما احتمل كونها لابتداء الغاية، وإن كان لا يخلو عن بعد.
وكيف كان، فزيادتها في الآية بعيدة، وفي الحديث أبعد، لان (أتى) لا
تتعدى للمأتي به بنفسها.
فالظاهر أنها في الحديث للتبعيض، وأن التبعيض بلحاظ الوحدة النوعية،
كما ذكرنا.
وأما الثاني فلظهوره في رفع احتمال سقوط الميسور بعد فرض ثبوت
مقتضيه، لبيان قضية ارتكازية عقلائية، لا التصرف في أصل الجعل، بنحو يكون
ناظرا لأدلته الأولية وشارحا لها، ومبينا لحال الاجزاء وأنها ناشئة عن مقتضيات
متعددة لا يوجب سقوط بعضها بالتعذر سقوط الآخر، ليكون حاكما على الأدلة
الأولية الظاهرة في الارتباطية في مقام السقوط.
وبعبارة أخرى: وجوب الناقص بعد سقوط التام.
تارة: يكون بملاك كونه بدلا عنه وتداركا له، نظير وجوب الفدية مع
تعذر الصوم.
وأخرى: لقيام الملاك بالكل بنحو الانحلال وتعدد المطلوب، بحيث
يكون كل جزء منه وافيا بمرتبة من الملاك القابلة للاستيفاء عند تعذر الباقي.
والأول لا يناسب التعبير بالسقوط الظاهر في تحقق مقتضي الثبوت
للميسور مع قطع النظر عن تعسر المعسور.
والثاني وإن كان مناسبا للتعبير المذكور، إلا أن الظاهر من الحديث
الإشارة إلى الكبرى الارتكازية إرشادا لها، لا لبيان تحقق صغراها تعبدا، لشرح
حال التكاليف بالمركبات على خلاف ظاهر أدلتها الأولية في الارتباطية.
نعم، لو كان واردا في خصوص مورد المركبات الظاهرة أو الموهمة
للارتباطية كان ظاهرا في شرح حالها.
لكن المفروض عدم المورد للحديث بنحو يكون صارفا لظهوره في
433

محض بيان الكبرى المذكورة، نظير ما تقدم في الجواب عن الاستدلال لوجوب
الاحتياط في الشبهات البدوية بروايات النهي عن ارتكاب الشبهة. فراجع.
هذا، ولكن قد يقال: فرض السقوط في الميسور ليس بلحاظ سبق ثبوت
الملاك له - وإلا لامتنع تطبيقه على الجزء بعد فرض الارتباطية في حال تيسر
التام، لقيام الملاك بالتام حين تيسره، لا بكل جزء جزء، وقيام الملاك بالناقص
إنما يكون بعد التعسر - بل بلحاظ سبق التكليف به، وهو كما يصح بلحاظ سبق
التكليف الاستقلالي به، كالصلاة مع تعسر الصوم، كذلك يصح بلحاظ سبق
التكليف الضمني به ضمن التكليف بالمركب، حيث يصح أن يقال: لا يسقط
التكليف بالجزء بسبب تعذر بقية الاجزاء.
لكن فيه.. أولا: أن فرض السقوط بلحاظ سبق التكليف وإن كان مقبو لا
غير مستهجن، إلا أن الأظهر مع عدم القرينة حمله على كونه بلحاظ ثبوت
المقتضي له لدفع توهم المانع عن تأثيره، كما ذكرناه آنفا.
وثانيا: أن الامر حينئذ يدور بين الحمل على سقوط التكليف بالميسور
بعد سبق التكليف الاستقلالي به، لاستقلاله بالملاك، فيكون إرشادا إلى الكبرى
الارتكازية التي هي أجنبية عما نحن فيه، والحمل على سقوط التكليف به بعد
سبق التكليف الضمني به لبيان قضية تعبدية محضة تنفع في ما نحن فيه،
وتحكم على الأدلة الأولوية المقتضية للسقوط. ولا جامع بينهما، لعدم الجامع
بين الامر الارشادي والتعبدي المولوي، كما نبه له بعض مشايخنا.
بل يتعين الحمل على الأول، لان انس الذهن بالقضية الارتكازية يوجب
انصرافه إليها من الكلام بنحو يحتاج خلافه إلى تنبيه وقرينة، فترك المتكلم
لذلك قرينة عامة على إرادة ما ينصرف إليه الذهن بطبعه. بل لعل ذلك موجب
للانصراف حتى مع فرض إمكان شمول الاطلاق للامرين.
وما قيل: من أن الأصل في بيانات الشارع المولوية لا الارشاد.
434

إنما هو في ما إذا علم المراد من الكلام، وشك في صدوره بداعي الارشاد
أو المولوية، كما لو دار الامر بينهما في بعض الأوامر والنواهي في بعض الأمور
التي يحتمل صدورها للارشاد إلى آثارها الوضعية، لا للمولوية، وكما قيل في
أوامر الاحتياط في الشبهة البدوية.
أما مع تردد معنى الكلام بين أمرين أحدهما ارتكازي قد أنس به الذهن
فالمتعين الحمل عليه، وإن لزم منه الارشاد.
هذا، مضافا إلى أن المنصرف من عدم السقوط هو البقاء بالنحو الذي كان
ثابتا سابقا، فكما يكون بقاؤه بالتكليف به استقلالا يكون المفروض ثبوته سابقا
بالوجه المذكور، لا في ضمن التكليف بالكل، كما لعله ظاهر بالتأمل.
ودعوى: إشعار الحديث بالارتباطية بين المعسور والميسور، بنحو يصح
الردع عن توهم سقوط الثاني تبعا للأول، إذ مع عدم الارتباطية بينهما لا منشأ
للتوهم المذكور، ليحسن الردع عنه.
مدفوعة: بأن ذلك لا يتوقف على الارتباطية بينهما شرعا، بل يكفي فيه
الارتباط بينهما في مقام العمل، بسبب الارتباط بينهما في حدوث الداعي لهما
في نفس الفاعل، لكون أحدهما من شؤون الآخر الموجبة لكماله واعتداده به،
وإن لم يكن قيدا فيه شرعا، فلا يصلح ذلك للخروج عما ذكرنا.
فالمتعين حمل، الحديث الشريف على إرادة التكاليف المفروغ عن كونها
انحلالية بلحاظ الميسور، من مراتبها الفاقد لبعض الاجزاء أو الخصوصيات
الكمالية، ردعا عما قد يقع من كثير من الناس، بل أكثرهم، من التسامح عن
الميسور حينئذ لعدم الاعتداد به، كما نشاهده في كثير من أعمال الخير التي
يتركها الناس رأسا، لعدم تيسرها بالمراتب المعتد بها بنظرهم، فمن لا يستطيع
إشباع جائع لا يعينه بتمرة، ومن لا يستطيع صلاة النافلة من قيام لا يغتنمها في
حال الجلوس أو المشي، معتذرا بالمعسور غافلا عن اغتنام الميسور.
435

ومنه يظهر الحال في الثالث، فإن من القريب جدا حمله على الارشاد
للقضية الارتكازية المذكورة بعد الفراغ عن انحلال التكليف، لا على بيان حال
التكاليف الواقعية تعبدا وشرحها على خلاف ظاهر أدلتها الأولية في الارتباطية،
لتكون حاكمة على تلك الأدلة.
ولذا كان المرتكز شموله - كالثاني - للمرتبة القليلة بعد فرض الانحلالية،
كشق التمرة بالإضافة إلى إشباع الفقير، مع أن قاعدة الميسور مختصة عندهم بما
إذا كان الميسور معتدا به من المركب، فلو لا كون الحديثين لبيان قضية ارتكازية
آبية عن التخصيص لكان اللازم البناء على قصورهما عن ذلك بعد فرض
الاجماع على قصور القاعدة التي هي تعبدية محضة. فتأمل.
وقد تحصل: أنه لا مجال لاثبات عموم قاعدة الميسور من حديث الرفع
ونحوه، ولا من النصوص المتقدمة، بعد قصورها دلالة وسندا.
فلا مجال بعد ذلك للكلام في عمومها للمستحبات، وللشروط، وغير
ذلك مما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره وغيره.
نعم، المعنى الارتكازي الذي تقدم حمل النصوص عليه لا إجمال فيه،
وهو شامل للامرين. والله سبحانه وتعالى العالم، والحمد لله رب العالمين.
436

المقام الثاني
في دوران التكليف بين التعييني والتخييري
والمراد التخيير الشرعي الراجع إلى أخذ خصوصية كل من أطراف
التخيير في المكلف به شرعا، كما في الكفارة المخيرة، لا التخيير العقلي،
الراجع إلى التكليف شرعا بالماهية، المقتضي لتخيير العقل بين أفرادها، لعدم
الفرق بينها في تحصيل الغرض، لان الكلام في ذلك قد سبق في المسألة الثانية
من المقام الأول.
وينبغي التمهيد لمحل الكلام بأمور..
الأول: أن التخيير..
تارة: يكون في الحكم الواقعي في مقام الجعل والتشريع، لقصور الملاك
عن اقتضاء كل طرف معينا، كالتخيير في خصال الكفارة.
وأخرى: يكون في الحكم الواقعي، لكن في مقام الامتثال، للتزاحم بين
التكليفين، المقتضي لتعيين الأهم منهما، والتخيير بينهما مع عدم الأهمية.
وثالثة: يكون في الحكم الظاهري، كالتخيير بين الحجج في مقام
التعارض لو فرض قيام الدليل عليه.
ومحل الكلام هو الأول، لمناسبته لباب الأقل والأكثر الارتباطيين، الذي
فرض فيه الشك في اعتبار خصوصية في المكلف به بنحو لا يعلم بالامتثال
وتحقق شئ من الغرض الا مع المحافظة عليها، فما هو المتيقن في مقام
الامتثال لا يعلم بأخذه في مقام الجعل.
437

أما الثاني فمرجع الدوران بين التعيين والتخيير فيه إلى الشك في حال
نفس التكليفين لاحتمال أهمية أحدهما بعينه من دون إجمال في المكلف به،
مع العلم بأن موافقة كل منهما محصلة لغرضه، لعدم الارتباطية.
كما أن الدوران بينهما في الثالث لا يرجع إلى الشك في خصوصية
التكليف بوجه، بل في حال طريقه.
نعم، يحسن التعرض لهما استطرادا بعد الفراغ عن محل الكلام في تنبيه
يعقد لذلك إن شاء الله تعالى.
الثاني: صور الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي كثيرة، إلا أن ما
يناسب المقام هو ما لو علم بفعلية التكليف بشئ وشك في كون التكليف به
تعيينيا فلا يتحقق الامتثال إلا به، أو تخييريا لان له عدلا يمكن امتثال التكليف
به، كما لو دار الامر في الكفارة بين المخيرة والمرتبة، لاشتراكه مع مبحث
الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين في وجود المتيقن في مقام الامتثال الذي
يشك في اعتباره في مقام الجعل.
بخلاف بقية الصور، فمثلا لو دار الامر بين التكليف التخييري بأحد أمور
والتكليف التعييني بكل منهما - كما لو دار الامر بين كفارة الجمع والمخيرة -
يكون كل منها صالحا للامتثال ومحصلا للغرض في الجملة وإن لم يحرز به
تمام الغرض، نظير الدوران بين الأقل والأكثر غير الارتباطيين، وكذا الحال في
غيرها من الصور التي يأتي التعرض لها بعد الفراغ عن محل الكلام في تنبيهات
المسألة إن شاء الله تعالى.
الثالث: الكلام في هذه المسألة يختلف باختلاف المباني في - حقيقة
الوجوب التخييري حيث اختلف في ذلك على أقوال..
الأول: التكليف بالجامع بين الخصوصيات تعيينا، إلا أن الجامع المذكور
لما لم يكن عرفيا تعينت الإشارة إليه بأفراده في مقام بيان التكليف به.
438

الثاني: التكليف بكل منها تعيينا مع كون امتثال أحدها مسقطا للباقي،
لتعذر استيفاء ملاكها معه وإن كان فعليا.
الثالث: التكليف بكل منها تعيينا لكن مشروطا بعدم فعل الآخر، فهو
يرجع إلى تكاليف مشروطة، لا تكليف واحد مطلق.
الرابع: التكليف التعييني بأحد الأطراف المعين عند الله تعالى.
الخامس: سنخ خاص من التكليف، مخالف للتكليف التعييني يتعلق
بكل طرف طرف، لا يقتضي الاتيان به إلا في ظرف عدم الاتيان بغيره، فهو
يتعدد بتعدد الأطراف. وإليه قد يرجع ما قيل من أنه طلب ناقص ناشئ عن إرادة
ناقصة.
السادس: التكليف بأحد الأطراف، على تفصيل يأتي الكلام فيه، لابتناء
الكلام عليه، لأنه المختار دون الوجوه السابقة.
هذا، ولا ريب في رجوع الشك في المقام على الأول إلى الدوران بين
التعيين والتخيير العقلي، الذي تقدم في المسألة الثانية في المقام الأول أن
المرجع فيه البراءة.
ومجرد الجهل بحدود العنوان المفهومية وانحصار معرفته بأفراده لا
يصلح فارقا بعد صلوحه بنفسه للتكليف.
كما أنه يرجع على الثاني إلى الشك في المسقط الذي يكون المرجع فيه
الاشتغال.
وعلى الثالث إلى الشك في التكليف الاستقلالي في حال الاتيان بالطرف
المشكوك، الذي يكون المرجع فيه البراءة.
وعلى الرابع إلى الشك في الامتثال، الذي هو مورد الاشتغال.
وأما على الخامس فمقتضى العلم الاجمالي بثبوت تكليف تعييني واحد
في المتيقن، أو تكاليف تخييرية بعدد الأطراف هو الاحتياط والعمل على
439

التعيين، لعدم إحراز الفراغ لا - وله.
ودعوى: أن وجود المتيقن في البين، وهو عدم جواز ترك المتيقن لا إلى
بدل اللازم لكلا طرفي العلم الاجمالي، يقتضي حل العلم الاجمالي المذكور،
والاقتصار على ذلك الراجع إلى التخيير.
مدفوعة: بأن المتيقن المذكور ليس متيقنا في مقام الجعل بنحو تكون
موافقته موافقة قطعية للتكليف المتيقن، لينهض بحل العلم الاجمالي، بل هو من
شؤون إطاعة التكليف، وليس المجعول إلا الطلب بأحد الوجهين من دون
متيقن في البين، فالاقتصار على عدم ترك المتيقن لا إلى بدل لا يوجب إلا ترك
المخالفة القطعية للعلم الاجمالي، من دون أن يستوجب الموافقة القطعية
لتكليف متنجز ينحل به العلم الاجمالي.
نعم، بناء على رجوع الوجه المذكور إلى أن التكليف التخييري طلب
ناقص ناشئ عن إرادة ناقصة قد يتجه الانحلال، للعلم التفصيلي بالمرتبة
الناقصة في المتيقن التي يكفي في إطاعتها وعدم مخالفتها عدم تركه لا إلى بدل،
والشك البدوي في المرتبة الزائدة التي يتم بها الطلب ويكون تعيينيا، وهي
مدفوعة بالأصل.
ودعوى: حصول العلم الاجمالي إما بتحقق المرتبة التامة من الطلب في
المتيقن، أو بتحقق المرتبة الناقصة منه في بقية الأطراف، فتحقق المرتبة الناقصة
في المتيقن ليس تمام المتيقن، لينهض بحل العلم الاجمالي، بل بعضه، نظير ما
لو علم إجمالا إما بوجوب إكرام كل من زيد وعمرو بدرهم، أو بوجوب إكرام
زيد بدرهمين، فإن وجوب إكرام زيد بدرهم وإن كان متيقنا، لكنه لما لم يكن
تمام المتيقن لم ينهض بحل العلم الاجمالي.
مدفوعة: بعدم الأثر للتكليف الناقص في بقية الأطراف زائدا على ما
يقتضيه المعلوم بالتفصيل، وهو المرتبة الناقصة في المتيقن، وذلك مانع من
440

منجزية العلم الاجمالي المذكور.
هذا، ولكن بعض الأعيان المحققين قدس سره مع اختياره لهذا الوجه في حقيقة
الوجوب التخييري جزم بوجوب الاحتياط هنا، للعلم الاجمالي إما بوجوب
المتيقن تعيينا بنحو لا يجوز الاكتفاء بالعدل أو وجوب العدل تخييرا، بنحو
يجب الاتيان به عند تعذر المتيقن لاضطرار ونحوه.
وهو كما ترى! إنما يتم إذا فرض تعدد الواقعة وعلم بالابتلاء بتعذر
المتيقن في بعضها، حيث يحصل العلم الاجمالي التدريجي بأحد الامرين، أما
مع وحدة الواقعة أو تعددها مع عدم العلم بالتعذر في بعضها، فلا مجال لفرض
العلم الاجمالي المذكور، ليخرج به عن أصل البراءة. فلاحظ.
والامر غير مهم بعد ما أشرنا إليه من عدم تمامية الوجه المذكور، وأن
الحقيق هو الوجه الأخير، فاللازم ابتناء الكلام في المقام عليه، كما جرى عليه
غير واحد.
إذا تمهد ذلك فقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن المرجع في المقام هو
الاحتياط، لان التعيينية وإن كانت موجبة للضيق، إلا أنها ليست أمرا وجوديا
مجعولا ولو بالتبع، بل هي منتزعة من عدم جعل العدل، ومن الظاهر أن جعل
العدل محتاج إلى مؤنة زائدة لا يقتضيها دليل البراءة، فكما يكون التخيير
محتاجا إلى مؤنة بيان العدل في مقام الاثبات، ولذا كان خلاف إطلاق الامر،
كذلك هو محتاج إلى مؤنة جعل العدل في مقام الثبوت، ولا مجال مع ذلك
لاثباته بأدلة البراءة، كحديث الرفع ونحوه، بل لولا ورودها في مقام الامتنان
لنهضت برفعه، بل يتعين العمل على التعيين، لوجوب إحراز الفراغ عن
التكليف المعلوم في البين.
وفيه: أن كون التخيير محتاجا إلى مؤنة بيان العدل في مقام الاثبات، ولذا
كان منفيا بالاطلاق، لا يستلزم احتياجه إلى مؤنة زائدة في مقام الثبوت، بنحو لا
441

ينهض به الأصل، للفرق بين المقامين بأن التخيير مبني على نحو من التقييد في
الامر بالإضافة إلى أحد الطرفين بخصوصه، وهو خلاف ظاهر الاطلاق في مقام
الاثبات، أما في مقام الثبوت والجعل فكل من التعيين والتخيير مبني على نحو
من الجعل في قبال الآخر، وليس التخيير متقوما بقيد وجودي زائد على التعيين،
ليكون مبنيا على كلفة زائدة في مقام الثبوت، فلو فرض كون أحد الجعلين
مستلزما لزيادة في التكليف أمكن دفعه بالأصل.
نظير تقييد التكليف بقيد خاص كالوقت، حيث يكون احتماله مطابقا
للأصل مخالفا للاطلاق.
ومنه يظهر ضعف التمسك لاثبات التعيينية بأصالة عدم جعل العدل،
لتوقفه على تركب الوجوب التخييري من التكليف وجعل العدل، وتركب
الوجوب التعييني مفهوما من التكليف وعدم جعل العدل، لتكون أصالة عدم
جعل العدل نافية للأول محرزة للثاني، وقد أشرنا إلى منع ذلك، فالأصل
المذكور - مع معارضته بأصالة عدم الوجوب التعييني - من صغريات الأصل
المثبت.
فالذي ينبغي أن يقال: إن المدار في المقام على وجود المتيقن في مقام
الجعل الصالح للتنجيز والموافقة القطعية، لينحل به العلم الاجمالي، وعدمه.
وقد ادعى بعض مشايخنا وجود المتيقن في البين، وهو التكليف
بأحدهما بعنوانه الانتزاعي الذي يقطع بموافقته بكل طرف، وأن الشك إنما هو
في التقييد بالخصوصية، والمرجع فيه البراءة، كما هو الحال في الدوران بين
التعيين والتنجيز العقلي، الذي يكون الشك فيه في أخذ الخصوصية زائدا على
العنوان المتيقن التكليف.
أقول: من الظاهر أن عنوان أحد الامرين ليس منتزعا من خصوصية فيهما
مشتركة بينهما تصلح للتكليف، بل من نفس الخصوصيتين على ما هما عليه من
442

التباين، فهو لا يحكي عنهما إلا كذلك، ولذا لا يكون الاتيان بكل منهما مصاحبا
لخصوصية زائدة على المطلوب خارجة عنه، كما هو الحال في مورد التخيير
العقلي، حيث تكون الخصوصية خارجة عن المطلوب.
ومن ثم ذكرنا في محله أن الوجوب التخييري عبارة عن التكليف
بمصداق أحد الامرين بنحو الترديد والبدلية، وليس العنوان إلا حاكيا محضا
عنهما ولذا قد يستبد ل - بل هو الشايع - بالعطف بأو التي لا تحكي إلا عن معنى
حرفي لا يكون موردا للتكليف.
بل قربنا هناك أن ذلك هو مراد القائل بتعلقه بمفهوم أحدهما، وأن
الخلاف بين القولين أشبه بالخلاف اللفظي.
وعليه ليس الفرق بين الوجوب التعييني والتخييري إلا في كيفية تعلق كل
منهما بمتعلقه، فالتعييني متعلق بالجامع الصالح للامتثال بالافراد المتكثرة،
والتخييري متعلق بالأطراف رأسا على ما هي عليه من التباين.
إذا عرفت هذا، ظهر أنه لا مجال لدعوى وجود المتيقن في المقام، وهو
التكليف بالجامع الذي هو عنوان أحد الامرين، إذ لا معنى لتعلقه به مع فرض
التعيين، لعدم كون الخصوصية قيدا زائدا في العنوان المذكور بل هي بنفسها
مورد للتكليف التعييني.
كما أن الجامع المذكور ليس منتزعا من أمر في الخصوصية يجب ضمنا
بتبعها، ليدعى وجوبه على كل حال في فرض التردد بين التعيين والتخيير، بل لا
يؤخذ الجامع المذكور إلا في ظرف الحاجة إليه، للحكاية عن كلتا الخصوصيتين
اللتين هما موضوع التكليف التخييري، بل لم يؤخذ في الغالب، حيث أشير
للخصوصيتين بوجه آخر، كالعطف بأو، وغيره.
وبالجملة: لا مجال لدعوى وجود المتيقن في مقام الجعل الصالح
للموافقة القطعية، لينحل به العلم الاجمالي المفروض، ويتجه الرجوع للبراءة
443

من التعيين.
نعم، لو أمكن دعوى: أن وجود المتيقن في مقام العمل كاف في سقوط
العلم الاجمالي عن المنجزية وإن لم ينحل بذلك، لعدم المتيقن في مقام الجعل،
اتجه الرجوع للبراءة في المقام، لكون ترك المتيقن - كالعتق - لا إلى بدل معصية
تفصيلية للتكليف المعلوم بالاجمال يقتضي كلا طرفي الترديد المنع عنها، فهي
متنجزة بحكم العقل على كل حال، وإن لم يلزم من تجنبها بفعل البدل موافقة
قطعية لتكليف متيقن يصلح لحل العلم الاجمالي.
إن قلت: لازم ذلك الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية للعلم الاجمالي في
المتباينين، فإن ترك امتثال كلا الطرفين - كترك القصر والتمام - معصية قطعا يلزم
تجنبه في مقام العمل على كلا وجهي التريد، فلو كان ذلك مسقطا للعلم
الاجمالي عن المنجزية في غير المتيقن لزم جواز المخالفة الاحتمالية بترك
أحدهما لاغير.
قلت: ترك كلا الطرفين في ذلك مخالفة إجمالية لا تفصيلية، للعلم
بانطباق المعصية على خصوص أحدهما المردد، فتنجزهما معا فرع منجزية
العلم الاجمالي للتكليف الواقعي على ما هو عليه، المستلزم لوجوب الموافقة
القطعية، بخلاف المقام، فإن ترك المتيقن لا إلى بدل بنفسه مخالفة تفصيلية
للمعلوم بالاجمال لابد من تجنبها على كل حال - حتى لو قيل بعدم منجزية
العلم الاجمالي رأسا - فلو تمت دعوى مانعيته من منجزية العلم الاجمالي
للتكليف الواقعي على ما هو عليه لم يبق منجز لاحتمال المخالفة بتركه إلى بدل
التي هي مقتضى التعيين، وتعين الاكتفاء بالعمل على التخيير، ولا مجال لقياس
الدوران بين المتباينين عليه.
لكن الدعوى المذكورة في المقام لا تخلو عن خفاء، فالامر في غاية
الاشكال.
444

وإن كان مقتضى الأصل مع الشك في منجزية العلم الاجمالي في مثل
ذلك هو عدم المنجزية، كما تقدم في مسألة الشك في الابتلاء. فلاحظ. والله
سبحانه وتعالى العالم، وهو ولي العصمة والسداد.
وينبغي التنبيه على أمور..
الأول: لو تعذر المتيقن عند الدوران بين التعيين والتخيير فهل الأصل
يقتضى البراءة وعدم وجوب ما يحتمل كونه عدلا، أو الاحتياط بالاتيان به؟
كما لو تعذر العتق، وقد تردد بين أن يكون واجبا تخييريا عدله الصدقة،
فتتعين بتعذره وأن يكون واجبا تعيينيا يسقط التكليف بتعذره ولا يقوم مقامه
شئ.
لا يخفى أن في المقام صورتين..
الأولى: أن يكون التعذر قبل فعلية التكليف المردد.
ولا ينبغي الاشكال في جريان البراءة من التكليف بما يحتمل كونه عدلا،
من دون فرق بين المباني في حقيقة التكليف التخييري، وفي مقتضى الأصل
عند الدوران بينه وبين التعييني، لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في حدوث
التكليف رأسا.
نعم، لو فرض كونه طرفا لعلم إجمالي منجز امتنع الرجوع للبراءة، على
ما تقدم في نظيره عند الكلام في تعذر الجزء، كما لو كان لازم الوجوب التعييني
وجوب القضاء أو الكفارة أو البدل الاضطراري أو نحوها، حيث يعلم حينئذ إما
بوجوب أحدها أو وجوب ما يحتمل كونه عدلا.
وكذا لو فرض تعدد الواقعة مع القدرة على المتيقن في بعضها، بناء على
أن المرجع عند الدوران بين التعيين والتخيير مع القدرة البراءة، حيث يعلم
إجمالا إما بوجوب المتيقن تعيينا في مورد القدرة عليه أو بوجوب العدل في
مورد تعذره.
445

وأما بناء على أن المرجع عند الدوران بينهما الاحتياط بالعمل على
التعيين فلا أثر للعلم الاجمالي المذكور، لتنجز بعض أطرافه على كل حال.
الثانية: أن يكون التعذر بعد فعلية التكليف المردد.
وربما يدعى هنا وجوب الاحتياط بالاتيان بما يحتمل كونه عدلا بناء
على وجوب الاحتياط عند الدوران بين التعيين والتخيير، لفرض عدم انحلال
العلم الاجمالي وتنجزه، فيلحقه حكم تعذر البعض المعين من أطراف العلم
الاجمالي بالتكليف بعد حصوله، الذي تقدم في التنبيه الرابع من الفصل الثالث
أن اللازم فيه الاحتياط.
وفيه أنه لا معنى لتنجز احتمال الوجوب التخييري حين العلم بالتكليف
بناء على وجوب الاحتياط عند الدوران بين التعيين والتخيير، ليلحقه حكم
تعذر بعض أطراف العلم الاجمالي بعد تنجزه، لان مفاده السعة غير القابلة
للتنجز.
بل ليس المنجز إلا احتمال الوجوب التعييني المفروض سقوطه بطروء
التعذر، ووجوب ما يحتمل كونه عدلا بعد التعذر محتاج إلى منجز جديد، وهو
مفقود في المقام.
نعم، لو فرض علم المكلف بطروء التعذر قبل طروئه تحقق له علم
إجمالي تدريجي إما بوجوب المبادرة إلى المتيقن قبل تعذره، أو بوجوب فعل
البدل بعد التعذر، فيلزم الخروج عن العلم الاجمالي المذكور، بخلاف ما إذا كان
غافلا عن التعذر، إذ لا يحصل له العلم الاجمالي إلا بعد التعذر، فلا يصلح
للتنجيز، لخروج أحد طرفيه بالتعذر عن الابتلاء.
وأما بناء على الرجوع للبراءة من التعيين عند الدوران بينه وبين التخيير،
فإن كان الوجه في ذلك دعوى انحلال العلم الاجمالي بوجود المتيقن في مقام
الجعل لرجوعه إلى الدوران بين الأقل والأكثر - كما تقدم من بعض مشايخنا -
446

اتجه إلحاق المقام بالمسألة المذكورة، وقد تقدم عند الكلام في تعذر الجزء
الإشارة إلى أن طروء تعذر ما يشك في جزئيته في أثناء الوقت لا يرفع وجوب
الناقص، عملا باستصحاب وجوبه على ما هو عليه من الترديد والاجمال
الصالح لتنجيزه.
وإن كان الوجه في ذلك ما أشرنا إليه من احتمال كون وجود المتيقن
تفصيلا في مقام العمل - وهو حرمة ترك المتيقن لا إلى بدل - مسقطا للعلم
الاجمالي عن المنجزية اتجه الرجوع للبراءة إذ لا مجال لاستصحاب المتيقن
في مقام العمل لعدم كونه حكما شرعيا مجعولا، لفرض كونه متيقنا في مقام
الامتثال، لا في مقام الجعل، فهو قبيح عقلا بملاك كونه معصية تفصيلية، فمع
فرض احتمال سقوط التكليف بسبب التعذر يتوقف وجوب المتيقن المذكور
عقلا على فرض منجز للتكليف، ولا منجز له في المقام، لعدم جريان
استصحاب التكليف المعلوم بالاجمال مع العلم بسقوط بعض أطرافه تفصيلا.
على ما تقدم نظيره في التنبيه الرابع من الفصل الثالث، كما لا يصلح العلم
الاجمالي لتنجيز، لما ذكرناه آنفا. فتأمل جيدا.
التنبيه الثاني: إذا علم بوجوب شئ وبسقوطه بفعل آخر، وتردد ذلك
الواجب بين أن يكون عدلا له، لوجوبهما تخييرا، وأن يكون مسقطا له مع كون
وجوبه تعيينا، كالطلاق المسقط لوجوب الانفاق، فمن الظاهر أنه لا أثر للشك
المذكور مع القدرة على ما هو معلوم الوجوب، للعلم بإجزائه وإجزاء الآخر عنه
على كل حال، وإنما يظهر اثره فيما لو فرض تعذره، حيث يجب الآخر على
تقدير كونه عدلا في الوجوب التخييري، دون ما إذا كان مسقطا له، إذ لا يجب
فعل المسقط.
ومن الظاهر أن المرجع في ذلك البراءة، لعدم المنجز لوجوب ما يشك
في كونه عدلا.
447

هذا، وربما يدعى وجوب فعل المسقط عند تعذر امتثال التكليف عقلا،
لان رفع موضوع الملاك بفعل المسقط أولى عقلا من فوته بالتعذر بعد تحقق
موضوعه، ومقتضى ذلك وجوب فعل ما يحتمل كونه عدلا في المقام، لتردده
بين الواجب والمسقط.
وفيه: أن فوته بالتعذر حيت لم يكن باختيار المكلف، فلا موضوع معه
للأولوية المذكورة، لسقوط التكليف المانع من تحقق المخالفة، بل ليس
المدعى إلا وجوب فعل المسقط فرارا عن فوت الملاك بالتعذر، وهو غير
ظاهر.
نعم، لو فرض عدم سقوط التكليف رأسا، لعدم تعذره، وإنما يتعذر
موافقته القطعية، للدوران بين محذورين ونحوه، لم يبعد وجوب فعل المسقط
فرارا من المخالفة الاحتمالية، كما في موارد الاحتياط الوجوبي في النكاح
حيث لا يبعد وجوب الطلاق فرارا عن المخالفة الاحتمالية بالإضافة إلى
الاحكام الالزامية للزوجية وعدمها، التي لا يمكن فيها الاحتياط، كوجوب الوطئ
كل أربعة أشهر، كما أشار إلى ذلك سيدنا الأعظم قدس سره في المسألة الثانية عشرة من
فصل العقد وأحكامه من كتاب النكاح من المستمسك.
لان المخالفة الاحتمالية اختيارية للمكلف، فمن القريب جدا منع العقل
منها عند تيسر فعل المسقط من جهة الأولوية المذكورة.
وأظهر من ذلك ما لو كان التعذر مستندا لاختيار المكلف، لتعجيزه
لنفسه، بنحو يكون مؤاخذا بالمخالفة، كما لو عجز الجنب نفسه عن الغسل ليلا
في شهر رمضان، واستطاع السفر قبل الفجر، حيث لا ينبغي الريب في وجوبه
عليه عقلا، دفعا لضرر العقاب. فتأمل جيدا.
هذا، وقد يبنى على ما نحن فيه مسألة وجوب الاتمام على من عجز عن
القراءة، بدعوى الشك في كون الائتمام مستحبا مسقطا للقراءة مع وجوبها
448

تعيينا، فلا يجب بتعذرها، أو واجبا مخيرا بينه وبين الصلاة فرادى مع القراءة،
فيجب بتعذرها.
لكن لا يخفى أن المبنى المذكور يختص بالواجبات الاستقلالية التي
يكون تعذرها موجبا لسقوط التكليف التعييني بها، بحيث يحتمل عدم تحقق
الامتثال مع الاتيان بالمسقط، كالانفاق والطلاق، دون مثل القراءة مما يجب
ضمنا، ولا يكون تعذره موجبا لسقوط التكليف بالمركب، بل لا إشكال في
إمكان امتثاله مع الائتمام، فإن إسقاط الائتمام للقراءة - إما لكونه رافعا
لموضوعها، أو لتنزيل قراءة الإمام منزلة قراءة المأموم - لا ينافي كون الصلاة
الواقعة حال الائتمام من أفراد الصلاة التامة الصالحة للامتثال، ولذا لو فرض
عدم مشروعية صلاة الفرادى من دون قراءة فلا ريب في وجوب الصلاة
جماعة، كما تجب لو فرض تعذر صلاة الفرادى مع القدرة على القراءة.
فالذي ينبغي أن يقال: لا إشكال في مشروعية الصلاة بلا قراءة للمنفرد
في حال تعذر القراءة وفرديتها للصلاة الواجبة في الجملة، كفردية الصلاة
جماعة أو الصلاة فرادى مع القراءة من القادر.
وحينئذ فإن كان موضوع مشروعيتها مجرد تعذر القراءة منه اتجه عدم
وجوب الائتمام، لفرديتها في الحال المذكور في عرض صلاة الجماعة، فيتعين
التخيير بينهما.
وإن كان موضوعها تعذر الصلاة التامة عليه اتجه وجوب الائتمام، لتحقق
الصلاة التامة به، فمع القدرة عليه لا تشرع الصلاة المذكورة، بل ينحصر الامتثال
بالجماعة.
إذا عرفت هذا، فحيث كان لدليل جزئية القراءة إطلاق يشمل حال التعذر،
فلو كان دليل مشروعية الصلاة فرادى بدونها مع التعذر منحصرا بالاجماع، لزم
البناء على الثاني، لأنه المتيقن من معقد الاجماع
449

وكذا لو كان الدليل قاعدة الميسور، بناء على تماميتها في نفسها، لظهور
كونها قاعدة اضطرارية يختص موضوعها بصورة تعذر التام.
إلا أن الظاهر أن مقتضى النصوص الخاصة والسيرة هو الأول، وتمام
الكلام في الفقه.
التنبيه الثالث: إذا علم بوجوب أمور متعددة، وشك في كون وجوبها
تخييريا يغني معه فعل واحد منها، أو تعيينيا لابد معه من الجمع بينها.
فإن قلنا بوجود المتيقن في مقام الجعل عند الدوران بين التعيين
والتخيير، بنحو ينحل به العلم الاجمالي، فلا ريب في الرجوع للبراءة من
التكليف بالخصوصيات، والبناء على وحدة التكليف بالجامع المقتضي للاكتفاء
بفعل أحدها، لليقين معه بالبراءة من التكليف المتيقن.
لكن عرفت الاشكال في ذلك، ومن ثم جزم بعض الأعاظم قدس سره بوجوب
الاحتياط هنا.
نعم، تقدم منا احتمال سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية بسبب وجود
المتيقن التفصيلي في مقام العمل، فلو تم جرى هنا.
بل هو هنا أولى، لان المتيقن التفصيلي هنا هو الإطاعة بفعل أحدها،
للعلم بكونه امتثالا للتكليف به تعيينا أو تخييرا، والشك في وجود تكليف آخر
يحتاج معه للامتثال بفعل بقية الأطراف.
بل قد يدعى الانحلال في المقام بوجود المتيقن في مقام الجعل، وهو
التكليف الواحد المردد بين التعيين والتخيير، الذي يعلم بامتثاله بأي طرف،
ومجرد تردد متعلق التكليف المذكور بين أحد الأطراف المعين وأحدها على
نحو البدل لا يمنع من الانحلال بعد صلوحه للعمل على كل حال، فلا يتنجز
الأكثر.
ولذا كان جريان البراءة هنا من الزائد والاكتفاء بفعل أحد الأطراف قريبا
450

للمرتكزات جدا، فلتكن هي المرجع في ذلك لو فرض عدم وضوح حال
التقريبات المتقدمة.
هذا، والظاهر عدم الفرق في ما نحن فيه بين احتمال التكليف التعييني
بكل من الأطراف بنحو يكون لكل طرف تكليفه الخاص به، واحتمال التكليف
التعييني بمجموع الأطراف بنحو يكون مجموعها موردا لتكليف واحد بنحو
الارتباطية بينها، فيجوز الاقتصار على أحد الأطراف عملا باحتمال التخيير،
والرجوع للبراءة من التكليف التعييني بكل منها.
غايته أن الأول يكون نظيرا لجريان البراءة مع الشك في التكليف
الاستقلالي، والثاني يكون نظيرا لجريانها مع الدوران بين الأقل والأكثر
الارتباطيين.
التنبيه الرابع: أشرنا في صدر الكلام في هذا المقام إلى أقسام التخيير،
وذكرنا أن محل الكلام هو التخيير في الحكم الواقعي في مقام الجعل، وأن
التخيير في الحكم الظاهري - وهو التخيير بين الحجج - والتخيير في الحكم
الواقعي في مقام الامتثال للتزاحم، خارجان عن محل الكلام، وإن كان المناسب
هو التعرض لهما استطرادا، فنقول:
لا ينبغي الاشكال في أن الأصل مع الدوران بين التعيين والتخيير في
الحجج هو التعيين، للعلم معه بحجية المتيقن، والشك في حجية الآخر، الذي
يكون المرجع فيه أصالة عدم الحجية على ما تقدم في تمهيد الكلام في مباحث
الحجج.
وكذا الحال مع الدوران بينهما في مقام الامتثال لأجل التزاحم، فلو فرض
تزاحم تكليفين ودار الامر بين تساويهما المقتضي للتخيير بينهما، وأهمية
أحدهما المعين المقتضى لتعينه، لزم العمل على الثاني.
وينبغي التمهيد بمقدمة يتضح بها الوجه في ذلك..
451

وهي أن جهة الكلام في ذلك تختلف عن جهة الكلام في ما سبق،
للاختلاف بينهما في مقام الجعل والامتثال.
أما مقام الجعل فلفرض أن التخيير هناك على تقديره ناشئ عن غرض
واحد، كما هو ظاهر الخطاب، فليس هناك إلا تكليف واحد تخييري ناشئ عن
ملاك واحد قائم بكلتا الخصوصيتين، ومن ثم أمكن هناك فرض تعلق التكليف
بالقدر المشترك بينهما، وهو - الامر المنتزع منهما المعبر عنه بعنوان أحدهما وإن
كان هو خلاف التحقيق.
بخلاف المقام، إذ لا إشكال في تعدد التكليف ذاتا، لتعدد الغرض
الناشئ منهما، وحينئذ لاوجه لصرف التكليف التخييري إلى القدر المشترك،
بل ليس المكلف به إلا كلا منهما، لاختصاص غرضه به.
فلا مجال هنا لما تقدم من بعض مشايخنا هناك من توجيه العمل على
التخيير بلزوم المتيقن والبراءة من التقييد بالخصوصية.
غايته أنه لابد من الالتزام بتقييد التكليف بكل منهما بصورة عدم الاتيان
بالآخر.
وربما قيل بسقوط التكليفين معا والتخيير بين الطرفين عقلا، وإن كان
الظاهر عدم تمامية ذلك، لعدم الموجب لسقوط التكليفين رأسا بعد إمكان
الجمع بينهما بالوجه المذكور.
بل لو فرض سقوطهما لم يبق مجال لحكم العقل بالتخيير، لاختصاصه
بتشخيص الوظيفة في مقام امتثال التكليف بعد الفراغ عن جعله، فالظاهر أن
تخيير العقل بين الطرفين متفرع على التكليف بهما بالوجه المذكور، ليكون
راجعا إلى مقام الامتثال.
وأما مقام الامتثال فلانه مع الخروج هناك عن مقتضى التعيين عند
الدوران بينه وبين التخيير لا يعلم بحصول شئ من الغرض، فلا يعلم بالامتثال،
452

نظير مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين عند الاقتصار على الأقل، أما
هنا فمع الخروج عن مقتضى التعيين يعلم بحصول أحد الغرضين، بل امتثال
تكليفه بناء على الترتب، غاية الامر أنه يحتمل مرجوحيته وكون الآخر الذي لم
يمتثل هو الأهم الذي يجب امتثاله دونه.
فلا مجال لما تقدم في توجيه وجوب الاحتياط هناك من الشك في تحقق
امتثال التكليف المعلوم، لأن الشك هنا في وجوب امتثال التكليف الآخر
المحتمل الأهمية، لا في تحقق امتثاله، كما هو الحال هناك.
إذا عرفت هذا، فاعلم أنه يظهر من بعض المحققين قدس سره أن الأصل عند
الدوران بين التعيين والتخيير في باب التزاحم يقتضي البراءة وعدم التعيين، لان
ذلك إنما يكون مع احتمال الأهمية في أحد الطرفين بخصوصه، وحيث كان
ذلك مساوقا لاحتمال مساواة الطرف الآخر له ومانعيته من فعلية التكليف فيه،
كان راجعا إلى الشك في ثبوت التكليف الذي هو مجرى البراءة.
وفيه: أن عدم فعلية التكليف في أحد المتزاحمين بسبب الآخر ليس
لقصور في ملاكه وجعله، ليرجع فيه للبراءة، بل لكون المزاحم عذرا مسوغا
لتفويته، كتعذره، وحيث كان ذلك مختصا بصورة مساواة المزاحم أو أهميته،
فمع احتمال مرجوحية المزاحم وعدم احتمال أهميته لا يعلم بكونه عذرا رافعا
لفعلية المزاحم فيجب الاحتياط في المزاحم، لعدم إحراز العذر عنه، كما يجب
الاحتياط مع الشك في القدرة، أو في أصل المزاحمة، أو في تحقق المزاحم، لما
هو المعلوم من أنه لا يجوز الاتكال على احتمال العذر، بل لابد من اليقين
بوجوده، بخلاف الطرف الآخر، فإنه يعلم بمزاحمته بما يمنع من فعليته، لكونه
أهم منه أو مساويا له، فيقطع بوجود العذر المسوغ له، فلا محذور في تركه.
وبالجملة: يجب المحافظة على محتمل الأهمية دون الآخر، للشك في
العذر المسوغ للترك في الأول، والعلم به في الثاني، ولا يصح الاتكال على
453

احتمال العذر، بل لابد من العلم به، ويأتي في خاتمة مباحث التعارض ما ينفع
في المقام.
تذنيب
حيث اتضح الكلام في الوجوب التخييري فالمناسب إلحاق ذلك
بالكلام في الوجوب الكفائي.
فنقول: لا ينبغي التأمل في أن الشك في أصل التكليف الكفائي مجرى
للبراءة، كما هو الحال في الشك في أصل الوجوب العيني التعييني أو التخييري.
وأما مع دوران التكليف المعلوم بين كونه عينيا يجب على كل مكلف
تحصيله وكونه كفائيا يغني فيه فعل أحدهم، فالظاهر أنه يجوز الرجوع للبراءة
للعمل على الثاني، لرجوع الشك المذكور إلى الشك في كون الواجب هو صرف
الوجود المتحقق بفعل واحد أو الوجود الخاص الذي لا يتحقق إلا بفعل
المكلف نفسه، فالشك في الحقيقة في أخذ الخصوصية التي هي زيادة في
التكليف مدفوعة بالأصل.
نعم، لو كان الفرق بين التكليف العيني والكفائي متمحضا في مقام
الامتثال، حيث لا يسقط العيني إلا بامتثال المكلف نفسه ويسقط الكفائي بامتثال
غيره، مع اتحادهما في متعلق التكليف اتجه الرجوع للاشتغال، القاضي بالعمل
على ما يطابق العيني، لان الأصل عدم سقوط التكليف إلا بتحقق المكلف به.
لكن المبنى المذكور ضعيف، كما تعرضنا لذلك في محله من مباحث تقسيمات
الواجب. فراجع وتأمل جيدا.
454

خاتمة
ذكر شيخنا الأعظم قدس سره في خاتمة هذا القسم من الأصول، وهي التي لم
يؤخذ فيها الحالة السابقة شروط العمل بالأصول المذكورة، وأهمها الفحص،
واستطراد بعد ذلك إلى الكلام في قاعدة نفي الضرر.
لكن اشتراط الفحص لما لم يختص بالأصول المذكورة، بل يجري في
غيرها كالاستصحاب، بل في الطرق أيضا، كان المناسب ذكره بعد الكلام في
التعادل والتراجيح. وقد رأينا ذكره في خاتمة مباحث الاجتهاد والتقليد لرجوعه
إلى بيان وظيفة المكلف عند الشك في وجود الدليل.
كما أن قاعدة نفي الضرر لما كانت أجنبية عن محل الكلام، بل لا مناسبة
بينهما، كسائر القواعد الفقهية، كقاعدة نفي الحرج والطهارة وغير هما، كان
المناسب إهمالها هنا، وإن كان في ذلك خروج عما جرى عليه التبويب لهذه
المباحث تبعا لشيخنا الأعظم قدس سره.
نعم، المناسب هنا التعرض لجريان الأصول المذكورة في غير الحكم
التكليفي من الاحكام الاقتضائية، وهي منحصرة بالاستحباب والكراهة.
فنقول: - ومنه سبحانه نستمد العون والتسديد -
أما مع الشك في الحكم الاستقلالي - كما لو شك في استحباب الغسل
لقتل الوزغ، أو كراهة سؤر البقر - فلا مجال للتمسك بالأدلة المتقدمة العقلية
والنقلية للبراءة والاحتياط.
لوضوح أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وقاعدة وجوب د فع الضرر
المحتمل مختصتان باحتمال العقاب والضرر اللازمين للتكليف.
وكذا الأدلة الشرعية، لوضوح أن مساق الرفع والوضع والسعة ونحوها
مما اشتملت عليه أدلة البراءة رفع الحرج والضيق المختص بالتكليف، ولا
455

يشمل ما لا حرج في ثبوته، ولا سيما مع وضوح سوق الأدلة المذكورة مساق
الامتنان الذي يختص برفع التكليف.
وأما ما ذكره بعض مشايخنا في وجه قصور تلك الأدلة عن الأحكام المذكورة
من أن مفادها الرفع الظاهري الذي من لوازمه عدم وجوب الاحتياط،
مع أنه لا إشكال في استحباب الاحتياط في الأحكام المذكورة، فلا مجال لفرض
الرفع فيها.
ففيه: أن رفع الأحكام المذكورة ظاهرا لا ينافي حسن الاحتياط عقلا
لاحراز الواقع، ولذا لا يكون التعبد بعدمها ظاهرا بمثل الاستصحاب - لو تمت
أركانه في مورد - منافيا لحسن الاحتياط قطعا. فالعمدة ما ذكرنا.
ومثل الأدلة المذكورة ما دل على التعبد بالحل عند الشك في الحرمة، فإنه
مسوق لبيان الحل المساوق للاذن المقابل للتكليف والمنع، لا الحل بمعنى
الإباحة المقابلة للأحكام الأربعة الاقتضائية، لعدم ثبوت اصطلاح شرعي للحل
في المعنى المذكور.
ولا سيما مع كون الغاية في الأدلة المذكورة هو العلم بالحرمة الكاشف
عن اختصاص موضوعها باحتمالها وسوقها لرفعها.
كما أن أدلة الاحتياط التي استدل بها الأخباريون هناك لما كانت تعبدية
محضة، وكانت مختصة باحتمال الهلكة والحرمة كانت قاصرة عن شمول
الأحكام المذكورة.
نعم، تقدم منا أن الاستصحاب مطابق عملا للبراءة، ويصح التمسك به في
مورد ها.
والظاهر أنه لا مانع من التمسك به في الأحكام المذكورة بعد كونها
أحكاما شرعية مجعولة، كالأحكام الالزامية.
456

هذا، وقد يدعى أن إهمال الأحكام المذكورة وعدم العلم بها لا يرجع إلى
مجرد عدم استحقاق ثوابها وقرب المكلف بامتثالها، بل يقتضي زائدا على ذلك
نحوا من الحزازة والبعد عن حظيرة المولى، التي هي أشبه بالعتاب وأن لم تبلغ
مرتبة العقاب، كما قد يشير إليه بعض النصوص المتضمنة أن النبي صلى الله عليه وآله يطالب
بالسنة، كما يطالب الله تعالى بالفرض.
بل قد يترتب على ذلك بعض العقوبات الدنيوية، كما قد يشير إليه ما
تضمن أن الرجل يترك صلاة الليل، فيحبس عنه الرزق.
فإن تم هذا لم يبعد جريان نظير قاعدة قبح العقاب، لان الحزازة المذكورة
من سنخ المؤاخذة والجزاء، الذي لا يحسن إلا مع قيام الحجة الكافية.
بل قد يصحح ذلك جريان مثل حديث الرفع، لان في ثبوت الأثر
المذكور نحوا من الضيق يصدق بلحاظه الرفع ويتحقق برفعه الامتنان.
أما مع الشك في الحكم الضمني، للدوران بين الأقل والأكثر
الارتباطيين - كما لو شك في جزئية السورة للنافلة - فقد ذكر بعض مشايخنا أنه
لا مانع من الرجوع فيه إلى حديث الرفع لرفع شرطية المشكوك في المركب في
مقام الظاهر.
لكنه لا يخلو عن غموض، لان المراد بذلك إن كان إثبات مجرد عدم
استحباب الجزء ضمنا، فقد عرفت منه عدم نهوض الحديث برفع الاستحباب.
وإن كان إثبات مشروعية العمل وصحته بدونه، فمن الظاهر أن حديث
الرفع لا يقتضي ذلك في الأحكام التكليفية، فضلا عن غيرها، لان ذلك من لوازم
كون المأتي به تمام المركب، وأن الطلب قد تعلق بالأقل لا بشرط الزيادة
المشكوكة، وقد تقدم في تقريب الأصل الشرعي في الأقل والأكثر الارتباطيين
عدم نهوض أدلة البراءة بذلك.
457

نعم، لو أريد بالتمامية مجرد حصول تمام ما هو المتنجز الواصل وإن لم
يحرز أنه تمام المطلوب لم يحتج في ذلك إلى أدلة البراءة، للعلم بحصوله
بمجرد الشك في جزئية الزائد أو شرطيته وفرض عدم تنجزه.
كما أن الظاهر كفاية ذلك في مقام التقرب والامتثال، فلا يعتبر إحراز كون
المأتي به تمام المطلوب، ولذا أمكن التقرب في الواجب المردد بين الأقل
والأكثر مع الاقتصار على الأقل، والتفريق بين الواجب والمستحب بلا فارق.
بالجملة: لا مجال للفرق في شمول أدلة البراءة للأحكام غير الالزامية
بين الاحكام الاستقلالية والضمنية بعد اشتراكها في الجهات المقتضية للجريان
وعدمه مما تقدمت الإشارة إليه.
أما العلم الاجمالي بالحكم الاقتضائي غير الإلزامي مع إمكان الاحتياط
فالظاهر أن ما تقدم في وجه منجزية العلم الاجمالي جار فيه، وإنما يختلف
الحكم الإلزامي عن غيره بأن ترتب العقاب على معصيته موجب لمنع العقل من
لاقدام على احتمال مخالفته مهما زوحم بالجهات الخارجية الموجبة لصعوبة
إحراز امتثاله في فرض جعله، ومنها صعوبة الاحتياط الناشئة من تكثر الأطراف
في فرض العلم الاجمالي، لأهمية العقاب بنحو لا يصلح شئ منها لمزاحمته.
أما غيره من الاحكام فكما يصح للمخاطب بها الاقدام على مخالفتها
لقطعية يصح الاقدام على مخالفتها الاحتمالية بسبب صعوبة الاحتياط الناشئة
عن تعدد الأطراف في ظرف العلم الاجمالي.
نعم، لا مجال لارتفاع حسن الاحتياط فيها ذاتا مع العلم الاجمالي، كما لا
يرتفع حسن إطاعتها مع العلم التفصيلي، وإن كان قد يزاحم بما هو أهم.
ثم إن الظاهر جريان ما تقدم في تنبيهات مباحث العلم الاجمالي من
سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية في بعض الأطراف أو انحلاله في الاحكام
458

غير الالزامية.
نعم، في فرض عدم منجزية العلم الاجمالي في بعض الأطراف يلحقه
حكم الشك البدوي، الذي تقدم الكلام في جريان البراءة معه.
كما أنه تقدم منا في أوائل الكلام في العلم الاجمالي التعرض للضابط في
عدم جريان الأصول في الأطراف بنحو يشمل الاحكام غير الالزامية، كما ذكرنا
هناك حكم العلم الاجمالي بأحد الحكمي الحكمين الاقتضائيين الإلزامي وغيره من
حيثية جريان الأصول وعدمه بما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا. فراجع.
منه يظهر الحال فيما لو تعذر الاحتياط للدوران بين محذورين، كما لو
دار الامر بين استحباب الشئ وكراهته، فإن ما ذكر هناك من سقوط العلم
الاجمالي عن المنجزية جار فيه.
لا ينبغي الاشكال في عدم وجوب الترجيح هنا، بل غاية الامر حسنه،
يلحقه حكم التزاحم بين الاحتياطين، وقد سبق في آخر التنبيه الرابع من
تنبيهات الفصل الأول أن الترجيح يكون بأهمية التكليف، وبقوة الاحتمال.
فراجع وتأمل جيدا.
لنكتف بهذا المقدار من الكلام في القسم الأول من الوظيفة العملية عند
فقد الحجة، وهو الذي لم تؤخذ فيه الحالة السابقة، والتي ينحصر الأصل
لجاري فيها بالبراءة والاحتياط والتخيير.
الحمد لله رب العالمين على تيسير ذلك وتسهيله، ونسأله أن يتم علينا
نعمته بتوفيقنا لاتمام الأقسام، كما نسأله أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل،
أن يوفقنا لشكر نعمه وآلائه، ويمدنا بعونه ورعايته، إنه أرحم الرحمين، وولي
المؤمنين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وكان الفراغ من ذلك عصر الثلاثاء، الرابع والعشرين من شهر شعبان
459

المعظم، سنة ألف وثلاثمائة وخمس وتسعين لهجرة سيد المرسلين صلى الله
عليه وآله أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
في النجف الأشرف ببركة المرقد المشرف على مشرفه أفضل الصلاة
والسلام، بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل العلامة الجليل حجة
الاسلام السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم (دامت بركاته).
الحمد لله في البدء والختام، وبه الاعتصام.
قد انتهى تبييضه بقلم مؤلفه الفقير ليلة الأحد، التاسع والعشرين من
الشهر المذكور، من السنة المذكورة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، وسلم
تسليما كثيرا.
460