الكتاب: نهاية الأصول
المؤلف: الشيخ المنتظري
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: صفر ١٤١٥
المطبعة: القدس - قم المقدسة
الناشر:
ردمك:
ملاحظات: تقريراً لأبحاث آية الله العظمى السيد حسين الطباطبائي البروجردي

نهاية الأصول
المؤلف: آية الله العظمى المنتظري - مد ظله - من
المباحث العقلية في علم الأصول، قبل قريب من ستة وأربعين سنة.
3

بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة الناشر:
بعد ان نفدت الطبعة الرابعة من كتاب (نهاية الأصول) كثرت مراجعات
الطلبة وفضلا الحوزات العلمية في طلبه، فتم إعداده لهذه
الطبعة الخامسة.
خلال ذلك طلب عدد من فضلا الحوزة المحترمين من سماحة آية
الله العظمى المنتظري (مد ظله) ان يطبعوا المجلد الثاني (المباحث
العقلية) من دروس المحقق القدير والمرجع الكبير المرحوم آية الله
العظمى البروجردي (قدس سره الشريف) ولكن سماحته لم يجبهم
إلى ذلك لأنه لم يتمكن من إعادة النظر فيها بسبب كثرة مشاغله،
ولأنها بالأصل كانت ناقصة.
وأخيرا أجاز سماحته لبعض فضلا الحوزة تنظيم هذه الأبحاث حتى
تم إعدادها للطباعة، وهي تشمل مباحث القطع والظن وقسما من
مباحث البراءة.
وقد رأينا ان نطبعها مع المجلد الأول ليسهل استفاده الطلاب
والفضلاء منها.
نأمل ان يكون هذا العمل - الذي هو خطوة ولو صغيرة في إحياء الآثار
العلمية والتحقيقات المهمة لفقيد الحوزة، الفقيه الراحل آية الله
العظمى السيد البروجردي (طاب ثراه) - خدمة للطلاب والفضلاء،
ومقبولا من ساحة ولى الامر المقدسة وصاحب العصر أرواحنا فداه.
6

بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة المقرر:
الحمد لله الذي خلق الانسان علمه البيان، ثم هداه بالفطرة التي فطره
عليها إلى أصول الدين ومسالك الايمان، وأوضح له بالسفراء
المقربين معالم الايقان وسبل الرضوان. والصلاة والسلام على نبيه
المبعوث لتمهيد قواعد الاسلام وتبيين ضوابط الاحكام محمد صلى
الله عليه وآله وعلى آله الهداة المهديين، وأوصيائه الكرام الطيبين،
ما دامت كلماتهم المكنونة لتوضيح قوانين الدين معدة، وفرائد
آثارهم الباقية لتشريح حقائق الاسلام ذخيرة وعدة.
وبعد، فيقول العبد المفتقر إلى رحمة ربه الغني، حسين علي
المنتظري النجف آبادي: لا يخفى أن علم أصول الفقه علم شريف،
يحتاج إليه
كل من تصدى لاستنباط الأحكام الشرعية من مداركها وأطلق عنان
فكره في طرق الجهاد والاجتهاد لتنقيح المسائل الفقهية وتقييد
شواردها، فإنه الموضوع لبيان ما هو الحجة في إثبات الاحكام، وبه
يعرف حال الاخبار المروية عن سيد الأنام وأوصيائه الكرام،
وحال سائر الأدلة الشرعية والأصول العملية، التي عليها بني أساس
الفقه وعلى قطبها تدور رحاه.
وكم قد صنف فيه الأعاظم والاجلاء من علمائنا الامامية، فرتبوا
فصوله، ونقحوا مسائله، وشيدوا أركانه ودعائمه، ولكنه بمرور
الزمان، قد تغذى بعروقه المتشعبة من سائر العلوم المتشتتة، بحيث قد
أفرط فيه الباحثون، وكبر حجم الكتب المؤلفة فيه. وصارت
أمهات المسائل المبتلى بها كالضالة في أثناء سائر المسائل، بنحو
يعسر افتقادها والاطلاع عليها، وكم سلكوا في توضيح مسائله سبلا
شتى، كلها بعيدة عن أصل المقصود بمراحل، وبقيت أصول المسائل
غير منقحة، كما كانت في الأوائل.
إلى أن انتهت رئاسة الشيعة الإمامية، وزعامة حوزاتهم العلمية، إلى
قطب فلك الفقاهة والاجتهاد، ومركز دائرة البحث والانتقاد، جامع
المعقول والمنقول، وحاوي الفروع والأصول، زبدة
7

الفقهاء والمجتهدين آية الله العظمى في الأرضين، محيي مدارس
الشرع الباقي، ومرجع كل قريب وناء الحاج آقا حسين البروجردي
الطباطبائي. [1] فهو (مد ظله) كان يحذف في أثناء تدريسه الزوائد و
الحواشي، ويهم بالمسائل المهمة التي كثر الابتلاء بها، وكان
يسلك في تنقيحها والوصول إلى الحق فيها، الصراط الأقوم، والمنهج
الأتم، لا شرقية ولا غربية. وكنت أنا أيضا ممن يستضي بنور
علمه، ويستفيد من بياناته الشافية، وتحقيقاته الكافية، وكنت أضبط
بقدر فهمي ومبلغ استعدادي ما أستفيد من بياناته (مد ظله). فهذا
الذي تراه هو ما استفدته من دروسه العالية، في المسائل الأصولية،
جمعته ونظمته في سلك التحرير، وجعلته بصورة التقرير، وسميته
(نهاية الأصول) أو بداية الوصول إلى الحق المأمول، ومن الله تعالى
أسأل التوفيق، فإنه خير مسؤول.
وأقول مخاطبا من راجع كتابي هذا: إنه ربما كان لا يساعدني التوفيق
لضبط بعض المطالب في بعض المباحث، وكان هذا هو السبب
في تأخير نظم هذه الوجيزة ونشرها، ولكن قد التمس معني بعض من
لا أحب مخالفته من الأصدقاء والاخوان بذل الجهد في نشر ما
ضبط منها، فسنح لي وقتئذ أن الميسور يجب أن لا يترك بالمعسور، و
ما لا يدرك كله لا يترك كله، فبادرت إلى ترتيب ما ضبط،
فتصور بصورة تراها.
وأقول أيضا معتذرا: إنه لم يكن من عادتي ضبط كل درس بعد
استفادته، بل كنت أصبر لضبط كل مبحث إلى أوان فراغه.
فلو خطر ببال بعض القراء والباحثين أن في بيان بعض المطالب و
توضيحه نحو قصور واضطراب، فاستناده إلي أقرب من أن يسند
إلى الأستاذ (مد ظله العالي).
نعم، مباني الأستاذ كلها كانت عالية، وبراهينه على إثبات مقاصده
قوية، ولكنها في مقام التقرير تتنزل وتتقدر بقدر استفادة المقرر
واستعداده، ولكني مع ذلك كله لم آل جهدا في تقرير مبانيه (مد
ظله) وتبيينها، ليكون لي تذكرة ولغيري تبصرة.
وحيث كان هو (مد ظله) يراعي غالبا ترتيب الكفاية، فأنا أيضا أذكر
عناوين المباحث على وفق ما فيها، ليتيسر للطالب ارتياد المسائل
من مواردها، وعلى هذا فيكون كتابي هذا مشتملا على مقدمة
ومقاصد.
[1] تجدر الإشارة إلى أن آية الله العظمى السيد البروجردي طاب ثراه
انتقل إلى رحمة الله تعالى عام 1380 ه -
8

أما المقدمة ففي بيان أمور:
الأمر الأول:
أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات،
وانه ما هو موضوع العلم، وأي شي هو الموضوع في علم الأصول؟
اعلم أن القدماء قد تسالموا على أمرين:
الأول: أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات.
الثاني: أن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، ولما كان
علم الأصول أيضا علما برأسه، تصدى القوم لبيان موضوعه، فقال
بعضهم: إن موضوعه الأدلة الأربعة، واستشكل عليه بعض المحققين:
بأن مقتضى ذلك كون حجية الأدلة الأربعة، ووصف دليليتها من
مقومات الموضوع لا من عوارضه، ولازم ذلك أن تصير أمهات
المسائل - أعني: ما يبحث فيها عن حجية الأدلة - خارجة من علم
الأصول،
وتدخل في سلك المبادئ.
واختار هذا المستشكل كون الأدلة الأربعة بذواتها، لا بما أنها متصفة
بوصف الدليلية موضوعا لعلم الأصول، حتى يكون البحث عن
حجيتها ودليليتها أيضا بحثا عن عوارضها الذاتية.
ويرد عليه - مضافا إلى ما في الكفاية - أن موضوعية أمور متشتتة لعلم
واحد، إنما هي باعتبار وجود جامع بينها يكون هو الموضوع
حقيقة، ولا جامع بين ذوات الأدلة الأربعة [1] إلا وصف الدليلية، و
المفروض جعلها من العوارض الذاتية للموضوع. وعلى هذا فلا يبقى
بينها جامع وحداني يكون هو الموضوع حقيقة، وبه تتحقق وحدة
العلم، إذ الملاك في عد المسائل المتشتتة علما واحدا هو وحدة
الموضوع كما سيأتي.
وأما شيخنا الأستاذ صاحب الكفاية (قدس سره) فقد خالف القدماء و
قال ما حاصله: إن تمايز العلوم بتمايز الاغراض الباعثة على جمع
المتشتتات وتسميتها علما واحدا، لا الموضوعات، وإلا لكان كل
باب، بل كل مسألة علما برأسه.
[1] أقول: يمكن أن يقال: إن الجامع بينها صلاحيتها للدليلية، فيكون
الموضوع عبارة عما يصلح للدليلية، وتكون فعليتها من العوارض. ح
- ع - م.
9

وبالجملة: فالحيثية المشتركة بين المسائل المتشتتة التي بلحاظها
سميت علما واحدا، وبسببها يمتاز هذا العلم من غيره من المعلوم،
هي
الغرض الداعي إلى التدوين، لا الموضوع.
نعم، جميع المحمولات المختلفة في مسائل العلم من عوارض
موضوع وحداني، وهو عبارة عن حيثية جامعة لموضوعات المسائل،
متحدة
معها خارجا، وإن كانت تغايرها مفهوما، تغاير الكلي ومصاديقه و
الطبيعي وأفراده، وربما لا يكون له عنوان خاص واسم مخصوص،
ولا يلزم لنا تشخيصه. (انتهى).
هذه خلاصة ما ذكروه في هذا المقام. والحق الحقيق بالتصديق هو ما
اختاره القدماء: من أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، ويتضح
ذلك بتمهيد مقدمات:
المقدمة الأولى: لا يخفى أنا إذا راجعنا كل واحد من العلوم المدونة، و
قصرنا النظر على نفس مسائله، من غير التفات إلى ما يكون
خارجا من ذات المسائل من المدون والاغراض ونحوهما، علمنا
علما وجدانيا باشتراك جميع تلك المسائل المتشتتة في جهة وحيثية
لا
توجد هذه الجهة في مسائل سائر العلوم، وتكون هذه الجهة جامعة
بين تلك المسائل، وبسببها يحصل الميز بين مسائل هذا العلم، وبين
مسائل سائر العلوم. وكذلك وجدنا في كل مسألة من مسائل هذا العلم
جهة وخصوصية، تميز هذه المسألة من غيرها من مسائل هذا العلم.
مثلا: إذا راجعنا مسائل علم النحو، وقطعنا النظر عن مدونه و
الاغراض الباعثة على تدوينه، رأينا أن جهة البحث في جميعها كيفية
آخر
الكلمة من المرفوعية والمنصوبية والمجرورية، فهي خصوصية ذاتية
ثابتة في جميع مسائله، مع قطع النظر عن المدون والاغراض و
نحوهما. وهي الجهة الجامعة بين هذه المسائل المتشتتة، وبسببها
تمتاز هذه المسائل من مسائل سائر العلوم. ومع ذلك رأينا أن في
نفس كل مسألة منها خصوصية ذاتية بها تمتاز من غيرها من مسائله. و
حيث لم تكن هاتان الجهتان خارجتين من ذوات المسائل بحكم
الوجدان، فلا محالة ليستا خارجتين من الموضوع والمحمول، إذ
النسبة معنى آلي، توجد في جميع القضايا بنحو واحد، ولا تختلف
باختلاف المسائل.
المقدمة الثانية: أنك إذا تتبعت العلوم المدونة، ودققت النظر في
مسائل كل واحد منها، رأيت أن بعض العلوم الموجودة يكون ما هو
المحمول في جميع مسائلها أمرا واحدا كالعلم الإلهي بالمعنى الأعم،
فإن المحمول في جميع مسائله مفهوم واحد وهو قولنا: (موجود)
فيقال: الله موجود، العقل موجود، الجسم موجود، الجوهر موجود،
الكم موجود، وهكذا. وأن بعضها مما يختلف المحمول في مسائله،
لكنه توجد بين محمولاته المختلفة جهة جامعة، بل ربما يكون
10

المحمول في مسائل فصل منه أمرا وحدانيا، كعلم النحو، فإن
المرفوعية (مثلا) تارة تحمل على الفاعل، وأخرى على المبتدأ،
وتتحصل
بذلك مسألتان، ومع ذلك فالمرفوعية وإن كانت تغاير المنصوبية،
لكن بينهما جهة جامعة ذاتية، حيث إن كلا منهما من تعينات الاعراب
الحاصل لاخر الكلمة.
وبالجملة: فليس المحمول يختلف دائما في جميع مسائل العلم. وأما
موضوعات المسائل فهي مما تختلف دائما في جميع المسائل، من
أي
علم كانت.
وحيث عرفت في المقدمة الأولى أن في كل مسألة من مسائل العلم
توجد جهتان: جهة ذاتية جامعة بين جميع مسائل هذا العلم، وبها
تمتاز
من مسائل سائر العلوم، وجهة ذاتية بها تمتاز هذه المسألة من غيرها
من مسائل هذا العلم. وعرفت (أيضا) أن الجهتين ليستا خارجتين
من الموضوع والمحمول، فلا محالة تنحصر الجهة الأولى في
المحمول، والجهة الثانية في موضوع المسائل، لأنه الذي يختلف في
جميع
المسائل بخلاف المحمول.
وبعبارة أخرى: تمايز مسائل العلم بتمايز موضوعاتها، وتمايز العلوم
بتمايز ما هو الجامع لمحمولات مسائلها.
المقدمة الثالثة: أن المراد بالعرض في قولهم: (موضوع كل علم ما
يبحث فيه عن عوارضه الذاتية) هو العرض باصطلاح المنطقي لا
الفلسفي، فإن العرض الفلسفي عبارة عن ماهية، شأن وجودها في
الخارج أن يكون في الموضوع، ويقابله الجوهر.
والعرض المنطقي عبارة عما يكون خارجا من ذات الشئ، متحدا
معه في الخارج، ويقابله الذاتي. وبين الاصطلاحين بون بعيد، فإن
العرض المنطقي قد يكون جوهرا من الجواهر (كالناطق) بالنسبة إلى
(الحيوان) وبالعكس، حيث إن كلا منهما خارج من ذات الاخر، و
محمول عليه، فيصدق عليه تعريف العرض المنطقي، وإن كان كل
منهما ذاتيا بالنسبة إلى الانسان، فالعرض باصطلاح الفلسفي مطلق، و
باصطلاح المنطقي أمر نسبي، فإن (الفصل) مثلا بالنسبة إلى (الجنس)
عرض خاص، وبالنسبة إلى (النوع) المؤلف منه ذاتي له. وأما
المقولات التسع العرضية باصطلاح الفلسفي فلا تتغير عن وصف
العرضية باختلاف الاعتبارات والنسب.
المقدمة الرابعة: لا يخفى أن كل واحد من الموضوع والمحمول في
مسائل العلم عرض بالنسبة إلى الاخر، ولا يقصر وصف العروض على
المحمول، إذ المراد بالعرض هنا - كما عرفت - هو العرض باصطلاح
المنطقي، وهو عبارة عما يكون خارجا من ذات الشئ، ومتحدا
معه في الخارج، ففي قولنا في العلم الإلهي: (الجسم الموجود) كل
واحد من وصفي الجسمية والوجود
11

خارج من ذات الاخر مفهوما، ومتحد معه خارجا، فكل واحد منهما
عرض ذاتي بالنسبة إلى الاخر، بمعنى أنه لا يكون عينا بالنسبة إلى
الاخر، ولا جزا له. وكذلك كل واحد من وصفي الفاعلية و
المرفوعية في قولنا: (الفاعل مرفوع) يكون عرضا منطقيا بالنسبة إلى
الاخر، وهكذا في جميع مسائل العلوم، فالموضوعات في مسائل كل
علم أعراض ذاتية لما هو الجامع بين محمولات مسائله، وليست
الموضوعات ذاتية له، إذ الذاتي منحصر في النوع والجنس والفصل
بالنسبة إلى النوع المؤلف منهما، ولا تجد مسألة من مسائل العلوم
يكون الموضوع فيها نوعا أو جنسا أو فصلا لجامع محمولات مسائل
العلم، إذ كل واحد من نوع الشئ وجنسه وفصله البعيد أعم منه، و
الفصل القريب مساو لما هو فصل له، مع أنك ترى أن موضوع كل
مسألة أخص من جامع محمولات المسائل.
والحاصل: أن الموضوع في كل مسألة عرض بالنسبة إلى جامع
محمولات المسائل وبالعكس. غاية الأمر أن المتداول في عقد
القضية
جعل الأخص موضوعا والأعم محمولا.
المقدمة الخامسة: ان المتداول وإن كان جعل الأخص موضوعا و
الأعم محمولا، لكن النظم الطبيعي يقتضي جعل المعلوم من الامرين
موضوعا، والمجهول منهما محمولا، فالموضوع بحسب الحقيقة هو
المعلوم من الامرين، والمحمول هو تعينه المجهول الذي أريد في
القضية إثباته، سواء كان الامر المجهول أعم بالنسبة إلى الموضوع أو
مساويا له.
ما هو الجامع بين مسائل العلوم؟
إذا عرفت هذه المقدمات تبين لك أن الحق مع القدماء، حيث قالوا:
إن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، إذ المراد بموضوع العلم هو ما
يبحث فيه عن عوارضه الذاتية وليس هو إلا عبارة عن جامع
محمولات المسائل، الذي عرفت في المقدمة الثانية أن تمايز العلوم
بتمايزه.
ووجه كونه موضوعا أن جامع محمولات المسائل في كل علم هو
الذي ينسبق أولا إلى الذهن، ويكون معلوما عنده، فيوضع في وعاء
الذهن، ويطلب في العلم تعيناته وتشخصاته التي تعرض له. مثلا في
العلم الإلهي بالمعنى الأعم يكون نفس الوجود معلوما لنا وحاضرا
في ذهننا، فنطلب في العلم تعيناته وانقساماته اللاحقة له: من
الوجوب، والامكان، والجوهرية، والعرضية، والجسمية ونحوها.،
فصورة القضية وإن كانت هي قولنا: (الجسم موجود) مثلا، لكن
الموضوع حقيقة هو عنوان الموجودية، فمحصل مسائله هو أن
الوجود
المعلوم لك، من خصوصياته وتعيناته، وصف
12

الجوهرية، ومن تعيناته وصف الجسمية وهكذا، ولذلك تراهم
يقولون: إن موضوع العلم الإلهي بالمعنى الأعم هو الوجود، مع أن
الوجود يصير محمولا في القضايا المعقودة.
وكذلك في علم النحو، فإن أول ما ينسبق إلى ذهن المتتبع
لاستعمالات العرب، إنما هو إعراب آخر الكلمة، والاختلافات
الواقعة فيه: من
المرفوعية والمنصوبية والمجرورية فتطلب في علم النحو
الخصوصيات التي بسببها يتحقق الاعراب واختلافاته من الفاعلية و
المفعولية ونحوهما، فالمسألة المعقودة وإن كانت بصورة قولنا:
الفاعل مرفوع، لكن الموضوع حقيقة هو وصف المرفوعية، فحصل
مسائل علم النحو هو أن ما يختلف آخره بالمرفوعية والمنصوبية و
المجرورية إنما يتعين بتعينات مختلفة: من الفاعلية والمفعولية و
نحوهما، وأن المعرب بالاعراب الرفعي فاعل، والمعرب بالاعراب
النصبي مفعول، وهكذا.
والحاصل: أن جامع المحمولات - أعني الحيثية المشتركة بين مسائل
العلم - هو الذي ينسبق إلى الذهن أولا، ويطلب في العلم جهاته و
تعيناته، فهو الموضوع للعلم، والتعينات المختلفة التي يجعل كل
واحد منها موضوعا لمسألة، عوارض ذاتية لموضوع العلم، لما عرفت
في
المقدمة الرابعة أن كل واحد من الموضوع والمحمول في المسألة
عرض بالنسبة إلى الاخر، وفي المقدمة الخامسة أن ما هو الموضوع
حقيقة هو المعلوم من الامرين.
فتلخص مما ذكرنا أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، أعني بها جامع
محمولات المسائل، وتمايز المسائل بتمايز الموضوعات فيها.
وقد تبين لك بما ذكرناه فساد ما ربما يتوهم في المقام من أنه لم لا
يجوز أن تكون الجهة المشتركة بين مسائل العلم المائزة إياها من
سائر العلوم، عبارة عن الكلي الجامع لموضوعات المسائل، والجهة
التي بها يمتاز كل مسألة من غيرها عبارة عن خصوصيات
موضوعات المسائل، وعلى هذا فتوجد كلتا الجهتين في عقد الوضع،
ويكون موضوع العلم عبارة عن الكلي الجامع لموضوعات
المسائل.
توضيح الفساد: أنك قد عرفت أن موضوع العلم هو الحيثية المعلومة
التي يطلب في العلم تعيناته، ويبحث فيه عن عوارضه التي تحمل
عليه
وليس هذا إلا ما هو الجامع للمحمولات، فإنه الحيثية المنسبقة إلى
الذهن، التي يبحث في العلم عن عوارضها.
والظاهر أن ما ذكرناه هو مراد القوم أيضا، حيث أضافوا قيد الحيثية في
بيان موضوع العلوم الأدبية، فقولهم: إن موضوع علم النحو هو
الكلمة من حيث الاعراب والبناء، وموضوع
13

الصرف هو الكلمة من حيث الصحة والاعتلال، وهكذا، إنما يريدون
بذلك كون حيثية الاعراب والبناء موضوعا لعلم النحو، وحيثية
الصحة والاعتلال موضوعا لعلم الصرف. وعلى هذا فيكون تمايز
جميع العلوم بتمايز الموضوعات.
نقد كلام صاحبي الفصول والكفاية:
فما في الفصول: من أن تمايز العلوم قد يكون بتمايز الموضوعات، و
قد يكون بتمايز الحيثيات، قد نشأ من الغفلة والذهول عما هو لب
مراد القوم حيث أضافوا قيد الحيثية.
وقد اتضح بما ذكرنا أيضا فساد ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره)
في الكفاية حيث قال:
إن موضوع العلم هو نفس موضوعات مسائله عينا وما يتحد معها
خارجا، وإن كان يغايرها مفهوما تغاير الكلي ومصاديقه والطبيعي
وأفراده. (انتهى).
ووجه الفساد ما عرفت من أن موضوع العلم هو محمولات المسائل و
الجامع بينها، وهو وإن كان متحدا مع موضوعات المسائل
خارجا، إلا أنه ليس التغاير بينه وبين موضوعات المسائل من سنخ
تغاير الطبيعي وأفراده، بل من سنخ تغاير العرض المنطقي و
معروضه، فإن الطبيعي ذاتي لافراده، وهذا بخلاف جامع المحمولات
بالنسبة إلى خصوصيات الموضوعات، حيث إن كلا منهما خارج من
ذات الاخر، كما عرفت توضيحه.
واتضح أيضا فساد ما قال (قدس سره): من أن تمايز العلوم بتمايز
الاغراض، حيث عرفت أن الجهة التي بها تمتاز مسائل كل علم من
مسائل سائر العلوم هي جهة ذاتية موجودة في نفس المسائل، وما لم
تتمايز العلوم بذواتها لم تتمايز الاغراض المطلوبة منها، فإنها
أمور متفرعة عليها، والاختلاف فيها يكشف عن نوع اختلاف في نفس
الذوات، فالغرض من علم النحو مثلا هو العلم والإحاطة
بالاختلافات الواقعة في أواخر الكلمات، وجهة الاختلاف فيها، و
الغرض من علم الصرف هو العلم بالاختلافات الواقعة في نفس
الأبنية،
فلا محالة تكون مسائل علم النحو بذواتها مربوطة بالاختلافات
الواقعة في آخر الكلمة، وتكون هي الجهة المبحوث عنها فيه، و
مسائل
الصرف بذواتها مربوطة بالاختلافات الواقعة في نفس الأبنية، و
باعتبار هذا الميز الذاتي بينهما يختلف الغرض منهما.
فإن قلت: كما يمكن أن يتصور بين محمولات مسائل النحو جامع
يساويها يمكن أيضا أن يتصور جامع أعم بحيث يعم مسائل النحو و
الصرف مثلا، أو جامع أخص بحيث يعم بعض
14

مسائل النحو، كمباحث المعربات مثلا في قبال المبنيات، وعلى هذا
لا يصح جعل جامع المحمولات ميزانا لتمايز العلوم، بعد ما لم يكن
لاعتبار الجامع ميزان ثابت لا يتغير. فإن جعلت الملاك في اعتبار
الجامع أن يعتبر بين المسائل الدخيلة في غرض واحد، رجع الكلام
إلى
جعل الميزان في تمايز العلوم تمايز الاغراض.
قلت: [1] فرق بين ما هو الملاك في تمايز العلوم، وبين ما هو الملاك
لتكثيرها، فنحن أيضا لا نأبى كون العلوم في الوحدة والكثرة
تابعة للجهات الخارجية، مثل أنه كان علم النحو والصرف معا يعدان
علما واحدا، فلما تكثرت مسائله وتشعبت فروعه انحل إلى علمين.
وكذلك ترى العصريين يقسمون علم الطلب مثلا إلى شعب مختلفة،
ويسمون كل قسمة منها بعلم خاص، له موضوع خاص، وطلاب
مخصوصون، فالعلوم في الوحدة والكثرة تابعة للجهات الخارجية،
لكنه بعد ما نلاحظ علمين من العلوم المدونة، وتوازن أحدهما مع
الاخر، تراهما بحسب الذات متمايزين، من جهة أن حيثية البحث في
أحدهما تغاير حيثية البحث في الاخر، وهذا التغاير والاختلاف
يرجع إلى جامع المحمولات، فتدبر.
هذا كله خلاصة ما يقتضيه التحقيق في بيان ماهية الموضوع للعلوم
بنحو العموم.
موضوع علم الأصول
ومما ذكرنا يظهر لك ما هو الموضوع في علم الأصول، فإنه على
التحقيق عبارة عن عنوان (الحجة في الفقه) إذ بعد ما علمنا بأن لنا
أحكاما شرعية، يحصل لنا العلم إجمالا بوجود حجج في البين بها
يحتج المولى علينا، ونحتج عليه، في إثبات الأحكام الشرعية و
امتثالها،
فوجود أصل الحجة والدليل معلوم لنا، والمطلوب في علم الأصول
تعينات الحجة وتشخصاتها، كخبر الواحد والشهرة والظواهر و
نحوها، ففي قولنا: (خبر الواحد حجة)، وإن جعل وصف الحجية
محمولا، ولكنه بحسب الحقيقة هو الموضوع، فإنه الامر المعلوم، و
المجهول تعيناته وأفراده، فمحصل مسائل الأصول هو أن الحجة التي
نعلم بوجودها إجمالا، لها تعينات وأفراد، منها خبر الواحد ومنها
الشهرة وهكذا، فكل مسألة يرجع البحث فيها إلى تعيين مصداق
للحجة، مسألة أصولية كمسألة حجية الخبر والشهرة والاجماع، و
حجية
أحد الخبرين في باب
[1] ويمكن أيضا أن يقال: إن الجامع المعتبر بين مسائل النحو والصرف
جامع جنسي، وبين بعض مسائل النحو جامع صنفي، ومرادنا
بجامع المحمولات هنا هو الجامع النوعي، فيندفع الاشكال، فتأمل ح
- ع - م.
15

التعارض، ومسألة حجية القطع بقسميه من التفصيلي والاجمالي، فان
حجية القطع التفصيلي وإن كانت أمرا واضحا، ولذا لم يتعرض لها
القدماء، إلا أن توهم عدم الحجية في بعض أقسامه أوجب البحث
عنها، فهي أيضا من مسائل علم الأصول، ولا ربط لها بالمسائل
الكلامية،
كما في الكفاية، وليست الحجة في اصطلاح الأصولي عبارة عن حد
الوسط بل هي بمعناها اللغوي، أعني ما يحتج به المولى على العبد و
بالعكس في مقام الامتثال، فيكون القطع بقسميه أيضا من مصاديقها
حقيقة. وعلى هذا فمبحث الاشتغال من مباحث الأصول، حيث
يرجع
البحث فيه إلى البحث عن حجية العلم الاجمالي. وكذلك مبحث
حجية الاستصحاب، بل ومبحث البراءة أيضا، إذ محصل البحث فيه
هو أن
صرف احتمال التكليف يكفي لتنجيز الواقع ويصحح احتجاج المولى
ومؤاخذته أم لا، وكذلك مسألة التخيير، حيث إن المبحوث عنه فيها
أنه في مقام دوران الامر بين المحذورين هل يكون الاخذ بأحد
الطرفين كافيا في احتجاج العبد على المولى؟ وهكذا البحث عن
حجية
المفاهيم، فإن البحث فيها ليس في أصل ثبوت المفهوم، بل في
حجيتها، حيث إن لذكر القيد الزائد مثل الشرط والوصف وأمثالهما
ظهورا ما في الدخالة بلا إشكال، وإنما يقع البحث عن حجيتها، و
سيأتي تحقيقه في محله. وبالجملة فكل مسألة تكون حيثية البحث
فيها
حجية أمر من الأمور، التي تصلح للحجية، أو تتوهم حجيتها فهي
مسألة أصولية.
نعم، لما كانت حجية بعض الحجج أمرا واضحا لم يتصد القدماء
للبحث عنها، كمسألة حجية القطع مثلا، وكحجية الظواهر، حيث إن
أصل
حجية الظواهر كانت أمرا مفروغا عنه، وإنما كان يقع الاشكال في
بعض الموارد التي حصل فيها للكلام نحو اضطراب واختلال، كالعام
المخصص، أو اللفظ المستعمل كثيرا في المعنى المجازي ونحو
ذلك.
وكيف كان فهذه المسائل كلها مسائل أصولية. نعم، بعض المباحث
التي لم يكن المبحوث عنه فيها حيثية الحجية تكون خارجة من
الأصول، وتدخل في سلك المبادئ، كمسألة مقدمة الواجب، و
مبحث الضد، وأمثالهما، فتدبر.
وقد تلخص من جميع ما ذكرنا أن موضوع علم الأصول هو عنوان
(الحجة في الفقه)، ومحصل مسائله تشخيص مصاديق الحجة و
تعيناته.
ولذلك ترى الشافعي يبحث في رسالته التي ألفها في هذا الفن عن
حجية الحجج الشرعية من الكتاب والسنة وأمثالهما، فتأمل في
المقام، فإنه بالتأمل حقيق.
16

الأمر الثاني: الوضع
قال شيخنا الأستاذ (قدس سره) في الكفاية: الوضع نحو اختصاص
للفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما ناش من تخصيصه به تارة، و
من كثرة استعماله فيه أخرى، وبهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعييني
والتعيني (انتهى).
أقول: لا يتبين بهذا التعريف ماهية الوضع وحقيقته، بل هو نحو فرار
من تعريفه، كيف وإلا فمن الممكن أيضا أن يقال في تحديد
الانسان مثلا: إنه نحو موجود في الخارج، وهكذا بالنسبة إلى كل أمر
مجهول. والتعريف الحقيقي للوضع عبارة عما يعرف به حقيقة
العلاقة الحاصلة بين الألفاظ ومعانيها، هذا مضافا إلى أنه يرد عليه:
أولا: أن الاختصاص والارتباط المذكور من قبيل معاني أسماء
المصادر، فيعتبر أمرا باقيا بين اللفظ والمعنى، ولا محالة يكون لتحقق
هذا الارتباط منشأ هو الوضع حقيقة، فليس الارتباط عين الوضع، بل
هو أمر مترتب على الوضع، ومتحصل بسببه، ويعبر عن هذا
الارتباط بالدلالة الشأنية المعرفة بكون اللفظ بحيث إذا سمع أو تخيل
فهم منه المعنى.
وثانيا: أن الارتباط المذكور لا يحصل بصرف تعيين الواضع، بل
يحصل إما بكثرة الاستعمال، وإما بتعيين الواضع، أو استعماله بداعي
الوضع بشرط الاتباع.
والحاصل: أن الارتباط الذي هو عين الدلالة الشأنية لا يكفي في
تحققه صرف تعيين الواضع ما لم يتبع، فإن صرف التعيين لا يوجب
أنس
اللفظ بالمعنى بحيث إذا سمع فهم منه المعنى.
ثم إنه لا بد في تحقق الوضع من أن يلحظ لفظ ومعنى، فالمعنى
الملحوظ حين الوضع إما عام أو خاص.
وعلى الأول: إما أن يوضع اللفظ بإزاء نفسه، أو يوضع بإزاء مصاديقه.
17

وأما على الثاني: فلا محالة يكون الموضوع له نفس المعنى الملحوظ،
فالأقسام بحسب مقام الثبوت ثلاثة.
وربما يتوهم إمكان قسم رابع، وهو أن يكون المعنى الملحوظ خاصا
والموضوع له عاما. وهو كما ترى، فإن الخاص بما هو خاص و
جزئي لا يصير وجها ومرآة للعام دون العكس، فإن العام وإن لم تعقل
حكايته للافراد بخصوصياتها المفردة والمشخصة، لكنه يحكيها
بما أنها وجودات له.
فإن قلت: العام والخاص بحسب المفهوم متغايران، لكنهما يتحدان
بحسب الوجود والتحقق، بل مفهوم العام جز من مفهوم الخاص
أيضا، بحيث لو ألقيت منه الخصوصيات المفردة لم يبق إلا حيثية
العام، وحينئذ فإن أريد بحكاية الخاص إياه حكاية الخاص بما هو
خاص
ومشوب بالخصوصيات سلمنا امتناعه، لكن الامتناع بهذا اللحاظ
يجري في العكس أيضا. وإن أريد بها حكاية الخاص بحيثيته الذاتية
مع
قطع النظر عن الخصوصيات الزائدة لم نسلم امتناعه كما هو المفروض
في العكس أيضا، حيث إن المحكي هو الافراد لا بخصوصياتها.
قلت: فرق بين أن يكون لحاظ شي لحاظ لشئ آخر بوجه، وبين أن
يكون لحاظه سببا للحاظ شي آخر مستقلا، بحيث يكون هناك
لحاظان تولد أحدهما من الاخر. ففي ما نحن فيه يكون لحاظ العام
بنفسه لحاظا لمصاديقه بوجه، حيث إنه يلحظ العام بما أنه مرآة لها،
وأما الخاص فليس لحاظه لحاظا للعام لعدم كونه مرآة له.
نعم، يمكن أن ينتقل الذهن من لحاظه إلى العام، فيلحظه مستقلا،
فيصير الملحوظ حين الوضع كالموضوع له عاما، فتأمل والحاصل أن
الاقسام بحسب التصور أربعة، ولكن الممكن منها في مقام الثبوت
ثلاثة.
وأما في مقام الاثبات: فمثال القسم الأول الاعلام الشخصية، ومثال
القسم الثاني أسماء الأجناس، وأما القسم الثالث فربما يمثل له
بالحروف فيكون الوضع فيها عاما والموضوع له خاصا، وربما يقال
فيها أيضا بكون الموضوع له كالوضع عاما، ولا بد في تعيين ما
هو الحق في المسألة من بيان حقيقة المعنى الحرفي في قبال المعاني
الاسمية.
المعنى الحرفي:
فنقول: قد ذكر في الفرق بين معاني الحروف ومعاني الأسماء المرادفة
لها بحسب الظاهر (كلفظة من والابتداء مثلا) أقوال، يمكن
إرجاعها إلى معنى واحد.
18

قال ابن الحاجب في الكافية في حد الاسم: إنه ما دل على معنى في
نفسه، وفي تعريف الحرف: إنه ما دل على معنى في غيره.
وقال الشارح الرضي في ذيل التعريف الأول ما حاصله: إن الضمير
البارز في (نفسه وغيره) لكلمة (ما) المراد بها الكلمة، ثم نقل قول
المصنف برجوعهما إلى المعنى ثم قال: ومعنى الكلام على ما
اخترناه: الاسم كلمة دلت على معنى ثابت في نفس تلك الكلمة، و
الحرف
كلمة دلت على معنى ثابت في لفظ غيرها، إلى أن قال: معنى (من) و
لفظ الابتداء سواء، إلا أن الفرق بينهما أن لفظ الابتداء ليس مدلوله
مضمون لفظ آخر، بل مدلوله معناه الذي في نفسه مطابقة، ومعنى
(من) مضمون لفظ آخر ينضاف ذلك المضمون إلى معنى ذلك اللفظ
الأصلي. (انتهى).
ومحصل ما ذكره (قدس سره) في تحقيق المعنى الحرفي أن الحرف
وحده لا معنى له أصلا، بل هو كالعلم المنصوب بجنب شي، ليدل
على أن في ذلك الشئ خصوصية ما، فيكون الحرف دالا على
خصوصية معنى هو مضمون لفظ أو ألفاظ أخر، والمعنى الحرفي
بمنزلة
الكيفية المشخصة لمعنى ذلك اللفظ أو الألفاظ، مثلا معنى كلمة
(سرت) في قولنا: (سرت من البصرة) هو صدور السير من الفاعل، و
لكن
الامتداد السيري محدود لا محالة، ومتخصص بانقطاعه أولا وآخرا،
فمضمون كلمة (سرت) عبارة عن هذا السير المحدود المتخصص،
وجي بكلمة (من) للدلالة على الانقطاع الابتدائي الذي هو من
خصوصيات هذا المضمون ومن كيفياته.
وقال صاحب الجامي نقلا عن المصنف في الايضاح: إن الضمير
يرجع إلى المعنى، أي ما دل على معنى باعتباره في نفسه وبالنظر إليه
في نفسه. ثم ذكر لبيان ذلك حاصلا ومحصولا لا يهمنا ذكرهما، و
محصل ذلك أن المعنى الاسمي مفهوم متحصل بنفسه لا يحتاج في
تحصله ذهنا إلى معنى آخر، بخلاف المعنى الحرفي فإنه متحصل في
الذهن ومتحقق فيه بتبع غيره من المعاني.
وقال المحقق الشريف في حاشيته على المطول: إن معاني الأسماء
معان استقلالية ملحوظة بذواتها، ومعاني الحروف معان آلية حيث
إنها تلحظ بنحو الالية والمرآتية لملاحظة غيرها.
وقال المحقق صاحب الحاشية على المعالم: إن معاني الأسماء معان
متحصلة في نفس الامر، ومعاني الحروف معان إنشائية إيقاعية
توجد بإنشاء المتكلم.
وقال بعض محشي القوانين: إن المعنى الحرفي عبارة عن حقائق
الارتباطات الواقعة بين المفاهيم المستقلة بحسب اللحاظ، والمعنى
الاسمي عبارة عن نفس تلك المفاهيم المستقلة المتشتتة
19

التي لا ارتباط بينها في حد ذاتها، مع قطع النظر عن المعاني الحرفية.
هذا ملخص ما ذكروه في المقام، ولا يخلو بعض تعبيراتهم من الخلل،
وإن أمكن إرجاع جميعها ولو بالتأويلات البعيدة إلى ما سنحققه
فالواجب هو تحقيق المسألة بنحو ينحل به إجمال هذه الكلمات أيضا.
الفرق بين المعاني الاسمية والحرفية:
فنقول: بعد جعل مدار الكلام حول المثال المعروف أعني قوله (سرت
من البصرة إلى الكوفة)، إنا إذا خرقنا حجب الألفاظ، وتوجهنا إلى
الخارج بعد ما صدر فيه سير عن فاعل خاص، مبتدئا فيه من البصرة، و
منتهيا إلى الكوفة، لا نرى فيه في هذه الواقعة إلا أربعة أشياء
موجودة متأصلة: ذات الفاعل، والسير الذي هو من عوارضه وأفعاله
وبلدتي البصرة والكوفة، ولا نرى فيه وراء هذه الأربعة شيئا
يسمى بالصدور عن الفاعل أو الابتدائية أو الانتهائية. نعم ما نراه في
الخارج في هذه الواقعة ليس هو السير المطلق، بل هو سير وامتداد
خاص، يرتبط بالفاعل بصدوره عنه، وبالبصرة والكوفة بانقطاعه
عندهما أولا وآخرا، ولكنه ليست هذه الخصوصيات الثلاث
موجودة في الخارج بحيالها في قبال تلك الوجودات الأربعة، بل
تكون مندكة فيها وموجودة بتبعها، هذا حال الخارج.
وأما الذهن، فلاتساعه، بحيث ربما يوجد فيه مستقلا ما لا وجود له
في الخارج، يكون إدراكه لهذه الواقعة على نحوين:
الأول: أن يوجد وينتقش فيه عين ما في الخارج ونقشه أعني السير
المتخصص بالخصوصيات الثلاث، بحيث تكون المعاني الأربعة
(أعنى ذات الفاعل، والسير الذي هو امتداد خاص وبلدتي البصرة و
الكوفة) في هذا اللحاظ ملحوظة بحيالها واستقلالها، و
الخصوصيات الثلاث (أعني ارتباط السير بالفاعل بصدوره عنه، و
بالبصرة بانقطاعه عندها أولا، وبالكوفة بانقطاعه عندها آخرا)
مندكة فيها.
وبالجملة: تكون هذه الخصوصيات الثلاث في الوجود الذهني أيضا
مندكة وفانية في تلك المعاني الأربعة، على حسب ما في الخارج.
الثاني: أن يلاحظ الخصوصيات الثلاث أيضا بحيالها في قبال تلك
المعاني الأربعة من غير أن يلحظ بعضها من خصوصيات غيره ومندكا
فيه، فيتصور في هذا النحو من اللحاظ مفهوم
20

الصدور والابتدائية والانتهائية، كما تتصور ماهية السير، وذات
الفاعل، والبلدتان، ويقال في مقام حكايتها: السير - الصدور - أنا -
الابتداء - البصرة - الانتهاء - الكوفة. فيكون الموجود في الذهن في
هذا اللحاظ سبعة معان مستقلة متفرقة، لا ربط بينها أصلا، يعبر
عنها بسبعة ألفاظ غير مرتبطة، فما كان بحسب اللحاظ الأول رابطة
بالحمل الشائع يصير بحسب اللحاظ الثاني مفهوما مستقلا يحتاج
في ارتباطه بالغير إلى رابط، فيقال مثلا: ابتدأت من البصرة أو يقال:
ابتدأ السير البصرة، فيرتبط مفهوم الابتدائية بغيره بوسيلة كلمة
(من) أو بهيئة الإضافة.
والحاصل: أن عالم الذهن والتصور لما كان أوسع من عالم الخارج و
التحقق، فيمكن أن يوجد فيه نقش الخارج من دون تفاوت،
فتكون المعاني مرتبطة فيه بحقيقة الارتباط على وزان ما في الخارج، و
يمكن أيضا أن يوجد فيه ما كان بحسب اللحاظ الأول حقيقة
ربطية مندكة، بنحو الاستقلال في قبال سائر المعاني المستقلة.
إذا عرفت هذا فنقول: المعنى الحرفي عبارة عن المفهوم الاندكاكي
الذي به يحصل الربط بين المفاهيم المستقلة، ويكون بحسب اللحاظ
من خصوصيات المفاهيم المستقلة، والمعنى الاسمي عبارة عن
المفاهيم المستقلة المتفرقة في حد ذاتها.
وبعبارة أخرى: حقيقة الارتباط والتخصص المتحقق في الخارج بنحو
الفناء والاندكاك في الطرفين، إن وجدت في الذهن على وزان
وجودها الخارجي يكون معنى أداتيا، وإن انتزع عنها مفهوم مستقل
ملحوظ بحياله في قبال مفهومي الطرفين يصيرا مفهوما اسميا.
فلفظ الابتداء مثلا موضوع لمفهوم الابتدائية المنتزعة عن الطرفين، و
الملحوظة بحيالها في قبال الطرفين، بحيث صار بنفسه طرفا
يحتاج إلى الربط، ولفظة (من) موضوعة لحقيقة الارتباط الابتدائي
التي توجد في الذهن، بنحو الاندكاك في الطرفين، كما في الخارج،
وبها يحصل الربط بينهما.
وبهذا البيان ظهر: أن الفرق بين المعنى الحرفي والمفهوم الاسمي
فرق جوهري ذاتي وأنهما سنخان من المعنى، وضع لأحدهما الاسم،
وللاخر الحرف.
ما هو الموضوع له في الحروف؟:
وظهر أيضا: أن الموضوع له في الحروف لا يعقل أن يكون عاما، لما
عرفت من أن الموضوع له لكلمة (من) مثلا، ليس هو مفهوم
الابتدائية الذي هو معنى كلي، بل هو حقيقة الارتباط الابتدائي
الخاص المندك في الطرفين.
21

وبعبارة أخرى: المعنى الحرفي عبارة عن حقيقة الربط ومصداقه
الخاص المتحقق بتبع الطرفين، وهي الموضوع له لكلمة (من) مثلا،
فيكون الموضوع له للحروف خاصا لا محالة.
وقال شيخنا الأستاذ صاحب الكفاية (قدس سره) في المقام ما
حاصله: إن حال الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف حالهما في
الأسماء، إذا الخصوصية المتوهمة إن كانت هي الموجبة لكون المعنى
جزئيا خارجيا فمن الواضح أن كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه فيها
كذلك، بل كليا، ولذا التجأ بعض الفحول إلى جعله جزئيا إضافيا، وهو
كما ترى، وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئيا ذهنيا، حيث إنه لا
يكون المعنى حرفيا إلا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر ومن خصوصياته،
فالمعنى وإن صار بهذا اللحاظ جزئيا، إلا أن هذا اللحاظ لا يكون
مأخوذا في المستعمل فيه.
أما أولا: فلانه يلزم وجود لحاظ آخر متعلق به حين الاستعمال، بداهة
أن تصور المستعمل فيه مما لا بد منه في الاستعمال، وهو كما ترى.
وأما ثانيا: فلانه يلزم أن لا يصدق على الخارجيات، فامتنع امتثال مثل
(سر من البصرة) إلا بالتجريد.
وأما ثالثا: فلانه ليس لحاظ الالية في الحروف إلا كلحاظ الاستقلال في
الأسماء، وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه
فيها، فكذلك ذاك اللحاظ في الحروف. إن قلت: على هذا لم يبق فرق
بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم كون مثل كلمة (من) ولفظ
الابتداء مترادفين صح استعمال كل منهما في موضع الاخر.
قلت: الفرق بينهما إنما هو في اختصاص كل منهما بوضع، حيث وضع
الاسم ليراد منه معناه، بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليراد منه
معناه لا كذلك، فاختلافهما في الوضع يكون موجبا لعدم جواز
استعمال أحدهما في موضع الاخر، وإن اتفقا فيما له الوضع، وقد
عرفت
أن نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصياته و
مقوماته. (انتهى).
أقول: قد عرفت مما ذكرنا أن الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي فرق
جوهري ذاتي، وأن المفهوم الاسمي مفهوم مستقل كلي، و
المعنى الاداتي حقيقة ربطية مندكة في الطرفين، وأين أحدهما من
الاخر؟ وليس الفرق بينهما بصرف اشتراط الواضع، وبذلك يعلم
أيضا أن الخصوصية في المقام ليست هي الموجبة لكونه جزئيا ذهنيا
حتى ترد عليه الاشكالات الثلاثة، بل المعنى الحرفي جزئي حقيقي،
حيث إن المراد به حقيقة الربط ومصداقه المتحقق بتبع الطرفين، ولا
محالة يكون جزئيا حقيقيا، ولا ينافي ذلك كلية الطرفين و
المرتبطين، فالنسبة الخبرية الموجودة في قولنا: (الانسان كاتب) مثلا
نسبة جزئية خاصة بها تحقق الربط بين الموضوع
22

والمحمول، مثل النسبة المتحققة في قولنا (زيد قائم)، وذلك لان
النسبة المتحققة في القضية الملفوظة والمعقولة ليست إلا عبارة عن
ثبوت المحمول للموضوع، وقولنا: (الانسان كاتب) قضية واحدة، فلها
موضوع واحد ومحمول واحد ونسبة واحدة، وكذلك الربط
الابتدائي المتحقق في قولنا:
(سر من البصرة) ربط جزئي بها تحقق الارتباط بين مفهوم السير و
البصرة، مثل الربط المتحقق في قولنا: (سرت من البصرة)، بلا
تفاوت أصلا.
وبالجملة: فحقيقة الربط ليست إلا اتصال الطرفين والمرتبطين، لا
مفهوم الاتصال، بل ما يكون بالحمل الشائع اتصالا. وهو معنى
شخصي متقوم بالطرفين، وإن كان الطرفان كليين.
وأما ما التجأ إليه بعض الفحول من جعله جزئيا إضافيا فواضح الفساد،
كما أشار إليه في الكفاية بقوله (كما ترى)، إذ الجزئي الإضافي
ليس أمرا متحققا في الخارج، بل هو مفهوم كلي، غاية الأمر كونه تحت
مفهوم آخر، ولا يعقل في مقام الوضع أن يتصور مفهوم ويجعل
مرأة لمفهوم آخر وإن كان أخص منه، إذ المفاهيم بأسرها متباينة، و
ليس حكاية الكلي للافراد أيضا باعتبار خصوصياتها المفردة أو
المشخصة، بل بما أنها وجودات له.
وبالجملة: فالكلي لا يحكي إلا وجوداته بما هي وجوداته، ولا يعقل
أن يحكي خصوصيات الافراد، ولا مفهوما آخر.
وقد تلخص لك مما ذكرنا امتياز الموضوع له في الحروف مما هو
الموضوع له في الأسماء ذاتا، وأنهما سنخان من المفاهيم.
وأما المحقق الخراساني (قدس سره) فظاهر كلامه كون الالية و
الاستقلالية من أنحاء الاستعمال، مع وحدة الموضوع له ذاتا، نظير
حيثية الانشائية والاخبارية، ولكن نحن نسلم رجوع بعض الحيثيات،
كحيثية الانشائية والاخبارية والتصورية والتصديقية إلى نحو
الاستعمال، لكن الالية والاستقلالية كما عرفت ترجعان إلى الفرق
الذاتي بين المعنى الاسمي والمفهوم الاداتي.
أنحاء استعمالات اللفظ:
وحيث انجر الكلام إلى هنا فاللازم بيان أنحاء الاستعمال بنحو
الاجمال، فنقول: إن الانسان لما كان محتاجا في إدامة حياته وإمرار
معاشه إلى تفهيم مقاصده وإلقائها إلى أبناء نوعه، ليتعاونوا ويتوازروا،
وكانت الألفاظ أقرب الوسائل إلى ذلك وأعمها نفعا من جهة
أن التنفس كان امرا ضروريا قهريا لجميع البشر، وكان الهواء عند
خروجه من الرئة وإصابته المقاطع، مما يمكن أن
23

توجد بوسيلته أصوات موزونة، يخالف بعضها بعضا، بحيث تتولد منه
الحروف أولا، وتتولد منها الكلمات، بسبب التركيب ثانيا. فلأجل
ذلك اختار البشر هذا الامر الطبيعي وجعله وسيلة لافهام مقاصده،
بالوضع والمواضعة. وحيث إن الوضع كان لرفع الاحتياجات، و
كانت الحوائج مختلفة والمقاصد متفاوتة، فلا محالة لاحظ الواضع
حين وضعه أنواع المقاصد وأصناف المفاهيم والأنحاء المتصورة
لالقائها وإفهامها، ثم وضع الألفاظ بمقدار تنسد به جميع طرق
الحاجة.
وبالجملة: فالواضع حين الوضع لاحظ أنواع احتياجات المتكلمين،
فرأى أنهم ربما يحتاجون إلى إلقاء المفاهيم المستقلة المتشتتة في حد
ذاتها، وربما يحتاجون إلى إلقاء المعاني الربطية الاندكاكية، وأنهم قد
يقصدون إعلام المعنى وإفهامه بوسيلة اللفظ، وقد يقصدون
إيجاده بوسيلته، وفي إعلام المعاني الربطية ربما يكون داعيهم إلى
إعلامها تصور المخاطب إياها، وقد يكون داعيهم تصديقه
بوقوعها، فوسع دائرة وضعه بمقدار يفي بتلك الحوائج.
وزبدة أقسام اللفظ بحسب أنواع المعاني وأنحاء الاستعمالات
المتصورة خمسة أقسام.
بيان ذلك: أن استعمال المتكلم للفظ وطلبه عمل اللفظ في المعنى:
تارة يكون بنحو الاعلام والافهام، وهذا إنما يكون فيما إذا فرض
للمعنى مع قطع النظر عن هذا الاستعمال الخاص نفس آمرية ما،
فأريد باستعمال اللفظ فيه إفهام المخاطب إياه، حتى يتصوره أو
يصدق بوقوعه.
وتارة يكون بنحو الايجاد، بحيث يكون صدور اللفظ عن اللافظ آلة
لايجاده، وهذا إنما يتصور فيما إذا كان المعنى من الأمور
الاعتبارية، التي أمر إيجادها بيد المتكلم.
أما القسم الأول، أعنى المعنى الذي كان عمل اللفظ فيه عملا إفهاميا،
فهو على نوعين: إذ المعنى الافهامي إما أن يكون من المفاهيم
المستقلة، وإما أن يكون من المفاهيم الربطية الاندكاكية.
أما النوع الأول فكمفهوم الرجل والضرب ونحوهما من المفاهيم
المستقلة غير المرتبطة، وتسمى هذه المفاهيم بالمعاني الاسمية، و
تكون الأسماء موضوعة بإزائها. ولا محالة يكون عمل اللفظ فيها عملا
إفهاميا تصوريا، حيث إن مقصود المتكلم من ذكر اللفظ فيها، هو
أن يفهم المخاطب معناه ويتصوره بنحو الاستقلال.
وأما النوع الثاني فكالمعاني الحرفية، والنسب الإضافية والايقاعية، و
قد وضع بإزاء هذا النوع من المعاني ألفاظ الحروف والهيئات. و
هذا النوع من المعاني أيضا ينقسم إلى صنفين: فإن عمل اللفظ في
المفهوم الاندكاكي إما أن يكون بنحو الافهام والاعلام التصوري بأن
يريد المتكلم
24

باستعماله إلقاء المعنى الاندكاكي إلى المخاطب ليتصوره بنحو
الاندكاك في الطرفين وإما أن يكون بنحو الاعلام التصديقي بأن يريد
باستعماله إلقائه إليه ليصدق بوقوعه.
فالصنف الأول كالمعاني الحرفية، التي يتحقق بسببها الارتباط بين
المعاني الاسمية من دون أن تكون متعلقة للتصديق، كالربط
الابتدائي الرابط بين السير والبصرة، والربط الانتهائي الرابط بين السير
والكوفة، وكالنسبة الإضافية غير التامة المتحققة بين
المضاف والمضاف إليه في نحو (سيري) و (سير زيد) مثلا.
والصنف الثاني كالنسبة التامة المتحققة بين الفعل وفاعله، وبين
المبتدأ والخبر، فإنها معنى اندكاكي وضع بإزائه هيئة الجملة، و
يكون المقصود من إلقائه إلى المخاطب أن يصدق بوقوعه.
وأما القسم الثاني أعني المعنى الذي كان عمل اللفظ فيه عملا
إيجاديا، بحيث جعل آلة لايجاده، فهو أيضا على نوعين: الأول ما لا
يكون
معنى فانيا مندكا في غيره، وهذا مثل الطلب الموجد بمثل (اضرب)
مثلا، أو (أطلب منك الضرب) أو (تضرب) إذا استعملا بقصد الانشاء،
ومثل جميع مضامين العقود والايقاعات الموجدة بسبب صيغها في
عالم الاعتبار. الثاني ما يكون فانيا في غيره، فيكون الموجد بسبب
اللفظ معنى اندكاكيا، وهذا مثل حقيقة الإشارة التي توجد بأسماء
الإشارة والضمائر والموصولات، فان التحقيق كون جميع المبهمات
من واد واحد، وقد وضعت لان توجد بها الإشارة فيكون الموضوع له
فيها نفس حيثية الإشارة، التي هي معنى اندكاكي وامتداد موهوم
متوسط بين المشير والمشار إليه، ويكون عمل اللفظ فيها عملا
إنشائيا، فقولك (هذا) بمنزلة توجيه الإصبع، الذي توجد به الإشارة، و
يكون آلة لايجادها.
وما قيل: من كون كلمة (هذا) موضوعة للمفرد المذكر المشار إليه
فاسد جدا، بداهة عدم وضعها لمفهوم المشار إليه، ولم يوضع لذات
المشار إليه الخارجي الواقع في طرف الامتداد الموهوم أيضا، إذ ليس
لنا - مع قطع النظر عن كلمة (هذا) - إشارة في البين، حتى يصير
المفرد المذكر مشارا إليه، ويستعمل فيه كلمة (هذا).
وبالجملة: لفظة (هذا) مثلا وضعت لنفس الإشارة، ويكون عمل اللفظ
فيها عملا إيجاديا، ولم توضع للمشار إليه، كما قيل. وقد أشار
إلى ما ذكرنا في الألفية حيث قال: بذا لمفرد مذكر أشر) إلى آخر ما قال.
نعم لما كانت حقيقة الإشارة أمرا اندكاكيا فانيا في المشار إليه، فلا
محالة ينتقل الذهن من
25

كلمة (هذا) إلى المشار إليه، ويترتب على هذا اللفظ أحكام اللفظ
الموضوع للمشار إليه، فيجعل مبتدأ مثلا، وتحمل عليه أحكام المشار
إليه، فيقال: (هذا قائم) كما يقال: (زيد قائم).
ونظير ذلك، الضمائر والموصولات، فيشار بضمير المتكلم إلى نفس
المتكلم، وبضمير المخاطب إلى المخاطب، وبضمير الغائب إلى
المرجع المتقدم ذكره حقيقة أو حكما، فيوجد بسببها في وعاء
الاعتبار امتداد موهوم بين المتكلم وبين نفسه أو المخاطب أو ما تقدم
ذكره، ويشار بالموصول أيضا إلى ما هو معروض الصلة.
والحاصل: أن جميع المبهمات قد وضعت بإزاء الإشارة، لتوجد
بسببها الإشارة إلى أمور متعينة في حد ذاتها، إما تعينا خارجيا كما في
الأغلب، أو ذكريا كما في ضمير الغائب، أو وصفيا كما في
الموصولات، حيث إنه يشار بها إلى ما يصدق عليه مضمون الصلة، و
لأجل ذلك
يستفاد من الموصولات العموم بتبع عموم الصلة، فهذه هي أنواع
الألفاظ المستعملة في المعاني.
وقد عرفت أن بعض الحيثيات يرجع إلى الاختلاف الذاتي بين
المفاهيم: كحيثية الالية والاستقلالية، حيث إن المعاني كانت على
سنخين،
والواضع كما لاحظ المفاهيم المستقلة، ووضع بإزائها نبذا من
الألفاظ، كذلك لاحظ المعاني الربطية ووضع لها قسمة من الألفاظ و
الهيئات، وبعض الحيثيات يرجع إلى نحو الاستعمال كحيثية الافهامية
والانشائية والتصورية والتصديقية، فإن هذه الحيثيات ليست
مأخوذة في الموضوع له، وإنما هي أنحاء عمل اللفظ في المعنى، و
قد لاحظها الواضع حين وضعه من جهة أن وضعه كان لرفع الحوائج، و
كان يلاحظ حين الوضع أن الناس ربما يحتاجون إلى إفهام المعنى، و
ربما يحتاجون إلى إيجاده، والافهام ربما يكون بداعي التصور،
وربما يكون بداعي التصديق، فلا محالة كان عليه أن يوسع دائرة
الوضع، ويضع بعض الألفاظ لبعض المعاني، حتى يستعمل فيها بنحو
الايجاد، وبعضها لمعان أخر حتى يستعمل فيها بنحو الافهام: إفهاما
تصوريا أو تصديقيا كما مر تفصيله.
فلفظة (هذا) مثلا لم توضع بإزاء إيجاد الإشارة، بل الموضوع له نفس
حيثية الإشارة، وحيثية الايجاد إنما جاءت من قبل الاستعمال،
لكنها ملحوظة حين الوضع. وكذلك هيئة الفعل أو الجملة مثلا لم
توضع بإزاء التصديق بوقوع النسبة، بل وضعت بإزاء نفس النسبة،
غاية الأمر
أنها وضعت لها لتستعمل فيها استعمالا إفهاميا تصديقيا، كما أن
هيئة الإضافة وضعت لها لتستعمل فيها استعمالا إفهاميا تصوريا.
وبذلك يعلم الفرق بين قولنا: صدر الضرب من زيد، وقولنا: صدور
الضرب من زيد مثلا، فافهم
26

الفرق بين الانشاء والاخبار:
وقد تبيين لك من جميع ما ذكرنا ما به يفترق الانشاء عن الاخبار، وأنه
يرجع إلى الاختلاف في نحو عمل اللفظ من دون أن تكون
حيثية الانشائية أو الاخبارية مأخوذة في الموضوع له، ولاجل ذلك
ترى كثيرا اشتراك لفظهما، فيستعمل لفظ واحد تارة في الاخبار، و
أخرى في الانشاء كلفظ (بعت) وأمثاله، وكالجمل الاسمية أو الفعلية
المستعملة لايجاد الطلب، فالموضوع له في لفظة (بعت) مثلا ليس
إلا نسبة المادة إلى الفاعل، ويكون هذا المعنى متحققا في الصورتين،
وإنما الاخبارية والانشائية من دواعي الاستعمال وأنحائه.
وهاهنا إشكال في خصوص العقود يجب أن ينبه عليه.
وتقريره: أن المنشأ في باب العقود لا يتحقق في وعاء الاعتبار إلا بعد
القبول، ولا يعتبر أحد من العقلا حتى الموجب تحققه قبله، و
السر في ذلك أن تحقق المنشأ في باب العقود يستلزم نحو تصرف في
حدود سلطنة الطرفين، وليس لاحد إعمال السلطنة إلا فيما هو
سلطان عليه، فما لم ينضم إظهار سلطنة القابل (في ما هو مسلط عليه)
إلى إظهار سلطنة الموجب لا يتحقق المنشأ، وقد عرفت أن اللفظ
في باب العقود آلة لايجاد المضمون، ويكون عمله فيه إيجاديا، و
على هذا فيكون الموجب قاصدا بلفظه إنشاء المضمون وإيجاده، و
المفروض أنه لا يتحقق إلا بعد القبول، فيلزم من ذلك تفكيك المنشأ
من الانشاء والوجود من الايجاد.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن تفكيك الوجود من الايجاد إنما لا
يعقل في الايجاد الحقيقي، وأما الأمور الاعتبارية فتكون في التحقق و
الوجود تابعة لاعتبار المعتبر. فإذا اعتبر الموجب بإيجابه وجود
الانتقال والملكية مثلا بعد انضمام القبول من جهة العلم بعدم إمكان
تحققهما قبله وأن إيجابه جز للسبب، فلا محالة يكون انضمام القبول
شرطا لتحققهما فتدبر.
27

الأمر الثالث: الحقيقة والمجاز
قال شيخنا الأستاذ العلامة (قدس سره) في الكفاية: صحة استعمال
اللفظ فيما يناسب ما وضع له هل هي بالوضع أو بالطبع؟ وجهان بل
قولان، أظهرهما أنها بالطبع، بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه و
لو مع منع الواضع عنه، وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه و
لو مع ترخيصه، ولا معنى لصحته إلا حسنه (انتهى).
ونقول توضيحا لكلامه: إنه إن سمى رجل ولده زيدا مثلا، واتفق
شجاعة هذا الولد بحيث صار معروفا بها وصارت من أظهر خواصه،
نرى بالوجدان صحة استعمال لفظ زيد واستعارته لمن أريد إثبات
شجاعته، وإن لم يطلع على ذلك أبو الولد (الذي هو الواضع)، بل لو
اطلع وصرح بالمنع عنه، كيف ولو احتاج إلى إجازة الواضع ووضعه
شخصا أو نوعا، لم يكن ذلك استعمالا مجازيا، بل يكون على نحو
الحقيقة بسبب وضعه على حدة.
ولكن يرد في المقام أن المصرح به في كلامه (قدس سره) كون صحة
الاستعمال في الاستعمالات المجازية عين حسنه، وأنهما يستندان
إلى الطبع، وهو عندنا محل نظر، إذ الظاهر كون صحته غير حسنه، و
أن المستند إلى الطبع هو الحسن دون الصحة، فإنها تستند إلى
الواضع دائما ولو في الاستعمالات المجازية.
هل المجاز استعمال للفظ في غير ما وضع له؟:
ومنشأ الخلط في المقام ما قرع سمعهم من كون الاستعمال المجازي
استعمالا للفظ في غير ما وضع له، وهو فاسد جدا، إذ اللفظ لا
يستعمل إلا فيما وضع له من جهة أن الدلالة اللفظية
28

الوضعية بنحو المطابقة، لا يعقل بدون الوضع، وهو المصحح
للاستعمال. غاية الأمر أنه قد يكون مراد المتكلم من استعمال اللفظ
في
المعنى الموضوع له إيجاد المعني في ذهن المخاطب، ليتقرر بنفسه
في ذهنه، ويحكم عليه أو به، فيكون نفس المعنى الموضوع له مرادا
جديا، كما هو المراد في مقام الاستعمال.
وقد يكون مراده منه إيجاد المعنى الموضوع له في ذهن المخاطب،
ليصير هذا المعنى معبرا ومنشئا لانتقال ذهنه إلى معنى آخر، من
جهة كون المعنى الثاني عين الموضوع له أو من أفراده ادعاء أو تنزيلا،
فيكون المراد جدا غير ما هو المستعمل فيه حقيقة وإن كان عينه
ادعاء (فأسد) مثلا في قولك (رأيت أسدا يرمي) لم يستعمل في
الرجال الشجاع، بل استعمل في نفس ما وضع له أعني الحيوان
المفترس.
غاية الأمر أنه أريد في هذا الاستعمال انتقال ذهن المخاطب من اللفظ
إلى ما وضع له، ثم انتقاله مما وضع له إلى معنى آخر، أعني الرجل
الشجاع، فكأن اللفظ استعمل في المعنى الموضوع له، واستعمل
المعنى الموضوع له في معنى آخر ادعي كونه عين الموضوع له أو من
أفراده.
ويسمى القسم الأول من استعمال اللفظ فيما وضع له حقيقة، والقسم
الثاني مجازا. ووجه التسمية على ما ذكرنا واضح، فلان الحقيقة
مأخوذة من حق بمعنى ثبت، والمجاز اسم مكان بمعنى المعبر، و
المقصود من استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له في القسم الأول
هو
ثبوت نفس المعنى في ذهن المخاطب، وفي القسم الثاني صيرورة
المعنى الموضوع له معبرا، يعبر به الذهن إلى المعنى الثاني.
أنواع المجاز من واد واحد:
وبالجملة: فنحن ندعي في جميع المجازات ما ادعاه السكاكي في
خصوص الاستعارة.
ولطافة الاستعمالات المجازية مستندة إلى ما ذكرناه من ادعاء كون
المعنى المقصود عين ما وضع له اللفظ أو من أفراده. وتختلف
درجات لطافة الكلام وملاحته باختلاف مراتب الادعاء المذكور،
بحسب الدقة والحسن، وربما يبلغ في ذلك حد الاعجاب والاعجاز.
كيف وصرف استعمال اللفظ في غير ما وضع له من دون توسيط
الادعاء المذكور، لا يوجب لطافة وحسنا، فالأسد في قولنا:
(رأيت أسدا يرمي) لو استعمل في زيد الشجاع لا يوجب مزية وحسنا
زائدا على قولنا: (رأيت
29

يرمي)، ما لم يتوسط في البين ادعاء كونه بالغا في الشجاعة حدا صار
من أفراد الأسد، واستحق أن يستعمل فيه لفظ الأسد. وكذلك
إطلاق لفظ (يوسف) مثلا بعلاقة التضاد على من قبح منظره لا يوجب
ملاحة وحسنا في الكلام، ما لم يتوسط في البين ادعاء كونه عين
الموضوع له لهذا اللفظ، كيف ولو كان إطلاق لفظ (يوسف) على (زيد)
الذي قبح منظره أو إطلاق لفظ (أسد) عليه لغاية جنبه استعمالا
للفظ في غير ما وضع له، من دون أن يتوسط الادعاء المشار إليه، لكان
إحضاره وإيجاده في ذهن المخاطب بسبب هذا اللفظ مثل
إحضاره في ذهنه بلفظ (زيد) من دون أن تكون هناك ملاحة ولطافة
زائدة.
والحاصل: أن اللفظ يستعمل دائما في نفس ما وضع له، غاية الأمر أن
المراد الجدي إما أن يكون نفس الموضوع له حقيقة، وإما أن
يكون عينه أو من أفراده ادعاء وتنزيلا. ففي الحقيقة تنحل القضية
المشتملة على استعمال مجازي إلى قضيتين: قضية منطوقة حكم فيها
بثبوت المحمول للموضوع، وقضية ضمنية حكم فيها بكون المراد
الجدي عين الموضوع له أو من أفراده ادعاء.
ومراتب اللطافة والمزية الموجودة في أنحاء الاستعمالات المجازية
إنما هي بحسب درجات الحسن في مفاد القضية الثانية، فربما
يكون الادعاء المذكور مما لا تقبله ذائقة الطبع، وربما تقبله و
تستحسنه، وربما يصل إلى حد الاعجاز والخروج عن طاقة البشر.
وكيف كان ففي جميع الموارد التي يدعى كونها من قبيل استعمال
اللفظ في غير ما وضع له يكون اللفظ عندنا مستعملا في نفس ما
وضع له، إما بلا توسيط ادعاء في البين كما في قولنا (ضربت زيدا) فان
الضرب وإن وقع على وجهه مثلا، لكنه لم يستعمل لفظ زيد في
الوجه، ولم يتوسط في البين أيضا ادعاء كون وجه زيد نفسه، بداهة أن
الضرب الواقع على وجه زيد واقع على زيد حقيقة بعد لحاظه
موجودا وحدانيا من الرأس إلى القدم، واما مع توسيط ادعاء كون
المراد الجدي عين الموضوع له أو من أفراده.
ومما ذكرنا ظهر لك أن المصحح لاستعمال اللفظ دائما هو الوضع
ليس إلا، فإنه يستعمل دائما في نفس الموضوع له. نعم، حسن الكلام
و
لطافته في المجازات مستند إلى حسن الادعاء المذكور، وهو مقول
بالتشكيك، وربما يصل إلى حد الاعجاز، فصحة الاستعمال غير
حسنه، والأولى مستندة إلى الوضع دائما ولا توجد لها مراتب، بل
يدور أمرها بين الوجود والعدم، فإن كان وضع في البين صح
الاستعمال، وإلا فلا. والثاني يستند إلى الطبع، وتختلف مراتبه
30

باختلاف مراتب قبول الطبع واستحسانه.
وقد تلخص مما ذكرنا: أن ما ذكره (قدس سره) في الكفاية من كون
الاستعمالات المجازية مستندة إلى الطبع أمر صحيح، ولكن يرد
عليه أن المستند إلى الطبع هو حسنها، وأما صحتها فمستندة إلى
الوضع. وليست صحة الاستعمال عين حسنه، كما أوضحناه فتأمل
جيدا
31

الأمر الرابع: ذكر اللفظ وإرادة نوعه أو مثله أو شخصه
قال شيخنا الأستاذ (قدس سره) في الكفاية ما حاصله: إنه لا شبهة في
صحة إطلاق اللفظ وإرادة نوعه به أو صنفه أو مثله، وأما إطلاقه
وإرادة شخصه ففي صحته بدون تأويل نظر، لاستلزامه اتحاد الدال و
المدلول، إلى آخر ما قال (قدس سره).
أقول: الظاهر عدم كون المقام من قبيل استعمال اللفظ في المعنى، كما
ذكر (قدس سره) أيضا في آخر كلامه. وتحقيق ذلك يتوقف على
ذكر مقدمة وهي: انك قد عرفت سابقا أن الانسان لما كان محتاجا في
إدامة الحياة إلى إظهار ما في ضميره وإلقائه إلى أبناء نوعه
ليتعاونوا ويتوازروا، وكان إلقاء المعنى إلى الغير بدون الوسيلة أمرا
غير معقول، فلا محالة اختاروا لذلك أسهل الوسائل وأعمها نفعا
وهي التلفظ، من جهة أن التنفس كان أمرا ضروريا قهريا لجميع أبناء
النوع، وكان تحصل من الهواء الخارج من الرئة - بسبب اصابته
المقاطع - أصوات موزونة يخالف بعضها بعضا، بحيث تتولد منها
الحروف المختلفة وتتولد من الحروف بسبب التركيب الكلمات و
الجمل، فوضع كل منها بإزاء معنى خاص. ويكون طريق الإفادة فيها
أن الألفاظ الموضوعة كلها من تعينات الصوت، الذي هو من مقولة
الكيف المسموع، فلا محالة يتأثر منها العصب السمعي، وبسببه تنتقل
صورة اللفظ إلى الحس المشترك، فيدركه المخاطب أولا، ثم ينتقل
منه ذهنه إلى المعنى المراد من جهة العلقة الحاصلة بين اللفظ و
المعنى بوسيلة الوضع، فما يوجد في ذهن المخاطب أولا هو اللفظ، و
منه
ينتقل إلى المعنى، ولكن أنس الذهن الحاصل بسبب الوضع وكثرة
استعماله في المعنى يوجبان فناءه فيه، بحيث يغفل عنه ذهن
المخاطب ويصير تمام توجهه إلى المعنى.
ثم إن الموضوع بإزاء المعنى وإن كان طبيعة اللفظ بما هي هي، لكن ما
يصدر عن المتكلم
32

ويلقى إلى المخاطب شخص خاص من هذه الطبيعة، من جهة أن
الوجود مساوق للتشخص، فلا محالة يكون اللفظ الملقى إلى
المخاطب
وجودا شخصيا متخصصا بصدوره عن هذا اللافظ بالكيفية الخاصة
في زمان خاص ومكان مخصوص، بحيث إن تكرر هذا اللفظ من هذا
اللافظ أو لافظ آخر تحقق هنا وجودان متمايزان من هذه الطبيعة.
وبالجملة: ما يلقى إلى المخاطب ويوجد في ذهنه شخص خاص من
طبيعة اللفظ الموضوع، لكن المخاطب لو خلي وطبعه يغفل عن هذه
الخصوصيات والعوارض المشخصة، ويتوجه ذهنه إلى طبيعة اللفظ،
ومنه إلى المعنى.
حقيقة الاستعمال:
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن في موارد استعمال اللفظ في
المعني - كما عرفت - انما يوجد المتكلم اللفظ لينتقل بوسيلة
العصب
السمعي إلى ذهن المخاطب أولا، ثم يعبر به ذهنه إلى المعنى، ففي
هذه الموارد يصح إطلاق لفظ الاستعمال من جهة كونه عبارة عن
طلب
عمل اللفظ في المعنى، وكونه معبرا لذهن المخاطب إليه، وأما في
موارد إرادة النوع أو الصنف أو المثل أو الشخص فلا يراد من إيجاد
اللفظ في ذهن المخاطب أن ينتقل منه ذهنه إلى شي آخر، بل يراد
ثبوت نفس اللفظ وتقرره في ذهنه، حتى يحكم عليه أو به، فلا يصح
إطلاق لفظ الاستعمال في هذه الموارد.
بيان ذلك: أنك قد عرفت أن في موارد الاستعمال يكون المتحقق في
ذهن المخاطب بسبب السماع شخص خاص من اللفظ، لكنه لو خلي
وطبعه يغفل عن هذه الخصوصيات المشخصة، بل عن أصل اللفظ، و
يتوجه إلى المعنى من جهة أنس الذهن بالعلقة الوضعية، التي هي أمر
عرضي. وعلى هذا فإذا كان منظور المتكلم أيضا ذلك يخلى
المخاطب وطبعه، وأما إذا كان مراده هو الحكم على نفس طبيعة
اللفظ من
دون نظر إلى المعنى، فحينئذ يذكر اللفظ بقصد أن يوجد بنفسه في
ذهن المخاطب، ويصير الحكم المذكور في القضية قرينة صارفة
لذهن المخاطب عن المعنى، فيتقرر نفس اللفظ في ذهنه. والموجود
في ذهنه وإن كان شخصا خاصا من اللفظ، لكنك عرفت أن ذهنه
غافل عن العوارض المشخصة فيرى طبيعة اللفظ.
وإذا كان مراد المتكلم هو الحكم على شخص اللفظ فلا محالة يذكر
اللفظ بقصد أن يوجد بشخصه في ذهنه، ويصير الحكم المذكور في
القضية قرينة صارفة عن المعنى، ومعينة لإرادة اللفظ
33

الصادر بشخصه.
وإذا كان مراد المتكلم هو الحكم على مثل هذا الشخص الصادر فهو
يذكر اللفظ لينتقل بطبيعته إلى ذهن المخاطب، فيتوجه ذهنه إلى
صرف الطبيعة غافلا عن خصوصياتها، وينتقل بقرينة الحكم إلى
الحصة المتحققة منها في ضمن الشخص المراد. فالانتقال إلى المثل
بسبب القرينة، نظير تعدد الدال والمدلول، لا باستعمال هذا اللفظ
الخاص في مثله.
وبالجملة: في هذه الموارد لا يراد من إلقاء اللفظ إلى المخاطب و
إيجاده في ذهنه أن ينتقل منه إلى شي آخر.
بل يراد في الأول أن يوجد اللفظ بما أنه طبيعة اللفظ، وملقاة عنه
خصوصية صدوره عن هذا المتكلم في هذا الزمان في ذهن
المخاطب، و
يقف عليه ذهنه فيحكم عليه أو به.
وفي الثاني أن يوجد بخصوصية صدوره عن هذا المتكلم في هذا
الزمان في ذهنه، ويقف عليه.
وفي الثالث أن يوجد بطبيعته في ذهنه، ويقف ذهنه بسبب القرينة
على حصة خاصة منها، متحققة في ضمن شخص آخر مماثل. و
الحكم
المذكور في القضية في الموارد الثلاثة قرينة على المراد، وموجب
لعدم عبور ذهن المخاطب من اللفظ إلى شي آخر، فلا يكون في هذه
الموارد استعمال وإفناء للفظ في شي آخر، فلا يصح إطلاق لفظ
الاستعمال.
فان قلت: إذا قال قائل: (زيد لفظ) مثلا، فقلت أنت حاكيا عنه: (زيد
المذكور في قول هذا القائل اسم) يكون قولك (زيد) مرأة للفظ
الواقع في كلامه، وسببا للانتقال إليه فيصير من قبيل الاستعمال.
قلت: لا يكون المراد من ذكر لفظ (زيد) إفناءه في اللفظ الواقع في كلام
القائل إفناء اللفظ في المعنى، بل يكون المراد كما عرفت وجوده
بطبيعته في ذهن المخاطب. وأما انتقال ذهنه إلى الشخص منه -
الواقع في كلام القائل - فبالقرينة المذكورة في الكلام فليس في هذا
القسم أيضا استعمال.
فإن قلت: إذا قيل (ضرب فعل ماض) مثلا، أو قيل: (لو حرف شرط)
فلا يصح أن يراد نفس هذا اللفظ، بل يكون مرآة للأشخاص الاخر،
فيصير من قبيل الاستعمال، بداهة أن كلمة (ضرب) - في هذا الكلام -
ليست فعلا، وكلمة (لو) ليست حرف شرط بل هما اسمان حكم
عليهما.
34

قلت: قد عرفت أن المقصود في أمثال ذلك هو إيجاد صرف طبيعة
اللفظ في ذهن المخاطب ملقاة عنها العوارض المشخصة، والطبيعة
فيها ملحوظة بنحو المرآتية لافرادها فلذا يحكم عليها بالحكم الثابت
للافراد، وليس لحاظ الطبيعة بنحو المرآتية استعمالا لها في
أفرادها.
وبالجملة: فليس اللفظ في المثالين مستعملا في الاشخاص الاخر. بل
المقصود من ذكر اللفظ هو تحقق نفس طبيعة اللفظ في ذهن
المخاطب، لا بما هي هي، بل بما أنها مرآة لافرادها.
وحيث إن المراد في أمثال ذلك نفس اللفظ، صح جعله محكوما
عليه، إذ ما يمتنع أن يصير محكوما عليه هو الفعل والحرف بما لهما
من
المعنى.
35

الأمر الخامس: الدلالة لا تتوقف على الإرادة
قال شيخنا الأستاذ في الكفاية ما حاصله: إنه لا ريب في كون الألفاظ
موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي، لا من حيث هي مرادة للافظها،
لما عرفت من أن قصد المعنى من مقومات الاستعمال، فلا يكون من
قيود المستعمل فيه، إلى أن قال: وأما ما حكي عن العلمين (الشيخ
الرئيس والمحقق الطوسي) من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة،
فليس ناظرا إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة، بل
ناظر إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية - أي دلالتها
على كونها مرادة للافظها - تتبع إرادتها منها، ويتفرع عليها
تبعية مقام الاثبات للثبوت.
إن قلت: على هذا يلزم أن لا تكون هناك دلالة عند الخطأ والقطع بما
ليس بمراد، أو الاعتقاد بإرادة شي ولم يكن له من اللفظ مراد.
قلت: نعم لا تكون حينئذ دلالة، بل تكون جهالة وضلالة يحسبها
الجاهل دلالة، ولعمري ما بينه العلمان - من التبعية - على ما بيناه
واضح.
(انتهى كلامه طاب ثراه).
أقول: قد عرفت منا سابقا في أنحاء الاستعمال أن عمل اللفظ في
المعنى إما أن يكون إيجاديا، وإما أن يكون إفهاميا إعلاميا. والعمل
الافهامي أيضا على نوعين: إفهام تصوري، وإفهام تصديقي، فالافهام
التصوري كدلالة الأسماء على معانيها الاستقلالية وكدلالة
الحروف على معانيها الربطية، وكدلالة هيئة الإضافة على النسبة
الإضافية، فالمقصود من الاستعمال في هذا النوع إلقاء المعنى
الاسمي
أو الحرفي إلى المخاطب، وإفهامه إياه ليتصوره من دون أن يراد
تصديقه بالوقوع، والدلالة في هذا النوع دلالة تصورية. وأما الافهام
التصديقي فكدلالة هيئة الجملة الفعلية أو الاسمية على النسبة التامة
الخبرية، حيث إن المقصود في هذا النوع إلقاء المعنى أي النسبة إلى
المخاطب ليصدق بوقوعها، فالدلالة حينئذ دلالة تصديقية.
36

الافهام تصوري وتصديقي:
إذا عرفت ذلك فنقول: أما ما وضع من الألفاظ والهيئات بداعي
الافهام التصوري فلا تكون دلالتها على معانيها متوقفة على شي، بل
يكون نفس سماعها مع العلم بالوضع موجبا لتصور معانيها الاستقلالية
أو الربطية، من دون توقف على إرادة المتكلم. وأما ما وضع
بداعي الافهام التصديقي، بأن كان المراد من استعمالها في معناها
تصديق المخاطب بوقوعها، فترتب ذلك عليه يتوقف على أن يحرز
المخاطب أمورا أربعة في ناحية المتكلم:
الأول: أن يكون المتكلم عالما بالوضع.
الثاني: أن يكون مريدا لتصديق المخاطب بأن يكون إلقاؤه للمعنى
بداعي التصديق لا بداع آخر.
الثالث: أن يكون عالما جازما بالنسبة لا شاكا فيها.
الرابع: أن يكون علمه مطابقا للواقع، كما في الأنبياء والمرسلين. فإذا
أحرز المخاطب تحقق هذه الأمور في ناحية المتكلم يحصل له
التصديق قهرا بمفاد النسبة التي ألقاها المتكلم وإلا فلا.
وبالجملة فالدلالة التصديقية بالمعنى الذي ذكرناه تتوقف - مضافا
إلى علم المخاطب بالوضع - على إحراز هذه الأمور الأربعة في
ناحية المتكلم، ومنها إرادة المتكلم لتصديقه من دون أن يكون لتلك
المقدمات الأربع دخل في الموضوع له، بل هي مما يتوقف عليها
تحقق التصديق خارجا. وأما الدلالة التصورية فلا تتوقف على شي
سوى علم المخاطب بالوضع، فالمراد بالدلالة التصديقية التي تتبع
الإرادة هو ما ذكرناه، لا ما ذكره في الكفاية، هذا مضافا إلى أنه:
يرد عليه أولا: أن الظاهر عدم انطباق ما نسب إلى العلمين على ما ذكره
(قده) كما لا يخفى على من راجع كلامهما في مبحث المفرد و
المركب من منطق الإشارات.
وثانيا: أنا لا نسلم توقف الاذعان والاعتقاد بثبوت شي على ثبوت
هذا الشئ في الواقع، إذ الاذعان بالشئ ليس إلا عبارة عن القطع
به، فهو ينحل إلى القطع وإلى شي تعلق القطع به، أما القطع فهو حالة
نفسانية لا يتوقف حصولها على ثبوت شي خارجا، وأما الشئ
فهو هو، ولا معنى لتوقفه على نفسه.
ثم لا يخفى أن الدلالة التصديقية بالمعنى الذي ذكرناه أخص مما ذكره
(قدس سره) فإن ما ذكرناه لا يجري إلا فيما وضع بداعي العمل
التصديقي، كهيئة الجمل، وأما ما ذكره (قده) فيجري في التصورات
أيضا كما لا يخفى.
37

الأمر السادس: انه ليس للمركب بما هو مركب وضع على حدة
اعلم أنهم قسموا اللفظ إلى المفرد والمركب، فالمركب ما أريد بجز
منه الدلالة على جز من المعنى، والمفرد بخلافه.
أقول: لا يخفى عدم صحة هذا التقسيم، إذ الوحدة معتبرة في الاقسام،
وليس المركب من لفظين مثلا لفظا واحدا، بل كل واحد منهما لفظ
مستقل له معنى فمثل (عبد الله) بالمعنى الإضافي ليس مصداقا
واحدا للفظ، بل يكون هنا لفظان كل منهما يدل على معنى مستقل و
هيئة
لها أيضا وضع نوعي.
نعم هو بالمعنى العلمي اعتبر لفظا واحدا، ولذا يكون له معنى واحد.
وبما ذكرناه يظهر أنه ليس للمركب بما هو مركب وضع على حدة
وراء وضع المواد والهيئة، إذ ليس هو شيئا بحياله، ولفظا خاصا
ورأها، حتى يثبت له وضع على حدة.
38

الأمر السابع: علائم الحقيقة والمجاز
لا يخفى أنه بناء على ما ذكرناه سابقا لا يكون الاستعمال المجازي
استعمالا للفظ في غير ما وضع له، بل يكون مستعملا في نفس ما
وضع له، لكنه توسط في البين ادعاء كون المراد الجدي عين ما وضع
له أو من أفراده، فيكون الذهن منتقلا من الموضوع له إلى شي
آخر، وحينئذ فإذا ذكر اللفظ ينبغي تدقيق النظر في أن الذهن هل
يتجاوز عما انتقل إليه أولا إلى شي آخر أولا؟ فإن ثبت على نفس ما
انتقل إليه أولا يعلم أنه معنى حقيقي، وإن عبر به إلى معنى آخر كان
الاستعمال استعمالا مجازيا.
وأما العلائم التي ذكرها القوم:
فالعلامة الأولى: التبادر، فهو علامة للحقيقة، كما أن عدم التبادر أو
تبادر الغير علامة المجاز.
واستشكل على هذه العلامة بلزوم الدور، فإن التبادر يتوقف على
العلم بالوضع، إذ لا يتبادر عند الجاهل به شي، فلو كان العلم
بالوضع أيضا متوقفا على التبادر لزم الدور. وتقرير بطلان الدور بوجوه:
منها أنه يلزم أن يكون الوضع مثلا - كما فيما نحن فيه -
موجودا قبل التبادر، وفي رتبته من حيث كونه علة له، وغير موجود
في رتبته من حيث كونه معلولا له، فيلزم وجوده في رتبة التبادر و
عدمه كذلك، فيؤول الامر إلى اجتماع النقيضين وهو محال بالذات.
وأجيب عن الدور في المقام بوجهين:
الأول: بنحو الاجمال والتفصيل، بيانه: أن العلم التفصيلي بالوضع
يتوقف على التبادر، وأما التبادر فهو يتوقف على العلم الاجمالي
الارتكازي به، وهذا الجواب مبني على كون المراد بالتبادر، التبادر
عند المستعلم.
39

الثاني: أن حصول العلم للجاهل بالوضع والمستعلم له يتوقف على
التبادر، ويراد به التبادر عند العالمين بالوضع، لا لدى هذا الشخص
المستعلم، هذا، ويمكن أن يستشكل على جعل التبادر علامة للوضع
هنا: هل إن المراد بالوضع هنا خصوص التعييني منه أو الأعم منه و
من التعيني؟ فإن أريد خصوص التعييني لم يكن التبادر علامة له، إذ لا
يحرز به خصوصه، وإن أريد الأعم قلنا: إنه عين التبادر، إذ لا
معنى للوضع الجامع لقسميه إلا كون اللفظ بحيث إذا سمع فهم منه
المعنى. وهو بعينه التبادر والدلالة الشأنية، كما عرفت في مبحث
الوضع. [1]
وبالجملة: فيتحد الوضع والدلالة والتبادر، وليس الوضع بمعناه
الجامع أمرا وراء التبادر حتى يصير علامة له، فافهم العلامة الثانية من
علائم الحقيقة: عدم صحة السلب، وبعبارة أخرى صحة الحمل، كما
أن صحة السلب علامة المجازية، وحيث إن كلا من الحمل والسلب
يتوقف على موضوع ومحمول تصدى المحقق القمي (قدس سره)
لبيانهما بما حاصله: ان المحمول المسلوب في علامة المجاز جميع
المعاني الحقيقية، بمعنى أن صحة سلب جميع المعاني الحقيقية عن
المستعمل فيه فعلا علامة المجازية، والمحمول المثبت للموضوع
في
علامة الحقيقة واحد من المعاني الحقيقية لا جميعها (انتهى). وكان
الداعي إلى هذا التفكيك هو عدم ورود النقض في اللفظ المشترك. و
لا يخفى أن تقرير العلامتين بهذا النحو لا يخلو من الفساد، إذ بعد
إحراز جميع المعاني الحقيقية لا يبقى شك حتى يجعل لنا علامة. و
لأجل
الفرار من هذا الاشكال ذكر شيخنا الأستاذ (طاب ثراه) في الكفاية
تقريبا آخر وحاصله - بتوضيح منا -: ان الموضوع في القضية هو
المعنى الذي أريد بيان حاله، والمحمول عبارة عن نفس اللفظ لا بما
أنه صوت من الأصوات، بل بما أنه مندك فيما وضع له وفان فيه و
مرآة له. وبعبارة أخرى بما أنه يعد من مراتب وجود المعنى، ولاجل
ذلك يعبر عنه بالوجود اللفظي. وصحة حمل اللفظ بهذا اللحاظ على
المعنى الذي أريد بيان حاله بالحمل الأولي علامة كونه عين الموضوع
له، وبالحمل الشائع علامة كونه من أفراده. وكذلك في طرف
[1] أقول: يمكن أن يقال إن التبادر عبارة عن انسباق المعنى من اللفظ،
ولا يمكن هذا الانسباق إلا لسبق خصوصية بين اللفظ والمعنى،
تكون بمنزلة العلة للانسباق الفعلي، وهي أنس اللفظ بالمعنى والعلقة
الحاصلة بينهما المعبر عنها بالدلالة الشأنية. وإن أبيت وجود
الخصوصية بين اللفظ والمعنى اعتبارا، وتحاشيت عنه، فلا أقل من
وجود أنس وحالة في ذهن المخاطب سابقا على سماع هذا
الاستعمال، وبسببه يتحقق الانسباق الفعلي، فالتبادر عبارة عن
الانسباق الفعلي، والوضع أمر سابق عليه، يكون بمنزلة العلة لهذا
الانسباق فافهم ح - ع - م.
40

السلب، فصحة سلب اللفظ عنه بالسلب الأولي علامة لعدم كونه عين
الموضوع له، وإن بقي احتمال كونه من أفراده، وبالسلب الشائع
علامة لعدم كونه من أفراده الموضوع له، وإن بقي احتمال كونه عينه
(انتهى).
أقول: تقسيم الحمل إلى القسمين صحيح، ولكن السلب ليس على
قسمين فإن الملاك لصحة الحمل هو الاتحاد، فإن كان الاتحاد بحسب
المفهوم كان الحمل أوليا ذاتيا، وإن كان بحسب الوجود الخارجي كان
شائعا صناعيا، وأما السلب فملاكه عدم الاتحاد، وعدم الطبيعة
بعدم جميع أفرادها. فما دام يوجد نحو من الاتحاد بين الموضوع و
المحمول، لا يصح سلبه عنه.
وبالجملة: فملاك السلب عدم الاتحاد ولا يتحقق ذلك إلا بعد عدمه
مفهوما ووجودا، فللحمل قسمان، وللسلب قسم واحد.
وبهذا البيان أيضا نجيب عن الاشكال الوارد في باب التناقض، حيث
حصروا الوحدات المعتبرة فيه في ثمان، وحاصل الاشكال: أن
الوحدات الثمان لا تكفي لحصول التناقض، ما لم يضعف إليها وحدة
الحمل، فإنه يصدق (زيد كاتب) بالحمل الشائع، (وليس بكاتب)
بالسلب الأولي، وكذلك (الجزئي جزئي) بالحمل الأولي وليس
بجزئي بالسلب الشائع، فيشترط في تحقق التناقض، وراء الوحدات
الثمان، وحدة الحمل والسلب بمعنى كونهما معا أوليين أو صناعيين.
وحاصل الجواب: منع صدق السلب في المثالين بعد تحقق نحو
اتحاد
بين الموضوع والمحمول، كما هو المفروض.
وكيف كان ففي تقرير صاحب الكفاية نحو اختلال، والأولى أن يقال:
إنه إن صح سلب اللفظ بما هو مندك وفان فيما وضع له عن
المعنى الذي أريد بيان حاله علم من ذلك أنه لا ربط بينهما أصلا،
فليس المستعمل فيه عين اللفظ بما له من المعنى ولا من أفراده. وإن
لم
يصح السلب وتنافر منه الطبع يكشف ذلك عن نحو اتحاد بينهما، إما
لكون المستعمل فيه عينه بماله من المعنى أو لكونه من أفراده. ثم
إن إشكال الدور الوارد في التبادر آت هنا أيضا، والجواب الجواب،
كما لا يخفى.
العلامة الثالثة من علائم الحقيقة: الاطراد، كما أن عدم الاطراد من
علائم المجاز.
قال المحقق القمي (قدس سره) في هذا المباحث ما حاصله: إن المراد
بعدم الاطراد في المجاز إن كان عدم اطراد الاستعمال بالنسبة إلى
أنواع العلائق فعدم الاطراد صحيح، لكن لا من جهة وجود المانع من
الاستعمال في بعض الموارد، بل من جهة عدم المقتضي له. فإن
المرخص فيه
41

في باب المجازات ليس هو الاستعمال باعتبار أنواع العلائق المعهودة،
بل المرخص فيه هو الاستعمال، باعتبار بعض الأصناف منها.
فليس كما وجدت السببية والمسببية مثلا يجوز استعمال لفظ السبب
في المسبب أو بالعكس، فإن لفظ (الأب) مثلا لا يطلق على الابن، و
لا لفظ الابن علي الأب، مع وجود نوع السببية فيهما.
وإن كان المراد عدم اطراد الاستعمال بالنسبة إلى الصنف المرخص
فيه - أعني الموارد التي كانت العلاقة فيها من أظهر خواص المعنى
الحقيقي، كالشجاعة مثلا للأسد - فالمجاز أيضا مطرد مثل الحقيقة
لصحة الاستعمال في كل مورد وجد فيه هذا الصنف من العلاقة
(انتهى).
وقال شيخنا الأستاذ في الكفاية ما حاصله: إن جعله علامة للمجاز
لعله بملاحظة نوع العلائق، وإلا فبملاحظة خصوص ما يصح معه
الاستعمال، فالمجاز أيضا مطرد كالحقيقة (انتهى).
دفع إشكال صاحبي القوانين والكفاية:
أقول: الظاهر صحة جعل الاطراد وعدمه علامتين بتقريب لا يرد عليه
ما ذكره المحقق القمي وصاحب الكفاية، بيان ذلك: انك قد عرفت
في الأمر الثالث أن اللفظ في الاستعمالات المجازية أيضا لا يستعمل
إلا فيما وضع له، غاية الأمر أنه في الاستعمالات الحقيقية يكون
المراد الجدي عين الموضوع له حقيقة، وفي الاستعمالات المجازية
يكون عينه أو من أفراده ادعاء وتنزيلا.
وملاحة جميع المجازات ولطافتها مستندة إلى هذا الادعاء (فأسد)
في قولك (رأيت أسدا يرمي) لم يستعمل إلا في الحيوان المفترس،
غاية الأمر أنه توسط في البين ادعاء كون زيد الشجاع من أفراده، فهذه
القضية تنحل إلى قضيتين يحتاج الاخبار في كل منهما إلى جهة
محسنة: مفاد إحدى القضيتين تعلق الرؤية برجل يرمي، ومفاد
الأخرى كون هذا الرجل بالغا في الشجاعة حدا يصحح جعله من أفراد
الأسد، واستعمال لفظ الأسد فيه. وملاك الحسن في الاخبار الأول ما
هو الملاك في قولك (رأيت رجلا يرمي) وهو كون المقام مقام
هذا الاخبار بأن يفيد فائدة الخبر أو لازمها. وملاك الحسن في الاخبار
الثاني أمران:
الأول: حسن هذا الادعاء ذاتا، بأن يكون بين الموضوع له، والمراد
الجدي كمال المناسبة بحيث يحسن ادعاء كون المراد الجدي عين
الموضوع له أو من أفراده، وإن شئت فسم ذلك بمصحح الادعاء.
الثاني: كون المقام مقام هذا الادعاء، فإنه ربما يوجد كمال المناسبة و
العلاقة بينهما، بحيث
42

تصحح الادعاء، ذاتا، ولكن المقام غير مناسب لاظهار هذا الادعاء،
مثلا: إن كان جليسك رجلا شجاعا بالغا فيها حدا يصحح ادعاء كونه
من أفراد الأسد، حسن هذا الادعاء واستعمال لفظ الأسد فيه إذا كان
المقام مقام إظهار شجاعته، كأن يكون المقصود مثلا تحريكه إلى
الجهاد فيقال له:
(يا أسد الهيجاء فرق الأعداء). ولا يحسن هذا الادعاء والاستعمال
في مقام دعوته إلى الاكل مثلا، بأن يقال له: (يا أسد تفضل بأكل
الطعام). وبالجملة فإذا لم يكن المقام مقام إظهار شجاعته كان ادعاء
كونه أسدا، وإطلاق الأسد عليه قبيحا بنظر العقلا.
والحاصل: أن الاخبار في قولنا: (رأيت رجلا يرمي) يحتاج إلى محسن
واحد، وهو كون المقام مقام الاخبار بوقوع الرؤية على الرجل. و
أما الاخبار في قولنا (رأيت أسدا يرمي) فيحتاج إلى إحراز أمور ثلاثة:
الأول: كون المقام مقام الاخبار بتعلق الرؤية به.
الثاني: حسن ادعاء كونه أسدا بأن يكون بالغا أعلى درجات الشجاعة
أو الجبن.
الثالث: كون المقام مقام إظهار شجاعته أو جنبه.
إذا عرفت ما ذكرناه فنقول: إن جعل عدم الاطراد علامة للمجاز ليس
بلحاظ نوع العلاقة، بل بلحاظ الصنف منها، أعني الموارد التي
يوجد فيها بين الموضوع له والمراد الجدي كمال المناسبة، بحيث
تكون العلاقة من أظهر خواص الموضوع له. وقولكم: (فالمجاز أيضا
على هذا مطرد) واضح الفساد، بعد ما ذكرناه من أن صرف تحقق
صنف العلاقة ومصحح الادعاء لا يكفي في الاستعمال، ما لم يكن
المقام مقام إظهار هذا الادعاء.
والحاصل: انه بعد ما كان المقام مقام الاخبار بوقوع الرؤية على الرجل
في المثال المذكور يكون إطلاق الرجل عليه حسنا بنحو
الاطلاق، وأما استعمال الأسد فيه فيتوقف - مضافا إلى تحقق صنف
العلاقة ومصحح الادعاء، على كون المقام مقام إظهار شجاعته، و
ذلك يختلف بحسب الموارد، فجعل عدم اطراد الاستعمال من علائم
المجاز صحيح بلا إشكال.
43

الأمر الثامن: الحقيقة الشرعية
لا يخفى أن ثبوت الحقيقة الشرعية في ألفاظ العبادات - كالصلاة و
الصوم والحج ونحوها - يتوقف على كون ماهياتها أمورا مخترعة
لشارع الاسلام. والظاهر فساد ذلك، فإن سنخ هذه العبادات كان
معمولا متداولا بين جميع أفراد البشر وأرباب الملل، حتى مثل عبدة
الأوثان، فإن أفراد البشر كانت في طول التاريخ تعتقد بشريعة ودين
صحيح أو فاسد، وكان كل واحد من الأديان الصحيحة والباطلة
يوجد فيه عمل مخصوص وضع مثلا لان يتوجه به العبد إلى مولاه و
يتخضع لديه بنحو يليق بساحة من يعتقده مولى له.
ولا محالة كان لهذا السنخ من العمل في كل لغة لفظ يخصه، وكان في
لغة العرب وعرفهم يسمى بالصلاة، فاستعمال هذا اللفظ في تلك
العبادة الخاصة ليس بوضع شارع الاسلام، بل كان مستعملا فيها في
أعصار الجاهلية أيضا. غاية الأمر أن ما هو مصداق لهذه الطبيعة
بنظر شارع الاسلام مغاير لما في سائر الأديان، فانظر إلى قوله تعالى:
(وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) حيث سمي ما
كان يصدر عنهم بقصد التوجه المخصوص إلى المولى صلاة، غاية الأمر
أنه تعالى خطأهم في إتيان ما يشبه اللهو بعنوان الصلاة، وقال
تعالى أيضا حكاية عن عيسى عليه السلام:
(وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا).
وكذلك لفظ الصوم والحج ونحوهما، كما يظهر ذلك بمراجعة
الآيات والاخبار.
وبالجملة كان سنخ هذه العبادات متداولا في أعصار الجاهلية أيضا، و
كان يستعمل فيها هذه
44

الألفاظ المخصوصة، وعلى طبقها أيضا جرى استعمال الشارع، غاية الأمر
أنه تصرف في كيفيتها وأجزائها وشرائطها، كما ثبت ذلك
بالدلائل الخاصة. هذا بالنسبة إلى نفس هذه العبادات، وأما الألفاظ
المستعملة في أجزائها، (كلفظ الركوع والسجود والقيام، ونحوها).
فلا إشكال في كون الاستعمال فيها بلحاظ معانيها اللغوية الأصلية بلا
تصرف أصلا كما لا يخفى.
45

الأمر التاسع: الصحيح والأعم
لا يخفى أن الصحة - لغة بمعنى التمامية، ويقابلها الفساد نحو تقابل
العدم والملكة. ويعبر عنهما بالفارسية (درست ونادرست). ولا
توصف بهما العناوين والمفاهيم بما هي هي، إذ لا معنى لفساد
المفهوم في عالم المفهومية. فإن كل مفهوم وعنوان هو هو، ويحمل
على
نفسه بالحمل الأولي. واتصافه بالفساد وعدم التمامية إنما هو بأن لا
يكون هذا العنوان هذا العنوان، وهو يساوق سلب الشئ عن
نفسه.
ولا توصف بهما الوجودات الخارجية أيضا بلحاظ ذواتها، التي هي
من سنخ الوجود. وإنما تتصف بهما الموجودات بالقياس إلى
العناوين الخاصة، المترقب انطباقها عليها. فالموجود الخارجي من
أفراد الدواء أو الثمرة مثلا ربما يتصف بالصحة، وربما يتصف
بالفساد. ولكنه لا بلحاظ هذا الوجود بما أنه وجود خارجي، بل
بالقياس إلى العنوان الذي يترقب انطباقه عليه، لتترتب عليه آثار هذا
العنوان، فان وجد بنحو ينطبق عليه هذا العنوان ويترتب عليه أثره
اتصف هذا الموجود بالصحة، وإن وجد بنحو لا ينطبق عليه اتصف
بالفساد.
وكذلك العمل الخارجي الصادر عن المكلف بترقب كونه مصداقا
للصلاة أو الحج أو نحوهما قد يتصف بالصحة وقد يتصف بالفساد،
لكن لا بما أنه وجود خاص، ولا بلحاظ عنوان الحركة مثلا، فإنه بلحاظ
هذا العنوان تام، حيث ينطبق عليه عنوان الحركة ويترتب عليه
أثرها. بل بلحاظ عنوان الصلاة المترقب انطباقها عليه، فإن كان بنحو
ينطبق عليه العنوان المترقب اتصف هذا الوجود بالصحة وإلا
اتصف بالفساد.
فالصحة عبارة عن كون الموجود (الذي وجد بداعي انطباق عنوان
خاص عليه)، بحيث ينطبق عليه هذا العنوان المترقب ويترتب عليه
أثره. والفساد عبارة عن كونه بحيث لا ينطبق عليه
46

ذلك، فهما وصفان للموجودات، لا للعناوين والمفاهيم. ولكن
اتصاف الموجودات بهما إنما هو بالقياس إلى العناوين المترقبة، و
ربما
يكون موجود خاص بالقياس إلى عنوان تاما، وبالقياس إلى عنوان
آخر غير تام، فيتصف بالصحة بالنسبة إلى الأول وبالفساد
بالنسبة إلى الثاني.
وقد اتضح بما ذكرناه أن اتصاف الموجودات بالصحة والفساد ليس
بلحاظ الآثار، من دون توسيط العناوين فإن الآثار آثار لا محالة
لعناوين خاصة، فالاتصاف بالوصفين إنما يكون بالقياس إلى العناوين
المترقبة ولا محالة يترتب الأثر، بعد تحقق العنوان الذي هو
موضوع له.
تصوير الجامع سيما على القول بالأعم:
ثم إن المهم في مسألة الصحيح والأعم إنما هو تصوير الجامع بين
الافراد والمراتب، ولا سيما على القول بالأعم. قال شيخنا الأستاذ في
الكفاية ما حاصله:
إنه لا إشكال في وجود الجامع بين الافراد الصحيحة، وإمكان الإشارة
إليه بخواصه وآثاره.
فان الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد، فيصح
تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا (بالناهية عن الفحشاء)، وما هو
(معراج المؤمن) ونحوهما (انتهى).
أقول: أما تصوير الجامع الذاتي بين أفراد الصلاة مثلا فغير معقول، فان
الصلاة ليست من الحقائق الخارجية، بل هي عنوان اعتباري
ينتزع عن أمور متباينة، كل واحد منها من نوع خاص، وداخل تحت
مقولة خاصة، وليس صدق عنوان الصلاة على هذه الأمور المتباينة
صدقا ذاتيا، بحيث تكون ماهية هذه المتكثرات عبارة عن الحيثية
الصلاتية، ثم إنه تختلف أجزاؤها وشرائطها باختلاف حالات
المكلفين، من الحضر والسفر، والصحة والسقم، والاختيار و
الاضطرار، ونحو ذلك، وعلى هذا فلا يعقل تصوير جامع ذاتي بين
أجزائها في مرتبة واحدة، فكيف بين مراتبها المتفاوتة.
وأما الجامع العرضي فتصويره معقول، حيث إن جميع مراتب الصلاة
مثلا بما لها من الاختلاف في الاجزاء والشرائط تشترك في كونها
نحو توجه خاص، وتخشع مخصوص من العبد لساحة مولاه، يوجد
هذا التوجه الخاص بإيجاد أول جز منها ويبقى إلى أن تتم، فيكون
هذا التوجه بمنزلة الصورة لتلك الأجزاء المتباينة بحسب الذات، و
تختلف كمالا ونقصا باختلاف المراتب.
والحاصل: ان الصلاة ليست عبارة عن نفس الأقوال والافعال المتباينة
المتدرجة
47

الوجود، حتى لا يكون لها حقيقة باقية إلى آخر الصلاة، محفوظة في
جميع المراتب، ويترتب على ذلك عدم كون المصلي في حال
السكونات والسكوتات المتخللة مشتغلا بالصلاة، بل هي عبارة عن
حالة توجه خاص يحصل للعبد ويوجد بالشروع فيها، ويبقى ببقاء
الاجزاء والشرائط، ويكون هذا المعنى المخصوص كالطبيعة
المشككة، لها مراتب متفاوتة تنتزع في كل مرتبة عما اعتبر جزا لها. لا
أقول إن هذا الامر الباقي يوجد بوجود على حدة، وراء وجودات
الاجزاء، حتى تكون الاجزاء محصلات له، بل هو بمنزلة الصورة لهذه
الاجزاء، فهو موجود بعين وجودات الاجزاء، فيكون الموضوع له للفظ
الصلاة هذه العبادة الخاصة والمعنى المخصوص، ويكون هذا
المعنى محفوظا في جميع المراتب، فيكون وزان هذا الأمر الاعتباري
وزان الموجودات الخارجية، كالانسان ونحوه. فكما أن طبيعة
الانسان محفوظة في جميع أفراده المتفاوتة بالكمال والنقص والصغر
والكبر، ونقص بعض الاجزاء وزيادته، ما دامت الصورة
الانسانية محفوظة في جميع ذلك، فكذلك طبيعة الصلاة. ولعل ما
ذكرناه هو المراد من الوجه الثالث المذكور في الكفاية في تصوير
الجامع على القول بالأعم. إلا أن التمثيل لذلك بالاعلام الشخصية مما
يبعد ذلك فتدبر ومثل هذا المعنى يمكن أن يفرض في سائر
العبادات أيضا من الصوم والحج ونحوهما.
وأما ما في الكفاية: من تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا (بالناهية عن
الفحشاء) وما هو (معراج المؤمن) ونحوهما فيرد عليه: أن
المتبادر من لفظ الصلاة ليس هذا السنخ من المعاني والآثار، كيف ولو
كان لفظ الصلاة موضوعا لعنوان الناهي عن الفحشاء مثلا لصار
قوله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر بمنزلة أن يقول:
الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ينهى عن الفحشاء والمنكر وهذا
واضح الفساد.
جريان البراءة والاشتغال:
ألف: على القول بتعلق الامر بالمركب
ثم إنه أشار هنا في الكفاية إلى مسألة البراءة والاشتغال في الأقل و
الأكثر الارتباطيين.
فالأولى أن نتعرض لها بمقدار يناسب المقام، فنقول:
إن المولى وإن كان يلاحظ حين الامر بالمركب مجموع الاجزاء بالأسر
شيئا واحدا، ويعتبرها
48

حقيقة فاردة، ويجعلها متعلقة لامر واحد، لكن وحدة المتعلق بحسب
اللحاظ والاعتبار فقط، فهو بحسب الواقع أمور متكثرة، لكل منها
وجود على حدة، وعلى هذا فالامر المتعلق بها وإن كان واحدا، لكنه
يتبعض ويتكثر اعتبارا بتبعض المتعلق وتكثره، فيمكن أن يصير
معلوما ومنجزا ببعضه، ومجهولا غير منجز ببعضه الاخر.
فكما أن المتصل الواحد كمأ الحوض مثلا مع كونه واحدا حقيقيا -
من جهة أن الاتصال مساوق للوحدة الشخصية - يتجزأ ويتبعض، و
بتبعضه يتبعض ما يعرضه من اللون، وربما يخالف لون بعض الاجزاء
لون غيره، ومع ذلك لا تنثلم به وحدة الماء، فكذلك الواحد
الاعتباري المتكثر حقيقة كالصلاة مثلا، فحيث إنها متكثرة حقيقة
يتبعض الامر الوحداني المتعلق بها، ويمكن أن يعرض لبعضه لون
العلم ويبقى بعضه مجهولا. فإذا علم المكلف بتعلق الامر ببعض
الاجزاء، وشك في تعلقه بشئ آخر، وبالغ في الفحص اللازم عليه،
ولم
يعثر على ما يدل على جزئيته، يكون العقاب المستند إلى ترك هذا
الجز المشكوك عقابا بلا بيان.
لا أقول: إن الامر يتبعض ويتكثر حقيقة، بل نقول: انه مع وحدته و
بساطته لما تعلق بما هو متكثر حقيقة يتحقق فيه نحو تكثر اعتباري،
بحيث يمكن أن يتعلق العلم ببعضه ويبقى البعض مجهولا، فما تعلق
به العلم تنجز لا محالة، وليس العقاب من قبله عقابا بلا بيان، وما
بقي مجهولا يكون العقاب المستند إليه عقابا بلا بيان، فيكون الامر
بعكس متعلقه. فالمتعلق كثير حقيقة وواحد بحسب اللحاظ و
الاعتبار، والامر واحد حقيقي ومتكثر اعتبارا بتبع متعلقه.
والحاصل: أن تبعض الامر الواحد بحسب العلم والجهل والتنجز و
عدمه لا محذور فيه، بعد تكثر المتعلق حقيقة. فترك الاجزاء المعلومة
يوجب العقاب سواء كان الواجب في متن الواقع هو الأقل أو الأكثر، و
ترك الجز المشكوك فيه لا يوجبه.
وإن شئت قلت: ان الأقل منجز مطلقا، بمعنى أن تركه يستلزم
استحقاق العقاب إما على نفسه أو على ترك الأكثر المستند إليه، وما
لا
يوجب العقوبة هو ترك الأكثر المستند إلى ترك الجز المشكوك فيه
فقط. وبعبارة أوضح: محل البحث ليس صورة كون التكليف
إنشائيا فقط، بحيث لم يصدر بداعي البعث والتحريك، فإن العلم بهذا
التكليف لا يوجب استحقاق العقوبة على تركه، بل النزاع إنما هو
في التكليف الفعلي الصادر بداعي البعث والتحريك، ولكن صرف
فعلية التكليف وتماميته من قبل المولى لا يكفي في استحقاق العبد
للعقوبة ما لم يحصل له علم لا لقصور في ناحية التكليف، فإنه مطلق
بالنسبة إلى العلم والجهل، بل لقصور في ناحية العبد.
49

فالتكليف قبل تعلق العلم به فعلي ليس لتنجزه حالة منتظرة، سوى
علم العبد، ونعبر عنه بالفعلي قبل التنجز، فإذا علم به العبد صار فعليا
منجزا، واستحق بتركه العقوبة، فيكون العقاب على التكليف بعد
فعليته وتماميته من ناحية المولى دائرا مدار علم العبد، فيستحق
العقوبة على مخالفة التكليف بمقدار حصل له العلم.
وقد عرفت أن الامر مع وحدته يتبعض بتبعض متعلقه، فإذا علم العبد
بالأقل وشك في الزائد كان ترك الواجب المستند إلى ترك الأقل
موجبا للعقوبة، وتركه المستند إلى ترك الجز المشكوك فيه غير
موجب لها، فيكون التكليف بعد فرض فعليته منجزا بنحو الاطلاق إن
كان بحسب متن الواقع متعلقا بالأقل، ومتوسطا في التنجز إن كان
متعلقا بالأكثر، فترك الأكثر المستند إلى ترك جميع الأجزاء
يوجب العقاب، وتركه المستند إلى ترك الجز المشكوك فيه لا
يوجبه.
وبالجملة: فترك الأقل يوجب استحقاق العقوبة مطلقا، وإنما الذي لا
يوجبه هو ترك الأكثر المستند إلى غير الأقل، والتكليف على أي
حال فعلي، غاية الأمر أن تركه المستند إلى ترك الجز المشكوك فيه
لا يوجب العقوبة، من جهة القصور في ناحية العبد.
فإن قلت: سلمنا أن العلم الاجمالي بالوجوب المردد بين الأقل و
الأكثر ينحل إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي
بالنسبة
إلى الجز المشكوك فيه، لكنا نقول: إن الاشتغال اليقيني بالأقل
يقتضي البراءة اليقينية منه، والمفروض أن الأقل يتردد أمره بين كونه
تمام المطلوب، وبين كونه واجبا في ضمن الأكثر، وعلى الثاني
تتوقف صحته على إتيان الأكثر، فان المفروض كون الأقل والأكثر
ارتباطيين، فالاتيان بالجز المشكوك فيه دخيل في صحة الأقل على
فرض كون الواجب بحسب متن الواقع هو الأكثر.
والحاصل: أنا نسلم انحلال العلم الاجمالي في مقام إثبات التكليف و
ارتفاع العقاب من ناحية الجز الزائد، ولكن نقول: إن الاشتغال
اليقيني بالأقل يقتضي قهرا الاتيان بالجز المشكوك فيه، حتى يحصل
الفراغ اليقيني من ناحية الأقل.
قلت: هذه هي عمدة ما استدل به القائل بالاشتغال، ويرد عليه أنه إن
كان المراد أن العلم بترتب الغرض على الأقل يتوقف على الاتيان
بالأكثر، ففيه: أن تحصيل الغرض الذي لم تقم عليه حجة شرعية غير
لازم، والمفروض عدم قيام الحجة على وجوب الأكثر.
وإن كان المراد أن إتيان الأقل وامتثال أمره مشروط بإتيان الأكثر، ففيه:
50

أن معنى الارتباط ليس اشتراط كل واحد من الاجزاء بالاجزاء الاخر، و
أخذها قيدا له، بل معناه - كما عرفت - وقوع الاجزاء المتباينة
المتكثرة بحسب الذات تحت أمر واحد فالاجزاء بالأسر تعلق بها أمر
واحد، ولا محالة يتكثر الامر ويتبعض بتكثر المتعلق تكثرا
اعتباريا، نحو تكثر العرض وتبعضه بتبع المعروض، فكل واحد من
الاجزاء مأمور به بالامر الانبساطي، والعلم به يوجب تنجزه ولزوم
الفراغ من قبله، وذلك يحصل بإتيانه قهرا.
وبالجملة: فكما يتبعض الامر في مقام التعلق يتبعض في مقام التنجز و
الامتثال أيضا، فإذا أتى المكلف بما تنجز عليه حصل له الامن من
العقاب.
ومما ذكرنا ظهر أن الامر المتعلق بالاجزاء ليس أمرا غيريا، بل هو عين
الامر النفسي الوحداني المتعلق بالمركب، سواء كان متعلقا
بحسب متن الواقع بالأقل أو الأكثر.
ويظهر من الشيخ (قدس سره) تردد الامر بالأقل بين كونه نفسيا أو
غيريا، ومع ذلك التزم بالبراءة، من جهة انحلال العلم الاجمالي
إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك في وجوب الزائد.
ويرد عليه - مضافا إلى ما أشرنا إليه ونحققه في مبحث مقدمة
الواجب من عدم كون الامر بالاجزاء غيريا - أن الامر النفسي بالأكثر
على تقريره (قدس سره) غير منجز فلا يمكن أن يكون الامر المترشح
منه على الأقل أيضا منجزا، بداهة أن الامر الغيري المقدمي تابع
محض لما ترشح منه، وعلى هذا فيلزم عدم كون الأقل منجزا بنحو
الاطلاق، ولازم ذلك عدم الانحلال واما على ما ذكرنا فالامر بالأقل
أمر نفسي مطلقا، والعلم به يوجب تنجزه كذلك، فيترتب على تركه
العقاب ولو كان الواجب هو الأكثر كما مر بيانه.
ب: على القول بتعلق الامر بالبسيط:
هذا كله بناء على تعلق الامر بنفس المركب، وأما بناء على تعلقه
بعنوان بسيط ففيه تفصيل، إذ هذا الامر البسيط تارة يكون شيئا
متحصلا ومسببا من هذا المركب من الاجزاء بحيث يكون وجوده غير
وجود الاجزاء خارجا، فحينئذ يتعين القول بالاحتياط، إذ المأمور
به عنوان مبين علم الاشتغال به، ولازم ذلك وجوب تحصيل الفراغ
اليقيني. وأخرى يكون هذا الامر البسيط عنوانا منتزعا عن نفس
هذه الاجزاء ومنطبقا عليها، فيكون وجوده عين وجودها لا مسببا
منها، فيمكن أن يقال حينئذ بالبراءة أيضا، فان المطلوب حقيقة إنما
هو وجود هذا الامر البسيط
51

الانتزاعي، والمفروض أن وجوده عين وجود الاجزاء فيتبعض الامر
اعتبارا بتبعض المركب الذي هو عين المأمور به خارجا، ولاجل
ذلك قال في الكفاية في هذا المقام ما حاصله: إن تصوير الجامع
البسيط بين الافراد الصحيحة لا ينافي جريان البراءة مع الشك في
الاجزاء (انتهى).
وكيف كان فلنرجع إلى أصل المقصود، فنقول: تصوير الجامع بين
الافراد الصحيحة على ما بيناه بلا إشكال، وإنما المشكل تصويره
بين الصحيح والفاسد، وقد ذكر في الكفاية وجوها خمسة لتصويره
مع الجواب عنها، ولا يهمنا ذكرها فلنذكر أدلة الطرفين في أصل
المسألة.
الاستدلال للقول بالصحيح:
قد استدل للصحيحي بوجوه، منها - التبادر. ويرد عليه: أن ادعائه إنما
يصح بعد تصوير مفهوم مبين يكون هو الجامع بين الافراد
الصحيحة والمتبادر من اللفظ عرفا، والمفروض أنه مما أشكل لدى
القوم.
وأما ما ذكره في الكفاية: من تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا (بالناهية
عن الفحشاء)، وما هو (معراج المؤمن) ونحوهما، فقد عرفت
ما فيه وأن المتبادر من لفظ الصلاة ليس أمثال هذه المفاهيم والآثار،
بل قلما يلتفت إليها ذهن المخاطب عند سماع لفظ الصلاة.
ومنها الاخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسميات:
كقوله صلى الله عليه وآله: (الصلاة عمود الدين، أو معراج المؤمن،
أو أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ونحو ذلك) وتقريب الاستدلال
بها بوجهين: الأول: أنه لا شك في أن هذه الآثار آثار لخصوص
الافراد الصحيحة لا الأعم، وحينئذ فإن كان الموضوع له للفظ الصلاة
مثلا هو الأعم كان الموضوع في القضية ملحوظا بنحو الاهمال، و
إن كان الموضوع له خصوص الصحيح كان الموضوع ملحوظا بنحو
العموم والسعة، وحيث إن ظاهر تعليق الحكم على الطبيعة المحلاة
باللام هو كون الطبيعة بوجودها السعي موضوعا للحكم، فاللازم منه
كون الموضوع له للألفاظ خصوص الصحيح.
الثاني: أنه بعد ما نعلم أن المراد من الموضوع في هذه القضايا بلحاظ
الآثار الثابتة له هو خصوص الصحيح، يتردد الامر بين أن يكون
الموضوع له خصوص الصحيح فيكون الاستعمال في هذه القضايا
بنحو الحقيقة، وبين أن يكون هو الأعم فيكون بنحو المجازية، فبأصالة
الحقيقة يثبت أن الموضوع له خصوص الصحيح.
52

إشكال على الاستدلال بالاخبار:
ويرد على الاستدلال بهذه الاخبار أن التمسك بأصالة العموم وأصالة
الحقيقة إنما يصح فيما إذا كان المراد الجدي مشكوكا فيه، فأريد
تشخيصه، لا فيما إذا علم المراد وشك في كيفية الاستعمال.
توضيح ذلك أنه ربما يشك في أن المراد الجدي للمولى وما هو
الموضوع لحكمه هو جميع الافراد أو بعضها، فبناء العقلا حينئذ على
التمسك بأصالة العموم لتشخيص ما هو المراد، وربما يكون مراد
المولى معلوما، غاية الأمر وقوع الشك في كيفية استعماله وإرادته،
كما في دوران الامر بين التخصيص والتخصص، ففي هذه الموارد
ليس بناء العقلا على التمسك بأصالة العموم، فإذا قال المولى: (أكرم
العلماء) مثلا وعلم أن زيدا عالم وشككنا في أنه مراد أيضا كان بناء
العقلا حينئذ على التمسك بأصالة العموم لاحراز وجوب إكرامه، و
أما إذا علم عدم وجوب إكرام زيد، وشك في أنه من أفراد العلماء
حتى يكون خروجه من باب التخصيص، أو أنه ليس من أفرادهم حتى
يكون خروجه من باب التخصص، فليس بناء العقلا في أمثال المقام
على التمسك بأصالة العموم لاحراز خروج زيد تخصصا، بحيث
تثبت له آثار غير العالم.
إذا عرفت هذا فنقول: إن المفروض في الأخبار المذكورة هو العلم
بالمراد وأنه خصوص الصحيح، وإنما الشك في كيفية الاستعمال،
فالتمسك بأصالة العموم أو أصالة الحقيقة لاحراز كون الصحيح هو
الموضوع له خروج عما استقر عليه بناء العقلاء.
ومما استدل به للصحيحي أيضا الاخبار الظاهرة في نفي الماهية و
الطبيعة بمجرد فقد بعض الاجزاء أو الشرائط مثل قوله: (لا صلاة إلا
بطهور)، أو (بفاتحة الكتاب). ويرد عليه: ان الأعمى أيضا يلتزم بأن
بعض الاجزاء والشرائط دخيل في صدق الحقيقة وأن فقدانه يوجب
انتفاءها حقيقة، نعم لو ثبتت صحة نفى الحقيقة بانتفاء أي جز أو
شرط ولو كان من الاجزاء أو الشرائط غير الدخيلة عرفا في صدق
المسمى، صح الاستدلال بذلك على كون الموضوع له خصوص
الصحيح، ولكن أنى لكم بإثباته؟.
الاستدلال للقول بالأعم:
واستدل للأعمى أيضا بوجوه: منها التبادر. ويرد عليه أيضا أنه فرع
تصوير الجامع حتى
53

يكون هو المتبادر، وقد عرفت الاشكال فيه. ومنها استعمال لفظ
الصلاة وغيرها في بعض الأخبار في الفاسدة كقوله صلى الله عليه و
آله: (بني الاسلام على خمس: الصلاة والزكاة والحج والصوم و
الولاية، ولم يناد أحد بشئ كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بالأربع و
تركوا هذه، فلو أن أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل
له صوم ولا صلاة). فإنه بناء على بطلان عبادة تاركي الولاية لم
يمكن أخذهم بالأربع إلا إذا كانت أسامي للأعم.
ويرد عليه: ان المراد بها في الحديث بقرينة جعلها مما بني عليه
الاسلام، هو خصوص الصحيح، والمراد بأخذ الناس بها هو أخذهم
بها
بحسب اعتقادهم.
ومنها أنه لا شبهة في صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان
تكره فيه وحصول الحنث بفعلها. ولو كانت الصلاة المنذور
تركها خصوص الصحيحة لا يكاد يحصل الحنث به أصلا لفساد الصلاة
المأتي بها لحرمتها، بل يلزم المحال، فإن النذر حسب الفرض قد
تعلق بالصلاة الصحيحة، ومع النذر لا تقع صحيحة، فيلزم من فرض
صحة الصلاة عدم صحتها ومن فرض تحقق الحنث عدم تحققه، وما
يلزم من فرض وجوده عدمه محال.
قال في الكفاية في مقام الجواب عن هذا الاستدلال: بأنه لو صح ذلك
لا يقتضي إلا عدم صحة تعلق النذر بالصحيح، لا عدم وضع اللفظ له
شرعا، مع أن الفساد من قبل النذر لا ينافي صحة متعلقه، فلا يلزم من
فرض وجودها عدمها. ومن هنا انقدح أن حصول الحنث إنما
يكون لأجل الصحة لولا تعلقه (انتهى).
أقول: لا يخفى أن المراد بالصلاة المنذور تركها في المثال عبارة عن
طبيعة الصلاة الراتبة التي لها وقت موسع ويفرض لها أفراد
طولية بحسب امتداد الوقت وسعته، وقد تعلق النذر بترك إتيانها في
الحمام مثلا، لا من جهة مرجوحية ذاتية فيها بل من جهة كونها
مرجوحة بالإضافة إلى سائر الافراد، وأن تركها فيه يلازم الاتيان بها في
ضمن أفراد أخر خالية عن المنقصة والحزازة، فمرجع هذا
النذر إلى نذر الاتيان بهذه الطبيعة المأمور بها في ضمن أفرادها
الراجحة الخالية عن الحزازة، وليس المراد بها مطلق الصلاة، وإن
كانت من النوافل المبتدئة، إذ ليس للنافلة المبتدئة وقت وسيع حتى
يترجح تركها في بعض أجزائه باعتبار اختيار البدل، فإن كل وقت
يسع مقدار ركعتين من الصلاة يستحب إتيانها فيه من دون أن يكون له
بديل، ففي المكان المكروه كالحمام أيضا يستحب الاتيان بها، و
لا يصح تعلق النذر بتركها لعدم كونها مرجوحة.
والحاصل: أن المراد بالصلاة المنذور تركها في المكان المكروه هي
طبيعة الصلاة الراتبة التي
54

تفرض لها أفراد طولية بحسب سعة الوقت، ويكون تعلق النذر بتركها
في هذا المكان باعتبار مرجوحيتها بالإضافة إلى سائر الافراد.
وعلى هذا فيكون إشكال تعلق النذر مشترك الورود على كل من القول
بالصحيح والقول بالأعم، ويصير محصل الاشكال أنه كيف
يتعلق النذر بترك الصلاة المكتوبة التي تكون صحيحة ومرجوحة
بالإضافة إلى سائر الافراد مع أنه يلزم من فرض صحتها وتعلق النذر
بتركها عدم صحتها وعدم القدرة على الحنث، وهذا من غير فرق بين
أن يكون اللفظ موضوعا بإزاء الصحيح أو الأعم.
وبالجملة فمثال النذر لا يرتبط بما هو محل النزاع بين الصحيحي و
الأمي، بل هو إشكال يرد على كلا القولين، فلا بد أن يتصدى
للجواب عنه. وما ذكر في الكفاية (من أن الفساد من قبل النذر لا ينافي
صحة متعلقه) لا يفي بدفع الاشكال إذ الفرض تعلق النذر بترك
ما هو من أفراد المكتوبة وتكون صحيحة مرجوحة، والحنث لا
يتحقق إلا بإتيان نفس ما تعلق النذر بتركه فلا يقع ما هو فاسد بالحمل
الشائع مصداقا للحنث. والحاصل أن النذر لم يتعلق بترك مفهوم
الصحيح، بل تعلق بترك ما هو مكتوب وصحيح بالحمل الشائع،
بمعنى
كونه بوجوده مصداقا للصحيح، وعلى هذا فلا يقع الفاسد مصداقا له.
ويمكن أن يقال ببطلان النذر في المثال من جهة أن صرف تفاوت
أفراد الطبيعة الراجحة في مرتبة الرجحان، وكون بعضها مرجوحا
بالقياس إلى غيره لا يكفي في صحة النذر، كيف وإلا لزم صحة تعلق
النذر بترك الصلاة في البيت مثلا من جهة ملازمته للاتيان بها في
المسجد، وصحة تعلق النذر بتركها في مسجد السوق مثلا باعتبار
ملازمته للاتيان بها في مسجد أفضل منه، وهكذا، والالتزام بذلك
مشكل. ولعل منشأ الاشتباه في المقام إطلاقهم لفظ الكراهة على
الصلاة في الحمام مثلا فتوهم منه كون المراد بها المرجوحية الذاتية
كما
في سائر موارد الكراهة فتدبر.
ثمرة النزاع:
ربما يذكر للنزاع في المسألة ثمرتان:
الأولى:
جريان البراءة فيما إذا شك في جزئية شي للمأمور به أو شرطيته على
الأعم، وعدم جريانها على الصحيح، إذا لم يكن الجز أو الشرط
المشكوك فيه دخيلا في المسمى عرفا،
55

وهذا بناء على التفصيل في جريان البراءة في المسألة، والقول
بجريانها فيما إذا كان منشأ الشك عدم النص دون إجماله، فإنه على
القول بالأعم لا يكون في الخطاب إجمال، وإنما الشك في اعتبار قيد
زائد والمفروض عدم الدليل عليه، وأما على القول بالصحيح
فيكون نفس الخطاب مجملا.
الثانية:
أنه على القول بالأعم يصح التمسك بالاطلاقات لنفي اعتبار ما زاد
على المسمى، دون القول بالصحيح، إذ عليه يرجع الشك إلى أصل
الصدق، وهذا بعد تحقق شرائط التمسك بالاطلاق: من كون المتكلم
في مقام البيان، وعدم العلم الاجمالي بورود التقييد أو انحلاله
بإحراز تقييدات كثيرة بعدد المعلوم بالاجمال. والتحقيق في المسألة
أن يقال: إن وضع ألفاظ العبادات كالصلاة، والصوم، ونحوهما
لماهياتها ليس بتعيين الشارع، فإن سنخ هذه العبادات كان معمولا
متداولا بين جميع أفراد البشر وأرباب الملل، حتى في أعصار
الجاهلية أيضا، وكانت هذه الألفاظ المخصوصة موضوعة بإزائها و
مستعملة فيها كما عرفت تفصيل ذلك في مبحث الحقيقة الشرعية و
على طبق استعمالهم جرى استعمال الشارع أيضا، غاية الأمر أنه
تصرف في كيفيتها، وما يكون معتبرا فيها من الاجزاء والشرائط، و
بين ذلك بالعمل، أو بتصريحات أخر. فهذه الألفاظ لم تستعمل في
لسان الشارع إلا في نفس هذه الماهيات، وهذا السنخ من العبادات
المتداولة في جميع الأعصار بين جميع أرباب الملل، واعتبار القيود و
الخصوصيات الفردية المعتبرة في شرع الاسلام إنما ثبت بالأدلة
الاخر، وليس وضعها بتعيين الشارع حتى يتوهم كون الموضوع له
خصوص ما صح عنده وكان واجدا لجميع ما اعتبر فيه من الاجزاء و
الشرائط، فتدبر جيدا.
أقسام دخل الشئ في المأمور به:
تبصرة:
قال في الكفاية ما حاصله: (إن دخل شي وجودي أو عدمي في
المأمور به تارة بنحو الجزئية، وأخرى بنحو الشرطية، وثالثة بأن يكون
مما يتشخص به المأمور به فيكون جزا أو شرطا للفرد لا للماهية).
أقول: تفصيل المقام هو أن الشئ الدخيل في المأمور به قد يكون
جزا له، وذلك بأن يكون المتعلق للامر شيئا مؤلفا منه ومن عدة
أجزأ أخر وقد اعتبرها الشارع حقيقة واحدة، وتعلق بها أمر واحد
من جهة تأثيرها في غرض وحداني، وقد يكون شرطا له وذلك على
وجهين:
56

الأول: أن يكون شرطا شرعيا وذلك إنما يتصور فيما إذا لم يكن هذا
الشئ داخلا في قوام الماهية، ولكن كان ترتب الغرض عليها
متوقفا على تحققه، فحينئذ يتعلق الامر بالماهية مقيدة بهذا الشئ
بنحو يكون التقيد داخلا والقيد خارجا فيكون المأمور به هو الطبيعة
المقيدة.
الثاني: أن يكون من الشرائط العقلية والمقدمات الوجودية للمأمور به،
وذلك بأن يكون المأمور به عنوانا بسيطا لا يتقيد بهذا الشئ في
مقام الامر لكن هذا العنوان البسيط إنما ينتزع عن الاجزاء بالأسر حال
كونها مسبوقة أو مقارنة أو ملحوقة بهذا الشئ، فمنطبق هذا
العنوان الانتزاعي نفس الاجزاء بالأسر، ولكن انطباقه عليها يتوقف في
متن الواقع على وجود هذا الشئ، فيكون هذا الشئ شرطا
عقليا لتحقق المأمور به خارجا، غاية الأمر أنه كشف عنه الشارع.
فعنوان الصلاة مثلا إنما ينتزع عن الأمور المتكثرة التي أولها التكبير، و
آخرها التسليم. ولكن انتزاعه عن تلك الأمور والاجزاء و
انطباق عنوانها عليها يتوقف على الاتيان بها حال الطهارة مثلا.
وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) في الكفاية - من أخذ العدم
شطرا أو شرطا - فالظاهر فساده، إذ العدم بما هو عدم لا يؤثر
في المصلحة حتى يعتبر في المأمور به نحو اعتبار الاجزاء والشرائط.
نعم، ربما يكون الشئ بوجوده مانعا ومخلا بتحقق المأمور به، و
انطباق عنوانه على منطبقه، فيعتبر عدمه من هذه الجهة، لا بأن يكون
في عداد الاجزاء، فالتأثير حينئذ ليس لعدم هذا الشئ بما هو عدم بل
لوجوده، وأثره الاخلال، وعد عدم المانع من أجزأ العلة التامة
أيضا ليس إلا بلحاظ كون الوجود مخلا، وإلا فالعدم بنفسه لا يؤثر ولا
يتأثر.
تصوير الجز الندبي:
وأما ما جعله في الكفاية جزا أو شرطا للتشخص والفرد فالظاهر
رجوعه إلى نفس الطبيعة أيضا ولكن بحسب بعض مراتبها. وبهذا
التقريب يتصور الجز الندبي للمأمور به أيضا.
بيان ذلك: أنه يمكن أن يفرض المأمور به كالصلاة مثلا عنوانا بسيطا
ذات مراتب طولية، ينتزع بعض مراتبها عن فاقد هذا الجز، و
بعضها عن واجده، ويصدق هذا العنوان البسيط بمرتبته الناقصة على
الأقل، وبمرتبته الكاملة على الأكثر. فإن كان الشئ دخيلا في
جميع المراتب سمي جزا وجوبيا وإن كان دخيلا في المرتبة الكاملة
فقط سمي جزا ندبيا، وما تعلق به الامر هو صرف الطبيعة
البسيطة المشككة، فالصلاة مثلا عنوان بسيط له مراتب
57

متفاوتة بحسب الكمال والنقص، فينتزع مرتبتها الكاملة عن جميع الأجزاء
الواجبة والمستحبة، كالقنوت ونحوه، بحيث يكون المنطبق
للعنوان في هذه المرتبة جميع هذا الاجزاء، ومرتبة منها تنتزع عن
الأجزاء الواجبة بضميمة بعض خاص من الأجزاء المندوبة، ومرتبة
منها تنتزع عن الواجبات بضميمة بعض آخر منها، وهكذا تتدرج من
الكمال إلى النقص إلى أن تصل إلى مرتبة هي أخس المراتب، وهي
التي يقتصر فيها على الواجبات فقط. وعلى هذا فالقنوت أيضا له
دخالة في تحقق طبيعة الصلاة وانتزاع عنوانها، ولكن بمرتبتها
الكاملة، فالمنتزع عنه لهذه المرتبة من الطبيعة هو جميع الأجزاء
الواجبة والمستحبة، ونفس الامر بالطبيعة يدعو إلى الاتيان بالقنوت
أيضا من جهة كونه جزا لما ينطبق عليه عنوان المأمور به ببعض
مراتبه، والمكلف مخير عقلا في إتيان أي مرتبة منها أراد، هذا حال
الجز. ومنه يعرف حال الشرط أيضا مثل إتيان الصلاة في المسجد
مثلا. وبالجملة فما عده في الكفاية جزا أو شرطا للفرد يرجع إلى
الجزئية أو الشرطية لمرتبة خاصة من الطبيعة المشككة فتدبر.
58

الأمر العاشر: استعمال المشترك في الأكثر من معنى
اختلف الأصوليون في جواز استعمال اللفظ المشترك في الأكثر من
معنى واحد وعدمه.
وقبل الخوض في المطلوب ينبغي ذكر مقدمتين:
المقدمة الأولى: أن استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد يتصور
على وجوه:
1 - أن يستعمل اللفظ في مجموع المعنيين بحيث يكون المراد من
اللفظ هو المركب منهما، ويكون كل واحد منهما جزا من المستعمل
فيه، نظير العام المجموعي المصطلح عند القوم.
2 - أن يستعمل في مفهوم مطلق يصدق على كل واحد من المعنيين.
3 - أن يستعمل في معنى عام بنحو العموم الأصولي، ويكون كل
واحد من المعنيين فردا له.
4 - أن يستعمل في كل واحد من المعنيين بحياله واستقلاله، بأن
يكون كل منهما بشخصه مرادا بحسب الاستعمال، مثل ما إذا لم
يستعمل
اللفظ إلا في واحد منهما.
ولا يخفى أن محل النزاع في المسألة هو هذا القسم دون الثلاثة
الأولى.
المقدمة الثانية: أن المراد بالجواز في عنوان المسألة يتصور على
وجهين:
1 - أن يراد به الامكان العقلي في مقابل الاستحالة العقلية.
2 - أن يراد به الجواز اللغوي بمعنى عدم كون الاستعمال في الأكثر
غلطا بحسب الوضع اللغوي وقواعد المحاورة في مقابل الاستعمال
الغلط.
يظهر من بعض أدلة المنع المعنى الأول، ومن بعضها مثل ما في
القوانين المعنى الثاني.
الاستدلال لامتناع الاستعمال في أكثر من معنى:
إذا عرفت هذا فنقول: ربما يستدل لعدم الجواز عقلا بأن الاستعمال
في المعنيين موجب
59

للتناقض، لان المعنى الموضوع له مقيد بالوحدة، فمرجع الاستعمال
في المعنيين استعماله في هذا وحده وذاك وحده وهما معا. أما
الأول فواضح، وأما الثاني فلان المفروض استعماله في الأكثر من
معنى واحد.
أقول: هل المراد بالوحدة هو الوحدة بحسب الماهية أو بحسب
الوجود أو بحسب مقام الاستعمال، فان أريد الأول بمعنى كون المعنى
الموضوع له ماهية واحدة لا ماهيتين ففيه: أن ذلك أمر صحيح ولا
يلزم منه تناقض كما لا يخفى. وإن أريد الثاني فيرد عليه: أن الوجود
ليس مأخوذا في المعنى الموضوع له، إذ اللفظ يوضع بإزاء نفس
المفهوم فلا يلحظ الوجود فضلا عن وحدته وتعدده.
وإن أريد الثالث فيرد عليه: أن نحو الاستعمال غير مأخوذ في
الموضوع له، فإنه أمر مترتب على الوضع ومتأخر عنه رتبة، إذ هو
عبارة
عن إفناء اللفظ في معناه، وقبل الوضع لا معنى له.
واستدل في الكفاية على الامتناع العقلي بما حاصله بتوضيح منا: أن
حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى، بل هو
عبارة عن جعل اللفظ وجها وعنوانا للمعنى، بل بوجه نفسه بحيث
كأنه هو الملقى فيكون اللفظ مرأة للمعنى وفانيا فيه، فيكون النظر
إلى نفس المعنى، واللفظ يكون مغفولا عنه، نظير التوجه إلى المرأة،
فإن المرآة ربما ينظر إليها بالنظر الاستقلالي، فترى شيئا
بحيالها، فتكون مما ينظر فيها لتشخيص جنسها وتميز عيوبها لتشترى
مثلا، وربما ينظر إليها بالنظر المرآتي، فتكون في هذا اللحاظ
مما ينظر بها إلى الصورة وتكون نفسها مغفولا عنها في هذا اللحاظ. و
على هذا فلا يعقل استعمال اللفظ إلا في معنى واحد، ضرورة أن
لحاظه فانيا في معنى بحيث يكون التوجه إلى نفس المعنى ينافي
لحاظه كذلك بالنسبة إلى معنى آخر مع وحدة اللفظ والاستعمال.
وبالجملة: فالاستعمال عبارة عن طلب عمل اللفظ في المعنى. وكيف
يمكن أن يكون اللفظ حال كونه عاملا في هذا المعنى وفانيا فيه،
عاملا في معنى آخر (انتهى).
أقول: قد عرفت سابقا أن عمل اللفظ في المعنى قد يكون إفهاميا، و
قد يكون إيجاديا، والأول على ثلاثة أقسام والثاني على قسمين،
فالمجموع خمسة. ولا يخفى أن ما ذكره (قدس سره) يجري في بعض
الاقسام، لكن جريانه في جميع الاقسام ولا سيما الايجادي منها
مشكل فتدبر.
60

جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى بحسب الوضع:
ثم إن المهم في المسألة هو إثبات الجواز عقلا في قبال من ادعى
الامتناع العقلي، فلو ثبت الجواز عقلا فلا وجه للمنع عنه بحسب
الوضع، و
إن أصر عليه المحقق القمي.
قال (قده) في القوانين ما حاصله: إن اللفظ المفرد إذا وضع لمعنى
فمقتضى الحكمة في الوضع أن يكون المعنى مرادا في حال الانفراد.
لا
أقول: إن الواضع يصرح بأني أضع اللفظ لهذا المعنى، بشرط الوحدة،
ولا يجب أن ينوي ذلك حين الوضع أيضا، بل أقول: إنما صدر
الوضع عنه مع الانفراد وفي حال الانفراد، لا بشرط الانفراد حتى
تكون الوحدة جزا للموضوع له، فالمعنى الحقيقي للمفرد هو المعنى
في حال الوحدة لا المعنى والوحدة، وعلى هذا فلا يجوز استعمال
المفرد في غير حال الانفراد لا حقيقة ولا مجازا. أما الأول فواضح، و
أما الثاني فلان المجاز أيضا مثل الحقيقة في أنه لا يجوز التعدي عما
حصلت الرخصة فيه من العرب بحسب نوعه. ولم تثبت الرخصة
منهم
في هذا النوع من الاستعمال (انتهى).
أقول: ما هو شأن الواضع إنما هو تعيين الموضوع له وبيان كيفية
الاستعمال: من كونه إيجاديا أو إفهاميا، تصوريا أو تصديقيا وبمثل
ذلك يفرق بين (اضرب)، و (طلب الضرب)، و (طلبت منك الضرب)
مثلا، حيث إن المقصود من وضع اللفظ في الأول أن يعمل في المعنى
بنحو الايجاد، وفي الثاني أن يعمل فيه بنحو الافهام التصوري، وفي
الثالث أن يعمل فيه بنحو الافهام التصديقي كما عرفت تفصيل ذلك
في أنحاء الاستعمال. فالواجب متابعة الواضع في تعيين الموضوع له و
في نحو الاستعمال وكيفيته: من كونه إيجاديا أو إفهاميا بقسميه.
وأما إذا فرض أن الواضع وضع اللفظ لهذا المعنى، ثم وضعه بوضع
آخر لمعنى آخر، ولم يلاحظ في الموضوع له قيد الوحدة، ولم يكن
مانع عقلي أيضا من استعماله في المعنيين، فأي مانع من استعماله
فيهما مع كون المستعمل فيه نفس ما وضع له؟ إذ المفروض أنه لم
يستعمل في المجموع بما هو مجموع، بل في هذا المعنى مستقلا، و
ذلك المعنى مستقلا، ولا نحتاج في هذا الاستعمال إلى ترخيص
الواضع بعد كون الموضوع له طبيعة المعنى، لا بشرط الوحدة وكون
المستعمل فيه أيضا ذلك.
رد التفصيل في المقام:
ثم إنه على فرض عدم المانع من استعمال اللفظ في المعنيين لا عقلا و
لا وضعا، فهل يكون
61

استعماله فيهما بطريق الحقيقة أو المجاز، أو يفصل بين المفرد و
غيره؟ الظاهر أنه بنحو الحقيقة مطلقا، إذ المفروض عدم المانع من
الاستعمال لا عقلا ولا بحسب الوضع، والموضوع له في كل من
الوضعين كما عرفت ليس إلا نفس المعنى، لا المعنى بقيد الوحدة، و
الفرض أن المستعمل فيه ليس مجموع المعنيين بما هو مجموع، بل
نفس هذا المعنى باستقلاله وذلك المعنى كذلك، فيكون اللفظ
مستعملا في نفس ما وضع له، فيكون حقيقة.
وربما يتوهم كونه مجازا من باب استعمال اللفظ الموضوع للجز في
الكل. ويرد عليه: أن محل الكلام كما عرفت ليس صورة استعمال
اللفظ في مجموع المعنيين بنحو العام المجموعي، وإنما النزاع فيما
إذا كان اللفظ مستعملا في كل واحد من المعنيين بحياله واستقلاله،
بأن يكون كل منهما بشخصه مرادا بحسب الاستعمال، وموردا
للاثبات والنفي.
وبالجملة: ليس البحث في صورة فرض المعنيين معنى واحدا مركبا،
بل البحث في صورة لحاظ كل من المعنيين مستقلا في مقام
الاستعمال، ففي الحقيقة ينحل الاستعمال إلى استعمالين.
وربما يتوهم كونه مجازا من باب استعمال لفظ الكل في الجز
بتقريب: أن الوحدة مأخوذة في الموضوع له فالاستعمال في المعنيين
يوجب إلغاء قيد الوحدة من المعنى، فيصير اللفظ مستعملا في جز
المعنى.
ويرد عليه: أن الموضوع له كما عرفت هو طبيعة المعنى اللا بشرط من
دون أن يؤخذ فيه قيد الوحدة. هذا كله بناء على مذاق القوم، وأما
على ما بيناه في باب المجاز - من عدم كون الاستعمال المجازي
استعمالا للفظ في غير ما وضع له بل في نفس ما وضع له بعد ادعاء
كون المراد الجدي من أفراد الموضوع له - فعدم المجازية هنا أوضح
من أن يخفى، إذ المفروض استعمال اللفظ في كل من المعنيين، من
دون أن يتوسط ادعاء في البين.
واختار صاحب المعالم (قدس سره) كونه مجازا في المفرد وحقيقة
في التثنية والجمع، أما المجازية في المفرد فلما توهمه من أخذ قيد
الوحدة في الموضوع له، وقد عرفت ما فيه، وأما كونه حقيقة في
التثنية والجمع فلأنهما في قوة تكرير المفرد بالعطف، ولا يعتبر
فيهما أزيد من الاتفاق في اللفظ.
ويرد عليه: أنه فرق بينهما وبين تكرير اللفظ، فإنه يوجد عند التكرير
لفظان مستقلان، فيمكن أن يراد بكل منهما معنى يخصه، وهذا
بخلاف التثنية والجمع، فإن علامة التثنية
62

والجمع وضعت للدلالة على تعدد ما أريد من المفرد تعددا بحسب
الوجود، فهما تابعان للمفرد، فإن كان المستعمل فيه للمفرد معنى
واحدا دلت العلامة على الفردين أو الافراد من هذا المعنى، وإن كان
المستعمل فيه أكثر من معنى دلت العلامة على الفردين أو الافراد من
كل من المعاني.
والحاصل: أن التثنية مثلا تنحل إلى المفرد وعلامة التثنية، فالمفرد
يدل على نفس المعنى، والعلامة تدل على تعدد ما أريد من المفرد
تعددا بحسب الوجود، لا تعددا بحسب الاستعمال. وبهذا البيان يظهر
أنه لو فرض أخذ قيد الوحدة في الموضوع له لكانت باقية في
التثنية والجمع أيضا، إذ المراد بالوحدة المأخوذة في الموضوع له
على فرض القول به هو الوحدة بحسب الاستعمال، ولا ينافيها التعدد
بحسب الوجود الذي هو مفاد التثنية والجمع، فتدبر ثم اعلم أنه على
فرض القول بجواز استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد عقلا و
وضعا، وجب حمل المشترك عند الاطلاق على جميع معانيه إذا لم
يكن في البين ما يعين بعضها، وذلك لما عرفت من كون هذا النحو من
الاستعمال على فرض جوازه بنحو الحقيقة، والمفروض عدم وجود
قرينة معينة، فلا محالة يكون المراد هو الجميع نظير العمومات
المحمولة على جميع الافراد عند عدم القرينة على الخصوص.
رد الاستدلال ببطون القرآن على وقوع الاشتراك:
تنبيه: قال في الكفاية ما حاصله: (لعلك تتوهم أن الأخبار الدالة على
أن للقرآن بطونا سبعة أو سبعين تدل على وقوع استعمال اللفظ في
أكثر من معنى واحد فضلا عن جوازه، ولكنك غفلت عن أنه لا دلالة
لها أصلا على أن إرادتها كانت من باب إرادة المعنى من اللفظ، فلعلها
كانت بإرادتها في أنفسها حال استعمال اللفظ في معناه، أو كان المراد
من البطون لوازم المعنى المستعمل فيه).
أقول: يرد على ما ذكره أنه لا وجه لعد الصور الادراكية المتحققة في
ذهن المخاطب حين استعمال اللفظ في معناه بطونا لهذا المعنى، مع
عدم الارتباط بينها وبين هذا المعنى وكذا عد لوازم المعنى بطونا له
أيضا بلا وجه.
ويمكن أن يقال: إن المراد بها عبارة عن المعاني المختلفة والمراتب
المتفاوتة، التي تستفاد من الآيات بحسب اختلاف مراتب الناس و
درجاتهم. فإن أرباب النفوس الكاملة يستفيدون
63

الآيات الشريفة ما لا يخطر ببال المتوسطين، فضلا عن العوام وأرباب
النفوس الناقصة، فالبطون السبعة أو السبعون إشارة إلى أصول
المراتب الكمالية لنفوس البشر التي باختلافها تختلف مراتب
الاستفادة من الآيات القرآنية، فافهم.
64

الامر الحادي عشر: المشتق
اتفقوا على أن تطبيق المشتق وإجراءه على الموضوع يكون حقيقة
فيما إذا كان بلحاظ حال التلبس بالمبدأ، ومجازا فيما إذا كان بلحاظ
أنه يلتبس به بعد زمان التطبيق. وإنما وقع الاختلاف فيما إذا كان
بلحاظ كونه متلبسا به قبل زمان الجري والتطبيق.
فقيل: إنه حقيقة، وقيل بكونه مجازا، وأما زمان التكلم فلا دخل له في
ذلك أصلا كما لا يخفى.
وقد مهد شيخنا الأستاذ صاحب الكفاية في المقام مقدمات لا دخالة
لواحدة منها في تحقيق أصل المسألة، فالأولى أن نذكر قبل الشروع
في المقصد مقدمات يتوقف عليها تميز الحق في المسألة:
المقدمة الأولى: العناوين المنتزعة عن الموجودات الخارجية، إما أن
تنتزع عنها باعتبار ذواتها وفي رتبتها، واما أن تنتزع عنها
باعتبار عوارضها، وفي الرتبة المتأخرة عن حاق الذات.
فالقسم الأول: عبارة عن الكليات الذاتية أعني النوع والجنس و
الفصل.
والقسم الثاني: أيضا على قسمين، فان العناوين العارضة إما أن تكون
ملازمة لمعنوناتها غير مفارقة عنها، وإما أن تكون مفارقة بأن
تكون موجودة في بعض أزمنة وجود المعنونات، والنزاع في مسألة
المشتق إنما يكون في القسم الثاني من القسمين الأخيرين كما لا
يخفى وجهه.
المقدمة الثانية: إجراء مفهوم على مصداق وتطبيقه عليه لا بد من أن
يكون باعتبار وجود حيثية وجهة صدق في هذا الموجود، تكون
مفقودة في غيره، بحيث لو جردت هذه الحيثية من كل ما اتحد معها
وجودا من الحيثيات الذاتية والعرضية ووجدت مجردة من جميعها
كانت فردا لهذا
65

العنوان، وانطبق هذا العنوان عليها [1] وإلا للزم أن يصدق كل عنوان
على كل شي، أو يصدق على بعض دون بعض من غير جهة فارقة،
فيكون ترجحا بلا مرجح، وكلاهما باطلان بالضرورة. وكما لا تنتزع
المفاهيم عن المصاديق الفاقدة للحيثية وجهة الصدق في جميع
الأزمنة لا تنتزع أيضا عما كانت فاقدة لها في بعض الأزمنة إلا إذا
انتزعت عنها باعتبار زمان وجود الحيثية، ففي زمن مفقوديتها لا
تنتزع عنها ولا تصدق عليها، لكونها في هذا الحال مساوية لما فقدت
الحيثية في جميع الأزمنة.
فان قلت: هذا أول الكلام، إذ الأعمى في هذه المسألة قائل: بأن صرف
وجود الحيثية آنا ما كاف في صدق المفهوم على المصداق من زمن
وجود الحيثية إلى الأبد وإن زال تلبسه ولم يتلبس في زمن الصدق.
قلت: كلام الأعمى يحتمل أمرين:
الأول: أن يكون مراده من ذلك ما هو ظاهر كلامه، أعني كفاية وجود
الحيثية آنا ما في صدق المفهوم على المصداق دائما.
الثاني: أن يكون مراده أن مبدأ المشتق إذا وجد في موضوع يصير سببا
لتحقق حيثية انتزاعية واعتبارية في هذا الموضوع، باقية في
جميع الأزمنة وإن زال نفس المبدأ.
وباعتبار هذه الحيثية الانتزاعية يصدق المفهوم على المصداق، لا
باعتبار وجود نفس المبدأ، فليس (القائم) في (زيد قائم) مثلا حاكيا
لثبوت القيام لزيد، بل لوجود حيثية اعتبارية له ثابتة له من زمن تلبسه
بالقيام إلى الأبد. وتلبسه بالقيام علة لحدوث تلك الحيثية
الاعتبارية من دون أن تكون في بقائها محتاجة إليه، مثلا كلمة (قائم)
في هذا المثال ليس معناها ثبوت القيام لزيد، بل كون زيد متصفا
بأنه ثبت له القيام في زمان، وهذا المعنى الانتزاعي لا ينفك من زيد
أبدا، وإن انفك منه القيام. وعلى هذا فالبحث لغوي راجع إلى بيان
معنى المشتق بحسب اللغة.
والنزاع على الاحتمال الأول كبروي، إذا الأخصي يوجب وجود ملاك
الصدق وحيثيته في زمان الانطباق، والأعمي قائل بكفاية وجوده
آنا ما في الانطباق دائما.
وأما على الاحتمال الثاني فصغروي، إذ كلاهما قائلان على هذا بلزوم
وجود حيثية الصدق
[1] وقد حقق في محله أن الحمل في قولنا (كل جسم أبيض) حمل
شائع مجازي، والحمل الشائع الحقيقي إنما هو في مثل قولنا (البياض
أبيض) أعني فيما إذا كان المحمول ذاتيا للموضوع وكانت الآثار
المترقبة من المحمول مترتبة على الموضوع. ح - ع - م
66

وملاكه في زمن الانطباق، إلا أن الحيثية على قول الأخصي مبدأ
المشتق وعلى قول الأعمى حيثية اعتبارية تعتبر في الموضوع في
جميع
الأزمنة بعد تلبسه بالمبدأ آنا ما، والظاهر أن مراد الأعمى هو الثاني، و
لا يظن به كون مراده ما ذكرناه من الاحتمال الأول، لما ذكرناه
آنفا: من أن صدق المفهوم على موجود يتوقف على وجود حيثية في
هذا الموجود بها يصدق عليه، وإلا لزم صدق كل عنوان على كل
شي، أو الترجح من غير مرجح.
المقدمة الثالثة: المبدأ الذي يكون وجوده مدارا لانطباق المفهوم على
المصداق، اما حدوثا فقط وإما حدوثا وبقاء، أعم من أن يكون أمرا
حقيقيا متأصلا (كالبياض) مثلا، أو انتزاعيا أو اعتباريا موجودا بوجود
منشأ انتزاعه أو اعتباره، (كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية و
كالملكية والزوجية).
ثم إن بعض الأمور الانتزاعية مما ينتزع قبل وجود منشأ انتزاعه،
كالاستقبال مثلا، فإنه ينتزع قبل وجود منشأ انتزاعه، وهو مجئ
المسافر. وبعضها مما لا ينتزع إلا بعد وجود منشئه، ثم منه ما يفنى
بفنائه فلا ينتزع بعده، كالفوقية، فإنها تلازم ذات الفوق حدوثا و
بقاء، ومنه ما يبقى وينتزع بعد فنأ المنشأ أيضا، كالأبوة، فإنها تنتزع
بعد فوات الابن أيضا.
المقدمة الرابعة: هي ما ذكرناه في المقدمة الثانية جوابا عن الاشكال، و
محصله: أنه يحتمل أن يكون مراد الأعمى أن وجود المبدأ وحيثية
الصدق في زمان كاف في انطباق عنوان المشتق على الموجود
الخارجي في هذا الزمان وبعده إلى الأبد، من دون اعتبار حيثية
اعتبارية
باقية بعد زوال التلبس بالمبدأ. ويحتمل أن يكون مراده أن المبدأ بعد
تحققه آنا ما يصير منشأ لانتزاع حيثية انتزاعية اعتبارية باقية
إلى الأبد، وباعتبارها يصدق العنوان على المصداق لا باعتبار نفس
المبدأ.
فإن كان مراده الأول كان البحث عقليا غير راجع إلى اللغة وعالم
الألفاظ. وقد عرفت أن المظنون عدم كون هذا مرادا له، إذ لازمه
صدق المفهوم على المصداق من دون وجود حيثية الصدق، أعني
المصداق بالذات وهو باطل بالضرورة، على أنه لا يجوز له على هذا
الاحتمال، الاستدلال على مختاره بالتبادر، وعدم صحة السلب، و
نحوهما مما يرجع إليه في تعيين حقائق الألفاظ ومجازاتها، لما عرفت
من كون البحث على هذا عقليا.
وإن كان مراده الثاني فالبحث لغوي راجع إلى البحث في أن ألفاظ
المشتقات هل تكون موضوعة لان تستعمل في المتلبس بمبدئها
باعتبار نفس المبدأ حتى لا تستعمل فيه بعد انقضائه، أو باعتبار حيثية
اعتبارية باقية بعد انقضاء المبدأ أيضا، فيجوز تطبيقها عليه بعده
أيضا؟ وعلى هذا يجوز للأعمى أن يستدل لاثبات مطلوبه بعلائم
الحقيقة والمجاز.
67

والحاصل: أن نزاع الأخصي والأعمي على هذا يرجع إلى البحث
اللغوي، فهذه أربع مقدمات يتوقف عليها بحث المشتق فتدبرها و
انتظر
ترتب النتيجة، وقبل الورود في تحقيقها ينبغي التنبيه على أمور:
التنبيه على ستة أمور
الأمر الأول: تصوير المراد من المشتق
إن ما ذكرناه في تصوير مراد الأعمى أحسن مما ذكره بعض أعاظم
العصر. وحاصل ما ذكرناه أن الأعمى إنما يتصرف في المشتق
المحمول على الذوات بأن حمله عليها ليس باعتبار وجود نفس
المبدأ، بل هو باعتبار وجود حيثية اعتبارية فيها بعد تلبسها بالمبدأ آنا
ما، وتلك الحيثية باقية ما دامت الذات باقية. ومحصل ما ذكره هذا
البعض: أن الذوات المحمولة عليها المشتقات يعتبر لها ثلاثة أزمنة:
زمن وجودها قبل التلبس بالمبدأ وزمن تلبسها به، وزمن وجودها بعد
انقضاء المبدأ عنها. والنزاع الواقع بين الأعمى والأخصي إنما
هو في أن ما وضع له ألفاظ المشتقات هي الحصة من الذوات
الموجودة حين تلبسها بالمبدأ، أم هي مع الحصة الموجودة بعد
انقضاء
المبدأ عنها، بعد اتفاقهما على عدم وضعها للحصة الموجودة قبل
التلبس به؟ ووجه أولوية ما ذكرناه أنه يلزم على زعم هذا المعاصر
كون الموضوع له في المشتقات هو الذوات، وهو كما ترى، وسنذكر
إن شاء الله أن الذوات ليست مأخوذة في المشتقات.
الأمر الثاني: النزاع يعم الزماني وضعا وطبعا
إن النزاع في المسألة لا يتوقف على كون الزمان مأخوذا في معاني
المشتقات بحسب الوضع، لأنها وإن لم تكن زمانيات وضعا، لكنها
من الزمانيات طبعا، حيث إن معانيها مما توجد في وعاء الزمان، فيقع
النزاع في أنه هل يشترط فيها أن يكون زمان انطباقها على
المصاديق مساويا لزمان التلبس، أو لا يشترط بل يكون أشمل منه؟.
الأمر الثالث: المراد بلفظ الأعم في عنوان المسألة
إن المراد بلفظ الأعم في عنوان المسألة ليس الأعم المنطقي (أي
الأشمل بحسب الافراد) فإن إجراء المشتق على الموجودات التي لم
تتلبس بمبدئه في زمن من الأزمان: من المضي والحال
68

والاستقبال لا يصح إلا مجازا على كلا القولين، وإجراؤه على ما تلبس
به آنا ما بنحو الحقيقة على كليهما أيضا، إلا أن زمان فردية كل
فرد مساو لزمان التلبس والاتصاف على الأخصي، وأوسع منه ومما
بعده على الأعمى، فالمراد بالأعمية، أوسعية زمان الفردية من زمن
الاتصاف.
الأمر الرابع: لا ربط بين أنحاء التلبس والمبادي
قال في الكفاية - في المقدمة الأولى من المقدمات التي مهدها - ما
حاصله: (إن النزاع لا يختص ببعض المشتقات، غاية الأمر اختلاف
أنحاء التلبسات حسب تفاوت مبادئ المشتقات بحسب الفعلية و
الشأنية والصناعة والملكة، وذلك لا يوجب تفاوتا في المهم من
محل
النزاع) انتهى.
أقول: يمكن ان يقال: إن اختلاف أنحاء التلبسات أمر، واختلاف
المبادي أمر آخر، وليس الأول ناشئا من الثاني، كما هو ظاهر كلامه.
أما المبادي فعلى أقسام - كما أشار إليها - ففي بعضها أخذت الفعلية
كغالب أسماء الفاعلين والمفعولين مثل (ضارب) و (قائم) و
(مضروب) وأمثالها، وفي بعضها أخذت الشأنية كما تقول: شجرة
مثمرة، ودواء مسهل، وفي بعضها أخذت الملكة كالشاعر والمجتهد.
وفي بعضها أخذت جهة الحرفة والصناعة كالبقال والتاجر، وفي
بعضها أخذت الكثرة. [1]
وأما أنحاء التلبسات فهي أيضا مختلفة، فإن الضرب مثلا يتلبس
بالفاعل من حيث صدوره عنه، وبالمفعول من حيث وقوعه عليه، و
بالزمان والمكان من حيث وقوعه فيهما، وباسم الآلة من حيث كونها
واسطة للصدور [2] وبالجملة اختلاف المبادي أمر، واختلاف
أنحاء التلبسات أمر
[1] أقول: - لم يمثل لها سيدنا الأستاذ العلامة (مد ظله العالي)، و
يمكن أن يمثل لها بصيغ المبالغة، فإن مباديها لو كانت مبادئ أسماء
الفاعلين من غير دخالة للكثرة فيها لزم صدق (ضراب) - على كلا
القولين - على من انقضت عنه كثرة الضرب، ولكن يضرب قليلا، إذا
المبدأ بعد باق، مع أن الأخصي لا يلتزم بذلك اللهم إلا أن يقال: إن
الكثرة مفاد الهيئة كما لا يخفى. ح - ع - م
[2] في جعل مبدأ اسم الفاعل ومبدأ اسم الآلة أمرا واحدا (كالضرب)
مثلا لعله مسامحة، إذ لو كان مبدؤه مبدأ اسم الفاعل لزم أن لا
يصدق اسم الآلة على ما أعد لايجاد المبدأ قبل إيجاده بها، أو بعد
انقضائه، فلا يقال:
(مسواك) مثلا لما أعد للاستياك إلا زمن الاستياك به، وهو بعيد جدا.
نعم يمكن أن يقال: إن مبدأه عين مبدأ اسم الفاعل، ولكن بتقريب
آخر بأن يقال: إن تلبس المبدأ باسم الآلة من حيث شأنيته لوقوع المبدأ
بسببه والشأنية وصف فعلى لها. ح - ع - م
69

آخر، وليس أحدهما مربوطا بالاخر.
الأمر الخامس: النزاع يعم المشتق النحوي وغيره
قال في الكفاية - في المقدمة الأولى أيضا - ما حاصله: (إن المراد
بلفظ المشتق في عنوان المسألة ليس ما ذكره النحويون أعني اللفظ
المأخوذ من لفظ آخر بحيث يتوافقان في الحروف الأصلية والترتيب،
بل المراد منه كل لفظ كان مفهومه جاريا على الذوات، ومنتزعا
عنها بملاحظة اتصافها بما خرج من حقيقتها، ولو كان جامدا كالزوج و
الزوجة والحر والرق وأمثالها.
ثم لو سلمنا كون المراد بلفظ المشتق في المقام ما ذكره النحويون،
فالبحث يجري في تلك الجوامد أيضا، ويشهد بذلك ما عن الايضاح
- في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة -
حيث قال: تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول
بالكبيرتين. [1] وأما المرضعة الأخرى ففي تحريمها خلاف، فاختار
والدي المصنف وابن إدريس تحريمها، لأن هذه يصدق عليها أم
زوجته، لأنه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه - انتهى كلام
صاحب الكفاية وما حكاه عن الايضاح - قلت: قد ذكرنا سابقا - في
المقدمة الرابعة - أن مقصود الأعمى دائر بين أمرين يكون البحث
على الأول منهما عقليا، وعلى الثاني لغويا، فإن كان مقصوده، الأول،
فظاهر أن ملاك البحث جار في تلك الجوامد أيضا، إذ العقل لو حكم
بكفاية التلبس آنا ما في انطباق المفهوم على المصداق حينه وبعده
فلا يفرق بين كون المفهوم مفهوما من لفظ مشتق أو من غيره.
وإن كان مقصوده الثاني، وصار البحث لغويا، فلا يجري في تلك
الجوامد [2] إذ المبدأ للصفات
[1] الدخول بالكبيرة الثانية لا دخالة له في حرمة الكبيرة الأولى و
الصغيرة، ولا في جريان النزاع في الكبيرة الثانية، أما الأول فواضح،
وأما الثاني فلأنها إذا أرضعتها تصير أما لها، ولا يشترط في حرمتها
الدخول، وإنما يشترط الدخول بالام في حرمة البنت، و
المفروض تحقق البنتية قبل ذلك بإرضاع الكبيرة الأولى. ح - ع - م
[2] أقول: إن كان مراده الأمر الثاني أيضا، أمكن جريان النزاع في تلك
الجوامد، لأن الظاهر أن المراد بالمبدأ ليس كلمة الزوجية مثلا
حتى يقال: إنها كلمة مأخوذة من الزوج فتكون تابعة له في الصدق و
يكونان متساويين، بل المراد بالمبدأ (الذي يصير التلبس به آنا ما
منشأ لاعتبار الأمر الاعتباري الباقي بعد فنأ المبدأ أيضا) هو نفس
العلاقة الواقعية الواقعة بين الزوجين، أعنى حقيقة الزواج. وبعبارة
أخرى المبدأ من مقولة المعنى لا من مقولة اللفظ. ح - ع - م
70

الجامدة مبدأ جعلي مأخوذ من لفظ الصفة بتغيير ما، كالزوجية مثلا،
فإنها عبارة عن كلمة الزوج مع زيادة الياء المصدرية والتاء الناقلة،
فلا يصح أن تطلق الصفة على شي مع انقضاء المبدأ عنه، فإن المبدأ
- حينئذ - هو نفس الصفة بأي معنى استعملت، فلا يصح أن يكون
أقصر عمرا منها، بل يجب أن يكونا متساويين، فافهم فإن قلت: لم
حكمت بابتناء حرمة الكبيرة الثانية فقط على مسألة المشتق، مع أن
حرمة الكبيرة الأولى والصغيرة أيضا مبتنية عليها؟ إذ حرمة الكبيرة
الأولى من جهة كونها أم الزوجة، وحرمة الصغيرة من جهة كونها
بنت الزوجة، ولما كان آن تحقق الرضاع بشرائطه المعتبرة آن تحقق
الأمية والبنتية وانقطاع الزوجية كانت حرمة الكبيرة من جهة
صيرورتها أم من كانت زوجة في الان السابق على آن الحرمة، وكذلك
حرمة الصغيرة من جهة صيرورتها بنت من كانت زوجة في الان
السابق.
قلت: انقطاع الزوجية مما يحتاج في تحققه إلى العلة بالضرورة، إذ
الزوجية الموجودة لا ترتفع من غير سبب وبلا جهة، ورتبة العلة
مقدمة على رتبة المعلول بالبداهة، وعلة انقطاعها فيما نحن فيه
ليست إلا الأمية والبنتية، ولما كانت الأمومة والبنتية متضايفتين، و
من
لوازم المتضايفين وجودهما في رتبة واحدة، كانت رتبتهما مقدمة على
رتبة انقطاع الزوجية، وهما في رتبة واحدة، فالزوجية في
تربتهما باقية لكل من الام والبنت، ولا ضير فيه، إذ الدليل الدال على
حرمة جمعهما في الزوجية إنما يدل على حرمة الجمع في آن واحد،
لا في رتبة واحدة.
فإن قلت: ما وجه التمثيل للمسألة بمثل هذه المسألة، مع إمكان
التمثيل بما لو كانت له زوجة صغيرة فطلقها، وبعد الطلاق أرضعتها
زوجته الكبيرة، أو كانت له زوجة كبيرة فطلقها، وبعد الطلاق أرضعت
زوجته الصغيرة؟ قلت: التمثيل بخصوص تلك المسألة من جهة
كونها معركة للآراء باعتبار ما صدر فيها عن ابن شبرمة من الفتوى
فراجع.
الأمر السادس: النزاع يعم اسم الزمان ونحوه
قال في الكفاية - في المقدمة الثانية - ما حاصله: إنه لا وجه
لتخصيص النزاع ببعض
71

المشتقات، إلا أنه ربما يستشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان،
لان الذات فيه - وهي الزمان - بنفسه ينقضي ويتصرم. ويمكن
حله بأن انحصار مفهوم عام بفرد كما في المقام، لا يوجب أن يكون
وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام (انتهى).
أقول: أولا: يمكن أن يقال: إن الألفاظ الدالة على زمن صدور الفعل،
كالمقتل والمضرب، ونحوهما لم توضع لخصوص ظرف الزمان
مستقلا، حتى تكون مشتركا لفظيا بين الزمان والمكان، بل وضعت
هذه الألفاظ للدلالة على ظرف صدور الفعل زمانا كان أو مكانا،
فتكون مشتركا معنويا بينهما، فيمكن النزاع فيها باعتبار كون بعض
الافراد من معانيها - وهو المكان - قارا بالذات، وبالجملة فليس
الموضوع له في هذه الألفاظ أمرا سيالا بل الموضوع له فيها طبيعة لها
أفراد بعضها سيال وبعضها غير سيال، فافهم.
وثانيا: ان الزمان وإن كان من الأمور غير القارة، ولكنه أمر متصل، وإلا
لزم تتالي الانات، وقد ثبت في محله بطلانه، والاتصال
يساوق الوحدة والتشخص، فهو مع امتداده وتدرجه موجود
وحداني، يمكن أن يتلبس بالمبدأ ثم يزول عنه فيصير من مصاديق
المسألة.
نقل الأقوال ونقدها:
إذا عرفت هذه الأمور وتلك المقدمات، فنقول: إن الأقوال في المسألة
كثيرة فقال بعضهم: إن المشتق حقيقة في خصوص المتلبس مطلقا.
واختار آخرون كونه حقيقة في الأعم منه وممن انقضى عنه المبدأ
مطلقا. وفصل بعضهم بين ما كان مأخوذا من المبادي المتعدية إلى
الغير وما لم يكن كذلك، فالمتعدي حقيقة في الأعم، واللازم حقيقة
في خصوص المتلبس، وقال بعضهم: إن محل النزاع ما إذا كان
المشتق محكوما به، ونقل الاتفاق على كونه حقيقة في الأعم إن كان
محكوما عليه. وقال بعضهم: إنه حقيقة في الأعم إن كان مبدأه مما
ينصرم، وفي الأخص إن كان مما يمكن بقاؤه وثباته، وقد كان هذا
القول وجيها عندنا في السابق، ولكن الظاهر بطلانه أيضا، والحق
هو القول الأول، وعمدة الدليل عليه هو التبادر.
تقريبه: أنك قد عرفت في المقدمة الثانية والرابعة أن الأعمى إما أن
يقول: إن وجود المبدأ آنا ما يكفي في صدق المفهوم على الذات، و
لو بعد انقضاء المبدأ، من دون أن يكون صدقه بلحاظ حيثية اعتبارية
باقية.
وإما أن يقول: إن وجوده آنا ما يوجب تحقق حيثية اعتبارية باقية إلى
الأبد، تكون هي الملاك
72

للصدق والمحكية بلفظ المشتق دون نفس المبدأ، أما الأول فباطل
بالضرورة، وقد عرفت بيانه، وأنه لا يظن بالأعمي أيضا إرادته،
فتعين أن يكون مراده، الثاني، وحينئذ فنقول: إن مقتضى قول الأعمى
أن لا يكون مثل (قائم) حاكيا لتحقق حيثية القيام، بل لحيثية
منتزعة عن الذات بعد تلبسها بالقيام آنا ما، مع وضوح أن المتبادر منه
ليس إلا من ثبت له القيام وقام به نفس المبدأ لا من ثبت له أمر
اعتباري غير منفك من الذات ما دامت باقية، وهكذا حال جميع
المشتقات، وهذا التبادر يثبت قول الأخصي، وينتفي سائر الأقوال
فتدبر.
استعمال المشتق على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يستعمل محمولا على الذات للدلالة على اتحاد مبدئه مع
الذات بحسب الوجود الخارجي ك (زيد ضارب).
الثاني: أن يستعمل لحكاية ذات تكون موضوعا لحكم من الاحكام و
الإشارة به إليها، لعدم كونها معروفة عند المخاطب إلا بهذا العنوان،
من دون أن يكون له دخل في ثبوت الحكم، كما تقول: الواقف بباب
الدار أكرمني.
الثالث: أن يستعمل موضوعا لحكم من الاحكام، بحيث يكون الحكم
لنفس حيثية المشتق، ويكون عنوانه دخيلا فيه كقوله تعالى: (و
السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وكقوله: (الزانية والزاني
فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)، وكقوله: (فاقتلوا
المشركين).
وهذا أيضا على قسمين، لأن هذه الحيثية إما أن تكون من الحيثيات
التي لها بقاء وثبات، كالشرك مثلا، وإما أن لا يكون لها بقاء، بل
تحدث وتنصرم من فور، فإن كان لها بقاء وثبات كان ظاهر الدليل
دوران الحكم مدارها حدوثا وبقاء، كوجوب القتل المتعلق
بالمشركين، حيث إن الظاهر من الدليل دوران وجوب القتل مدار
الشرك حدوثا وبقاء، وإن كانت مما تحدث وتنصرم فالحكم
المتعلق بها إما أن يكون بحيث يمكن له بحسب طبعه أن يكون دائرا
مدارها في الحدوث والبقاء، وإما أن لا يمكن له ذلك بحسب طبعه،
فعلى الأول يكون حكمها حكم الحيثيات غير
73

المتصرمة، وأما على الثاني فلا بد من أن يكون الحكم دائرا مدارها في
الحدوث فقط، بمعنى كونها علة لثبوت الحكم لا لبقائه، وذلك
كوجوب الجلد في الزاني، والقطع في السارق، فإن الزنا والسرقة
أمران يوجدان وينصرمان فورا، ولا يمكن أن يكون الجلد والقطع
بشرائطهما الشرعية دائرين مدارهما في البقاء فإن كلا منهما يتوقف
على مقدمات كثيرة، ومنها ثبوت السرقة والزنا عند الحاكم
بالبينة الشرعية مثلا.
لا أقول: إن المشتق يحمل حقيقة بلحاظ زمن الانقضاء أيضا، بل أقول:
إن حمله بلحاظ حال التلبس فقط، ولكن الحكم ليس دائرا مداره
حدوثا وبقاء، بل هو دخيل في الحدوث فقط. ومن هذا القبيل أيضا
المحرومية من الإمامة في قوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين)،
فإن أكثر أفراد الظلم كفعل أكثر المحرمات مما يحدث وينصرم، فلا
معنى لدوران المحرومية من الإمامة مداره حدوثا وبقاء، وبعض
أفراده وإن كان مما لا يتصرم كالشرك مثلا، ولكن كلمة الظالمين جمع
محلى باللام، فتدل الآية الشريفة على محرومية كل من صدق
عليه هذا العنوان بأي جهة كانت، فيشمل كل من ارتكب مظلمة من
المظالم الثابتة أو المتصرمة، وحيث إن المتصرمة منها علة لحدوث
المحرومية من دون أن تكون في بقائها دائرة مدارها، كما عرفت
وجهه، فالثابتة منها أيضا كذلك بطريق أولى، ومما يدل على كون
اللام في المقام للاستغراق لا للعهد أن العهد إنما يتمشى احتماله فيما
إذا كان الاخبار بما وقع في الحال أو المضي، وفيما نحن فيه ليس
كذلك، فإن المخاطب بهذا الكلام هو إبراهيم الخليل عليه السلام، و
قد خوطب به قبل أن يوجد الظالمون من ذريته ويرتكبوا المظالم،
فيكون ظاهر الآية محرومية كل من يوجد، ويصدق عليه هذا العنوان.
و يؤيد ذلك عظم قدر الإمامة وجلالته، بحيث لا يناسب أن تبذل
لمن صدر عنه الظلم ولو قبل تقمصه بها.
تبصرة:
مما تدل عليه الآية الشريفة هو أن الإمامة من المناصب المفاضة من
قبل الله تعالى، وأن تعيين الامام بيده. والدال على هذه المعنى موارد
من الآية الشريفة: من ذلك قوله في صدرها (إني جاعلك للناس
إماما)، حيث دل على أن الجاعل والمعين لمستحقها هو الله (الله
أعلم حيث
يجعل رسالته). ومن ذلك أيضا كلمة (عهدي) الدالة على أن الإمامة
عهد وميثاق بين الله وبين أحد
74

من خلقه، وليست مجعولة بصرف اجتماع أراذل الناس وأهل الهوى.
ومن ذلك قوله: (ومن ذريتي) حيث استدعى إبراهيم من الله تعالى
جعل الإمامة في ذريته، فتبصر
تذكرة:
اعلم أن في جميع تلك الوجوه التي مرت لاستعمال المشتق، إن كان
إجزاؤه على الذات وتطبيقه عليها باعتبار زمن تلبسها بمبدئه كان
حقيقة، وإن كان هذا الزمان مقدما على زمان النطق أو مؤخرا عنه، وإن
كان الاجراء والتطبيق باعتبار الزمن الواقع بعد التلبس أو
قبله كان مجازا، وإن كان هذا الزمان عبارة عن زمان النطق، فالمراد
بالحال في عنوان المسألة حال الاجراء والتطبيق لا حال النطق، و
على هذا فإن حملنا المشتق على الذات بعد انقضاء المبدأ عنها، و
أثبتنا الحكم المعلق عليه لهذه الذات، بعد الانقضاء، لا يكون هذا
الاثبات و
ذاك الحمل دليلين لقول الأعمى، لاحتمال أن يكون الحمل بلحاظ
حال التلبس، وإثبات الحكم بعد انقضاء المبدأ من جهة كون الحكم
دائرا مدار صدق المشتق حدوثا لابقاء، كما في آيتي حد الزنا و
السرقة، كما تقدم، فتذكر.
75

بقي في المقام أمور أخر
الأمر الأول: مفهوم المشتق بسيط أو مركب؟
مفهوم المشتق على ما حققه الشريف أمر بسيط منتزع عن الذات،
باعتبار تلبسها بالمبدأ ولا يكون مركبا. فمعنى (ضاحك) ليس شيئا
ثبت له الضحك، بل هو لا يحكي إلا نفس حيثية الضحك. وقد أفاد
في وجه ذلك ما حاصله: إن مفهوم (الشئ) لا يعتبر في مفهوم الناطق
مثلا، وإلا لكان العرض العام مأخوذا في مفهوم الفصل، فإن الشيئية
من العوارض العامة، ولو كان المأخوذ في مفاهيم المشتقات
مصاديق (الشئ) ومعنونات هذا العنوان لزم انقلاب القضايا الممكنة
إلى الضرورية، فإن في قولنا: (الانسان ضاحك) مصداق الشئ
الذي ثبت له الضحك هو الانسان، فترجع القضية إلى قولنا: (الانسان
إنسان له الضحك)، وثبوت الشئ لنفسه ضروري (انتهي).
وقد أورد عليه في الفصول ما حاصله: إنه من الممكن أن نقول إن
المأخوذ فيها مفهوم الشئ، وإن كون الناطق فصلا مبني على تجريده
من مفهوم الشيئية في عرف المنطقيين، وذلك لا يوجب كونه مجردا
منه لغة. ويمكن أيضا أن نقول إن المأخوذ فيها مصاديق الشئ، ولا
يلزم منه الانقلاب، إذ المقصود في قولنا (الانسان إنسان له الضحك)
ليس إثبات الانسانية المطلقة للانسان حتى تكون ضرورية، بل
إثبات الانسانية المقيدة بالضحك، وهي ممكنة خاصة (انتهى). وقال
شيخنا الأستاذ (قده) في الكفاية في رد ما ذكره صاحب الفصول
أولا ما حاصله: إنه من المقطوع به أن مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا
تصرف في معناه. والتحقيق أن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي، بل
هو لما كان من أظهر خواص الفصل الحقيقي سماه المنطقيون فصلا، و
عليه فلا بأس بأخذ مفهوم الشئ في مثل الناطق، إذ اللازم منه أخذ
عرض عام في عرض خاص، ولا بأس به.
وقال (قده) في رد ما ذكره في الفصول ثانيا ما حاصله: إن المحمول إن
كان ذات المقيد بحيث كان التقيد داخلا والقيد خارجا فدعوى
لزوم الانقلاب بحالها، وأما إذا كان المقيد بما هو مقيد محمولا بنحو
يكون القيد أيضا داخلا فقضية (الانسان ناطق) تنحل إلى قضيتين:
إحداهما قضية (الانسان إنسان)، وهي ضرورية، والثانية قضية
(الانسان له النطق) وهي ممكنة (انتهى كلامه
76

رفع في الخلد مقامه).
ونحن نقول: ما ذكره الشريف - من بساطة مفهوم المشتق - حق لا
مرية فيه، دليلنا التبادر، إذ المتبادر من لفظ الكاتب في (زيد كاتب)
ليس إلا حيثية الكتابة، من دون أن يتصور مفهوم الشيئية، أو ذات
الموضوع ثانيا. وليس قولنا (زيد كاتب) بمثابة قولنا (زيد زيد الذي
له الكتابة)، أو (زيد شي له الكتابة)، لان الموضوع مكرر فيهما دون
(زيد كاتب) بضرورة حكم العرف.
وأما ما أفاده الشريف في وجه ذلك فلا دلالة له على المقصود، إذ
غاية ما يلزم من أخذ الشئ مفهوما أو مصداقا في المشتق، كون
المنطقيين خاطئين في عد الناطق فصلا، وقضية (زيد قائم) مثلا
ممكنة خاصة، ولا يلزم من أخذه فيه محال عقلي، وخطأ المنطقيين
ليس
أمرا محالا، وما ضمنا أن كل ما قاله المنطقيون يكون وحيا منزلا.
وأما ما أفاده صاحب الكفاية في تحقيقه: من أن الناطق ليس فصلا
حقيقيا، بل فصل مشهوري، باعتبار كونه من أظهر خواص الفصل
الحقيقي، ففيه: أنه يلزم على هذا أيضا تجريده من الشيئية، فإن ما هو
من أظهر خواص الفصل الحقيقي للانسان ليس هو الشيئية المقيدة
بالنطق، بل نفس حيثية النطق، وضم الشيئية إليه، نظير ضم الحجر إلى
جنب الانسان.
وأما ما ذكره ثانيا: من أن المحمول لو كان ذات المقيد مع التقيد وكان
القيد خارجا فدعوى الانقلاب بحالها، ففيه: أن ثبوت الذات
المقيدة بقيد إمكاني ليس ضروريا لنفسها. نعم إن كان مراده أن القيد لا
دخالة له في الحكم أصلا، بل جي به لمحض الإشارة إلى
المحكوم به كانت دعوى الانقلاب بحالها، إلا أن التقيد على هذا مثل
نفس القيد في خروجه من المحكوم به، هذا، مضافا إلى أنه خلاف
موارد استعمال المشتقات، إذ المراد من (زيد قائم) ليس إثبات أن زيدا
زيد، ويكون عنوان القيام للإشارة إلى زيد، بل المراد إثبات
القيام له.
وأما ما ذكره ثالثا: من كون قضية (الانسان ناطق) منحلة إلى قضيتين،
فمردود أيضا، إذ المقصود ليس إلا إثبات أمر واحد لموضوع
فارد أعني إثبات النطق للانسان، أو إثبات الشيئية أو الانسانية المقيدة
بالنطق له، بناء على أخذ الذات في المشتق، وليس المقصود
إثبات الانسانية للانسان وإثبات النطق له ثانيا. ثم إنه يلزم على القول
بأخذ مصاديق الشئ في المشتقات كون الوضع فيها عاما و
الموضوع له خاصا، فإن مصاديق الشئ أمور غير متناهية، لا يمكن
لحاظها حين الوضع إلا بعنوان جامع، والفرض أن ألفاظ المشتقات
موضوعة لذوات المصاديق، فيلزم ما ذكر.
واعلم أن صاحب الكفاية (قده) بعد تصديقه بساطة مفهوم المشتق
قد هدم أساسها عند
77

قوله (إرشاد) حيث قال فيه ما حاصله: إن بساطة مفهوم المشتق لا
تنافي كونه مركبا بالتحليل العقلي، فإن المعنى الواحد البسيط قد
يحلله العقل إلى أجزأ فإنه فاتق كل جمع ورتق (انتهى).
أقول: إن النزاع بين المحقق الشريف وبين خصمه ليس في بساطة
مفهوم المشتق وتركبه عند النظر إليه إجمالا، بل في بساطته و
تركبه عند التحليل العقلي والنظر الدقيق الفلسفي، كيف ولا ينسب
إلى البلهاء أيضا النزاع في أن مفهوم المشتق هل هو بسيط أو مركب
عند النظر الاجمالي والمسامحي؟ فكيف ينسب إلى المحققين و
المدققين؟
الأمر الثاني: الفرق بين المشتق ومبدئه
ثم إنه بعد ما ذكر من عدم أخذ الذات ولا النسبة في مفاهيم
المشتقات، وكونها دالة على نفس حيثية المبدأ، بقي وجه الفرق بينها
وبين
المبادي، ووجه صحة حملها على الذوات وعدم صحة حمل
المبادي عليها مع كونهما بمعنى واحد. وقد ذكروا في بيان الفرق
بينهما أن
مفهوم المشتق وإن كان متحدا مع مفهوم المبدأ بحسب الحقيقة، و
لكن يفترقان بحسب الاعتبار، فمفهوم المشتق قد أخذ لا بشرط، و
مفهوم المبدأ مأخوذ بشرط لا، وصرحوا بأن المراد من (اللا بشرطية) و
(البشرط لائية) هنا إنما يكون بحسب الحمل.
أقول: ليس المراد منهما هاهنا ما ذكروه في باب اعتبارات الماهية: من
أنها قد تؤخذ بشرط لا، وقد تؤخذ بشرط شي، وقد تؤخذ لا
بشرط، بل المقصود هنا ما ذكروه في بيان الفرق بين الجنس والفصل،
وبين المادة والصورة، من أخذ الأولين لا بشرط والأخيرتين
بشرط لا. فالأولى عطف عنان الكلام إلى بيان ما ذكروه في ذلك
المقام، حتى يتضح به ما نحن فيه
أقسام المركبات:
إن المركبات على قسمين:
1 - ما يكون تركيبه انضماميا، ومعنى التركيب الانضمامي أن يكون
كل جز من أجزأ المركب موجودا مستقلا مغايرا للجز الاخر في
مقام الوجود والتحصل، ولكن اعتبر اتحادهما، فتكون وحدة المركب
وحدة اعتبارية، مثل الدار والمدرسة مثلا، فإن كل واحد من
أجزائهما مغاير لسائر الاجزاء حقيقة، ولكن عين الاعتبار تنظر إلى
جميع الأجزاء بنظر الوحدة، ففي هذا القسم من التركيب لا يصح
حمل بعض الاجزاء على غيره، ولا حملها على الكل، ولا حمل الكل
عليها،
78

لان مناط الحمل هو الهوهوية والاتحاد بحسب الوجود، والمفروض
عدمها في المقام.
2 - ما يكون تركيبه اتحاديا، ومعنى ذلك أن يكون وجود بعض
الاجزاء في الخارج عين وجود غيره من الاجزاء الاخر، وتحصله بعين
تحصلها، فتكون وحدة الاجزاء وحدة حقيقية، وتغايرها بحسب
الاعتبار كالانسان مثلا، فإنه مركب من الحيوانية والناطقية ولكنهما
موجودتان بوجود واحد.
أقسام ملاحظة التركيب الاتحادي:
ثم إن كل واحد من الاجزاء في هذا القسم - أعني التركيب الاتحادي
- يمكن أن يلحظ على نحوين:
الأول: أن يلحظ بنحو الابهام في التحصل، بحيث يحتمل اللاحظ و
يجوز في لحاظه هذا أن يكون تمام تحصل هذا الجز ما هو الملحوظ
فعلا، وأن يكون ناقصا في تحصله ومتحدا مع غيره فيه، بحيث يكون
تحصله بعين تحصل ذلك الغير.
الثاني: أن يلحظ تام التحصل بنحو يرى اللاحظ في لحاظه هذا أن تمام
هذا الجز ما هو الملحوظ فعلا، فيكون ملحوظا بحد جزئيته،
بحيث إنه إن لحقه غيره كان يراه من منضماته وملحقاته، لا من
متممات تحصله. فإن لحظ بالنحو الأول صح حمل كل جز على سائر الأجزاء
، وحملها على الكل، وحمل الكل عليها، بخلاف ما إذ لحظ
بالنحو الثاني.
ولنذكر لوضوح المطلب مثالا وهو: أنك إذا كنت في بيروت واقفا
على ساحل البحر الأبيض، وناظرا إلى الماء الذي يكون منه بمد
نظرك، فقد تكون ناظرا إلى الماء الذي بمد نظرك محدودا بالحدود
المعينة المرئية من الطول والعرض، بحيث لو سافرت من بيروت
إلى جبل الطارق مثلا ورأيت اتصال مائه بما رأيته أولا في بيروت،
حكمت بأن ما رأيته ثانيا مغاير لما رأيته أولا، لكنه منضم إليه و
متصل به، ولا تحكم بأنه عينه. وقد تكون ناظرا إليه من حيث هو ماء
من غير لحاظ كونه محدودا بالحدود المعينة بحيث تحتمل أن
يكون تمام تحصله ما هو بمد نظرك، وأن يكون متحدا مع غيره في
التحصل، وفي هذا الاعتبار تحكم على الماء المرئي في جبل الطارق
بأنه عين ما رأيته في بيروت، إذ لم تره في الرؤية الأولى محدودا
بالحدود المعينة المشخصة من الطول والعرض، بل رأيته بنحو الابهام
في التحصل.
فكما أن ماء البحر مع كونه موجودا واحدا ممتدا، تكون رؤية بعض
أجزائه على نحوين،
79

ويصح الحمل باعتبار أحدهما دون الاخر، فكذلك الموجود الواحد
المركب بالتركيب الاتحادي مثل الانسان يكون لحاظ أجزائه على
نحوين، فإن الحيوانية وكذا الناطقية تارة تلحظان بنحو الابهام من جهة
التحصل، بحيث لا يرى اللاحظ - في لحاظه كل واحد منهما -
مانعا من أن يكون تحصله بعين تحصل الجز الاخر، وإذا رأى كونه
متحصلا بعين تحصل الاخر حكم بأنه، هو لا أنه غيره وانضم إليه، و
في هذا الاعتبار يسميان بالجنس والفصل، ويجوز حمل كل واحد
منهما على الاخر، وحمله على الانسان، وحمل الانسان على كل
واحد
منهما. وأخرى، يلحظ كل واحد منهما على نحو يكون تام التحصل،
بحيث يكون تمام تحصله ما هو الملحوظ فعلا بحدوده وأطرافه،
حتى
أنه إذا لحظ معه الجز الاخر كان - بهذا النظر - تحصله مغايرا لتحصله
وكان من ضمائمه ومقترناته، وبهذا الاعتبار يسميان بالهيولى
والصورة، ولا يجوز في هذا اللحاظ حمل أحدهما على الاخر، ولا
حمله على النوع ولا حمل النوع عليه، لان المناط في الحمل هو
الهوهوية والاتحاد، ولم يحصلا في هذا اللحاظ.
وبالجملة: فالجز قد يلحظ بحد جزئيته، وبما أنه شي بحياله، وأنه
بانضمام شي آخر إليه يحصل الكل، وقد يلحظ لا بحد الجزئية، بل
بنحو الابهام في التحصل، وبما أنه متحصل بعين تحصل الكل. هذا
هو مراد القوم مما ذكروه في بيان الفرق بين الهيولى والصورة و
بين الجنس والفصل: من أخذ المفهوم في الأوليين بشرط لا، وفي
الأخيرين لا بشرط.
ومما ذكرنا ظهر لك المقصود مما ذكره بعض أهل المعقول: من أن
الجنس والفصل ليسا من أجزأ المحدود، بل من أجزأ الحد. والوجه
في ذلك أن كلا منهما في النوع المحدود عين الاخر، وغير باق بحد
الجزئية، إذ قد لحظ كل منهما بحيث يكون تحصله بعين تحصل الكل
ومتحدا معه، وأما في مقام التحديد فيكون الملحوظ أمرين، وكل
منهما جز من الحد.
ثم لا يخفى أن المراد من اللا بشرطية والبشرط لائية هنا ليس ما ذكروه
في باب اعتبارات الماهية (من اللا بشرطية والبشرط لائية و
البشرط شيئية)، إذ المراد من البشرط لا مثلا في باب اعتبارات الماهية
هو أن يتصور الماهية بالقياس إلى عوارضها الطارئة عليها و
تلحظ مجردة منها، بحيث لا تتحد معها ولا تنضم إليها، والمراد من
البشرط لا في المقام هو أن يلحظ الجز بحد الجزئية وتام التحصل،
بحيث إن قارنه شي كان من منضماته وملحقاته، لا من متممات
تحصله.
فالبشرط لا في المقام لا يأبى انضمام أمر آخر إليه، وإنما يأبى كونه
داخلا في الملحوظ ومتمما له في مقام التحصل. وبهذا البيان يظهر
الفرق بين اللا بشرطين في المقامين أيضا فتدبر
80

مبنى ما قيل في الفرق بين المشتق والمبدأ:
ثم اعلم أن قياس الفرق بين المشتق ومبدئه على الفرق بين الجنس و
الفصل وبين الهيولى والصورة يبتنى على تسليم أمور ثلاثة:
1 - أن مفهوم المشتق عين مفهوم المبدأ ذاتا، من دون أن تكون النسبة
والذات مأخوذتين في المشتق.
2 - ما ذكره المتأخرون من أهل المعقول: من أن وجود العرض بعين
وجود معروضه، وأنه من شؤونه ومراتبه، لا أن له وجودا آخر
ينضم إليه ويكون حالا فيه.
3 - أن الملاك في صحة الحمل ليس مجرد الاتحاد في الخارج، بل
اللازم في مقام الحمل لحاظ العرض المحمول بنحو الابهام في
التحصل،
لئلا يأبى الحكم باتحاده مع الموضوع، لا بنحو التمامية في التحصل،
إذ يصير - في هذا اللحاظ - من منضماته المغايرة له، ويأبى الحكم
باتحاده معه. وبهذا البيان ظهر الفرق بين المشتق ومبدئه، فإن المشتق
إنما يلحظ بنحو الابهام، بخلاف المبدأ فإنه ملحوظ بما أنه
متحصل بنفسه وبحياله، غاية الأمر كونه من منضمات الموضوع و
نواعته، ولاجل ذلك يصح الحمل في المشتق دون المبدأ.
الأمر الثالث: ملاك الحمل
قال في الكفاية: (إن ملاك الحمل هو الهوهوية من وجه والمغايرة من
وجه آخر).
أقول: ملاك الحمل هو العينية والاتحاد بحسب اللحاظ، وقد عرفت
أنهما لا يتحققان إلا إذا لحظ المحمول بنحو الابهام، حتى لا يأبى أن
يكون تحصله بعين تحصل الموضوع، ولا يلزم في صحة الحمل تغاير
الموضوع والمحمول، بل التغاير انما يعتبر لإفادة الحمل، فحمل
الشئ على نفسه صحيح، ولو لم يعتبر المغايرة بوجه، لكنه غير مفيد
إن لم تكن في البين مغايرة. وبعبارة أخرى ليست المغايرة من
شرائط صحة الحمل، بل من شرائطه إفادته.
الأمر الرابع: لا يعتبر في صدق المشتق كون المبدأ زائدا على الذات
قد مر سابقا أن حمل عناوين المشتقات على المصاديق وإجراءها
عليها لا بد من أن يكون باعتبار وجود حيثية وجهة صدق في هذه
المصاديق، تكون مفقودة في غيرها مما لا تحمل عليها، فحمل
(العالم) على زيد مثلا متوقف على وجود حيثية العلم فيه، ولا يشترط
زائدا على ذلك
81

كون تلك الحيثية من عوارض الموضوع وزائدة على ذاته.
فعلى هذا إن كانت هذه الحيثية عين ذات الموضوع كان صدق المشتق
عليه بنحو الحقيقة أيضا، فصدق العالم والقادر وسائر الصفات
الثبوتية على الله تعالى بنحو الحقيقة وإن كانت مباديها عين ذاته، كما
هو مختار أهل الحق خلافا للأشاعرة، حيث توهموا أن الصفة
يشترط فيها أن تكون من عوارض الموصوف، فحكموا بكون صفاته
تعالى زائدة على ذاته، وبكونها قديمة كذاته تعالى حتى لا يلزم
خلوه عنها في زمان، وعلى قولهم تكون القدماء ثمانية: الذات وسبع
من الصفات، وقد قال الإمام الرازي: إن علماءنا حكموا بكفر
المسيحية، لما اعتقدوه من الأقانيم الثلاثة، وهم قد اختاروا كون
القدماء ثمانية، ومع ذلك يعدون أنفسهم موحدين. ولما رأى المعتزلة
بطلان القول بتعدد القدماء، كما هو مختار الأشاعرة، ولم يجوزوا
القول أيضا بكونه تعالى في وقت من الأوقات جاهلا أو عاجزا مثلا،
ولم يتصوروا أيضا ما هو الحق المحقق من كونه صفاته عين ذاته،
احتاجوا إلى القول بالنيابة فقالوا: إن صفاته حادثة وإنه تعالى قبل
حدوث هذه الصفات له وإن لم يكن موصوفا بهذه الصفات، ولكن
ذاته كانت نائبة عن هذه الصفات، فكانت الأشياء منكشفة له مثلا من
دون أن يثبت له وصف العلم، قال في المنظومة:
والأشعري بازدياد قائلة وقال بالنيابة المعتزلة
والحق عندنا كما مر أن صفاته عين ذاته وأن صدق المشتقات عليه
تعالى بنحو الحقيقة إذ المناط في صدق المشتق ليس إلا تحقق حيثية
المبدأ، ولا يشترط زائدا على ذلك كونه زائدا على الذات، فليس
معنى عالميته مثلا إلا وجود ما هو حقيقة العلم له، وهي انكشاف
الأشياء
له وحضورها لديه، وليس العلم سوى الانكشاف التام، وكذلك لا
معنى لقدرته إلا كونه بذاته بحيث يصدق عليه أنه إن شاء فعل وإن لم
يشأ لم يفعل، وليس شرطا في صدق القادر كون القدرة موجودة
بحيالها في قبال وجود الذات، وكذلك معنى القديم ليس إلا أن الذات
لا مبدأ لوجودها، وليس شرطا في صدقه كون القدم شيئا موجودا
بحياله، وكذلك الحياة فان معناها كون الذات بحيث تترتب عليها
آثارها المطلوبة منها من العلم والقدرة وسائر الصفات والافعال، و
قس عليها سائر الصفات، مثلا إن قلت: (زيد شجاع) فليس معناه
أن زيدا شي، وأن الشجاعة شي آخر موجود بحياله، بل معناه، أن
ذات زيد تكون بحيث تصدر عنها آثار القوة، وليست قوتها
موجودة بوجود زائد على وجودها، فتدبر
82

المقصد الأول في الأوامر
قد يقال: إنها جمع آمرة صفة لموصوف محذوف، أي صيغة آمرة أو
كلمة آمرة.
وفيه نظر لعدم مساعدة العرف على ذلك، فان المتبادر من قوله عليه
السلام (وخالفت بعض أوامرك) مثلا ليس أني خالفت بعض
صيغ أمرك، بل المتبادر منه أني خالفت بعض مطلوباتك.
فالحق أنها جمع أمر على خلاف القياس، كما أن (أمور) جمعه بمعناه
الجمودي، ولكن على وفق القياس.
ثم إن في هذا المقصد فصولا:
83

الفصل الأول فيما يرجع إلى مفاد مادة الامر وصيغته وفيه مباحث:
84

المبحث الأول:
مادة الامر
وقد ذكروا لها معاني عديدة: فمنها الطلب كقولهم: آمرك بكذا، ومنها
الشأن كما يقال:
شغله أمر كذا، ومنها الفعل كما في قوله تعالى: (وما أمر فرعون
برشيد)، ومنها الفعل العجيب كما في قوله تعالى: (فلما جاء
أمرنا)،
ومنها الشئ كما تقول: (رأيت اليوم أمرا عجيبا).
ومنها الحادثة، ومنها الغرض كما تقول جاء زيد لامر كذا.
قال في الكفاية: (إن عد بعضها من معانيه من باب اشتباه المصداق
بالمفهوم)، ثم اختار كونه مشتركا لفظيا بين الطلب وبين الشئ. [1]
أقول: الظاهر فساد القول بكونه بمعناه الجمودي مرادفا للشئ، إذ
الشيئية من الأمور العامة المطلقة على الجواهر والاعراض بأسرها، و
إطلاق الامر على الجواهر بل على بعض الاعراض فاسد جدا، فلا
يقال مثلا (زيد أمر من الأمور)، ولعل معناه الجمودي عبارة عن الفعل.
ثم لا يخفى أن عد الفعل العجيب من معانيه لعله من جهة الاشتباه
بالامر بكسر الهمزة، فإنه بمعنى العجيب كقوله تعالى: (لقد جئت شيئا
إمرا). وليعلم أيضا أن الامر في قوله تعالى:
(وما امر فرعون برشيد) وفي قوله: (فلما جاء أمرنا) ما استعمل إلا في
معنى الطلب كما لا يخفى.
[1] أقول ربما يقال بتصوير الجامع بين المعنى الجمودي والمعنى
الاشتقاقي، ويحكم بكون الاشتراك في المقام معنويا، فيقال إن كلمة
الامر موضوعة لما يظهر الإرادة ويبرزها، تكوينية كانت أو تشريعية،
فهو بمعناه الجمودي مظهر للإرادة التكوينية، وبمعناه
الاشتقاقي مظهر للإرادة التشريعية، فتأمل. ح - ع - م
85

المبحث الثاني:
الفرق بين الامر والالتماس والدعاء
هل يعتبر فيه باعتبار معناه الاشتقاقي - أعني الطلب - علو الامر، أو
استعلاؤه، أو هما معا، أو أحدهما على سبيل منع الخلو، أو لا يشترط
شي منهما؟ لكل وجه، والتحقيق أن يقال:
إن حقيقة الامر بنفسه تغاير حقيقة الالتماس والدعاء، لا أن المغايرة
بينهما باعتبار كون الطالب عاليا أو مستعليا أو غيرهما.
بيان ذلك أن الطلب بنفسه ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الطلب الذي قصد فيه الطالب انبعاث المطلوب منه من
نفس هذا الطلب، بحيث يكون داعيه ومحركه إلى الامتثال صرف هذا
الطلب، وهذا القسم من الطلب يسمى أمرا.
القسم الثاني: هو الطلب الذي لم يقصد الطالب فيه انبعاث المطلوب
منه من نفس طلبه، بل كان قصده انبعاث المطلوب منه من هذا الطلب
منضما إلى بعض المقارنات التي توجب وجود الداعي في نفسه،
كطلب المسكين من الغني، فإن المسكين لا يقصد انبعاث الغني من
نفس
طلبه وتحريكه، لعلمه بعدم كفاية بعثه في تحرك الغني، ولذا يقارنه
ببعض ما له دخل في انبعاث الغني كالتضرع والدعاء لنفس الغني
ووالديه مثلا، وهذا القسم من الطلب يسمى التماسا أو دعاء.
فعلى هذا حقيقة الطلب على قسمين، غاية الأمر أن القسم الأول منه
(أي الذي يسمى بالامر) حق من كان عاليا، ومع ذلك لو صدر عن
السافل بالنسبة إلى العالي كان أمرا أيضا، ولكن يذمه العقلا على طلبه
بالطلب الذي ليس شأنا له فيقولون: أتأمره؟ كما أن القسم الثاني
يناسب شأن السافل، ولو صدر عن العالي أيضا لم يكن أمرا، فيقولون
لم يأمره بل التمس منه، ويرون
86

هذا تواضعا منه.
وبالجملة: حقيقة الطلب منقسمة إلى قسمين: طلب يسمى أمرا و
طلب يسمى التماسا أو دعاء [1] والقسم الأول منه يناسب العالي، لا
أن
كون الطالب عاليا مأخوذ في مفهوم الامر، حتى يكون معنى آمرك
بكذا، أطلب منك وأنا عال.
[1] وبعبارة أخرى حقيقة الامر عبارة عن قسم خاص من الطلب يعبر
عنه بالفارسية (فرمان) - وحقيقة الالتماس عبارة عن قسم آخر
منه يعبر عنه (خواهش). ح - ع - م
87

المبحث الثالث:
الطلب والإرادة
حقيقة الطلب ما هي؟ وهل تكون متحدة مع الإرادة أو مغايرة لها،؟ قد
ذكر في الكفاية في هذا المقام مسألة كون المادة موضوعة
للوجوب أو الندب، ولكنا نؤخرها إلى المبحث الرابع لتوقفها على
فهم حقيقة الطلب. ولا بد لنا قبل الخوض في المقصود من بيان ما هو
مطرح أنظار الأشاعرة والمعتزلة في النزاع في هذه المسألة والإشارة
الاجمالية إلى مبدأ نشأ مذهبي الاعتزال والأشعرية، فنقول:
مبدأ ظهور المعتزلة والأشاعرة:
قد كان البحث عن ذات الباري تعالى وحقائق صفاته دائرا بين حكماء
العجم والروم، بل سائر الناس قبل ظهور الاسلام. لكن طلوع
نور الاسلام قد جب هذه المباحث، فكان الصحابة رضوان الله عليهم
يتلقون معتقداتهم في تلك المسائل بنحو الاندماج من النبي صلى الله
عليه وآله والقرآن إلى زمان التابعين، وفي زمنهم قد كثر القتال بين
المسلمين وبين الكفار. واختلط المسلمون بالاسراء من الكفار،
فألقى أولئك الاسراء ما كانوا يعلمونه من قبل، [1] في مجالس
المسلمين ومحافلهم، وتلقاه المسلمون وباحثوا فيما تلقونه منهم في
حلقاتهم التي كانوا يؤسسونها للمناظرات الدينية، فممن أسس حلقة
بين المسلمين الحسن البصري (أسير عين التمر)، وكان هو رئيسا
في الحلقة،
[1] أقول - بل لعل المتتبع في كتب التاريخ يطمئن بأن أكثر الفتن و
المذاهب المختلفة في الديانة الاسلامية إنما نشأت من جهة إلقاء
أسراء الكفار من العجم وغيرهم جميع ما كانوا يعتقدون من الأصول و
الفروع، بين المسلمين والمؤمنين بالقرآن. ح - ع - م.
88

وكان يذاكر تلامذته في المسائل الكلامية، وقد وقع يوما من الأيام
بينه وبين واصل بن عطاء (أحد تلامذته) مشاجرة في مسألة،
فاعتزل ابن عطاء عن حلقته، وأسس لنفسه حلقة وخالف في أكثر
المسائل أستاذه، ومن هنا نشأ مذهب الاعتزال، وكان ممن وافق
الحسن البصري في معتقداته أبو الحسن الأشعري (من أحفاد أبي
موسى الأشعري وتلميذ أبي علي الجبائي)، وكان أبو الحسن معاصرا
للكليني (ره)، وكان في الأصل معتزليا، ثم اختار مذهب الحسن
البصري وتاب عن الاعتزال، لما رأى من اضمحلال المعتزلة، وبه
نسبت
الطائفة الأشعرية تابعوا الحسن البصري.
وجه تسمية علم الكلام:
اعلم أن أول مسألة اختلف فيها بين الأشاعرة والمعتزلة مسألة تكلم
الباري تعالى. وكان غرضهم من هذا النزاع إثبات أن القرآن حادث
أو قديم، وقد سفكت الدماء الكثيرة على هذه المسألة، وكان بعض
الخلفاء العباسيين كالمأمون مثلا مائلا إلى مذهب الاعتزال، فكانوا
يحبسون من يعتقد قدم القرآن من الأشاعرة ويؤذونهم على ذلك. و
لما كانت مسألة تكلم الباري أول مسألة وقع فيها البحث من
المسائل الكلامية سمي العلم الباحث في الأصول الدينية بعلم
الكلام، وبالجملة أول مسألة اختلف فيها بينهما مسألة تكلم الباري،
فقالت
المعتزلة وكذا الامامية: إنه من صفات الفعل، إذ هو عبارة عن إيجاده
تعالى أصواتا في أحد من الموجودات، كالشجرة مثلا فيكون
حادثا. وقالت الأشاعرة: إنه من صفات الذات فيكون قديما من
القدماء الثمانية.
واستشكل عليهم المعتزلة بأن المراد من التكلم ليس إلا إيجاد
الأصوات والحروف، فلا يتصور كونه من صفات الذات.
وأجاب الأشاعرة بأن المراد من الكلام ليس هو الكلام اللفظي، بل
الكلام النفسي الذي هو صفة نفسانية للمتكلم، ويكون هو المنشأ
للكلام اللفظي، ويكون الكلام اللفظي حاكيا له ودالا عليه دلالة
المعلول على علته والمسبب على سببه، ولا يختص ذلك بالباري
تعالى،
بل لنا أيضا كلام لفظي يكون من صفات الفعل، وهو الملتئم من
الأصوات والحروف، وكلام نفسي قائم بأنفسنا نظير سائر الصفات
النفسانية، ويسمى هذا الكلام النفسي طلبا حقيقيا، إن كان الطلب
اللفظي أمرا، وزجرا حقيقيا إن كان اللفظي نهيا.
واستشكل عليهم المعتزلة ثانيا بأنا لا نجد بعد مراجعة الوجدان غير
صفة العلم والإرادة والكراهة شيئا قائما بأنفسنا، يكون منشأ
للكلام اللفظي، حتى نسميه بالكلام النفسي أو الطلب
89

الحقيقي أو الزجر الحقيقي، فان الكلام إما أن يكون إخبارا، أو إنشاء، و
ما يكون موجودا في نفس المتكلم حين الاخبار هو العلم
بالنسبة، وما يكون موجودا في نفسه حين الانشاء هو الإرادة، إن كان
الانشاء أمرا، والكراهة إن كان نهيا، ولا يمكن أن يكون المراد
من التكلم - الذي هو من صفات الله تعالى - العلم أو الإرادة أو
الكراهة، إذ المقصود إثبات التكلم له في قبال إثبات العلم والإرادة و
الكراهة له تعالى. فما هو مدار كلام الأشاعرة ومختارهم هو أن
للمتكلم بالكلام اللفظي صفة قائمة بنفسه سوى العلم والإرادة و
الكراهة نسميها بالكلام النفسي، ويسمى طلبا حقيقيا في خصوص
الأوامر، وزجرا حقيقيا في خصوص النواهي، ويكون هذا الزجر
الحقيقي منشأ للزجر الانشائي، وذاك الطلب الحقيقي منشأ للطلب
الانشائي، وذلك الكلام النفسي منشأ للكلام اللفظي، وقد قالوا:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا وما هو محط نظر المعتزلة نفي تلك الصفة النفسانية المغايرة للعلم و
الإرادة والكراهة، بدعوى أن الموجود في أذهاننا عند الاخبار
هو صفة العلم فقط. وعند الامر أو النهي هو الإرادة أو الكراهة فقط، و
ليس في أذهاننا في قبال العلم والإرادة والكراهة شي يسمى
بالكلام النفسي أو الطلب الحقيقي أو الزجر الحقيقي.
وبالجملة: نزاع الفريقين إنما هو في ثبوت صفة نفسانية في قبال العلم
والإرادة والكراهة، فالمعتزلة تنفيها وتقول: إن المنشأ للكلام
اللفظي ليس سوى العلم أو الإرادة أو الكراهة، والأشاعرة تثبتها و
تقول: إنها المنشأ للكلام اللفظي والأمر والنهي.
فاتضح بذلك أن النزاع بينهما لا يكون لغويا: بأن ينازعوا في أن لفظي
الطلب والإرادة هل يكونان مترادفين، أو يكون لكل منهما معنى
مغاير لمعنى الاخر.
ولا يكون أيضا مقصودهما من النزاع هو التفحص والدقة في أن
المفهوم الذي تصورناه إجمالا وعلمنا بالاجمال أنه الموضوع له للفظ
الإرادة هل هو عين ما تصورناه إجمالا وعلمنا أنه الموضوع له للفظ
الطلب أو مغاير له، بل النزاع بينهما في ثبوت صفة نفسانية،
فالأشاعرة يثبتون صفة نفسانية في قبال العلم والإرادة والكراهة،
تسمى هذه الصفة في باب الأوامر طلبا، فتكون حقيقة الطلب - الذي
هو صفة نفسانية - عندهم مغايرة لحقيقة الإرادة التي هي أيضا صفة
نفسانية. وأما العدلية والمعتزلة فينكرون ثبوت تلك الصفة
النفسانية، فيكون الطلب عندهم متحدا مع الإرادة، لا بمعنى أن لنا
طلبا وإرادة يكونان من صفات النفس وقد اتحدا، بل بمعنى أنه
90

لا طلب لنا يكون من صفات النفس في قبال الإرادة.
هل الطلب يغاير الإرادة؟:
إن العالم المحقق الشيخ محمد تقي الاصفهاني صاحب الحاشية لما
صادف عنوان اتحاد الطلب والإرادة، ولم يتتبع حتى يظهر له ما هو
مطرح النزاع بين الفريقين، وكان المتبادر إلى ذهنه من لفظ الطلب،
الطلب الانشائي، ومن لفظ الإرادة الصفة النفسانية الخاصة، حكم
بتغاير الطلب والإرادة، وتخيل أنه وافق في هذه المسألة الأشاعرة، و
خالف المعتزلة والامامية [1] مع وضوح أنهم لم يتنازعوا في أن
الطلب الانشائي هل هو مغاير للإرادة النفسانية أو متحد معها؟ فيختار
الأشعري التغاير والمعتزلي الاتحاد، إذ التغاير بينهما أظهر من
الشمس وأبين من الأمس. بل نازعوا - كما عرفت - في ثبوت صفة
نفسانية في قبال العلم والإرادة والكراهة، وكان نزاعهم نزاعا
مذهبيا، إذ كان مقصودهم إثبات أن القرآن الذي هو كلام الله حادث أو
قديم.
فما فهمه هذا المحقق من عنوان اتحاد الطلب والإرادة وتخيل أنه
مطرح أنظار الأشاعرة والعدلية بعيد عن الصواب، ويكون ناشئا من
عدم تتبع تاريخ المسألة وما هو محط نظر المتنازعين فيها.
ثم إن لشيخنا الأستاذ المحقق الخراساني هنا بيانا طويلا في الكفاية
زعمه إصلاحا بين الأشاعرة والعدلية مع فساد ما ذكره أولا، و
عدم ارتباطه بما هو محط نظر المتنازعين ثانيا. وهو (ره) وإن كان قد
يقرب في ضمن بيانه إلى ما هو محط نظر المتنازعين
خصوصا عند قوله: (فان الانسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس
صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب غيرها) إلا أن ملاحظة
مجموع كلامه من الصدر إلى الذيل توجب الاطمئنان بعدم كون مطرح
النزاع معلوما له خصوصا بعد إرادته الاصلاح بين الطرفين بما
ذكره تحقيقا للمطلب.
[1] أقول: قال حفيده المرحوم آية الله الحاج الشيخ محمد رضا
الاصفهاني طاب ثراه في (الوقاية) ما هذا لفظه:
والعلامة الجد لم يخالف العدلية في ذلك، ولم يجنح إلى قول
الأشاعرة قط. بل هو من ألد أعداء هذه المقالة وأشد من خاصمهم. و
قد
قال في بحث مقدمة الواجب (بعد ما بين مذهب العدلية من أن حقيقة
الطلب عندهم هي الإرادة المتعلقة بفعل الشئ أو تركه) ما نصه: وقد
خالف في ذلك الأشاعرة فزعموا أن الطلب أمر آخر وراء الإرادة و
جعلوه من أقسام الكلام النفسي المغاير عندهم للإرادة والكراهة. و
قد عرفت أن ما ذكروه أمر فاسد غير معقول مبني على فاسد آخر أعني
الكلام النفسي (انتهى) فلينظر المنصف (إلى آخر ما في الوقاية
فراجع). ح - ع - م
91

وحاصل ما ذكره: أن لفظي الطلب والإرادة موضوعان بإزاء مفهوم
واحد، ولهذا المفهوم الواحد نحوان من الوجود: الوجود الحقيقي، و
هو وجوده في النفس، والوجود الانشائي، وهو المنشأ بالصيغة،
فالطلب والإرادة متحدان في المفهوم، والوجود الحقيقي، والوجود
الانشائي، غاية الأمر أن لفظ الطلب ينصرف عند إطلاقه إلى وجوده
الانشائي، ولفظ الإرادة ينصرف إلى وجودها الحقيقي، وهذا لا
يوجب المغايرة بين اللفظين في المفهوم. نعم وجود هذا المفهوم
الواحد بالوجود الانشائي - الذي ينصرف إليه لفظ الطلب - مغاير
لوجوده الحقيقي، الذي ينصرف إليه إطلاق لفظ الإرادة. وعلى هذا
يمكن أن يصلح بين الطرفين بأن يقال: إن مراد العدلية من الاتحاد ما
ذكرناه من اتحادهما في المفهوم، وفي كلا الموجودين، ومراد
الأشاعرة من التغاير ما ذكرناه من أن ما ينصرف إليه إطلاق لفظ
الطلب - أعني الوجود الانشائي لهذا المفهوم - مغاير لما ينصرف إليه
إطلاق لفظ الإرادة - أعني الوجود الحقيقي لهذا المفهوم - (انتهى).
أقول: قد عرفت أن نزاع الأشاعرة والعدلية ليس في أن لفظي الطلب و
الإرادة هل وضعا بإزاء مفهوم واحد، أو يكون لكل منهما معنى
غير ما للاخر، إذ البحث على هذا لغوي مربوط بعلم اللغة، بل النزاع
بينهما في أنه هل يكون عند التكلم بالكلام اللفظي صفة قائمة بنفس
المتكلم، تكون منشأ للكلام اللفظي، سوى العلم والإرادة والكراهة،
أو لا تكون في نفسه صفة وراء هذه الثلاثة؟ وعلى هذا يكون البحث
كلاميا، ولا يقبل هذا النزاع إصلاحا ولعله أشار إلى هذا بقوله - في
آخر كلامه - (فافهم).
نقد كلام المحقق الخراساني:
واعلم أن ما ذكره (من اتحاد الطلب والإرادة مفهوما وخارجا وإنشاء)
فاسد من أصله. فإن لفظ الإرادة موضوع لصفة خاصة من
صفات النفس، والصفات النفسانية من الأمور الحقيقية التي يكون
بحذائها شي في الخارج، فلا تقبل الوجود الانشائي لاباء الأمور
الحقيقية هذا النحو من الوجود، بخلاف الطلب فإن له معنى قابلا لان
يوجد بالانشاء، وهو البعث والتحريك. وبعبارة أخرى:
الموجودات على قسمين:
1 - ما يكون له وجود حقيقي في الخارج، بحيث يكون بإزائه شي
فيه، كالانسان، والحيوان، والبياض، ونحوها.
2 - ما لا يكون كذلك، بل يكون وجوده بوجود منشأ انتزاعه، وهذا
القسم يسمى بالأمور
92

الانتزاعية، وهي أيضا على قسمين: الأول: ما ينتزع عن الأمور
الحقيقية بحيث لا يحتاج في انتزاعه إلى فرض الفارضين واعتبار
المعتبرين، كالفوقية، والتحتية، والأبوة، والبنوة، ونحوها.
الثاني: ما ينتزع عن الاعتبارات والانشاءات كالملكية والزوجية و
السلطنة والحكومة ونحوها، فهذه أقسام ثلاثة، والقسم الأول و
الثاني لا يقبلان الانشاء، وما يقبله هو القسم الثالث، وحقيقة الإرادة -
التي هي صفة من صفات النفس - من القسم الأول، فلا تقبل
الانشاء بخلاف الطلب، فإن له معنى قابلا لان ينشأ، إذ ليس معناه
سوى البعث والتحريك نحو العمل، وكما أنهما يحصلان بالتحريك
الفعلي بأن يأخذ الطالب بيد المطلوب منه ويجره نحو العمل
المقصود، فكذلك يحصلان بالتحريك القولي بأن يقول الطالب:
(اضرب) أو
(أطلب منك الضرب) أو (آمرك بكذا) مثلا، فقول الطالب: (افعل كذا)،
بمنزلة أخذه بيد المطلوب منه وجره نحو العمل المقصود، و
الحاصل: أن حقيقة الطلب مغايرة لحقيقة الإرادة، فإن الإرادة من
الصفات النفسانية بخلاف الطلب، فإنه عبارة عن تحريك المطلوب
منه
نحو العمل المقصود: إما تحريكا عمليا مثل أن يأخذ الطالب بيده و
يجره نحو المقصود، أو تحريكا إنشائيا مثل (افعل كذا)، ولا ارتباط
لهذا المعنى - بكلا قسميه - بالإرادة التي هي من صفات النفس. نعم
الطلب - بكلا معنييه - مظهر للإرادة ومبرز لها، فمن أراد من عبده
تحقق فعل خاص أو وجود مقدماته بقصد التوصل بها إلى الفعل، قد
يحركه نحو الفعل تحريكا عمليا، وقد يقول له: (افعل كذا) مريدا
بهذا القول تحقق ذاك التحريك، فمفاد (افعل) تحريك تنزيلي يعبر
عنه بالطلب الانشائي. ولا يتوهم مما ذكرنا - من اختلاف الطلب و
الإرادة مفهوما - موافقتنا الأشاعرة، إذ نزاع الأشاعرة مع العدلية - كما
بيناه - ليس في اختلاف الإرادة والطلب مفهوما أو اتحادهما
كذلك، بل في وجود صفة نفسانية أخرى في قبال الإرادة وعدم
وجودها، فافهم
أدلة الأشاعرة ونقدها:
ثم إنه استدل الأشاعرة على ما ادعوه - من وجود صفة نفسانية في
قبال العلم وأختيه - بوجهين:
(الأول):
أن الأوامر الامتحانية والاعتذارية، مثل الأوامر الجدية في احتياجها
إلى وجود منشأ في نفس المتكلم، وحيث لا إرادة في نفس المتكلم -
في تلك الأوامر - فلا بد من وجود صفة أخرى في نفسه لتكون هي
المنشأ لامره، وتسمى هذه الصفة بالطلب النفسي. وإذا ثبت أن
93

المنشأ للأوامر الامتحانية صفة أخرى في نفس المتكلم سوى الإرادة،
ثبت أن المنشأ لجميع الأوامر هذه الصفة، لعدم القول بالفصل بين
الأوامر الامتحانية وغيرها.
ونجيب عن هذا الاستدلال بأن المنشأ للأوامر مطلقا هو الإرادة، غاية الأمر
أن المنشأ للأوامر الجدية إرادة نفس المأمور به، والمنشأ
للأوامر الامتحانية إرادة إتيان مقدماته بقصد التوصل بها إلى المأمور
به.
تفصيل ذلك: أن المقاصد التي تدعو المولى إلى الامر مختلفة: فبعضها
مما يحصل بإيجاد العبد نفس المأمور به، مثاله جميع المقاصد و
الغايات المنظورة من الأوامر الجدية، وبعضها مما يحصل بإيجاد
المكلف مقدمات المأمور به، بقصد التوصل بها إلى المأمور به، بحيث
لا
دخالة لنفس المأمور به في ترتب الغاية المطلوبة أصلا. بل كل ما
يحصل بفعل المأمور به مع مقدماته بقصد التوصل، يحصل بصرف
فعل
المقدمات بقصد التوصل أيضا، مثال ذلك أمره تعالى إبراهيم عليه
السلام بذبح ولده، فإن المقصود من هذا الامر لم يكن إلا وصول
إبراهيم عليه السلام إلى الكمالات النفسانية ومرتبة كمال التسليم و
الانقياد لرب الأرباب بإيثاره رضاية ربه على محبة الولد، وهذه
الكمالات النفسانية كانت تحصل له بصرف إتيانه مقدمات الذبح
بقصد التوصل بها إلى نفس الذبح، بحيث كان وقوع نفس الذبح
خارجا
وعدم وقوعه متساويين في ذلك.
ففي القسم الأول، يكون منشأ الامر إرادة نفس الفعل، وفي القسم
الثاني منشأه إرادة إتيان المقدمات بقصد التوصل. والامر بالفعل إنما
هو بداعي حصول هذا القصد في نفس العبد، وإلا فالفعل لا دخالة له
في حصول الغاية أصلا، فالذي أراد الله تعالى من إبراهيم عليه
السلام هو نفس إتيان مقدمات الذبح بقصد التوصل بها إليه، فلما
أوجدها نزل في حقه (قد صدقت الرؤيا) فتأمل.
(الثاني):
مما استدل به الأشاعرة هو أن الكفار وأهل العصيان كلهم مكلفون بما
كلف به أهل الإطاعة والايمان بضرورة من الأديان وحينئذ إن
لم يكن في نفس المتكلم صفة وراء الإرادة حتى تكون تلك الصفة
منشأ للامر وعلة له وكان منشأه الإرادة، لزم في تكليف الله تعالى
الكفار وأهل العصيان تخلف إرادته عن مراده، وهو باطل بالضرورة،
فيكشف ذلك عن وجود صفة أخرى له تعالى، سوى الإرادة،
حتى تكون تلك الصفة منشأ لأوامره اللفظية. وتسمى بالطلب
الحقيقي.
وأجاب المتكلمون عن هذا الاستدلال بأن منشأ الامر اللفظي ليس
سوى الإرادة، وأن إرادة
94

الله التي لا تتخلف عن المراد هي إرادته وجود فعل من نفسه لا إرادته
صدور فعل عن غيره، فإنها قد تتخلف. وقال المحقق الخراساني
في الكفاية - في مقام الجواب عن هذا الاستدلال -: (إن الله تعالى
إرادتين: إرادة تكوينية، وإرادة تشريعية، وما لا تتخلف هي التكوينية
دون التشريعية).
والظاهر أن مراده هو ما قاله المتكلمون، غاية الأمر أنه عبر بعبارة
أخرى، فمراده من الإرادة التكوينية إرادته تعالى صدور الفعل عن
نفسه، ومن الإرادة التشريعية إرادته صدور الفعل عن المكلف.
لا ارتباط بين مسألة الطلب والإرادة ومسألة الجبر والتفويض
هاهنا قد تم مبحث الطلب والإرادة، ولا ارتباط لهذا المبحث أبدا
بمسألة الجبر والتفويض، فما تراه في كلام بعض من ابتنائه عليها في
غير محله، غاية الأمر أن المحقق الخراساني لما قسم الإرادة إلى
قسمين كما مر آنفا، فسر الإرادة التكوينية له تعالى بعلمه بالنظام على
النحو الكامل التام - أعني ما تراه وتشاهده في صفحات عالم الوجود
من الايمان والكفر والنزاع والجدال وغير ذلك، وبعبارة
أخرى كل ما وجد ويوجد إلى يوم القيامة - وفسر الإرادة التشريعية له
تعالى بعلمه بالمصالح الكامنة في أفعال المكلفين الموجبة لامره
تعالى إياهم بفعلها، ثم قال بعد تفسيرهما: فإذا توافقتا - أي كان صدور
فعل من الافعال عن مكلف خاص ذا مصلحة وكان أيضا دخيلا
في النظام الأكمل فكان موردا للإرادتين - فلا بد حينئذ من الإطاعة و
الايمان، وإذا تخالفتا - أي كان صدور الفعل عن المكلف ذا
مصلحة له، ولكن كان مخلا بالنظام الأكمل، فكان موردا للإرادة
التشريعية دون التكوينية - فلا محيص حينئذ عن أن يختار الكفر و
العصيان.
ثم استشكل بأنه إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والايمان بسبب
إرادته التكوينية التي لا تتخلف، فكيف يصح التكليف المشروط
بالاختيار؟ لخروجها على هذا من الاختيار. وأجاب عنه: بأنه لم تتعلق
إرادته تعالى التكوينية بصرف صدور الافعال عن المكلفين، بل
تعلقت بصدورها عنهم مسبوقة بإرادتهم، فما أراد منهم بالإرادة
التكوينية هو أن يريدوا ويفعلوا.
ثم استشكل ثانيا بأنه وإن كان صدور الافعال عنهم مسبوقا بإرادتهم و
اختيارهم، إلا أنها منتهية بالآخرة إلى إرادته تعالى وإلا
لتسلسل، فخرجت من كونها اختيارية، وحينئذ فكيف المؤاخذة؟.
95

وأجاب عنه: بأن المؤاخذة من تبعات الكفر والعصيان المسبوقين
بالاختيار الناشئ من مقدماته الناشئة من الشقاوة الذاتية، (إلى آخر ما
كتبه حتى انكسر قلمه).
أقول: الورود في هذا الميدان والاشتغال بمصارعة الفرسان خطير، و
رب ذهن صاف لا نرضى أن نورده في هذا البحر العميق، الذي لا
ينجو منه إلا الأوحدي من الناس، فلنشر إشارة إجمالية إلى ما قيل في
جواب ما ذكر من الاشكال، ثم نخرج من هذا المبحث.
فنقول: قال الحكيم القدوسي المحقق الطوسي (قده) في مقام الجواب
عن هذا الاشكال، أي - إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة و
الايمان مسبوقة بإرادته تعالى وعلمه بالنظام الأتم الأكمل فكيف
التكليف المشروط بالاختيار -: بأن العلم تابع للمعلوم لا أن المعلوم
تابع للعلم.
وأوردوا عليه إيرادا واضح الورود، فقالوا: إن العلم الذي هو تابع
للمعلوم عبارة عن العلم الانفعالي، لا العلم الفعلي الذي هو علة
لوجود
المعلوم في الخارج، وكلامنا في المقام في علمه تعالى الذي هو عين
إرادته الأزلية التي بها وجد كل شي، ويوجد من البدو إلى الختم.
والظاهر أن هذا المعنى بلغ من الظهور والوضوح درجة لا يمكن أن
يقال إنه خفي على مثل ذلك المحقق، فالأولى أن نوجه كلامه بحيث
لا يرد عليه هذا الايراد.
فنقول: لا يخفى أن المراد من النظام الأتم الأكمل، الذي يكون متعلقا
لإرادته تعالى هو سلسلة العلل والمعلولات من بدوها إلى ختمها،
فإن دار الوجود دار العلل والأسباب، ولكل من الموجودات الامكانية
تأثيرات مخصوصة بنفسه لا توجد في غيره، وعلية الأشياء
لمعلولاتها ليست مجعولة، وإنما هي من جهة خصوصيات في ذواتها،
والذاتيات لا تعلل، والمجعول إنما هو ذوات العلل والأسباب
بالجعل البسيط، فكل موجود وإن سبقته الإرادة الأزلية وكان وجوده
مفاضا من قبل المبدأ الفياض إلا أن له خواص وآثارا ذاتية غير
قابلة للجعل، وبها يصير علة لغيره ومؤثرا فيه، وعلى هذا فما تعلق به
العلم الفعلي، أعني إرادته التكوينية، إنما هو وجود الأشياء و
تحققها بذواتها، وأما عليتها ومعلوليتها فمتعلقتان لما يشبه العلم
الانفعالي، لعدم كونهما مجعولتين حتى يسبقهما العلم القضائي
الفعلي.
المناط في الثواب والعقاب:
إذا عرفت هذا فاعلم أن الانسان كما يكون بدنه مركبا من طبائع
مختلفة متباينة في الآثار والخواص والمقتضيات، فكذلك جوهره
الحقيقي وروحه الذي به صار إنسانا، مركب من رقائق
96

مختلفة ولطائف متباينة الآثار والخواص، بحيث تكون مجموعة من
استعدادات متفاوتة وأميال مختلفة، يقتضي كل واحد منها شيئا
غير ما يقتضيه الاخر، فله ميل إلى العوالم العالية الملكوتية، وميل إلى
العوالم السافلة الحيوانية، وقد جعل الله تعالى مع ذلك لهذا الوجود
الشريف قوة قاضية مميزة، يميز بها الخبيث والطيب وطريقي
السعادة والشقاوة وهي القوة العاقلة، وأيدها بالكتب السماوية و
الأنبياء والمرسلين، وجعله بحيث لا يقدم على عمل إلا بعد إدراكه
طرفي الفعل والترك وما يترتب عليهما، وقدرته على كليهما، و
اختياره بنفسه أحدهما على الاخر، فتارة يختار ما هو مقتضى اللطيفة
الملكوتية والطينة العليينية، وأخرى ما هو مقتضى الجبلة
الشيطانية والطينة السجينية، ففي كليهما يكون صدور الفعل عنه من
جهة ما في ذاته من الاستعداد المقتضي لهذا الفعل، لما عرفت من أن
روحه مخمرة من الاستعدادات المختلفة المقتضية لافعال متفاوتة. و
المجعول له تعالى نفس تلك الرقائق لا عليتها، ولكن الانسان مع
ذلك ليس مسلوب الاختيار، بل كل فعل يصدر عنه فإنما يصدر عنه
بعد التفاته، واختياره بنفسه أحد الطرفين على الاخر. وهذا الاختيار
هو مناط الثواب والعقاب لا الإرادة كما زعمه صاحب الكفاية وكان
يكررها في درسه، إذ هي موجودة في سائر الحيوانات غير
الانسان أيضا. [1] والفعل الاختياري هو ما كان مسبوقا بشعور طرفي
الفعل والترك، والقدرة على كليهما، واختيار أحدهما على
الاخر، لا ما كان مسبوقا بالإرادة مطلقا، نعم اختيار أحد الطرفين
مستتبع لإرادته، ولكن المناط في الثواب والعقاب هو الاختيار لا
الإرادة، فبطل ما في الكفاية من أصله وأساسه.
ثم إن ما ذكرناه من تركب روح الانسان من الرقائق المختلفة، لعله
المشار إليه بقوله تعالى في سورة الدهر: (إنا خلقنا الانسان من
نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا. إنا هديناه السبيل إما شاكرا و
إما كفورا). بناء على كون المراد من النطفة الأمشاج - أي -
المختلطات -، هي اللطائف والرقائق التي خمرت منها روح الانسان
وحقيقته التي فيها انطوى العالم الأكبر، لا النطفة الجسمانية التي
تكون مبدأ لوجود بدنه، والشاهد على ذلك ترتيب الابتلاء عليه بقوله
بعد ذلك (نبتليه)، إذ ما هو دخيل في ابتلاء الانسان وامتحانه، هو
تركيب روحه من الرقائق المختلفة في الاقتضاء، ثم الانعام عليه بالعقل
المميز بين الخير والشر، ثم تأييده بالكتب السماوية والأنبياء
[1] ولاجل ذلك عدوا المتحرك بالإرادة فصلا لمطلق الحيوان. ح - ع
- م
97

والمرسلين عليه السلام، ثم إعطاؤه زمام اختياره بيده حتى يفعل ما
يشأ، فقوله: (من نطفة أمشاج)، إشارة إلى تركيب روحه من
الرقائق، وقوله: (فجعلناه سميعا بصيرا) إيماء إلى القوة العاقلة، وفي
قوله:
(إنا هديناه السبيل) دلالة على إرسال الرسل وإنزال الكتب.
وبالجملة: ما ذكرناه يستفاد من خلال الآيات والاخبار، فمن الآيات
هذه الآية، ومنها أيضا قوله تعالى: (إن الخاسرين الذين خسروا
أنفسهم) حيث إن الانسان مع التئام روحه من اللطائف المختلفة إذا
غلب فيه جانب بعضها كالشهوة أو الغضب مثلا، ربما أدى ذلك إلى
الخسران الذاتي وزوال الملكات الحسنة - التي بها إنسانية الانسان -
بالكلية، ولا يتعقل لخسران النفس معنى إلا هذا. وأما الأخبار الدالة
على هذا المعنى فكثيرة، مثل ما ورد من أن في قلب الانسان
نكتتين: نكتة بيضاء، ونكتة سوداء، فإذا صدرت عنه المعصية زاد
السواد بحيث ربما يؤدي إلى اضمحلال النكتة البيضاء بالكلية، ومثل
ما ورد من أن لقب الانسان أذنين ينفخ في إحداهما، الملك وفي
الأخرى، الشيطان، ومثل ما ورد من أن الله تعالى بعد ما أراد خلق آدم
أمر جبرئيل بأن يقبض قبضات من السماوات السبع وقبضات
من الأرضين السبع ليخمر طينة آدم منها، إلى غير ذلك من الأخبار الدالة
على التئام الروح الانساني من العوالم المختلفة، فراجعها و
تدبر.
98

المبحث الرابع:
ما به يمتاز الوجوب من الاستحباب
قد عرفت أن حقيقة الطلب مغايرة لحقيقة الإرادة، فإن الإرادة صفة من
صفات النفس في قبال العلم مثلا، وليست قابلة للانشاء بخلاف
الطلب، فإنه عبارة عن تحريك الطالب، المطلوب منه نحو العمل
المقصود إما عملا وإما إنشاء، وبعبارة أخرى حقيقة الطلب عبارة عما
يحصل - تارة - بأخذ الطالب بيد المطلوب منه وجره نحو العمل
المقصود، - وأخرى - بقوله للمطلوب منه: افعل كذا، ولا ارتباط لهذا
المعنى بالصفات النفسانية، نعم يكون هذا المعنى بكلا قسميه من
مظاهر الإرادة ومما ينكشف منه وجودها في النفس انكشاف العلة من
معلولها. وبهذا البيان يظهر لك أن مدلول الانشاءات ليس هو الإرادة،
بل أمر مظهر لها وهو الطلب.
إذا عرفت هذا فاعلم أنهم اختلفوا في أن المتبادر من لفظ الامر ومن
الصيغ الانشائية والجمل الخبرية الواردة في مقام الطلب عند
تجردها من القرائن، هو الطلب الوجوبي أو الندبي أو مطلق الطلب؟ و
اللازم أولا - أن نبين ما به يمتاز الوجوب من الاستحباب في مقام
الثبوت، ثم نذكر ما هو المتبادر من لفظ الامر والصيغ في مقام الاثبات،
فنقول:
امتياز الشيئين إما بتمام الذات، أو بجز منها، أو بأمر خارج منها.
أما الأول: فهو فيما إذا لم يشتركا أصلا أو اشتركا في أمر خارج من
ذاتيهما، كامتياز كل من الأجناس العالية وأنواعها من الأجناس
الاخر وأنواعها، فالجوهر وأنواعه مثلا ممتازة بتمام ذواتها من الكم و
أنواعه.
وأما الثاني: فهو فيما إذا اشتركا في بعض الاجزاء وامتازا ببعضها،
كامتياز الانسان من الفرس، فإنهما مشتركان في الحيوانية و
ممتازان بالناطقية والصاهلية.
وأما الثالث: فهو فيما إذا اشتركا في تمام الذات كامتياز زيد من عمرو،
فإنهما مشتركان في
99

الانسانية وهي تمام ذاتيهما، وممتازان بالعوارض المشخصة.
وهاهنا قسم رابع قد اختلف في وجوده أهل المعقول، وهو أن يشتركا
في تمام الذات ويمتازا أيضا بتمام الذات، فيكون ما به
الاشتراك عين ما به الامتياز. [1]
وبعبارة أخرى يكون الامتياز بين الحقيقتين المشتركتين في تمام
الذات، بكون الحقيقة كاملة وشديدة في إحداهما، ناقصة وضعيفة
في الأخرى، مثل الخط القصير والطويل، فإنهما مشتركان في الخطية و
ممتازان أيضا بالخطية، وكالبياض الشديد والضعيف.
إذا عرفت هذا فنقول: قد يتوهم أن الامتياز بين الوجوب والندب
اللذين هما قسمان من الطلب الانشائي بجز ذاتيهما بأن يكونا
مشتركين في الجنس وهو الطلب، ويتفصل كل منهما بفصل مختص
به، وما يمكن أن يعد لهما فصلا أمور:
الأول: أن يكون الفصل للوجوب المنع من الترك، وللاستحباب الاذن
في الترك. وفيه: أن معنى كلمة المنع ليس إلا التحريك نحو الترك
أعني طلب الترك، فإذا أضيف هذا إلى لفظ الترك صار حاصل معناه
طلب ترك الترك وهو عبارة أخرى عن طلب الفعل المعد جنسا.
الثاني: أن يقال إن الوجوب هو الطلب الموجب لاستحقاق العقوبة
عند مخالفته، والاستحباب هو الطلب غير الموجب له. وفيه: أن
الوجوب بعد تحصله وصيرورته وجوبا يصير موجبا لاستحقاق
العقوبة، فإيجاب الاستحقاق من لوازمه وآثاره لا من مقوماته.
الثالث: أن يقال إن الوجوب هو الطلب المسبوق بالإرادة الشديدة، و
الاستحباب هو الطلب المسبوق بالإرادة الضعيفة. وفيه: أن الإرادة
من العلل الباعثة على الطلب، والمعلول بتمام ذاته متأخر عن العلة، و
لا يمكن أن يكون صدور المعلول عن علته من مقوماته وأجزائه.
وأضعف من هذا أن يقال: إن الوجوب هو الطلب المسبوق بالمصلحة
الحتمية، والاستحباب هو الطلب المسبوق بالمصلحة غير الملزمة.
ووجه الضعف أن المصالح والمفاسد متقدمة رتبة على الإرادة لكونها
من عللها، فيكون الطلب متأخرا عن المصالح والمفاسد
بمرتبتين، فلا يصح عدها من مقومات الوجوب والاستحباب، اللذين
هما قسمان من الطلب.
وقد يتوهم كون امتياز الوجوب والندب بالشدة والضعف كالخط
الطويل والقصير مثلا.
[1] قال في المنظومة: الميز إما بتمام الذات - أو بعضها أو جاء
بمنضمات - بالنقص والكمال في الماهية - أيضا يجوز عند
الاشراقية.
100

وفيه: أن الامر الانشائي ليس قابلا للشدة والضعف بنفسه لأنه أمر
اعتباري صرف، وليست الأمور الاعتبارية قابلة للتشكيك بذواتها
[1] هذا ما قيل في مقام الفرق بين الوجوب والندب، وقد عرفت فساد
الجميع.
وتلخيص المقام: هو أن الوجوب والندب قسمان من الطلب الانشائي
الذي هو اعتبار من اعتبارات العقلا، وينتزع عن مثل (افعل) و
نحوه، ولهذا الأمر الاعتباري مباد سابقة عليه وآثار لا حقة له عند
العقلا، واللازم في مقام تشخيص ما به يمتاز الوجوب من الندب هو
قطع النظر عن مبادئ الطلب وعلله وعن آثاره ولوازمه، والدقة في أن
نفس هذا الأمر الاعتباري في أي وقت ينتزع عنه الوجوب و
يترتب عليه حكم العقلا باستحقاق العقوبة، وفي أي وقت ينتزع عنه
الندب، ويترتب عليه حكم العقلا بعدم الاستحقاق.
المنشأ لانتزاع الوجوب والاستحباب:
والتحقيق: أن الفرق بين قسميه بالشدة والضعف، ولكن لا بالشدة و
الضعف في ذات الطبيعة، لما عرفت من أن الأمر الاعتباري لا يقبل
التشكيك الذاتي، بل بالشدة والضعف المنتزعين بحسب المقارنات،
فكما أن الاختلاف بين البياض الشديد والضعيف ليس إلا بكون
البياض في الثاني مخلوطا بغيره من الألوان الاخر، كالكدورة مثلا
بخلافه في الأول، وبعبارة أخرى يكون الامتياز بينهما باعتبار
وجود المقارنات وعدمها، فكذلك الاختلاف بين الوجوب والندب
ليس إلا باعتبار المقارنات، فالطلب المنشأ بالصيغة أمر واحد، و
ليس له نوعان متمايزان بالفصل أو بالتشكيك في ذاتيهما، بل يختلف
أفراده باعتبار ما يقترن به، فقد يقترن هذا الامر الانشائي
بالمقارنات الشديدة فينتزع عن الطلب المقترن بها وصف الشدة، وقد
يقترن بالمقارنات الضعيفة فينتزع عن الطلب المقترن بها
عنوان الضعف، وقد لا يقترن بشئ أصلا، مثلا من يقول لعبده
[1] أقول: يمكن أن يقال كيف لا يقع التشكيك الذاتي في الأمور
الاعتبارية إذا كانت شدتها وضعفها أيضا بالاعتبار، إذ من الواضح
إمكان أن يعتبر العقلا تارة وجود طلب شديد وأخرى وجود طلب
ضعيف. كما أن الطلب الحقيقي أعني البعث والتحريك العملي
الحاصلين بأخذ يد المطلوب منه وجره نحو العمل قد يكون بنحو
الشدة والعنف وقد يكون بنحو الضعف، وحينئذ فيمكن أن يقال إن
المقارن الشديد قرينة على أن المنشأ بالصيغة طلب شديد، والمقارن
الضعيف قرينة على أن المنشأ بها طلب ضعيف، والمجردة عن
المقارن خالية عن القرينة. ح - ع - م.
101

(اضرب) قد يقوله ضاربا برجليه الأرض ومحركا رأسه ويديه، وقد
يقوله معقبا إياه بقوله: (وإن لم تفعل فلا جناح عليك،) وقد يقوله
بدون هذه المقارنات، فينتزع عن الأول الوجوب، وعن الثاني الندب،
واختلف في الثالث، ويستكشف من الأول شدة إرادة المولى، و
من الثاني ضعفها، ومن الثالث مرتبة متوسطة منها، ولكن لا دخالة
لذلك في نفس حقيقة الوجوب والندب اللذين هما قسمان من
الطلب
الانشائي بل الذي ينتزع عنه حيثية الوجوب أو الندب هو نفس الامر
الانشائي بلحاظ مقارناته كما عرفت.
والموضوع لحكم العقلا باستحقاق العقوبة وعدمه أيضا نفس ذاك
الامر الانشائي باعتبار مقارناته، فالطلب المقترن بالمقارنات
الضعيفة موضوع لحكمهم بعدم الاستحقاق، والطلب المجرد
مختلف فيه. وقد ظهر مما ذكرنا أنه ليس للطلب بنفسه وبحسب
الواقع -
مع قطع النظر عن المقارنات - قسمان حتى تكون المقارنات الشديدة
أو الضعيفة قرينتين عليهما، ويكون القسم الثالث خاليا من
القرينة، إذ القرينة إنما هي فيما إذا كان للفظ معنيان بحسب مقام
الثبوت، فأقيمت القرينة للدلالة على أحدهما في مقام الاثبات، كما
في
الألفاظ المشتركة والحقائق والمجازات، وما نحن فيه ليس كذلك، إذ
ما ينتزع عنه حيثية الوجوب هو نفس الطلب الانشائي المقترن
بالمقارنات الشديدة فقط أو الأعم منه ومن المجرد، لا أن الوجوب
شي واقعي يستعمل فيه الطلب الانشائي ويكون المقارن قرينة
عليه، وكذلك ما ينتزع عنه الاستحباب هو نفس الطلب الانشائي
المقترن بالمقارنات الضعيفة أو الأعم منه ومن المجرد، لا أن
الاستحباب أمر واقعي يكون الطلب الانشائي مستعملا فيه والمقارن
الضعيف قرينة عليه.
والحاصل: أن الوجوب أو الندب إنما ينتزع عن الطلب الانشائي، بما
هو فعل خاص، صادر عن المولى، لا بما أنه لفظ استعمل في معناه. و
بعبارة أخرى: الصيغة إنما تستعمل في الطلب استعمالا إنشائيا فيها
يوجد الطلب في عالم الاعتبار، والطلب والبعث سواء كان حقيقيا
متحققا بأخذ يد المطلوب منه، وجره نحو العمل المقصود، أو إنشائيا
متحققا بمثل صيغة (افعل) ونحوها ربما ينتزع عنه الوجوب و
يكون موضوعا لحكم العقلا باستحقاق العقوبة بمخالفته، وربما
ينتزع عنه الندب كسائر العناوين المنتزعة عن الأفعال الاختيارية، و
التفاوت في الانتزاع إنما هو باعتبار اختلاف المنتزع عنه من حيث
الاقتران بالمقارنات وعدمه.
فإن قلت: الظاهر أن الطلب الايجابي والندبي لا فارق بينهما بالنظر إلى
ذاتيهما بل الفرق بينهما بجهة علتهما، أعني الإرادة، فالطلب
الانشائي المسبب من الإرادة الشديدة ينتزع عنه
102

الوجوب، والطلب الانشائي المسبب من الإرادة الضعيفة ينتزع عنه
الندب.
قلت: العلتان المختلفتان لا يعقل أن يكون ما صدر عنهما متماثلين من
جميع الجهات، ويكون المائز بين المعلولين منحصرا في كون
أحدهما منتسبا إلى العلة الكذائية، والاخر منتسبا إلى العلة الكذائية
الأخرى. ففيما نحن فيه ليس لأحد أن يقول: إن الطلب الوجوبي و
الندبي متماثلان من جميع الجهات، وإنما يتصف الطلب الوجوبي
بهذه الصفة، أعني صفة الوجوب بصرف انتسابه إلى الإرادة الشديدة،
والطلب الندبي يتصف بهذه الصفة بصرف انتسابه إلى الإرادة
الضعيفة، من دون أن يكون بينهما اختلاف من غير جهة الانتساب، و
ذلك لما عرفت من أن مرتبة المعلول بتمام ذاته تخالف مرتبة العلة. و
لا يمكن أن يكون صدور المعلول عن علته من مقوماته وفصوله،
فتدبر.
فتلخص مما ذكرنا أن الاختلاف بين الوجوب والندب بحسب مقام
الثبوت بالتشكيك ولكن لا بالتشكيك الذاتي، بل بالتشكيك
العرضي، أعني بحسب المقارنات.
وإذا اتضح ذلك فيقع النزاع في أن الطلب المجرد من المقارنات هل
ينتزع عنه الوجوب أو الندب، بعد الاتفاق على انتزاع الوجوب عن
المقترن بالمقارنات الشديدة والاستحباب عن المقترن بالمقارنات
الضعيفة. والأظهر عندنا أن ما ينتزع عنه الوجوب ويكون تمام
الموضوع لحكم العقلا باستحقاق العقوبة على مخالفته، هو نفس
الطلب الانشائي الصادر عن المولى بداعي البعث - في قبال الطلب
الاستهزائي ونحوه - فيما إذا لم يقترن بالمقارنات المضعفة له من
الاذن في الترك ونحوه، من غير فرق بين أن يقترن بالمقارنات
الشديدة أو لم يقترن بشئ أصلا، فالطلب المجرد أيضا ينتزع عنه
الوجوب ويكون موضوعا لحكم العقلا باستحقاق العقوبة بمخالفته،
وذلك لوضوح أن عتاب المولى وعقابه للعبد عند تركه الامتثال
للطلب البعثي غير المقترن بالاذن في الترك، لا يقعان عند العقلا
موقع التقبيح، بل يرون العبد مستحقا للعتاب والعقاب، وعلى هذا فلا
نحتاج في مقام كشف الوجوب إلى استظهار شي زائد على
حقيقة الطلب، بل نفس الطلب مساوق للوجوب، ويكون تمام
الموضوع حكم العقلا باستحقاق العقوبة بمخالفته ما لم ينضم إليه
الاذن
في الترك، وأما الندب فنحتاج في كشفه إلى استظهار أمر زائد على
حقيقة الطلب مثل الاذن في الترك ونحوه، وبالجملة ما يحتاج إلى
المئونة الزائدة هو الندب لا الوجوب. بل يمكن أن يقال إن الطلب
البعثي مطلقا منشأ لانتزاع الوجوب ويكون تمام الموضوع لحكم
العقلا باستحقاق العقوبة، وإنه معنى لا يلائمه الاذن في الترك،
103

بل ينافيه، لوضوح عدم إمكان اجتماع البعث والتحريك نحو العمل
مع الاذن في الترك المساوق لعدم البعث.
وعلى هذا فيجب أن يقال إن الصيغ المستعملة في الاستحباب لا
تكون مستعملة في الطلب البعثي، ولا تتضمن البعث والتحريك، و
إنما
تستعمل بداعي الارشاد إلى وجود المصلحة الراجحة في الفعل، و
ببالي أن صاحب القوانين أيضا اختار هذا المعنى فقال: (إن الأوامر
الندبية كلها للارشاد) وهو كلام جيد. هذا كله بناء على كون الملاك و
الموضوع لاستحقاق العقوبة هو مخالفة نفس الطلب بما هو طلب
وبعث من قبل المولى كما قويناه. وأما بناء على كونه ملاكا
للاستحقاق من جهة كونه كاشفا عن الإرادة الشديدة فيدور الاستحقاق
و
عدمه مدار كشفه عنها وعدم كشفه.
كيفية دلالة الصيغة على الإرادة:
اعلم أن كشف الصيغ التي ينشأ بها الطلب عن وجود الإرادة، ودلالتها
عليها ليسا من قبيل دلالة الألفاظ على معانيها بالوضع، لا إنشاء و
لا من باب الحكاية.
أما الأول: فلما عرفت في مبحث الطلب والإرادة: من أن الإرادة من
الصفات النفسانية، والصفات النفسانية غير قابلة للانشاء، وليس لنا
وراء الإرادة النفسانية ما يسمى بالإرادة الانشائية.
وأما الثاني: فلان الإرادة علة للانشاء، ومن الواضح أن دلالة المعلول
على علته دلالة عقلية لا وضعية.
وبذلك يظهر لك الاشكال فيما ذكره شيخنا الأستاذ المحقق
الخراساني (قدس سره) في مبحث الطلب والإرادة: (من عدم
المضايقة عن
دلالة الصيغ الانشائية الموضوعة لان توجد بها معانيها في عالم
الاعتبار، على ثبوت الصفات النفسانية، كالإرادة والترجي والتمني
الحقيقيين ونحوهما، من جهة وضعها لايقاعها، فيما إذا كان الداعي
إليه ثبوت هذه الصفات).
ووجه الاشكال فيه أن الإرادة وغيرها من الصفات النفسانية في مرتبة
العلة للطلب، وغيره من الأمور الانشائية. وقد عرفت أن دلالة
المعلول على ثبوت علته دلالة عقلية غير مربوطة بالوضع، وجعل
العلة من قيود المعلول ووضع اللفظ للمعلول المقيد بها، يستلزم
تجافي
العلة عن مرتبتها، بداهة أن القيد يجب أن يكون في مرتبة المقيد، و
رتبة العلة بتمام ذاتها قبل رتبة المعلول بتمام ذاته، فتقييده بها
يستلزم التجافي.
104

كلام صاحب المعالم ونقده:
تبصرة - قال في المعالم: فائدة - يستفاد من تضاعيف أحاديثنا
المروية عن الأئمة (عليهم السلام) أن استعمال صيغة الامر في الندب
كان شائعا في عرفهم، بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي
احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي،
فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الامر به منهم عليهم
السلام، ومحصل كلامه (قده): ان كون الصيغة موضوعة للوجوب
وإن كان مرجحا لحملها عليه، عند انتفاء القرينة، ولكن يعارض ذلك
ويكافئه كون استعمالها في الندب أكثر. وقال في الكفاية في
مقام رده ما حاصله: إن كثرة استعمالها في الكتاب والسنة في
الاستحباب لا توجب حملها عليه، أما أولا: فلكثرة استعمالها في
الوجوب
أيضا فتعادلا من هذه الجهة، ويقدم الوجوب من جهة كونها موضوعة
له. وأما ثانيا: فلان استعماله في الندب وإن كان كثيرا ولكنه
كان مع القرينة المصحوبة، وهذا لا يوجب أنس اللفظ بالاستحباب،
بحيث يعادل الوجوب في الاحتمال، كيف وقد كثر استعمال العام
في الخاص، حتى قيل (ما من عام إلا وقد خص،) ولم ينثلم به ظهوره
في العموم. بل يحمل عليه، ما لم تقم قرينة على الخصوص (انتهى
كلامه).
ونحن نقول أما أولا: فما ادعاه في المعالم مغاير لما في الكفاية، فإن
صاحب المعالم إنما ادعى كثرة استعمال الصيغة في الندب في
أخبار الأئمة عليهم السلام، لا في الكتاب والسنة كما في الكفاية و
أخبار الأئمة ليست من السنة، لاطلاقها - بحسب الاصطلاح - على
الاخبار النبوية فقط.
وأما ثانيا: فما ذكره من أن كثرة الاستعمال مع القرينة المصحوبة لا
توجب أنس اللفظ بالمعنى المجازي، في غير محله، إذ اللفظ و
القرينة لو استعملا معا في المعنى المجازي فما ذكره صحيح، واما إذا
استعمل نفس اللفظ في المعنى المجازي كثيرا، غاية الأمر أنه قد
صاحبته القرينة حين الاستعمال، فلا نسلم حينئذ عدم أنس اللفظ
بالمعنى المجازي.
وأما ثالثا: ففي ما ذكره - من تنظير ما نحن فيه بمسألة العموم و
الخصوص - نظر من وجهين:
أ - إن هذا مخالف لما سيذكره في العموم والخصوص من: أن لفظ
العام عند إرادة الخاص، لا يستعمل في الخاص، بل يستعمل في نفس
ما وضع له، غاية الأمر أن قرينة الخصوص تدل على كون الإرادة
الجدية مخالفة للإرادة الاستعمالية، وهذا بخلاف ما نحن فيه، فإن
صيغة الامر بنفسها تستعمل في الندب.
105

ب - إنه فرق بين ما نحن فيه وبين مسألة العموم والخصوص من جهة
أخرى أيضا، وهي أن المعنى المجازي - فيما نحن فيه - أمر واحد
شخصي، وهو الندب وقد كثر استعمال الصيغة فيه، فيوجب أنس
اللفظ به، وهذا بخلاف مسألة العموم والخصوص، فإن كل لفظ من
ألفاظ العموم له معنى حقيقي وهو جميع الافراد ومعان كثيرة مجازية
بعدد ما يتصور له من المعاني الخاصة، فقولك: (أكرم العلماء)
مريدا به جميع العلماء غير زيد استعمال في معنى مجازي، وإذا
أردت به جميعهم غير بكر فقد استعملته في معنى مجازي آخر، و
هكذا
إذا أردت به جميعهم غير خالد، وكذا إذا أردت به جميعهم غير اثنين
أو ثلاثة.
فإن المقصود في قولهم: إن العام مجاز فيما بقي، ليس مفهوم (ما بقي)،
لعدم استعماله فيه، بل مصاديق (ما بقي)، وهي في غاية الكثرة.
ولا يقاس مجموع المجازات بالنسبة إلى المعنى الحقيقي، لان المعنى
المجازي إنما يعادل المعنى الحقيقي ويكافئه من جهة أنس اللفظ
به، واللفظ لا يستعمل في عنوان (مجموع المجازات)، بل يستعمل
في كل واحد من المجازات بخصوصه، وإذا وازنا كل واحد من
المعاني
المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي وجدنا استعماله في المعنى
الحقيقي أكثر من استعماله في كل واحد من المعاني المجازية
بمراتب،
فأنس اللفظ بالمعنى الحقيقي أيضا أكثر من أنسه بكل منها بدرجات.
هذا كله بناء على ما اختاره صاحب المعالم من كون صيغة الامر
موضوعة للطلب الوجوبي، وأما بناء على ما حققناه فلا يرد إشكال
صاحب المعالم، فان الصيغة على ما قلناه قد وضعت لانشاء نفس
الطلب المطلق، من غير تقيد بالوجوب أو الاستحباب، غاية الأمر أن
الطلب إن لم يقارنه شي أو قارنته المقارنات الشديدة كان منشأ
لانتزاع الوجوب، وإن قارنه الاذن في الترك كان منشأ لانتزاع الندب.
وكيف كان فالطلب في الوجوب والاستحباب شي واحد وحقيقة
فاردة. واللفظ كلما استعمل فقد استعمل في نفس معناه الحقيقي،
أعني نفس الطلب الانشائي، لا في الطلب بقيد كونه وجوبا أو ندبا، و
على هذا فقول صاحب المعالم: إنه شاع استعمال الامر في الندب
غير تام، فان اللفظ في الأوامر الندبية أيضا يستعمل في نفس الطلب و
الحكم بالاستحباب وعدم استحقاق العقاب على مخالفته إنما هو
من جهة اقتران الطلب بالاذن في الترك لا من جهة كونه مفادا لصيغة
الامر، وحينئذ ففي أي مورد أحرزنا الاذن في الترك حكمنا
بالاستحباب شاع أو ندر، وأما إذا لم نحرز ذلك وأحرزنا وجود صرف
الطلب، فالعقل يحكم بأن من خالفه يستحق العقاب، وليس
معنى هذا الحكم إلا حكمه بوجوب الفعل، وقد ذكرنا أن الملاك في
تحصل
106

الطلب إيجابا ليس إلا عدم اقترانه بالاذن في الترك. ثم هذا كله بناء
على كون الطلب بما هو طلب وبعث من قبل المولى موضوعا لحكم
العقل باستحقاق العقاب كما قويناه، وأما بناء على كونه موضوعا له
بما أنه كاشف عن الإرادة الأكيدة فالامر أيضا كذلك، إذ اللفظ على
هذا أيضا لا يستعمل إلا في نفس الطلب وحينئذ فكثرة حمله على
الاستحباب من جهة كونه في أكثر الموارد مقرونا بالاذن في الترك
الكاشف عن ضعف الإرادة، لا تضر بحمله على الوجوب فيما لم
يقترن بشئ، فتأمل.
إيقاظ: الفرق بين الطلب بالصيغة والطلب بالمادة:
قد نرى بالوجدان ثبوت الفرق بين قول الطالب: (اضرب أو أكرم) مثلا،
وبين قوله: (أطلب منك الضرب)، أو (آمرك بالضرب) مع كون
الجميع مشتركة في إنشاء الطلب بها. والذي يؤدي إليه النظر في الفرق
بينهما أن مفهومي الطلب والامر متصوران في الثاني
بالاستقلال، بحيث وقع عليهما لحاظ استقلالي وإن لم يكن نفس
وجودهما مطلوبا نفسيا، بل كان الغرض منهما وجود المطلوب من
المطلوب منه، وهذا بخلاف الصيغ الانشائية مثل (اضرب) فان
الملحوظ فيها على نحو الاستقلال ليس إلا خصوص المطلوب
النفسي،
أعني صدور المطلوب عن المطلوب منه، وأما الطلب والانبعاث فلم
يلحظا إلا بنحو الغيرية والاندكاك من دون أن يتصورا بمفهوميهما،
كسائر المعاني الحرفية التي لا يتعلق بها لحاظ استقلالي.
ولنذكر لذلك مثلا، وهو أنك إذا كنت قادما من دارك إلى المسجد،
قاصدا إياه، فكل ما تضعه من الاقدام مطلوب غيري للوصول إلى
المسجد، ولكنك قد تكون ملتفتا في حال مشيك إلى كل قدم قدم،
كما تكون ملتفتا إلى المسجد الذي هو المطلوب النفسي. وقد لا
تكون كذلك بل الذي يكون بمد نظرك هو الكون في المسجد فقط، و
لم يتعلق بالاقدام لحاظ استقلالي، بل كانت ملحوظة بنحو المعنى
الحرفي، ففيما نحن فيه أيضا المطلوب النفسي هو صدور الضرب مثلا
عن المطلوب منه، والبعث مطلوب غيري، يتوصل به إلى المطلوب
النفسي، ولكن في مقام اللحاظ قد يلحظ البعث أيضا، بنحو الاستقلال
كما يلحظ المطلوب النفسي، وقد لا يلحظ إلا بنحو الاندكاك، فعلى
الأول يكون إنشاؤه بمثل (آمرك أو أطلب منك)، وعلى الثاني يكون
إنشاؤه بمثل (اضرب) ونحوه، هذه خلاصة الفرق بين الامر
بصيغته والامر بمادته.
وكان بعض مشايخنا (قدس سره) يقول في الفرق بينهما: إن صيغة
(افعل) قد وضعت
107

للدلالة على النسبة الموجودة بين الحدث وفاعله، نظير النسب
الموجودة في سائر الأفعال، والطلب يستفاد من الخارج، وهذا
بخلاف
مثل: (آمر وأطلب)، فإنهما موضوعان للطلب.
وفيه: أن النسبة إما تصورية قصد بإلقائها إلى المخاطب تصوره لها، و
إما تصديقية قصد بإلقائها إليه تصديقه لها، والموجودة في قولنا
(اضرب) ليست من إحداهما لوضوح أنه ليس المقصود من قولك
(اضرب) تصور المخاطب صدور الضرب عن نفسه، ولا التصديق
بوقوعه منه. اللهم إلا أن يقال: إن مراده (قده) كون حيثية الطلب أيضا
من أنحاء الاستعمال في قبال التصورية والتصديقية بأن يقال: إنه
كما قد يوضع اللفظ للدلالة على نسبة خاصة بدلالة تصورية كقولنا:
(ثبوت القيام) لزيد وقد يوضع للدلالة عليها بدلالة تصديقية كقولنا
(قام زيد) فكذلك قد يوضع للدلالة على نسبة خاصة، بنحو يطلب
تحققها من قبل المسند إليه، فيكون الاستعمال اللفظ الدال على هذه
النسبة استعمال من يطلب تحققها من قبل المسند إليه في قبال
الاستعمال الذي يكون بداعي التصور أو التصديق. وعلى هذا يكون
الموضوع له في الصيغ الانشائية الطلبية هو نفس انتساب المبدأ إلى
المخاطب، ويكون حيثية الطلبية من أنحاء الاستعمال في قبال حيثية
التصورية أو التصديقية، وإن شئت تفصيل أنحاء الاستعمال فراجع ما
ذكرناه في ذيل المعاني الحرفية.
تنبيه: أقسام الطلب في السنة:
هل الجمل الخبرية الواردة في مقام الطلب ظاهرة في الوجوب أولا؟
الظاهر كونها ظاهرة فيه بعد كونها دالة على الطلب على حذو ما
ذكرناه في الصيغ الانشائية، فالضابط أن كل ما دل على إنشاء الطلب و
البعث يجب أن يحمل على الوجوب، ما لم تقم هناك قرينة على
الاستحباب، وهاهنا نكتة لطيفة يعجبنا ذكرها وهي أن الأوامر و
النواهي الصادرة عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام
على قسمين:
(القسم الأول): الأوامر والنواهي الصادرة عنهم في مقام إظهار
السلطنة وإعمال المولوية نظير الأوامر الصادرة عن الموالي العرفية
بالنسبة إلى عبيدهم، مثال هذا: جميع ما صدر عنهم عليهم السلام في
الجهاد وميادين القتال، بل كل ما أمروا به عبيدهم وأصحابهم في
الأمور الدنيوية ونحوها، كبيع شي لهم وعمارة بناء ومبارزة زيد مثلا.
(القسم الثاني: الأوامر والنواهي الصادرة عنهم عليهم السلام في مقام
التبليغ والارشاد إلى
108

أحكام الله تعالى كقولهم: صل أو اغتسل للجمعة والجنابة أو نحوهما،
مما لم يكن المقصود منها إعمال المولوية، بل كان الغرض منها
بيان ما حكم الله به، نظير أوامر الفقيه في الأحكام الشرعية بالنسبة إلى
مقلديه. أما القسم الأول: فهو وإن كان ظاهرا في الوجوب كما
فصلناه، ولكنه نادر جدا بالنسبة إلى القسم الثاني، الذي هو العمدة في
أوامرهم ونواهيهم عليهم السلام، وهو محل الابتلاء أيضا. وأما
القسم الثاني فلما لم يكن صدورها عنهم لاعمال المولوية، بل كان
لغرض الارشاد إلى ما حكم الله به على عباده كانت في الوجوب و
الندب تابعة للمرشد إليه، أعني ما حكم الله بها، وليس لاستظهار
الوجوب أو الندب من هذا السنخ من الأوامر وجه، لعدم كون الطلب
فيها مولويا، فتأمل جيدا.
109

المبحث الخامس:
التعبدي والتوصلي
لما كان هذا المبحث من المباحث المهمة كان اللازم أن يعقد له مبحث
مستقل، ثم تذكر مسألة الشك في التعبدية والتوصلية، بنحو
التفريع. لكن المحقق الخراساني جعل البحث عن صورة الشك مبحثا
مستقلا، وعد البحث عن بيان ماهيتهما وأحوالهما من مقدماته. و
كيف كان فنحن نشرع في بيان ماهيتهما وأحوالهما، فنقول:
الواجب والندب التعبديان عبارتان عما لا يحصل الغرض منهما إلا
بإتيانهما بداع إلهي، وبنحو يرتبطان إلى الله تعالى متقربا بهما
إليه، ولا يشترط في عبادية العبادة تعلق الامر بها من قبل المولى،
فتعظيم المولى ومدحه وثناؤه إذا أتي بها بقصد التقرب إليه من
العبادات، وإن لم يتعلق بها أمر، لكن لا بد من أن يكون التعظيم أو
المدح أو الثناء بنحو يليق بجنابه تعالى، والكاشف عما يليق به تعالى
هو الامر الصادر من قبله، ولكن بعد تعلق الامر وإحراز لياقته بجنابه
تعالى لا يشترط في عبادية العمل إتيانه بداعي الامر، بل يكفي
في تحققه عبادة إتيانه بداعي التعظيم ونحوه.
وأما التوصلي، فهو عبارة عما لا يحتاج في حصول الغرض منه إلى
قصد الامر أو القربة، أو نحوهما من الدواعي الإلهية، بل يكفي في
حصوله صرف الاتيان بالفعل بأي داع كان، بل لا يحتاج في حصوله
إلى القصد والالتفات أيضا، فنفس تحققه ولو في حال النوم أو
الغفلة مسقط للامر به لحصول الغرض منه.
فإن قلت: كيف يكون تحقق الفعل في حال النوم أو الغفلة امتثالا للامر
التوصلي وموجبا لسقوطه، مع أن الامتثال لا يتحقق إلا بإتيان ما
تعلق به الامر، وما تعلق به الامر لا بد من أن يكون أمرا اختياريا موجدا
بالإرادة، لعدم جواز تعلق الامر بأمر غير إرادي؟.
110

قلت: الامر مطلقا وإن كان لايجاد الداعي إلى إيجاد متعلقه، ولا محالة
تختص داعويته قهرا بصورة الالتفات والإرادة، ولكن متعلقه
مطلقا عبارة عن نفس ذات الفعل، سواء في ذلك، التعبديات و
التوصليات، ولا يتعلق في شي من الواجبات، بالفعل بما أنه مراد
بحيث
يكون معنى (صل) أرد، وأوجد الصلاة، غاية الأمر أنه قد يكون
لتسبيب الداعي الإلهي والانبعاث من قبله دخل في حصول الغرض،
كما
في التعبديات، وقد لا يكون له دخالة أصلا، بل الغرض يحصل بنفس
تحقق الفعل بأي نحو اتفق. وكيف كان فمتعلق الامر هو نفس
طبيعة الفعل لا الفعل المقيد بصدوره عن الإرادة فإذا أتي به في حال
الغفلة أيضا كان مصداقا للمأمور به، وترتب عليه سقوط الامر قهرا
. [1]
هل يمكن أخذ قصد القربة في المأمور به؟:
اعلم: أن القدماء من علمائنا إلى زمن الشيخ الأنصاري (قده) كانوا
يعدون قصد القربة في العبادات في عداد سائر شرائط المأمور به و
أجزائه، من غير تعرض لورود إشكال في المقام ولكن الشيخ (قده)
استشكل في إمكان أن يؤخذ قصد القربة ببعض معانيه في المأمور
به.
وحاصل ما ذكره: أن القيود والحالات الطارئة على المأمور به على
نحوين:
فبعضها مما يمكن أن يتصف به المأمور به، مع قطع النظر عن وقوعه
تحت الامر، ككونه صادرا عن سبب خاص، أو في زمان خاص، أو
في مكان خاص، ونحو ذلك. فهذه القيود مما يمكن أن يتعلق بها
الامر. وبعضها مما لا يتصف به المأمور به إلا بعد وقوعه تحت الامر و
صيرورته مأمورا به، ككونه واجبا أو مستحبا أو صادرا بقصد أمره، و
نحو ذلك. وهذه القيود مما لا يمكن أخذها في المأمور به،
لتأخرها عن الامر به، فكيف تصير تحت الامر (انتهى).
وقد أرسل تلامذة الشيخ، ومن بعدهم عدم جواز أخذ القربة - بمعنى
الامتثال وقصد الامر - في المأمور به إرسال المسلمات، وتصدى
كل واحد منهم للاستدلال على هذا الامر المسلم
[1] أقول: وببيان أوضح صدق عنوان الامتثال يتوقف على كون الامر
داعيا ومحركا كما لا يخفى، ولكن متعلق الأمر ليس مقيدا
بالإرادة ونحوها، فتحققه بأي نحو كان موجب لسقوطه قهرا، إذ
متعلقه عبارة عن نفس الطبيعة المهملة الجامعة بين المرادة وغيرها،
من غير أن يلحظ الامر سريانها إلى القسمين، حتى يقال إن الامر
بالنسبة إلى ما لا يوجد بالإرادة تعلق بأمر غير اختياري، ومقدورية
الطبيعة بما هي هي تتوقف على إمكان إيجادها بالإرادة، لا على تعلق
الإرادة بها فعلا. ح - ع - م.
111

عندهم. والوجوه التي ذكروها يرجع مفاد بعضها إلى الامتناع في مقام
الامر والتكليف، ومفاد بعضها إلى الامتناع في مقام الامتثال.
إشكالات مقام الامر:
أما القسم الأول: فمنها: أن الامر يتوقف على تحقق موضوعه بتمام
أجزائه توقف العرض على معروضه، فلو كان قصد الامر مأخوذا في
الموضوع لزم الدور، لعدم تحقق الموضوع بتمام أجزائه - التي منها
قصد الامر - إلا بعد ثبوت الامر، فالامر يتوقف على الموضوع، و
الموضوع على الامر.
ومنها: أن الامر يتوقف على كون متعلقه مقدورا للمكلف، والقدرة
على العمل المقيد بقصد الامر تتوقف على ثبوت الامر، فالامر
يتوقف على القدرة، والقدرة على الامر، وهذا دور واضح.
ومنها: أن الامر حين أمره يتصور المأمور به استقلالا، والامر المتعلق
به آلة، كما مر في الايقاظ السابق، فلو كان قصد الامر مأخوذا في
المأمور به لزم بالنسبة إلى هذا الجز اجتماع اللحاظ الآلي و
الاستقلالي.
والجواب: أما عن الأول: فبأن الموضوع، أعني المتعلق بوجوده
الذهني متقدم على الامر، ولا ينافي ذلك كونه بوجوده الخارجي
متأخرا
عن الامر ومتوقفا عليه، ولا يعقل أن يكون المتعلق بوجوده الخارجي
متقدما عليه، وإلا لكان الامر به طلبا للحاصل، وبالجملة المتوقف
على الامر غير ما يتوقف الامر عليه.
وأما عن الثاني: فبأن القدرة التي هي من الشرائط العقلية لا يجب أن
تكون سابقة على الامر حتى يدور، بل الذي يحكم العقل بلزومه إنما
هو القدرة على الفعل حين الامتثال، وإن كان حصولها بنفس الامر،
كما فيما نحن فيه، إذ يمكن أن يأمر المولى ليقدر العبد على المتعلق
فيوجده.
وأما عن الثالث: فبأن اللحاظ الواحد لا يعقل أن يكون آليا واستقلاليا،
وأما لحاظ الشئ مرة آليا وأخرى استقلاليا فلا مانع منه، ففيما
نحن فيه يمكن أن يلحظ الامر بما هو دخيل في المأمور به استقلالا،
ثم يلحظ بلحاظ آخر آلة.
إشكالات مقام الامتثال:
وأما القسم الثاني: أعني الاشكال في مقام الامتثال، فيمكن أن يقرر
أيضا بوجوه:
112

الأول: لزوم الدور في هذا المقام، وتقريره: إن داعوية الامر في مقام
الامتثال نحو العمل متوقفة على كون المدعو إليه منطبقا للعنوان
الواقع تحت الامر، ومن مصاديقه. وكونه منطبقا لهذا العنوان متوقف
على داعوية الامر إليه، إذ المفروض أن المأمور به هو العمل الواقع
بداعي الامر، لا مطلق العمل.
الثاني: ما ذكره في الكفاية، وحاصله عدم القدرة على المأمور به في
مقام الامتثال، وتقريبه:
إن إتيان ذات الصلاة بداعي أمرها يتوقف على كون الذات مأمورا بها،
حتى يتمكن المكلف من إتيانها بداعي أمرها، والمفروض أن
الامر لم يتعلق بالذات بل بالصلاة المقيدة بداعي الامر، فلا يتمكن
المكلف من الامتثال في ظرفه. وبالجملة إتيان العمل بداعي أمره مع
عدم كون ذات العمل مأمورا بها غير مقدور للمكلف.
الثالث: لزوم التسلسل في مقام الامتثال، وتقريبه: ان الامر لا يدعو إلا
إلى متعلقه، والمفروض أن متعلقه فيما نحن فيه ليس ذات الصلاة،
بل الصلاة بداعي الامر، فلا محالة تكون هي المدعو إليها، فيقال
حينئذ بطريق الاستفهام: إن المدعو إليه للامر هو الصلاة بداعي الامر
المتعلق بأي شي؟ فإن قلت إنه الصلاة بداعي الامر المتعلق بذات
الصلاة، فهو خلاف الفرض، وإن قلت إنه الصلاة بداعي الامر المتعلق
بالصلاة بداعي الامر، فهذا الأمر الثاني أيضا يحتاج إلى متعلق يكون
مدعوا إليه، فإن كان متعلقه عبارة عن ذات الصلاة، فهذا أيضا
خلاف الفرض، وإن كان عبارة عن الصلاة بداعي الامر، فهذا الأمر الثالث
أيضا يحتاج في مقام الامتثال إلى متعلق يكون مدعوا إليه، و
الفرض أنه ليس عبارة عن ذات الصلاة، فلا بد من أن يكون هو الصلاة
بداعي الامر، فننقل الكلام إلى الأمر الرابع، فيتسلسل. [1]
ويمكن ان يقال: ان اللازم في مقام الامتثال ليس هو الدور بل ملاكه و
هو تقدم الشئ على نفسه من غير وساطة شي حتى يكون دورا
بحسب الاصطلاح، وتقريبه، أنه على فرض تعلق الامر بالفعل المقيد
بداعوية الامر إليه لا تكون ذات الفعل مدعوا إليها، بل المدعو إليه
هو الفعل المقيد بداعوية الامر، والمدعو إليه بقيده متقدم رتبة على
الداعي، فيلزم تقدم داعوية الامر
[1] أقول: الأولى تقرير التسلسل في طرف الداعي لا المدعو إليه،
فيقال: إن الصلاة بداعي الامر (التي هي الواجبة حسب الفرض) يؤتى
بها بداعي أي أمر؟ فإن قيل بداعي الامر بذات الصلاة، فهو خلاف
الفرض، وإن قيل بداعي الامر بالصلاة بداعي الامر، فيقال بداعي
الامر
بالصلاة بداعي الامر بأي شي؟ فإن قيل بداعي الامر بالذات لزم
الخروج من الفرض، وإن قيل بداعي الامر بالمقيد لزم التسلسل. ح -
ع - م.
113

على نفسها. ولا شك في بطلان تقدم الشئ على نفسه، وإن لم يكن
دورا بحسب الاصطلاح، فتدبر.
إشكالات الباب تعم أخذ سائر الدواعي في المأمور به:
اعلم أنهم خصصوا إشكال الباب بصورة أخذ داعي الامر في المأمور
به ولكن الظاهر أن الاشكالات الواردة في مقام الامتثال لا تختص
به، بل تجري في أخذ سائر الدواعي أيضا.
فكما ترد الاشكالات فيما إذا تعلق الامر بالصلاة بداعي الامر، ترد
أيضا فيما إذا تعلق بالصلاة بداعي حسنها أو محبوبيتها أو كونها ذات
مصلحة، إذا الامر بعد تعلقه بالفعل المقيد بإتيانه بداعي الحسن أو
المحبوبية أو كونه ذا مصلحة، يستكشف منه أن الحسن والمحبوبية و
المصلحة إنما هي للفعل المقيد، لا لذات الفعل، لعدم جواز تعلق
الامر إلا بما يشتمل على المصلحة ويكون حسنا ومحبوبا، ولا يجوز
تعلقه بأعم من ذلك، وحينئذ ترد الاشكالات بعينها، أما الدور، فلان
داعوية حسن الفعل مثلا تتوقف على كونه حسنا، وكونه حسنا
يتوقف على داعوية الحسن، فيدور، وأما عدم القدرة في مقام
الامتثال، فلان إتيان الصلاة مثلا بداعي حسنها يتوقف على كون
الذات
حسنة، والمفروض أن الحسن إنما هو للفعل المقيد، وبذلك يظهر
تقرير التسلسل أيضا.
بل يمكن أن يقال: إن المحذور في مثل داعي الحسن ونظائره أشد من
المحذور في داعي الامر، فان الاشكال في باب داعي الامر كان
ممكن الدفع عندهم بالالتزام بوجود أمرين، تعلق أحدهما بذات
الفعل، والاخر بإتيان الفعل بداعي الأمر الأول، كما سيأتي بيانه. وأما
إشكال داعي الحسن وأمثاله فلا يدفع بذلك، وذلك لان الامر لما كان
من الأفعال الاختيارية للامر كان لاحد أن يقول بصدور أمرين
عنه، تعلق أحدهما بأعم مما يحصل الغرض، أعني ذات الفعل، و
الاخر بما يساويه، أعني المقيد بداعي الامر، ولكن الحسن و
المحبوبية
إنما يتحققان فيما يحصل الغرض، ولا يعقل تحققهما في أعم منه.
وقد تلخص مما ذكرنا: أن الوجوه التي ذكروها لامتناع أخذ قصد الامر
في المأمور به يرجع بعضها إلى الامتناع في مقام الامر، و
بعضها إلى الامتناع في مقام الامتثال، وقد ظهر الجواب عن القسم
الأول، فعمدة الاشكال في الباب هي الاشكال في مرحلة الامتثال، و
هو الحقيق بأن يتصدى للجواب عنه.
114

ما قيل في دفع الاشكالات ونقده:
وقد تفصى بعضهم عن الاشكال بالالتزام بوجود أمرين تعلق أحدهما
بذات الفعل، والاخر بإتيانه بداعي الأمر الأول. وفيه: ان
المفروض أن ذات الفعل لا تشتمل على المصلحة والغرض، فالامر
المتعلق بها أمر صوري لا جدي وحينئذ فكيف يتقرب بامتثاله مع
العلم بعدم كون متعلقه محبوبا للمولى؟
وقد تصدى في الدرر [1] لدفع الاشكال بوجهين آخرين:
الوجه الأول:
ما حاصله: أن المعتبر في العبادات ليس قصد إطاعة الامر، وإنما
المعتبر فيها وقوع الفعل بنحو يصير مقربا، وهذا لا يتوقف على
الامر. بيان ذلك أن الافعال على قسمين:
أحدهما، ما ليس للقصد دخل في تحققه وصدق عنوانه عليه، بل لو
صدر عن الغافل أيضا لصدق عليه عنوانه. وثانيهما ما يكون قوامه
بالقصد، كالتعظيم والإهانة وأمثالهما. ثم إنه لا إشكال في أن تعظيم
المولى بما هو أهل له وكذلك مدحه بما يليق به حسنان عقلا و
مقربان إليه بالذات من غير احتياج في مقربيتهما إلى الامر بهما، ولا
إشكال أيضا في أن اختلاف خصوصيات المعظم والمعظم و
المادح والممدوح موجب لاختلافهما، فقد يكون تعظيم شخص
بالسلام عليه، وقد يكون بتقبيل يده، وقد يكون بغير ذلك. وقد
يشك
بالنسبة إلى بعض الموالي في أن التعظيم اللائق بجنابه والمدح
المناسب لشأنه ما ذا، وحينئذ فنقول: إن علم العبد بأن التعظيم و
المدح
اللائقين بجناب مولاه ما ذا، فلا محالة يأتيهما ويصيران مقربين له من
غير احتياج إلى الامر بهما، وأما إذا شك في أن أي فرد من أفراد
التعظيم يناسب مقامه فلا بد حينئذ من الاعلام من قبل المولى، و
الامر بما يحصل به التعظيم والمدح. ولكن الامر إنما هو لتشخيص ما
يحصل به التعظيم فقط، لا لكون قصده دخيلا في حصول القرب، بل
القرب يحصل بصرف إيجاد الفعل مع قصد عنوانه. فالصلاة مثلا و
إن لم تكن ذوات أفعالها وأقوالها من دون إضافة قصد إليها بمحبوبة و
لا مجزية، ولكن من الممكن كون صدور هذه الهيئة المركبة من
الحمد والثناء والتهليل والتسبيح والخضوع والخشوع مقرونة بقصد
بنفس هذه العناوين محبوبا للامر ومناسبا لمقامه، غاية الأمر
قصور فهم الانسان عن إدراك ذلك أحوجه إلى أمر المولى بها، بحيث
لو كان عقله كاملا لم يحتج إلى الامر أبدا. وعلى هذا ففي
عباديتها ومقربيتها لا تحتاج إلى قصد الامر، حتى يلزم المحذور.
[1] للمرحوم مؤسس الحوزة العلمية في قم آية الله العظمى الشيخ عبد
الكريم الحائري (قدس سره).
115

الوجه الثاني:
ما حاصله: أن ذوات الافعال مقيدة بعدم صدورها عن الدواعي
النفسانية محبوبة عند المولى، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمات:
الأولى: أنه يمكن أن يكون المعتبر في العبادة إتيان الفعل خاليا عن
سائر الدواعي، ومستندا إلى داعي الامر، بحيث يكون المطلوب هو
المركب منهما. الثانية: أن الامر الملحوظ فيه حال الغير، تارة يكون
للغير وأخرى يكون غيريا، فالأول كالأمر بالغسل قبل الفجر
بلحاظ الصوم، والثاني كالأوامر الغيرية المترشحة من الأوامر النفسية
الثالثة: أنه لا إشكال في أن القدرة شرط في التكليف، ولكنه
يكفي حصولها بنفس الامر، ولا يشترط ثبوتها سابقة عليه. إذا عرفت
هذا فنقول: الفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانية وثبوت الداعي
الإلهي - الذي يكون موردا للمصلحة الواقعية - وإن لم يكن قابلا
لتعلق الامر به بملاحظة جزئه الأخير، لكن من دون ضم القيد الأخير
فلا
مانع منه. ولا يرد أن الفعل بدون ملاحظة تمام قيوده لا يتصف
بالمطلوبية، لأنا نقول: عرفت أنه قد يتعلق الطلب بما لا يكون مطلوبا
في
حد ذاته، بل يكون تعلق الطلب به لأجل ملاحظة الغير. والفعل
المقيد بعدم الدواعي النفسانية، وإن لم يكن تمام المطلوب، لكن لما
لم
يوجد في الخارج إلا بداعي الامر، لعدم إمكان خلو الفاعل المختار
عن كل داع، يصح تعلق الطلب به لاتحاده خارجا مع المطلوب
الحقيقي، وليس هذا الامر صوريا، بل هو أمر حقيقي، لما عرفت من
اتحاد متعلقه في الخارج مع المطلوب الأصلي، نعم يبقى إشكال عدم
القدرة وقد عرفت أنه يكفي حصول القدرة بنفس الامر. (انتهى
الوجهان المذكوران في الدرر).
وفي كليهما نظر - أما الأول، فلان قصد عنوان الفعل إن كان كافيا بلا
احتياج إلى قصد حصول القربة كان حاصل ذلك عدم اشتراط
قصد القربة في حصول العبادة، وهذا مخالف لضرورة الدين وإجماع
المسلمين، وإن لم يكن كافيا عاد محذور الدور.
وأما الثاني، فلان ما ذكر صرف تصوير في مقام الثبوت، ضرورة أنه
ليس لنا في واحد من العبادات ما يستفاد منه اعتبار قيدين
بحسب الواقع بنحو التركيب وتعلق الطلب ظاهرا بالمقيد بعدم
الدواعي النفسانية، بل الذي دلت عليه الأدلة الشرعية هو لزوم صدور
الفعل عن داع إلهي.
ذكر مقدمات في مقام الجواب عن الاشكال:
وبالجملة ما ذكروه في مقام الجواب لا يغني عن جوع. فالأولى أن
نتعرض لما هو الحق في الجواب، ويتوقف بيانه على ذكر مقدمات:
116

المقدمة الأولى:
ما هو الداعي حقيقة إلى طاعة المولى وإتيان ما أمر به، أمر قلبي راسخ
في نفس العبد، يختلف بحسب تفاوت درجات العبيد واختلاف
حالاتهم وملكاتهم، فمنهم من رسخت في قلبه محبة المولى والعشق
إليه، وباعتبار ذلك يصدر عنه وعن جوارحه جميع ما أحبه المولى
وجميع ما أمر به.
وبعضهم ممن وجد في قلبه ملكة الشكر وصار بحسب ذاته عبدا
شكورا، وباعتبار هذه الملكة تصدر عنه إطاعة أوامر المولى لأجل
كونها من مصاديق الشكر. ومنهم من وجد في قلبه ملكة الخوف من
عقاب المولى، أو ملكة الشوق إلى ثوابه ورضوانه، أو رسخت في
نفسه عظمة المولى وجلاله وكبرياؤه، فصار مقهورا في جنب عظمته،
وباعتبار هذه الملكة القلبية صار مطيعا لأوامر مولاه.
وبالجملة: ما يصير داعيا للعبد ومحركا إياه نحو إطاعة المولى هو
إحدى هذه الملكات الخمس النفسانية وغيرها من الملكات
الراسخة.
وعلى هذا فما اشتهر من تسمية الامر الصادر عن المولى داعيا فاسد
جدا، ضرورة أن صرف الامر لا يصير داعيا ومحركا للعبد، ما لم
يوجد في نفسه أحد الدواعي الخمسة المذكورة، أو غيرها من
الدواعي القلبية المقتضية للإطاعة، كما يشاهد ذلك في الكفار و
العصاة.
نعم هنا شي آخر، وهو أنه بعد أن ثبتت للعبد إحدى الملكات القلبية
المقتضية لإطاعة المولى، وصار نفسه - باعتبار ذلك - منتظرا
لصدور الامر عن المولى، حتى يوافقه ويمتثله، يكون لصدور الامر
عن المولى أيضا دخالة في تحقق الإطاعة والموافقة، فإنه المحقق
لموضوع الطاعة ويصير بمنزلة الصغرى لتلك الكبريات. فالداعي
حالة بسيطة موجودة في النفس مقتضية للإطاعة بنحو الاجمال، و
الامر محقق لموضوعها وموجب لتحريك الداعي القلبي وتأثيره في
تحقق متعلقه، وما هو الملاك في عبادية العمل ومقربيته إلى ساحة
المولى هو صدوره عن إحدى هذه الدواعي والملكات الحسنة، و
ليس للامر، بما هو أمر، تأثير في مقربية العمل أصلا، فان المحقق
لعبادية العمل هو صدوره عن داع إلهي، وقد عرفت أن ما هو الداعي
حقيقة عبارة عن الملكة القلبية، نعم يمكن بنحو المسامحة تسمية
الامر أيضا داعيا من جهة دخالته في تحقق الطاعة عمن وجد في نفسه
إحدى الملكات القلبية، وما ذكرنا واضح لمن له أدنى تأمل. [1]
[1] أقول: الظاهر أن داعي الفعل عبارة عن علته الغائية، سواء كانت
غاية نهائية محبوبة بالذات أو كانت غاية متوسطة واقعة في سلسلة
العلل لما هو محبوب بالذات، وبعبارة أخرى الداعي عبارة عما يتأخر
عن الفعل بحسب الوجود ويتقدم عليه بحسب التصور، بحيث
يتولد من إرادته إرادة الفعل، ولا فرق في ذلك بين أن تكون
117

المقدمة الثانية:
لا إشكال في أن الامر المتعلق بشئ كما يكون داعيا إلى إيجاد نفس
ذلك الشئ كذلك يكون داعيا إلى إيجاد أجزائه الخارجية و
العقلية ومقدماته الخارجية، فإن العبد الذي وجد في نفسه إحدى
الدواعي القلبية التي أشرنا إليها، وصار باعتبار ذلك بصدد إطاعة
أوامر المولى، كما يوجد متعلق الأمر بداعي الامر المتعلق به بالمعنى
الذي يتصور لداعوية الامر، كذلك يوجد مقدماته بنفس هذا الداعي،
من دون أن ينتظر في ذلك تعلق أمر بها على حدة. ويكفي في
عباديتها ومقربيتها أيضا قصد إطاعة الامر المتعلق بذيها، لكونها في
طريق إطاعة الامر المتعلق به، ولا نحتاج في عبادية الاجزاء و
المقدمات إلى تعلق أمر نفسي أو غيري بها، فإن لم نقل بوجوب
المقدمة
تبعا لذيها، ولم يتعلق بها أمر نفسي أيضا، لكفى في عباديتها قصد
الامر المتعلق بذيها، بل لو قلنا بوجوب المقدمة وتعلق أمر غيري بها
أمكن أن يقال أيضا بعدم كفاية قصده في عبادية متعلقه، لعدم كونه
أمرا حقيقيا، بل هو نحو من الامر يساوق وجوده العدم والحاصل:
أن ما اشتهر من أن الامر لا يدعو إلا إلى متعلقه فاسد، فإن الامر كما
يدعو إلى متعلقه يدعو إلى جميع ما يتوقف عليه المتعلق أيضا، و
المحقق لعباديتها ومقربيتها أيضا نفس الامر المتعلق بذيها، والسر في
ذلك أن الداعي الحقيقي على ما عرفت ليس عبارة عن الامر، بل
هو عبارة عن الملكة الراسخة النفسانية الداعية إلى الطاعة بنحو
الاجمال، والامر محقق لموضوعها من جهة أنها تتوقف على وجود
الامر
خارجا، وحينئذ فإذا صدر الامر عن المولى متعلقا بشئ له مقدمات
فذلك الداعي القلبي بوحدته وبساطته يوجب تحرك عضلات العبد
نحو إيجاد متعلق الأمر بجميع ما يتوقف عليه، وكل ما صدر عن
إحدى هذه الملكات الحسنة فهو مما يقرب العبد إلى ساحة المولى
من
غير فرق في ذلك بين نفس متعلق الأمر، وبين أجزائه
الغاية موجودة بوجود مستقل ممتاز عن ذي الغاية، أو تكون أمرا
انتزاعيا موجودا بنفس وجوده، وعلى الأول فلا فرق أيضا بين أن
تكون من المسببات التوليدية التي لا تتوسط الإرادة بينها وبين
أسبابها، وبين أن لا تكون كذلك.
ومما ذكرنا يظهر أن في عد الملكات النفسانية دواع للأفعال نحو
مسامحة، فإن حب المولى أو الشوق إلى ثوابه أو الخوف من عقابه
مثلا ليس علة غائية، بل الذي يترتب على العمل هو حصول محبوب
المولى أو حصول ثوابه، أو التخلص من عقابه ونحو ذلك، غاية الأمر
ان الأول أمر ينتزع عن نفس العمل، وقد عرفت أنه لا فرق في الداعي
بين كونه موجودا بوجود مستقل، وبين غيره. وما اشتهر بينهم
من عد الامر داعيا، فلعل مرادهم من ذلك جعل عنوان موافقة الامر
داعيا، وهي عنوان ينتزع عن الفعل الخارجي، ويصح عدها غاية له.
ح - ع - م.
118

ومقدماته الوجودية والعلمية.
المقدمة الثالثة:
أن دخالة شي في المأمور به على أنحاء: فتارة من جهة أنه أخذ فيه
بنحو الجزئية، وأخرى من جهة أخذه بنحو القيدية، بحيث يكون
التقيد
داخلا والقيد خارجا، وثالثة من جهة دخالته في انطباق عنوان المأمور
به على معنونه، بأن يكون المأمور به عنوانا بسيطا ينطبق على
مجموع أمور متشتتة ويكون هذا الشئ دخيلا في انطباق هذا العنوان
البسيط على هذه الأمور، بحيث لولاه لم ينطبق عليها. وبعبارة
أخرى يكون هذا الشئ من مقدماته الوجودية.
الجواب عن الاشكال:
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنا نذكر في المقام جملة من كلام شيخنا
الأستاذ صاحب الكفاية - طاب ثراه - ثم نذيله بما هو الحق المحقق
في المسألة. قال (قده)، في المقام ما هذا لفظه: (وتوهم إمكان تعلق
الامر بفعل الصلاة بداعي الامر، وإمكان الاتيان بها بهذا الداعي،
ضرورة إمكان تصور الامر بها مقيدة والتمكن من إتيانها كذلك بعد
تعلق الامر بها، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الامر
إنما هو في حال الامتثال لا حال الامر واضح الفساد، ضرورة أنه وإن
كان تصورها كذلك بمكان من الامكان، إلا أنه لا يكاد يمكن
الاتيان بها بداعي أمرها لعدم الامر بها، فإن الامر حسب الفرض تعلق
بها مقيدة بداعي الامر، ولا يكاد يدعو الامر إلا إلى ما تعلق به لا
إلى غيره.
إن قلت: نعم، ولكن نفس الصلاة أيضا صارت مأمورا بها بالامر بها
مقيدة.
قلت: كلا لان ذات المقيد لا يكون مأمورا بها، فإن الجز التحليلي
العقلي لا يتصف بالوجوب أصلا، فإنه ليس إلا وجود واحد واجب
بالوجوب النفسي، كما ربما يأتي في باب المقدمة.
إن قلت: نعم، لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطا، وأما إذا أخذ شطرا
فلا محالة نفس الفعل الذي تعلق الوجوب به مع هذا القصد يكون
متعلقا للوجوب، إذ المركب ليس إلا نفس الاجزاء بالأسر ويكون
تعلقه بكل، بعين تعلقه بالكل، ويصح أن يؤتى به بداعي ذلك
الوجوب
ضرورة صحة الاتيان بأجزأ الواجب بداعي وجوبه.
قلت: مع امتناع اعتباره كذلك فإنه يوجب تعلق الوجوب بأمر غير
اختياري، فإن الفعل وإن كان بالإرادة اختياريا إلا أن إرادته - حيث
لا تكون بإرادة أخرى وإلا لتسلسلت - ليست باختيارية كما لا يخفى،
إنما يصح الاتيان بجز الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا
الداعي، ولا يكاد
119

يمكن الاتيان بالمركب عن قصد الامتثال بداعي امتثال أمره). انتهى ما
أردنا نقله من كلامه (قده).
أقول: نحن لا نحتاج في إيجاد الصلاة بداعي الامر إلى تعلق أمر بذات
الصلاة، كما هو محط نظره (قده). بل نفس الامر بالمقيد يدعو
إليها أيضا، ويكفي أيضا في مقربيتها وعباديتها إتيانها بداعي هذا
الامر، وذلك لما عرفت في المقدمة الثانية من أنه يكفي في عبادية
الاجزاء التحليلية والخارجية والمقدمات الوجودية والعلمية، إتيانها
بداعي الامر المتعلق بالكل وبذي المقدمة. وقوله (لا يكاد يدعو
الامر إلا إلى ما تعلق به لا إلى غيره) واضح الفساد، فإن الامر كما يكون
داعيا إلى نفس متعلقه، كذلك يكون داعيا إلى كل ما له دخل في
تحققه، من غير احتياج في مدعويتها للامر إلى تعلق أمر بها على حدة،
ففيما نحن فيه بعد ما وجد في نفس المكلف أحد الدواعي القلبية
التي أشرنا إليها، وصار باعتبار ذلك بصدد موافقة أوامر المولى و
إطاعتها بأي نحو كان إذا حصل له العلم بأن مطلوب المولى، وما
أمر به عبارة عن طبيعة الصلاة المقيدة بداعي الامر مثلا، فلا محالة
يصير بصدد تحصيلها في الخارج بأي نحو اتفق. وحينئذ فإذا لاحظ
أن إتيان ذات الصلاة بداعي الامر (المتعلق بها مقيدة بداعي الامر).
يلازم في الخارج حصول هذا القيد، الذي لا تعقل داعوية الامر إليه
أيضا، فلا محالة تنقدح في نفسه إرادة إتيان ذات الصلاة، ويتحقق
بذلك المأمور به بجميع أجزائه وشرائطه، إذ الفرض تحقق الصلاة
بداعوية الامر، وتحقق قيدها أعني الداعوية قهرا.
فإن قلت: إتيان الاجزاء بداعي الامر المتعلق بالكل إنما يتمشى فيما
إذا كان المكلف بصدد إتيان الكل وكانت دعوة الامر إليها في ضمن
دعوته إليه، وفيما نحن فيه ليس كذلك، فان داعوية الامر أيضا أحد
من الاجزاء ولا يعقل كون الامر داعيا إلى داعوية نفسه. قلت: هذا إذا
لم يكن بعض الاجزاء حاصلا بنفسه، وكان حصول كل منهما متوقفا
على دعوة الامر إليه، وأما إذا كان بعضها حاصلا بنفسه ولم نحتج
في حصوله إلى دعوة الامر، بل كانت دعوته إليه من قبيل الدعوة إلى
تحصيل الحاصل، فلا محالة تختص داعوية الامر بسائر الاجزاء و
يتحقق الواجب بجميع ما يعتبر فيه، مثلا إن تعلق الامر بالصلاة المقيدة
بكون المصلي متسترا ومتطهرا ومتوجها إلى القبلة، فدعوته إلى
إيجاد هذه القيود تتوقف على عدم حصولها للمكلف بأنفسها، وأما إذا
كانت حاصلة له من غير جهة دعوة الامر فلا يبقى مورد لدعوة
الامر بالنسبة إليها، ولا محالة تنحصر دعوته فيما لم يحصل بعد من
الاجزاء والشرائط، ففيما نحن فيه أيضا قيد التقرب وداعوية الامر
ويحصل بنفس إتيان الذات بداعي الامر، فلا نحتاج في تحققه إلى
دعوة
120

الامر إليه حتى يلزم الاشكال.
والحاصل: أن كل ما كان من الاجزاء والشرائط حاصلا قبل داعوية
الامر إليه، أو يحصل بنفس داعويته إلى سائر الأجزاء، فهو مما لا
يحتاج في حصوله إلى دعوة الامر إليه ولا محالة تنحصر دعوته في
غيره. إن قلت بعد اللتيا والتي فإشكال الدور الوارد في مقام
الامتثال بحاله، فإن داعوية الامر تتوقف على كون المدعو إليه منطبقا
على عنوان المأمور به ومصداقا له، والمفروض فيما نحن فيه أن
مصداقيته للمأمور به أيضا تتوقف على داعوية الامر إليه.
قلت: أما أولا: فلا يعتبر في داعوية الامر كون المدعو إليه قبل الداعوية
منطبقا على عنوان المأمور به، وإنما المعتبر فيها هو كونه
منطبقا عليه ولو بعد داعوية الامر، وهاهنا كذلك، أما بناء على قيدية
داعوية الامر فواضح، فان وجود المقيد بعين وجود المطلق الذي
في ضمنه، وعلى هذا فنفس المدعو إليه يصير منطبقا على عنوان
المأمور به، وأما بناء على جزئيتها فلا إشكال أيضا فان المدعو إليه
حينئذ وإن لم يكن عين المأمور به وجودا، لكنه يلازمه في الوجود كما
عرفت.
وأما ثانيا: فإنا لا نسلم كون داعوية الامر متوقفة على كون المدعو إليه
منطبقا على عنوان المأمور به، ولو بعد الداعوية أيضا، لما
عرفت من أن الامر كما يدعو إلى المتعلق يدعو أيضا إلى كل ماله دخل
في وجوده وتحققه، وإذا كان المأمور به شيئا لا يمكن دعوة
الامر إليه بجميع أجزائه وقيوده كما فيما نحن فيه، ولكن كانت دعوة
الامر إلى بعض أجزائه وإتيانه بهذا الداعي ملازمة لتحصل
المأمور به بجميع ما يعتبر فيه، فلا محالة يصير الامر المتعلق بالكل
داعيا إلى ما يمكن دعوته إليه من الاجزاء.
والحاصل: أن كل واحد من المكلفين بعد ما وجد في نفسه أحد
الدواعي والملكات القلبية المقتضية لإطاعة المولى وموافقته، وصار
باعتبار ذلك متهيئا منتظرا لصدور أمر من قبل مولاه حتى يمتثله، إذا
عثر على أمر المولى بالصلاة بداعي الامر مثلا فلا محالة يصير
بصدد إيجاد متعلقه في الخارج بأي نحو كان، وحينئذ فإذا رأى أن
إيجاد الاجزاء التي يمكن دعوة الامر إليها في الخارج بداعوية الامر
المتعلق بالكل يلازم وجود المأمور به بجميع أجزائه وشرائطه قهرا،
فلا محالة تنقدح في نفسه إرادة إتيان هذه الاجزاء ويصير الامر
بالكل داعيا إليها، وبإتيانها يتحقق الامتثال والقرب إلى المولى أيضا.
فإن الملاك في المقربية على ما عرفت هو استناد الفعل إلى
الملكات والدواعي القلبية التي أشرنا إليها في المقدمة الأولى، و
المفروض فيما نحن فيه إتيان الاجزاء بإرادة
121

متولدة من إرادة موافقة المولى المتولدة من أحد الدواعي القلبية التي
أشرنا إليها، فتدبر.
وقد ظهر لك مما ذكرنا ما هو الحق في الجواب عن إشكال الباب بناء
على كون قصد الامر جزا للمأمور به أو قيدا له، وتبين لك أيضا
فساد كلام المحقق الخراساني. ثم إن فيما ذكره أخيرا من عدم اختيارية
الإرادة لايجادها التسلسل أيضا ما لا يخفى، فإن اختيارية كل
فعل بالإرادة واختيارية الإرادة بنفسها. [1]
مضافا إلى أن الإرادة لو كانت غير اختيارية، وكان هذا مانعا من جعلها
جزا وشطرا كان مانعا من شرطيتها أيضا، فلم خص الاشكال
بصورة جزئيتها؟ بل يرد عليه أن الاشكال بعينه وارد أيضا بناء على
تعلق الامر بنفس الصلاة وعدم سقوط الغرض إلا بإتيانها بقصد
الامتثال، كما هو مبناه (قده)، فإن قصد الامتثال إذا كان غير اختياري،
لا يمكن أن يكون تحصيل الغرض المتوقف عليه واجبا للزوم
إناطة الامتثال بأمر غير اختياري. ثم إن الجواب المذكور كما عرفت
إنما هو بناء على جزئية قصد الامر أو قيديته.
دفع الاشكال ببيان آخر:
ويمكن أن يجاب عن الاشكال أيضا ببيان آخر، وعليه لا يكون قصد
الامتثال جزا ولا قيدا، وذلك بناء على عدم كون مثل الصلاة و
نحوها أمورا مركبة.
توضيح ذلك: أنه يمكن أن يقال إن الصلاة مثلا اسم لمجموع الاجزاء
المتشتتة الملحوظة بلحاظ واحد، وقد أمر بها الشارع متقيدة بقيود
معينة مثل الطهارة ونحوها، وعليه فيكون الجواب عن الاشكال
بتقريب مر بيانه.
ويمكن أن يقال أيضا كما هو الأظهر: إن الصلاة مثلا عنوان انتزاعي
بسيط ينتزع عن الأمور المتشتتة التي أولها التكبير وآخرها
التسليم، ويكون انطباق هذا العنوان البسيط على معنونه - أعني هذه
المتشتتات - متوقفا بحسب الواقع على وجود أمور نسميها
بالشرائط وفقد أمور نسميها بالموانع، غاية الأمر أن الشارع قد كشف
عن هذا المعنى وأمر بإيجاد هذا الامر البسيط، وعلى هذا فليس
مثل التكبير مثلا جزا لنفس الصلاة، إذ المفروض بساطتها فهو جز
للمعنون
[1] أقول لا معنى لاختيارية الإرادة وكون إراديتها بنفسها، فإن معنى
اختيارية الفعل كون اختيار الفاعل وإرادته علة لحصوله، ولا
يعقل كون الإرادة علة لنفسها، (نعم)، هي إرادة بالحمل الأولي، ولكن
لا تكفي ذاتها في تحققها، وإلا لكانت واجبة الوجود. ح - ع - م.
122

لا للعنوان الذي أمر به الشارع، وليس أيضا مثل الطهارة قيدا شرعيا بأن
يكون المأمور به عبارة عن الصلاة المقيدة بها، إذ المفروض
كونها دخيلة في انطباق عنوان الصلاة على معنونها، فهي من مقدماتها
الوجودية الواقعية، التي كشف عنها الشارع، لا من القيود
المأخوذة في الواجب، وعلى هذا الفرض فمن جملة شروط الصلاة
أيضا قصد القربة فهو ليس جزا للواجب، إذ المفروض بساطته، ولا
شرطا شرعيا بمعنى كونه قيدا للواجب، بل هو شرط لانطباق العنوان
المأمور به على معنونه، وبعبارة أخرى من المقدمات العقلية
الواقعية لوجود المأمور به غاية الأمر أنه كشف عنها الشارع، بحيث لو
كان العقل محيطا بالواقعيات لم تكن حاجة إلى بيان الشارع، بل
كان العقل يرى بنفسه توقف المأمور به في تحققه على هذا الشرط
العقلي، وعلى هذا فعنوان الصلاة ينطبق على ذوات الاجزاء التي
أولها
التكبير وآخرها التسليم، وليس قصد القربة جزا من المعنون أصلا و
الامر إنما يدعو إلى إيجاد هذا الامر البسيط الانتزاعي الذي
يكون متعلقا له، غاية الأمر أن دعوته إلى إيجاد هذا الامر البسيط بعينها
دعوة إلى إيجاد معنونه ومصداقه، فتنقدح في نفس الفاعل
إرادة إيجاد المعنون، بداعي حصول المأمور به، وبهذه الدعوة يتحقق
شرط الانطباق أيضا، فتدبر.
وقد تلخص مما ذكرناه إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به وحينئذ
فإذا شك في التعبدية والتوصلية فمقتضى الاطلاق هو التوصلية،
وحكمه في الأصل العملي أيضا حكم سائر موارد الأقل والأكثر. و
الحق جريان البراءة فيها، كما يأتي في محله.
123

المبحث السادس:
المرة والتكرار
الحق أن صيغة الامر لا تدل على المرة ولا التكرار، سواء فسرا بالفرد و
الافراد أو بالدفعة والدفعات. وقد ذكر صاحب الفصول
احتمالات في تفسيرهما لا مجال لذكرها فراجع. ووجه عدم الدلالة
على واحد منهما ظاهر، فان الطلب الذي هو مدلول الامر يتعلق
بنفس الطبيعة اللا بشرط بالنسبة إلى جميع القيود، وهي تجتمع مع
ألف شرط، نعم الافراد الطولية لا تقع بأجمعها مصاديق للامتثال
لحصول الطبيعة بالأول منها فيسقط الامر قهرا. وأما الافراد العرضية
فهل تصير بمجموعها امتثالا واحدا، أو يكون كل منها فردا مستقلا
للامتثال، أو هو تابع لقصد الممتثل؟ فيه أقوال ثلاثة.
وما يمكن أن يوجه به القول الأول هو أن الامر يتعلق بنفس الطبيعة، و
الخصوصيات الفردية وجهات الامتياز الموجودة في الافراد
كلها، خارجة من متعلق التكليف، فما هو المصداق للامتثال فيما نحن
فيه هو الطبيعة الجامعة للافراد المعراة عن جميع الخصوصيات
الفردية وهي أمر واحد.
وفيه أن الطبيعة الموجودة في الخارج تتكثر بتكثر أفرادها لكونها أمرا
لا يأبى الوحدة ولا الكثرة، والقول بكون الطبيعة الموجودة
في الخارج موجودة بوجود وحداني، وإن تكثرت أفرادها ضعيف في
الغاية.
وأما القول الثالث فقد اختاره شيخنا الأستاذ المحقق الخراساني [1] و
لكنه بحسب الظاهر لا وجه له، فأظهر الأقوال هو القول الثاني. ثم
إن الفور والتراخي أيضا مثل المرة والتكرار في عدم دلالة الامر على
واحد منهما، فافهم.
[1] لعله (قده) اختار هذا القول في أثناء درسه، وإلا فلم نجده في
الكفاية. ح - ع - م.
124

الفصل الثاني في الاجزاء
وقد عنونوا المسألة بوجوه ثلاثة: الأول: ما في كلام بعضهم، وهو أن
الامر يقتضي الاجزاء أم لا؟. الثاني: ما ذكره بعض آخر، وهو أن
الاتيان بالمأمور به يقتضي الاجزاء أم لا؟ الثالث: ما في الكفاية، وهو
أن الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء.
والمراد بلفظ الاجزاء معناه اللغوي، أعني الكفاية، كما في الكفاية، و
لازمها إسقاط التعبد والقضاء. والمقصود من الاقتضاء في العنوان
الأول هو الدلالة والكشف لا العلية لعدم كون الامر بنفسه علة
للاجزاء، كما هو واضح. والمقصود منه في العنوانين الأخيرين هو
العلية،
إذ الاتيان علة لسقوط الامر، بل نفسه. وأما قيد (على وجهه) فقد ذكر
في الكفاية أن ذكره إنما يكون لشموله الكيفيات المعتبرة في
المأمور به شرعا أو عقلا، مثل قصد القربة، على ما اختاره من عدم
إمكان أخذه في المأمور به، لا خصوص الكيفيات المعتبرة شرعا فقط،
وإلا لكان القيد توضيحيا.
وفيه: أن ما ذكره من عدم إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به كلام
حدث من زمن الشيخ الأنصاري (قدس سره) وزيادة قيد (على
وجهه) في العنوان سابقة على زمنه، فليس ازدياده في العنوان لشمول
مثل القربة ونحوها. ولعل ازدياده فيه إنما هو لرد عبد الجبار
(قاضي القضاة في الري من قبل الديالمة)، حيث استشكل على
الاجزاء بما إذا صلى مع الطهارة المستصحبة، ثم انكشف كونه محدثا،
فإن
صلاته باطلة غير مجزية مع امتثاله الامر الاستصحابي.
ووجه رده بذلك: أن المأمور به في هذا المثال لم يؤت به على وجهه،
من جهة أن الطهارة الحدثية بوجودها الواقعي شرط.
125

الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار:
ذكر في الكفاية ما حاصله: أن الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة و
التكرار هو أن البحث في هذه المسألة في أن إتيان المأمور به بعد
ثبوت كونه مأمورا به يجزي عقلا أم لا؟ وفي تلك المسألة في تعيين ما
هو المأمور به شرعا حتى يترتب عليه الاجزاء عقلا.
وأن الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للأداء هو أن البحث في
مسألة التبعية في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها، وفيما نحن فيه
في كون إتيان المأمور به مجزيا عقلا أم لا (انتهى).
أقول: لا ينقضي تعجبي من مقايسة مسألة التبعية مع ما نحن فيه، إذ
بينهما بون بعيد [1] حيث إن النزاع في مسألة التبعية إنما هو فيما إذا
لم يأت المكلف ما هو مأمور به، وفيما نحن فيه فيما إذا أتاه، فينازع
في إسقاطه التعبد به ثانيا في الوقت أو في خارجه. مواضع البحث
عن الاجزاء:
ثم إنه (قدس سره) ذكر ما حاصله بتوضيح منا: إن البحث في المسألة
في موضعين:
الموضع الأول:
أن امتثال كل أمر يجزي عن التعبد بهذا الامر ثانيا، فامتثال الامر
الواقعي يجزي عن نفسه، وكذلك امتثال الامر الاضطراري يجزي عن
نفسه، وكذا الظاهري أيضا، لاستقلال العقل بأنه لا يبقى مجال لموافقة
الامر وإتيان المأمور به بعد موافقته وإتيانه.
نعم لا يبعد أن يقال إن للعبد تبديل الامتثال [2] فيما لم يكن امتثاله علة
تامة لحصول
[1] يمكن أن يقال: إن عمدة النظر في بحث الاجزاء، هو إثبات إجزاء
امتثال الامر الاضطراري أو الظاهري عن الامر الواقعي فينازع في
سقوط الامر الواقعي وعدم سقوطه. مع أن المكلف لم يأت ما هو
المأمور به بهذا الامر، فليس بين المسألتين بون بعيد. ح - ع - م.
[2] أقول: تبديل الامتثال بعد حصوله أمر غير معقول، إذ الاتيان بفرد
الطبيعة المأمور بها موجب لسقوطه قهرا، وفيما ذكره من المثال
لم يحصل الامتثال، حتى يبدله على فرض، ولم يمكن تبديله على
فرض آخر، فإن أمر المولى عبده بإتيان الماء: إما أن يكون الغرض منه
هو التمكن من الشرب، فقد حصل بنفس الاتيان، فلا يعقل تبديل
الامتثال نعم إراقة الماء موجبة لتفويت الغرض، الذي قد حصل
بالامتثال
الأول ومولدة لامر آخر. وإما أن يكون الغرض منه رفع عطش المولى،
فالامتثال لم يحصل بصرف إتيان الماء، حتى يبدله، إذ المأمور
به حينئذ
126

الغرض، كما لو أتى بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد.
الموضع الثاني: في إجزاء امتثال أمر عن أمر آخر، وفيه مقامان:
المقام الأول: في أن إتيان المأمور به بالامر الاضطراري يجزي عن إتيان
المأمور به بالامر الواقعي الأولي، بعد رفع الاضطرار في
الوقت، أو في خارجه، أو لا يجزي؟ المقام الثاني: في أن إتيان المأمور
به بالامر الظاهري يجزي عن إتيان المأمور به بالامر الواقعي بعد
كشف الخلاف، أو لا يجزي؟
أما المقام الأول: فالبحث فيه تارة في مقام الثبوت وأخرى في مقام
الاثبات.
أما في مقام الثبوت،
فالفروض المتصورة أربعة: إذ التكليف الاضطراري إما أن يكون وافيا
بتمام المصلحة والغرض من الامر الأولي، أو لا يكون وافيا بها،
بل يبقى منها شي أمكن استيفاؤه أو لم يمكن، وما أمكن كان بمقدار
يجب استيفاؤه أو بمقدار يستحب ولازم الجميع هو الاجزاء إلا في
الصورة الثالثة، ومقتضى الصورة الثانية عدم جواز تسويغ البدار لما فيه
من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة، كما أنه لا مانع
من تسويغه في الصورتين الأخيرتين. وأما الصورة الأولى فتسويغ
البدار فيها يدور مدار كون العمل الاضطراري بمجرد طرؤ
الاضطرار وافيا بغرض الامر الأولي، أو بشرط الانتظار، أو مع اليأس من
طرؤ الاختيار. وأما في مقام الاثبات، فإن كان لدليل الامر
الاضطراري إطلاق يدل على أن مطلق الاضطرار ولو في بعض الوقت
يكفي لتعلق التكليف الاضطراري مثل قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء)
[1] الآية، فالظاهر هو الاجزاء، وإن لم يكن هنا إطلاق، فالأصل يقتضي
البراءة من إيجاب الإعادة لكونه شكا في أصل التكليف (انتهى).
أقول: مراجعة التكاليف الاضطرارية الثابتة في شريعتنا ترشدك إلى أن
ما ذكره - طاب ثراه - لا يرتبط أصلا بما هو الثابت من
التكاليف الاضطرارية، لكون ما ذكره مبتنيا على أن يكون لنا أمران
مستقلان: أحدهما واقعي أولي والاخر اضطراري ثانوي، فينازع
حينئذ في كفاية امتثال أحدهما عن امتثال الاخر، مع أن الامر في
التكاليف الاضطرارية ليس كذلك، على أنه لو
ليس نفس الاتيان بالماء، بل إيجاد كل ما هو في اختيار العبد من
مقدمات رفع عطش المولى، أعني إتيان الماء، وإبقاءه إلى زمن شرب
المولى إياه، فما لم يشربه المولى لم يحصل الامتثال، وكان للعبد إراقة
الماء وتبديله، ولكن ليس هذا تبديلا للامتثال. ح - ع - م.
[1] سورتي النساء والمائدة - الآية 43 و 6
127

كان الامر كذلك لم يكن معنى لكفاية امتثال أمر عن أمر آخر، إذ كل أمر
وتكليف يقتضي امتثالا على حدة، وإنما المتحقق في التكاليف
الاضطرارية الثابتة في شرعنا أن يتوجه أمر واحد من الشارع متعلقا
بطبيعة واحدة مثل الصلاة، متوجها إلى جميع المكلفين، غاية الأمر
أن الأدلة الشرعية دلت على اختلاف أفراد هذه الطبيعة باختلاف
الحالات الطارئة على المكلفين، وأن كل واحد منهم قد وجب عليه
إيجاد
هذه الطبيعة في ضمن ما هو فرد لها بحسب حاله، مثلا الأدلة الشرعية
دلت على أن الناس كلهم من القادر والعاجز والصحيح والسقيم و
واجد الماء وفاقده مكلفون بإتيان الصلوات الخمس في أوقاتها و
مندرجون تحت قوله تعالى: (أقيموا الصلاة)، وما وجب على كل
واحد
منهم في هذا المقام هو إيجاد طبيعة الصلاة لا غير.
غاية الأمر دلالة الأدلة الأخر على أن الصلاة في حق واجد الماء مثلا
عبارة عن الافعال المخصوصة مقرونة بالطهارة المائية، وأن الصلاة
في حق فاقده عبارة عن هذه الأفعال مقرونة بالطهارة الترابية، وكذلك
الصلاة في حق القادر على القيام مشروطة بالقيام وفي حق
العاجز عنه مشروطة بالقعود مثلا.
وبالجملة: المستفاد من الأدلة أن فاقد الماء أيضا مثل واجده في أن
المتوجه إليه أمر واحد، وهو قوله: (أقيموا الصلاة)، ولم يتوجه إليه
أمران واقعي أولي وواقعي ثانوي، حتى ينازع في كفاية امتثال أحدهما
عن الاخر، ولم يكلف أيضا بإيجاد فردين من طبيعة واحدة،
حتى نبحث في كفاية الفرد الاضطراري عن الفرد الاختياري، بل الذي
وجب عليه هو إيجاد طبيعة الصلاة المأمور بها بإيجاد فرد منها.
غاية ما في الباب: أن فرد الصلاة بالنسبة إلى الفاقد هو الصلاة مع
التيمم، كما أن الصلاة في حال القعود أو الاضطجاع أو المشي أو
الركوب أيضا فرد للطبيعة المأمور بها بقوله: (أقيموا الصلاة)، ولكن
بالنسبة إلى العاجز عن القيام أو عنه وعن القعود أو عن الاستقرار.
وعلى هذا فإذا أتى كل واحد من المكلفين ما هو مقتضى وظيفته فقد
أوجد الطبيعة المأمور بها وامتثل قوله تعالى: (أقيموا الصلاة)، و
لازم ذلك هو الاجزاء وسقوط الامر قهرا، إذ لا يعقل بقاء الامر بعد
إتيان متعلقه.
وما توهم من كون لفظ الصلاة مثلا موضوعا في الشرع لصلاة الكامل
المختار، وكون صلوات المضطرين أبدالا لها جعلها الله أبدالا ما
دام الاضطرار، ولازم ذلك وجوب قضاء ما فات بعد زوال الاضطرار،
واضح البطلان لمن راجع الاخبار والقرآن، لظهورها بل
صراحتها في أن ما كلف به
128

المضطر أيضا فرد من الصلاة المأمور بها بقوله: (أقيموا الصلاة)، لا انه
ليس فردا منها وجعل بدلا منها، فانظر إلى قوله تعالى في سورة
المائدة آية: 6، حتى يظهر لك صحة ما قلناه. قال تبارك اسمه: (يا أيها
الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى
المرافق) إلى أن قال: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) الآية.
فالآية سيقت لبيان ما به تحصل الطهارة، التي هي من شرائط طبيعة
الصلاة، التي أمر بها كل واحد من أفراد الناس. وقد بين فيها
اختلاف ما هو المحصل لها باختلاف حالات المكلفين. فصلاة واجد
الماء وفاقده كلتاهما من أفراد طبيعة الصلاة، إلا أنها بالنسبة إلى
الأول مشروطة بالطهارة المائية، وبالنسبة إلى الثاني مشروطة بالطهارة
الترابية (واللام) في قوله: (إذا قمتم إلى الصلاة) قد أشير بها
إلى تلك الطبيعة المعدة من ضروريات الدين، المكلف بها كل واحد
من أفراد الناس.
ونظير هذه الآية، آية: 238 - 239 من سورة البقرة قال عز من قائل:
(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين. فإن
خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا
تعلمون).
والحاصل: أن كل واحد من المكلفين من المختار والمضطر بأقسامه
لم يكلف إلا بإيجاد طبيعة الصلاة، وإذا أوجدها سقط الامر المتعلق
بها قهرا، إلا أن الطبيعة المأمور بها طبيعة مجهولة لا تتعين إلا بتعيين
شارعها، وقد قامت الأدلة الشرعية على أن صلاة المختار هكذا، و
صلاة المضطر هكذا، وما وجب على كل مكلف إنما هو إتيان ما هو
فرد للصلاة بحسب حاله، وبإتيانه يسقط الامر بالصلاة قهرا، ولم
يتوجه إلى المضطر أمران حتى يقع البحث في كفاية امتثال أحدهما
عن الاخر [1] ولو فرض أن المتوجه إليه أمران فالاجزاء غير
متصور لاقتضاء كل أمر امتثالا على حدة.
نعم يمكن أن يكون الموضوع لفردية الصلاة الاضطرارية هو الاضطرار
في جميع الوقت،
[1] ربما يقال: إن الأدلة الدالة على التكاليف الاضطرارية لا تقيد الأدلة
الدالة على التكاليف الأولية بأن تخصها بصورة الاختيار، لعدم
المنافاة بينهما، لامكان أن يكون المضطر مكلفا بتكليفين وإن كانا
متعلقين بفردين من طبيعة واحدة.
غاية الأمر: إنه لما كانت القدرة من الشرائط العقلية لفعلية التكاليف،
كان التكليف الأولي بالنسبة إلى المضطر في زمن اضطراره غير
فعلى، فإذا ارتفع الاضطرار ارتفع مانع الفعلية فأثر التكليف الأولى أثره.
ح - ع - م.
129

فلا تجزي حينئذ الصلاة المأتي بها مع التيمم مثلا في أول الوقت إن
زال الاضطرار في آخره، ولكن لا من جهة عدم إجزاء امتثال الامر
الاضطراري، بل من جهة عدم إتيان المأمور به، إذ الفرض توقف فردية
الصلاة مع التيمم لطبيعة الصلاة المأمور بها على الاضطرار في
جميع الوقت لا مطلق الاضطرار.
وبالجملة: ما هو الموضوع لوجوب الصلاة مع التيمم مثلا إما أن يكون
مطلق الاضطرار، وإما أن يكون الاضطرار في جميع الوقت، فإن كان
مطلق الاضطرار فالمأتي به في أول الوقت أيضا فرد للطبيعة وقد
أتي به، فسقط أمرها، ولا معنى لامتثاله ثانيا، وإن كان
الاضطرار في جميع الوقت فالمأتي به في أوله ليس فردا للصلاة لعدم
تحقق موضوعه، لا أنه فرد من أفرادها، ومع ذلك لا يجزي، وعدم
جواز البدار في هذه الصورة، مع احتمال بقاء الاضطرار إلى آخر
الوقت، إنما هو من جهة عدم العلم بتحقق الموضوع.
فاللازم على الفقيه تتبع أدلة الاحكام الاضطرارية، حتى يعلم أنه في
أي مورد يكون الموضوع هو مطلق الاضطرار، وفي أي مورد يكون
الموضوع هو الاضطرار في جميع الوقت، أو مع اليأس من طرؤ
الاختيار.
دفع ما أورد على الاجزاء في التكاليف الاضطرارية:
فتحصل مما ذكرنا أن التكليف الاضطراري إن أتي بمتعلقه يجزي عن
الامر بالطبيعة الشاملة له وللفرد الاختياري، لكونه فردا لها مثل
الفرد الاختياري، فلا إعادة ولا قضاء، أما الأول فواضح، إذ الإعادة
بالامر الأول وقد سقط بإتيان متعلقه.
وأما الثاني فواضح أيضا إن قلنا بكون القضاء بالامر الأول، وكذلك إن
قلنا إنه بأمر جديد، إذ هو فيما لو فات العمل في وقته، وفيما
نحن فيه لم يفت لاتيانه على حسب ما هو وظيفة المكلف بحسب
حاله.
فإن قلت: يمكن أن يكون الفرد الاختياري من الصلاة أتم مصلحة من
الفرد الاضطراري فباعتبار المقدار الباقي من المصلحة يجب
الإعادة أو القضاء.
قلت: ما يجب على المكلف إنما هو امتثال أوامر الشرع لا تحصيل
المصالح، إذ لا إحاطة لعقولنا بالمصالح النفس الامرية حتى يجب
علينا
تحصيلها.
نعم لو كان الفرد الاضطراري أنقص مصلحة من الفرد الاختياري
بمقدار لازم الاستيفاء
130

لم يكن للشارع حينئذ - بمقتضى قواعد العدلية - تشريع الفرد
الاضطراري، وجعله في عرض الفرد الاختياري، حتى يكون مقتضاه
تخير المكلف عقلا بين هذا الفرد الاضطراري، وبين الفرد الاختياري
الذي يتمكن منه في آخر الوقت في الواجب الموسع، ولكن لا ربط
لذلك بوظيفة الفقيه، فإن الفقيه لا يبحث إلا فيما هو مقتضى الأدلة
الشرعية، فإذا اقتضى الدليل فردية الصلاة مع التيمم مثلا لطبيعة
الصلاة في حال الاضطرار، أخذ الفقيه بمقتضاه، وجعله دليلا على
كونها في عرض سائر الافراد من كل جهة، حتى إن للمكلف أن يجعل
نفسه موضوعا لهذا الفرد الاضطراري، بأن يوجد الاضطرار لنفسه
اختيارا، نظير الحاضر الذي يسافر في حال الاختيار.
فإن قلت: إذا كان الفرد الاضطراري في عرض الفرد الاختياري، فلم لا
يجوز في باب الصلاة اقتداء الكامل بالمضطر؟.
قلت: ليس هذا من جهة كون الفرد الاضطراري أنقص مصلحة، بل من
جهة كون الكمال شرطا في الإمامة للكاملين، حيث إن الأنسب كون
الامام أكمل من المأموم.
فإن قلت: إذا كانت الصلاة مع التيمم في عرض الصلاة مع الطهارة
المائية، فلم وجب على فاقد الماء أن يطلبه في الجوانب الأربعة؟.
قلت: فردية الصلاة مع التيمم للطبيعة المأمور بها موقوفة على فاقدية
الماء. والطلب إنما هو لاحراز هذا الموضوع أعني الفاقدية.
واعلم: أنه قد أشار إلى ما ذكرناه في التكاليف الاضطرارية (المحقق)
في المعتبر في مسألة جواز إراقة الماء في أول الوقت، وقد نقل
عنه ذلك بنحو التلخيص المحقق الهمداني (قده) في طهارته في
مسألة وجوب طلب الماء على من كان فاقدا له. قال (قده): (إنه
مخاطب
في تمام الوقت بصلاة واحدة مخيرا في أي جز منه، بلا ترتيب، ففي
أي جز، يلاحظ حالته ويعمل بموجب حالته من كونه مسافرا مثلا
فيقصر، أو حاضرا فيتم، ومن الحالات إذا كان واجدا للماء فبالطهارة
المائية أو غير واجد له فبالترابية، ولا يجب في جز من الزمان
المتقدم حفظ حالته للزمان المتأخر).
نقد ما قيل في مقام الاثبات:
واعلم: أن ما ذكره صاحب الكفاية في مقام الاثبات أيضا لا يخلو عن
شي.
بيان ذلك: أنه قد ظهر لك أنه ليس لنا في باب التكاليف أمران:
اختياري واضطراري، حتى نبحث في إجزاء أحدهما عن الاخر، وأنه
لو
سلم وجود أمرين فلا معنى لاجزاء أحدهما عن
131

الاخر، وحينئذ فلو تنزلنا وسلمنا ما ذكره من أن لنا أمرين، وأن امتثال
الثاني يجزي عن الأول، فما ذكره أخيرا - من أنه إذا لم يكن
هناك إطلاق يدل على أن الموضوع للامر الاضطراري هو مطلق
الاضطرار ولو في بعض الوقت، فالمرجع هو البراءة - فاسد جدا، إذ
المكلف قد علم باشتغال ذمته بالامر الواقعي، ولكنه لا يعلم أنه هل
صار موضوعا للامر الاضطراري، حتى يكون امتثاله مسقطا للامر
الواقعي أيضا، أو لم يصر موضوعا، لاحتمال أن يكون الموضوع للامر
الاضطراري هو الاضطرار في جميع الوقت؟ وحينئذ فاشتغال
ذمته بالامر الواقعي يقتضي تحصيل البراءة اليقينية، فكيف حكم
(قده) بأصالة البراءة؟. [1]
المقام الثاني: في إجزاء امتثال الامر الظاهري عن الامر الواقعي
وحيث ينجر الكلام في آخر المسألة إلى كيفية الجمع بين الحكم
الواقعي والظاهري، فالأولى قبل الورود في تحقيقها أن نشير إشارة
إجمالية إلى بعض وجوه الجمع بين الحكمين مما يناسب المقام.
وجوه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري:
من الوجوه المذكورة في مقام الجمع بينهما ما ذكره شيخنا الأستاذ
المحقق الخراساني في حاشيته على الرسائل، ومحصله: ان للحكم
مراتب أربع: الاقتضاء، والانشاء، والفعلية، والتنجز، ولا يخفى أن
التضاد بين الاحكام إنما يكون بعد فعليتها ووصولها إلى المرتبة
الثالثة، أعني مرتبة البعث والزجر.
إذا عرفت هذا فنقول: إن المحاذير المتوهمة في الباب إنما تلزم لو قلنا
بفعلية الحكمين معا،
[1] أقول: يمكن أن يقال، إن مراده (قده) من الاطلاق ليس هو إطلاق
الاضطرار، كما في كلام سيدنا الأستاذ العلامة (مد ظله العالي)، بل
المراد إطلاق البدلية فيكون حاصل مراده أن المكلف لما لم يقدر على
امتثال التكاليف الأولية جعل الشارع التكاليف الاضطرارية أبدالا
لها، فحين الاضطرار لا تكون التكاليف الأولية فعلية، بل الفعلية
لابدالها. وحينئذ فلو كان لنا إطلاق يدل على أن ما جعله الشارع بدلا
بدل إلى الأبد أخذنا بالاطلاق وحكمنا بالاجزاء عن التكليف الأولي،
لكفاية البدل عن المبدل منه، ولو لم يكن هناك إطلاق، فشككنا في
أن بدلية الفرد الاضطراري عن الأولي هل هي إلى الأبد حتى مع ارتفاع
الاضطرار، أو كانت بدليته منه في زمن الاضطرار فقط بأن
يكون وافيا بما يفوت من مصلحة الفرد الأولي في زمن الاضطرار من
دون أن يكون وافيا بما يمكن تحصيله بعد ارتفاع الاضطرار
بالإعادة أو القضاء؟ فحينئذ نحكم بالبراءة، إذ التكليف الأولي لم يكن
في زمن الاضطرار فعليا، وبعد ارتفاعه يشك في صيرورته فعليا
لاحتمال أن تكون بدلية الفرد الاضطراري منه إلى الأبد، وهذا واضح
ولا سيما إذا كان طرؤ الاضطرار من أول الوقت. ح - ع - م.
132

وأما إذا قلنا ببقاء الحكم الواقعي بالنسبة إلى الجاهلين في مرتبة
الانشاء، وكون البعث أو الزجر الفعلي على طبق ما أدت إليه الامارة،
أعني الحكم الظاهري، فترتفع المنافاة بالكلية. ثم شرع (قده) في سد
ثغور هذا الجواب بما لا حاجة لنا إلى بيانه فراجع.
ومن الوجوه المذكورة في مقام الجمع بينهما أيضا ما ذكره المحقق
المذكور في الحاشية، بنحو الاجمال والإشارة، وفي الكفاية بنحو
التفصيل.
وحاصله: أن معنى التعبد بخبر الواحد مثلا ليس إنشاء أحكام تكليفية
على وفق المؤديات بأن ينحل (صدق العادل) مثلا بعدد ما تؤدي
إليه الامارة من الاحكام، فتكون النتيجة ثبوت الوجوب ظاهرا فيما إذا
أدت إلى وجوب شي، وثبوت الحرمة ظاهرا فيما إذا أدت إلى
حرمة شي، وهكذا بل التعبد به إنما يكون بجعل الحجية له، و
الحجية بنفسها حكم وضعي تنالها يد الجعل، من دون أن يكون جعلها
مستتبعا لانشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدت إليه الامارة، وأثر
الحجية المجعولة - كالحجية المنجعلة في القطع - هو تنجيز الواقع
على
فرض الإصابة، وصحة الاعتذار على فرض الخطأ، وعلى هذا فليس
هنا حكم تكليفي وراء الواقعيات، فلا تلزم المحاذير.
نعم، لو قيل باستتباع جعل الحجية لاحكام تكليفية، أو قيل بأنه لا
معنى لجعلها إلا جعل أحكام تكليفية طريقية مماثلة للمؤديات من
جهة
أنها من الوضعيات المنتزعة عن التكليفيات ولا تنالها يد الجعل
مستقلا، فاجتماع حكمين تكليفيين وإن كان يلزم حينئذ، لكنهما ليسا
بمثلين أو ضدين، فإن الحكم الظاهري حكم طريقي عن مصلحة في
نفسه، بلا إرادة متعلقة بمتعلقه ولا مصلحة في متعلقه وراء مصلحة
الواقع، والحكم الواقعي حكم نفسي عن مصلحة في متعلقه، وتكون
على طبقه الإرادة. هذه خلاصة ما ذكره في الكفاية وكان يبنى عليه
أخيرا.
ولا يخفى عليك أن ما ذكره المحقق المذكور في حاشيته يناقض
ظاهرا ما ذكره في الكفاية أخيرا، حيث صرح في الحاشية بأن الحكم
الواقعي إنشائي محض، والحكم الظاهري فعلي، وصرح في الكفاية
بأن الحكم الواقعي هو الفعلي الذي تكون على طبقه إرادة البعث و
الزجر، والحكم الظاهري حكم طريقي ليس على وفقه الإرادة و
الكراهة أصلا. ومعنى كونه طريقيا أنه ليس حكما حقيقيا في قبال
الحكم
الواقعي، بل إن طابق الواقع فهو عينه، وإن خالفه كان حكما صوريا
ليست على طبقه إرادة.
133

رفع التهافت بين كلامي الأستاذ في المقام:
يمكن الجمع بين كلاميه بنحو يرتفع التهافت من البين بتقريب أن يقال:
إن ما هو حقيقة الحكم وروحه عبارة عن إرادة المولى صدور
الفعل عن العبد، فإنه الذي يتعلق به شوق المولى أولا، غاية الأمر أنه
لما كان الفعل من الافعال الإرادية للعبد، وكان تحققه منوطا
بتحرك عضلاته نحوه، تولد في نفس المولى من إرادة الفعل إرادة
تحرك عضلات العبد، وحيث إن تحرك عضلاته متوقف على وجود
الداعي في نفسه حتى ينبعث منه لو كان بحسب ملكاته ممن ينبعث
من الدواعي الإلهية، فلا محالة تتولد في نفس المولى إرادة بعثه و
إنشاء الحكم بالنسبة إليه حتى يعلم به فينبعث منه نحو المقصود، فما
هو المراد أولا وبالذات ويكون متعلقا للشوق هو نفس صدور
الفعل عن العبد، وأما البعث وانبعاثه منه فمرادان بالتبع من جهة أنه
يتسبب بهما إلى ما هو المقصود بالذات.
ولا يخفى أن إرادة الفعل وإن كانت مطلقة، لكن إرادة انبعاث العبد من
الخطاب والبعث مقصورة على صورة علم العبد بالخطاب من
جهة أنه لا يعقل داعوية البعث ما لم يتعلق به العلم، حيث إنه بوجوده
العلمي يصير داعيا ومحركا، وعلى هذا تصير إرادة الفعل الثابتة
بنحو الاطلاق، داعية للمولى إلى إيجاد خطاب آخر في طول الخطاب
الواقعي، حتى يصير هو الداعي للعبد نحو الفعل المقصود بعد أن لم
يطلع على الخطاب الواقعي، ولم يمكنه الانبعاث منه.
وبالجملة: بعد جهل العبد بالخطاب الواقعي وعدم إمكان تأثيره في
نفسه لو كانت روح الحكم وحقيقته - أعني إرادة الفعل - باقية،
لتولدت منها إرادة خطاب آخر لا لمصلحة في نفس متعلقه، بل لعين
ما وجد بلحاظه الخطاب الواقعي، وحينئذ فإن كان الواقع بمثابة لا
يرضى المولى بتركه أبدا كان الحكم المجعول ظاهرا عبارة عن وجوب
الاحتياط، وإن لم يكن كذلك أو كان في إيجاب الاحتياط مشقة
ومفسدة، كان الحكم الظاهري عبارة عن جعل الطرق والامارات.
فكل من الخطاب الواقعي والظاهري مجعول بلحاظ ما تعلق به
الشوق أولا، وإرادة هذا صارت منشأ لتولد إرادة أخرى متعلقة
بالخطاب الواقعي، وإرادة ثالثة متعلقة بالخطاب الظاهري.
غاية الأمر: أن موارد إصابة الامارة لما لم تكن متميزة عن موارد خطئها
صار المجعول فيها حكما كليا، يعم موارد الإصابة والخطأ. و
لكن ما هو المقصود من جعلها هو صور الإصابة فقط، وصور الخطأ
صارت مجعولة بالعرض، نظير القصود الضرورية المحققة بتبع
المقصود الأصلي،
134

طابق الحكم الظاهري للواقع كان عين الواقع، حيث إن المقصود من
كليهما وما هو روحهما أمر واحد، لما عرفت من أن نفس إرادة
الفعل والشوق إليه صارت داعية للبعث الواقعي أولا، والبعث
الظاهري ثانيا، حتى يتسبب بهما إليه. وإن خالف الحكم الظاهري
للواقع
كانت صورة حكم لا حقيقة لها، من جهة عدم وجود الإرادة على
طبقه، وعدم كون متعلقه محبوبا للمولى، ومتعلقا لشوقه، وإنما تعلق
به
القصد قهرا من جهة عدم تميز صورة المخالفة من صورة الإصابة.
والحاصل: أن ما هو المشتاق إليه أولا للمولى وما هو العلة الغائية
للبعث هو نفس الفعل المشتمل على المصلحة، وإرادته روح الحكم و
حقيقته، غاية الأمر أنه تتولد من هذه الإرادة إرادة متعلقة بسببه أعني
البعث والخطاب، فإن له نحو سببية في النفوس التي لها ملكة
الانبعاث من أوامر المولى، وإرادة الفعل ثابتة بنحو الاطلاق، ولذلك
أثرت في إيجاد خطاب مطلق غير مرهون بالعلم والجهل، ولكن
لما كان إيجاده لغرض الانبعاث، وكان الانبعاث منه متوقفا على العلم
به، فلا محالة تصير إرادة الانبعاث منه مقصورة على صورة العلم
به، بمعنى أن المولى بعد علمه بعدم قابلية الخطاب للتأثير في نفس
العبد من جهة جهله به لا يعقل أن تنقدح في نفسه إرادة انبعاثه من
هذا الخطاب الخاص، ولكن لا يضر ذلك بإطلاق إرادة الفعل والشوق
إليه، بما هو هو، لا بما أنه متسبب إليه بهذا الخطاب، وحينئذ فإن
كان جعل خطاب آخر طريقي مستلزما للمشقة الشديدة مثلا، لزمه رفع
اليد عن واقعه، وإن لم يكن كذلك أو كان الواقع بمثابة من
الأهمية، بحيث لا يمكنه رفع اليد عنه، لزمه جعل حكم ظاهري
طريقي، ليصير هو الباعث للعبد، بعد خيبة الخطاب الأول. فالعلة
الغائية
لكلا الحكمين، وما هو روحهما أمر واحد، وهو نفس إرادة الفعل و
هي ثابتة في حال الجهل بالخطاب الواقعي أيضا، ولذا أثرت في
إيجاد الخطاب الظاهري.
نعم، إرادة الانبعاث من الخطاب الواقعي نحو الفعل غير ثابتة في حال
الجهل، وإنما الثابت حينئذ إرادة الانبعاث من الخطاب الظاهري
نحوه، وعلى هذا فإن أريد بالحكم الواقعي نفس إرادة الفعل، قلنا إنه
فعلي في حال الجهل أيضا، والخطاب الظاهري أيضا عينه إن
طابقه وصوري إن خالفه، وإن أريد به إرادة الفعل، ولكن لا مطلقا بل
الفعل الذي يحصل خارجا بسبب داعوية الخطاب الواقعي، و
بعبارة أخرى إرادة الانبعاث من الخطاب الواقعي نحوه، قلنا إنه شأني
في حال الجهل، لما عرفت من أن إرادة الانبعاث قاصرة عن
شمول مورد الجهل، والفعلي حينئذ عبارة عن الخطاب الظاهري، فإنه
الذي أريد الانبعاث منه فعلا نحو الفعل.
135

إذا عرفت هذا فنقول: لعل كلام الحاشية مبني على المشي الثاني في
تفسير الحكم الواقعي، وكلام الكفاية مبني على المشي الأول،
فارتفع التهافت من البين.
ولا يخفى أن المشي الأول أمتن، فإن تفسير الحكم الواقعي بإرادة
الفعل بشرط حصوله، بسبب داعوية خصوص الخطاب الواقعي، إنما
هو من قصور النظر، وإلا فالنظر الدقيق يقتضي خلاف ذلك، فإن ما
ثبت أولا هو نفس إرادة الفعل والشوق إليه بنحو الاطلاق، و
الانبعاث نحوه من خصوص خطاب خاص لا خصوصية له في
مطلوبية الفعل، وإنما صار مطلوبا ومرادا بتبع إرادة نفس الفعل و
مطلوبيته من جهة كون إرادة المسبب إرادة لأسبابه بالتبع فنفس الفعل
مطلوب مطلقا ولو في حال الجهل، ولذا أثرت هذه المطلوبية
في إيجاد خطاب آخر ليتسبب به إلى المقصود بعد عدم وفاء السبب
الأول (أعني الخطاب الواقعي) بهذا المقصد، وقد عرفت أن هذه
المطلوبية هي روح الحكم وحقيقته، فتلخص مما ذكرنا: أن ما هو روح
الحكم فعلي مطلقا، فافهم.
نعم إن خالف الحكم الظاهري للواقع، أو جهل العبد بكلا الخطابين فلا
محالة يجب على المولى رفع اليد عن مراده، بمعنى أنه لا يمكن أن
يريد انبعاث العبد نحو العمل مع كونه بهذا الوضع الفعلي من عدم
الاطلاع على مراد المولى، لا بسبب الخطاب الواقعي ولا بسبب
البعث
الطريقي، فتصير الإرادة شأنية حينئذ، فما ذكرناه من فعلية الحكم
الواقعي بروحه في حال الجهل إنما هو فيما إذا جهل العبد بالبعث
الواقعي، ولكن وصل إليه الواقع بوسيلة الخطاب الظاهري، فتدبر.
التفصيل في الاجزاء بين التكاليف الظاهرية:
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم، أن ما بيناه (من فعلية الحكم الواقعي، وكون
الحكم الظاهري عينا له في صورة الموافقة، وصورة حكم لا
حقيقة لها في صورة المخالفة) إنما يصح فيما إذا كان المجعول
الظاهري حكما مستقلا غير ناظر إلى توسعة الواقع، كما إذا قامت
الامارة على حرمة شي أو عدم وجوبه، وكان بحسب الواقع واجبا، أو
قامت على وجوبه وكان بحسب الواقع حراما أو غير واجب، و
نحو ذلك من الأمثلة، وأما إذا كان المجعول الظاهري ناظرا إلى الواقع،
من دون أن يكون مفاده ثبوت حكم مستقل في عرضه بل كان
بلسان تبيين ما هو وظيفة الشاك في أجزأ الواجب الواقعي المعلوم و
شرائطه وموانعه، فلا مجال حينئذ لفعلية الواقع، بل الحكم
الظاهري يكون فعليا في ظرف الشك ويكون العمل على طبقه مجزيا.
ولنذكر في المقام جملة من كلام شيخنا الأستاذ في الكفاية، ثم نذيله
بما يقتضيه التحقيق.
136

قال (قده) ما هذا لفظه: (المقام الثاني في إجزاء الاتيان بالمأمور به
بالامر الظاهري وعدمه، والتحقيق أن ما كان منه يجري في تنقيح
ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه وكان بلسان تحقق ما هو
شرطه أو شطره، كقاعدة الطهارة أو الحلية، بل واستصحابهما في
وجه قوي ونحوها بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية يجزي،
فإن دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط ومبينا لدائرة
الشرط وأنه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، فانكشاف الخلاف
فيه لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إليه
يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل، وهذا بخلاف ما كان
منها بلسان أنه ما هو الشرط واقعا، كما هو لسان الامارات فلا
يجزي) (انتهى).
التكاليف الظاهرية على قسمين:
أقول: تحقيق المقام - على نحو يظهر منه مراد صاحب الكفاية أيضا
مع ما فيه - هو أن التكاليف الظاهرية على قسمين:
القسم الأول:
منها: ما ليست بنفسها تكاليف مستقلة، بل كان لها النظر إلى التكاليف
الواقعية، ولها اصطكاك معها، بأن كانت بلسان تبيين ما هو
وظيفة الشاك في أجزأ الواجب الواقعي المعلوم وشرائطه وموانعه،
وهذا إنما يتصور فيما إذا صدر عن الشارع أمر واحد متعلق
بطبيعة مثل الصلاة، وكانت لهذه الطبيعة أجزأ وشرائط وموانع
معينة، بينها الشارع، ثم صدرت عنه تكاليف أخر، ناظرة إلى بيان
الوظيفة لمن شك في أجزأ هذه الطبيعة وشرائطها وموانعها.
فهذه التكاليف ليست تكاليف مستقلة في قبال الواجبات الواقعية
المستقلة، بل لها اصطكاك معها ونظر إليها، سواء كانت في الشبهات
الموضوعية، كقاعدة الفراغ مثلا بالنسبة إلى من شك في إتيان جز أو
شرط أو مانع، وكاستصحاب العدم لمن شك في إتيان جز في
محله، وكالبينة القائمة على إتيان جز أو عدم إتيانه مثلا.
أو كانت في الشبهات الحكمية كحديث الرفع الدال على رفع جزئية
السورة أو الاستعاذة، وكقاعدة الطهارة الدالة على طهارة الحيوان
المتولد من طاهر ونجس مثلا المقتضية لجواز الصلاة مع ملاقاة البدن
له، وكالخبر الموثق الدال على جزئية السورة أو عدم جزئيتها.
وبالجملة: القسم الأول من التكاليف الظاهرية ما كان بلسان تعيين
الوظيفة بالنسبة إلى من شك في خصوصيات التكليف الواقعي
المعلوم من الشرائط والاجزاء والموانع، سواء كان هذا
137

التكليف الظاهري مفاد أصل أو أمارة، وسواء كان عدميا أو وجوديا، و
سواء كانت الشبهة موضوعية أو حكمية.
القسم الثاني:
من التكاليف الظاهرية ما لا يكون لها اصطكاك مع التكاليف الواقعية،
بل كانت هي بنفسها تكاليف مستقلة، كما إذا كان مفاد الامارة
أو الأصل وجوب صلاة الجمعة، أو عدم وجوب الدعاء عند رؤية
الهلال، أو حرمة شي أو عدم حرمته.
إذا ظهر لك القسمان فاعلم: أن القوم حينما أرادوا طرح النزاع في
مبحث الاجزاء قالوا إن امتثال كل أمر يكون مجزيا بالنسبة إلى
نفسه، وأما إجزاء امتثال الامر الاضطراري أو الظاهري عن الامر
الواقعي الأولي ففيه بحث. وعنوان المسألة بهذا الوجه غير صحيح و
هو الذي أوجب استبعاد الاجزاء، إذ لو فرض لنا أمران مستقلان، فلا
وجه لاجزاء امتثال أحدهما عن الاخر، إذ سقوط كل أمر متوقف
على تحقق متعلق نفسه. وما كان عند الأصحاب أيضا في مسألة
الاجزاء مطرحا للبحث وموردا للنفي والاثبات، ليس هو صورة فرض
أمرين لا يرتبط أحدهما بالاخر، وإنما كان بحثهم ونزاعهم فيما إذا كان
لنا أمر واقعي معلوم متعلق بطبيعة ذات أجزأ وشرائط و
موانع، ثم شككنا في وجود جز منها أو شرط أو مانع فقام الأصل أو
الامارة على تحقق الأولين أو عدم الثالث، أو شككنا في جزئية
شي أو شرطيته أو مانعيته لها، فقام الأصل أو الامارة على عدم
الجزئية أو الشرطية أو المانعية مثلا، وفي جميع هذه الصور ليس لنا إلا
أمر واحد واقعي معلوم، ومفاد الأصل أو الامارة توسعه دائرة ما هو
المأمور به بهذا الامر. فتلخص لك مما ذكرنا أن مورد البحث - في
مسألة الاجزاء - في التكاليف الظاهرية هو القسم الأول منها. إذا
عرفت هذا فنقول: إن الحق في هذا القسم بجميع شقوقه هو الاجزاء،
و
اللازم علينا أولا هو الرجوع إلى مقام الاثبات والأدلة المتكفلة لبيان
الاحكام الظاهرية، فننظر في أنها تكون ظاهرة في الاجزاء أم لا؟.
فإن كانت ظاهرة فيه نبحث ثانيا في أنه هل يلزم محذور عقلي من
الاخذ بهذا الظهور أو لا يلزم؟ فإن لزم منه ذلك تركناه، وإلا عملنا
على طبق ما تقتضيه ظواهر الأدلة.
وعلى هذا فنقول: إن الشارع الذي أوجب على المكلفين إتيان الصلاة
مثلا، وجعلها عمودا للدين، وبين أجزأها وشرائطها وموانعها،
إذا حكم لمن شك في إتيان بعض الاجزاء بوجوب المضي وعدم
الاعتناء، أو حكم لمن شك في طهارة بدنه أو لباسه الذي يصلي فيه
بأنه
نظيف
138

حتى يعلم أنه قذر، أو حكم برفع جزئية السورة مثلا عمن نسيها أو
شك في جزئيتها، أو حكم بوجوب العمل بخبر الثقة مثلا فأخبر
بطهارة شي أو عدم جزئية شي للصلاة أو غيرها من الواجبات
المركبة، فهل يكون مفاد هذه الأحكام الظاهرية وجوب العمل على
وفق
هذه الأمور، من دون تصرف في الواقع المأمور به، أو يكون المستفاد
من ظواهر هذه الأدلة كون الصلاة أو الحج أو نحوهما بالنسبة إلى
هذا المكلف عبارة عن نفس ما تقتضيه وظيفته الظاهرية؟.
لا ريب في أن المستفاد منها هو الثاني، فقوله مثلا: (كل شي نظيف
حتى تعلم أنه قذر) ظاهر في أنه يجوز للمكلف ترتيب جميع آثار
الطهارة على الشئ المشكوك فيه، ومن جملتها شرطيتها للصلاة،
فيكون مفاده جواز إتيان الصلاة في الثوب المشكوك في طهارته.
وبعبارة أخرى: ليس هذا الكلام إخبارا بالواقع المشكوك فيه، وإلا لزم
الكذب في بعض مصاديقه، فيكون المراد منه وجوب ترتيب
آثار الطهارة الواقعي على الشئ المشكوك فيه، ولاجل ذلك ترى أنه
تتوقف صحة هذا الكلام على كون الطهارة ذات آثار بحسب
الواقع ومن جملة آثارها توقف الصلاة عليها، وحينئذ فهل يكون
المتبادر من هذا الكلام أن المكلف بعد إتيانه الصلاة في الثوب
المشكوك فيه قد أدى وظيفته الصلاتية وامتثل قوله تعالى: (أقيموا
الصلاة)، أو أنه عمل عملا يمكن أن يكون صلاة وأن يكون لغوا و
تكون الصلاة باقية في ذمته؟ لا إشكال في أن المتبادر هو أن الصلاة في
حق هذا الشخص عبارة عما أتى به وأنه قد عمل بوظيفته
الصلاتية، وأوجد الفرد المأمور به، فقوله عليه السلام (لا أبالي أبول
أصابني أم ماء) لا يتبادر منه أني لا أبالي وقعت الصلاة مني أم لا، بل
المتبادر منه كون المشكوك فيه طاهرا بالنسبة إلى الشاك، وأن العمل
المشروط بالطهارة إذا فعله مع هذه الطهارة الظاهرية يكون
منطبقا للعنوان المأمور به، وأن المصلي فيه يكون من المصلين لا أنه
يمكن أن لا يكون مصليا، غاية الأمر كونه معذورا في المخالفة. و
من الاحكام الظاهرية أيضا مفاد قاعدة التجاوز والفراغ، فحكم الشارع
لمن شك في إتيان جز من الصلاة بوجوب المضي وعدم
الاعتناء، ظاهر في أن المكلف الذي كان بصدد امتثال أمره تعالى
بالصلاة التي أمر بها جميع المسلمين، وشك في أثناء عمله أو بعده
في
إتيان جز منها، صلاته عبارة عن الاجزاء التي أتى بها وإن كانت فاقدة
للجز المشكوك في إتيانه، فهذا العمل الفاقد لجز من الاجزاء
صلاة في حق هذا المكلف، لا أنه عمل لغو، وهذا المكلف تارك
للصلاة، بحيث إن استمر شكه إلى حين وفاته كان تاركا لهذه الصلاة
الخاصة أداء وقضاء، فكما يستبعد جدا الحكم بكونه تاركا لهذه
الصلاة الخاصة، إن استمر شكه إلى الأبد، فكذلك
139

يستبعد الحكم بعدم كون هذا العمل صلاة، إن زال شكه ولو في
الوقت.
وتوهم أن الموضوع لصحة العمل الفاقد للجز المشكوك فيه يمكن
أن يكون عبارة عن الشك المستمر، وعلى هذا فزوال الشك يكون
كاشفا عن عدم وجود الموضوع للتكليف الظاهري فاسد جدا، فإن
قاعدة التجاوز مثلا إنما هي بصدد بيان الوظيفة لمن شك في أثناء
الصلاة في إتيان جز من أجزائها، فلا يمكن أن يكون الموضوع لهذا
التكليف هو الشك المستمر، فإن المكلف لا يعلم في أثناء صلاته
استمرار شكه إلى آخر الوقت، أو إلى الأبد.
وبالجملة: ما هو المتبادر من حكم الشارع في قاعدة التجاوز و
نظائرها، كقاعدة الفراغ وسائر أحكام الشكوك، هو أن المكلف الذي
اشتغل بما هو المأمور به وكان بصدد امتثال أمر الشارع بالصلاة مثلا،
ثم شك في شي من خصوصياتها من الركعات والافعال و
الاجزاء والشرائط، إن عمل هذا المكلف بما هو مقتضى تكليفه
الظاهري، من البناء على الأقل أو الأكثر أو الاتيان أو عدم الاتيان، كان
ممتثلا لما هو بصدد امتثاله، وكان عمله منطبقا للعنوان المأمور به، لا
أنه عمل لغوا إن خالف الواقع، بحيث إن استمر شكه كان تاركا
لهذا العمل الخاص.
ومن الاحكام الظاهرية أيضا مفاد حديث الرفع الدال على (رفع كل ما
لا يعلم) حتى الأحكام الوضعية من الجزئية والشرطية والمانعية،
فمن شك في جزئية السورة مثلا كان مقتضى حديث الرفع عدم
جزئيتها، وحينئذ فإن شك أحد في جزئيتها وتركها بمقتضى
الحديث،
وصلى مدة عمره من غير سورة، وكانت بحسب الواقع جزا فهل
يلتزم أحد بكونه تاركا للصلاة مدة عمره، أو يقال: إن ظاهر حكم
الشارع هو أن الصلاة في حق هذا الشاك عبارة عن سائر الأجزاء غير
السورة؟.
وإن كان هذا الشاك مجتهدا وقلده كافة المسلمين، فهل لاحد أن يلتزم
بكونهم بأجمعهم تاركين مدة عمرهم للصلاة، التي هي عمود
الدين؟.
ومن الاحكام الظاهرية أيضا حكم الشارع بوجوب البناء على خبر
الثقة وترتيب الآثار عليه، فمن صلى أو توضأ أو صام أو اغتسل أو
حج بكيفية دل عليها خبر الثقة، اعتمادا على ما ورد من الشرع من
وجوب ترتيب الآثار على ما أخبر به، فهل يكون ممتثلا لما أمر به
الشارع من الصلاة ونظائرها، أو يكون ممتثلا على فرض المطابقة و
لاغيا تاركا لأوامر المولى على فرض المخالفة؟.
وبالجملة: الرجوع إلى أدلة الأصول والامارات المتعرضة لاجزاء
المأمور به وشرائطه، يوجب
140

العلم بظهورها في توسعة المأمور به بالنسبة إلى الشاك، والحكم
بحكومتها على الأدلة الواقعية المحددة للاجزاء والشرائط. ولازم
ذلك سقوط الجز أو الشرط الواقعي عن جزئيته أو شرطيته بالنسبة
إلى هذا الشاك، وإن كان لولاها لوجب الحكم بانحفاظ الواقع على
ما هو عليه، ولزم إحراز الاجزاء والشرائط الواقعية، بعد تنجز التكليف
الصلاتي مثلا.
وحيث ظهر لك أن المتبادر من أدلة حجية الامارات والأصول
الحاكمة بوجوب ترتيب آثار الواقع على المشكوك فيه، هو إجزاء ما
يؤتى
به على طبق الوظيفة الظاهرية، وكون الجز أو الشرط أعم من الواقع و
الظاهر، فيجب الدقة في أن الاخذ بظواهر هذه الأدلة هل يلزم
منه محذور عقلي أو لا؟، والظاهر تسالم الفقهاء إلى زمن الشيخ (قده)
على ثبوت الاجزاء، وانما وقع الخلاف فيه من زمنه، حتى أن
بعضهم قد أفرط، فادعى استحالته والظاهر عدم لزوم محذور عقلي و
لا شرعي من القول به فيجب الاخذ بما تقتضيه ظواهر الأدلة.
إشكالات المحقق النائيني على الحكومة في المقام:
قد استشكل بعض أعاظم العصر على ما اختاره المحقق الخراساني
من الاجزاء في الأصول دون الامارات بوجوه، لا بأس بذكر حاصلها و
الإشارة إلى ما فيها:
الأول:
أن الحكومة - عند هذا القائل - لا بد من أن تكون بمثل كلمة (أعني) و
أشباهها، ولذا أنكر حكومة مثل أدلة الضرر على الاحكام الأولية.
وبعبارة أخرى يعتبر في الحكومة - عند هذا القائل - كون الدليل
الحاكم بلسانه ناظرا إلى الدليل المحكوم ومفسرا له ولا يكفي فيها
نظر مدلول الحاكم إلى مدلول المحكوم.
وفيه: أن هذه مناقشة لفظية، فإن مثل قوله: (كل شي نظيف) ناظر إلى
الأحكام الواقعية، ويكون موسعا لدائرة متعلقاتها، سواء أطلق
على هذا المعنى لفظ الحكومة أم لا.
الثاني:
أن مثل قوله (كل شي نظيف) متكفل لاثبات النظافة الظاهرية، وأما
كون الشرط للصلاة مثلا هو الأعم من النظافة الواقعية و
الظاهرية، حتى يكون إتيانها مع النظافة الظاهرية أيضا موجبا للاجزاء،
فلا دليل عليه.
وفيه ما عرفت: من أن نفس دليل الحكم الظاهري الذي يجوز
للمكلف إتيان الصلاة مثلا مع الطهارة الظاهرية، ظاهر أيضا في أن
عمله
بعد تحققه يصير منطبقا للعنوان المأمور به، أعني الصلاة، وأنه قد أدى
وظيفته الصلاتية، بعد إتيانها فيما حكم الشارع بطهارته، ولازم
ذلك كون
141

الشرط أعم من الواقع والظاهر.
الثالث:
أن الحكومة في المقام إن كانت واقعية لزم ترتيب جميع آثار الواقع
على الطهارة الظاهرية، فلا بد أن لا يحكم بنجاسة الملاقي أيضا، و
لو انكشف الخلاف بعد ذلك. [1]
[1] أقول: لا يخفى أن المهم في إثبات الاجزاء في الاحكام الظاهرية هو
الجواب عن النقوض الواردة عليه، (فمنها) هذا المثال، (ومنها) أن
مقتضى ذلك حصول الطهارة للثوب النجس إذا غسل بالماء
المشكوك الطهارة.
ومنها انتقال الثمن حقيقة إلى البائع إذا أخذه في مقابل المشكوك فيه
الذي حكم بطهارته ظاهرا، وكان مما يفسد بيعه نجسا إلى غير
ذلك من النقوض، والظاهر أن جواب سيدنا الأستاذ العلامة (مد ظله
العالي) لا يكفي لرفع الاشكالات، فإن الملاقاة في المثال الأول مثلا
قد وقعت في حال كون الملاقي (بالفتح)، محكوما بالطهارة، وبعد
انكشاف الخلاف وإن تبدل الموضوع، ولكن المفروض عدم
حدوث ملاقاة أخرى بعد تبدله، فالحكم بنجاسة الملاقي لا يصح إلا
بناء على كون الحكومة ظاهرية.
نعم، يمكن أن يجاب عن النقض الأول بوجه آخر وهو أن يقال: إن
الأثر الشرعي عبارة عما يثبت للشئ بجعل الشارع، وفي باب
الملاقاة ليس لنا مجعولان شرعيان: أحدهما كون ملاقي النجس
نجسا، وثانيهما كون ملاقي الطاهر طاهرا، بل المجعول الشرعي هو
الأول فقط، بداهة ان طهارة الملاقي (بالكسر) ليست حاصلة بسبب
طهارة الملاقى (بالفتح)، بل كانت حاصلة قبل الملاقاة أيضا.
وبالجملة طهارة الملاقي (بالكسر) ليست من الآثار الشرعية لطهارة
الملاقى، حتى يقال: إن مقتضى كون الحكومة واقعية هو بقاء هذا
الأثر بعد انكشاف الخلاف أيضا. (اللهم إلا أن يقال). إن الطهارة ليست
إلا عبارة عن عدم النجاسة والقذارة، كما يساعد عليه العرف
أيضا، وحينئذ فيكون المراد من كون طهارة الملاقي (بالكسر) بسبب
طهارة الملاقى كون عدم نجاسته مستندا إلى عدم نجاسته
استناد عدم المعلول إلى عدم علته، فتأمل فإن ذلك أيضا لا يفيد
ثبوت المجعولين.
ثم إنه يمكن أن يجاب بما ذكر عن الاشكال الذي أورده بعض الأعاظم
في مسألة ملاقي أحد طرفي العلم الاجمالي فإن المعروف عندهم
كون الملاقي طاهرا وحلالا لتعارض الأصلين في الطرفين فيبقى
الأصل في الملاقى سالما عن المعارض.
واستشكل هذا البعض على ذلك بأن استصحابي الطهارة في الطرفين
يتعارضان ويتساقطان، فتصل النوبة في الرتبة اللاحقة إلى
قاعدة الطهارة في الطرفين واستصحابها في الملاقى، ثم تتعارض
الأصول الثلاثة وتتساقط، وتصل النوبة بعدها إلى استصحاب
الحلية في الطرفين وقاعدة الطهارة في الملاقي في عرض واحد،
فتتعارض أيضا وتصل النوبة إلى قاعدة الحلية في الطرفين و
استصحابها في الملاقي فتتساقط أيضا، فيبقى الطرفان بلا أصل وتبقى
قاعدة الحلية في الملاقي بلا معارض، ومقتضى ذلك حلية
الملاقي دون طهارته.
والجواب عن هذا الاشكال يظهر مما ذكرنا، فإنا لا نسلم كون طهارة
الملاقي أو حليته متأخرة بحسب الرتبة عن طهارة الملاقي
(بالفتح) أو حليته حتى يكون جريان استصحاب الطهارة أو الحلية أو
قاعدتهما في الملاقى متأخرا
142

وفيه: أن الحكم الظاهري إنما يثبت مع انحفاظ الشك وأما بعد زواله
فينقلب الموضوع، فالملاقي أيضا يحكم بطهارته ما دام الشك، و
أما بعد زواله فيحكم بنجاسة كل من الملاقي والملاقي.
الرابع:
أنه لا وجه لتخصيص الاجزاء بالأصول، بل يجري على فرض تسليمه
في الامارات الواردة في باب الاجزاء والشرائط والموانع أيضا، بل
الامارة أولى بذلك من الأصل، فإن المجعول في الامارات إنما هو
نفس صفة الاحراز وكون الامارة علما تعبديا، وأما الأصول
فالمجعول فيها هو الجري العملي، وترتيب آثار إحراز الواقع في ظرف
الشك.
أقول: مراد المحقق الخراساني هو أن مثل قوله: (كل شي نظيف)
جعل للطهارة، وبمقتضاه يوسع دائرة الاشتراط، فالعمل - وإن
انكشف الخلاف - قد وجد واجدا لشرائطه، فيجزي، وأما الامارة فلا
تحكي إلا الواقع، من دون أن يكون في البين جعل لمؤداها، فإذا
حكت الطهارة، ثم انكشف الخلاف ينكشف عدم الطهارة واقعا، و
المفروض عدم جعلها ظاهرا أيضا، فلا مجال للاجزاء. وعلى هذا
فكلام بعض الأعاظم لا يغني عن جوع، ولا يثبت به كون الامارة
كالأصل فضلا عن الأولوية.
نقد بيان المحقق الخراساني في المقام:
نعم، أصل الاشكال وارد على المحقق الخراساني، ولذا عممنا
البحث، فإن الدليل الحاكم بوجوب الاخذ بخبر الثقة الذي قام على
عدم
جزئية شي أو شرطيته للصلاة، أو قام على تحقق الجز أو الشرط،
يتبادر من هذا الدليل أن المكلف إذا اقتصر في امتثال الامر الصلاتي
على ما اقتضاه ودل عليه خبر الثقة فقد عمل بوظيفته، وصار عمله
منطبقا للعنوان المأمور به، وخرج بذلك من كونه تاركا للصلاة، و
لازم ذلك هو الاجزاء.
عن جريانها في الملاقى (بالفتح) وذلك لبداهة أن حلية الملاقي
(بالكسر) أو طهارته ليست أثرا شرعيا لحلية الملاقى (بالفتح) أو
طهارته وفي الأصل السببي والمسببي يعتبر ترتب الاثرين لا الشكين
فقط، فإن تقدم الأصل السببي على المسببي إنما يكون من جهة
أن جريانه في السبب يوجب تحقق ما هو الموضوع للأثر في طرف
المسبب، فيعتبر في ذلك كون المستصحب مثلا في طرف المسبب
من الأحكام الشرعية للمستصحب في طرف السبب، كما إذا غسل
المتنجس بالماء المستصحب الطهارة، فإن هذا الاستصحاب يرفع
الشك
عن ناحية المسبب قهرا. ح - ع - م.
143

وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ المحقق الخراساني، من الفرق بين مفاد
الأصل والامارة، ففيه:
أن الامارات كخبر الواحد والبينة وأمثالهما وإن كانت بلسان حكاية
الواقع، لكنها بأنفسها ليست أحكاما ظاهرية، بل الحكم الظاهري
عبارة عن مفاد دليل حجية الامارة الحاكمة بوجوب البناء عليها، و
لسان أدلتها هي بعينها لسان أدلة الأصول.
وبعبارة أخرى: فرق بين نفس ما تؤدي عنه الامارة وتحكيه، وبين ما
هو المستفاد من دليل حجيتها. فإن البينة مثلا إذا قامت على
طهارة شي كانت هذه البينة بنفسها حاكية للواقع، جعلها الشارع حجة
أم لا، ولكن الحكم الظاهري في المقام ليس هو ما تحكيه البينة
من (الطهارة)، بل الحكم الظاهري عبارة عن حكم الشارع بوجوب
العمل على طبقها، وترتيب آثار الواقع على مؤداها، وظاهر ما دل
على هذا الحكم هو قناعة الشارع في امتثال أمره الصلاتي مثلا، بإتيانها
فيما قامت البينة على طهارته، ولازم ذلك سقوط الطهارة
الواقعية من الشرطية في هذه الصورة. وكذلك إذا دل خبر زرارة مثلا
على عدم وجوب السورة كان قول زرارة حاكيا للواقع، جعله
الشارع حجة أم لا، ولكن الحكم الظاهري ليس عبارة عن مقول زرارة،
بل هو عبارة عن مفاد أدلة حجية الخبر، أعني حكم الشارع - و
لو إمضاء - بوجوب ترتيب الآثار على ما أخبر به الثقة، فلو انحل قوله:
(صدق العادل) مثلا بعدد الموضوعات كان معناه فيما قام خبر
على عدم وجوب السورة: (يا أيها المكلف الذي صرت بصدد امتثال
الامر الصلاتي، ابن علي عدم وجوب السورة) وظاهر هذا هو أنك
إذا صليت بغير سورة فقد امتثلت الامر بالصلاة وكان عملك مصداقا
للمأمور به.
وبالجملة: الفرق بين الامارة والأصل بكون الأولى بلسان الحكاية
دون الثاني، إنما يصح إذا كان النظر إلى نفس مؤدى الامارة التي
هي أمر تكويني، وأما إذا كان النظر إلى دليل حجيتها فلا فرق بينهما،
لظهور دليل كل منهما في الاجزاء ورفع اليد عن الواقع. [1]
[1] أقول: لا يخفى أن ما ذكره سيدنا الأستاذ العلامة (مد ظله العالي):
من ثبوت الاجزاء في الامارات يتوقف على ثبوت جعل في
الامارات، حتى يقال بكون أدلة حجيتها ناظرة إلى الأدلة الواقعية
الواردة في تحديد الاجزاء والشرائط والموانع وموجبة لتوسعة
المأمور به، مع أنه (مد ظله) أيضا ينكر ثبوت الجعل في الامارات إلا
بنحو الامضاء، وليس معنى الامضاء أن يقول الشارع (أمضيت) مثلا،
فإن هذا مقطوع العدم، بل معناه عمل العقلا بها واعتمادهم عليها في
مقام إثبات الواقعيات، أو مقام الاحتجاج واللجاج بمرأى الشارع
ومسمعه من دون أن يردع عنها، بل هو أيضا كأحدهم في ذلك وكذا
في غيرها من العاديات، ما لم يترتب عليها مفسدة. ولا ريب أن
144

فإن قلت: على هذا لا يبقى فرق بين الامارة والأصل، إذ مقتضى ما
ذكرت هو أن المجعول شرعا في كليهما عبارة عن وجوب البناء عملا
ولزوم ترتيب الآثار، وحينئذ فلا يبقى وجه لحكومة الامارات على
الأصول.
قلت: مع أن الحكم الظاهري والمجعول الشرعي في كليهما عبارة عما
هو مفاد أدلة حجيتهما - من وجوب البناء والجري العملي - يكون
لسان دليل حجية الامارة شارحا ومفسرا لما هو موضوع جريان
الأصل، فإن المستفاد من قوله: (كل شي نظيف) ليس إلا أن الشاك
في الطهارة والنجاسة يجب عليه في مقام العمل أن يبني على أحد
طرفي الشك - أعني الطهارة - من دون نظر إلى إحراز الواقع، وهذا
بخلاف مثل (صدق العادل)، فإن مفاده وجوب البناء على أن ما
يحكيه هو الواقع، ووجوب أن يفرض الشخص نفسه رائيا للواقع، و
هذا
اللسان رافع حكما لما هو موضوع الأصول - أعني الشك - فإن رائي
الواقع لا يبقى له شك.
الخامس:
أن حكومة الاحكام الظاهرية على الأحكام الواقعية حكومة ظاهرية
يترتب عليها جواز ترتيب آثار الواقع في زمن الشك ما لم ينكشف
الخلاف، من دون أن تمس كرامة الواقعيات، ولا يعقل كونها حكومة
واقعية موجبة لتعميم الواقع أو تضييقه حقيقة.
بيان ذلك: أن الحكومة وإن كانت بلسان نفي الموضوع أو إثباته، و
لكنها في الحقيقة تصرف في نفس الحكم بتعميمه لبعض الموارد
التي لم يشملها الدليل المحكوم أو بتخصيص الدليل المحكوم أو
تقييده، والتعميم والتخصيص والتقييد لا تتصور إلا فيما إذا كان
الحاكم في مرتبة المحكوم حتى يمكن تصرفه فيه، وأما إذا كانا في
رتبتين فلا يعقل تصرف أحدهما في الاخر إلا
العقلا لا يرون العمل بالكاشف أو الحجة مجزيا عن الواقع، ولو في
صورة انكشاف الخلاف، بل يرون أنفسهم موظفين بتأدية الواقع،
فإثبات الاجزاء في باب الامارات مشكل، والسر في ذلك عدم كون
دليل حجيتها ذا لسان. نعم ربما يقرب الحكومة في المقام وفي باب
حكومة أدلة الامارات على الأصول بأن دليل حجيتها (من السيرة و
بناء العقلا) وإن لم يكن ذا لسان، لكنه يكون بحيث لو صيغ في قالب
اللفظ كان لفظه شارحا ومفسرا، ويكفي مثل ذلك في الحكومة، ففي
باب حجية الخبر وإن كان عمدة دليلها السيرة الممضاة بعدم
الردع، ولكن لو جعل ذلك في قالب اللفظ كان لفظه عبارة عن مثل
(ألق احتمال الخلاف)، فإن نظر العقلا بها في الاعتماد عليها، بحيث
يلقون بقيامها احتمال الخلاف ويرون الواقع منكشفا بها، ولاجل هذا
تقدم على الأصول ويقال: إنه من باب الحكومة، وهذا اللسان
أيضا حاكم على أدلة الاجزاء والشرائط والموانع، فيترتب عليه
الاجزاء. ح - ع - م.
145

بتجافي أحدهما عن مرتبته وهو امر غير معقول. ولا يخفى أن الحكم
الظاهري متأخر عن لحكم الواقعي بمرتبتين لتأخره عن موضوعه
- أعني الشك - والشك متأخر عن متعلقه - أعني لحكم الواقعي - و
لازم ذلك انحفاظ الواقع في جميع المراتب بإطلاقه الذاتي، وليس
للحكم الظاهري أن يتصرف في إطلاقه أو عمومه، وإذا لم يمكن
تصرفه في الواقع حتى تكون حكومته حكومة واقعية، فلا محالة تكون
الحكومة بلحاظ الظاهر وبحسب مقام الاثبات، ولازم ذلك جواز
ترتيب آثار الواقع على المؤدي ما لم ينكشف الخلاف، وإذا انكشف
الواقع ينكشف عدم واجدية العمل لما شرط فيه واعتبر، إذ الفرض
بقاء الواقع بحسب مقام الثبوت على ما هو عليه (انتهى).
الجواب عن الاشكال الخامس:
عمدة الاشكال في باب الاجزاء عبارة عن هذا الاشكال، ولكن الظاهر
عدم وروده أيضا، فإن الخطاب الواقعي - أعني ما دل على
شرطية الطهارة مثلا للصلاة - وإن كان مطلقا غير مقيد بالعلم والجهل
ومقتضاه بطلان الصلاة المأتي بها في النجاسة الواقعية، ولكن
بعد ورود قوله: (كل شي نظيف) الناظر إلى وجوب ترتيب آثار
الطهارة - التي من جملتها جواز الصلاة - على المشكوك فيه، و
ظهوره في أن العمل الذي يؤتى به في المشكوك فيه يصير منطبقا
للعنوان المأمور به، يجب رفع اليد عن إطلاق الحكم الواقعي وحمله
على الانشائية المحضة، والحكم بسقوط الطهارة من الشرطية في
صورة الجهل والشك وإن كان فيها اقتضاء الشرطية.
والوجه في ذلك - مضافا إلى أن ظهور مثل قوله: (كل شي نظيف)
فيما ذكرنا أقوى من ظهور ما دل على الشرطية المطلقة للطهارة
الواقعية، ولازم ذلك تحكيمه عليه وحمله على الانشائية المحضة -
أن القول بكون الحكومة في المقام حكومة واقعية مما لا بد منه، وإلا
لزم رفع اليد عن الحكم الظاهري رأسا، فإن المفروض - فيما نحن فيه
- علم المكلف بوجوب الصلاة عليه مشروطة بالطهارة، ولولا
جعل الشارع للطهارة الظاهرية، كان ملزما بإتيان الصلاة بشرطها و
حينئذ فإما أن يقال: بعدم جعل الشارع للطهارة الظاهرية بالنسبة
إلى هذا الشخص العالم بوجوب الصلاة عليه، وإما أن يقال: بجعله لها
بالنسبة إلى هذا الشخص أيضا، لا مجال للاحتمال الأول للزوم
الخروج من الفرض، وعلى الثاني يجب القول بالاجزاء وقناعة الشارع
- في امتثال أمره المعلوم - بإتيان متعلقه في المشكوك فيه
أيضا، فإنه لا معنى لجعل الطهارة الظاهرية لهذا الشخص إلا جواز إتيانه
ما أمر به مع هذه الطهارة وصيرورة عمله منطبقا للعنوان
المأمور به.
ولا يمكن أن يكون جعل الحكم الظاهري بالنسبة إلى هذا الشخص
لغرض المنجزية أو
146

المعذرية، كما في سائر المقامات، بداهة أن التنجيز إنما يعقل فيما إذا
لم يكن الواقع منجزا لولا هذا الجعل، والمفروض - فيما نحن فيه
- تنجز الواقع مع قطع النظر عن الحكم الظاهري لعلم المكلف
بوجوب الصلاة المشروطة بالطهارة عليه. وأما المعذرية فهي أيضا لا
مجال لها في المقام، إذ المكلف الآتي بصلاته في الثوب الذي شك
في طهارته إن انكشفت له النجاسة في الوقت فلا معنى لجعل المعذر
بالنسبة إليه، إذ لم يصدر عنه بعد ما هو خلاف الواقع من جهة بقاء
وقت الواجب وتمكنه من إتيانه، ولم يتعين عليه إتيانه في أول الوقت
حتى يحتاج إلى معذر في تركه. وإن فرض عدم انكشاف النجاسة إلى
أن خرج الوقت فتفويت الواقع جاء من قبل ترخيص الشارع وإلا
كان المكلف يأتي به لعلمه به وتنجزه عليه.
وبعبارة أخرى: إذنه في إتيان الصلاة في المشكوك فيه أوجب تفويت
الواقع فلا مجال للقول:
يكون الغرض من هذا الاذن هو المعذرية بعد ما كان المكلف يأتي
الواقع على ما هو عليه لولا ترخيص الشارع. [1]
وبالجملة: أثر الحكم الظاهري وإن كان في سائر المقامات عبارة عن
تنجيز الواقع في صورة الموافقة، وكونه معذرا بالنسبة إليه في
صورة المخالفة، ولكن هذا فيما إذا لم يكن الواقع منجزا لولا الجعل
الظاهري، وأما في هذه الصورة فأثر الجعل الظاهري توسعة
المأمور به وإسقاط الشرطية الواقعية وجعل فرد طولي لما هو المأمور
به، ولازم ذلك حمل الواقع على الانشائية المحضة. وبهذا البيان
يظهر أن كيفية الجمع بين الحكمين في المقام تخالف كيفيته في سائر
المقامات.
[1] أقول: لا يخفى أن المعذرية ليست أثرا للحكم الظاهري بنحو يكون
جعله بلحاظها، إذ في موارد الجهل بالواقع وعدم تمامية الحجة
عليه تكون المعذورية مستندة إلى عدم انكشاف الواقع وعدم تمامية
الحجة بالنسبة إليه، لا إلى انكشاف الخلاف وقيام الحجة على
خلاف الواقع، فلو فرض عدم قيام الحجة على الخلاف أيضا كان
المكلف معذورا لأجل الجهل بالواقع، وفي موارد انكشاف الواقع و
تمامية الحجة بالنسبة إليه كما في ما نحن فيه وإن كان جعل الحكم
الظاهري المؤدي إلى خلاف ما قامت عليه الحجة معذرا للعبد، ولكن
لا مجال لجعله بلحاظ هذا الأثر، لاستلزام ذلك تفويت الغرض و
الواقع بلا جهة ملزمة، هذا.
ولكن جعل الحكم الظاهري في القسم الثاني بعد تحقق المصحح
لجعله (من التسهيل ونحوه) يترتب عليه المعذرية أيضا، وهذا
بخلاف
جعله في القسم الأول، أعني صورة عدم تمامية الحجة بالنسبة إلى
الواقع. فما ذكره سيدنا الأستاذ الأكبر (مد ظله العالي) من عدم كون
المعذرية أثرا للحكم الظاهري (في هذا القسم) لعله أراد بذلك عدم
كونها أثرا مصححا لجعله وهو كذلك، إلا أنه يمكن أن يورد عليه أن
المعذرية ليست أثرا مصححا في سائر الموارد أيضا، بل ليست أثرا
للحكم الظاهري أصلا كما عرفت. ح - ع - م.
147

الجمع بين الحكمين في المقام مخالف للجمع في غيره:
توضيح ذلك: أنك قد عرفت في صدر المبحث أن المحقق الخراساني
(قدس سره) جمع بين الحكم الواقعي والظاهري في الحاشية بحمل
الواقعي على الانشائية، والظاهري على الفعلية، وفي الكفاية بحمل
الواقعي على الفعلية، وحمل الظاهري على كونه عينا له في صورة
الموافقة وصورة حكم لا حقيقة لها في صورة المخالفة. وعرفت أيضا
أنه يمكن الجمع بين المشيين - وإن كان ثانيهما أمتن - بتقريب
أن المراد بالحكم الواقعي إن كان ما هو روحه وحقيقته - أعني إرادة
صدور الفعل عن العبد - فهو فعلي، وبلحاظه أيضا قد جعل البعث
الظاهري، وإن كان المراد منه هو البعث الواقعي والخطاب الأولى فهو
شأني، بداهة أن البعث إنما يكون لغرض الانبعاث، وحيث إن
الانبعاث من الخطاب المجهول غير معقول، فلا محالة يصير منعزلا
عن التأثير وساقطا من الفعلية، بمعنى عدم إرادة الانبعاث منه في
هذه الصورة من جهة تعذر ترتب هذا الأثر عليه.
إذا عرفت هذا فنقول: إن الجمع بين الحكمين فيما نحن فيه - أي في
الاحكام الظاهرية الواردة في باب أجزأ المأمور به وشرائطه و
موانعه - لا يمكن أن يكون بالطريق الذي سلكه في الكفاية، لما عرفت
من أن أثر جعل الطهارة الظاهرية في باب الصلاة مثلا ليس إلا
كفايتها في صيرورة العمل المأتي به معها منطبقا للعنوان المأمور به،
من دون أن تترتب عليه المنجزية أو المعذرية، ولازم ذلك عدم
فعلية ما دل على اشتراط الصلاة بالطهارة الواقعية وكونه إنشائيا صرفا.
ولا يخفى أن الانشائية في المقام أيضا تخالف الانشائية في المقامات
الاخر، فإن المراد بالانشائي في سائر المقامات هو الانشائي الذي
ليس لفعليته حالة منتظرة سوى علم المكلف، لما عرفت من أن المانع
عن فعلية الخطاب الواقعي هو جهل المكلف به وعدم إمكان انبعاثه
من قبله، لا لقصور في الخطاب، بل لقصور في المكلف من جهة كونه
جاهلا، ولازم ذلك أنه إذا زال هذا المانع صار فعليا منجزا.
وأما في المقام فليس المراد بالانشائي فيه هذا المعنى، إذ المفروض
- فيما نحن فيه - علم المكلف بوظيفته من الصلاة المشروطة
بالطهارة الواقعية، بحيث لولا قوله (كل شي نظيف) كان ينبعث من
الخطاب الواقعي، ويأتي ما هو المكلف به بجميع حدوده وأجزائه
وشرائطه التي منها
148

الطهارة الواقعية، فحمل ما دل على اشتراط الطهارة بوجودها الواقعي
على الانشائية ليس من جهة جهل المكلف به، وعدم إمكان تأثيره
في نفسه وانبعاثه من قبله، فلا بد من أن يكون لجهة أخرى غير تعذر
الانبعاث، ولعل هذه الجهة - فيما نحن فيه - عبارة عن تعسر
الانبعاث، بتقريب أن يقال: إن الصلاة مع الطهارة الواقعية وإن كانت
واجدة للملاك وصار هذا سببا لتعلق الامر بها مطلقا، ولكن لما
كان تحصيل هذا الشرط مطلقا وفي جميع الموارد موجبا للعسر على
المكلفين زائدا على ما تقتضيه طباع العمل صار هذا سببا لجعل
الطهارة الظاهرية ورفع اليد عن ملاك الواقع لوقوع المزاحمة بينه وبين
مفسدة العسر، وبعد جعلها - الظاهر في قناعة الشارع بها -
يخرج الواقع من الفعلية، فما هو الموجب لحمل الواقع على الانشائية
في سائر المقامات هو تعذر انبعاث المكلف من قبله، وما هو
الموجب لحمله عليها في المقام هو تعسر انبعاثه من قبله، فتدبر.
فإن قلت: إذا كان إتيان الصلاة في المشكوك فيه أيضا موجبا لانطباق
عنوان الواجب عليها ومقتضيا للاجزاء، فما الموجب لجعل حكمين
طوليين بأن تجعل الطهارة شرطا مطلقا، ثم تنعزل عن الشرطية في
حال الشك؟.
وبعبارة أخرى لم يلتزم بحكمين طوليين: واقعي وظاهري؟ بل
الواجب على المولى حينئذ جعل حكم واحد بأن يجعل العلم
بالنجاسة
مانعا حتى تصح الصلاة المأتي بها فيما طهر واقعا وفي المشكوك فيه.
قلت: قد عرفت آنفا أنه يمكن في مقام الثبوت كون الصلاة المأتي بها
مع الطهارة الواقعية واجدة للملاك، بحيث يكون للطهارة أيضا
دخل فيه، فلا بد من أن ينشأ الحكم أولا وبالذات على العمل المقيد
بالطهارة، غاية الأمر أنه لما كان هذا الملاك مزاحما بمفسدة العسر -
في بعض الأحوال - فلا محالة أوجب هذا سقوطها من الشرطية في
تلك الحال والقناعة بملاك أصل الواجب.
فإن قلت: بعد اللتيا والتي فلا يرتفع الاشكال، فإنه لو سلم كون الطهارة
شرطا للصلاة كما هو المفروض، فبعد انكشاف الخلاف
ينكشف عدم واجدية الصلاة لشرطها، والمشروط عدم بعدم شرطه.
قلت: قد عرفت أن مقتضى تحكيم مثل قوله (كل شي نظيف) على
الدليل الدال على شرطية الطهارة هو سقوطها من الشرطية ورفع اليد
عنها في حال الشك، فبانكشاف نجاسة المشكوك فيه ينكشف عدم
طهارته لا عدم واجدية العمل لاجزائه وشرائطه، إذ مقتضى ما
ذكرناه
149

في تقريب الاجزاء صيرورة العمل في هذا الحال منطبقا للعنوان
المأمور به وإن لم تكن الطهارة موجودة بحسب الواقع، فللصلاة مثلا
فردان طوليان يكون كل منهما مصداقا لها، وانطباقها على أحدهما
مشروط بالطهارة دون الاخر، فإذا أتى الشاك في الطهارة ما هو
وظيفته في هذا الحال، وصار عمله مصداقا للمأمور به فلا مجال لبقاء
الامر، حتى يحتاج إلى إعادة المأمور به.
فإن قلت: الطهارة الواقعية إما أن تكون دخيلة في انطباق عنوان الصلاة
على الافعال المخصوصة وفي حصول الملاك المترقب من
الصلاة، وإما أن لا تكون دخيلة فيه، فإن لم تكن دخيلة كان اشتراطها
جزافا وإن كانت دخيلة فبانكشاف الخلاف ينكشف فوت الملاك
الملزم، ولازم ذلك وجوب الإعادة أو القضاء.
قلت: يحتمل - بحسب مقام الثبوت - أن يكون المقصود الأصلي من
الامر بالصلاة مثلا حصول الإطاعة والانقياد من العبد في مقابل
المولى، غاية الأمر أن تحقق الإطاعة لما كان متوقفا على توجه الامر -
من قبل المولى - إلى العبد متعلقا بعمل خاص، حتى يصير الامر
داعيا للعبد نحو العمل ويصير عمله منطبقا لعنوان الإطاعة، فلا محالة
وجب على المولى إيجاد الامر متعلقا بعمل خاص حتى يتحقق
بذلك موضوع الإطاعة المطلوبة بالذات، وجميع الاعمال في الوفاء
بهذا المقصود على نحو واحد، سواء كان العمل بنفسه وبحسب ذاته
مشتملا على الملاك أم لا، ففي مقام إيجاد الموضوع - للإطاعة -
يكفي إيجاد الامر متعلقا بعمل خاص، أي عمل كان، غاية الأمر أنه إذا
فرض كون بعض الاعمال بحسب ذاته أيضا مشتملا على ملاك ملزم
أو غير ملزم، فاختيار هذا العمل من بين الاعمال والامر به دون
غيره يكون أولى بل يكون متعينا، لقبح ترجيح المرجوح، ولكنه في
الوفاء بالغرض الأصلي من الامر - من تحقيق موضوع الإطاعة -
يكون كغيره من الاعمال، إذ لا يعتبر في ذلك إلا تعلق الامر بعمل
خاص أي عمل كان، ولا يعتبر في ذلك اشتمال المتعلق على الملاك
فضلا عن الملاك الملزم، وعلى هذا فيحتمل - بحسب مقام الثبوت -
أن تكون الصلاة مع الطهارة مثلا مشتملة على ملاك غير ملزم و
يكون المقصود من الامر بها حصول عنوان الإطاعة لا حصول ملاكها و
إلا لكان الامر المتعلق بها ندبيا، ثم لما رأى المولى أن تحصيل
الطهارة في بعض الأوقات موجب للعسر، وأن مقصوده الأصلي -
أعني انطباق عنوان الإطاعة - يترتب على إتيان الصلاة الفاقدة
للطهارة أيضا إذا أتي بها بداعي الامر، صار هذا سببا لرفع اليد عن
الطهارة لحصول الغرض الملزم بدونها، والفرض أن ذات العمل
أيضا لا تشتمل على ملاك ملزم، وهذا المعنى وإن كان صرف احتمال
في مقام الثبوت،
150

ولكنه يكفي في رفع احتمال استحالة الاجزاء. وإذا أمكن في مقام
الثبوت، والمفروض دلالة أدلة الاحكام الظاهرية عليه في مقام
الاثبات أيضا فلا مناص عن القول به فتدبر جيدا.
تذنيبان:
الأول: دفع توهم الفرق بين صورة كشف الخلاف وعدمه.
لا يتوهم في المقام ثبوت الفرق بين صورة كشف الخلاف وعدمه إذ
لو فرض وجود مانع عقلي عن القول بالاجزاء في التكاليف
الظاهرية، وألجأنا هذا إلى رفع اليد عما هو ظاهر أدلتها - من الاجزاء -
فلا يبقى فرق بين المقامين.
فلو فرض أن المصلي اعتمد مدة عمره في إتيان أجزأ صلاته و
شرائطها على ما اقتضته وظيفته الظاهرية، ولم ينكشف له الخلاف
أبدا،
وكانت صلواته بحسب الواقع فاقدة لبعض الاجزاء والشرائط
الواقعية، كان مقتضى القول بعدم الاجزاء بطلان صلواته بأجمعها، و
الالتزام بهذا المعنى مشكل جدا، فالقول بالاجزاء في هذه الصورة
متعين، ومقتضى القول به سقوط الاجزاء والشرائط من الدخالة في
المأمور به بالنسبة إلى هذا الشخص، وحينئذ فيقال إنه إذا أمكن ذلك
في مقام الثبوت فما الوجه في تخصيصه بصورة عدم انكشاف
الخلاف مع ظهور أدلة الاحكام الظاهرية في الاجزاء مطلقا.
الثاني: القول بالاجزاء لا يستلزم التصويب الباطل.
ربما يتوهم أن القول بالاجزاء مستلزم للتصويب المجمع على بطلانه.
أقول: قد اشتهر بين الفقهاء والأصوليين أن بطلان التصويب إجماعي،
ولكن لا تغرنك هذه الشهرة، بل عليك بمراجعة تاريخ مسألة
التخطئة والتصويب، حتى يتبين لك أنها مسألة عقلية لا شرعية تعبدية
يستند فيها إلى الاجماع، وأن الاجماع المدعى فيها هو إجماع
المتكلمين من الامامية بما هم متكلمون، لا إجماع الفقهاء و
المحدثين، الذي هو حجة من الحجج الفقهية، ومنشأ النزاع في هذه
المسألة هو
النزاع في أحوال صحابة النبي صلى الله عليه وآله وأنهم هل يكونون
بأجمعهم مبرين من الخطأ والفسق أو لا؟ فذهب بعض المتكلمين
من أهل السنة إلى أن من يطلق عليه اسم الصحابي كائنا من كان لا يكاد
يخطئ فضلا عن أن يصدر عنه الفسق، ولو كان الصحابة في
آرائهم وعقائدهم متناقضين فلا يكشف ذلك عن خطأ بعضهم، حتى
أن معاوية مثلا كان مصيبا في مبارزته لعلي
151

عليه السلام، وكذلك علي عليه السلام في مبارزته لمعاوية.
وقال بعضهم: إن المصيب من الصحابة من كان رأيه مطابقا للواقع، و
الباقون مخطئون ولكنهم معذورون، لكونهم عاملين على وفق ما
يقتضيه اجتهادهم.
وقال بعضهم: إن الصحابي يمكن أن يصدر عنه الفسق أيضا فضلا عن
الخطأ، والقائل بهذا القول فيهم قليل، حتى أنه يقال لهذا المذهب
في عرفهم: مذهب أصحاب البدع، هذه أقوال العامة.
وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في كتاب العدة ما حاصله: (إن
المتكلمين من الفرقة الحقة من المتقدمين والمتأخرين كلهم أجمعوا
على
أن أصحاب الصواب فرقة واحدة والباقون مخطئون.) وهذا الكلام
منه (قده) شاهد على ما قلناه من أن الاجماع على بطلان التصويب
ليس هو إجماع الفقهاء والمحدثين، بل إجماع المتكلمين بما هم
متكلمون، لكون المسألة من المسائل العقلية التي يبحث فيها المتكلم
بما
هو متكلم، وليست من المسائل الشرعية المتلقاة من المعصومين
عليهم السلام يدا بيد حتى يكون الاجماع فيها إجماع أهل الحديث
فيكون حجة.
152

الفصل الثالث في مقدمة الواجب
اختلفوا في وجود الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدماته على
أقوال، ولا يخفى أن المراد بالمقدمة هنا ليس مطلق ما لا بد منه في
وجود الشئ، حتى تشمل عدم الأضداد المقارن لوجود الشئ
المطلوب، بل المراد منها ما وقع في طريق وجود الشئ وما كان
متقدما
عليه، سواء كان علة تامة أو ناقصة بتمام أقسامها من الشرط، وعدم
المانع، وغيرهما،
وقبل الخوض في المقصود نذكر أمورا مهمة:
153

الأمر الأول:
الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدماته
قد ذكر في الكفاية ما حاصله: (ان المسألة أصولية، لكون البحث فيها
عن الملازمة لا عن وجود اللازم أعني وجوب المقدمة حتى تكون
المسألة فرعية).
أقول: قد اتضح لك مما ذكرناه في موضوع علم الأصول عدم كون
المسألة أصولية وإنما هي من المبادي الاحكامية للفقه، حيث إنه كان
للقدماء مباحث يبحث فيها عن معاندات الاحكام.
وملازماتها يسمونها بالمبادئ الاحكامية، ومنها هذه المسألة.
فإن قلت: إن كان موضوع علم الأصول عبارة عن عنوان (الحجة في
الفقه) وكان البحث في العلم عن تعيناتها وتشخصاتها - كما مر
شرح ذلك في مبحث الموضوع - فلم لا تكون المسألة أصولية، مع أن
البحث فيها عن تعين من تعيناتها، إذ يبحث فيها عن أن وجوب
الشئ حجة على وجوب مقدماته أم لا؟.
قلت: ليس البحث في المسألة عن الحجية، بل عن الملازمة بين
الوجوبين، إذ مع عدم الملازمة لا معنى لحجية وجوب شي على
وجوب شي
آخر، وبعد ثبوت الملازمة لا مورد للبحث عن الحجية، فإن وجود
أحد المتلازمين حجة على الاخر بالضرورة، ولا مجال للبحث عنها، و
بالجملة محط النظر في المسألة هو إثبات الملازمة لا الحجية.
154

الأمر الثاني:
تقسيمات المقدمة
1 - المقدمة الداخلية والخارجية:
إن المقدمة قد تكون داخلية، وقد تكون خارجية، والمراد بالخارجية
ما كانت مغايرة لذيها ماهية ووجودا، ولكن كانت في طريق
وجوده، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة، وبالداخلية ما كانت من أجزائه
ومقوماته. ثم إنه قد
وقع البحث في المقدمة الداخلية من جهتين:
الجهة الأولى: تصوير مقدمية الاجزاء.
فقد يستشكل فيها بتقريب أن المقدمية عبارة عن كون أحد الشيئين
محتاجا إليه في وجود الاخر، والاحتياج إضافة بين شيئين ولا
يمكن أن يعتبر بين الشئ ونفسه، وأجزأ الشئ ليست إلا نفسه.
وبتقريب آخر: مقدمة الشئ عبارة عما يقع في طريق وجوده، و
الشئ لا يقع في طريق وجود نفسه. ونظير هذا الاشكال، الاشكال
الوارد على عد المادة والصورة من أجزأ العلة التامة، مع كون المعلول
أيضا عبارة عن مجموع المادة والصورة.
وأجاب عن الاشكال (في الكفاية) بأن المقدمة هي نفس الاجزاء
بالأسر، وذو المقدمة هو الاجزاء بشرط الاجتماع، ثم قال: وبذلك
ظهر
أنه لا بد في اعتبار الجزئية من أخذ الشئ بلا شرط، كما لا بد في
اعتبار الكلية من اعتبار اشتراط الاجتماع.
أقول: لا يخفى عليك أن المقدمة الداخلية ليست عبارة عن الاجزاء
بالأسر، بل هي عبارة عن كل واحد من الاجزاء بحياله واستقلاله.
فالركوع مثلا مقدمة للصلاة، والسجود مقدمة أخرى لها، وهكذا، و
الاجزاء مقدمات للكل لا مقدمة له، إذ المقدمة كما قلنا عبارة عن
موجود يحتاج إليه شي آخر في وجوده، والاجزاء بما هي أجزأ
ليست بموقوف عليها، وإنما الموقوف عليه هو كل واحد منها، فكما
أن
طبيعة الانسان تصدق على زيد مستقلا وعلى عمر ومستقلا
155

وعلى بكر كذلك، ولا يمكن أن يقال: إن زيدا وعمرا وبكرا مصداق
للانسان، بل كل واحد منهم مصداق بشخصه، لما تقرر في محله من
أن الطبيعي يتكثر بتكثر أفراده، فكذلك عنوان المقدمة يصدق على
كل واحد من الركوع والسجود والقرأة وهكذا، لا على الركوع و
السجود والقراءة، فإنها مقدمات لا مقدمة، ولا دليل على اعتبار
التغاير بين مجموع المقدمات وذي المقدمة، وإنما يعتبر التغاير بين
كل مقدمة وذيها، فالركوع مقدمة للصلاة ومغاير لها، والسجود أيضا
مقدمة ومغاير لها وهكذا، ولكن مجموع الركوع والسجود و
القراءة وسائر الاجزاء مقدمات، وهي عين الصلاة.
وبتقرير آخر: الجز فيما هو كثير حقيقة وواحد بالاعتبار كالصلاة مثلا،
نظير البعض فيما هو واحد حقيقة وكثير بالاعتبار، فالماء
الموجود في الحوض مثلا موجود واحد ممتد حقيقة، ولكن يمكن أن
يعتبر له أبعاض يختلف كل منها مع الكل ومع سائر الابعاض،
فالبعض الموجود منه في جانب المشرق إذا لو حظ بحياله وبحدوده
مغاير للكل وللبعض الموجود منه في جانب المغرب مثلا، وكذلك
البعض الموجود منه في طرف الجنوب إذ لوحظ بحياله مغاير للكل و
للابعاض الاخر.
وقد عرفت في مبحث المشتق أن كل ما يتصور له أجزأ أو أبعاض
فكل جز أو بعض منه يمكن أن يلحظ بنحو الابهام في التحصل، فلا
يكون في هذا اللحاظ مغايرا للكل ولسائر الاجزاء أو الابعاض، و
يمكن أن يلحظ تام التحصل فيختلف في هذا اللحاظ مع الكل ومع
سائر الأجزاء والابعاض.
وبالجملة: ماء الحوض - مع وحدته وبساطته - يمكن أن تعتبر له
أبعاض يغاير كل منها مع الكل ومع سائر الابعاض، وإن كان
المجموع عين الكل، فإذا عرفت حال الواحد الحقيقي فقس عليه
الواحد الاعتباري كالصلاة مثلا، فإنها وإن كانت عبارة عن متكثرات
في
الوجود، بحيث يمتاز كل منها من غيره، ولكنها قد لوحظت هذه
المتكثرات بنظر الوحدة واعتبرها الامر موجودا واحدا من جهة
اشتمالها على غرض واحد. وكل واحد من هذه المتكثرات جز و
بعض له، ويخالف وجود الكل إذا لو حظ هذا الجز موجودا بحياله، و
يكون وجود هذا الواحد الاعتباري محتاجا إلى وجود هذا الجز،
فيكون الجز مقدمة من مقدماته.
والحاصل: أن الجز الذي يطلق عليه المقدمة هو الذي تألف منه ومن
غيره الكل فالكل
156

محتاج والجز محتاج إليه فتميز المحتاج من المحتاج إليه. [1]
الجهة الثانية: كيفية وجوب المقدمة الداخلية
هل المقدمة الداخلية واجبة بالوجوب النفسي الضمني الانبساطي، أو
بالوجوب الغيري، أو بهما معا؟ في المسألة أقوال، أجودها الأول لما
مر في مبحث الصحيح والأعم، من أن الوجوب وإن كان واحدا
حقيقة، ولكنه يتبعض بتبعض متعلقه، وينبسط على أجزائه، ومرتبة
الوجوب النفسي متقدمة على الوجوب الغيري، لكونه من ترشحاته، و
على هذا فلا يبقى موضوع للوجوب الغيري.
وأراد الأقوال ثانيها، إذ الكل ليس إلا نفس الاجزاء، فلو فرض كون كل
واحد من الاجزاء واجبا بالوجوب الغيري فقط لم يبق موضوع
للوجوب النفسي، حتى تترشح منه الوجوبات الغيرية.
2 - المقدمة العقلية والشرعية والعادية:
المقدمة إما عقلية إن امتنع وجود ذي المقدمة بدونها عقلا كالعلة
بالنسبة إلى المعلول، وإما شرعية إن امتنع وجوده بدونها شرعا
كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، وإما عادية إن امتنع وجوده بدونها عادة
كنصب السلم بالنسبة إلى الصعود.
أقول: الظاهر رجوع الأخيرين أيضا إلى الأول، أما الشرعية، فلان امتناع
وجود شي بدون شي آخر - الذي هو ملاك المقدمية - ليس
أمرا قابلا للجعل، بأن تكون الصلاة مثلا بما لها من الآثار والغايات في
نفس الامر أمرا يتحقق بحسب الواقع بدون الطهارة أيضا، ومع
ذلك يحكم الشارع تعبدا بامتناع وجودها بدونها، وعلى هذا فحكم
الشارع بامتناع الصلاة بدون الطهارة مثلا إما من جهة أنه أخذها
قيدا للصلاة حين الامر بها، لدخالة لها في المصلحة المترقبة منها، وإما
من جهة أن عنوان الصلاة كان بحسب الواقع عنوانا بسيطا ينتزع
عن الافعال المخصوصة، وكان انطباقها عليها في نفس الامر متوقفا
على الطهارة فكشف الشارع عن ذلك، وعلى كلا الوجهين تكون
دخالة الطهارة عقلية، أما على الثاني فواضح، وأما على الأول فلان
استحالة وجود المقيد بدون قيده تكون عقلية.
[1] أقول: يمكن أن يقال: إن الغائلة بعد باقية، فإن التكبير مثلا - على
هذا - مقدمة ومحتاج إليه، وكذا القراءة والركوع وسائر الاجزاء
إلى التسليم وحينئذ فأين المحتاج؟ وبعبارة أخرى المصلي من أول
صلاته إلى آخرها مشغول بإيجاد المقدمات، فمتى اشتغل بإيجاد
ذيها؟ ح - ع - م.
157

وأما رجوع المقدمة العادية إلى المقدمات العقلية، فلان نصب السلم
مثلا من المقدمات العقلية للصعود بالنسبة إلى من لا يقدر على
الطيران وأمثاله، لامتناع وجوده بدونه بالنسبة إلى هذا الشخص، ولا
مقدمية له أصلا بالنسبة إلى من يقدر على الطيران أو غيره.
3 - مقدمة الوجود والصحة والوجوب والعلم:
ومن التقسيمات أيضا تقسيمها إلى مقدمة الوجود، ومقدمة الصحة، و
مقدمة الوجوب، ومقدمة العلم. ولا يخفى رجوع مقدمة الصحة إلى
مقدمة الوجود، اما على الصحيحي فواضح، واما على القول بكون
الأسامي موضوعة للأعم، فلان الكلام في مقدمات ما هو الواجب و
المأمور به وهو أخص من الموضوع له. ولا إشكال أيضا في خروج
مقدمة الوجوب من محل النزاع، إذ المقدمة التي يتوقف عليها
الوجوب، قبل وجودها لا وجوب لذيها حتى يترشح منه إليها، وبعد
وجودها لا معنى لوجوبها.
وأما مقدمة العلم فهي أيضا خارجة من محل النزاع، لعدم كون ذيها -
أعني العلم واجبا شرعيا حتى يترشح الوجوب منه إليها، فالوجوب
فيها وجوب عقلي من باب حكمه بوجوب الإطاعة.
4 - المقدمة المتقدمة والمتأخرة والمقارنة:
ومن التقسيمات أيضا تقسيمها إلى ما تكون متقدمة بحسب الزمان
على ذيها، وما تكون متأخرة عنه، وما تكون مقارنة له. فمن أمثلة
المتقدمة، العقد في الوصية والصرف والسلم بل غالب الاجزاء من
كل عقد. ومن أمثلة المتأخرة أغسال الليلة اللاحقة المعتبرة - عند
بعض - في صحة صوم المستحاضة في اليوم السابق، ومثلها الإجازة
المتأخرة في عقد الفضولي بناء على الكشف، وهكذا قدرة المكلفين
التي هي من الشرائط العامة لصحة التكليف، فإن ما يكون شرطا
للتكليف إنما هو القدرة حين العمل، وهي متأخرة عن التكليف، لا
القدرة حين التكليف، ضرورة عدم جواز تكليف من يقدر حين
التكليف ويعجز وقت العمل، وجواز العكس.
ثم إنه ربما يستشكل في المقدمة المتأخرة بتقريب أن المقدمة من
أجزأ العلة، ولا بد من تقدمها بجميع أجزائها على المعلول، وعلى
هذا
فكيف يتصور مقدمية الامر المتأخر؟ بل قال في (الكفاية): بورود
الاشكال في الشرط والمقتضي المتقدمين زمانا المتصرمين حين
الأثر أيضا،
158

كالعقد في الوصية وأمثالها، بل غالب الاجزاء في كل عقد.
ثم قال (ره) في مقام الجواب عن الاشكال ما حاصله: إن الموارد التي
توهم فيها انخرام القاعدة العقلية لا تخلو من أقسام ثلاثة فإن
المتقدم أو المتأخر إما أن يكون شرطا للتكليف كالقدرة مثلا، أو لامر
وضعي كالإجازة في الفضولي، أو للمأمور به كالأغسال الليلية
في صوم المستحاضة.
أما في شرائط التكليف فالمتقدم أو المتأخر ليس بوجوده الخارجي
شرطا لصحة التكليف، وإنما الشرط - في صحته - لحاظه كالشرط
المقارن بعينه.
وبالجملة: معنى شرطية شي للتكليف مقارنا كان أو غير مقارن ليس
إلا أن للحاظه ووجوده الذهني دخلا في حصول الداعي إلى الامر
أو النهي، واللحاظ مقارن للتكليف وإن كان الملحوظ غير مقارن.
وكذا الحال في شرائط الوضع، فإن الأمور الوضعية كالملكية مثلا لما
كانت أمورا اعتبارية وانتزاعية فلا محالة يمكن دخالة أمور
متأخرة في اعتبارها وانتزاعها، وليس معنى ذلك إلا أن للحاظ هذه
الأمور دخلا في اعتبارها، فالملكية مثلا إنما يعتبرها الشارع و
العقلا بعد لحاظهم تحقق الإجازة ولو في زمان متأخر.
وأما شرائط المأمور به فمعنى كون شي شرطا له ليس إلا كونه دخيلا
في صيرورة المأمور به معنونا بعنوان، به يكون حسنا ومتعلقا
للإرادة، وكما يمكن أن يصير الشئ بسبب إضافته إلى أمر مقارن
معنونا بعنوان، به يكون حسنا ومتعلقا للإرادة، فكذلك يمكن أن
يصير بسبب إضافته إلى أمر متقدم أو متأخر معنونا فعلا بعنوان حسن
موجب لإرادته والامر به، فمن يمشي بقصد استقبال زيد مثلا
إنما ينطبق على مشيه عنوان الاستقبال فعلا إذا كان بحسب الواقع
يتحقق مجئ زيد في الغد. واختلاف العناوين باختلاف الإضافات،
كاختلاف الحسن والقبح باختلاف العناوين مما لا شك فيه ولا شبهة
تعتريه. (انتهى).
5 - المقدمة اما سبب أو شرط أو معد أو عدم المانع:
أقول: نذكر لتنقيح المقام مقدمة لا تخلو بنفسها من الفائدة، وهي أن
الأصوليين قسموا المقدمة بتقسيم آخر إلى السبب والشرط والمعد
وعدم المانع، وقالوا في تعاريفها: إن السبب ما يلزم من عدمه العدم و
من وجوده الوجود، والشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم
من وجوده الوجود، والمعد ما يلزم من عدمه ووجوده الوجود، و
المانع ما يلزم من وجوده العدم.
159

وبعبارة أخرى: ما توقف عليه الشئ إما أن يكون مؤثرا في وجود
المتوقف ويكون منه وجوده، وإما أن يكون مؤثرا في قابلية
المتوقف للوجود لا في أصل وجوده، فالأول هو السبب، والثاني إما
أن يكون أمرا وجوديا فهو الشرط، أو عدميا فعدم المانع، أو مركبا
منهما فهو المعد، هذا ما قالوه.
والظاهر وجود التنافي بين تعريفي السبب، فإن ما منه الوجود - كما
في التعريف الثاني - هو المقتضي، وهو لا يلزم من وجوده
الوجود وإن كان يلزم من عدمه العدم، وما يلزم من وجوده الوجود و
من عدمه العدم - كما في التعريف الأول - هو العلة التامة، وهي
ليست بجميع أجزائها مؤثرة في الوجود وفاعلة له وإنما المؤثر هو
المقتضي فقط. اللهم إلا أن يراد من السبب، المقتضي فقط ولكن لا
مطلقا، بل في ظرف وجود الشرط وعدم المانع فينطبق عليه
التعريفان.
160

تنبيهات:
الأول:
أن في عد عدم المانع من المقدمات نحو مسامحة، ومثله العدم الذي
هو جز من المعد، فإن العدم بما هو عدم لا يؤثر ولا يتأثر، ولكنهم
لما رأوا أن وجود بعض الأشياء يدفع تأثير المقتضي سامحوا فعدوا
عدمه من المقدمات، وكذلك العدم في المعد، فإنهم حيث رأوا أن
الجز الأول من الحركة، ما لم ينعدم لم يوجد الجز الاخر الموصل
إلى المقصود، فلا محالة ألجأهم ذلك إلى عد عدمه من المقدمات.
الثاني:
لا يبعد أن يقال بكون المعد من أقسام الشرط، فإن الشئ الوجودي
المؤثر في قابلية شي آخر للوجود إما أن يكون من الأمور
المتصرمة وإما أن لا يكون كذلك، فاصطلحوا على تسمية القسم
الأول معدا وذلك كالحركة - أي نحو منها كانت -، فإن حركة الثمرات
مثلا من أول كونها في الأكمام إلى زمن إيناعها بالحركة الكمية أو
الكيفية أو نحوهما من المعدات للمرتبة الأخيرة.
الثالث:
أن تقسيمهم للمقدمة لما كان في مبحث إثبات الوجوب لها، فمن أجل
ذلك مثلوا للمقدمة السببية بالفعل الاختياري الذي يتولد منه قهرا
فعل آخر مثل حركة اليد المولدة لحركة المفتاح، فإن الفعل غير
الاختياري لا معنى للبحث عن وجوبه.
الرابع:
أن الصادر عن الفاعل في الافعال التوليدية هل هو فعل واحد أو
فعلان؟ يمكن أن يقال: إنه فعل واحد لصدور السبب والمسبب عن
إرادة واحدة، سواء تعلقت بالسبب كما إذا أراد تحريك يده من غير
التفات إلى كون المفتاح في يده فتحرك بتبعها، أو تعلقت بالمسبب،
كما إذا أراد تحريك المفتاح من غير التفات تفصيلي إلى حركة اليد، و
على هذا فلا مجال للبحث عن الوجوب المقدمي في الافعال
التوليدية، لتوقفه على كون المقدمة وذيها فعلين، حتى
161

يترشح الوجوب من الثاني إلى الأول.
ويمكن أن يقال أيضا: إن الصادر عنه فعلان، فإن الحركة القائمة باليد
أمر موجود مغاير للحركة القائمة بالمفتاح، وتعدد الوجود
مساوق لتعدد الايجاد والاصدار، لكون الايجاد عين الوجود، و
تغايرهما بالاعتبار، فإن الوجود الواحد إذا نسب إلى القابل سمي
وجودا، وإذا نسب إلى الفاعل سمي إيجادا، وذلك لوضوح أنه ليس
سوى وجود العلة ووجود المعلول وجود ثالث بينهما يسمى
بالايجاد. والاحتمال الثاني أقوى من الأول، كما لا يخفى.
الخامس:
أنه وقع بين الأصوليين نزاع في أنه هل يجوز أن يؤمر المكلف
بالمسببات أو لا يجوز بل الواجب تعلق الامر بأسبابها، حتى أنه إذا
فرض
تعلقه بحسب الظاهر بالمسبب فهو بحسب الحقيقة متعلق بالسبب؟.
ولا يخفى أن النزاع في ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة -
في المقدمات السببية - إنما هو على الأول دون الثاني. واستدل
لعدم الجواز بوجهين:
1 - إن المسبب غير مقدور للمكلف، ولا يجوز التكليف بغير
المقدور.
2 - إن المكلف به يجب أن يكون فعلا من أفعال المكلف، وحركة
المفتاح مثلا ليست من أفعاله، وما هو فعل له عبارة عن السبب، أعني
حركة اليد.
والجواب: أما عن الأول فبأن المقدور بالواسطة أيضا مقدور، إذ كل
واحد من وجوده وعدمه باختيار المكلف، وأما عن الثاني فبأنا لا
نعني بالفعل إلا ما يكون صادرا عن المكلف، بحيث لولا إصداره له
لما وجد، فلو لم يحرك المكلف يده مثلا لما تحرك المفتاح ولا انفتح
الباب، فحركة المفتاح وانفتاح الباب كلاهما فعلان اختياريان
للمكلف، غاية الأمر كونهما مع الواسطة، هذا مضافا إلى أنه لم ترد آية
و
لا رواية على أن المأمور به يجب أن ينطبق عليه عنوان الفعل، وإنما
الذي يجب - بحكم العقل - هو أن يكون وجود المأمور به مستندا
إلى إرادة المكلف واختياره، بحيث إن أراد إيجاده وجد وإن أراد تركه
لم يوجد، وهاهنا كذلك.
وربما يفصل في المسألة بين ما إذا توسطت إرادة من الغير بين وجود
السبب ووجود المسبب وبين ما لم تتوسط، ففي الأول إن ورد
أمر بالمسبب فهو أمر بالسبب حقيقة بخلاف الثاني، مثال الأول ما إذا
كلف زيد من طرف مولاه بإلقاء عمرو في المسبعة أو بتسليمه إلى
ظالم ليقتله، فإن إرادة السبع أو الظالم تتوسط في هلاك عمرو، فإن
تعلق الامر ظاهرا بهلاك عمرو بهذه الكيفية فهو متعلق بالسبب
حقيقة، وهو الالقاء أو التسليم، ومثال الثاني حركة اليد وحركة
المفتاح.
162

وهذا التفصيل أيضا خلاف التحقيق، فالأقوى أن المسببات يجوز أن
تكون مأمورا بها مطلقا.
فتلخص مما ذكرنا: أن المسبب في الافعال التوليدية فعل للمكلف، و
أنه يمكن تعلق الوجوب به، وأنه يترشح الوجوب منه إلى السبب إن
قلنا بوجوب مقدمة الواجب.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون المسبب صادرا عن المكلف بواسطة
واحدة أو يكون صادرا عنه بوسائط، بل وإن صار المكلف حين
وصول أثره إلى الهدف ميتا، كما إذا رمى زيد سهما من القوس بقصد
قتل عمرو ثم مات زيد قبل وصول سهمه إلى الهدف، فحركة اليد
فعل لزيد بلا واسطة، وخروج السهم من القوس، وحركته في الجو، و
وصوله إلى عمرو، وإزهاق روح عمرو، كلها أفعال اختيارية له
مع الواسطة، فإن كان إزهاق روح عمرو واجبا عليه كان تحريك اليد و
سائر الوسائط مقدمات سببية لذلك الواجب، وترشح الوجوب
عليها إن قلنا بوجوب المقدمة.
وقد ظهر لك أيضا أن مراد الأصوليين من المقدمات السببية هذا
القسم من الأسباب، أعني الأسباب للأفعال التوليدية.
السادس:
أن من أحكام العلة التامة وأجزائها تقدمها على المعلول رتبة، وملاك
التقدم في العلة التامة هو وجوب الوجود، بمعنى أن العقل لا يحكم
بضرورة وجود المعلول إلا وهو يحكم - في هذه الرتبة - بضرورة
وجود العلة أيضا، فيقال: وجبت العلة فوجب المعلول، ولكنه يحكم
-
في هذه الرتبة - بضرورة وجود العلة أيضا، فيقال: وجبت العلة فوجب
المعلول، ولكنه يحكم بضرورة وجود العلة في رتبة من دون أن
يحكم - في هذه الرتبة - بضرورة وجود المعلول، وملاك التقدم في
أجزأ العلة هو نفس الوجود، بمعنى أنه لا يحكم بوجود المعلول إلا
أنه يحكم في هذه الرتبة بوجود المقتضي أو الشرط مثلا.
وبالجملة: ما هو مقتضى العلية هو تقدم العلة التامة وأجزائها على
المعلول تقدما طبعيا ورتبيا، وهذا من غير فرق بين الموجودات
الزمانية والموجودات الخارجة من وعاء الزمان، وأما اقتضاء العلية
لكون العلة وأجزائها متقدمة بالزمان على المعلول فغير معلوم، نعم
لما كانت العلة التامة ما منه يفيض المعلول وهو فيض لها كان انفكاكه
منها غير جائز فهي مقارنة لمعلولها زمانا.
وأما الشرط مثلا فأي دليل على عدم جواز تقدمه أو تأخره زمانا. [1]
[1] لقائل أن يقول: إن الشرط لما كان مؤثرا في القابلية كان هو بالنسبة
إلى وجود القابلية كالعلة التامة، فيجب تقارنهما زمانا، وعلى
هذا فلا يمكن كون الشرط الذي هو جز من أجزأ العلة التامة متأخرا
في الوجود عن معلولها، إذ القابلية ما لم تتحقق لم تؤثر العلة في
وجود المعلول، بداهة تقدم القابلية على الفعلية. ح - ع - م.
163

وقد تبين لك آنفا أن الأسباب في الافعال التوليدية يجوز تقدمها على
المسببات، كما في مثال رمي السهم الواصل إلى الهدف (الذي
أريد قتله به) بعد مدة من الزمان.
والحاصل: أن اقتضاء العلية لكون جز العلة مقارنا للمعلول بحسب
الزمان غير معلوم، ومن أين ثبت عدم جواز تقدمه أو تأخره؟ ألا ترى
في العلة الغائية أنها متأخرة عن معلولها، ومع ذلك لم تخرج من كونها
علة.
فإن قلت: ليست العلة الغائية بوجودها الخارجي علة، بل بوجودها
العلمي، ولذا لو تخيل أحد ترتب غاية على فعله لاثر هذا الخيال في
صدور الفعل عنه، وإن انكشف بعد حصوله أن الغاية المتخيلة لا
تترتب عليه.
قلت: ليست العلم بالغاية بما هو علم بها مؤثرا في وجود الفعل، بل
بما هو طريق إليها ومرآة لها [1] والشاهد على ذلك أن المؤثر في
فعل الحكيم العالم بالعواقب الذي لا يتصور في علمه مخالفة الواقع
هو نفس الغاية لا عمله بها بما هو علم وصفة كمال لذاته.
والحاصل: أنه قد ظهر لك مما ذكرناه عدم ورود إشكال في الشرط
المتقدم أو المتأخر بحسب الزمان، فإن الذي يعتبر فيه هو التقدم
الرتبي لا غير.
نعم، يعتبر في العلة التامة فقط تقارنها مع المعلول زمانا كما عرفت.
دفع إشكال الشرط المتقدم أو المتأخر للتكليف:
ولو سلم لزوم التقارن في الشروط أيضا، فنحن أيضا في مخلص من
إشكال الشرط المتقدم أو المتأخر،
وتفصيل ذلك هو أن يقال:
أما في شرائط التكليف:
فالحق في كل ما توهم شرطيتها له أنها ليست بشرائط وجوده بأن يكون
التكليف معلولا وهذه من أجزأ العلة لوجوده، بل الحق فيها
أنها من قيود الموضوع في
[1] يمكن أن يقال: إن العلم قد يكون تمام الموضوع لشئ أو لحكم، و
لكن لا بما أنه صفة لذات العالم في قبال سائر الصفات النفسانية،
بل بما أنه طريق إلى الواقع. مثال ذلك إن العلم بوجود السبع تمام
الموضوع للخوف والوحشة، فإنه يؤثر في الخوف وإن كان الواقع
عدم وجود السبع، ولكن تأثير هذا العلم في نفس الخائف ليس بما أنه
علم وصفة كمال من صفات النفس، بل بما أنه مرآة للواقع وهو
وجود السبع. وعلى هذا فيمكن القول بأن العلم في العلة الغائية أيضا
من هذا القبيل، لكفايته في وجود المعلول، وإن ظهر بعد ذلك عدم
ترتبها على الفعل. ح - ع - م.
164

قضية من أحكام العقل، يكون موضوعها التكليف، ومحمولها
الامكان، بمعنى أن العقل يحكم بأن التكليف الصادر عن المولى
متعلقا
بالمكلف المميز القادر ممكن، وغير هذا القسم من التكليف غير
ممكن، فالقدرة والتميز ليسا من شرائط وجود التكليف، بل هما قيدان
له بما أنه يكون موضوعا لحكم العقل عليه بالامكان، وكما يجوز أن
يكون قيد الموضوع في قضية مقارنا له بحسب الوجود، يجوز أيضا
أن يكون متأخرا عنه أو متقدما عليه، إذ الفرض أنه ليس من أجزأ العلة
لوجود الموضوع حتى يجب تقارنه له، بل من قيوده بما هو
موضوع لما حكم عليه في القضية.
والحاصل: أن هذه الشروط ليست بشرائط لوجود التكليف، بل
لامكانه الذي هو من الاعتبارات العقلية [1] وحينئذ فأين انخرام
القاعدة
العقلية مع أن موردها على فرض تسلمها أجزأ علة الوجود؟ هذا في
شرائط التكليف.
وأما في شرائط المكلف به فهي على قسمين:
القسم الأول:
ما يكون قيدا للمأمور به بما هو مأمور به بنحو يكون التقيد داخلا و
القيد خارجا، وهذا إنما يتصور فيما إذا كانت ذات المأمور به شيئا
يحصل ويتحقق بدون هذا القيد أيضا، ولكن لم يكن بإطلاقه مأمورا
به بل أمر به مقيدا بهذا القيد، سواء كان مقارنا له أو متقدما عليه أو
متأخرا عنه، وذلك كالصلاة مثلا إن قلنا بأنها شي يتحقق ويوجد
بنفس أجزائها، ولو كانت فاقدة لشرائطها: من الوضوء والغسل و
نحوهما، ولكن الشارع لم يأمر بها بإطلاقها بل حال كونها مقيدة
بأشياء: من الوضوء والغسل وأمثالهما.
[1] لقائل أن يقول: إنا لا نتعقل دخالة مثل القدرة وأمثالها في إمكان
التكليف فان التكليف بذاته موضوع لحكم العقل عليه بالامكان
الذاتي، لا أنه يكون ممتنعا ذاتا إلا في حال تحقق الشرائط المذكورة.
نعم، يمكن أن يقال:
بعدم تمشي إرادة البعث من الامر العاقل، فيما إذا لم توجد شرائط
التكليف، ولكن أين هذا من الامتناع الذاتي؟ فإن المجنون مثلا يمكن
أن يأمر جدا مع عدم قدرة المكلف.
اللهم إلا أن يقال: إن المجنون أيضا يتخيل قدره المكلف ويأمره، لا أنه
يلتفت إلى عدم القدرة ومع ذلك يأمر.
والأولى أن يبدل كلمة الامكان بالحسن، بأن يقال: إن العقل لا يحكم
بحسن التكليف إلا إذا كان المكلف قادرا مثلا، فمثل القدرة قيد
للموضوع في قضية من محكومات العقل، يكون موضوعها التكليف و
محمولها الحسن.
ثم اعلم: أن ما ذكره سيدنا الأستاذ الأكبر (مد ظله) إنما هو في الشرائط
العقلية للتكليف، لعدم جريانه في الشرائط الشرعية الثابتة له،
كالاستطاعة في الحج مثلا، فإنها ليست دخيلة في إمكان التكليف
بالحج ح - ع - م.
165

فالمراد بالشرط حينئذ ليس هو الشرط الذي يكون من أجزأ علة
الوجود، إذ المفروض تحقق ذات الصلاة مثلا بدون الشرط أيضا، بل
المراد بالشرط هنا ما أخذ قيدا للمأمور به، فذات المأمور به توجد
بدون القيد أيضا، ولكنه لا يتحقق بما أنه مأمور به إلا بإتيان قيده، إذ
المفروض أن التقيد به داخل في المأمور به، وإن كان نفس القيد
خارجا.
ثم اعلم: أن وجود التقيد الذي هو جز تحليلي للمأمور به لما كان
بعين وجود القيد، من جهة أنه ليس شيئا مستقلا في قبال القيد، بل هو
أمر ينتزع عنه، ومن البديهي أن وجود الامر الانتزاعي بوجود منشأ
انتزاعه، أمكن أن يقال: بكون القيود مأمورا بها بنفس الامر المتعلق
بالمأمور به، لا بأمر غيري ترشحي، كما في سائر أجزأ المأمور به،
حيث ذكرنا سابقا أنها تكون مأمورا بها بالامر الضمني الانبساطي
لا الغيري الترشحي.
و بالجملة: وجود القيد بعينه وجود للتقيد الذي هو جز تحليلي
للمأمور به، فلا محالة يصير القيد بما أنه وجود للتقيد واجبا بالوجوب
النفسي الضمني.
القسم الثاني:
ما يكون دخيلا في انطباق عنوان المأمور به على معنونه، وذلك إنما
يتصور فيما إذا كان المأمور به من العناوين الانتزاعية التي يكون
وجودها بوجود منشأ انتزاعها، فإنه يمكن حينئذ - بحسب مقام
الثبوت - أن يكون لوجود بعض الأشياء في ظرف وجوده دخالة في
انتزاع هذا العنوان المأمور به عن منشئه وانطباقه عليه، وذلك
كالصلاة أيضا، فإنه من الجائز أن تكون الصلاة المأمور بها أمرا بسيطا
ينتزع عن الافعال والأقوال المخصوصة من التكبير إلى التسليم، ولكن
يكون للوضوء المتقدم مثلا أيضا دخل في انتزاع هذا العنوان
البسيط عن هذه الأفعال والأقوال.
وحينئذ كما يمكن أن يكون لبعض الأمور المقارنة دخل في انتزاع
العنوان عن معنونه، كذلك يمكن دخالة بعض الأمور المتقدمة أو
المتأخرة كالاستقبال مثلا، فإن قدوم المسافر المستقبل دخيل في
انطباق عنوان الاستقبال على مشي من أراده، مع كون هذا القدوم
متأخرا عن هذا المشي.
والسر في ذلك أن الوجود المتأخر مثلا ليس من أجزأ علة الوجود
المتقدم حتى لا يجوز تأخره عنه، بل غاية ما يكون، أن له نحو دخالة
في انطباق عنوان خاص على ذلك الوجود المتقدم.
وكيف كان ففي كلا القسمين - اللذين ذكرنا لشرائط المأمور به - لا
يلزم انخرام القاعدة العقلية، لعدم كون الشرائط شرائط لوجوده.
وبعبارة أخرى: ليس المراد بالشرط في المقام، الذي هو أحد من
أجزأ علة الوجود، بل المراد به قيد المأمور به أو ما يكون دخيلا في
انتزاع عنوانه عن معنونه.
166

نعم، لا ينكر أنه يمكن أن يكون بعض الأمور المسماة بالشروط من
أجزأ علة الوجود للمأمور به، ولكن ليس لنا في هذا القسم من
الشروط شرط يكون متأخرا في الوجود.
هذا مضافا إلى ما ذكرناه من أن حكم العقل بلزوم التقارن منحصر في
العلة التامة وفي غيرها لا دليل عليه، فتدبر.
167

الأمر الثالث:
تقسيمات الواجب
1 - الواجب المطلق والمشروط:
إن الواجب إما مطلق أو مشروط وقد عرفا بتعاريف لا يهمنا ذكرها و
النقض والابرام فيها، والأحسن ما ذكره شيخنا الأستاذ في
الكفاية، وتوضيحه: أن وصفي الاطلاق والاشتراط وصفان إضافيان،
فلا يتواردان على موضوع واحد من جهة واحدة فإنه مقتضى تقابل
المتضايفين، ولكن يجوز صدقهما معا على موضوع واحد بجهتين.
وعلى هذا فكل واجب إذا لوحظ بالإضافة إلى شي آخر فإما أن
يكون وجوبه مشروطا بوجود ذلك الشئ، بحيث يتوقف وجوبه على
وجوده، وإما أن لا يكون كذلك بأن لا يكون لوجود ذلك الشئ دخل
في وجوبه وإن كان دخيلا في وجوده، فعلى الأول يكون الواجب
بالإضافة إلى هذا الشئ مشروطا، وإن كان بالإضافة إلى شي آخر
مطلقا.
وعلى الثاني يكون الواجب بالإضافة إلى هذا الشئ مطلقا وإن كان
بالإضافة إلى شي آخر مشروطا، فكل واجب مشروط بالنسبة إلى
بعض الأشياء ولا أقل من الشرائط العامة، ومطلق بالنسبة إلى أشياء
أخر، فالاطلاق والاشتراط، نظير الأبوة والبنوة لا يجتمعان في
شي واحد من جهة واحدة، ولكن يجتمعان من جهتين.
واعلم: أن الشرط في الواجب المشروط يمكن أن يكون من
المقدمات الوجودية للواجب أيضا كالقدرة، ويمكن أن لا يكون منها،
كالاستطاعة الشرعية في الحج.
وأما ما تراه في كلام بعضهم من تعريف الواجب المشروط بما يتوقف
وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده فليس مرادهم من ذلك حصر
مقدمة الوجوب في المقدمات الوجودية، بل لما كان محط كلامهم
مسألة وجوب المقدمة - ولا محالة يكون هذا البحث في المقدمات
168

الوجودية للواجب - أرادوا أن ينبهوا على أن النزاع في وجوب
المقدمات الوجودية إنما هو في غير ما يكون منها مقدمة للوجوب
أيضا،
فإن ما كان منها كذلك لا يمكن ترشح الوجوب من ذي المقدمة إليها،
إذ قبل وجودها لا وجوب لذيها، وبعده لا معنى لترشح الوجوب
إليها لاستلزامه تحصيل الحاصل، وبالجملة تعريفهم هنا للواجب
المشروط ليس لغرض التعريف حتى يجب كونه جامعا ومانعا، بل كان
غرضهم استثناء بعض المقدمات الوجودية من محل النزاع في مسألة
وجوب المقدمة.
رجوع القيد إلى المادة أو الهيئة:
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: إذا وردت جملة شرطية وكان جزاؤها أمرا
أو نهيا أو نحوهما مما يدل على طلب وجود الفعل أو تركه مثل
أن يقول المولى: (إن جاءك زيد فأكرمه) ففيها بالنظر البدوي احتمالان:
الأول: أن يكون الشرط قيدا لمفاد هيئة الامر أو النهي وهو الطلب أو
الزجر الحتمي بأن يكون الطلب والوجوب مثلا مقيدا، والمتعلق
أعني الاكرام مطلقا، فيكون حاصل معنى الكلام أنه يجب عليك عند
مجئ زيد الاكرام، ولازم ذلك أن الشرط إن كان لا يتحقق أبدا فلا
وجوب أصلا، وعلى فرض تحققه في زمان فلا وجوب قبل تحققه،
بل الوجوب يتحقق بعد تحققه، إلا إذا اعتبر على نحو الشرط المتأخر.
الثاني: أن يكون قيدا لمفاد مادة الامر أو النهي أعني الاكرام مثلا، و
يكون مفاد الهيئة مطلقا، فيكون مفاد الكلام المذكور أنه يجب عليك
الاكرام المقيد بكونه عند مجئ زيد، فالوجوب مطلق غير مقيد
بمجئ زيد، ولكنه تعلق بالاكرام المقيد، فالوجوب يتحقق بنفس
الانشاء
جاء زيد أو لم يجئ، هذا بحسب مقام الثبوت.
وأما في مقام الاثبات فاختار المشهور رجوع القيد إلى الهيئة وصيرورة
الوجوب في أمثال ذلك مشروطا بحصول الشرط، وقال
شيخنا الأنصاري (قده) على ما في تقريرات بعض الأعاظم المقرر
لبحثه: إن مقتضى القواعد العربية وإن كان رجوع القيد إلى الهيئة
كما اختاره المشهور ولكن مقتضى الدقة والتحقيق إرجاعه إلى المادة.
وحاصل ما يوجد في كلامه من الاستدلال عليه وما يمكن أن
يستدل به لمرامه أمور:
الأول: الدليل اللبي وقد استدل به هو (قده) وحاصله أن كل من توجه
إلى فعل من الافعال
169

ولحظه بحدوده وأطرافه فإما أن يتعلق غرضه به مطلقا بأي وجه
حصل وفي أي زمان وجد، وإما أن لا يتعلق غرضه به على إطلاقه، بل
يتعلق به مقيدا بكونه في زمان خاص أو مكان خاص، أو بكون حصوله
على وجه خاص، فالاطلاق والتقييد إنما يقعان - بحسب مقام
الثبوت - فيما يتوجه إليه النفس ويتعلق به الغرض وهو نفس الفعل
المأمور به.
الثاني: أن الانشاء عبارة عن الايجاد ولا يعقل وقوع التعليق في
الايجاد.
الثالث: أن هيئة الأمر والنهي موضوعان - بالوضع العام والموضوع له
الخاص - لخصوصيات الطلب وجزئياته لا لمفهوم الطلب، وإذا
كان الموضوع له للهيئة معنى جزئيا، فكيف يتصور تقييدها، إذ
الاطلاق والتقييد إنما يجريان في المفاهيم الكلية.
الرابع: أن مفاد الهيئة - وهو الطلب - معنى حرفي غير ملحوظ
استقلالا، كما عرفت ذلك سابقا، وإنما يتعلق به اللحاظ الاندكاكي في
ضمن لحاظ متعلقه كسائر المعاني الحرفية، والشي ما لم يتوجه إليه
النفس ولم يلحظه مستقلا لم يعقل تقييده، إذ التقييد متوقف على
لحاظ المطلق أولا
نقل جواب الشيخ عن إشكال في المقام ونقده:
ثم إنه (قده) توجه إلى إشكال في المقام وهو أن الطلب المطلق إذا
تعلق بفعل مقيد بقيد اختياري كان مقتضي إطلاق الطلب إيجاد المقيد
ولو بإيجاد قيده.
وعلى هذا فيلزم على ما ذكره (قده) - من إرجاع القيد مطلقا إلى
المادة وإبقاء الطلب بإطلاقه - وجوب تحصيل الاستطاعة في باب
الحج مثلا مع كونه مخالفا لضرورة الدين. وحيث توجه إلى ورود هذا
الاشكال تصدى لدفعه.
وحاصل ما ذكره في دفعه: أن الأحكام الشرعية لما كانت على مذاق
العدلية تابعة للمصالح والمفاسد الكامنة في المتعلقات، وكانت
المصالح والمفاسد مما تختلف بالوجوه والاعتبارات:
فتارة: يكون الفعل المقيد بقيد خاص ذا مصلحة سواء كان قيده متعلقا
للتكليف وأتي على وجه الامتثال أو لم يكن متعلقا له ولم يؤت
كذلك.
وأخرى: يكون الفعل المقيد بقيد خاص ذا مصلحة بشرط أن يكون
قيده مكلفا به ومأتيا على وجه الامتثال بحيث يكون وقوع القيد تحت
الامر وإتيانه على وجه الامتثال أيضا دخيلا في حسن الفعل المقيد و
صيرورته ذا مصلحة، نظير الصلاة المقيدة بالطهارات
170

الثلاث العبادية.
وثالثة: يكون الفعل المقيد بقيد خاص ذا مصلحة بشرط أن لا يكون
قيده واقعا تحت الامر، بحيث يكون لكون القيد غير مكلف به دخل
في كون المقيد حسنا وذا مصلحة، فلا محالة يجب على المولى في
الصورة الثالثة الامر بالقيد بنحو لا يسري إلى قيده ولا يصير تحصيله
واجبا، وعلى هذا فيمكن أن يكون مثال الحج ونظائره من هذا القبيل،
فالقيد فيها على طريق المعاكسة مع الواجبات التعبدية وقيودها
التعبدية، فكما أن للامر والتكليف دخلا في صيرورتها ذات حسن و
مصلحة، فكذلك يكون لعدم تعلق التكليف بالقيد دخل - فيما نحن
فيه - في صيرورة المقيد بهذا القيد ذا مصلحة، وحينئذ فيجب على
المولى الامر بالمقيد المشتمل على المصلحة، ولكن بنحو لا يسري
أمره إلى القيد (انتهى).
أقول: وفي بيانه (قده) نظر، إذ كون شي مأمورا به يمكن أن يكون
دخيلا في حسنه وصيرورته ذا مصلحة لجواز أن يكون تعلق الامر
به موجبا لطرو عنوان به يصير حسنا وذا مصلحة كعنوان الامتثال مثلا،
حيث إنه لا ينطبق على فعل إلا بعد كونه مأمورا به وإتيانه
بداعي هذا الامر، وهذا بخلاف ما نحن فيه، فإن عدم تعلق الامر لا
يعقل أن يكون دخيلا في اشتمال الفعل على المصلحة، وهل يقبل
وجدانك أن يكون فعل من الافعال ذا مصلحة ويكون تعلق الامر به
موجبا لخروجه من كونه كذلك؟.
وبالجملة: فنحن لا نتعقل أن يكون لعدم التكليف بشئ دخل في
كونه ذا مصلحة.
إلفات إلى ما حررناه سابقا:
قد حررنا فيما علقناه سابقا على كفاية شيخنا الأستاذ العلامة (قده)
بعض ما يناسب المقام فالأنسب نقله بألفاظه: قوله (دام علوه) فإنه
جعل الشئ واجبا على تقدير حصول ذاك الشرط إلخ. أقول: لا يخفى
أن هذا التعليل لا يلائم القول بإطلاق الهيئة ورجوع القيد إلى
المادة، فإن معناه عدم الوجوب على تقدير عدم حصول الشرط، و
مقتضى عدم تقييد الهيئة هو ثبوت الوجوب وجد هذا القيد أم لم
يوجد.
وبعبارة أخرى: مقتضى التعليل عدم استحقاق العقوبة على تقدير
عدم الواجب بترك القيد المذكور إذا كان اختياريا، ومقتضى إطلاق
الوجوب وتقييد الواجب أنه واجب سواء وجد أم لم يوجد نعم، إذا
كان غير اختياري لا يستحق عقوبة على تقدير عدمه، هذا مضافا إلى
أن
تقييد
171

الواجب بأمر اختياري مع إطلاق الوجوب يستلزم سراية الوجوب إليه
على القول بالملازمة، بل وعلى القول بعدمها بناء على ما تقدم من
كون القيد كالجز في كونه واجبا بنفس وجوب المقيد، فكيف يمكن
عدم وجوب القيد مع وجوب المقيد؟ وهذا واضح.
نعم يستفاد من تقريرات بعض أفاضل تلامذة الشيخ (ره) وجه آخر
لعدم سراية الوجوب إليه، وهو أنه كما يمكن أن يكون فعل ذا
مصلحة مطلقا، ويمكن أن يكون ذا مصلحة إذا وجد متعلقا للتكليف
كالعبادات، كذا يمكن أن يكون ذا مصلحة إذا وجد غير متعلق
للتكليف، إما بتمامه أو ببعض قيوده ومقدماته، وحينئذ لا بد من عدم
الامر به مطلقا إن كان عدم التكليف به بقول مطلق دخيلا في
ترتب المصلحة عليه، أو الامر به مع عدم إسراء الايجاب إلى القيد إن
كان عدم التكليف بالقيد معتبرا في ترتبها وحينئذ لا بد من عدم
سراية الوجوب إلى القيد لكونه نقضا لغرضه، وهو أيضا لا يخلو عن
الاشكال، لأنه إن فرض كون الغرض والمصلحة مترتبا على الفعل
المقيد بالقيد الذي يوجد قيده غير متعلق للتكليف، لزم عدم الامر
بالمقيد، إذ تعلقه به مستلزم لكون القيد متعلقا له بناء على كونه
كالجز. نعم بناء على كونه كالمقدمات العقلية الخارجية وإرجاع
المقيد إلى عنوان بسيط موقوف على وجود القيد توقف المعلول على
علته، أمكن دعوى عدم السراية، بدعوى أن الملازمة إنما تكون بين
وجوب الشئ ووجوب مقدماته إذا كانت قابلة له، وفيما نحن فيه
ليست المقدمة قابلة له، لكونها مقيدة بعدم الامر، فيلزم من وجوبها
اجتماع النقيضين. لكن لا يخفى أن الامر بالمقيد، وإن لم يسر إلى
القيد بأحد الوجهين، لكن العقل يحكم بلزوم إتيانه لاطاعة إيجاب ذي
المقدمة والتخلص من تبعه مخالفته [1] لان الفرض أنه مطلق
فيحكم إرشادا بلزوم تحصيله لتنجز الامر المطلق بما يتوقف عليه و
استلزام تركه لامتناع الواجب المطلق المتوقف عليه، وهذا لا يرتفع
إلا بدعوى تقييد الوجوب بوجود هذا القيد، ولو بنحو الشرط المتأخر
(انتهى ما أردنا نقله عن التعليقة).
[1] والحاصل أنه بعد ما فرض كون الفعل المقيد بالقيد الذي لم يتعلق
به التكليف مشتملا على مصلحة، وقد فرض أيضا عدم سراية
الوجوب إلى القيد كان شرط القيد هو عدم تعلق التكليف به حاصلا
قهرا، فالعبد يتمكن فعلا من إتيان الفعل الواجد للمصلحة الذي أمر به
المولى، ولا يلزم أن يكون مقدمته واجبة بالوجوب الشرعي بل
اللابدية العقلية كافية في كون المكلف ملزما بإتيانها، ليتمكن بها من
ذيها الواجب على نحو الاطلاق. ح - ع - م.
172

التحقيق في المقام:
هذه خلاصة ما قيل في المقام وإن شئت تحقيق المسألة فاعلم أن
اللازم أولا هو الرجوع إلى مقام الثبوت، وبيان ما هو الملاك في تقييد
المادة وما هو الملاك في تقييد الهيئة، والتأمل في أنه هل يتصور -
بحسب مقام الثبوت - كون مفاد الهيئة مقيدا أو لا يتصور؟ فنقول، و
عليه التكلان: إن الأوامر الشرعية المتعلقة بأفعال المكلفين ليست
جزافية بضرورة من مذهب العدلية، بل كل واحد من الأوامر الشرعية
قد صدر عن الشارع، إما من جهة كون متعلقه مشتملا على مصلحة
ملزمة أريد إيصالها إلى العبد، أو من جهة كون المتعلق رافعا للمفسدة
الحاصلة للعبد أو دافعا للمفسدة المتوجهة إليه، وحينئذ فقد يرى
المولى أن الفعل الكذائي على إطلاقه وبأي وجه حصل مشتمل على
المصلحة أو رافع لمفسدة موجودة أو دافع لمفسدة متوجهة، فحينئذ
يأمر به مطلقا غير مقيد بشئ من القيود، وقد يرى أن الفعل الكذائي
حال كونه مقيدا بقيد خاص مشتمل على المصلحة أو رافع أو دافع
للمفسدة فلا محالة يأمر به حينئذ مقيدا بالقيد الذي يكون دخيلا في
اشتماله على المصلحة أو رفعه أو دفعه للمفسدة، فملاك تقييد المادة
في مقام الثبوت هو أن يكون المشتمل على المصلحة أو الرافع أو
الدافع للمفسدة عبارة عن الفعل المقيد بقيد خاص لا نفس الفعل
على إطلاقه.
موارد رجوع القيد إلى الهيئة:
وأما تقييد الهيئة فإنما يتصور بملاكه في موضعين:
الموضع الأول:
أن يكون الغرض من الامر دفع المفسدة المتوجهة، أو رفع المفسدة
الموجودة، ولكن كانت المفسدة أمرا يوجد على تقدير خاص، إما
لان هذا التقدير الخاص بنفسه جالب للمفسدة وإما لكونه ملازما لما
يوجب المفسدة، فحينئذ يجب أن يكون طلب المولى وبعثه نحو
العمل - الذي أريد به دفع المفسدة - مقيدا بتحقق هذا التقدير، إذ في
غير هذا التقدير لا ملاك لبعثه، ومثال ذلك في الأوامر الشرعية في
غاية الكثرة، كقوله: (إن ظاهرت فأعتق رقبة)، أو (إن أصبت الصيد في
الحرم فعليك كذا) مثلا، فإن الشارع لما رأى أن الظهار مثلا أمر
جالب للمفسدة، أو ملازم لما يجلبها، وكان غرضه إنجاء العبد من
المفسدة المتوجهة إليه إما بتمام مراتبها أو ببعضها فلا محالة تعلق
طلبه بما هو دخيل في إنجاء العبد وتخليصه من المفسدة كالعتق مثلا،
ولكن لما كان
173

توجه المفسدة على تقدير الظهار دون غيره كان عليه تقييد طلبه
المتعلق بالعتق بصورة وجود الظهار، إذ في غيرها لا مفسدة، حتى
يريد دفعها أو رفعها، ولا مورد في هذا المقام لارجاع القيد إلى المادة،
أعني العتق، لما ذكرناه من أن تقييد المطلوب إنما يصح فيما إذا
كان القيد دخيلا في كون المطلوب ذا مصلحة أو رافعا أو دافعا
للمفسدة، وفيما نحن فيه ليس كذلك، فإن الرافع للمفسدة التي تتوجه
على تقدير الظهار إنما هو نفس العتق، لا العتق المقيد بالظهار، لان
الظهار كان جالبا للمفسدة، فلا يعقل دخالته في رفع أثر نفسه.
وإن شئت وضوح ذلك فانظر إلى المثال المعروف في هذا المقام،
فإذا قال الطبيب: (إذا زادت الصفراء فعليك بالسقمونيا) مثلا فهل
يكون الرافع لمرض المريض المبتلى بكثرة الصفراء هو السقمونيا
المقيد بازدياد الصفراء، بحيث يكون جالب المفسدة أيضا دخيلا في
رفعه، أو يكون الرافع له هو نفس السقمونيا على إطلاقه، غاية الأمر أن
أمر المريض باستعماله لما كان لغرض إنجائه من المرض
المتوجه إليه كان اللازم على الطبيب أمر المريض باستعماله على
تقدير ازدياد الصفراء بحيث يكون البعث في هذا التقدير فقط، لعدم
وجود الملاك - أعني توجه المفسدة - في غير هذا التقدير، حتى
يبعث المريض إلى ما يدفعها؟ وبالجملة: القيد في تلك المقامات لا
بد
من أن يرجع إلى الهيئة.
الموضع الثاني:
أن يكون الغرض من الامر إيصال العبد إلى مصلحة اشتمل عليها الفعل
بإطلاقه ولكن. كان هناك مانع عن البعث نحو ذلك الفعل، إلا
على تقدير خاص، ففي هذا المقام أيضا يجب - في مقام الثبوت -
تقييد الهيئة لا المادة، إذ المفروض أن مفاد المادة أعني المطلوب
بإطلاقه مشتمل على المصلحة الموجبة للامر، غاية الأمر، أن البعث
إليه لما كان مبتلى بالمانع على بعض التقادير، فلا محالة وجب على
المولى تقييد مفاد الهيئة، أعني البعث والطلب وتخصيصه بصورة
عدم وجود المانع المخصوص، ومثال هذا القسم جميع التكاليف
الشرعية بالنسبة إلى الشرائط العامة، أعني البلوغ والعقل والقدرة، فما
اشتمل على المصلحة إنما هو نفس الصلاة مثلا لا الصلاة المقيدة
ببلوغ المكلف أو قدرته، فلا مجال لتقييد المادة حينئذ، بل الواجب
على المولى حينئذ تقييد مفاد الهيئة، أعني البعث لوجود المانع عن
إطلاقه، وهو قصور المكلف عن الانبعاث.
ومن أمثلة هذا القسم أيضا، الحج المشروط بالاستطاعة فإن المشتمل
على المصلحة إنما هو نفس الحج، عن أي شخص صدر، ولو من
المتسكع، لا الحج المشروط بالاستطاعة ولكنه لما كان
174

البعث إليه مطلقا موجبا للعسر الشديد، بل كان موجبا لخروج أكثر
المكلفين من ربقة الإطاعة، فلا جرم كان على المولى من باب اللطف
تخصيص بعثه بمن لا يعسر عليه.
ومثل ذلك أيضا الزكاة المشروطة بالنصاب مثلا، إذ المشتمل على
المصلحة أيضا هو نفس الزكاة، لا الزكاة المقيدة بالنصاب، ولكن لما
كان البعث إليها مطلقا موجبا للعسر كان على المولى تخصيصه بصورة
مالكية النصاب، وهكذا. وبالجملة، في هذين الموضعين لا مجال
لتقييد مفاد المادة، إذ الفرض أنه بإطلاقه مشتمل على المصلحة أو
دافع أو رافع للمفسدة.
إذا عرفت ما ذكرناه في مقام الثبوت - من صور تقييد الهيئة - فنحن
في مقام الاثبات في غنى وكفاية عن الاستدلال، لظهور الجمل
الشرطية في تقييد الهيئة، كما لا يخفى على من له دراية بالقواعد
العربية والاستظهارات العرفية، بل قد عرفت اعتراف الشيخ (ره) أيضا
بأن مقتضى القواعد العربية إرجاع القيد إلى الهيئة، ووجهه ظاهر، فإن
الظاهر من قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه) تعليق مفاد جملة
الجزاء - أعني وجوب إكرام زيد - على مجيئه، وهذا المعنى مما
يفهمه أهل العرف من الجمل الشرطية وعليه مدار مخاطباتهم، فإنهم
كما
يحتاجون في مكالماتهم في بعض الأوقات إلى تقييد المادة، فقد
يحتاجون أيضا إلى تقييد الهيئة، لعدم تمكنهم من البعث الفعلي في
بعض
المقامات. وما ذكر من الاستدلال على عدم جواز تقييد الهيئة شبهات
في قبال البداهة، فإن المرجع في تشخيص المرادات من الألفاظ
المستعملة هو فهم أهل العرف المستعملين لها، وهم يفهمون من
الجمل الشرطية بالبداهة رجوع القيد فيها إلى الهيئة، هذا مضافا إلى أن
ما ذكر - من أن الهيئة لا تقبل التقييد من جهة أنها وضعت للانشاء، و
هو أمر لا يقبل التقييد - يمكن أن يذب عنه بأن الانشاء وإن كان لا
يقبل ذلك، إلا أن المراد من إرجاع القيد إلى الهيئة ليس تقييد الانشاء،
بل تقييد المنشأ، فالمنشأ هو الطلب على تقدير، وأما الانشاء فلا
تقييد فيه أصلا، كما يمكن أن يذب عن القول باستحالة تقييد مفاد
الهيئة - من جهة كونه جزئيا - بأن ما ذكرت مسلم إن أريد إيجاده
أولا غير مقيد ثم تقييده بعد الايجاد، وأما إذا أنشأ من أول الأمر مقيدا،
فلا إشكال فيه لعدم منافاة ذلك لجزئية وخصوصيته.
توجيه كلام الشيخ:
نعم يمكن أن يقال: إن نظر الشيخ (قده) في القول بكون القيود
بأجمعها راجعة إلى المادة
175

إلى ما ذكرناه سابقا من الفرق بين إنشاء الطلب بمثل (اضرب) وبين
إنشائه بمثل (أطلب وآمر) ونحوهما، حيث إن مفهوم الطلب
ملحوظ في الثاني استقلالا، لأنه الموضوع له للفظ، بخلاف الأول، فإنه
لم يوضع لمفهوم الطلب، بل وضع لنسبة الفعل إلى فاعله، والطلب
فيه من أنحاء الاستعمال، وقد تعلق به اللحاظ آليا.
وبعبارة أخرى: قد وضعت الصيغة لنسبة صدور الفعل إلى الفاعل، و
لكن المستعمل يلحظ هذا المعنى ويتوجه إليه توجه من يريد شيئا
ويطلبه، فالطلب مغفول عنه، والملتفت إليه عبارة عما هو الموضوع
له، والصيغة لم تستعمل لانشاء الطلب، بل هي مستعملة، في النسبة
الخاصة، ويصير طلبا بالحمل الشائع من دون أن يكون الطلب
بمفهومه ملحوظا حين الاستعمال وحينئذ فلا يعقل تقييده لتوقفه
على
لحاظ كل من القيد والمقيد، فتدبر.
تكميل: الواجب المشروط على قسمين:
الأول:
أن يكون شرط الوجوب متقدما بالنسبة إلى مشروطه، أعني الوجوب
بمعنى عدم ثبوت الوجوب قبل وجود شرطه، مثل وجوب الحج
المتأخر ثبوتا عن الاستطاعة.
الثاني:
أن يكون شرط الوجوب أمرا متأخرا بالنسبة إلى مشروطه، وذلك بأن
يكون الوجوب متوقفا على أمر استقبالي متأخر، مثال ذلك
قدرة المكلف التي هي من الشرائط العامة لجميع التكاليف، فإن القدرة
المعتبرة في التكليف ليست هي القدرة حين التكليف، لجواز تعلق
التكليف بالعاجز حين التكليف، القادر حين العمل، بل المراد بالقدرة
التي هي من الشرائط العامة، هي القدرة حين العمل، ولازم ذلك
كون التكليف مشروطا بأمر متأخر، بمعنى أن المكلف إن كان يقدر في
متن الواقع على العمل في ظرفه، فالتكليف ثابت له من أول الأمر
، وإن كان لا يقدر حين العمل، فليس بثابت له من أول الأمر،
فافهم وكن منه على ذكر، حتى يتبين لك عدم الاحتياج إلى تصوير
الواجب المعلق بمعنى ذكره صاحب الفصول.
تصوير الواجب المعلق
قال (ره) بعد ما قسم الواجب إلى المطلق والمشروط ما حاصله
بتوضيح منا: إنه ينقسم الواجب باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه
بالمكلف ولا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له
176

كالمعرفة، وليسم منجزا، وإلى ما يتعلق وجوبه به ويتوقف حصوله
على أمر غير مقدور له، وليسم معلقا كالحج، فإن وجوبه يتعلق
بالمكلف من أول زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة، ولكن يتوقف فعله
على مجئ وقته، وهو أمر غير مقدور للمكلف. والحاصل، ان
الواجب المعلق ما كان حصوله متوقفا على أمر غير مقدور للمكلف،
كالوقت من غير أن يكون الوجوب مشروطا به، فالوجوب بالنسبة
إلى هذا الامر مطلق والواجب مقيد.
فإن قلت: الفعل المقيد بوقت استقبالي كيف يكون واجبا مطلقا قبل
حصول وقته مع كونه تكليفا بما لا يطاق، فإن الفعل المقيد بوقت
استقبالي لا يمكن تحصيله قبل ذلك الوقت، فكيف يتعلق الوجوب به
قبله؟.
قلت: ليس مرادنا من ثبوت الوجوب قبل الوقت كون الزمان القبل ظرفا
للوجوب والفعل كليهما، بل المراد كونه ظرفا للوجوب فقط
فالوجوب حالي والواجب استقبالي.
فإن قلت: إذا كان الوجوب متعلقا بأمر مقيد بوقت استقبالي، فإن كان
الوجوب مشروطا بحصول الوقت وإدراك المكلف إياه جامعا
لشرائط التكليف فهذا معنى كون الوجوب مشروطا بالوقت، بحيث لا
يكون وجوب قبله، وهذا خلاف ما فرضتموه من كون الوجوب
حاصلا قبل الوقت، وإن كان الوجوب مطلقا ثابتا على أي حال من
دون ان يكون مشروطا بالوقت غاية الأمر كون متعلقه أمرا استقباليا
كان لازم ذلك ثبوت الوجوب حتى بالنسبة إلى من لا يدرك الوقت أو
يدركه غير قادر على الفعل.
قلت: الوجوب بالنسبة إلى نفس الوقت مطلق غير مشروط به، فهو
حاصل قبله، ولكنه مشروط بأمر انتزاعي ينتزع عن إدراك المكلف
الوقت واجدا لشرائط التكليف، وهذا الامر الانتزاعي مقارن للوجوب
وإن كان المنتزع عنه متأخرا عنه، وبعبارة أخرى: ما هو شرط
للوجوب ليس هو الوقت بل هو عبارة عن كون المكلف بحيث يدرك
الوقت قادرا على العمل، فمن لا يدرك الوقت أو يدركه عاجزا عن
العمل لم يتوجه إليه الوجوب من أول الأمر، ومن يدركه قادرا على
العمل كان الوجوب ثابتا له من أول الأمر قبل حصول الوقت لحصول
شرطه، أعني الامر الانتزاعي المشار إليه.
وبالجملة: الوجوب في الواجب المعلق مطلق بالنسبة إلى نفس
الوقت ومشروط بالنسبة إلى الامر الانتزاعي.
ثم قال (قده) ما حاصله: إنه من هذا القبيل كل واجب مطلق توقف
تحصيله على إتيان
177

مقدمات يحتاج تحصيلها إلى مرور زمان كالصلاة المشروطة بالطهارة،
فمن أدرك الوقت غير متطهر، ثبت عليه وجوب الصلاة من
أول الوقت، إن كان بحيث تثبت له القدرة في زمان يمكن فيه تحصيل
الطهارة والصلاة بشرائطها، وإن لم يكن كذلك في متن الواقع
فليس الوجوب ثابتا له من أول الأمر. ومن هذا القبيل أيضا الواجب
الذي توقف حصوله على أمر مقدور للمكلف، ولكن لم يمكن تعلق
التكليف بهذا الامر المقدور من جهة كونه محرما شرعيا. [1]
وبعبارة أخرى: الواجب الذي توقف حصوله على أمر غير مقدور
شرعا، وإن كان مقدورا عقلا كالوضوء من الماء المباح الكائن في
الآنية المغصوبة مع الانحصار، فإنه واجب على المكلف من أول الأمر
إن كان المكلف - في متن الواقع - ممن يقدم على المعصية و
الاغتراف من الآنية المغصوبة (انتهى كلامه (قده) في الواجب المعلق
ملخصا).
أقول: والقسم الأخير الذي ذكره (قده) عبارة عن مسألة الترتب
المعروفة، وقد اتضح لك من كلامه أن الوجوب في الواجب المعلق
ليس
مطلقا بنحو الاطلاق، بل هو مطلق بالنسبة إلى الامر الاستقبالي و
مشروط بالنسبة إلى الامر الانتزاعي المنتزع عن إدراك المكلف هذا
الامر الاستقبالي واجدا لشرائط التكليف، وعلى هذا فعد الواجب
المعلق - على نحو الاطلاق - من أقسام الواجب المطلق أمر واضح
الفساد، وليس في كلامه (قده) أيضا ما يدل على أنه عده من أقسامه،
فالتقسيم إلى المنجز والمعلق في عرض التقسيم إلى المطلق و
المشروط، وكأن بعض أفاضل العصر لم يلحظ كلام صاحب الفصول
من الصدر إلى الذيل، فتخيل بعضهم أن صاحب الفصول قسم
الواجب إلى المطلق والمشروط، ثم قسم المطلق إلى المنجز و
المعلق. وتوهم آخر أن صاحب الفصول قسم الواجب ثلاثيا إلى
المطلق و
المشروط والمعلق، وقد تبين لك أنه ليس هنا تقسيم واحد، بل
تقسيمان في عرض واحد، لا يرتبط أحدهما بالاخر. نعم الواجب
المعلق
على تفسيره (قده) مشروط دائما، لاشتراطه بالامر الانتزاعي المنتزع
عن إدراك المكلف الوقت جامعا
[1] أقول: تخصيص هذا القسم بالمقدمات المحرمة بلا وجه، لامكان
أن يكون الوجوب الحالي متعلقا بأمر توقف حصوله على أمر مقدور
للمكلف، ولكن أخذ على نحو لا يتعلق التكليف بهذه المقدمة.
فالوجوب في هذا القسم أيضا مشروط بأمر انتزاعي حالي، وهو كون
المكلف بحيث تتحقق له هذه المقدمة حال كونه واجدا لشرائط
التكليف حين تحققها له، وهذا مثل أن يقول المولى للعبد: إن كنت
ممن
يحصل له الاستطاعة في المستقبل فالان يجب عليك الحج وحينئذ
يجب تحصيل المقدمات الوجودية غير المعلق عليه، إن كان يعلم
بحصوله في ظرفه ح - ع - م.
178

لشرائط التكليف، ولكن هذا غير تثليث الاقسام أو كون أحد
التقسيمين في طول الاخر.
وبالجملة: المعلق عنده مشروط من جهة ومطلق من جهة أخرى، فلا
يمكن عده (بالضرس القاطع) من أحدهما فقط.
كلام صاحب الفصول لا يدفع إشكال المقام:
والداعي له على تصوير الواجب المعلق - بنحو ذكره - هو ما رآه من
كون الوجوب - في هذه الأمثلة التي ذكرها ونظائرها - مرتبطا
بالامر الاستقبالي مع كونه ثابتا قبله، وعدم تصويره للشرط المتأخر
أيضا، والدليل على ثبوت الوجوب قبلا وجوب تحصيل المقدمات
الوجودية للواجب، إن كان المكلف يعلم بكونه واجدا لشرائط
التكليف حين حصول المعلق عليه.
وأما نحن ففي غنى عن تصوير الواجب المعلق بعد تصوير الشرط
المتأخر، فكل ما هو واجب معلق بنظر صاحب الفصول (ره) فهو
عندنا
واجب مشروط بشرط متأخر، بحيث يكون الوجوب ثابتا قبل الشرط
إن كان الشرط - في متن الواقع - يتحقق في طرفه.
وإن أبي (قده) جواز كون الشرط متأخرا عن المشروط، فما ذكره أيضا
- من اشتراط الوجوب في الواجب المعلق بأمر انتزاعي منتزع
عن إدراك المكلف الوقت واجدا لشرائط التكليف - أمر لا يغني عن
جوع، فإن الشرط بوجوده يؤثر في المشروط، ووجود الامر
الانتزاعي بوجود منشأ انتزاعه، والمفروض أنه أمر متأخر، وهو إدراك
المكلف الوقت واجدا لشرائط التكليف، فلزم تأثير المتأخر في
المتقدم فهو (ره) قد كر على ما فر منه.
ثم إنه يمكن أن يستشكل على صاحب الفصول بأن وجوب تحصيل
المقدمات في الواجب المعلق قبل حصول المعلق عليه مع علم
المكلف،
بكونه واجدا لشرائط التكليف حين حصوله، أمر مسلم ولكنه لا أثر
لذلك في الأغلب، فإن الأغلب عدم علم المكلفين بكونهم واجدين
للشرائط عند حصوله. ويمكن أن يذب عنه بأنه مع الشك أيضا يجب
تحصيل المقدمات إن كان المكلف حين شكه واجدا للشرائط،
لاستصحاب الحالة الموجودة إلى زمن حصول المعلق عليه، وتأخر
زمان المشكوك فيه عن زمن إجراء الاستصحاب لا يضر بعد كون
الشك حاليا.
تذنيب: المقصود من تصوير الواجب المعلق:
اعلم أن المقصود من تصوير الواجب المعلق تصحيح وجوب
مقدمات ثبت وجوبها مع
179

عدم وصول زمان الاتيان بذيها، كالحكم بوجوب الغسل في ليالي شهر
رمضان قبل طلوع الفجر، مع كون زمان الصوم من الفجر إلى
الليل، وكوجوب طي المسافة للحج قبل وصول ذي الحجة، و
كوجوب شراء الزاد والراحلة قبله، وقد صارت هذه الموارد ونظائرها
موجبة للتحير والاشكال.
تقريب الاشكال: أنه كيف تجب المقدمة مع عدم وجوب ذيها من
جهة عدم وصول وقته، فتفصى صاحب الفصول عن هذا الاشكال
بتصوير الواجب المعلق، فالوجوب عنده في هذه الموارد حالي و
الواجب استقبالي، وقد عرفت منا عدم الاحتياج إلى تصوير الواجب
المعلق، بل يمكن أن يقال إن الوجوب مشروط بنفس الامر
الاستقبالي، ولكن بنحو الشرط المتأخر، والشرط المتأخر متصور لما
عرفت
من عدم الدليل على اعتبار المقارنة في غير العلة التامة، وقد عرفت
أيضا أن من أمثلة الشرط المتأخر قدرة المكلف على الفعل، فإنه
شرط متأخر للتكليف، حيث إن المراد منها هي القدرة حين العمل لا
حين الامر.
ويمكن أن يجاب عن الاشكال أيضا بالالتزام بكون المقدمة في هذه
الموارد واجبة بالوجوب النفسي التهيئي، وقد أمر بها الشارع، لئلا
يفوت الواجب حين وصول وقته، ويسمى هذا الوجوب بالوجوب
للغير، ويفترق عن الوجوب الغيري، كما لا يخفى.
2 - الواجب النفسي والغيري
ومن التقسيمات التي ذكروها أيضا للواجب، أنه إما نفسي أو غيري و
قد عرفوهما بما حاصله:
أن الواجب النفسي ما تعلق به الوجوب والبعث لذاته ولما هو هو، و
الواجب الغيري ما تعلق به البعث لا لذاته، بل للتوصل به إلى واجب
آخر كالواجبات المقدمية. واستشكل على التعريفين بما ملخصه: أن
الواجبات النفسية على قسمين: قسم منها ما هو المحبوب ذاتا وصار
حبه الذاتي داعيا إلى البعث نحوه، كوجوب المعرفة مثلا، وقسم منها
ما ليس محبوبا بذاته، بل من جهة ترتب فوائد عليها بها صارت
واجبة مثل الصلاة والصوم، بل وغالب الواجبات الشرعية المبعوثة
إليها، لما فيها من الخواص والآثار.
أما القسم الأول: فهو مما ينطبق عليه تعريف النفسي بلا إشكال.
وأما القسم الثاني فالتعريف لا ينطبق عليه، بل ينطبق عليه تعريف
الغيري، فإنه إن لم تكن غاياتها لازمة الحصول لم تجب، إذ ما هو
المحبوب والمقصود ذاتا من البعث نحو المحصلات، وإن
180

كان يتأخر في الوجود عن جميعها، ولكنه لا بد من أن يتقدم في
سلسلة الإرادة على جميع الإرادات المتعلقة بمحصلاته، فالحب و
الإرادة
يتعلقان أولا بمحبوب ذاتي، فتتولد منهما إرادة البعث نحوه، ثم تتولد
من الإرادة المتعلقة بهذا المحبوب الذاتي إرادة متعلقة بمحصله
فتتولد منها إرادة البعث نحوه، وهكذا إلى آخر سلسلة المحصلات
فإيجابها والبعث نحوها إنما يكون للتوصل بها إلى فوائدها اللازمة،
فانطبق عليها تعريف الغيري.
وقال شيخنا الأستاذ (قدس سره) في الكفاية بعد الإشارة إلى هذا
الاشكال ما حاصله: فإن قلت: محبوبية هذه الفوائد لزوما مما لا ريب
فيها، لكنها لما كانت من الخواص المترتبة على الافعال قهرا، لم يمكن
تعلق الوجوب بها، لكونها غير مقدورة للمكلفين.
قلت: المقدور بالواسطة مقدور أيضا، وهذه الخواص وان لم تكن
بنفسها مقدورة ولكنها مقدورة من جهة ان أسبابها أعني الافعال
الموصلة إليها داخلة تحت القدرة، الا ترى انه يصح التكليف بالتطهير
والتزويج والتمليك ونحوها من المسببات التي لا يقدر عليها أحد
الا بإيجاد أسبابها: من الغسل والعقد ونحوهما، (انتهى)
جواب الكفاية عن إشكال المسألة ونقده:
وأجاب في الكفاية عن أصل الاشكال بما حاصله: أن هذا القسم من
الواجبات وإن كان يترتب عليه آثار لازمة، ولكن وجوبه والبعث
نحوه ليس باعتبار ترتب هذه الآثار عليه، بل باعتبار أن كل واحد منها
بنفسه معنون بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله وذم
تاركه، ففي كل واحد من هذه الواجبات اجتمع ملاك النفسية و
الغيرية، ولكن البعث نحوه إنما يكون بملاكه النفسي، أعني كونه
معنونا
بعنوان حسن، فلذا سمي واجبا نفسيا، كما أن الواجب الغيري هو ما
كان الداعي إلى البعث نحوه ملاك المقدمية، وهذا لا ينافي وجود
الملاك النفسي فيه أيضا إذا لم يكن له دخل في وجوبه. هذه خلاصة
ما ذكره في الكفاية.
وفيه: أما أولا، فلان ما ذكره في جواب إن قلت (من أن الفوائد و
الخواص وإن لم تكن بأنفسها مقدورة ولكنها مقدورة من جهة القدرة
على أسبابها) لا يفي بالجواب فيما نحن فيه، فان المراد بالفوائد
المترتبة على الواجبات إما أن يكون عبارة عن أمور لا تنفك من
الواجبات بأن تكون من المسببات التوليدية، نظير حركة المفتاح التي
لا تنفك من حركة اليد، فالقدرة على الأسباب فيها وإن كانت
قدرة على المسببات، ولكن ذلك لا يناسب ما نحن فيه، فإن
181

ما نحن فيه عبارة عما إذا تحقق فعلان اختياريان توقف أحدهما على
الاخر، وقد تعلق بأحدهما وجوب نفسي وبالاخر وجوب غيري، و
المسببات في الافعال التوليدية، وإن كانت وجوداتها مغايرة
لوجودات الأسباب، ولكن لما كان صدورها عن المكلف بعين إرادة
الأسباب وإصدارها، فلا محالة لا يتصور فيها وجوبان، مثلا حركة
المفتاح وإن كانت مغايرة لحركة اليد في الوجود، ولكن لما كان
صدورهما عن الفاعل بإيجاد واحد لم يكن مورد لتعلق أمرين، حتى
يكون أحدهما نفسيا والاخر ترشحيا [1] وإما ان يكون المراد
بالفوائد المترتبة على الواجبات، الغايات التي تترتب عليها، ولكن لا
مطلقا بل مع وجود مقتضيات أخر خارجة من قدرة المكلف وفقد
الموانع الواقعية بحيث يكون فعل الواجب أحد الأمور الدخيلة في
ترتب الفائدة المترقبة، وبعبارة أخرى: كان الغرض من إيجاب الواجب
إيجاد الموقعية لترتب الفائدة، فيرد عليه حينئذ: ان القدرة على
الواجب في هذا الفرض ليست قدرة على فائدته لعدم كونها بتمام
علتها
تحت قدرته واختياره.
وأما ثانيا: فلان ما ذكره (قده) في مقام الجواب عن أصل الاشكال: من
أن الواجب في هذا القسم من الواجبات لتعنونه بعنوان حسن صار
واجبا نفسيا.
يرد عليه: أن تعنونه بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله، هل
يكون من جهة أن الفائدة تترتب عليه بحيث صار ترتب الفائدة علة
لتعنونه بالعنوان الحسن، أو لا يكون من هذه الجهة، بل الواجب في
هذا القسم من الواجبات - الذي هو أكثرها أو جميعها إلا ما ندر -
بنفسه معنون بعنوان حسن، من دون أن يكون لترتب الفائدة دخل في
حسنه؟ فإن كان المراد هو الأول نعترض عليه بأن هذا الامر
يجري في جميع الواجبات الغيرية أيضا، فإن كل واحد منها أيضا
يتعنون بالعنوان الحسن من جهة اشتماله على المصلحة المترتبة عليه،
و
إن كان المراد، الثاني نعترض عليه بأن هذا يوجب خلاف الفرض، فإن
الفرض إنما يكون
[1] أقول: هذا مخالف لما ذكره سيدنا الأستاذ العلامة (مد ظله) سابقا
من أن تعدد وجود حركة اليد والمفتاح يستلزم تعدد الايجاد
أيضا، إذ الوجود عين الايجاد، غاية الأمر أنه إن نسب إلى الفاعل سمي
إيجادا، وإن نسب إلى القابل سمي وجودا. ثم إنه لو سلم إمكان
وجود فعلين بإصدار واحد فيمكن أن يقال: إنه لا بأس بأن يكون كل
من السبب والمسبب متعلقا لوجوب يخصه، غاية الأمر أن المكلف لا
يقدر على تفكيكهما، بل إما أن يختار امتثالهما أو يختار مخالفتهما، و
لا يشترط في اختيارية العمل أن تتعلق به إرادة مستقلة، بل
الملاك في اختياريته أن يكون المكلف قادرا على كل من الفعل و
الترك وهاهنا كذلك، فتأمل ح - ع - م.
182

في الواجبات النفسية التي وجبت لا لذاتها، بل من جهة ترتب الفوائد
عليها، هذا مضافا إلى أن هذا خلاف البداهة، للزوم أن تكون جميع
الواجبات النفسية من المحسنات الذاتية، وهذا واضح الفساد.
الفرق بين الواجب النفسي والغيري:
إذا عرفت ما في الكفاية مع ما فيه فنقول: مقتضى التحقيق في الفرق
بين الواجب النفسي والغيري هو أن يقال: إن المولى قد يلاحظ الفعل
بحدوده وأطرافه فيرى أنه محبوب له إما لذاته أو من جهة الفوائد التي
تترتب عليه، ثم يشتاق لأجل ذلك إلى صدوره عن العبد، فيتوجه
نظره إلى بعث العبد نحوه، ويلاحظ أن البعث نحوه مفيد والمانع عنه
مفقود، فيحصل له من جميع ذلك شوق مؤكد إلى بعث العبد و
تحريكه نحو الفعل، فيأمره به حقيقة، فهذا الواجب يسمى بالواجب
النفسي، فالواجب النفسي عبارة عما توجه إليه نظر المولى، ولاحظه
بحدوده وأطرافه، ثم بعث العبد نحوه ببعث مستقل.
وأما الواجب الغيري بناء على ثبوته، فهو عبارة عما لم يتوجه إليه بما
هو هو بعث مستقل، بل المولى لما توجه نظره البعثي إلى ذي
المقدمة، ورأى أن صدوره عن العبد يتوقف على شي، صار هذا سببا
لتعلق بعث اندكاكي بهذا الشئ، بما هو طريق إلى ذي المقدمة و
موجب للتمكن من امتثاله، فالبعث نحو المقدمة بعث ظلي يكون بنظر
ك (لا بعث)، وبنظر آخر تأكيدا للبعث المتوجه إلى ذيها.
وبعبارة أخرى: التحريك نحو الشئ - بما هو طريق - تحريك نحو
ذي الطريق حقيقة، بحيث لا يكون نفس الطريق مبعوثا إليه بنظر
العقلا، بل المحرك إليه والمبعوث نحوه أمر واحد، وهو عبارة عن
ذي الطريق الواجب بالوجوب النفسي، وهذا من غير فرق بين أن
يؤدى بخطاب مستقل أولا، فقول المولى لعبده مثلا: (ادخل السوق و
اشتر اللحم) لا يرى عند العقلا إلا بعثا واحدا، نحو أمر واحد وهو
شراء اللحم، ولنذكر لذلك مثالا، وهو أنك إذا أردت من عبدك الكون
في مكان مخصوص، ولو لغرض من الاغراض، فما هو محط
نظرك وإرادتك من العبد إنما هو نفس كونه في المكان المخصوص، و
لكنك لما رأيته متوقفا على حركته إلى هذا المكان صار كل
واحد من الاقدام الموضوعة والمرفوعة مرادا لك بإرادة تبعية، يراها
النظر العميق متعلقة بنفس الكون في المكان المخصوص، مثل ما
إذا كنت مريدا لكونك بنفسك في هذا المكان، فإن
183

ليست مرادة لك بإرادة مستقلة، لعدم كونها محطا لنظرك، فإذا عرفت
حال الإرادة فقس عليها البعث والتحريك اللذين هما من
مظاهرها، فتأمل.
صورة الشك بين النفسي والغيري:
ثم إنه إذا شك في واجب، أنه نفسي أو غيري؟ فالظاهر حمله على
النفسية، فإن الصيغ الانشائية وما هو بمفادها قد وضعت للبعث و
التحريك نحو متعلقاتها، والبعث الغيري المتعلق بالمقدمات ليس في
الحقيقة بعثا نحو المتعلق، كما عرفت، وإنما هو تأكيد للبعث
المتعلق بذيها، فالكلام يحمل على ظاهره وهو البعث الحقيقي نحو ما
تعلق به وشيخنا الأستاذ المحقق الخراساني (قدس سره) كان
يلتزم بظهورها في الوجوب النفسي وحملها عليه بوجهين:
أحدهما الانصراف، بمعنى أن البعث ينصرف إلى النفسية، ما لم تثبت
غيريته. وفيه:
إن مراده من الانصراف إن كان ما ذكرناه - من أن مفاد الصيغ هو البعث
والتحريك نحو المتعلق حقيقة والبعث الغيري، ك (لا بعث)،
بحسب الحقيقة فلذلك تنصرف إلى النفسية - فقد سلمنا الانصراف،
وإن كان مراده أن البعث الغيري أيضا بعث حقيقة مثل النفسي بعينه،
ولكن الصيغ مع ذلك تنصرف إلى البعث النفسي، فنحن نمنع هذا
الانصراف.
الوجه الثاني، الاطلاق بتقريب: أن ثبوت الوجوب في الواجب الغيري
متوقف على وجوب غيره، فهو مقيد ومشروط بوجوب الغير،
بخلاف النفسي فإنه واجب مطلقا، وحينئذ فإذا ثبت أصل الوجوب و
شك في اشتراطه بكون الغير واجبا كان مقتضى الاطلاق نفي
الاشتراط.
وفيه: أنا وإن سلمنا أن البعث في الواجب الغيري أيضا بعث حقيقة،
كما هو مفاد كلامه (قدس سره)، لكنه من الواضح أنه بعث مطلق لا
بعث مقيد بكون غيره واجبا وكونه مترشحا من قبل هذا الغير، فإن
وجوب الغير علة لوجوب المقدمة، ولا يعقل كون العلة التي هي في
الرتبة السابقة على معلولها من قيود المعلول وموجبا لتضييق دائرته.
ولنا أن نقول: إن الواجب الذي شك في أنه نفسي أو غيري على
قسمين:
الأول: أن يكون هنا واجب نفسي مقيدا بزمان خاص، أو مكان خاص،
أو حالة مخصوصة، ويكون واجب آخر شك في أنه نفسي ثابت
بنحو الاطلاق، أو غيري ثابت في ظرف ثبوت الواجب الأول، فمرجع
الشك في نفسيته وغيريته إلى الشك في أنه يكون ثابتا في جميع
الحالات والأزمنة، أو يكون ثابتا في بعض الحالات - أعني حين ما
ثبت الوجوب للواجب
184

الأول: كما هو مقتضى ارتباطه به وترشحه منه - ففي هذه الصورة
يمكن القول: بأن إطلاق الوجوب وعدم تقيده بزمان خاص أو مكان
خاص يقتضي كونه ثابتا في جميع الأزمنة والحالات، ولازم ذلك
كونه نفسيا، إذ لو كان غيريا لكان مشروطا بكل ما اشترط به
الواجب الأول.
الثاني: أن يكون هنا واجب نفسي غير مشروط بحالة مخصوصة، بل
كان ثابتا في جميع الحالات والأزمنة، ويكون واجب آخر شك في
أنه نفسي أو غيري مرتبط بالأول، وفي هذه الصورة لا مجرى
للاطلاق، حتى يقال باقتضائه النفسية، والمحقق الخراساني كان يقول
بجريان الاطلاق في هذه الصورة أيضا بتقريب ذكرناه، وحاصله: ان
اشتراط وجوب هذا الشئ بكون غيره واجبا - الذي هو ملاك
غيرية الوجوب - قيد زائد منفي بأصالة الاطلاق. وفيه: ما مر من أن
الوجوب النفسي الثابت لذي المقدمة علة للوجوب الغيري المترشح
إلى المقدمة، فلا يعقل أن يكون من قيوده لكون العلة في المرتبة
المتقدمة على المعلول، فما يترشح من وجوب ذي المقدمة عبارة عن
ذات الوجوب الثابت للمقدمة، لا الوجوب المقيد بكونه مترشحا من
وجوب ذي المقدمة. [1]
تذنيب: هل المثوبة بالاستحقاق أو بالتفضل؟:
لا ريب في أن العقل يستقل باستحقاق العبد للعقاب عند مخالفته
للأوامر النفسية الصادرة عن المولى، بمعنى أنه لا يرى عقاب المولى
إياه ظلما.
وأما حكمه باستحقاق العبد للثواب والاجر عند موافقته لها، بحيث
يعد عدم إعطائه الاجر ظلما في حق العبد ففيه تأمل وإشكال، بل
العقل السليم يشهد بعدمه، وذلك لحكم العقل والعقلاء بأن المولى
بمولويته مالك للعبد بجميع شؤونه وأفعاله، فله أمر العبد بفعل من
غير أن يعطيه أجرا، وهذا من لوازم المولوية والعبودية الملازمتين
للمالكية والمملوكية بجميع الشؤون، وكلما كانت العبودية أشد
كان عدم الاستحقاق أظهر، ففي الموالي والعبيد العرفية التي لا ملاك
فيها للمولوية إلا اعتبار العقلا، لا نحكم بثبوت استحقاق الاجر
فكيف نحكم بثبوته للعبد من مولى
[1] وقد حقق في محله أن المعلول بالنسبة إلى علته لا مطلق ولا مقيد،
لكنه لا ينطبق إلا على المقيد، فإن أثر النار مثلا إنما هو الحرارة
الخاصة، أعني الحرارة الحاصلة بها، لا الحرارة المطلقة. وبعبارة
أخرى: ليس في المعلول إطلاق ولا تقييد لحاظي بالنسبة إلى علته،
لكنه
بحسب الذات مقيد ح - ع - م.
185

الموالي الذي هو معط لوجوده وحياته وقدرته ومالك له بالملكية
الحقة الحقيقية لا الاعتبارية العرفية؟ هذا، مضافا إلى أن كل ما أمر به
وبعث نحوه فهو مما لا يعود نفعه إليه بل لوحظ فيه مصلحة العبد و
إنجاؤه من المهالك الروحية وسوقه إلى المراتب الكمالية، فمثله
كمثل طبيب أمر المريض بشرب دواء ينفعه فهل للمريض بعد امتثاله
أوامر الطبيب ونجاته من المرض أن يطلب من الطبيب المشفق
أجر الامتثال؟ لا والله، بل لو طالبه ذلك لعده العقلا من السفهاء.
وبالجملة: العقل السليم لا يحكم باستحقاق العبد للمثوبة حتى في
الأوامر النفسية، نعم، يحكم بلياقته واستعداده للتفضل، وهذا غير
الاستحقاق.
ومما ذكرنا ظهر لك ضعف ما ذكره المتكلمون: من كون ثواب الله
لعبيده بالاستحقاق، مستدلين على ذلك بأن تحميل الغير المشقة بلا
أجر قبيح، ضرورة أن تحميل الموالي بالنسبة إلى عبيدهم لا يستلزم
أجرا بالوجدان.
فإن قلت: إذا لم يكن ثواب الله تعالى لعبيده بالاستحقاق فلم عبر عنه
في الآيات والروايات بالاجر؟ قلت: هذا التعبير أيضا من كمال
تفضل الله على عبيده، حيث سمى الثواب التفضلي أجرا، إعلاء
لدرجة الممتثل، ألا ترى أنه تعالى استقرض من عبيده مع أن له ملك
السماوات والأرض وما بينهما، تفضلا عليهم وإشعارا بأنه يعاملهم
معاملة مالك مع مثله. ثم لو فرضنا حكم العقل بأن تحميل الغير
المشقة ولو كان عبدا يوجب استحقاق الاجر، فلا فرق بين الواجب
النفسي والغيري المأتي بداعي الامتثال، لاشتراكهما في كون كل
منهما مشقة تحملها العبد لتحصيل رضاية المولى، وهل يرى العقلا
في أصل تحمل المشقة فرقا بين من توضأ وصلى لامتثال أمر المولى،
وبين من توضأ بقصد التوصل به إلى ما وجب من قبل المولى ثم مات
قبل إتيان الصلاة؟ وكيف يحكم العقل باستحقاق الأول للثواب و
عدم استحقاق الثاني شيئا مع أنه أيضا بالنسبة إلى وضوئه قد تحمل
المشقة التي حملها المولى.
الملاك في عبادية المقدمات:
ثم اعلم أن المقدمات لا تحتاج في عباديتها ومقربيتها إلى تعلق أمر
غيري بها، حتى يكون هو الداعي نحوها، بل يكفي في مقربيتها
قصد الامر النفسي المتعلق بذيها، وذلك لبداهة أن من توجه إلى أن
مولاه أمره بفعل لا يرضى بتركه، ورأى أن هذا الفعل لا يمكن إتيانه
إلا بإتيان
186

مقدمات يتوقف عليها، وكان هذا العبد بصدد امتثال أوامر مولاه، فلا
محالة تنقدح في نفسه إرادة إتيان المقدمات من دون أن ينتظر
في إتيانها تعلق أمر بها على حدة، وما دعاه إلى إتيان المقدمات إلا
الامر المتعلق بذيها، وعد هذا الشخص عند اشتغاله بالمقدمات بنظر
العقلا شارعا في امتثال أمر مولاه.
وبالجملة في عبادية المقدمات لا نحتاج إلى تعلق أمر غيري بها، فإن
قلنا في باب المقدمات بعدم ترشح الأوامر الغيرية إليها، ولم تكن
أيضا بأنفسها متعلقات لأوامر نفسية، كان لنا تصحيح عباديتها بأن تؤتي
بداعي وقوعها في طريق ذيها الذي تعلق به أمر نفسي.
بل يمكن أن يقال: إن الامر الغيري الترشحي، وإن قلنا بثبوته للمقدمة
بناء على القول بالملازمة، لكنه لا يكفي في عبادية متعلقه، إذ لا
إطاعة له بما هو هو ولا قرب.
والسر في ذلك ما قدمناه لك مفصلا من أن الوجوب الغيري وجوب
ظلي واندكاكي لا يراه النظر العميق وجوبا، حتى أن لو دل عليه
الامر بسبب خطاب مستقل أيضا كان هذا الخطاب بنظر العقلا بعثا و
تحريكا نحو ذي المقدمة، وإن كان بحسب الظاهر متعلقا
بالمقدمة.
الاشكال على عبادية الطهارات الثلاث ودفعه:
ومما ذكرنا لك إلى هنا تبين الجواب عن الاشكالين اللذين أوردهما
المحقق الخراساني في باب الطهارات الثلاث (بعد ما عد من
البديهيات أن موافقة الامر الغيري، بما هو هو لا توجب قربا ولا مثوبة،
كما أن مخالفته بما هو هو لا توجب بعدا ولا عقوبة) ونحن
نذكر الاشكالين مشيرا إلى جوابهما، من غير أن نتعرض لما ذكروه من
الجواب:
الاشكال الأول: أنه إذا كانت موافقة الامر الغيري لا توجب قربا ولا
مثوبة، فكيف حال بعض المقدمات التي لا شبهة في مقربيتها و
ترتب المثوبة عليها، بل عدم صحتها لو لم تؤت بقصد الامر
كالطهارات الثلاث، فإنه لا خلاف بين علماء الاسلام غير أبي حنيفة
في
اشتراطها بقصد الامر؟ الاشكال الثاني: هو الاشكال الوارد في جميع
التعبديات، ومحصله عدم إمكان أخذ قصد الامر في المأمور به، و
قد قرر الاشكال بوجوه ذكرناها في مبحث التعبدي والتوصلي وكان
أهمها الدور الوارد في مقام الامتثال، وحاصله: ان المأمور به لو
كان عبارة عن الطهارة مثلا مقيدة بداعوية أمرها إليها لم يمكن امتثال
هذا الامر، فإن داعوية الامر في مقام الامتثال متوقفة على كون
المدعو
187

إليه فردا من أفراد المأمور به ومنطبقا للعنوان الواقع تحت الامر، و
كونه كذلك موقوف على داعوية الامر، إذ الفرض أن المأمور به هو
العمل الواقع بداعي الامر لا مطلق العمل. ولو فررنا من الاشكال في
الواجبات النفسية بما محصله أن قصد الامر لم يؤخذ في المأمور به،
بل العقل يحكم بوجوبه من باب تحصيل الغرض، فالامر يتعلق بالأعم
مما يحصل الغرض أعني ذات العمل، والعقل يحكم بوجوب إتيانه
بداعي الامر، حتى يصير محصلا لغرض المولى، ففيما نحن فيه، أعني
الواجبات الغيرية التعبدية لا مفر منه بهذا الوجه، فإن الوجوب
الغيري لا يعقل تعلقه إلا بما فيه ملاك المقدمية وما هو بالحمل
الشائع مقدمة، ولا يمكن تعلقه بالأعم من ذلك، والمفروض أن
المقدمة
في باب الطهارات الثلاث هي العمل مقيدا بقصد الامر، لا ذات
العمل، فيجب تعلق الامر بالمقيد الذي فيه ملاك المقدمية لا بالمطلق
الذي هو
أعم من ذلك. هذا ما ذكر في المقام من الاشكال، وقد أشار في الكفاية
إلى الاشكال الثاني بقوله: (هذا مضافا إلى أن الامر الغيري لا
شبهة في كونه توصليا).
ونحن نقول: مجمل القول في الطهارات الثلاث هو أن التيمم لم يتعلق
به أمر نفسي، لكن الطهارة المائية من الوضوء أو الغسل مع كونها
مقدمة لبعض الغايات قد جعلت بنفسها أيضا من المستحبات الشرعية
التي تعلق بها أمر نفسي عبادي، وحينئذ فإتيان المكلف إياها إنما
هو بأحد نحوين:
الأول: أن يأتي بها بقصد أمرها النفسي الاستحبابي، كما إذا لم يكن
المكلف مريدا للأمور المشروطة بها، لكنه كان قاصدا للتطهر،
فيدعوه إلى إيجاده الامر النفسي المتعلق به.
الثاني: أن يأتي بها بقصد التوصل بها إلى إحدى غاياتها، وحينئذ
يكون داعيه إلى إيجادها الامر النفسي المتعلق بالغاية المطلوبة من
الصلاة والقرأة ونحوهما، إذ قد عرفت أن المحقق لعبادية المقدمات
هو قصد الامر المتعلق بذيها من غير احتياج إلى قصد الامر
النفسي أو الغيري المتعلق بأنفسها، بل الامر الغيري على فرض ثبوته
ك (لا امر) فلا يكفي بنفسه في عبادية متعلقه ما لم يقصد بإتيان
المتعلق التوصل به إلى ما جعل مقدمة له، وعلى هذا فإذا دل الدليل
الشرعي على أن ما هي المقدمة للصلاة هي الطهارة بقصد الامر - مثلا
- فللمكلف إتيانها بقصد الامر الصلاتي من غير توجه إلى امرها
النفسي، كما أنه إن لم يكن قاصدا للصلاة كان له إتيانها بقصد الامر
النفسي المتعلق بنفسها، ويجوز له بعد تحققها أن يأتي الصلاة معها، و
يثاب عليها في الصورتين من غير محذور. ولا نقول إن المحقق
لعباديتها إذا لم يؤت بها بقصد أمرها النفسي هو إتيانها بقصد أمرها
الغيري، حتى يرد علينا الاعتراض:
أولا: بأن الامر الغيري لا قرب في موافقته بما هو أمر غيري.
وثانيا: بأن الامر الغيري لما كان بملاك المقدمية، فلا محالة وجب
تعلقه بما هي مقدمة بالحمل الشائع
188

ولا يجوز تعلقه بأوسع من الغرض، وحينئذ فكيف يتعلق بذات
الوضوء أو الغسل أو التيمم، مع أن المقدمة حسب الفرض هي الوضوء
أو
الغسل أو التيمم مقيدا بإتيانه بداعي الامر، حتى يصير عبادة والعجب
من شيخنا الأستاذ المحقق الخراساني حيث أورد الاعتراض الثاني
مع أن جوابه من أوضح الواضحات، فإنه من الواضحات أن القائل
بوجوب المقدمة وترشح الامر الغيري إليها إنما يقول بوجوب كل ما
يتوقف عليه الواجب من المقدمات وأجزائها وأجزأ اجزائها، إذ كل
جز من أجزأ ما هو مقدمة لشئ، يصدق عليه انه من مقدمات هذا
الشئ ولا محالة يترشح إليه الوجوب الغيري، فالصلاة مثلا إذا
توقفت على الوضوء بداعي الامر فلا محالة تتوقف على ذات الوضوء
أيضا لكونها جزا تحليليا للوضوء المقيد بداعوية الامر فتكون ذات
الوضوء أيضا واجبة بالوجوب الغيري، فالامر في باب الطهارات
أسهل من التعبديات الاخر لا أشكل على ما زعمه (قدس سره) فافهم.
ثم إن هاهنا نكتة فقهية يجب ان ينبه عليها وهي انا ان قلنا بان
الطهارات إذا لم يؤت بها بقصد امرها النفسي كان المعتبر في عباديتها
إتيانها بقصد الامر الغيري المتعلق بها، فلا محالة كان اللازم ان يؤتى بها
بعد دخول أوقات الغايات، إذ قبله لا وجوب للغايات حتى
يترشح من قبل وجوبها وجوب غيري، واما إذا قلنا بعدم الاحتياج إلى
الامر الغيري وانه يكفي في عباديتها إتيانها بقصد التوصل بها
إلى غاياتها وبداعي الامر النفسي المتعلق بذيها، فهل يجوز إتيانها
بهذا الداعي قبل دخول أوقات الغايات أو لا يجوز؟ فيه وجهان: لا
يبعد الجواز والصحة، لان المكلف إذا علم أن بعد الوقت يتوجه إليه
التكليف بالصلاة مثلا ورأى انها متوقفة على الطهارة وكان قاصدا
لامتثال هذا التكليف في وقته، فلا محالة تتولد من إرادة إتيان الصلاة
في وقتها إرادة تحصيل الطهارة ليكون متمكنا من الصلاة مع
الطهارة بمجرد دخول الوقت، وليس إيجاده لهذه الطهارة بداع نفساني
بل الداعي له إلى إيجادها وقوعها في طريق امتثال الامر الذي
يعلم بتحققه بعد دخول الوقت، وقد تبين لك انه يكفي في عبادية
المقدمات إتيانها بداعي التوصل بها إلى ذيها وكونها في طريقه، و
لعل هذا هو المبنى للقول بصحة الوضوء التهيئي.
واما وجه البطلان، فهو ان يقال: سلمنا أنه يكفي في عبادية المقدمات
إتيانها بداعي الامر المتعلق بذيها - من جهة انه كما يدعو إلى
إتيان نفس المتعلق فكذلك يدعو إلى إتيان مقدماته - ولكن
المفروض فيما نحن فيه عدم تحقق الامر النفسي بعد، فكيف يصير
الامر
المعدوم داعيا؟، وليس للامر المعدوم امتثال حتى يقال: إن المقدمة
واقعة في طريقه فتدبر. [1]
[1] أقول: ليس الامر بوجوده الخارجي داعيا بل بوجوده العلمي
فيمكن داعوية العلم بالامر المستقبل قبل تحققه من غير فرق في ذلك
بين الامر النفسي والغيري. ح - ع - م.
189

الأمر الرابع:
هل الواجب مطلق المقدمة أو ما قصد به التوصل أو خصوص
الموصلة؟
مما استدل به على كون الامر بالشئ مقتضيا للنهي عن ضده الخاص،
هو: أن ترك الضد مما يتوقف عليه فعل الواجب توقف الشئ على
عدم مانعه، فيجب بالوجوب المقدمي فيكون نفس الضد حراما.
قال (صاحب المعالم) في مقام الجواب عن هذا الاستدلال: (. وأيضا
فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها إنما تنهض دليلا
على الوجوب في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها كما
لا يخفى على من أعطاها حق النظر). فظاهر كلامه (قدس سره) أن
وجوب المقدمة مشروط بإرادة ذيها، بحيث لا وجوب لها عند عدم
إرادته.
وفساد هذا الكلام من أوضح الواضحات، فإنه إن كان مراده أن وجوب
ذي المقدمة أيضا مشروط بإرادته، ورد عليه بأن الغرض من
الامر إنما هو إيجاد الداعي والإرادة في نفس المكلف فلا يعقل أن
يكون مشروطا بهما، وإن كان مراده أن وجوب ذي المقدمة مطلق
غير مشروط بإرادته، لكن وجوب المقدمة مشروط، استشكل عليه
بأن وجوب المقدمة - بناء على الملازمة - وجوب ظلي ترشحي، لا
ينفك من وجوب ذيها، بل يكون ثابتا أينما ثبت فهو في الاطلاق و
الاشتراط تابع لوجوب ذيها، وهذا من البداهة، بحيث لا يحتاج إلى
البيان.
الوجوه المتصورة في المسألة:
ثم إنه بعد ما ثبت أن وجوب المقدمة غير مشروط بإرادة ذيها، بل هو
في الاطلاق والاشتراط تابع لوجوبه، فهل الواجب مطلق المقدمة،
أو خصوص ما قصد به التوصل إلى
191

المقدمة، بحيث يكون هو الداعي إلى إتيانها سواء أوصلت إليه أم لا،
أو خصوص ما أوصلت إليه سواء أتي بها بهذا الداعي أم لا، أو
خصوص ما قصد بها التوصل وأوصلت؟ في المسألة وجوه، وقد
نسب الثاني إلى الشيخ (قدس سره)، واختار الثالث صاحب الفصول
(ره). وليس مرادهما أن قصد التوصل أو نفس الايصال شرط
للوجوب، كما كان صاحب المعالم يقول باشتراط الوجوب بإرادة ذي
المقدمة، بل مرادهما أن الوجوب مطلق، ولكن الواجب مقيد،
فالواجب على قول الشيخ هو المقدمة التي أتي بها بداعي التوصل بها
إلى
ذيها، وعلى قول صاحب الفصول، هو المقدمة التي أوصلت إلى ذيها،
وعلى قول المشهور لا يكون الوجوب ولا الواجب مشروطا بشئ.
الغرض من تصوير المقدمة الموصلة:
وليعلم أن مقصود الشيخ وصاحبي المعالم والفصول من هذه
التفاصيل التي أحدثوها في هذا المقام، إنما هو تصحيح العبادة التي
تكون
ضدا لواجب أهم كالصلاة التي تكون ضدا للإزالة، فإنه قد أشكل
عليهم الامر في ذلك من جهة توهم أن ترك الضد العبادي مقدمة
للواجب
الأهم، فيكون واجبا ولازم هذا كون فعله حراما، وحينئذ فكيف يقع
عبادة، فصاحب المعالم حيث اختار اشتراط وجوب المقدمة بإرادة
ذيها يقول بصحة الصلاة لوجود الصارف عن الإزالة وعدم إرادتها، فلا
يكون ترك الصلاة واجبا حتى يحرم فعله وينهى عنه، هذا و
سيتضح لك في مبحث الضد كلام الشيخ وصاحب الفصول أيضا في
تصحيحها فانتظر.
و لنرجع إلى أصل المطلب فنقول: القول بكون الواجب عبارة عن
المقدمة المأتي بها بقصد التوصل فقط وإن نسب إلى الشيخ ويوهمه
كلام مقرر بحثه في بادي النظر، إلا أن الدقة في مجموع كلام المقرر من
الصدر إلى الذيل، لعلها ترشد إلى أن مقصوده ليس تخصيص
الوجوب بالمقدمة المأتي بها بقصد التوصل، بل مقصوده تنقيح ما
ذكرناه سابقا في مسألة الطهارات الثلاث من أن عبادية المقدمات و
وقوعها امتثالا إنما تتحقق بإتيانها بداعي الامر النفسي المتعلق بذيها،
وبقصد التوصل بها إليه لا بقصد أمرها الغيري الترشحي.
وبالجملة: ليس مقصوده دخالة قصد التوصل في وقوع المقدمة على
صفة الوجوب، وإنما المقصود دخالة ذلك في وقوعها امتثالا للامر
ومقربا إلى ساحة المولى كما في الطهارات الثلاث، فراجع كلامه،
حتى تطلع على مرامه.
192

نعم إن كان مراده تخصيص الوجوب بما أتي بها بقصد التوصل فقط،
يرد عليه ما أورده المحقق الخراساني: من أن الملاك الوجوب
المقدمة هو المقدمية، وكونها في طريق ذي المقدمة لا غير، وعدم
دخل قصد التوصل فيه واضح، وإلا لما صح الاكتفاء بما لم يقصد به
التوصل مع أنه (قدس سره) اعترف بالاجتزاء به، فيما لم تكن المقدمة
عبادية (انتهى) هذا ما أردنا ذكره في باب قصد التوصل. [1]
المقدمة الموصلة ونقد دليلها:
أما المقدمة الموصلة التي صارت معركة للآراء، فقد عرفت أن القول
بوجوبها، مما اختاره صاحب الفصول (ره) ولنذكر بعض كلامه في
الفصول، قال في هذا الباب ما حاصله: إنه هل يعتبر في وقوع المقدمة
على صفة الوجوب أن يترتب عليها فعل الغير، وإن لم يقصد بها
ذلك، أو يعتبر قصد التوصل بها إلى الغير وإن لم يترتب، أو يعتبر
الأمران كلاهما، أو لا يعتبر شي
[1] أقول: ولبعض أعاظم المحققين في هذا المقام بيان في إثبات
اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب، ولا بأس
بالإشارة إليه مع ما فيه فنقول: قد أسس المحقق المزبور بنيان كلامه
على مقدمتين: الأولى أن الجهات التعليلية في الأحكام العقلية كلها
راجعة إلى الحيثيات التقييدية، فالواجب في باب المقدمات بحسب
الحقيقة هو التوصل إلى ذي المقدمة لأنه الملاك لوجوب المقدمة، و
قد
قلنا: إن الوجوب في الوجوبات العقلية للجهات بحسب الحقيقة.
الثانية أن كل حكم من الاحكام إنما يتعلق في الحقيقة بما يقع من
الطبيعة
معلولا للإرادة، لا بمطلق الطبيعة، إذ هو جامع لما يقع منها بالإرادة و
لما ليس كذلك، والتكليف بالنسبة إلى ما لا يقع منها بالإرادة
تكليف بأمر غير اختياري. ففيما نحن فيه بعد ما ثبت في المقدمة
الأولى أن الوجوب بحسب الحقيقة يتعلق بالتوصل، نضيف إليه هنا أنه
يتعلق بالتوصل المعلول للإرادة والقصد، فثبت المطلوب هذا ملخص
كلامه.
أقول: وفي المقدمة الثانية نظر، إذ الميزان في اختيارية الفعل و
مقدوريته كون الفاعل بحيث أن إرادة فعله وإن لم يرده لم يفعله، و
صدق الشرطية لا يستلزم صدق الطرفين وإلا لما كان عدم الممكنات
مقدورا للحق تعالى، هذا مضافا إلى أن التكليف إنما يتعلق
بالطبيعة المهملة الجامعة لما يوجد منها بالإرادة ولما ليس كذلك، و
الجامع بين الاختياري وغير الاختياري اختياري بالضرورة، كما
هو واضح. ثم إن ما ذكره (من أن الملاك لوجوب المقدمة هو التوصل
بها إلى ذي المقدمة) أمر قد اختاره في قبال المحقق الخراساني
فإنه قال في كفايته: (إن الملاك لوجوب كل مقدمة والغرض منه هو
التمكن من ذي المقدمة بالنسبة إلى هذه المقدمة،) وقد رد عليه هذا
المحقق بأن التمكن من ذي المقدمة ليس معلولا لوجود المقدمة، بل
معلول للتمكن منها، ولنا في هذا الامر أيضا إشكال لا مجال لذكره
فتدبر. ح - ع - م.
193

منهما؟ وجوه، والتحقيق هو الوجه الأول لان مطلوبية المقدمة إنما
تكون للغير، وكون مطلوبية الشئ للغير يقتضي مطلوبية ما يترتب
ذلك الغير عليه دون غيره، إلى أن قال ما حاصله: أنه تظهر الثمرة فيما
لو وجب عليه الدخول في ملك الغير بغير إذنه لانقاذ غريق
يتوقف عليه، فبناء على ما قلناه من اعتبار الترتب لو دخله وأنقذ
الغريق وقعت المقدمة على صفة الوجوب سواء كان حين الدخول
قاصدا
للانقاذ أم لا، غاية الأمر أنه يكون في الفرض الثاني متجريا، ولو دخله
ولم ينقذ الغريق لم تقع المقدمة على صفة الوجوب بل وقعت
حراما سواء كان حين الدخول قاصدا للانقاذ أو لم يكن قاصدا له، غاية الأمر
أنه يكون على فرض القصد معذورا في فعل الحرام بخلاف
الثاني. وأما بناء على كون الواجب مطلق المقدمة فلازمه كون الدخول
مطلقا واقعا على صفة الوجوب وهو أمر لا يمكن تصديقه. (انتهى
ما أردنا نقله من كلامه).
أقول: القول بوجوب المقدمة الموصلة يتصور على وجهين:
الأول: أن يكون المتعلق للوجوب ذات ما يوجد من المقدمات في
الخارج مصداقا للموصل لا بوصف الموصلية، بمعنى أن الشارع مثلا
رأى
أن المقدمات التي تحصل في الخارج على قسمين:
بعض منها مما توصل إلى ذيها ويترتب هو عليها واقعا، وبعض منها
مما لا توصل، فخص الوجوب بالقسم الأول، أعني ما يكون بالحمل
الشائع مصداقا للموصل، فعلى هذا لا يكون عنوان الموصلية قيدا
مأخوذا في الواجب، بنحو يجب تحصيله، بل تكون عنوانا مشيرا إلى
ما
هو واجب في الواقع.
الثاني: أن يكون المتعلق للوجوب عبارة عن المقدمة الموصلة مع
وصف الايصال، بحيث يكون قيد الايصال أيضا مأخوذا في الواجب،
بنحو يجب تحصيله، فإن كان مراد القائلين بوجوب المقدمة الموصلة
فقط المعنى الأول، فيرد عليه: ان هذا ليس تفصيلا جديدا في مسألة
وجوب المقدمة، بل هو نفس التفصيل الذي ذكره بعضهم، أعني
اختصاص الوجوب بالمقدمة السببية، فان المقدمة التي تكون موصلة
في
متن الواقع، ويترتب عليها ذو المقدمة لا تنطبق إلا على المقدمة
السببية. [1] وإن كان مرادهم المعنى الثاني، بأن يكون الواجب عبارة
عن المقدمة المقيدة بوصف
[1] يمكن أن يقال: إن المقدمة التي يترتب عليها ذو المقدمة لا تنحصر
في السبب، إذ الترتب لا يستلزم أن يكون المترتب عليه علة تامة
للمترتب، بل الترتب عبارة عن وقوع شي عقيب شي آخر،
فالمقدمة التي يترتب عليها ذو المقدمة، كما يمكن أن تكون سببا
يمكن
أيضا أن تكون شرطا أو معدا وجد بعده ذو المقدمة ولو بمعونة سائر
المقدمات، فإن الشروط مثلا بحسب الواقع على قسمين: بعضها
مما يوجد بعده المشروط، وبعضها
194

الايصال، ففيه أنه يلزم على هذا أن يترشح من هذا الوجوب المقدمي
وجوب مقدمي متعلق بذي.
المقدمة. [1] فإن تحصيل قيد الايصال لا يمكن إلا بإتيان ذي المقدمة،
والالتزام بهذا المعنى مشكل جدا، فتدبر.
مما لا يوجد المشروط بعده، ومن عبر بالمقدمة الموصلة فقد أراد
مطلق الترتب لا خصوص العلة التامة. ح - ع - م.
[1] أقول: بل يلزم ترشح وجوبين غيريين تعلق أحدهما بذي المقدمة و
الاخر بذات المقدمة، فإن المطلق أعني الذات جز للواجب الذي هو
الذات المقيدة بالايصال حسب الفرض. ح - ع - م.
195

الأمر الخامس تأسيس الأصل في المسألة
اعلم أن نفس الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدماته مما لا
تجري فيها الأصول، لعدم كونها حكما شرعيا، حتى تجري فيها
البراءة، وعدم وجود حالة سابقة معلومة لوجودها أو عدمها حتى
يجري فيها الاستصحاب.
وأما نفس وجوب المقدمة فقد يتوهم جريان الاستصحاب فيه من
جهة أن المقدمة قبل وجوب ذيها لم تكن واجبة وبعده يشك في
وجوبها فينفى باستصحاب العدم.
وفيه: أما أولا فلان جريان الأصول العملية - التي منها الاستصحاب -
يتوقف على ترتب أثر عملي عليها فإنها أصول وضعت لتعيين
وظيفة من شك فيما يتعلق بعمله ومفاد أدلتها هو وجوب البناء عملا
على وفقها، كما ربما يأتي في محله ووجوب المقدمة أو عدم
وجوبها لا يترتب عليه أثر عملي، إذ العقل يحكم جزما بوجوب إتيان
المقدمة، وإن ثبت عدم وجوبها شرعا فبوجوبها لا يتحقق تكليف
زائد، حتى ينفى بالأصل.
فإن قلت: الملاك في جريان الاستصحاب هو كون المستصحب بنفسه
أثرا شرعيا أو كونه ذا أثر شرعي، وما نحن فيه من قبيل الأول:
فإن وجوب المقدمة بنفسه أثر شرعي، لكونه حكما من الأحكام الشرعية
فيجري فيه الاستصحاب، وإن لم يترتب على هذا الأثر
الشرعي
أثر آخر.
قلت: هذا ممنوع لما عرفت من أن المجعول في باب الأصول هو
وجوب العمل على طبق مؤدياتها والجري على وفقها، وتعيين
الوظيفة
فيما لا يرتبط بالعمل أمر لغو لا يصدر عن الشارع، فصرف كون
المستصحب حكما من الأحكام الشرعية لا يكفي في جريان
الاستصحاب، ما لم يترتب على جريانه أثر عملي.
196

وأما ثانيا: فلان وجوب المقدمة بناء على الملازمة أمر لا يعقل انفكاكه
من وجوب ذيها، فإن القائل بالملازمة يدعي أن المولى إذا بعث
بعثا مولويا نحو شي فلا محالة يترشح منه وجوبات تبعية ظلية بعدد
المقدمات، بحيث يستحيل صدور البعث عنه من دون ترشح هذه
الوجوبات والتحريكات التبعية، فالامر المتعلق بذي المقدمة مستتبع
لهذه الأوامر الغيرية، من دون أن يكون لإرادة المولى دخل في
ذلك، وهذا من غير تفاوت في مراتب الحكم من الانشائية والفعلية و
التنجز، فإن هذا القائل يدعي أن وجوب المقدمة كالفي لوجوب
ذيها، والفي من لوازم الشئ لا ينفك منه أبدا.
وبعبارة أخرى: وجوب المقدمة على فرض ثبوته ليس وجوبا مستقلا
بملاك مستقل، حتى يكون تابعا لملاك نفسه، بل هو من اللوازم
غير المنفكة لوجوب ذيها، وعلى هذا فتفكيكهما غير ممكن، لا في
الفعلية، ولا في غيرها من المراتب، فإذا كان وجوب ذي المقدمة
فعليا
منجزا فلا محالة كان وجوبها أيضا فعليا منجزا بناء على الملازمة، غاية الأمر
أن الشاك في أصل الملازمة شاك في فعلية وجوبها من جهة
الشك في أصل الملازمة، لكن هذا الشك لا يضر بفعليته على فرض
ثبوت الملازمة واقعا، فالشاك في الملازمة أيضا عالم بكون المقدمة
واجبا فعليا على فرض، وغير واجب على فرض آخر، وعلى هذا فلا
مجال لجريان استصحاب العدم في وجوب المقدمة التي علم
بوجوب
ذيها، فإن الاستصحاب بعد جريانه يوجب القطع بفعلية مؤداه وعدم
فعلية الحكم الواقعي المشكوك فيه على فرض ثبوته، فلا يجري في
الموارد التي لا ينفك الحكم الواقعي على فرض ثبوته من الفعلية، بل
اللازم على الشارع حينئذ إيجاب الاحتياط، كما في باب الأموال و
الاعراض والنفوس، فإنا نعلم أن الحكم الواقعي في هذه الموارد -
على فرض ثبوته - فعلي لا يأبى فعليته شي لأهمية ملاكه،
فنستكشف
إيجاب الاحتياط من قبل الشارع في تلك الموارد. ففيما نحن فيه بعد
العلم بوجوب ذي المقدمة نعلم بفعلية وجوب مقدمته على فرض
ثبوت الملازمة واقعا، فكيف يحكم بجريان استصحاب العدم بالنسبة
إليه؟ مع استلزام جريانه للقطع بعدم فعلية وجوبها على فرض
ثبوت الملازمة أيضا؟.
وبالجملة: المرفوع بالاستصحاب إما نفس الحكم الواقعي أو فعليته، و
الأول غير ممكن، والثاني غير جائز فيما نحن فيه من جهة كونه
فعليا على فرض ثبوته واقعا، وليس رفع فعليته باختيار المولى، فتأمل.
197

التنبيه على أمور:
إذا عرفت المقدمات فلنشرع في تحقيق أصل المسألة، وقبل الشروع
في ذكر الأدلة ينبغي أن ينبه على أمور:
الأول:
قد ذكروا لوجوب المقدمة ثمرات فقهية، لكنها لا تخلو عن مناقشة، و
من الثمرات أيضا ما ذكروه في مبحث الضد وسيأتي تحقيقه.
الثاني:
ليس النزاع في المسألة في وجوب المقدمة عقلا، بمعنى اللابدية
العقلية، وذلك لبداهة أن العقل يحكم بلزوم الاتيان بالمقدمة للتمكن
بها
من ذيها، وليس هذا المعنى أمرا قابلا للنزاع، بل المتنازع فيه في
المسألة هو الوجوب الشرعي، بمعنى أن المولى إذا أمر بشئ له
مقدمات وجودية فهل يترشح من هذا البعث النفسي أوامر عديدة
متعلقة بكل واحدة من مقدماته، بحيث يكون كل منها مطلوبا وواجبا
شرعا بتبع وجوب ذي المقدمة أو لا تترشح؟
الثالث:
المراد بالوجوب التبعي هاهنا ليس ما ذكره المحقق القمي (قدس
سره)، إذ مراده بالتبعية هو التبعية في مقام الاثبات والدلالة، حيث
قال ما حاصله: إن الوجوب التبعي هو الذي يستفاد من خطاب
المولى، الذي سيق لأجل إفادة شي آخر، من دون أن تكون إفادة هذا
الوجوب أيضا مرادة من هذا الخطاب، بل يكون من قبيل لوازم
الخطاب، كاستفادة أقل الحمل من الآيتين الواردتين في تعيين مدة
الارضاع ومدة مجموع الحمل والفصال. بل المراد من التبعية هنا هو
التبعية في مقام الإرادة، بمعنى أن الامر لا يلزم أن يكون ملتفتا
إلى مقدمات المأمور به، ولكنها بحيث لو التفت إليها ورأى أنها مما
يتوقف عليها الواجب لارادها ووجد في نفسه حالة بعثية بالنسبة
إليها.
الرابع:
المشهور بين المتأخرين وإن كان وجوب المقدمة، لكن المسألة ليست
من المسائل المتلقاة من المعصومين عليهم السلام يدا بيد، حتى
تكون الشهرة حجة فيها، بل هي مسألة استنباطية، فلا يكون الاجماع
أيضا حجة فيها فضلا عن الشهرة.
الخامس:
الأقوال في المسألة كثيرة، فالمشهور بين المتأخرين هو الوجوب
مطلقا، وقال بعضهم بعدم الوجوب مطلقا وهو نادر، وفصل بعضهم
بين السبب وغيره، فاختار الوجوب في السبب فقط، وآخر بين الشرط
الشرعي وغيره، فاختار الوجوب في الأول.
واعلم أن كلا من التفصيلين لعله نشأ من شبهة سنحت للقائل به، أما
القائل بالتفصيل
198

الأول، فلعل نظره فيه إلى أن الافعال التوليدية، كحركة المفتاح
المتولدة من حركة اليد مثلا لما لم يكن إيجادها بإرادة مستقلة متعلقة
بأنفسها، بل كانت توجد بنفس الإرادة المتعلقة بأسبابها، فلا محالة
يجب كون الأسباب مأمورا بها لأنها الصادرة عن المكلف بتوسيط
الإرادة دون المسببات.
وبعبارة أخرى: وجود المسبب في الافعال التوليدية، وإن كان مغايرا
لوجود السبب، بل الايجاد فيها أيضا متعدد بعدد الوجودات، لما
مر من أن الوجود عين الايجاد حقيقة، ولكن لما كان صدور جميع
هذه الوجودات عن المكلف بإرادة واحدة متعلقة بالسبب، فلا محالة
يجب تعلق الامر بالسبب لأنه المقدور للمكلف والصادر عنه بتوسيط
الإرادة، حتى أنه لو كان بحسب ظاهر الدليل متعلقا بالمسبب، فهو
بحسب الحقيقة أمر بالسبب.
أقول: وفي هذا البيان نظر، أما أولا فلكونه خارجا من محل النزاع، فإن
المتنازع فيه هو: ان تعلق الامر بشئ هل يوجب ترشح أمر ظلي
منه متعلقا بمقدمته أولا؟ وهذا القائل انما يدعي تعلق الامر النفسي
بالسبب حقيقة، وأما ثانيا فلما عرفت من أن المسبب أيضا مقدور
بواسطة القدرة على سببه، إذ المقدور بالواسطة مقدور أيضا، فالامر
المتعلق بالمسبب متعلق بنفسه حقيقة، غاية الأمر أنه يترشح منه
أمر غيري أيضا، متعلقا بالسبب بناء على الملازمة.
وأما التفصيل بين الشروط الشرعية وغيرها فغاية ما يمكن أن يقال في
توجيهه: أن الشرط الشرعي لما لم تكن مقدميته معلومة إلا
ببيان الشارع، فلا محالة يجب عليه بيان ذلك بأن يجعله قيدا للمأمور
به عند تعلق الامر به، بنحو يكون التقيد داخلا والقيد خارجا، لازم
ذلك كون التقيد جزا للمأمور به وواجبا بالوجوب النفسي الضمني،
ومن الواضحات أن الامر لا يتعلق بمفهوم التقيد، بل المطلوب إنما
هو وجوده، وليس التقيد موجودا مستقلا بحياله في قبال وجود القيد،
بل يكون موجودا بعين وجود القيد، وعلى هذا فاللازم كون نفس
القيد واجبا بالوجوب الضمني الانبساطي، وإلا يلزم تعلق الوجوب
بالمطلق دون قيده.
أقول: وفيه أما أولا: فلان هذا أيضا يوجب الخروج من محل النزاع، إذ
الكلام إنما هو في وجوب المقدمة بالوجوب التبعي الغيري، وهذا
التقريب يقتضي كون الشرط الشرعي واجبا بالوجوب النفسي
الضمني.
وأما ثانيا: فلامكان إرجاع الشروط الشرعية أيضا إلى الشروط العقلية،
بأن يقال: إن المأمور به كالصلاة مثلا عنوان بسيط ينطبق على
مجموع الافعال الخارجية من التكبير إلى التسليم، ولكن يكون انطباق
هذا العنوان على هذه الأفعال والأقوال بحسب الواقع مشروطا
بالطهارة ونحوها،
199

فهي شروط واقعية للمأمور به، غاية الأمر أن الشارع قد كشف عنها من
دون احتياج إلى تعلق الامر بها فتدبر.
أدلة وجوب المقدمة ونقدها:
إذا عرفت هذه الأمور فنقول: قد صار وجوب المقدمة من المسلمات
بين المتأخرين، واستدلوا عليه بوجوه كثيرة:
الأول:
ما اشتهر نقله عن أبي الحسين البصري وهو كالأصل لأكثر الأدلة، و
حاصله: أنه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها، وحينئذ فإن بقي
الواجب على وجوبه لزم التكليف بما لا يطاق، وإلا خرج الواجب
المطلق من كونه واجبا مطلقا.
أقول: هذا الدليل يتألف من قياسين: أحدهما اقتراني شرطي، والاخر
استثنائي، أما الأول: فصورته هكذا - لو لم تجب المقدمة لجاز
تركها، وحين جاز تركها لزم أحد المحذورين: إما التكليف بما لا يطاق
أو خروج الواجب المطلق من كونه كذلك، ينتج: لو لم تجب
المقدمة لزم أحد المحذورين من التكليف بما لا يطاق وخروج
الواجب المطلق من كونه كذلك، فقوله حينئذ بمنزلة تكرار الأوسط
أعني
ما هو الجزاء للشرطية الأولى.
وأما الثاني: أعني القياس الاستثنائي فبأن يجعل النتيجة جزا أولا و
يجعل جزئه الثاني قضية حملية مشتملة على رفع التالي لينتج رفع
المقدم، وصورته أن يقال: لو لم تجب المقدمة لزم أحد المحذورين
من التكليف بما لا يطاق وخروج الواجب المطلق من إطلاقه
المساوق
لاجتماع النقيضين، لكن التكليف بما لا يطاق وخروج الواجب
المطلق من إطلاقه باطلان، فينتج أن عدم وجوب المقدمة باطل،
فيثبت
وجوبه، هذا تقريب الاستدلال.
وفيه: ان المراد من قوله حينئذ إن كان حين إذ جاز تركها، فالأوسط و
إن تكرر، لكن الملازمة في الشرطية الثانية - التي هي كبرى
القياس - ممنوعة، إذ جواز ترك المقدمة شرعا لا يستلزم تركها حتى
يلزم أحد المحذورين، بل هي باقية على وجوبها العقلي، بمعنى
اللابدية التي يحكم بها العقل، وإن كان المراد من قوله حينئذ حين إذ
تركت، فالشرطية الثانية وإن صحت ولكن الأوسط لم يتكرر.
الثاني:
مما استدل به لوجوب المقدمة، أنه يشاهد في بعض الموارد أن بعض
الموالي يأمر بالمقدمة، كقول المولى لعبده مثلا: ادخل السوق و
اشتر اللحم، فيستفاد من ذلك أن جميع المقدمات في جميع
الواجبات مأمور بها ولو تبعا.
200

بيان ذلك: أن الامر المتعلق بالمقدمة في هذا المثال أمر وتحريك
حقيقة، مثل الامر المتعلق بذيها من غير فرق بينهما من جهة البعث و
التحريك، ولا ملاك لهذا الامر المتعلق بالمقدمة إلا مقدميتها لذيها
الواجب ووقوعها في طريقه من دون أن يكون له ملاك آخر،
فيستفاد من ذلك أن المقدمية للواجب أيضا من الملاكات المقتضية
للامر والايجاب ومن العلل الموجبة لهما، ونتيجة ذلك وجوب كل ما
وجد فيه هذا الملاك ولو بالوجوب التبعي، بمعنى أن المولى لو التفت
إليه لاراده ولانقدحت في نفسه إرادة البعث نحوه (انتهى). وفيه:
أن الامر المتعلق بدخول السوق في هذا المثال ليس بحسب الحقيقة
متعلقا بدخول السوق بأن يكون هو المبعوث إليه في قبال شراء
اللحم، بل هو أيضا في الحقيقة أمر بشراء اللحم. توضيح ذلك - أن
دخول السوق - بما هو طريق إلى شراء اللحم - مأمور به ومبعوث إليه
لا بما هو هو، فهذا البعث بالنظر الدقيق تأكيد للبعث المتعلق بشراء
اللحم، وليس بعثا مستقلا في قباله، بداهة أن المبعوث إليه في قول
المولى: ادخل السوق واشتر اللحم عند العقلا أمر واحد وهو شراء
اللحم، لا أمران.
الثالث:
من الأدلة ما ذكره بعض أعاظم العصر، وحاصله: أن الإرادة التشريعية
وزانها وزان الإرادة التكوينية، فكما أن الإرادة التكوينية إذا
تعلقت بفعل تتولد منها إرادات أخر متعلقة بمقدماته كما إذا أراد
الانسان، الكون في مكان مخصوص، فإنه تتولد من هذه الإرادة
إرادات
متعددة متعلقة بمقدماته: من وضع الاقدام ورفعها، ونحو ذلك مما له
دخل في وصوله إلى المقصد، فكذلك الإرادة التشريعية المتعلقة
بصدور الفعل عن الغير تتولد منها إرادات أخر تشريعية متعلقة
بمقدماته ومباديه (انتهى).
وفيه: أن الإرادة التشريعية ليست عبارة عن إرادة صدور الفعل عن
الغير، بلا توسط إرادة منه، فإن هذا عين الإرادة التكوينية، بل هي
عبارة عن إرادة بعث المكلف نحو الفعل المطلوب، حتى يحدث في
نفسه الداعي فيوجده بإرادته، ولما كان نفس البعث نحو ذي المقدمة
كافيا في حصول الداعي بالنسبة إلى إيجاد المقدمات، فلا يبقى
احتياج إلى إرادة البعث نحو المقدمات.
توضيح ذلك: أن المولى إذا أراد صدور فعل عن عبده فإما أن يريد
صدوره عنه بلا توسط إرادة من العبد متعلقة بالفعل، وإما أن يريد
صدوره عنه بإرادته واختياره.
أما الأول: فمرجعها الإرادة التكوينية. وأما الثاني فلا بد من أن تتولد من
إرادة المولى صدور الفعل عن عبده على النحو المزبور إرادة
أخرى منه متعلقة ببعث المكلف وتحريكه حتى يحدث له الداعي
نحو الفعل بعد العلم به، ويوجد في نفسه مبادئ الاختيار فيوجده
امتثالا
أو طلبا لجنانه
201

أو فرارا من عقابه أو لنحو ذلك من الدواعي الإلهية، فإرادة صدور
الفعل عن العبد بتوسط إرادته علة لان يصير المولى في مقام إحداث
الداعي في نفس المكلف، وأن يريد بعثه وتحريكه نحو العمل
ليمتثله المكلف بعد العلم به، ولا تكفي نفس إرادة الفعل منه على
النحو
المزبور [1] في صدوره عن العبد بإرادته، ما لم تتولد منها الإرادة الثانية
متعلقة بإنشاء البعث والتحريك، فاللازم على المولى بعد
إرادة الفعل إرادة البعث ثم إنشائه حتى يصير داعيا للمكلف، والإرادة
التشريعية ليست عبارة عن إرادة صدور الفعل عن المكلف، بل
هي عبارة عن الإرادة الثانية المتولدة منها، أعني إرادة البعث و
التحريك لايجاد الداعي في نفس المكلف، وما يكون وزانها وزان
الإرادة التكوينية إنما هي الإرادة الأولى - أعني إرادة الفعل - لا الإرادة
الثانية - أعني إرادة البعث -، فإن البعث ليس إلا لايجاد الداعي
في نفس المكلف وهذا الغرض يحصل بإنشاء بعث واحد متعلق
بالفعل المطلوب، من دون احتياج إلى تحريكات متعددة بعدد
المقدمات،
لما عرفت سابقا من أن نفس الامر المتعلق بذي المقدمة كاف في
إيجاد الداعي بالنسبة إلى المقدمات أيضا، فتأمل.
الرابع:
من الأدلة، الوجدان، وتقريبه أنا إذا راجعنا وجداننا نرى أن المولى إذا
أمر بشئ له مقدمات، تكون هذه المقدمات أيضا مطلوبة له،
بمعنى أن له حالة بعثية بالنسبة إليها، بحيث لو التفت إليها لارادها و
أمر بها، فهي واجبة ومرادة بوجوب تبعي وإرادة تبعية وإن لم
تكن ملتفتا إليها فعلا، ولذلك قد تراه يجعلها في قالب الطلب مستقلا،
فيقول مثلا: ادخل السوق واشتر اللحم.
وفيه: أنا لا نسلم شهادة الوجدان على وجوب المقدمة، بل هو من
أقوى الشواهد على عدمه،
[1] أقول: لا يخفى أن تسمية اشتياق المولى صدور الفعل عن عبده
بتوسيط إرادته بالإرادة لا تخلو عن مسامحة، لما هو المحقق في محله
من الفرق البين بين الشوق (وإن كان مؤكدا) وبين الإرادة، فإن الإرادة
حالة إجماعية للنفس لا تنفك من الفعل أبدا، بخلاف الشوق
المؤكد فإنه مع كمال تأكده قد ينفك منه الفعل لوجود بعض الموانع. و
ما ينقدح في نفس المولى بالنسبة إلى فعل العبد هو الشوق
المؤكد ثم إرادة البعث دون إرادة الفعل، وإنما تنقدح إرادة الفعل في
نفس الفاعل، وهي العلة لصدور الفعل عنه دون الشوق المؤكد
المنقدح في نفسه أو نفس المولى، فإنه قد ينفك منه الفعل، وانفكاك
المعلول من العلة محال. وما قد يتعلق بأمر استقبالي فيظن كونه
إرادة فإنما هو مصداق للشوق المؤكد والمحبة لا الإرادة، إذ الإرادة
إنما هي الحالة المستعقبة للفعل بلا فصل بينهما، وعليك بالتأمل
التام، حتى لا يختلط عليك الامر، وتميز بين المحبة والشوق وبين
الإرادة. وليعلم أيضا أنه من الاشتباهات الجارية على الألسنة جعل
الكراهة في قبال الإرادة، مع أنها في قبال الشوق والمحبة. ح - ع - م.
202

بداهة أنه بعد مراجعة الوجدان لا نرى فيما ذكرت من المثال إلا بعثا
واحدا، ولو سئل المولى - بعد ما أمر بشئ له مقدمات - هل لك في
هذا الموضوع أمر واحد أو أوامر متعددة؟ فهل تراه يقول:
إن لي أوامر متعددة؟ لا، بل يجيب بأن لي بعثا واحدا وطلبا فاردا
متعلقا بالفعل المطلوب. نعم، لا ننكر أن العقل يحكم بوجوب إتيان
المقدمات حفظا لغرض المولى وتمكنا من إتيانه، ولكن أين هذا من
الوجوب الشرعي والطلب المولوي. وبالجملة: الوجدان من أقوى
الشواهد على عدم تعدد البعث من قبل المولى بتعدد المقدمات، و
لذا لو التزم المولى بأن يعطي بإزاء كل أمر امتثله العبد دينارا، فامتثل
العبد أمرا صادرا عنه متعلقا بفعل له ألف مقدمة مثلا، فهل ترى للعبد
أن يطالب المولى بأكثر من دينار واحد؟ ولو طالبه فهل يجب على
المولى إعطاؤه؟ لا، ولا يرى العبد نفسه مستحقا إلا لدينار واحد، و
ليس ذلك إلا لعدم وجود البعث بالنسبة إلى المقدمات، بل الموجود
بعث واحد متعلق بالفعل المطلوب حتى في صورة جعل المقدمة في
قالب الطلب أيضا، لما عرفت من أن البعث نحو المقدمة، بما هي
مقدمة
عين البعث نحو ذيها بالنظر الدقيق. هذا مضافا إلى أن الوجوب الذي
لا امتثال له ولا عقاب على مخالفته ولا يحصل بموافقته ومخالفته
قرب ولا بعد يكون كالعدم، ولا يستحق لان يطلق عليه اسم الامر و
البعث ونحوهما.
فتحصل مما ذكرنا أن الصادر عن المولى بعث واحد وطلب فارد
متعلق بالمطلوب بالأصالة وبمقدماته بالعرض.
ونظير البعث الانشائي البعث العملي، فإن المولى إذا أخذ بيد العبد و
جره نحو المطلوب فلا يعد هذا البعث إلا بعثا واحدا متعلقا
بالمطلوب النفسي، ولا يكون هذا البعث متعددا عند العقلا بعدد
المقدمات، بحيث يرى كل واحدة منها مبعوثا إليها بالاستقلال، هذا
كله
فيما يتعلق بمقدمة الواجب.
مقدمة المستحب والحرام:
وأما مقدمة المستحب فيعرف الكلام فيه مما سبق في مقدمة
الواجب، وقد عرفت أن مقدمة الواجب ليست مبعوثا إليها بنحو
يستحق أن
يطلق عليه اسم البعث والامر، فقس عليها مقدمة المستحب فلا
تستحق أن يقال: إنها من المستحبات الشرعية في قبال سائر
المستحبات.
وأما مقدمة الحرام فالتحقيق فيها أن يقال: إنه قد اختلف في معنى
النهي فقد يقال: إنه عبارة عن طلب الترك، بمعنى أنه يشترك مع
الامر في كون كليهما من مقولة الطلب والبعث، غاية الأمر
203

أن المتعلق في النهي هو الترك، وفي الامر هو الفعل. وقد يقال: إن
النهي ليس من مقولة الطلب والبعث، بل هو عبارة عن الزجر عن
الفعل، فالمتعلق في كل من الأمر والنهي واحد وهو الفعل، والفرق
بينهما إنما هو في أصل الحقيقة، فالامر عبارة عن البعث، والنهي
عبارة عن الزجر، فإن قلنا:
إن النهي عبارة عن طلب الترك، فالترك فيه مبعوث إليه فيصير واجبا
من الواجبات الشرعية وتكون مقدماته - أعني التروك المتوقف
عليها هذا الترك - أيضا واجبة بناء على الملازمة، وبعبارة أخرى يصير
الكلام فيه عين الكلام في مقدمة الواجب، وأما إذا قلنا بكونه
عبارة عن الزجر عن الفعل، فلو كان وجود هذا الفعل في الخارج
متوقفا على وجودات أخر فلا يستلزم الزجر عنه الزجر عن هذه
الوجودات.
نعم إن كانت المقدمة مقدمة سببية للحرام، بأن كان وجودها علة تامة
لوجوده كانت محرمة أيضا، أما على القول بأن المسببات في
الافعال التوليدية غير مقدورة فظاهر، إذ النهي يتعلق حقيقة بالسبب، و
إن تعلق بحسب الظاهر بالمسبب، وأما على القول المرضي من
أن النهي يمكن تعلقه بالمسبب لكونه مقدورا بالواسطة، فالنهي يتعلق
بالسبب أيضا، ولكن بالعرض والمجاز، بحيث يكون الزجر عن
المسبب عين الزجر عن السبب أيضا، كما عرفت بيان ذلك في البعث
والطلب.
204

الفصل الرابع في أن الامر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده؟
205

هل الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده؟ اختلفوا في أن الامر بالشئ
يقتضي النهي عن ضده، بحيث يصير حراما شرعيا أو لا؟ وقد
قسموا الضد إلى العام والخاص، ومرادهم بالضد الخاص أحد
الاضداد الوجودية على نحو التعيين كالصلاة بالنسبة إلى الإزالة، و
ذكروا
للضد العام معنيين: أحدهما - وهو المشهور - الترك، وثانيهما أحد
الاضداد الوجودية لا بعينه. والأقوال في المسألة كثيرة، فقال
بعضهم: إن الامر بالشئ عين النهي عن ضده وآخرون: إن دلالته عليه
بالتضمن، ومنهم من قال: إن دلالته عليه بالالتزام، ثم اختلفوا في
أن اللازم هنا بين أو غير بين بالمعنى الأخص أو الأعم.
ثم إن بعضا منهم قد أطلق في مقام طرح النزاع، وبعضهم قال: إن النزاع
في الضد العام وأما الخاص فلا نزاع في عدم اقتضاء الامر
للنهي عنه، وقال آخرون: إن النزاع في الخاص، وأما العام بمعنى
الترك، فلا نزاع في دلالة الامر على النهي عنه.
ثم إن الظاهر كون المسألة من المبادئ الاحكامية، وقد كان القدماء من
الأصوليين يذكرون في كتبهم الأصولية نبذا من المبادئ اللغوية،
ونبذا من المبادئ العقلية كالبحث عن الحسن والقبح، ونبذا من
المبادئ الاحكامية. والمراد بالمبادئ الاحكامية لوازم الاحكام و
ملزوماتها وملازماتها، وحيث إن الموضوع في علم الأصول عبارة
عما هو الحجة على الأحكام الشرعية احتاج الأصولي من جهة زيادة
البصيرة إلى البحث عن أقسام الأحكام الشرعية، والبحث عن لوازمها
وملازماتها وملزوماتها.
أقسام المتغايرين:
اعلم أن أرباب المعقول قسموا المتغايرين إلى المثلين والخلافين و
المتقابلين، ثم قسموا المتقابلين
206

إلى النقيضين والضدين والمتضايفين والعدم والملكة، إذ التقابل إما
أن يكون بين وجوديين أو بين وجودي وعدمي، أما الثاني فهو
على قسمين: إيجاب وسلب إن كان العدم عدما مطلقا، وعدم وملكة
إن كان العدم عدم ما من شأنه الوجود، وأما الأول فإن كان كل
من الوجوديين في مقام التعقل محتاجا إلى الاخر، فهما متضايفان وإلا
فمتضادان. وقد عرفوا الضدين بأنهما أمران وجوديان
يتعاقبان على موضوع واحد، وبينهما غاية الخلاف ويشتركان في
جنس قريب. والضد عند الأصوليين أعم مما ذكره أهل المعقول، لما
عرفت من أنهم يطلقون الضد على الترك أيضا. [1]
الضد العام:
إذا اتضحت لك هذه الأمور فلنشرع في البحث عن أصل المسألة،
فنقول: الظاهر أن القائلين بكون الامر بالشئ عين النهي عن ضده، أو
كون النهي عن الضد جزا له أرادوا بالضد الضد العام، وإلا فادعاء
العينية أو الجزئية في الضد الخاص في غاية البعد. أما القائلون
بالجزئية في الضد العام فقد دعاهم إلى هذا القول توهم أن الوجوب -
الذي هو مدلول الامر - عبارة عن طلب الشئ مع المنع من الترك،
بحيث يكون الطلب جنسا والمنع من الترك فصلا له. وهذا توهم
فاسد لما عرفت سابقا من أن الوجوب عبارة عن مرتبة أكيدة من
الطلب الانشائي، وهو أمر بسيط، غاية الأمر أن القدماء كانوا يعبرون
عنه في مقام التعليم والتفهيم بذلك المركب، فليس هو أمرا مركبا
من الجنس والفصل.
وأما القائلون بالعينية في الضد العام فعمدة نظرهم إلى ما زعموه من
كون حقيقة النهي عبارة عن طلب ترك متعلقه فإذا كان المتعلق له
تركا صار معناه طلب ترك الترك، وهو عين طلب الفعل، فإن عدم
العدم وإن كان يغاير الوجود مفهوما، لكنهما متحدان في نفس
الامر، فكل ما هو مصداق للوجود فهو بعينه مصداق لعدم العدم، لا
نقول: إنه مصداق له حقيقة فإن الامر الوجودي بما هو كذلك يستحيل
أن يكون مصداقا حقيقيا للعدم، بل نقول: إنه إن قطعنا النظر عن
مفهومي الوجود وعدم العدم، وحاولنا لحاظ ما هو الوجود في نفس
الامر وما هو عدم العدم في نفس الامر وجدنا نفس أمريتهما واحدة.
وبالجملة: الامر بالفعل عبارة عن طلب الفعل الذي هو عين طلب
ترك ترك الفعل في نفس
[1] بل الصلاة والإزالة أيضا مع كونهما وجوديين ليستا بضدين عند
أرباب المعقول، كما يظهر وجهه بمراجعة تعريف الضدين. ح - ع -
م.
207

الامر وهو بعينه مفاد النهي عن الترك، فإن النهي على زعم هذا القائل
بمعنى طلب الترك، فإذا تعلق بالترك صار معناه طلب ترك
الترك، فالامر بالشئ على هذا عين النهي عن الترك بحسب نفس
الامر، وإن تغايرا مفهوما، هذا ما ذكروه في المقام.
أقول: قد عرفت ابتناء ذلك على كون مفاد النهي عبارة عن طلب الترك
وسيتحقق لك في محله فساد هذا المبنى، وأن النهي ليس من
سنخ الطلب الذي هو البعث نحو الشئ، بل هو من سنخ الزجر الذي
هو عبارة عن منع الشئ، فليس اختلاف الأمر والنهي في المتعلق
فقط
بأن يتوافقا في كونهما بمعنى الطلب ويختلفا في متعلق الطلب، بل
المتعلق في كليهما أمر واحد وهو الفعل، غاية الأمر أن الامر لطلب
الفعل والنهي للزجر عنه.
ولقائل أن يقول: إن الامر بالشئ ملازم للنهي عن ضده العام، وإن قلنا
بكون النهي من مقولة الزجر لا الطلب، لا بمعنى أن يكون في كل
واقعة تكليفان: وجوب تعلق بالفعل وحرمة شرعية تعلقت بالترك، بل
بمعنى أن البعث نحو الفعل هو بعينه عبارة عن الزجر عن تركه
بحسب نفس الامر وإن اختلفا مفهوما، فإن الامر بالفعل يصح أن يقال
في حقه: إنه غير راض بالترك وإنه زاجر عنه بنحو من
المسامحة، كما أن الامر في النهي بعكس ذلك، فإنه - كما عرفت -
حقيقة في الزجر عن متعلقه، ولكنه يمكن أن يقال بملازمته في نفس
الامر لطلب ترك متعلقه لا بمعنى أن يكون هنا وجوب شرعي تعلق
بالترك في قبال الزجر المتعلق بالفعل، بل بمعنى أن الزجر عن
الفعل هو بعينه عبارة عن البعث نحو الترك في نفس الامر لا مفهوما،
فمن قال:
(لا تزن) مثلا وإن كان الصادر عنه حقيقة هو الزجر وعن الزنا ولكن
يمكن أن ينسب إليه أنه طالب لترك الزنا وباعث عبده نحوه، و
على هذا فيمكن أن يقال: إن من فسر النهي بطلب ترك المتعلق كان
ناظرا إلى هذا المعنى، لا أنه أراد كون النهي من سنخ الطلب حقيقة،
فإنه واضح البطلان كما عرفت. هذا بعض الكلام في الضد العام أعني
النقيض باصطلاح أهل المعقول.
الضد الخاص:
وأما الضد الخاص بمعنى أحد الأضداد الوجودية بعينه - الذي هو
ضد باصطلاح الفلسفي أيضا - فهو العمدة في هذه المسألة وقد
اشتهر
النزاع فيه بين الأصوليين.
وتظهر عندهم ثمرة المسألة فيما إذا كان الضد الخاص للواجب عبادة،
فإن الامر بالواجب لو اقتضى النهي عنها كان اللازم بطلانها إذا
أتى بها العبد تاركا للواجب، مثال ذلك أداء الدين
208

الواجب من فور أو إزالة النجاسة عن المسجد، فإن فعل الصلاة ضد
لهما، بمعنى أنه لا يمكن اجتماعها معهما في الوجود في آن واحد،
فلو
كان الامر بأداء الدين أو إزالة النجاسة عن المسجد مقتضيا للنهي عن
ضده كان اللازم بطلان صلاة المكلف، إن أتى بها حين الامر بهما.
أدلة القول بحرمة الضد الخاص:
إن القائلين بحرمة الضد الخاص كانوا في الاعصار المتقدمة يستدلون
على الحرمة بوجهين:
الأول:
أن إتيان الضد كالصلاة مثلا مستلزم للمحرم، ومستلزم المحرم محرم،
أما الصغرى فلان إتيان الضد كالصلاة مستلزم لترك الواجب،
أعني الإزالة مثلا، وترك الواجب محرم، لكونه ضدا عاما للواجب، و
الامر بالشئ يدل على حرمة ضده العام قطعا، فإتيان الضد مستلزم
للمحرم. وأما الكبرى فلان المراد بالاستلزام فيها هو المقدمية للحرام،
بنحو لا ينفك وجود الحرام من المقدمة، وحرمة المقدمة السببية
للحرام مما لا ريب فيها.
الثاني:
أن إتيان الواجب، أعني الإزالة مثلا متوقف على ترك ضده أعني
الصلاة، فيجب ترك الصلاة من باب المقدمية للواجب، ولازم ذلك
حرمة
الصلاة من جهة كونها ضدا عاما لترك الصلاة، إذ لضد العام للترك هو
الفعل، كما أن الضد العام للفعل هو الترك.
وإن شئت قلت: إن الضد العام للترك، ترك الترك، وهو يتحد مع
الفعل في نفس الامر، وإن اختلفا مفهوما.
هذا ما ذكروه من الوجهين، وأنت ترى توقف الأول منهما على كون
الامر بالشئ مقتضيا للنهي عن ضده العام، وكون مقدمة الحرام
حراما، كما أن الثاني منهما يتوقف على حرمة الضد العام أيضا، وكون
مقدمة الواجب واجبة، وكون ترك أحد الضدين مقدمة لوجود
الضد الاخر.
والفرق بين الوجهين واضح، فإن الأول منهما يبتنى على كون فعل
الضد مقدمة لترك الواجب المحرم، فيكون حراما، والثاني منهما
يبتنى على كون ترك الضد مقدمة لفعل الواجب، فيكون واجبا من
جهة المقدمية للواجب.
واعلم أن التضاد من النسب المتشابهة الأطراف، كالاخوة مثلا، فأي
حكم ثبت لاحد الطرفين من جهة التضاد فلا محالة يثبت للطرف الآخر
أيضا، فلو كان فعل أحد الضدين مقدمة لترك الاخر كان فعل
الاخر أيضا مقدمة لترك هذا، كما أن ترك أحدهما لو كان مقدمة
لفعل الاخر كان ترك الاخر أيضا مقدمة لفعله. وعلى هذا فمقتضى
الجمع بين الدليلين الالتزام بدور
209

واضح، إذ المصرح به في الدليل الأول هو أن فعل الصلاة مثلا مقدمة
لترك الإزالة، ولازمه - على ما ذكرنا - هو كون فعل الإزالة أيضا
مقدمة لترك الصلاة، والمصرح به في الدليل الثاني هو كون ترك
الصلاة مقدمة لفعل الإزالة - التي هي الواجب - ولازمه أيضا كون
ترك الإزالة مقدمة لفعل الصلاة، والحاصل أن لازم الدليل الأول هو
كون فعل الإزالة مقدمة لترك الصلاة، والمصرح به في الدليل الثاني
هو كون ترك الصلاة مقدمة لفعل الإزالة، وهذا دور واضح.
مقدمية وجود أو عدم أحد الضدين للاخر:
وحيث انجر الكلام إلى البحث عن وجود المقدمية بين وجود أحد
الضدين وعدم الاخر، فالأولى أن نشرع في تحقيق المسألة بنحو
التفصيل، فنقول: اختلفوا في المسألة على أقوال:
الأول: عدم المقدمية من الطرفين، فلا وجود أحد الضدين مقدمة لعدم
الاخر، ولا عدم أحدهما مقدمة لوجود الاخر، وهذا القول هو
الموافق للتحقيق.
الثاني: المقدمية من طرف العدم دون الوجود، فعدم كل منهما مقدمة
لوجود الاخر من دون عكس. وبعبارة أخرى: وجود كل منهما
يتوقف على عدم الاخر، لعدم إمكان اجتماع الضدين، وأما عدم كل
منهما فلا يتوقف على وجود الاخر، لجواز ارتفاع الضدين.
الثالث: تسليم المقدمية من الطرفين فيكون وجود كل منهما مقدمة
لعدم الاخر، وعدم كل منهما أيضا مقدمة لوجود الاخر، ويستفاد
الالتزام بهذا القول من كلام الحاجبي والعضدي، حيث أجابا عن
استدلال القائلين بحرمة الضد من جهة توهم مقدمية عدمه للواجب،
وعن
استدلال الكعبي على انتفاء المباح من جهة توهم توقف ترك
المحرمات على اشتغال الانسان بفعل من الافعال فيكون واجبا من
باب
المقدمية بما حاصله، إنكار وجوب المقدمة، فيستفاد من هذا الجواب
تسليمهما لأصل المقدمية في كلا الطرفين.
الرابع: التفصيل المستفاد من المحقق الخوانساري في كون عدم
أحدهما مقدمة لوجود الاخر.
فقال ما حاصله: إن أحد الضدين إن كان موجودا فرفعه مقدمة لوجود
الاخر. بخلاف ما إذا لم يكن واحد منهما موجودا فإنه لا مقدمية
حينئذ في البين. والأقوى في المسألة كما عرفت هو القول الأول. و
ليعلم أولا أن النزاع إنما هو في أن نفس التضاد بين الشيئين يوجب
مقدمية وجود أحدهما لعدم الاخر، أو مقدمية عدم أحدهما لوجود
الاخر، أو لا يوجب، فلا ينافي منع المقدمية من جهة التضاد وجود
ملاكها اتفاقا من جهة أخرى في بعض الموارد، فاللازم علينا فيما نحن
فيه
210

هو إثبات أن نفس التضاد، بما هو تضاد، لا يوجب المقدمية، لا من
طرف الوجود، ولا من طرف العدم. وحيث تصورت محل البحث
تيسر
لك التصديق بما اخترناه، وكنت على بينة من ربك على أن التضاد لا
يستلزم المقدمية، بيان ذلك: أن مقتضى التضاد بين شيئين هو
استحالة اجتماعهما في الوجود، وعدم إمكان وجود أحدهما في
ظرف وجود الاخر في موضوع واحد، فهذا الاجتماع من المحالات، و
ارتفاع هذا المحال إنما هو بارتفاع موضوعه أعني الاجتماع، وارتفاعه
إنما هو بارتفاع كلا الوجودين، أو بارتفاع أحدهما وانقلاب
وجوده إلى العدم، فما هو مقتضى التضاد بين الوجودين إنما هو عدم
اجتماعهما في الوجود، لا تقدم عدم أحدهما على وجود الاخر، أو
تقدم وجود أحدهما على عدم الاخر ولو طبعا، فإن التقدم يحتاج إلى
ملاك آخر غير نفس التضاد.
وبالجملة: انقلاب موضوع الاستحالة، أعني الاجتماع إلى موضوع
الامكان إنما هو بارتفاع الضدين أو باجتماع وجود أحدهما مع عدم
الاخر، لا بوجود الترتب بين وجود أحدهما وعدم الاخر، فإن هذا
خارج مما يقتضيه نفس التضاد بين الوجودين، فانقدح بذلك عدم
التمانع بين الضدين من جهة الضدية. نعم، يمكن أن يكون وجود العلة
التامة لاحد الضدين مانعا عن وجود الاخر، كما إذا كان هنا شي
واحد فأراد رجل سكونه والاخر تحريكه، فتأمل. [1]
كيفية الترتب بين أجزأ العلة:
إن ما ذكرناه في وجه عدم التمانع بين الضدين أولى مما ذكره بعض
الأعاظم، وحاصل ما ذكره أنه يتحقق الترتب بين أجزأ العلة في
استناد المعلول إليها وجودا وعدما، فكما أن في طرف الوجود رتبة
المقتضي قبل الشرط ورتبة الشرط قبل عدم المانع، فكذلك في
طرف العدم، فعدم المعلول عند عدم المقتضي لا يستند إلا إليه، و
استناده إلى عدم الشرط إنما هو بعد وجود المقتضي، كما أن استناده
إلى وجود المانع إنما هو بعد وجود المقتضي والشرط كليهما، فمانعية
الشئ متوقفة على وجود المقتضي والشرط للمعلول، وعلى هذا
فلا تمانع بين الضدين، إذ لا يمكن
[1] ولا يتوهم أن عدم أحدهما عند وجود العلة التامة للاخر يكون
مستندا إلى وجود الاخر، لا إلى وجود علته، ضرورة بطلان ذلك من
جهة أنه يكفي في هذا العدم وجود العلة للضد الاخر، سواء وجد
نفس الضد أم لم يوجد، بأن صارت علته مزاحمة بعلة الاخر وكانتا
متكافئتين. ح - ع - م.
211

وجود المقتضي لكليهما، فإن وجد أحدهما يكون الاخر معدوما، و
لكن لا لوجود المانع بل لعدم المقتضي. وبالجملة لا يكون وجود أحد
الضدين مقدمة لعدم الاخر، ولا عدم أحدهما مقدمة لوجود الاخر،
لابتناء كليهما على مانعية أحد الضدين للاخر، وقد عرفت عدم
المانعية (انتهى).
وفي هذا البيان نظر، لان الترتب الثابت بين أجزأ العلة إنما هو بالنسبة
إلى حال التأثير، وأما بالنسبة إلى توقف المعلول عليها فهي
بأسرها في عرض واحد، فإذا قيل لك: إن وجود الشئ المعهود على
أي شي يبتنى؟ قلت: إنه يبتنى ويتوقف على ثلاثة أشياء: المقتضى،
والشرط، وعدم المانع، من دون أن يكون من الترتب اسم في البين، و
هذا واضح. [1]
إنكار ثمرة المسألة والجواب عنه:
ثم إنك قد عرفت أن ثمرة المسألة - أعني حرمة الضد الخاص - هي
بطلانه إذا كان أمرا عباديا، كالصلاة التي هي ضد للإزالة المأمور
بها، وقد نقل عن الشيخ البهائي (قده) إنكار هذه الثمرة، بتقريب: أن
الامر بالإزالة التي هي أهم من الصلاة وان لم يكن مقتضيا للنهي
عن الصلاة، لكنه يقتضي عدم الامر بها، ويشترط في صحة العبادة
كونها مأمورا بها.
والوجه في ذلك: أن الامر إنما يصدر عن المولى بداعي البعث و
التحريك، ولا يوجد في نفسه هذا الداعي إلا إذا رأى العبد متمكنا من
الانبعاث عن أمره، ولما كان انبعاثه نحو الضدين في زمان واحد من
المحالات فلا محالة يكون بعث المولى الملتفت نحوهما أيضا من
المحالات، لعدم انقداح الداعي لهذا البعث في نفسه.
وبالجملة: الامر بالضدين في زمان واحد بداعي البعث بنفسه محال،
لا أنه تكليف بالمحال، وحينئذ فلو كانت الإزالة مأمورا بها في
زمان، لم يمكن كون الصلاة مأمورا بها أيضا، وإذا لم تكن مأمورا بها،
وقعت غير صحيحة، سواء كان الامر بالإزالة مقتضيا للنهي عنها
أم لا.
الجواب بوجوه ثلاثة:
قد أجابوا عن هذا الاشكال بوجوه ثلاثة:
الأول: أن صحة العبادة لا تتوقف على كونها مأمورا بها، بل يكفي فيها
وجود الملاك لها
[1] وإن شئت قلت: إن الترتب إنما هو في طرف الوجود، وأما في
طرف العدم فلا تأثير ولا تأثر، حتى يتحقق الترتب في الاستناد ح -
ع - م.
212

وعدم النهي عنها، والصلاة المزاحمة بالإزالة، وإن لم تكن مأمورا بها
من جهة الاستحالة كما ذكر، ولكن نقطع بعدم تفاوتها مع
الافراد غير المزاحمة في الملاك والمصلحة الموجبة لايجابها والامر
بها.
الثاني: أن يقال إن الصلاة أيضا مأمور بها، بنحو الترتب، كما سيجئ
تحقيقه.
الثالث: أن يقال بصحة الامر بأحد الضدين على نحو التضيق، وبالاخر
بنحو التوسعة، بحيث يكون زمان الأول أيضا جزا من زمان
الثاني. وهذا الجواب لا يجري فيما إذا كان الضدان مضيقين، بخلاف
الأولين.
إذا عرفت الأجوبة الثلاثة: بنحو الاجمال، فلنشرع في تفصيلها، فنقول:
1 - تفصيل الوجه الثالث:
أما الوجه الثالث فقد اختلف في صحته وسقمه، واستدل القائلون
بعدم الصحة: بأنه لا معنى لايجاب الفعل في زمان أوسع مما يحتاج
إليه
عقلا إلا كون المكلف مخيرا في إيجاده في أي جز منه أراد، فمعنى
قوله: صل من الظهر إلى الغروب) مثلا أنك مخير في إيجاد الصلاة
في أي جز من هذا الزمان، فهو مساوق لقوله: صل في الان الأول، أو
الثاني، أو الثالث، وهكذا، وعلى هذا فلو أمر بالإزالة في أول وقت
الظهر مثلا تعيينا، وبالصلاة من أوله إلى الغروب تخييرا، لزم بالنسبة
إلى الان الأول اجتماع بعثين نحو ضدين، وإن كان أحدهما
تخييريا، وهذا محال، لاستلزامه تخيير المكلف بين أمر محال وأمر
ممكن، والامر بالمحال تخييرا كالأمر به تعيينا أمر بالمحال، بل هو
بنفسه محال كما مر بيانه. لا يقال: إن التخيير هنا ليس بشرعي بل
عقلي، فإن الشارع بنفسه لم يخير بين أجزأ الزمان، بل أمر بإيجاد
الفعل في ساعة كلية موجودة بين الحدين منطبقة على كل واحدة من
الساعات الموجودة بينهما انطباق الكلي على أفراده نظير الكلي في
المعين.
فإنه يقال: إن أردت بالساعة التي جعلتها ظرفا للفعل مفهوم الساعة.
ففيه: أنها وإن كانت كلية، ولكنه من الواضحات عدم كونها ظرفا
للفعل، بداهة عدم إيجاب إيجاد الفعل في مفهوم الزمان. وإن أردت
بها الساعة الخارجية التي تكون جزا من مجموع الزمان المجعول
ظرفا. ففيه: ان نسبة الساعة إلى مجموع الزمان المحدود بالحدين نسبة
الجز إلى الكل، لا الكلي إلى أفراده، وعلى هذا فيرجع جعله
ظرفا للفعل - مع كونه أوسع مما يحتاج إليه - إلى
213

التخيير الشرعي بين أجزائه: أعني الساعات المتحققة بين الحدين،
هذه غاية ما يمكن أن يقال في تقريب المنع.
متعلق الحكم في الواجب الموسع نفس الطبيعة لا أفرادها:
وتحقيق الجواب عن ذلك هو أن يقال: إن الزمان المجعول ظرفا
للواجب الموسع وإن لم يكن كليا، بل هو كل ذو أجزأ، ولكن المتعلق
للتكليف في الواجبات الموسعة كلي ذو أفراد، ولازم ذلك عدم سراية
الحكم إلى الخصوصيات الفردية.
بيان ذلك: أن الشارع إذا قال مثلا: (صل من الظهر إلى الغروب) بنحو
التوسعة في الوقت، فما هو المتعلق للوجوب عبارة عن طبيعة
الصلاة الكلية المقيدة بوقوعها في هذا الزمان الوسيع المحدود
بالحدين، فالزمان وإن لم يكن كليا بل هو كل ذو أجزأ، لكن المتعلق
للوجوب هو طبيعة الصلاة المقيدة بوقوعها بين الحدين، وهذه
الطبيعة المقيدة أمر كلي قابل للانطباق على كثيرين، فمن أفرادها
الصلاة التي تقع في الان الأول من الزمان الوسيع، ومن أفرادها الصلاة
الواقعة في الان الثاني منه، وهكذا إلى آخره.
وبعبارة أخرى: الزمان المجعول ظرفا وإن لم يكن كليا، ولكن
المظروف الذي هو المتعلق للامر كلي قابل للانطباق على كل فرد من
الصلوات التي توجد بين الحدين، ونظير ذلك المكان الوسيع إذا
جعل ظرفا للفعل الواجب، فإذا قال المولى: يجب عليك الوقوف
بعرفات، فنفس (عرفات) ليست كلية، وإنما هي أرض ذات أجزأ
خارجية، ولكن الواجب على المكلف عبارة عن طبيعة الوقوف
المقيد
بعدم خروجه من حدود عرفات، فإذا وقف المكلف في أي جز من
عرفات صدق عليه أنه (وقوف بعرفات) صدق الكلي على أفراده، و
إن كانت نسبة نفس عرفات إلى هذا الجز نسبة الكل إلى أجزائه، و
حيث تبين لك حال ظرف المكان فقس عليه ظرف الزمان، فالواجب
من الظهر إلى الغروب هو طبيعة الصلاة المقيدة بعدم خروجها من بين
الحدين، وتصدق هي على كل فرد من الصلوات الواقعة بين
الحدين صدق الكلي على أفراده وإن كان نفس الزمان كلا بالنسبة إلى
كل واحد من أجزائه.
إذا عرفت هذا فنقول: إن الحكم إذا تعلق بطبيعة مهملة قابلة للانطباق
على كثيرين فما هو المتعلق للحكم عبارة عن نفس حيثية الطبيعة،
ولا يسري إلى واحدة من الخصوصيات الفردية، بداهة عدم دخالتها
في الغرض الباعث على الحكم.
214

وبالجملة: متعلق الحكم أمر وحداني، لا تكثر له في ذاته بوجه من
الوجوه، غاية الأمر أن امتثال المكلف لهذا الحكم إنما هو بإتيان فرد
من هذه الطبيعة المأمور بها، والفرد عبارة عن الطبيعة المتخصصة
بالخصوصيات، ولكن الاتيان به محقق للامتثال لا بما أنه إتيان
بالفرد المتخصص، بل بما أنه إتيان بأصل الطبيعة المأمور بها بحيث لو
أمكنه - على فرض المحال - إتيانها مجردة من جميع
الخصوصيات الفردية لوقعت مصداقا للامتثال.
وبعبارة أخرى: متعلق الأمر نفس حيثية الطبيعة الكلية، وتستحيل
سرايته إلى ما لا دخل له في الغرض من الخصوصيات الفردية، و
امتثال هذا الامر إنما هو بإتيان نفس الطبيعة، غاية الأمر أن إتيانها بإتيان
واحد من الافراد، لكن الفرد المأتي به لا يقع مصداقا للامتثال
بجميع خصوصياته، بل بجهة أصل حيثية الطبيعة المتحققة به.
ففيما نحن فيه قد تعلق الامر الموسع، أعني الامر الصلاتي مثلا بنفس
طبيعة الصلاة المقيدة بوجودها بين الحدين، من دون أن يلاحظ
المولى واحدة من الخصوصيات المفردة، - من الوقوع في الان الأول
أو الان الثاني مثلا -، أو يلاحظ إطلاقها بالنسبة إلى جميع الافراد
المتصورة لها من جهة سعة وقتها، وإن أتى بها العبد في الان الأول مثلا
فقد امتثل أمر المولى ويكون إتيانها إتيانا بالطبيعة المأمور
بها، لا بما أنه إتيان بالصلاة في هذا الان، بل بما أنه إتيان بما هو المأمور
به، أعني الصلاة الواقعة بين الحدين، وكذلك إن أتى بها في
الان الثاني أو الثالث إلى آخر الوقت، وليس الامر متعلقا بالصلاة
الواقعة في الان الأول مثلا، حتى يقال بمزاحمته للامر المتعلق في هذا
الزمان بالإزالة، بل الامر قد تعلق بنفس الطبيعة الكلية المقيدة بوقوعها
بين الحدين أعني من الظهر إلى الغروب، وهذا الامر لا يطارد
الامر المتعلق بالإزالة بوجه من الوجوه، لقدرة المكلف على امتثال
كليهما، ولا تشترط القدرة على إتيان الفرد الأول لأنه ليس مأمورا به،
وإنما تشترط القدرة على ما هو المأمور به أعني الطبيعة المقيدة
بوقوعها بين الحدين، وهي مقدورة بالقدرة على بعض مصاديقها.
ليس في التشريع جزاف:
وبتقرير آخر: الأوامر الشرعية ليست جزافية، حتى تتعلق بأي شي، و
إنما تتعلق هي بما يكون مشتملا على المصالح المنظورة و
الاغراض الملحوظة، ولا تتعلق أبدا بما لا دخالة له في الغرض
الباعث على الامر، وحينئذ فقد يكون المشتمل على المصلحة عبارة
عن
215

حيثية الطبيعة، فيجب لا محالة أن يتعلق الامر بنفس الطبيعة المطلقة،
لا بقيد إطلاقها، بحيث يكون الاطلاق أيضا ملحوظا، بل بنفس حيثية
الطبيعة التي لها إطلاق وسريان ذاتي، وقد يكون المشتمل على
المصلحة عبارة عن الطبيعة المقيدة بقيد واحد أو أكثر، فحينئذ لا بد
من
أن يتعلق الامر بهذه الطبيعة المشتملة على المصلحة - أعني المقيدة
بالقيد الواحد أو الأكثر -، ولا يجوز في صورة عدم دخالة خصوصية
من الخصوصيات في اشتمال الطبيعة على المصلحة أن تعتبر هذه
الخصوصية في متعلق الأمر للزوم الجزاف. وعلى هذا ففي ما نحن فيه
ما هو المشتمل على الملاك والمصلحة عبارة عن طبيعة الصلاة
المقيدة بوقوعها بين الحدين، فتقييدها عند الامر بها بالوقوع في غير
الان الأول مثلا تقييد لها بما لا دخالة له في اشتمالها على المصلحة،
فلا يجوز للمولى هذا التقييد، بل يجب عليه أن لا يلاحظ إلا ما له
دخل
في المصلحة الباعثة على الامر، فالمتعلق للامر الصلاتي ليس إلا
طبيعة الصلاة المقيدة بوقوعها بين الحدين، وهذه الطبيعة مقدورة
بواسطة القدرة على فرد منها، وإذا أتى المكلف واحدة من أفرادها
فقد تحقق منه الامتثال، سواء كان هو الفرد الأول أو الثاني أو
غيرهما، فإن ترك المكلف إتيانها في ضمن الفرد الأول صار الفرد
الأول غير مقدور من جهة مضي وقته، ولكن الطبيعة المأمور بها
باقية على مقدوريتها، وكذا إن ترك إتيانها في ضمن الفرد الثاني، و
كذلك الفرد الثالث، وهكذا، بل لو ترك إتيانها في ضمن جميع
الافراد الطولية المتصورة لها سوى الفرد الأخير، فالافراد كلها سوى
الفرد الأخير صارت غير مقدورة، ولكن الطبيعة المأمور بها
باقية على المقدورية من جهة القدرة على إتيانها في ضمن الفرد
الأخير، وإن أتى المكلف بهذا الفرد صار فعله مصداقا للامتثال، لا بما
أنه إتيان بالطبيعة في هذا الزمان القصير، بل بما أنه إيجاد لما هو
المشتمل على المصلحة أعني الطبيعة الواقعة بين الحدين.
نعم، بعد تضيق وقتها وانحصارها في فرد واحد، ليس للمولى الامر
المطلق بشئ آخر مضاد له، ولكن لا من جهة أن هذا الفرد يصير
غير مقدور على فرض إتيان ضده، بل من جهة أن نفس الطبيعة تصير
غير مقدورة، ولا يقاس على ذلك ما إذا أمر المولى بالضد الاخر
في أول الوقت، فإنه إنما يزاحم الفرد الأول لا نفس الطبيعة، والقدرة
على نفس الطبيعة موجودة، فيصح الامر الفعلي بها، وإن أتى بها
المكلف في ضمن الفرد الأول أيضا كان ممتثلا من جهة أنه أتى بنفس
ما هو المأمور به، أعني: الطبيعة.
ومن هنا يظهر لك ما هو الحق في مسألة الاجتماع، أعني جوازه عند
تعدد العنوان والجهة.
216

فإن قلت: فرق بين ما نحن فيه، وبين مسألة الاجتماع، إذ الافراد في
مسألة الاجتماع عرضية فالقدرة على بعضها تكفي في القدرة على
أصل الطبيعة، وهذا بخلاف ما نحن فيه، فإن الافراد فيه طولية، ومن
الواضح أن القدرة على بعضها لا تستلزم القدرة على أصل الطبيعة
في الزمان الممتد المعين لها، إذ من أجزائه الزمان الأول، ونفس
الطبيعة غير مقدورة في الزمان الأول، من جهة كونه ظرفا للضد الاخر
المأمور به.
وبالجملة: نحن لا نقول: إن الخصوصية الفردية متعلقة للامر، بل نسلم
أن متعلق الأمر هو نفس طبيعة الصلاة المقيدة بوقوعها بين
الحدين، ولكن نقول: إن هذه الطبيعة المأمور بها غير مقدورة في الان
الأول من جهة كونه ظرفا للضد المضيق.
قلت: المأمور به عبارة عن الصلاة بين الحدين - أعني الطبيعة الكلية -
وهي مقدورة بالقدرة على واحد من أفرادها [1] وليس المأمور
به هو الطبيعة المقيدة بالان الأول، حتى يقال: إنها غير مقدورة من جهة
مزاحمتها بالامر المتعلق بالأهم.
وبعبارة أخرى: في الان الأول أيضا إنما يأمر المولى بإيجاد الطبيعة
المقيدة بوقوعها بين الحدين، لا بالطبيعة في هذا الان، والطبيعة
المقيدة بالوقوع بين الحدين مقدورة، وإن انحصر مصداقها في
الواحد، من جهة كون غيره غير مقدور. وبما ذكرنا انقدح فساد ما في
تقريرات بعض أعاظم العصر، حيث قال: إن الان الأول ظرف للأهم،
فيجب إشغاله به وحينئذ يصير إيجاد المهم فيه غير مقدور من جهة
أن الممنوع شرعا كالممتنع عقلا.
وجه الفساد: أن المولى لم يأمر بإيجاد المهم في الظرف الأول، بل أمر
بإيجاده بين الحدين فلا مزاحمة في البين، هذا كله فيما يرجع إلى
الوجه الثالث.
2 - تفصيل الوجه الثاني على القول بالترتب:
وأما الوجه الثاني، أعني تصحيح الامر بالمهم بنحو الترتب على
عصيان الأهم، فقد صار معركة لآراء المتأخرين، وأول من نسب إليه
تصحيحه المحقق الثاني (ره) وشيد بنيانه السيد السند الميرزا
الشيرازي (ره)، وبالغ في تشييده وتوضيحه تلامذته وتلامذة
تلامذته،
سوى المحقق
[1] وببيان أكثر اختصارا: الامر قد تعلق بنفس الطبيعة الجامعة، و
الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور، لامكان إيجاده في الفرد
المقدور. ح - ع - م.
217

الخراساني، فإنه يظهر منه أنه كان مخالفا لذلك من أول الأمر.
والحق هو الصحة، ولنذكر لبيان ذلك مقدمة، لها كمال المقدمية
للمطلب، وإن غفل عنها سائر من قال بالصحة، فنقول: لا إشكال في
عدم جواز أن يصدر من قبل المولى طلب واحد بداعي البعث متعلقا
بالضدين، فإن الجمع بين الضدين محال، والتكليف بالمحال بنفسه
محال، لما مر من أن المولى الملتفت بعد كونه بصدد البعث و
التحريك لا تنقدح في نفسه إرادة المحال، فكما أن الإرادة التكوينية لا
تنقدح في النفس بالنسبة إلى أمر محال، فكذلك الإرادة التشريعية.
وبالجملة: إذا رأى المولى أن العبد لا يتمكن من الانبعاث، فكيف
تنقدح في نفسه إرادة بعثه حقيقة، هذا في التكليف الواحد المتعلق
بأمر
محال، كجمع الضدين مثلا.
وأما إذا فرض هنا تكليفان تعلق أحدهما بأحد الضدين، والاخر
بالضد الاخر، فإما أن يكونا في عرض واحد بأن يكونا مجتمعين و
يكون لهما المعية في رتبة واحدة، أو لا، أما الأول فلا إشكال أيضا في
استحالته سواء كان التكليفان مطلقين، أو مشروطين بشرط
واحد، أو كان كل منهما مشروطا بشرط خاص، ولكن كان الامر عالما
بوجود الشرطين في عرض واحد، أو كان أحدهما مطلقا والاخر
مشروطا بشرط يتحقق في عرض التكليف الآخر، وسواء كان الشرط
أمرا اختياريا للمكلف أم لا. والحاصل أن وجود البعثين المتعلقين
بالضدين مع كونهما في عرض واحد أيضا محال بجميع أنحائه، لكن
الاستحالة هنا ليست من جهة تعلق الطلب بالمحال، حتى يقال إن
طلب المحال محال، إذ ليس هنا طلب واحد متعلق بأمر محال، بل
طلبان تعلق كل منهما بأمر ممكن مقدور، فإن هذا الضد بنفسه ممكن و
ذاك أيضا ممكن، والمحال إنما هو اجتماعهما وليس هو متعلقا
للطلب، ولا يمكن أن يطلق على الطلبين اللذين تعلق كل منهما بأمر
ممكن طلب المحال، بداهة أن الطلبين بما هما طلبان ليسا مصداقا
واحدا للطلب، وإنما المصداق له هو هذا الطلب بحياله وذاك الطلب
أيضا باستقلاله، كما أنه يصدق على زيد أنه إنسان وعلى عمرو أيضا
كذلك، ولا يصدق عليهما معا أنهما إنسان بل إنسانان.
وبالجملة: استحالة البعثين اللذين تعلق كل منهما بأحد الضدين
ليست من جهة كونهما طلبا للمحال وتكليفا بما لا يطاق، كما قد
يتراءى
من بعض عبائر المنكرين للترتب، بل الوجه في استحالتهما أن طلب
المولى لما كان بداعي انبعاث المكلف نحو المكلف به، وكان
انبعاثه نحو هذا الضد مستقلا وذاك الضد أيضا مستقلا في رتبة واحدة
وعرض واحد من المحالات، فلا محالة كان
218

تحقق هذا النحو من الطلبين مستحيلا، وذلك لبداهة امتناع أن تنقدح
في نفس الطالب الملتفت - في عرض واحد - إرادتان تشريعيتان،
تعلق كل واحد منهما بأحد الضدين، كما يمتنع أن تنقدح في نفسه
إرادتان تكوينيتان كذلك.
والحاصل: أن طلب المحال كجمع الضدين مثلا محال، ولكن ما نحن
فيه ليس من باب طلب المحال، فإن البعثين تعلق كل منهما بأمر
ممكن، وليس لنا بعث متعلق بجمع الضدين، غاية الأمر أن العقل
بالتعمل والتدقيق يحكم بامتناع هذا النحو من البعثين والطلبين أيضا.
هذا كله فيما إذا كان البعثان في عرض واحد، بحيث كان كل منهما
باعثا ومحركا في رتبة تحريك الاخر ولو في بعض الأحوال، وأما
إذا لم تكن الإرادتان والطلبان في عرض واحد، بل كان أحدهما
موجودا في رتبة عدم تأثير الاخر وعدم تحريكه نحو ما تعلق به، كان
وجود الاخر في هذه الرتبة والظرف بلا مزاحم، إذ الفرض أن هذه
الرتبة، رتبة عدم تأثير الأول ورتبة خيبته عما قصد منه، أعني
داعويته للمكلف وانبعاثه بذلك نحو العمل، وفي هذه الرتبة يكون
المكلف فارغا قادرا على إيجاد متعلق الأمر الثاني، كما يقدر على
غيره من الافعال، فلا محالة تنقدح في نفس المولى في هذه الرتبة
إرادة البعث بالنسبة إلى متعلق الأمر الثاني، إذا كان أمرا ذا مصلحة
ليشتغل العبد به دون غيره من الافعال غير المفيدة.
والحاصل: أن استحالة تحقق الطلبين في عرض واحد، مع ثبوت
القدرة على متعلق كل منهما، قد نشأت من جهة عدم إمكان تأثيرهما
في
عرض واحد في نفس العبد، وحينئذ فلو فرض اشتراط أحدهما
بصورة عدم تأثير الاخر في نفس العبد وصورة خيبته وعدم وصوله
إلى هدفه، كصورة العصيان مثلا، ارتفع وجه الاستحالة وخرجا من
كونهما في عرض واحد.
رفع الاستبعاد وشبهة الامتناع في الترتب:
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: صحة الترتب المصطلح على هذا
البيان من أوضح الواضحات، فان الامر بالأهم وإن كان مطلقا غير
مشروط بشئ، لكن الامر ليس علة تامة لوجود متعلقه، وإنما هو
لايجاد الداعي في نفس المكلف وتحريكه نحو المأمور به، حتى
يوجده باختياره، وحينئذ فإذا توجه الامر - بعد أن صدر عنه الامر
بالأهم - إلى أن المكلف يمكن أن يمتثله ويمكن أن يعصيه، وأن
ظرف الفعل في رتبة عصيانه للأهم يكون فارغا خاليا عن الفعل،
219

بحيث لو لم يشغله المهم لكان خاليا من الأهم والمهم كليهما، فلا
محالة تنقدح في نفسه إرادة البعث نحو المهم في هذه الرتبة حتى لا
يكون الظرف خاليا عن الواجب المشتمل على المصلحة، ولا مانع من
انقداح هذه الإرادة في هذه الرتبة في نفسه، لأن هذه الرتبة رتبة
خيبة الامر بالأهم ورتبة عدم وصوله إلى هدفه، وفي هذه الرتبة لا
مانع من تأثير الامر بالمهم بأن يوجد الداعي في نفس المكلف نحو
ما تعلق به، وقد عرفت أن استحالة البعث ليست إلا من جهة استحالة
الانبعاث، فإذا فرض إمكان الانبعاث انقدحت في نفس المولى إرادة
البعث قهرا، مثلا: لو ألقي ابن المولى وأخوه في البحر ولم يكن العبد
قادرا على إنقاذ كليهما، فحينئذ يستحيل أن يصدر عن المولى
طلبان بداعي البعث في عرض واحد يتعلق أحدهما بإنقاذ الابن و
الاخر بإنقاذ الأخ، بل الذي يصدر عنه أولا انما هو الامر بإنقاذ الابن
مطلقا غير مشروط بشئ بحيث لا يزاحمه في رتبته شي، ثم إن
المولى بعد أن صدر عنه هذا الامر ربما يتوجه إلى أن أمره ليس علة
تامة لانبعاث المكلف، بل المكلف يمكن أن ينبعث من قبل هذا الامر
ويمكن أن لا ينبعث، وينظر إلى أن ظرف الأهم - أعنى إنقاذ الابن
- عند عدم تأثير أمره وعدم انبعاث المكلف من قبله خال من الفعل،
بحيث لو لم يشغله المهم - أعني إنقاذ الأخ - لكان خاليا من الأهم و
المهم كليهما، فحينئذ تنقدح في نفسه إرادة الامر بإنقاذ الأخ في هذه
الرتبة التي هي رتبة عدم تأثير الامر بإنقاذ الابن وعدم وصوله إلى
هدفه.
والحاصل: أن كلا من الأهم والمهم فعل مقدور للمكلف، فيمكن أن
تنقدح في نفس المولى إرادة إتيانه، وانقداح كلتا الإرادتين في نفسه
ليس انقداحا لإرادة واحدة متعلقة بالجمع بينهما، فكان اللازم - بالنظر
البدوي - جواز انقداحهما في نفسه، ولكن العقل بالتحليل و
التعمل يحكم باستحالة انقداحهما في عرض واحد، من جهة أنه يرى
أن العبد لا يقدر على الانبعاث نحو الفعلين في عرض واحد،
فاستحالتهما إنما نشأت من استحالة انبعاث العبد منهما معا واستحالة
تأثيرهما في عرض واحد في نفسه، فإذا علق أحدهما بصورة
عدم تأثير الاخر وصورة عصيان العبد له كان وجودهما بهذا الترتيب
ممكنا، إذ الزمان في هذا الفرض فارغ من الفعل، فيمكن للعبد
إشغاله بالفعل الاخر الذي هو ضد له.
وبالجملة: وجود البعثين المتعلق كل واحد منهما بواحد من الضدين
في عرض واحد من المحالات، وأما وجودهما لا في عرض واحد فلا
استحالة فيه، لعدم المزاحمة في مقام التأثير، وهذا مثل الامر بالأهم
مطلقا والامر بالمهم في رتبة عصيان الأهم وعدم تأثيره في نفس
المكلف، إذ الامر بالأهم لا إطلاق له بالنسبة إلى حال عصيانه، لتأخر
رتبة العصيان عن رتبة الامر،
220

فالامر بالأهم رتبته قبل العصيان، والامر بالمهم رتبته متأخرة عنه،
لكونه موضوعا له، ورتبة الحكم متأخرة عن رتبة الموضوع
بالضرورة، وحينئذ فلا توجد بينهما مزاحمة أصلا، كما هو واضح لا
سترة عليه. [1]
[1] ليس المصحح للامر بالمهم في ظرف عصيان الأهم ما ذكروه من
اختلاف الرتبة، فإن الامر بالأهم وإن لم يكن له إطلاق لحاظي
بالنسبة إلى حال عصيانه (كما لا إطلاق له بالنسبة إلى حال إطاعته)
لكن الاطلاق الذاتي موجود بمعنى أن الامر بالأهم موجود للمكلف،
سواء كان مطيعا أو عاصيا في متن الواقع، بداهة عدم تعقل الاهمال
الثبوتي، كيف ولو كان ما ذكروه من اختلاف الرتبة كافيا في
تصحيح الامر بالمهم (مشروطا بعصيان الأهم) لكان اللازم جواز الامر
بالمهم مشروطا بإطاعة الأهم أيضا، ضرورة اشتراك العصيان و
الإطاعة في أن الامر ليس له إطلاق لحاظي بالنسبة إليهما، وله إطلاق
ذاتي بالنسبة إلى كليهما.
فإن قلت: الامر ثابت للمكلف بما هو إنسان اجتمعت فيه شرائط
التكليف لا بما هو مطيع أو عاص أو بما هو مطيع وعاص، وبعبارة
أخرى: الامر وإن كان ثابتا للمكلف، سواء كان مطيعا أو عاصيا، لكنه
ليس بما هو مطيع أو عاص، وحينئذ فليس للامر بالنسبة إلى
عنواني الإطاعة والعصيان إطلاق ولا تقييد.
قلت: ليس معنى إطلاق الحكم بالنسبة إلى عنوان، سراية الحكم إلى
هذا العنوان، بحيث يصير هذا العنوان جزا لموضوع الحكم، وإلا فلا
نجد نحن مثالا للمطلق، ضرورة أن قوله: (أعتق رقبة) مثلا من أمثلة
المطلقات من جهة إطلاق الرقبة بالنسبة إلى المؤمنة والكافرة، مع
أنه ليس معنى الاطلاق فيها أن عنوان الكفر أو الايمان له دخالة في
الحكم، بحيث تصير المؤمنة بما هي مؤمنة، أو الكافرة بما هي كافرة
موضوعا للحكم، بل معنى الاطلاق فيها هو أن الرقبة بما هي رقبة تمام
الموضوع، ولازم ذلك سريان الحكم بسريانها الذاتي، وسيأتي
تفصيل ذلك في مبحث المطلق والمقيد.
وبالجملة: ليس الملاك في تصحيح الامر بالمهم ما ذكروه من اختلاف
الرتبة، بل الملاك فيه هو وجود الامرين بنحو لا يتزاحمان في
مقام التأثير، وبيان ذلك هو ما ذكره سيدنا العلامة الأستاذ الأكبر (مد
ظله العالي) وقد صرح بما ذكرنا هو (مد ظله) في مبحث الجمع
بين الحكم الواقعي والظاهري. ثم إن الأنسب أن نعيد ما ذكره (مد
ظله) في تصحيح الترتب ببيان آخر لعلك تطلع على ما هو الحق،
فنقول:
لا إشكال في أن التكليف بالمحال بنفسه محال، فإن التكليف الحقيقي
إنما يصدر عن المولى بداعي انبعاث المكلف وتحركه نحو
متعلقه، فإذا كان المتعلق أمرا محالا لا يتمكن المكلف من إيجاده
فكيف ينقدح في نفس المولى الملتفت إرادة البعث والتحريك نحوه،
و
المراد من التكليف بالمحال هو أن يكون المتعلق للتكليف أمرا
يستحيل صدوره عن المكلف، وذلك مثل أن يأمر المولى عبده
بالطيران
إلى السماء، بلا وسيلة، أو بالجمع بين الضدين مثلا، هذا إذا كان نفس
ما تعلق به التكليف من المحالات.
وأما إذا كان لنا أمران مستقلان تعلق أحدهما بأحد الضدين والاخر
بالضد الاخر مع عدم سعة الزمان المقدر لهما إلا لأحدهما، فصدور
هذين التكليفين عن المولى أيضا من المحالات، ولكن لا من جهة
لزوم التكليف
221

فإن قلت: كما أن رتبة العصيان متأخرة عن رتبة الامر فكذلك رتبة
الإطاعة وحينئذ فلو كان اختلاف الرتبة كافيا في رفع المزاحمة
لكان اللازم جواز الامر بالأهم، بنحو الاطلاق، والامر بالمهم مشروطا
بإطاعة الأهم أيضا، بحيث يكون المهم مبعوثا إليه في رتبة إطاعة
الأهم مع كون زمان الفعلين واحدا، كما هو المفروض في الترتب.
قلت: رتبة العصيان رتبة عدم تأثير الامر بالأهم ورتبة خيبته وعدم
وصوله إلى هدفه، وفي هذه الرتبة يكون ظرف الفعل خاليا، بحيث
يمكن إشغاله بالمهم بلا مزاحم، فلا محالة
بالمحال، إذ المتعلق لكل واحد من التكليفين أمر ممكن، والجمع بين
المتعلقين وإن كان محالا، لكن التكليف لم يتعلق به، ومجموع
التكليفين ليس مصداقا للتكليف، حتى يقال بتعلقه بالجمع بين
الضدين، إذ كل فرد مصداق للطبيعة مستقلا وليس الفردان بما هما
فردان مصداقا واحدا. وبالجملة استحالة هذين التكليفين ليست من
هذه الجهة، بل من جهة تزاحمهما في مقام التأثير، ومقام إيجاد
الداعي في نفس المكلف، فإن كل واحد من الضدين وإن كان بحياله
أمرا ممكنا يمكن أن ينبعث المكلف نحوه، ولكن انبعاثه نحو هذا
الضد مستقلا ونحو ذلك الضد أيضا مستقلا في زمان لا يسع إلا واحدا
منهما لما كان من المحالات، كان صدور الطلب من قبل المولى
متعلقا بهذا الضد بداعي الانبعاث ومتعلقا بذاك الضد أيضا بداعي
الانبعاث من المحالات، وذلك من جهة امتناع أن تنقدح في نفسه
الإرادة بالنسبة إلى كلا البعثين، مع التفاته إلى أن العبد لا يتمكن إلا من
الانبعاث من واحد منهما.
والحاصل: أن استحالة صدور هذين البعثين، إنما هي من جهة أنهما
يصدران بداعي انبعاث، ولما كان الانبعاث من كليهما محالا كان
وجودهما أيضا من قبل المولى محالا، هذا إذا فرض البعثان متزاحمين
في مقام التأثير والداعوية، وأما إذا لم يكونا متزاحمين في مقام
التأثير، بأن لم يكونا في عرض واحد، بل كان أحدهما ثابتا في رتبة
عدم تأثير الاخر ورتبة خلو الظرف عن المزاحم، فلا وجه حينئذ
لاستحالتهما، فإن المكلف في رتبة عصيانه للامر المتعلق بالأهم ورتبة
عدم تأثيره في نفسه يكون متمكنا من إيجاد المهم، فلا محالة
تنقدح في نفس المولى في هذه الرتبة إرادة البعث نحوه، إذ الفعل
مقدور للمكلف، والزمان أيضا في هذه الرتبة خال من الفعل، بحيث
لو
لم يشغله المهم لكان خاليا من الأهم والمهم كليهما. وحينئذ فأي
مانع من انقداح الإرادة في نفس المولى في هذه الرتبة؟ لا والله لا مانع
في البين، والمقتضي أيضا موجود من جهة تمامية الملاك في المهم،
فتدبر. ولعمري صحة الترتب (بالبيان الذي ذكره سيدنا الأستاذ
(مد ظله العالي) وقررناه ثانيا بهذا البيان) في غاية الوضوح والبداهة،
فاغتنم ولا تكن من الجاهلين.
هذا كله بناء على كون القدرة شرطا للفعلية، وأما بناء على كونها شرطا
للتنجز فقط فكلا التكليفين فعليان في عرض واحد، بلا ترتب
في البين، غاية الأمر أن تنجز المهم عقلا مترتب على عصيان الأهم، و
هذا هو الأقوى، وعليه فيكون الترتب بين التكليفين في مرحلة
التنجز، وبيانه يحتاج إلى تفصيل لا يسعه المقام.
ح - ع - م.
222

تنقدح في نفس المولى إرادة البعث نحوه في هذه الرتبة، وهذا
بخلاف رتبة الإطاعة، فإنها رتبة تأثير الامر بالأهم ورتبة إشغال الأهم
للزمان، فلا يقدر المكلف في هذه الرتبة على إتيان المهم، فكيف
يمكن أن تنقدح في نفس المولى إرادة البعث والتحريك نحو المهم
في
هذه الرتبة فتدبر جيدا.
دليل المحقق الخراساني للامتناع ونقده:
إن المناسب في المقام أن نذكر ما قاله شيخنا الأستاذ المحقق
الخراساني في وجه الامتناع مع الإشارة إلى جوابه. قال (قده) ما
حاصله:
إن ما هو ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد آت في طلبهما
بنحو الترتب أيضا، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع
الطلبين، إلا أنه في مرتبة طلب المهم يثبت طلب الأهم أيضا
فيجتمعان. لا يقال: نعم، لكنه بسوء اختيار المكلف، فلو لا سوء
اختياره لما
كان متوجها إليه إلا طلب الأهم.
فإنه يقال: استحالة طلب الضدين إنما هي من جهة استحالة طلب
المحال، وهي لا تختص بحال دون حال، فإن الحكيم الملتفت إلى
محاليته لا تنقدح في نفسه إرادته بلا إشكال، وإلا لصح فيما علق على
أمر اختياري في عرض واحد، بلا احتياج في تصحيحه إلى الترتب
مع أنه محال.
إن قلت: فرق بين الاجتماع في عرض واحد، والاجتماع بنحو
الترتب، فإن كلا من الطلبين في الأول يطارد الاخر، بخلاف الثاني فإن
المطاردة فيه إنما هي من جانب الأهم فقط.
قلت: أما أولا: فإن المطاردة في الثاني أيضا من الطرفين، فإن المهم بعد
وجود شرطه يصير فعليا، والمفروض فعلية الأهم أيضا في هذه
الرتبة، فيتطاردان، وأما ثانيا: فلانا وإن سلمنا عدم طرد المهم للأهم،
لكن الأهم يطارد المهم لوجوده في رتبته.
فإن قلت: فما الحيلة فيما وقع في العرفيات من طلب الضدين على
نحو الترتب.
قلت: لا يخلو إما أن يكون الامر بالمهم بعد التجاوز عن الأهم حقيقة،
وإما أن يكون الامر به للارشاد إلى بقائه على ما هو عليه من
المصلحة والمحبوبية لولا المزاحمة. ثم إنه يستشكل على القائلين
بالترتب بلزوم استحقاق المكلف لعقابين على فرض مخالفة الامرين،
مع بداهة بطلانه ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه المكلف
(انتهى).
أقول: أما ما يظهر من كلامه (قده) من كون مسألة الترتب من باب طلب
الضدين،
223

عرفت فساده، فإن الطلبين اللذين تعلق كل منهما بواحد من الضدين لا
يصدق عليهما طلب الضدين، كما عرفت تفصيله. وأما ما ذكره من
أن ما وقع في العرفيات من طلب المهم بشرط عصيان الأهم إنما يكون
بعد التجاوز عن الأهم، ففيه: أنه إن كان المراد بالتجاوز عن
الأهم إعراضه عنه بالكلية، بحيث لا يكون له بعث إليه حقيقة، ويكون
وجوبه منسوخا، فهو بديهي البطلان، فإنه لا معنى للاعراض عما هو
تام المصلحة، مع كونه أهم مما زاحمه، وإن كان المراد بالتجاوز عن
الأهم تجاوزه عنه من جهة أنه يرى الامر به خائبا غير مؤثر، لا
بمعنى نسخه للوجوب، بل بمعنى قطع الرجاء عنه، من جهة عدم
وصوله إلى هدفه، فهذا ما ذكرناه من أن رتبة العصيان رتبة عدم تأثير
الامر، ولا مانع في هذه الرتبة من وجود الامر بالمهم، فإنه يمكن أن
تنقدح في نفس الامر إرادة البعث نحوه في هذه الرتبة التي لا تأثير
فيها للامر بالأهم. وأما ما ذكره أخيرا من لزوم تعدد العقاب، فنحن
نلتزم به من جهة أن المفروض فيما نحن فيه - كما عرفت - وجود
أمرين مستقلين تعلق كل واحد منهما بأمر ممكن مقدور للمكلف، و
مخالفة كل منهما توجب العقاب بلا شك وارتياب، أما مقدورية الأهم
فواضحة، واما مقدورية المهم فمن جهة فرضه في رتبة عدم إشغال
الأهم للظرف، وكون الزمان خاليا منه، وفي هذه الرتبة يكون المهم
مقدورا بالوجدان.
تذنيب: قال الشيخ (قده) ما حاصله: إنه لو قيل بالسببية في باب حجية
الخبر لكان الخبران المتعارضان من قبيل المتزاحمين، ولازم
ذلك عدم سقوطهما رأسا، بل يتقيد إطلاق كل منهما بعدم الاخر. و
أورد عليه بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - بأن هذا
التزام بترتبين، مع أن الشيخ ممن ينكر الترتب.
أقول: ليس مراد الشيخ تقييد كل من الخطابين بعصيان الاخر بما هو
عصيان، حتى يلزم الترتب. [1]
بل مراده أن التعارض في المقام يرجع إلى التزاحم، ولازمه ثبوت كل
منهما على فرض عدم إتيان الاخر، وهو عبارة أخرى عن التخيير
العقلي، فمحصل كلامه (قده) أن الحكم في المتزاحمين هو التخيير لا
التساقط. وبالجملة مراده تعين كل منهما في ظرف عدم الاخر، بما
أنه عدم، لا في ظرف عصيان الاخر، بما أنه عصيان، فلا ربط لكلامه
(قده) بباب الترتب أصلا، فتدبر.
[1] أقول: ولا يخفى أن ترتب كل منهما على عصيان الاخر بما هو
عصيان مستلزم للدور المضمر من الطرفين، فإن عنوان العصيان
يتوقف على ثبوت الامر، فثبوت الامر ب (أ) مثلا يتوقف - على هذا
الفرض - على عصيان (ب) المتوقف على الامر به المتوقف على
عصيان الامر ب (أ)، المتوقف على ثبوته، وكذا العكس، وهذا
بخلاف العدم بما أنه عدم، لعدم توقفه على الامر حتى يدور، فافهم.
ح - ع
- م.
224

الفصل الخامس في أمر الامر مع علمه بانتفاء شرطه
225

أمر الامر مع علمه بانتفاء شرطه هل يجوز أن يأمر الامر مع علمه بانتفاء
شرطه أولا؟، قد صارت هذه المسألة معركة لآراء المتأخرين، و
هذا العنوان بظاهره غير قابل للنزاع، إذ المراد بالشرط، كما صرحوا به
شرط الامر والوجوب، فيصير محصل النزاع على هذا أنه هل
يجوز وجود المشروط بدون وجود شرطه؟ وهذا أمر لا يبحث فيه
عاقل. والظاهر أن المسألة انحرفت عن أصلها، وقد كان النزاع في
الأصل في أن الشئ المستقبل إذا كان في ظرف وجوده فاقدا لشرط
الوجوب، فهل يمكن أن يؤمر به قبل وقته مع العلم بكونه في ظرف
وجوده فاقدا لشرط الوجوب أولا؟ وبعبارة أخرى: هل يجوز أن يأمر
المولى بالشئ المستقبل الذي يصير في ظرف وجوده فاقدا
لشرط الوجوب مع علمه بذلك؟ وذلك بأن يأمر به قبل حضور وقت
العمل، ثم ينسخه عند حضور وقته من جهة كون شرط الوجوب
مفقودا عنده.
ويدلك على ما ذكرناه أن القائلين بالجواز استدلوا بأمر الله تعالى
إبراهيم عليه السلام بذبح ولده مع نسخه قبل العمل.
والقائلون بالجواز هم الأشاعرة، وبالامتناع المعتزلة، والمسألة مبتنية
على إثبات الكلام النفسي أو إبطاله، فالأشاعرة لما أثبتوا صفة
نفسانية في قبال العلم والإرادة والكراهة، مسماة بالكلام النفسي في
الاخبارات، وبالطلب الحقيقي أو الزجر الحقيقي في الأوامر و
النواهي، التزموا - فيما نحن فيه - بالجواز، بتوهم أن الفعل الذي انتفى
شرط وجوبه، وإن لم يعقل تعلق الإرادة به مع العلم بذلك، لكنه لا
مانع من أن يتعلق به الطلب النفسي قبل حضور وقته. وأما المعتزلة
فلما لم يفرضوا في النفس صفة أخرى، وراء العلم والإرادة و
الكراهة، فلذلك التزموا فيما - نحن فيه - بالامتناع، بداهة أن الإرادة لا
يمكن أن تتعلق بما يعلم بانتفاء شرط وجوبه في ظرف وجوده.
226

الفصل السادس في الواجب الكفائي
227

الواجب الكفائي أعلم أن من أقسام الواجب ما يسمى - في
اصطلاحهم - بالواجب الكفائي، وله أحكام متفق عليها بين القوم:
منها أنه لو
تركه الجميع لكانوا معاقبين بأجمعهم، ومنها أنه يتمثل بفعل واحد
منهم. والحاصل أن الواجب الكفائي عبارة عما وجب على جماعة
بحيث أن أتى به واحد منهم سقط عن غيره، وإن تركه الجميع عوقبوا
بأجمعهم، وقد صار تصويره من المشكلات عندهم، حيث أرادوا
تصويره بنحو ينطبق عليه التعريف الذي ذكروه لمطلق الواجب، أعني
ما يكون في فعله الثواب وفي تركه العقاب، فقال بعضهم: إن
المكلف في الواجب الكفائي عبارة عن المجموع، من حيث
المجموع، لا كل واحد مستقلا، وعلى هذا فيتحقق فعل المجموع
بفعل واحد
منهم وتركه بترك الجميع. وقال بعضهم: إن المكلف عبارة عن أحد
المكلفين لا على التعيين، وقال آخرون: إن المكلف عبارة عن كل
واحد واحد مستقلا، لكن إتيان البعض يوجب سقوطه عن الجميع،
هذا ما ذكروه في تصوير الواجب الكفائي.
ويرد على الأول: أن المجموع من حيث المجموع أمر اعتباري لا
حقيقة له وراء الآحاد فلا يمكن أن يتوجه إليه الطلب، إذ الطلب إنما
يتوجه إلى الانسان العاقل القادر المختار، ولا تصدق على المجموع
من حيث المجموع هذه العناوين.
ويرد على الثاني: أن المراد من الاحد إن كان مفهوم الاحد، ففيه: أن
المفهوم غير قابل لان يتوجه إليه التكليف، وإن كان المراد به
الفرد المردد، بحيث يكون توجه التكليف إلى المكلفين توجها
ترديديا بالتردد الواقعي، نظير ما ذكر في الواجب التخييري: من أن
البعث يتعلق بكلا الامرين على نحو التردد الواقعي، ففيه: أن البعث لا
يعقل أن يتوجه إلى الفرد المردد، إذ الغرض من البعث هو الانبعاث
ولا بد في تحققه من تعين المبعوث.
228

ويرد على الثالث: أن الغرض من الواجب إن كان يحصل بفعل الواحد،
فلا وجه لتوجه التكليف إلى الجميع، وإن كان لا يحصل إلا بفعل
الجميع، فكيف يسقط بفعل الواحد؟.
التحقيق في تصوير الواجب الكفائي:
والتحقيق أن يقال في تصويره: إن الوجوب مطلقا له إضافة إلى من
يصدر عنه - أعني الطالب -، وإضافة أخرى إلى من يتوجه إليه -
أعني المطلوب منه -، وإضافة ثالثة إلى ما يتعلق به - أعني المطلوب
-. والفرق بين العيني والكفائي ليس في المطلوب منه، كما هو
مقتضى التصويرات الثلاث، بل الفرق بينهما في المطلوب،
فالمطلوب في الوجوب الكفائي هو نفس الطبيعة المطلقة غير المقيدة
بصدورها عن هذا الشخص، بخلافه في الوجوب العيني، فإنه عبارة
عن الفعل المقيد بصدوره عن هذا الفاعل الخاص. وتفصيل ذلك: هو
أنه قد تكون المصلحة في صدور الفعل عن كل واحد من المكلفين،
فحينئذ يؤمر كل واحد منهم بإيجاد الطبيعة المقيدة بصدورها عن
نفسه، ففي قوله: (أقيموا الصلاة) مثلا يكون كل واحد من المكلفين
مأمورا بإيجاد طبيعة الصلاة المقيدة بصدورها عن نفسه، وقد تكون
المصلحة في صدور طبيعة الفعل وتحققه في الخارج من غير تقيد
بصدوره عن شخص خاص، فحينئذ يؤمر كل واحد من المكلفين
بإيجاد هذه الطبيعة المطلقة حتى عن قيد صدورها عن نفسه.
والحاصل: أن مطلوب المولى في الوجوب الكفائي هو وجود الطبيعة
المطلقة غير المقيدة بصدورها عمن كلف بها، غاية الأمر أنه لما
كان مطلوب المولى تحقق أصل الطبيعة من غير أن يكون لصدورها
عن هذا الفاعل، أو عن ذاك دخالة في الغرض، وكان كل واحد من
المكلفين قادرا على إيجاد هذه الطبيعة، فلا محالة يتوجه طلبه إلى كل
واحد واحد منهم لعدم خصوصية موجبة للتخصيص بواحد منهم، و
معه يكون التخصيص ترجيحا بلا مرجح.
وبالجملة: التكليف يتوجه إلى كل واحد منهم مستقلا، ولكن ما كلف
به كل واحد منهم عبارة عن أصل الطبيعة غير المقيدة بصدورها
عن نفسه، فالمكلفون متعددون، وكل واحد منهم توجه إليه التكليف
مستقلا، لكن المطلوب والمكلف به في جميع هذه التكاليف أمر
واحد، أعني به الطبيعة المطلقة، ففي مسألة تجهيز الميت مثلا كل
واحد من الناس مكلف مستقلا، ولكن المكلف به، في الجميع أمر
وحداني، فزيد مكلف بإيجاد طبيعة الدفن مثلا من غير أن تكون هذه
الطبيعة مقيدة بصدورها عن نفسه، وكذلك عمرو وبكر و
غيرهما، ولازم هذا النوع من
229

الوجوب هو سقوط جميع التكاليف بامتثال الواحد من جهة حصول ما
هو تمام المطلوب في جميع هذه التكاليف، وهذا بخلاف الوجوب
العيني فإن كل واحد من المكلفين مكلف في هذا النوع من الوجوب
بإيجاد الطبيعة المقيدة بصدورها عن نفسه، فتدبر.
وينبغي التنبيه على أمرين:
الأول: صورة الشك في كون الواجب كفائيا أو عينيا:
قال في الكفاية في المباحث المتعلقة بالامر ما حاصله: إنه لو شك في
واجب، أنه عيني أو كفائي فمقتضى الاطلاق حمله على العينية،
بتقريب: أن كل واحد من المكلفين مكلف في الواجب العيني بإيجاد
الطبيعة مطلقا سواء أوجدها غيره أم لا، بخلاف الواجب الكفائي فإن
كل واحد منهم مكلف فيه بإيجاد الطبيعة إذا لم يوجدها غيره (انتهى).
أقول: وقد ظهر بما حققناه في الواجب الكفائي أن الامر بالعكس
بمعنى أن مقتضى الاطلاق هو الحمل على الكفائية، وذلك لما عرفت
من أن الفرق بين العيني والكفائي هو أن المطلوب والمتعلق للتكليف
في الواجب الكفائي هو نفس الطبيعة المطلقة غير المقيدة
بصدورها عمن كلف بها، بخلاف الواجب العيني فإن المكلف به فيه
عبارة عن الطبيعة المقيدة بصدورها عن خصوص من كلف بها، و
حينئذ فمقتضى إطلاق المتعلق حمل الوجوب على الكفائية،
لاحتياج العينية إلى اعتبار قيد زائد. نعم، لا ننكر أن ظهور الامر
المتوجه إلى
المكلف يقتضي مطلوبية صدور الفعل عن نفسه. وبعبارة أخرى: نحن
نسلم ظهور الامر في العينية، ولكن لا من جهة الاطلاق، فإن
مقتضى الاطلاق الحمل على الكفائية، بل من جهة أن المتبادر من
الامر المتوجه إلى المكلف أن المطلوب هو صدور الفعل عن نفسه.
التنبيه الثاني: امتثال الواجب الكفائي:
إذا أتى بالطبيعة المأمور بها كفاية أكثر من واحد في عرض واحد، فهل
يكون فعل كل واحد منهم امتثالا مستقلا، أو يكون المجموع
امتثالا واحدا؟ الأقوى هو الأول، وذلك لما عرفت من أن كل واحد
من المكلفين مأمور مستقلا بإيجاد الطبيعة المطلقة، والمفروض فيما
نحن فيه أن كل واحد منهم أتى بهذه الطبيعة المأمور بها، فلا محالة
يكون ممتثلا من جهة إتيانه بما أمر به، وقد مر في مسألة المرة و
التكرار أيضا أنه إن أتى المكلف في عرض واحد بأكثر من فرد واحد
من الطبيعة
230

المأمور بها يكون كل واحد من الافراد امتثالا على حدة، لان كل واحد
منها يكون وجودا مستقلا للطبيعة المأمور بها، فلا وجه لعد الجميع
امتثالا واحدا، بل الامر في هذه المسألة أوضح من مسألة المرة و
التكرار، فإنه لاحد أن يقول في تلك المسألة بأن الصادر عن المولى
ليس
إلا أمر واحد، فكيف يتعقل له امتثالات متعددة، وأما فيما نحن فيه
فالصادر عنه أوامر متعددة بعدد المكلفين، والمفروض أن كل واحد
منهم أتى بما كلف به، أعني الطبيعة المطلقة التي تعلق بها الامر
المتوجه إليه، وحينئذ فلا وجه لان يعد جميع الأفعال الصادرة عنهم
امتثالا واحدا، فتدبر.
231

الفصل السابع في الموسع والمضيق
233

الموسع والمضيق قد قسموا الواجب أيضا إلى المطلق والموقت.
فالمطلق عبارة عن الواجب الذي لم يؤخذ فيه الزمان قيدا، وهذا
كقول
المولى لعبده: (أعط درهما) فإن الامر قد تعلق بنفس الاعطاء من غير
أن يقيد بصدوره في زمان خاص من جهة عدم دخالته في الغرض
الباعث على الامر، وهذا لا ينافي احتياج الفعل إلى الزمان، لوضوح
الفرق بين ملازمة الفعل للزمان وجودا وبين أخذه فيه قيدا من جهة
دخالته في الغرض الموجب للامر به، فظرف الزمان في الواجب
المطلق كسائر الخصوصيات الفردية الملازمة للطبيعة المأمور بها
وجودا من غير أن يكون لها دخل فيه، وأما الموقت فهو عبارة عن
الواجب الذي أخذ فيه الزمان قيدا من جهة دخالته في الغرض.
ثم إن الموقت أيضا على قسمين: فإن الزمان المأخوذ قيدا إما أن يكون
بقدر ما يحتاج إليه الفعل عقلا من غير زيادة ونقصان، بحيث
يكون الزمان كاللباس المخيط على قدر قامة الفعل، وإما أن يكون
أوسع مما يحتاج إليه عقلا، فالأول يسمى بالمضيق كقوله: (صم من
الفجر إلى المغرب)، والثاني يسمى بالموسع كقوله تعالى: (أقم الصلاة
لدلوك الشمس إلى غسق الليل). ثم إنك قد عرفت في مبحث
الضد: أن التخيير بين الافراد التدريجية في الواجب الموسع ليس
تخييرا شرعيا بل هو تخيير عقلي، فقوله مثلا، (أقم الصلاة لدلوك
الشمس إلى غسق الليل) ليس مساوقا لان يقول: (صل في الان الأول
أو في الان الثاني أو في الان الثالث إلى آخر آنات الزمان) حتى
يكون ذكر الزمان الوسيع بمنزلة التخيير الشرعي بين الافراد التدريجية
التي يمكن وقوعها فيه، وإن كان قد يتوهم ذلك، بل معنى
قوله: (أقم الصلاة) (الآية) أنه يجب عليك إيجاد طبيعة الصلاة
234

المقيدة بوقوعها بين الحدين - أعني من الظهر إلى الغروب - وهذه
الطبيعة المقيدة كما أن لها أفرادا دفعية، كذلك لها أفراد تدريجية،
ولكن المولى لم يلاحظ هذه الافراد، بل لاحظ أمرا وحدانيا يكون
تمام المحصل لغرضه، وجعل هذا الامر الوحداني متعلقا لطلبه، و
هذا
الامر عبارة عن طبيعة الصلاة المقيدة بوقوعها بين الحدين، وما
يوجده المكلف في الان الأول مثلا يكون فردا لهذه الطبيعة المقيدة و
يكون محققا للامتثال، لا بما هي طبيعة موجودة في هذا الان، بل بما
هي طبيعة موجودة بين الحدين، وهكذا حال ما يوجده في الان
الثاني أو الثالث.
وبالجملة: المأمور به في الواجبات الموسعة هو الطبيعة الكلية
المقيدة بوقوعها بين الحدين.
وبهذا البيان يظهر لك أن مضي بعض الوقت في الموسع لا يوجب
تضيقه شرعا وإن كان قد يتوهم في بادئ النظر أن الموسع كلما
مضى بعض من وقته صار وقته أضيق شرعا إلى أن يبقى من الوقت
بمقدار إتيان الواجب فيصير حينئذ مضيقا شرعيا، والسر في ذلك
هو ما ذكرناه من أن التخيير بين أجزاء الوقت ليس تخييرا شرعيا، بل
هو تخيير عقلي، وما تعلق به الامر عبارة عن الطبيعة المقيدة
بوقوعها بين الحدين، وعلى المكلف إيجاد هذه الطبيعة المأمور بها،
فالفرد الذي يوجده المكلف في آخر الوقت أيضا امتثال لهذا الامر،
ولكن لا بما هو موجود في هذا الزمان المضيق، بل بما هو موجود بين
الحدين (أعني من الظهر إلى الغروب مثلا الذي جعل ظرفا للواجب
في لسان الدليل).
وبعبارة أخرى: الواجب على المكلف في آخر الوقت ليس هو إيجاد
الصلاة في هذا الوقت المضيق، بل الواجب عليه حينئذ أيضا إيجاد
طبيعة الصلاة الكلية المقيدة بوقوعها بين الحدين، وما يوجده
المكلف في آخر الوقت إنما يقع امتثالا من جهة كونه فردا لهذه
الطبيعة،
كما أن ما يوجده في أول الوقت أو وسطه أيضا كذلك، وعدم جواز
تأخيره عن آخر الوقت ليس من جهة كونه واجبا مضيقا، بل من جهة
أن التأخير عنه يوجب فوات الطبيعة الكلية المأمور بها.
هل يقتضى الامر بالموقت إتيان المأمور به خارج الوقت؟:
إن الامر في الموقتات هل يقتضي بنفسه إتيان المأمور به في خارج
الوقت إذا عصي في وقته أولا يقتضي ذلك؟. فيه وجهان، وهذا هو
النزاع المشهور بينهم الذي عبروا عنه تارة بأن القضاء بالامر الأول أو
بأمر جديد، وأخرى بأن الموقت هل يفوت بفوات وقته أولا؟. و
الظاهر أنه لا وجه يعتنى به للقول بالاقتضاء، إذ الامر لا يقتضي إلا إتيان
متعلقه، والمفروض أن متعلقه عبارة عن
235

الطبيعة المقيدة بالوقت، وحينئذ فلا معنى لاقتضائه إتيان الفعل بعد
مضي وقته.
وبعبارة أخرى: الامر لا يدعو إلا إلى متعلقه، سواء كان طبيعة مطلقه أو
مقيدة بقيد خاص، ومن القيود أيضا قيد الوقت، فكما أنه إذا امر
المولى عبده بإتيان طبيعة مقيدة بغير الوقت من القيود فعصاه العبد لا
يمكن أن يقال باقتضاء هذا الامر لاتيان الطبيعة المطلقة بدون
القيد، فكذلك الامر في الموقتات لما عرفت من عدم الفرق بين قيد
الوقت وبين سائر القيود التي تؤخذ في متعلق الأمر، من جهة
دخالتها في غرض المولى.
وبعبارة ثالثة: تشخص الامر وتحصله إنما يكون بتحصل متعلقه، و
امتياز الأوامر ليس إلا بامتياز متعلقاتها، وما هو المتعلق في
الموقتات عبارة عن الطبيعة المقيدة بصدورها في الوقت المعين فبعد
انقضاء الوقت لا يعقل ثبوت الطلب الأول إذ ما ادعي بقائه بعد
الوقت إن كان عبارة عن الطلب المتعلق بالطبيعة المطلقة.
ففيه: أن الطلب لم يكن متعلقا ب آصال الطبيعة حتى يبقى بعد الوقت،
وإن كان عبارة عن الطلب المتعلق بالطبيعة المقيدة بالوقت. ففيه:
أن بقائه مستلزم للتكليف بما لا يطاق، إذ الطبيعة بقيد كونها في الوقت
المعين لا يمكن إيجادها في غير هذا الوقت.
فإن قلت: هذا إذا كان التقييد بالوقت بدليل متصل، وأما إذا كان بدليل
منفصل بأن كان هنا أمران تعلق أحدهما بأصل الطبيعة والاخر
بإيجادها في الوقت المعين بنحو تعدد المطلوب، فحينئذ يقتضي
الأمر الأول إتيان الطبيعة بعد الوقت أيضا.
قلت: إن كان المدعى حينئذ بقاء الأمر الأول كما ذكرت، ففيه: إنه
خارج من محل النزاع، إذ النزاع فيما نحن فيه إنما هو في ما لو عصي
الواجب الموقت في وقته، والامر الأول - بناء على تعدد المطلوب، و
كونه أمرا مستقلا في قبال الأمر الثاني - لا وقت له حتى يعصى
بانقضاء وقته، وإن كان المدعى بقاء الأمر الثاني، ففيه: ما عرفت آنفا
من كونه مستلزما للتكليف بما لا يطاق، إذ الزمان الماضي
تستحيل إعادته. هذا وشيخنا الأستاذ صاحب الكفاية بعد تسليمه ما
ذكرناه من عدم الاقتضاء استثنى في آخر كلامه قسما من الموقتات،
فاختار الاقتضاء في هذا القسم وهو عبارة عما إذا كان التوقيت بدليل
منفصل، ولم يكن له إطلاق في التقييد بالوقت وكان الدليل
الواجب إطلاق. قال (قده) ما حاصله: إنه يؤخذ حينئذ بإطلاق دليل
الواجب، ويحمل دليل التوقيت على كونه بنحو تعدد المطلوب
(انتهى).
وفيما ذكره نظر، فإنه (قده) قد جعل هذا القسم أيضا من الموقتات، و
التوقيت عبارة عن تقييد
236

الطبيعة المطلوبة بقيد الوقت، وهذا المعنى لا يلائم تعدد المطلوب،
فإن التقييد عبارة أخرى عن حمل المطلق على المقيد، وذلك إنما
يتصور فيما إذا أحرز وحدة الطلب والحكم، فلا يعقل أن يجتمع مع
تعدد المطلوب.
توضيح ذلك: أنه إذا كان لنا دليلان: أحدهما مطلق والاخر مقيد، فهو
على نحوين:
الأول: أن يحرز كونهما بصدد بيان حكم واحد، غاية الأمر تعارضهما
من جهة المتعلق، كما إذا قال المولى: إن ظاهرت فأعتق رقبة، و
قال أيضا: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، فإنه من الواضحات أن الثابت
على تقدير الظهار حكم واحد، غاية الأمر أن مقتضى ظاهر
الدليل الأول هو كون عتق الرقبة بإطلاقه متعلقا للوجوب، ومقتضى
الدليل الثاني هو كون المتعلق وما هو تمام المطلوب عبارة عن
عتق الرقبة المقيدة بالايمان، فحينئذ يحمل المطلق على المقيد من
جهة أن ظهور المقيد في دخالة القيد أقوى من ظهور المطلق، فيرفع
اليد عن ظاهره.
الثاني: أن لا يحرز وحدة الحكم، بل يعلم أو يحتمل تعدده وحينئذ لا
مجال لحمل المطلق على المقيد، إذ لا تعارض بينهما، حتى يحمل
أحدهما على الاخر، فيؤخذ بظهور كل واحد منهما، فيثبت حكمان
تعلق أحدهما بالطبيعة المطلقة والاخر بالمقيدة، ومن هذا الباب ما
ورد في المستحبات من المطلقات والمقيدات، إذ لا سبيل إلى إحراز
وحدة الحكم في الاحكام الندبية، فلا يحمل المطلق فيها على المقيد،
بل يحمل الأول على مرتبة ضعيفة من الندب، والثاني على مرتبة
قوية منه، ولاجل ذلك اشتهر بينهم أن حمل المطلق على المقيد لا
يتمشى
في أدلة السنن.
وبالجملة: حمل المطلق على المقيد إنما يتمشى فيما إذا أحرز وحدة
الطلب والمطلوب، ففرض تعدد المطلوب يوجب الخروج مما نحن
فيه، إذ الكلام إنما هو في الموقت الذي هو قسم من المقيدات.
فإن قلت: يمكن أن يكون دليل المطلق ناظرا إلى بيان مطلوبية أصل
الطبيعة، ودليل المقيد ناظرا إلى تقييد المرتبة القوية، ومقتضى
ذلك هو كون أصل الطبيعة مطلوبة مطلقا سواء أتي بها في الوقت أو
في خارجه، غاية الأمر، أن إيجادها في الوقت يوجب شدة
المطلوبية.
قلت: نعم ولكنه أيضا خارج مما نحن فيه، فإن الدليلين على هذا لا
تعارض بينهما، ولا يحمل المطلق منهما على المقيد.
والحاصل: ان محل النزاع فيما نحن فيه هو الموقت الذي هو قسم من
المقيدات فما ذكرت من بقاء المطلق على إطلاقه خارج مما نحن فيه،
فافهم.
237

الفصل الثامن في أن الأوامر تتعلق بالطبائع أو بالافراد؟
239

الأوامر تتعلق بالطبائع أو الافراد؟ اختلفوا في أن الأوامر تتعلق بالطبائع
أو بالافراد، ولا يخفى أن النزاع ليس لفظيا لغويا، بل النزاع
إنما هو في أن متعلق الحكم هو الطبيعة أو الافراد. والظاهر أن مراد
القائلين بتعلقها بالافراد أن الطبيعة التي توجد في الخارج مع جميع
مشخصاتها تكون مطلوبة للمولى، بحيث تكون الخصوصيات المفردة
أيضا دخيلة في متعلق الطلب، ومراد القائلين بتعلقها بالطبائع أن
ما هو تمام المتعلق لإرادة المولى وطلبه عبارة عن الحيثية التي هي
ملاك صدق الطبيعة بحيث لو وضعنا الفرد الذي يوجده المكلف
تحت الميكروسكوب العقلي وجزيناه وفككنا الحيثية التي هي ملاك
صدق الطبيعة الواقعة تحت الامر من سائر الحيثيات المجتمعة معها
وجودا كان المصداق للامتثال هو تلك الحيثية دون سائر الحيثيات،
بل كانت هي كالحجر الموضوع بجنب الانسان، بحيث لو قدر
المكلف على إيجاد هذه الحيثية منفكة من كافة الحيثيات المشخصة و
الخصوصيات المفردة كان ممتثلا وآتيا بما هو متعلق لطلب
المولى.
الامر متعلق بالطبيعة:
إذا عرفت هذا، فنقول: إن كان مراد المتخاصمين ما ذكرنا، فالحق مع
الطائفة الثانية القائلين بتعلقها بالطبائع.
بيان ذلك: أن للطلب الصادر عن المولى ثلاث إضافات: إضافة إلى من
يصدر عنه - أعني الطالب - من جهة صدوره عنه وكونه فعلا من
أفعاله، وإضافة إلى من يتوجه إليه - أعني المطلوب منه -، وإضافة
ثالثة إلى ما يتعلق به - أعني المطلوب الذي هو عبارة عن فعل
المكلف -.
واحتياج الطلب في تحققه إلى تلك الإضافات الثلاث مما لا شك
فيه. ثم إن المتعلق
240

لا بد من أن يكون أمرا موجودا، ولكن لا بالوجود الخارجي، وإلا لزم
طلب الحاصل، بل بالوجود الذهني.
وبعبارة أخرى: متعلق الطلب يشتمل على واجدية وفاقدية: واجدية
للتحصل الذهني وفاقدية للتحصل الخارجي، فطلب المولى يتعلق
بأمر موجود في الذهن، ولكن لا بقيد وجوده فيه، إذ الطلب إنما يكون
بداعي إيجاده في الخارج، والمقيد بالوجود الذهني يستحيل أن
يوجد في الخارج، بل المتعلق للطلب نفس الحقيقة الموجودة في
الذهن، بحيث يكون وجودها فيه مغفولا عنه. ثم إن النظر إلى هذه
الطبيعة ليس بلحاظها من حيث هي هي، بل من حيث كونها مرآتا
للحاظ وجوداتها الخارجية، ولكن بما هي وجودات لها لا بما هي
مشخصات بالعوارض المشخصة والحيثيات المفردة، بداهة تباين
تلك الحيثيات لحيثية أصل الطبيعة الملحوظة في الذهن، والشي لا
يحكي ما يباينه بالضرورة.
فتلخص مما ذكرنا: أن متعلق الطلب هو الطبيعة التي توجد في الذهن،
بما هي حاكية ومرآة للحيثية الخارجية التي هي ملاك صدق
الطبيعة، بل هي عين تلك الحيثية الخارجية، إذ الفرض أن وجودها
الذهني مغفول عنه، وليست هي بما أنها موجودة في الذهن متعلقة
للطلب، وإذا كان المتعلق للطلب عبارة عن نفس حيثية الطبيعة فلا
مجال للقول بكون الحيثيات المفردة أيضا دخيلة في المطلوب، و
على
هذا فما يوجده المكلف إنما يقع مصداقا للامتثال لا بجميع
خصوصياته وتشخصاته، بل بحيثيته التي هي ملاك كونه منطبقا
لعنوان
الطبيعة الواقعة تحت الامر، وسائر الحيثيات من قبيل الحجر
الموضوع بجنب الانسان، فتدبر.
بيان المحقق الخراساني ونقده:
إن المحقق الخراساني قال في الكفاية ما حاصله بتقريب منا: إن الامر
عبارة عن طلب الوجود، وهذا الوجود مضاف إلى نفس الطبيعة،
فالامر يتعلق بنفس الطبيعة ومفاده طلب وجودها، فما هو المتعلق
للطلب ليس عبارة عن نفس الطبيعة، بل هو عبارة عن وجودها، و
ذلك لما تقرر في محله من أن الطبيعة من حيث هي ليست إلا هي، و
لا تستحق لان يحمل عليها شي إلا ذاتها وذاتياتها، فهي في رتبة
الذات وبالنظر إلى ذاتها لا موجودة ولا معدومة، لا مطلوبة ولا غير
مطلوبة، حتى قالوا: بجواز ارتفاع النقيضين في رتبة الذات. و
بالجملة: هي في مرتبة ذاتها لا يتعلق بها الطلب، إذ لا تستحق في هذه
المرتبة لان تحمل عليها المطلوبية، كما لا تستحق
241

لان يحمل عليها نقيضها، فلا بد في تعلق الطلب بها من إشراب معنى
الوجود الذي هو الموجب لتحققها، بحيث لولاه لما كان لها أثر و
خبر، ومن هنا نقول: بأصالة الوجود، لما نرى من أن ضمه إلى الماهية
هو الذي يوجب تحققها، وقبله كانت هباء منثورا. ثم إنه ليس
مرادنا من تعلق الطلب بالوجود تعلقه بالوجود الخارجي الحاصل،
للزوم تحصيل الحاصل وهو باطل، ولا تعلقه بالطبيعة لتوجد بأن
يجعل الوجود غاية له، بل المراد أنه يتعلق بنفس إيجاد الطبيعة، و
المطلوب هو جعل وجودها بنحو الهلية البسيطة، هذا بناء على أصالة
الوجود، وأما بناء على أصالة الماهية، فالمطلوب أيضا جعلها من
الخارجيات، لا هي من حيث هي، لما ذكرنا من أنها في مرتبة ذاتها لا
تستحق لان يحمل عليها إلا ذاتها وذاتياتها، فلا يجوز أن تحمل عليها
المطلوبية (انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه).
أقول: يمكن أن يقال إن متعلق الطلب عبارة عن نفس حيثية الطبيعة من
غير احتياج إلى إشراب معنى الوجود فيها، إذ مقتضى المداقة
العقلية والتحقيق الفلسفي وإن كان تركب الممكن من حيثيتين:
إحداهما ما نفس حقيقته التحقق (وهو الوجود)، وثانيتهما أمر
اعتباري
لا بشرط بالنسبة إلى التحقق وعدمه، بحيث يحتاج في تحققه إلى
حيثية تقييدية (وهو الماهية)، ولكن الذي يلاحظ الطالب حين طلبه
هو
نفس الطبيعة، من جهة حكايتها لما يوجد في الخارج، من دون أن
يلاحظ ماهية ووجودا ثم يضيف الوجود إليها، وذلك من جهة أنه لا
يرى الطبيعة حاكية إلا للوجودات، فإنها المصاديق لها دون
المعدومات، إذ لا يعقل أن يتصف المعدوم بكونه مصداقا للطبيعة، و
هذا لا
ينافي كون الطبيعة بحسب الدقة الفلسفية لا بشرط بالنسبة إلى الوجود
والعدم.
ثم إن ما ذكره (قده) من أن الطبيعة من حيث هي ليست إلا هي أمر
متين، ولكنه إنما يصح إذا كان النظر مقصورا على مرتبة ذاتها. [1] و
أما إذا لوحظت باعتبار إضافة شي إليها فلا مانع من أن يحمل عليها
سوى الذات والذاتيات، ففيما نحن فيه بعد ملاحظة كون الطبيعة
مضافا إليها للطلب لا مانع من أن تحمل عليها المطلوبية. ولا يتوهم
عدم صحة كون الذات مضافا إليها قياسا على عدم صحة كونها
محمولا عليها لغير الذات والذاتيات، وذلك لبداهة أن قياس الإضافة
بالحمل قياس مع الفارق، فلا مانع من إضافة شي إلى نفس حيثية
الطبيعة، كالطلب فيما نحن فيه، وبعد إضافته إليها تحمل عليها
المطلوبية.
[1] وبعبارة أخرى قولهم: الطبيعة من حيث (إلخ) ناظر إلى الحمل
الأولي الذاتي لا الشائع الصناعي، فهي بالحمل الأولي ليست إلا هي،
و
لا يحمل عليها بهذا الحمل سوى الذات والذاتيات، واما بالحمل
الشائع فيحمل عليها جميع العناوين المنتزعة عنها باعتبار إضافة
شي
إليها ح - ع - م.
242

المقصد الثاني في النواهي وفيه فصول:
244

الفصل الأول في بيان مفاد النهي
245

هل مفاد الأمر والنهي مشترك أو لا؟
قال في الكفاية ما حاصله: إن الأمر والنهي يشتركان في كونهما
للطلب، غاية الأمر أن المتعلق للطلب في الأوامر هو وجود الطبيعة و
في
النواهي عدمها، فاختلافهما إنما يكون بحسب المتعلق لا بحسب
الحقيقة، لكون كليهما بحسب الحقيقة من مقولة الطلب، ثم قال: إن
متعلق
الوجود في الأوامر ومتعلق العدم في النواهي أيضا أمر واحد وهو
الطبيعة الواقعة بعدهما، غاية ما في الباب أنه لما كان وجود الطبيعة
بوجود فرد ما وانعدامها بانعدام جميع الافراد، فلا محالة كان تحقق
الامتثال في الأوامر بإتيان فرد ما وفي النواهي بترك جميع
الافراد (انتهى).
أقول: يترتب على كلامه (قده) لوازم فاسدة لا يلتزم بها أحد: منها أن
مقتضى ما ذكره أن يكون للنهي المتعلق بالطبيعة عصيان واحد و
هو الاتيان بأول فرد من أفرادها من دون أن يكون الفرد الثاني أو الثالث
وهكذا محققا لعصيان آخر، والالتزام بذلك مما يعد عند
العقلا مستنكرا.
بيان ذلك: أن النهي إن كان عبارة عن طلب ترك الطبيعة كان المتعلق
للطلب، أعني ترك الطبيعة أمرا وحدانيا، إذ العدم غير قابل
للكثرة، فإنه عبارة عن نفس اللا شيئية التي هي خيال محض، وما هو
المتكثر إنما هو وجود الطبيعة، فإنها موجودة في الخارج بنعت
الكثرة.
وبالجملة: ترك الطبيعة أمر واحد ويكون نفس أمريته بانعدام جميع
الافراد ومخالفته بإيجاد فرد ما، فلو كان النهي عبارة عن طلب
ترك الطبيعة لزم أن تكون له مخالفة واحدة وعصيان واحد، وهو
الاتيان بأول فرد من أفراد الطبيعة، من دون أن يقع الاتيان بالفرد
الثاني أو الثالث عصيانا له، وهذا أمر مخالف لما يحكم به العقلا في
باب النواهي، فإنهم يرون الاتيان بكل فرد من أفراد الطبيعة
المنهي عنها عصيانا على حدة.
ومنها: أن مقتضى ما ذكره أن يكون للنهي المتعلق بالطبيعة امتثال
واحد وهو ترك جميع الافراد، وهذا أيضا مخالف لحكم العقلا فإن
المكلف إن اقتضت شهوته في الان الأول أن يأتي بالطبيعة المنهي
عنها ولكنه تركها لأجل نهي المولى عد ممتثلا، وإن أتى بها في الان
الثاني أو الثالث، ولو لم يأت بها في الان الثاني أيضا لمكان نهي
المولى لعد هذا امتثالا آخر في قبال الامتثال الأول.
والحاصل: أن القول بكون النهي عبارة عن طلب ترك الطبيعة مستلزم
لان لا يتصور له أزيد
246

من عصيان واحد وإطاعة واحدة، إذ ترك الطبيعة أمر وحداني غير
قابل للتكثر، ويكون خارجيته ونفس أمريته بانعدام جميع الافراد
ومخالفته بوجود فرد ما.
فإن قلت: كما أن للطبيعة وجودات متعددة بعدد وجودات أفرادها -
لما حقق في محله من أن الطبيعي يوجد في الخارج بنعت الكثرة -
فليكن لها أعدام أيضا، إذ لكل وجود عدم بديل، فعدم كل واحد من
الافراد عدم للطبيعي الموجود فيه أيضا، وحينئذ فيصير الطلب
المتعلق بعدم الطبيعة الذي هو مفاد النهي منحلا إلى أفراد عديدة من
الطلب تعلق كل واحد منها بفرد من الاعدام، ويكون لكل منها
امتثال على حدة وعصيان مستقل. [1]
قلت: فرق بين الوجود والعدم من هذه الجهة، فإن الوجود حقيقته
التحصل، وهو عين التشخص والتميز، وهذا بخلاف العدم الذي لا
يتصور فيه ميز من حيث العدم، والعدم المضاف إلى هذا الفرد من
الطبيعة وإن كان ممتازا من العدم المضاف إلى ذاك الفرد، لكنه
خارج مما نحن فيه، فإن المتعلق للطلب على مذاقه (قده) ليس عبارة
عن العدم المضاف إلى كل فرد فرد، حتى يتكثر بتكثر المضاف
إليه، بل هو عبارة عن العدم المضاف إلى أصل الطبيعة وهو أمر واحد،
فافهم.
وبالجملة: القول بكون النهي من مقولة الطلب مستلزم لتوال فاسدة
عند جميع العقلا.
فالتحقيق أن يقال: إن النهي بحقيقته ومباديه وآثاره يختلف مع الامر،
وما زعمه المحقق الخراساني تبعا للمشهور: من اشتراكهما في
كونهما للطلب فاسد جدا. بيان ذلك:
أن مفاد الامر، كما مر سابقا عبارة عن البعث الانشائي والتحريك
القولي نحو العمل المطلوب بإزاء البعث الخارجي والتحريك العملي
نحوه، فكما أن الطالب للشئ قد يأخذ بيد المطلوب منه ويجره نحو
المقصود أو يحركه ويبعثه بوسيلة الجارحة نحوه، فكذلك قد يقول
له
[1] أقول: ربما يقرر الاشكال بأن الطبيعة إن أخذت مبهمة فكما أن
وجودها بوجود فرد ما فعدمها أيضا بعدم فرد ما، وإن أخذت
مرسلة فوجودها بوجود الجميع وانتفاؤها أيضا بانتفاء الجميع. و
لاحد أن يجيب عن ذلك بأن الطبيعي حيث إنه لا بشرط من الوحدة و
الكثرة، فلذا يوجد في الخارج بنعت الكثرة ونسبته إلى الافراد نسبة
الاباء إلى الأولاد، كما بين في محله، وهو بعينه يوجد في الذهن
بنعت الوحدة فهو في حد ذاته لا واحد ولا كثير وإنما يكون تعدده و
كثرته بخارجيته، أي بتبع الوجود الخارجي، والعدم لا خارجية له
حتى يتكثر وتتكثر بتبعه الطبيعة. نعم قد يتكثر العدم ذهنا بتكثر
المضاف إليه وتعدده، ولكن المضاف إليه فيما نحن فيه واحد، وهو
نفس الطبيعة، إذ الكلام في عدم نفس الطبيعة، لا الافراد، فلا مكثر
للطبيعة لا خارجا ولا ذهنا.
ح - ع - م.
247

بدلا من ذلك: (افعل كذا) فمفاده عبارة عن البعث والتحريك، ويكون
اعتباره اعتبار التحريك العملي.
و (مبادئ البعث) عبارة عن تصور المبعوث إليه والتصديق بمصالحه
وفوائده، ثم اشتياق النفس إليه، فإذا تحقق الشوق في نفس المولى
وتأكد، بعث العبد نحوه ليوجده. و (متعلقه الامر) عبارة عن إيجاد
الطبيعة أو نفسها على التقريب الذي تقدم في المسألة السابقة، فإن
أتى العبد بها كان ممتثلا وإن تركها كان عاصيا، فالامر يتعلق بما يكون
تحققه ونفس أمريته محققا لامتثاله وهو وجود الطبيعة، و
حيث إن متعلقه نفس وجود الطبيعة فبوجودها يسقط الامر من جهة
حصول الغرض، فلا يقع الفرد الثاني والثالث وغيرهما مصاديق
للامتثال. نعم، إن أوجد المكلف في عرض واحد أزيد من فرد واحد
وقع كل منهما امتثالا برأسه، إذ يصدق على كل واحد منهما أنه
وجود للطبيعة المأمور بها. وقد مر بيان ذلك في مسألة المرة والتكرار.
هذا كله مما يتعلق بالامر.
وأما النهي فحقيقته عبارة عن الزجر الانشائي عن الوجود بإزاء الزجر
الخارجي، فكما أن المبغض للشئ قد يأخذ بيد العبد وينحيه و
يزجره عن الفعل المبغوض عملا، فكذلك قد يزجره إنشاء بصيغة
النهي، فوزان صيغة النهي وزان الزجر العملي، و (مبادئ الزجر)
عبارة عن تصور الشئ والتصديق بمفاسده، ثم الكراهية و
المبغوضية. و (متعلقه) مثل متعلق الأمر، أعني وجود الطبيعة
المبغوضة.
والحاصل: أن الأمر والنهي يشتركان بحسب المتعلق بمعنى أن
المتعلق في كليهما عبارة عن وجود الطبيعة، ولكنهما مختلفان
بحسب
الحقيقة والمبادي والآثار، فحقيقة الامر هي البعث والتحريك نحو
المتعلق ويعبر عنه بالفارسية (وا داشتن)، وحقيقة النهي عبارة عن
الزجر والمنع عن المتعلق، ويعبر عنه بالفارسية (باز داشتن)، وما هو
المتعلق للامر، أعني وجود الطبيعة نفس أمريته امتثال له، وما
هو المتعلق للنهي نفس أمريته عصيان له، ومقتضى البعث نحو وجود
الطبيعة تحقق الامتثال بإيجاد فرد ما، فيسقط الامر بذلك كما مر،
ومقتضى الزجر عن وجودها كون الاتيان بكل فرد عصيانا على حدة،
إذ كل فرد من الافراد وجود للطبيعة، وقد زجر عنه المولى من
جهة كون الوجود مشتملا على مفسدة نشأ من قبلها المبغوضية،
فالمتعلق بوجود الطبيعة وإن كان نهيا واحدا، ولكنه ينحل إلى نواه
متعددة بعدد ما يتصور للطبيعة من الافراد، وبعددها يتصور له
الامتثال والعصيان، فكل فرد أوجده العبد صار عصيانا برأسه، وكل
فرد انزجر عنه وتركه بداعي نهي المولى تحقق بالانزجار عنه امتثال
لنهيه.
248

فإن قلت: إذا أتى العبد بفرد من الطبيعة المنهي عنها وبسببه تحقق
العصيان فكيف يتصور له عصيان آخر، مع أن العصيان مثل الامتثال
موجب للسقوط؟ قلت: لا نسلم كون العصيان من المسقطات
للتكاليف، وإن اشتهر ذلك بينهم. وما تراه من سقوط الموقتات
بمضي
أوقاتها إذا تركها العبيد في أوقاتها فإنما هو من جهة أن العبد لا يقدر
على إتيانها بعد مضي الوقت، فيسقط التكليف بخروج متعلقه من
تحت القدرة، إذ الصلاة المقيدة بالوقت الكذائي مثلا لا يمكن إيجادها
بعد مضي هذا الوقت.
وبالجملة: سقوط الوجوب - في الواجب الموقت - بمضي وقته إنما
هو من جهة خروجه من تحت القدرة، لا من جهة عصيانه، إذ العصيان
بما هو عصيان ليس فيه ملاك الاسقاط، ففيما نحن فيه لا مانع من
تحقق العصيان للنهي بإيجاد فرد من الطبيعة المنهي عنها، ومع ذلك
يقع الفرد الثاني والثالث وغيرهما أيضا مصاديق للعصيان لو أتي بها،
ويقع ترك كل واحد منها امتثالا على حدة لو تركت بداعي نهي
المولى، فتدبر.
وقد تلخص من جميع ما ذكرنا أن القول بكون النهي من مقولة الطلب،
وكونه مشتركا مع الامر في المفاد ومختلفا معه بحسب المتعلق
فاسد جدا، بل الامر بالعكس. نعم، لا ننكر أن العقل ينتزع عن الزجر
المتعلق بالوجود بعثا متعلقا بالعدم، كما أنه ينتزع عن البعث
المتعلق بالوجود في باب الأوامر زجرا متعلقا بعدمه، ولكن لا بنحو
يرى الصادر عن المولى شيئين، بل الصادر عنه في كل تكليف، شي
واحد وهو البعث في الأوامر والزجر في النواهي، غاية الأمر أنه يعتبر
نفس الزجر عن الوجود بنظر آخر بعثا نحو عدمه من جهة أن
الوجود والعدم متناقضان، والتحريك نحو أحد النقيضين عين الزجر
عن الاخر بنظر العقل، كما أن الزجر عن أحدهما بعث نحو الاخر.
تذنيبات:
الأول:
قد عرفت أن حقيقة الامر هي البعث نحو متعلقه باعتبار اشتماله على
المصلحة.
وحقيقة النهي الزجر عن المتعلق باعتبار اشتماله على المفسدة،
فحينئذ نقول: إنه من الممكن أن يصير عدم خاص باعتبار مقارناته
معنونا بعنوان حسن ذي مصلحة، فيكون المقام مقام الامر بهذا العدم
والبعث نحوه، وذلك كالصوم الذي حقيقته الامساك، وهو أمر
عدمي، فتدبر حتى لا يختلط عليك الامر، وتميز هذا السنخ من
الواجبات من المنهيات.
249

الثاني:
قد ظهر لك مما ذكرنا سقوط النزاع في كون النهي متعلقا بالترك أو
الكف من أصله وأساسه، إذ النهي - كما حققنا - عبارة عن الزجر،
ومتعلقه نفس الوجود، والعقل وإن كان ينتزع عن هذا الزجر عن
الوجود بعثا متعلقا بنقيضه، ولكن النقيض للوجود هو العدم المطلق،
لا العدم المقيد بكونه ملازما للميل إلى الوجود كما هو مفاد الكف.
الثالث:
قد يتوهم أن النهي مثل الامر ينقسم إلى تعبدي وتوصلي، وهو توهم
فاسد، إذ النهي إنما يتعلق بوجود الطبيعة، وقد عرفت أن نفس
أمريته عصيان له، ولا يعقل أن يقع متعلقه مصداقا لامتثاله وحقيقة
التعبدية هي كون المتعلق للتكليف مقيدا بصدوره بداعي هذا
التكليف المتعلق به، فيشترط في تحققها كون المتعلق بتحققه مصداقا
للامتثال، كما في الأوامر، لا للعصيان كما في النواهي.
250

الفصل الثاني في اجتماع الأمر والنهي
251

تحرير محل البحث:
قد عرفت أن مفاد الامر هو البعث نحو وجود الطبيعة المحبوبة، ومفاد
النهي هو الزجر عن وجود الطبيعة المبغوضة، والامر يحتاج في
تحققه إلى ثلاثة أشياء: الطالب، والمطلوب، والمطلوب منه، كما أن
النهي أيضا يتقوم بثلاث إضافات: إضافة إلى الزاجر، وإضافة إلى
الطبيعة المزجور عنها، وإضافة ثالثة إلى المكلف المزجور.
إذا عرفت هذا فنقول: من الواضحات عند العقل والعقلاء أنه يمتنع أن
يصدر عن المولى الواحد بالنسبة إلى المكلف الواحد بعث وزجر،
حال كونهما متعلقين بطبيعة واحدة في زمان واحد، فهذا حكم يصدقه
العقل بعد تصور أطرافه، ولكن لا من جهة كونه تكليفا بالمحال
الذي يجوزه الأشعري، بداهة أنهما تكليفان لا تكليف واحد متعلق
بأمر محال، بل الوجه في ذلك:
أنه يمتنع أن تنقدح في نفس المولى الإرادة والكراهة معا، متعلقتين
بطبيعة واحدة بالنسبة إلى شخص واحد في زمان واحد.
وبالجملة: من المحالات تحقق البعث والزجر معا، بعد كون كل واحد
من المكلف والمكلف والمكلف به وزمان الامتثال واحدا، نعم إن
تعددت واحدة من هذه الجهات الأربع ارتفعت الاستحالة، وما
ذكرناه، من الكبريات المتسالم عليها بين جميع العقلا.
إذا تبين ذلك فنقول: إن النزاع في مسألة الاجتماع يرجع إلى أن
المتنازع فيه من صغريات هذه الكبرى أم لا.
بيان ذلك: أن الأصوليين اختلفوا في أنه إذا كان هناك حيثيتان
مختلفتان اشتركتا في بعض المصاديق مثلا - كما هو المتيقن من محل
النزاع -، فهل يجوز أن يزجر المولى عن واحدة منهما بإطلاقها و
يبعث نحو الأخرى كذلك، أو لا يجوز، بل يشترط في تحقق البعث و
الزجر كون
252

المتعلقين متباينين؟ فالاجتماعي يمنع كون هذا الفرض من صغريات
الكبرى السابقة من جهة كون البعث متعلقا بحيثية سوى الحيثية
التي تعلق بها الزجر، والامتناعي قائل بكونه من صغرياتها من جهة أن
العبد وإن كان يقدر على التفريق بين الحيثيتين ولكن مقتضى
إطلاقهما جواز جمعهما في فرد واحد أيضا، وحينئذ فيلزم من تعلق
البعث بإحداهما والزجر بالأخرى اجتماع البعث والزجر في شي
واحد بالنسبة إلى هذا الفرد، أي المجمع، والمفروض أن كلا من
المكلف والمكلف والزمان أيضا واحد، فيصير المقام من صغريات
الكبرى المتقدمة، وعلى هذا فيجب على المولى في مقام البعث و
الزجر لحاظ الحيثيتين المتصادقتين، بنحو لا تتصادقان ولو في فرد
ما.
والحاصل: أن النزاع بين الفريقين يرجع إلى أن هذا الفرض من
صغريات تلك الكبرى أم لا، فالاجتماعي ينكر كونه منها من جهة
اختلاف الحيثيتين، والامتناعي قائل بكونه منها من جهة اشتراك
الحيثيتين في المصداق، هذا وكان القدماء يسمون الاجتماع في
صورة
توجه الأمر والنهي إلى مكلف واحد حال كونهما صادرين عن مولى
واحد ومتعلقين بحيثية واحدة بالاجتماع الامري، والاجتماع في
صورة تعلقهما بحيثيتين متصادقتين، بالاجتماع المأموري، والوجه
في التسميتين واضح.
ثم أعلم أن الأصوليين قد أطنبوا الكلام في هذه المسألة، وذكروا لها
مقدمات عديدة، وكانوا يشرحون بنحو التفصيل كل واحد من
الألفاظ المذكورة في عنوان المسألة فكانوا يذكرون معنى الجواز و
الاجتماع والعنوان والواحد وأقسام الوحدة ونحو ذلك.
المراد بالواحد في عنوان المسألة:
وشيخنا الأستاذ المحقق الخراساني (قده) أيضا ذكر في المقام
مقدمات فلنشر إلى بعضها:
قال (قده) في المقدمة الأولى ما حاصله: إن المراد بالواحد في عنوان
المسألة ليس هو الواحد الشخصي فقط، بل أعم منه ومن الواحد
النوعي والجنسي، فإن الصلاة في الدار المغصوبة عنوان كلي، ينطبق
عليه عنوانان، تعلق بأحدهما الامر، وبالاخر النهي، فيجري فيها
النزاع أيضا (انتهى).
وفيما ذكره نظر، فإن ضم عنوان كلي إلى عنوان آخر لا يوجب
الوحدة، إذ الماهيات والعناوين بأسرها متباينة بالعزلة، فمفهوم
الصلاة يباين مفهوم الغصب، وإن ضممنا أحدهما إلى
253

الاخر، وما هو الجامع للشتات عبارة عن حقيقة الوجود، التي هي عين
التشخص والوحدة
هل يجري النزاع على القول بتعلق الاحكام بالافراد؟:
قال (قده) في المقدمة السابعة ما حاصله: إنه قد يتوهم أن النزاع في
المسألة يبتنى على القول بتعلق الاحكام بالطبائع، وأما على القول
بتعلقها بالافراد فلا يتمشى النزاع، بل لا بد عليه من اختيار الامتناع،
ضرورة استلزام القول بالاجتماع تعلق الحكمين بواحد شخصي، و
قد يتوهم أيضا أن القول بالجواز يبتنى على القول بتعلق الاحكام
بالطبائع، والقول بالامتناع يبتنى على القول بتعلقها بالافراد،
فالقولان في هذه المسألة يبتنيان على القولين في تلك المسألة. وأنت
خبير بفساد كلا التوهمين، فإن تعدد الوجه إن كان مجديا في رفع
الغائلة فيجدي، ولو على القول بتعلق الاحكام بالافراد، وإن لم يكن
مجديا فلا يجدي ولو قيل بتعلقها بالطبائع، والوجه في ذلك أنه و
إن قلنا بتعلقها بالافراد ولكن الفرد الموجود في الخارج الموجه
بالوجهين يكون مجمعا للفردين، فيمكن كونه مأمورا به بما هو فرد
للصلاة مثلا، ومنهيا عنه بما هو فرد للغصب (انتهى). [1]
أقول: وفيه أيضا نظر، إذ المراد بتعلق الحكم بالفرد صيرورة كل واحد
من وجودات الطبيعة بخصوصياته المفردة وعوارضه
المشخصة متعلقا للحكم، والفرد بهذا المعنى - الذي ذكرناه تبعا له -
أمر وحداني فلا يعقل تعلق الأمر والنهي به معا، لكونه من مصاديق
ما بينا في صدر المبحث استحالته، فالنزاع في المسألة إنما هو على
القول بتعلق الاحكام بالطبائع.
هل يعتبر في متعلقي الايجاب والتحريم وجود الملاك؟:
قال (قده) في المقدمة الثامنة ما حاصله: إن المعتبر في المسألة كون
كل من متعلقي الايجاب والتحريم واجدا للملاك، حتى في مورد
التصاديق لتصير المسألة من أقسام التزاحم.
أقول: وفيه أيضا نظر، إذ البحث في المسألة إنما هو في: أنه هل يمكن
عقلا تعلق البعث والزجر بحيثيتين متصادقتين، أو لا يمكن، بل
يجب لحاظهما بنحو لا يبقى لإحداهما
[1] لا يخفى أن القائل بتعلق الحكم بالفرد لا يريد تعلقه بعنوان الفردية
وبمفهومها، بل بما هو فرد بالحمل الشائع الصناعي، وعلى هذا
فكونه فردا لهذا وفردا لذلك لا يوجب تعنونه بعنوانين، تعلق
بأحدهما الامر، وبالاخر النهي. ح - ع - م.
254

اصطكاك مع الأخرى، فمورد البحث هو الامكان لا الوقوع، ولا يعتبر
الملاك في الامكان بل يعتبر في الوقوع من الحكيم وفي ثمرة
المسألة، بمعنى أن المولى الحكيم لا يصدر عنه ولا يقع منه البعث و
الزجر المتعلقان بالحيثيتين المتصادقتين إلا إذا كانتا واجدتين
للملاك حتى في مورد التصادق، وحصول الثمرة بين القول بالجواز و
القول بالامتناع أيضا إنما هو فيما إذا كان مورد التصادق واجدا
للملاكين، فتدبر. هذا وكان الأنسب جعل المقدمة الثامنة والتاسعة و
العاشرة من تنبيهات المسألة لارتباطها بثمرة المسألة، وسنشير
إليها في آخر المبحث.
ذكر مقدمات أربع للقول بالامتناع ونقدها:
ثم إنه لما استدل القائلون بالامتناع بأن تعلق الأمر والنهي بما يكون
مصداقا للحيثيتين يوجب اجتماع الضدين، وأجاب عنه المجوزون
تارة بأن المجمع له حيثيتان تعلق بإحداهما الامر وبالأخرى النهي،
فلم يجتمع الضدان، وأخرى بأن هذا الاستدلال يتم بناء على أصالة
الوجود، وأما بناء على أصالة الماهية فلا يتم، إذ الوجود في المجمع و
إن كان واحدا، ولكن المتعلق للامر والنهي - أعني الماهيتين -
مختلفان، صار المحقق الخراساني بصدد تشييد أركان الامتناع بنحو لا
يرد عليه إشكال، ومهد لبيان مرامه أربع مقدمات، ذكر في
الأولى مسألة تضاد الاحكام بعد وصولها إلى مرتبة الفعلية، وجعله من
الواضحات. وفي الثانية أن متعلق الحكم عبارة عن فعل المكلف و
ما يصدر عنه في الخارج أعني المعنونات لا العناوين والأسماء وفي
الثالثة أن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون، كما أن مفاهيم
الصفات الجلالية والجمالية تصدق على ذات الباري (تعالى) مع
انحفاظ وحدته وبساطته، وكأن ما ذكره في هذه المقدمة إنما هو لدفع
ما يمكن أن يقال: إن المجمع باعتبار كونه ذا عنوانين يكون متحيثا
بحيثيتين انضماميتين تقييديتين إحداهما متعلق للامر والأخرى
للنهي، فلا يلزم اجتماع الضدين، فدفعه هو (قده) بأن تعدد العنوان لا
يوجب كون المعنون متحيثا بحيثيتين انضماميتين.
وذكر في المقدمة الرابعة أن الوجود الواحد لا يتصور له ماهيتان
مستقلتان، بل الواحد وجودا واحد ماهية، وإن كانت العناوين
الصادقة عليه لا تعد ولا تحصى كثرة. ثم استنتج من هذه المقدمات
امتناع الاجتماع، بدعوى أن المجمع حيث كان واحدا بحسب الماهية
و
الوجود كان تعلق الأمر والنهي به معا محالا للزوم اجتماع الضدين في
موضوع واحد ولو كان تعلقهما به بعنوانين، لما عرفت من أن
فعل المكلف بحقيقته متعلق للحكم لا بعنوانه واسمه (انتهى كلامه).
255

أقول: تضاد الاحكام من الأمور المشهورة بينهم، وملاحظة كلماتهم
تشهد بكونه من المسلمات عندهم، ولذلك ترى المجوزين يحومون
حول تكثير متعلق الأمر والنهي، حتى ترتفع به غائلة التضاد، و
المانعون قد جعلوا تمام همهم مصروفا في إثبات توحيد المتعلق
بالنسبة
إلى المجمع، حتى يلزم فيه اجتماع الضدين، وبالجملة: تضاد
الأحكام الخمسة من المسلمات عندهم.
ولكن التحقيق خلافه، فإن الوجوب والحرمة وغيرهما من الاحكام
ليست من العوارض العارضة لفعل المكلف (بالفتح) بل هي بحسب
الحقيقة من عوارض المكلف (بالكسر)، لقيامها به قياما صدوريا، غاية الأمر
أن لها نحو إضافة أيضا إلى المتعلق، ولكن ليس كل إضافة
مساوقا للعروض.
توضيح ذلك: أنك قد عرفت سابقا أن كلا من البعث والزجر يتقوم
بثلاث إضافات، ولا يعقل تحققهما بدونها: إضافة إلى المكلف
(بالكسر)، وإضافة إلى المكلف (بالفتح)، وإضافة ثالثة إلى المكلف به
(أعني الفعل)، فباعتبار إضافتهما إلى المكلف (بالكسر) يحمل
عليه الامر والناهي والباعث والزاجر وأمثال هذه العناوين المنتزعة
عنه باعتبار صدور البعث أو الزجر عنه، وباعتبار إضافتهما إلى
المكلف (بالفتح) يحمل عليه المأمور والمبعوث أو المنهي و
المزجور، وباعتبار إضافتهما إلى المكلف به يحمل عليه الواجب و
المأمور
به أو الحرام والمنهي عنه ونحو ذلك، وأنحاء هذه الإضافات
مختلفة، فإن إضافتهما إلى المكلف (بالكسر) إنما هي بصدورهما عنه
و
قيامهما به قيام العرض بمعروضه، كسائر الافعال القائمة بفواعلها، و
أما إضافتهما إلى المكلف (بالفتح) وإلى المكلف به فليست من هذا
القبيل، لعدم كونهما مما يعرض عليهما خارجا، وعدم كونهما
موضوعين لهما، بداهة أن العرض الواحد ليس له إلا موضوع واحد،
فإضافة البعث أو الزجر إلى المكلف به مثلا، وإن كانت مصححة
لانتزاع مفهوم الواجب أو الحرام عنه، ولكنه ليس من جهة كون
الوجوب أو الحرمة عرضا للمكلف به، إذ ليس المصحح لانتزاع
العناوين منحصرا في العروض، ألا ترى أن العلم الذي هو من الصفات
النفسانية، له نحو إضافة إلى المعلوم بالعرض الذي هو أمر خارجي،
مع أنه ليس من عوارضه بالبداهة، إذ المعلوم بالعرض قد يكون أمرا
مستقبلا معدوما حين العلم، ولا يصح قيام الموجود بالمعدوم،
فالبعث والزجر أيضا مثل العلم في أن لهما أيضا نحو إضافة إلى فعل
المكلف، وباعتبارها تنتزع عنه العناوين، ولكنهما ليسا من عوارضه،
كيف ولو كانا من عوارضه لم يعقل تحقق العصيان أبدا، فإنه
متوقف على ثبوت البعث والزجر، ولو كان البعث والزجر من
عوارض الفعل الخارجي توقف تحققهما على ثبوت الفعل في
256

الخارج ولو في ظرفه (لو سلم كفاية ذلك في تحقق العروض) وحينئذ
فكيف يعقل العصيان، إذ وجود المأمور به امتثال للامر لا
عصيان، فمن هنا يعلم أنهما ليسا من عوارض الفعل بل من عوارض
المكلف (بالكسر) وقد صدرا عنه متوجهين إلى الجميع حتى العصاة،
غاية الأمر أن لهما نحو إضافة إلى الفعل الخارجي أيضا، إضافة العلم
إلى المعلوم بالعرض. [1]
فتلخص مما ذكرنا أنه لا يكون الوجوب ولا الحرمة عرضا للمتعلق
حتى يلزم بالنسبة إلى المجمع اجتماع الضدين، إذ التضاد إنما يكون
بين الأمور الحقيقية، وما يكون في ناحية المتعلق هو صرف الإضافة
دون العروض، والعروض إنما يكون في ناحية المكلف (بالكسر)
فيجب صرف النظر عن ناحية المتعلق والرجوع إلى ناحية المكلف
(بالكسر) التي هي ناحية وجود البعث والزجر وناحية تحققهما و
عروضهما، وبعد الرجوع إلى هذه الناحية نرى بالوجدان أن أصل
البعث والزجر ليسا بضدين، بل قد يكونان متلازمين كما في الامر
بالشئ مع النهي عن ضده، فلا محالة يكون التضاد - على فرض
تحققه - بين نوع خاص من البعث ونوع خاص من الزجر، والقدر
المسلم منه هو صورة كون كل من المكلف والمكلف والحيثية
المكلف بها وزمان الامتثال واحدا لما عرفت من بداهة استحالة ذلك،
و
أما في غير هذه الصورة، كما إذا كان هنا حيثيتان متصادقتان في بعض
الافراد تعلق بإحداهما البعث وبالأخرى الزجر فلا نسلم امتناع
صدورهما عن المكلف وقيامهما به، وعلى القائل بالامتناع أن يثبت
امتناع أن ينقدح في نفس المولى إرادة البعث بالنسبة إلى حيثية، و
إرادة الزجر بالنسبة إلى حيثية أخرى متصادقة مع الأولى في بعض
الافراد، وأنى له بإثبات ذلك
اختلاف الحيثيات يكفي للقول بجواز الاجتماع:
والحاصل: أن مفروض الكلام في مبحث الاجتماع هو ما إذا كانت هنا
حيثيتان متصادقتان يمكن في مقام الايجاد تفكيكهما أيضا،
فالاجتماعي يقول: إنه يمكن أن يصدر عن المولى بعث متعلق
بإحداهما وزجر متعلق بالأخرى، إذ لا يلتزم منه محذور في جوانب
المولى، والعبد أيضا قادر على امتثالهما. والامتناعي يدعي امتناع
ذلك، فعليه أن يثبت وجه الامتناع في ناحية المولى، كما
[1] يمكن ان يقال: ان الحكم وإن كان لا بد في تحققه من إضافة ما إلى
المكلف به، ولكن المراد بذلك هو المكلف به بوجوده الذهني لا
الخارجي، فإن خارجيته موجبة لسقوط الحكم، كما سيصرح به، فبيان
نحو تعلقه بالموجود الخارجي أجنبي عما نحن فيه من بيان
مقومات الحكم ح - ع - م.
257

في صورة وحدة الحيثية، حيث أثبتنا فيها امتناع أن تنقدح في نفسه
إرادة البعث والزجر معا بالنسبة إليها، وأما ناحية المتعلق فلا يلزم
فيها محذور أصلا، إذ المحذور المتوهم فيها هو التضاد، وقد عرفت أن
الاحكام ليست من عوارض متعلقاتها، حتى يلزم في ناحيتها
التضاد، بل هي من عوارض المكلف (بالكسر) لقيامها به قياما
صدوريا، وبعد قطع النظر عن ناحية المتعلق والرجوع إلى ناحية
المولى
وجهة انتسابها إليه، يظهر لنا الفرق الواضح بين صدور البعث والزجر
عنه معا متعلقين بحيثية واحدة، وبين صدورهما عنه متعلقين
بحيثيتين يمكن تفكيكهما خارجا، وإن أمكن تصادقهما أيضا. والعقل
يحكم باستحالة الأول بالبداهة ولا يرى وجها لامتناع الثاني.
فإن قلت: المجمع من حيث كونه مصداقا للحيثية المأمور بها متعلق
للامر، ومن حيث كونه مصداقا للحيثية المنهي عنها متعلق للنهي،
فيلزم
على القول بالجواز كونه بوحدته متعلقا للامر والنهي معا، وهذا عين
ما سلمت استحالته (أعني توجه البعث والزجر معا مع وحدة
المكلف والمكلف والمكلف به وزمان الامتثال).
قلت: الامر إنما يكون لتحريك الداعي نحو إيجاد متعلقة، والنهي
لتحريك الداعي نحو تركه والانزجار عنه، فلا يعقل تعلقهما بالوجود
الخارجي، بل الخارجية موجبة لسقوطهما من جهة حصول الامتثال أو
العصيان، ولو سلم فلا نسلم كون الوجود الخارجي بشراشره
مبعوثا إليه ومزجورا عنه، بل المبعوث إليه نفس الحيثية الصلاتية
مثلا، والمزجور عنه نفس الحيثية الغصبية، من دون أن يكون للبعث
سراية إلى متعلق الزجر أو بالعكس. والسر في ذلك أن الأمر والنهي
تابعان للإرادة والكراهة التابعين للحب والبغض، التابعين
لادراك المصلحة والمفسدة، فمتعلق الحب مثلا نفس الحيثية التي
أدرك العقل مصلحتها، ومتعلق الإرادة وكذا البعث نفس الحيثية
المحبوبة، ولا سراية لهما إلى الحيثية المبغوضة، ولا إلى سائر
الحيثيات المتحدة مع ما تعلق به الحب واشتمل على المصلحة، كيف
و
الحيثيات المتحدة معها لا دخالة لها في الغرض الداعي إلى الامر،
فيلزم من إسراء البعث والوجوب إليها الجزاف، الذي لا يرتكبه
الموالي
المجازيون فضلا عن مولى الموالي جل جلاله. هذا حال الامر، و
كذلك الكلام في طرف النهي، فإن المتعلق للزجر والكراهة والبغض
نفس الحيثية التي أدرك مفسدتها.
وبعبارة أخرى: الامر إنما يكون للتسبب به إلى إيجاد ذي المصلحة، و
النهي إنما يكون للتسبب به إلى ترك ذي المفسدة، فلا يعقل
تعلقهما بغير ما اشتمل على المصلحة أو المفسدة من الحيثيات
المتحدة معه.
258

فإن قلت: كيف لا يسري البعث مثلا إلى الحيثيات المفردة، مع أن
مقتضى إطلاق المتعلق سرايته إليها، إذ ليس معنى إطلاقه إلا كون
جميع
أفراده موردا للحكم، والفرد ليس إلا عبارة عن مجموع الحيثيات
المتحدة في الوجود.
قلت: لا نسلم أن معنى الاطلاق ما ذكرت، بل معنى إطلاق المتعلق هو
كون نفس حيثية الطبيعة تمام المتعلق، من دون أن يكون لتقيدها
بشئ من القيود دخالة في المطلوبية، وليس معناه دخالة العناوين
المتحدة مع الحيثية المأمور بها في المطلوبية، بحيث تصير هي أيضا
متعلقة للحكم، وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث المطلق والمقيد.
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا أنه يمكن ان يصدر عن المولى الواحد
بالنسبة إلى عبد واحد بعث وزجر متعلقين بحيثيتين متصادقتين،
يمكن تفكيكهما في مقام الامتثال، من دون أن يتوقف ذلك على
لحاظهما بنحو تصيران متباينتين، ولا يلزم من ذلك اجتماع الضدين
بالنسبة إلى المجمع، لما عرفت من أن البعث والزجر ليسا من عوارض
المكلف به، بل المكلف (بالكسر).
ونظير هذا المعنى تعلق العلم والجهل معا بالحيثيتين المتصادقتين،
فإنه أيضا ممكن، ولا يلزم منه محذور اجتماع الضدين، مثال ذلك
ما إذا تعلق العلم بمجئ عالم غدا والجهل بمجئ عادل فاتفق
مجئ عالم عادل، فوجود هذا المجئ، من حيث إنه مجئ العالم
معلوم، و
من حيث إنه مجئ العادل مجهول، ومن المعلوم أن المعلومية و
المجهولية ليستا إلا كالمحبوبية والمبغوضية والوجوب والحرمة، فلو
كان اجتماع عنواني الواجب والحرام في مجمع الحيثيتين موجبا
لاجتماع الضدين كان اجتماع عنواني المعلومية والمجهولية في
مجئ
العالم العادل أيضا كذلك، فتدبر. [1]
[1] والحاصل) أن وزان ما هو المتعلق بحسب الحقيقة للإرادة والبعث
أو الكراهة والزجر وزان المعلوم بالذات، ووزان مصداق
المتعلق ووجوده الخارجي وزان المعلوم بالعرض، وفي الأول لا
يتوجه إشكال أصلا، إذ المتعلق بالذات هو نفس الحيثية الملحوظة، و
الفرض أن الحيثية المتعلقة للبعث غير الحيثية المتعلقة للزجر، وفي
الثاني أيضا لا إشكال، فإن إضافة البعث والزجر أو العلم والجهل
إلى الخارج ليست بنحو العروض بل هي نحو إضافة تعتبر بتبع تعلق
هذه الأمور بالمتعلق بالذات.
فإن قلت: فرق بين باب العلم والجهل وبين ما نحن فيه، فإن البعث و
الزجر إنما يصدران عن المولى، بداعي انبعاث العبد وانزجاره،
فإذا اطلع المولى على كون الحيثيتين متصادقتين فكيف يعقل أن
تنقدح في نفسه الإرادة والكراهة بالنسبة إليهما بإطلاقهما، فعلى هذا
يجب عليه تقييد متعلق الأمر ليجمع بين الغرضين. قلت: بعد كون
المشتمل على المصلحة عبارة عن نفس الحيثية الصلاتية مثلا يصير
تقييدها جزافا إذ الفرض عدم دخالة القيد في المصلحة. وبالجملة
ليس للبعث أو الزجر التخطي عن دائرة ما اشتمل على المصلحة أو
المفسدة، نعم، إن
259

ثم إنك إذا راجعت الوجدان رأيت جواز الاجتماع من أبده البديهيات،
فإذا أمرت عبدك بخياطة ثوبك ونهيته عن التصرف في فضاء دار
الغير فخاط العبد ثوبك في فضاء الغير، فهل يكون لك أن تقول له:
أنت لا تستحق الأجرة لعدم إتيانك بما أمرتك؟ ولو قلت هذا فهل لا
تكون مذموما عند العقلا؟ لا والله بل تراه ممتثلا من جهة الخياطة و
عاصيا من جهة التصرف في فضاء الغير، ويكون هذا العبد عند
العقلا مستحقا لاجر العبودية والإطاعة، وعقاب التمرد والعصيان.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: صورة حصول الشك في المسألة.
لو فرضنا حصول الشك في المسألة فلا وجه لترتيب آثار الامتناع و
تقييد إطلاقات متعلقات الأوامر أو النواهي الواردة في الشريعة
بنحو تصير الحيثيتان متباينتين، فإن التقييد خلاف الأصل، فلا يصار
إليه إلا بدليل ملزم.
الثاني: الفرق بين مقام التشريع والامتثال.
لا فرق في جواز الاجتماع بين التعبديات والتوصليات، بمعنى أنه لا
يجب على المولى في مقام البعث والزجر لحاظ الحيثيتين بنحو
تصيران متباينتين، نعم في التعبديات كلام آخر، وهو أن قصد القربة
لما كان معتبرا فيها، إما من جهة دخالته في انطباق العنوان
المأمور به على الاجزاء المأتي بها، أو من جهة دخالته في حصول
الغرض الباعث على الامر، أمكن أن يقال ببطلان المجمع إذا كان
عبادة
وإن قلنا بالجواز، من جهة أنه وجود واحد أتى به العبد مبغوضا
للمولى ومتمردا به وخارجا بإتيانه من رسوم العبودية، فلا يصلح لان
يتقرب به إلى ساحة المولى، إذ المبعد لا يكون مقربا.
فإن قلت: فكيف تعلق الامر به مع كونه مبغوضا؟.
قلت: قد عرفت سابقا أن متعلق الأمر ليس هو الوجود الخارجي. و
تفصيل ذلك: إن مقام تعلق الامر غير مقام الامتثال، فإن المولى حين
إرادة البعث أو الزجر لا ينظر إلى الوجود الخاص، بل يتوجه إلى نفس
الحيثية الواجدة للمصلحة فيبعث نحوها ويتوجه إلى نفس الحيثية
الواجدة للمفسدة فيزجر عنها، من دون أن يسري البعث أو الزجر إلى
الخصوصيات المفردة وسائر الحيثيات المتحدة مع المتعلق، ففي
مقام تعلق الأمر والنهي لا اصطكاك لواحد منهما مع الاخر،
لم يكن إيجاد المحبوب مقدورا للعبد لم يكن للمولى الامر به، ولكن
الفرض كونه مقدورا لوجود المندوحة ح - ع - م.
260

وإن كانت الحيثيتان متصادقتين، إذ الخصوصيات الفردية ليست
ملحوظة حين الأمر والنهي، لعدم دخالتها في الغرض الباعث إليهما،
ومعه يكون لحاظها جزافا كما مر، وهذا بخلاف مقام الامتثال الذي
هو مقام إسقاط الأمر والنهي، فإن ما يريده العبد ويتوجه إليه
حين الامتثال هو الوجود الخاص الذي هو أمر وحداني، فإن كان هذا
الوجود مبغوضا للمولى ومتمردا به لما أمكن قصد التقرب به إلى
ساحة المولى.
وبعبارة أخرى: مقام الإرادة التشريعية غير مقام الإرادة التكوينية
الحاصلة للعبد، إذ المتعلق لها في الأولى عبارة عن نفس الحيثية
الواجدة للمصلحة، بخلاف الثانية فإن المتعلق لها ليس إلا الوجود
الخاص الذي هو أمر وحداني جزئي، وبعد وقوعه مبغوضا من جهة
كونه مصداقا للحيثية المنهي عنها لا يصلح لان يتقرب به، ويشترط
في العبادة مضافا إلى قصد القربة أن يكون المأتي به صالحا لان
يتقرب به، وكونه مبعدا يرفع هذه الصلاحية.
ولاجل ذلك حكم الأصحاب ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة، ولا
يكشف حكمهم بالبطلان عن كونهم قائلين بالامتناع لما عرفت من
أن القول بالجواز في مقام توجيه الأمر والنهي - كما هو الحق - لا
يستلزم القول بالصحة في مقام الامتثال إذا كان المأمور به أمرا
عباديا، بل المختار هنا البطلان، وإن كان المختار في المسألة الأصولية
هو الجواز.
وليس في كلمات القدماء من أصحابنا اختيار الامتناع في المسألة
الأصولية، بل الموجود في كتبهم ليس إلا الفتوى ببطلان الصلاة في
الدار المغصوبة من جهة وقوعها مبغوضة، فراجع كلام الشيخ في
العدة، وكذا السيد وأمثالهما.
ومما ذكرنا ظهر أن نسبة الامتناع إلى المشهور من جهة إفتائهم ببطلان
الصلاة في المسألة الفقهية في غير محلها.
التنبيه الثالث: نقد القول بصحة الصلاة في الدار المغصوبة على القول
بالجواز.
قد اتضح بما ذكر فساد ما ذكره شيخنا الأستاذ المحقق الخراساني
(طاب ثراه) في المقدمة العاشرة: من صحة الصلاة في الدار المغصوبة
على القول بالجواز.
قال (قده) ما حاصله: إنه لا ريب في حصول الامتثال بإتيان المجمع
بداعي الامر على القول بالجواز ولو في العبادات، وكذلك على
القول بالامتناع وتقديم جانب الامر، وإما عليه وتقديم جانب النهي،
ففي التوصليات يسقط الامر من جهة حصول الغرض بإتيان المجمع
أيضا، وأما في التعبديات فلا يسقط الامر بإتيانه مع الالتفات إلى
الحرمة أو الجهل بها عن تقصير، وأما مع
261

الجهل بها قصورا فيسقط أيضا بإتيانه إذا أتي به على وجه القربة من
جهة اشتماله على المصلحة (انتهى).
أقول: أما ما ذكره من صحة المجمع، ولو كان عبادة على القول
بالجواز، فقد عرفت فساده.
ونزيدك هنا أن دخالة قصد القربة في حصول الغرض بحسب مقام
الثبوت على نحوين:
الأول: أن يكون المأمور به والمحصل للغرض في باب الصلاة مثلا
عنوانا بسيطا منطبقا على الاجزاء، ويكون لفظ الصلاة اسما لهذا
الامر البسيط الانتزاعي، غاية الأمر أنه يشترط في انطباق هذا العنوان
البسيط على هذه الأمور (التي أولها التكبير وآخرها التسليم) أن
يؤتى بها بداع قربي، فعلى هذا لا يكون نفس هذه الأمور ولا قصد
القربة بمأمور بها، بل الامر تعلق بنفس العنوان البسيط، ومجموع
هذه الأمور منطبق له ومنشأ لانتزاعه، وقصد القربة مقدمة وجودية
لتحققه من جهة دخالته في انطباق هذا العنوان على هذه الأمور.
الثاني: أن يكون المأمور به عبارة عن نفس الأمور المتكثرة (التي أولها
التكبير وآخرها التسليم) ويكون قصد القربة أيضا مأخوذا في
المأمور به جزا أو قيدا.
إذا عرفت هذا فنقول: إن كانت دخالة قصد القربة في المأمور به على
النحو الأول فلا يتصور - ولو على القول بالجواز - مجمع
للعنوانين، إذ الفرد الذي هو مصداق للغصب مثلا بعد كونه مبعدا عن
ساحة المولى لا يمكن أن يتقرب به إليه، فلا ينطبق عليه عنوان
المأمور به، ولا يصير من مصاديقه، إذ الفرض دخالة قصد القربة و
صلاحيته للتقرب به في صيرورته من مصاديقه وانطباق عنوانه
عليه. وأما إذا كانت دخالته على النحو الثاني: بأن كان المأمور به عبارة
عن نفس الحركات والأقوال وكان قصد القربة أيضا جزا أو
شرطا شرعيا، فتصوير المجمع للعنوانين، وإن كان بمكان من الامكان
إلا أن صحته ووقوعه عبادة مشكل، ولو على القول بالجواز،
لما عرفت من عدم صلاحية المبعد لان يتقرب به، فافهم.
وأما ما ذكره من حصول الامتثال بإتيان المجمع، بناء على القول
بالامتناع وتقديم جانب الامر، ففيه: أن تقديم جانب الامر غير جائز، و
إن كانت المصلحة الباعثة على الامر أقوى من المفسدة الباعثة على
النهي، بل الواجب على القول بالامتناع تقديم جانب النهي مطلقا
بالنسبة إلى المجمع.
والسر في ذلك أن مقتضى الامر بطبيعة، حصول الامتثال بإتيان فرد
منها، أي فرد كان، وهذا بخلاف النهي، فإن امتثاله إنما هو بترك
جميع أفراد الطبيعة لما مر من انحلاله إلى نواه
262

متعددة بعدد ما يتصور لمتعلقه من الافراد، وذلك من جهة أن الامر
إنما هو لتحصيل المصلحة الموجودة في متعلقه فبأصل حصول
المتعلق ولو في ضمن فرد ما يحصل الغرض والنهي إنما يكون للزجر
عن متعلقه من جهة اشتماله على المفسدة، والانزجار عن الطبيعة
المشتملة على المفسدة لا يتحقق إلا بالانزجار من جميع أفرادها، و
على هذا فإذا تعلق الامر بحيثية مشتملة على المصلحة وتعلق النهي
بحيثية مشتملة على المفسدة، وكانت الحيثيتان متصادقتين في بعض
الافراد فعلى القول بالجواز لا تقيد في واحدة من الحيثيتين، بل
هما باقيتان على إطلاقهما بلا محذور في البين. غاية الأمر أنه يجب
على العبد في مقام الامتثال تفكيك الحيثيتين، وأنه إن أتى بالمجمع
مع كونه عباديا يقع باطلا كما عرفت، وعلى القول بالامتناع لا بد من
تقييد إحدى الحيثيتين في مقام الجعل بنحو تصيران متباينتين، و
لكن التقييد يجب أن يكون في جانب الامر مطلقا، إذ المصلحة الباعثة
على الامر وإن كانت أقوى من المفسدة الباعثة على النهي، ولكنها
تحصل بإتيان فرد ما، بخلاف المفسدة فإن التحرز منها إنما يتحقق
بالتحرز من جميع الافراد المشتملة عليها، فيمكن الجمع بين
الغرضين بالنهي عن جميع الافراد المشتملة على المفسدة، والامر
بالطبيعة المشتملة على المصلحة مقيدة بعدم اجتماعها مع الطبيعة
المنهي عنها.
وبالجملة: بعد إمكان الجمع بين إحراز المصلحة القوية والفرار من
المفسدة الملزمة (وإن كانت أضعف منها) يجب ذلك بتخصيص
الامر بالافراد التي لا تزاحم فيها، فلا وجه أصلا لترجيح جانب الامر
في مجمع العنوانين، بل يتعين دائما ترجيح جانب النهي، وإن كانت
المفسدة الموجودة فيه أضعف بالنسبة إلى مصلحته.
التنبيه الرابع: تزاحم الحيثيات في مقام الامتثال.
قد تبين لك من جميع ما ذكرناه أنه لا تزاحم بين الأمر والنهي -
المتعلقين بحيثيتين بينهما عموم من وجه - في ناحية المولى، أعني
ناحية
تصور الحيثيتين، ففي هذه الناحية يتصور المولى إحداهما فيرى
اشتمالها على المصلحة وقدرة العبد على إيجادها فيأمر بها ويتصور
الأخرى فيرى اشتمالها على المفسدة فيزجر عنها من دون أن يلاحظ
سائر الحيثيات المتحدة مع المتعلق لعدم دخالتها في الغرض
الباعث على الامر أو النهي، فالتزاحم ليس في ناحية المولى وفي مقام
الجعل وإنما التزاحم في مقام الامتثال ومقام انشعاب كل من
الحيثيتين بالشعب المختلفة. هذا كله إذا كان بين الحيثيتين عموم من
وجه، وكذلك الحال إذا كان بينهما عموم مطلق وكان النهي متعلقا
بالأخص، والكلام فيه عين الكلام في سابقه.
263

بل قد تبين مما ذكرنا في التنبيه الثالث رجوع الأول إلى الثاني أيضا، إذ
الصلاة والغصب مثلا وإن كان بينهما عموم من وجه وقد
تعلق بأحدهما الامر وبالاخر النهي، ولكن الامر لا ينحل إلى أوامر
متعددة، إذ المطلوب في جانبه نفس وجود الطبيعة وهو يتحقق
بإيجاد فرد ما، وأما النهي فينحل إلى نواه متعددة بعدد ما يفرض
للطبيعة من الوجودات لما عرفت وجهه، فمجمع عنواني الصلاة و
الغصب كأنه تفرد بنهي مستقل، ولكنه لم يتفرد بأمر مستقل، بل الامر
تعلق بأصل الحيثية الصلاتية الجامعة بينه وبين غيره، وعلى هذا
فيجب أن تلاحظ النسبة بين هذا الفرد بخصوصه وبين طبيعة الصلاة،
ومعلوم أن النسبة بينهما عموم مطلق، فالنسبة بين متعلق الأمر و
متعلق النهي دائما عموم مطلق، ويكون الأعم موردا للامر والأخص
موردا للنهي، فتدبر.
التنبيه الخامس: موارد اختلاف حيثية واحدة:
جميع ما ذكرنا كان في صورة اختلاف الحيثيتين بحسب المفهوم،
سواء كان بينهما عموم مطلق أو من وجه.
وأما إذا كانت هنا حيثية واحدة، وكانت هذه الحيثية بنفسها مشتملة
على المصلحة وباعتبار اجتماعها مع حيثية أخرى مشتملة على
المفسدة، لا بنحو تكون المفسدة للحيثية المنضمة فقط، بل بأن تكون
المفسدة لمجموع الحيثيتين بحيث يكون كل منهما جزا من
الموضوع، فهل يمكن أن يأمر المولى بالحيثية الأولى بلا تقييد، وينهى
عن هذه الحيثية مقيدة بالحيثية الأخرى أو لا يمكن؟ فيه وجهان:
مثال ذلك ما إذا فرض كون الخياطة بنفسها ذات مصلحة والخياطة
بقيد وقوعها في دار زيد ذات مفسدة، لا بأن تكون المفسدة للكون
في دار زيد بل بأن تكون المفسدة في اجتماعهما، بحيث لا يكون
نفس الكون في دار زيد بوحدتها ولا نفس الخياطة بانفرادها مشتملة
على المفسدة، فبين الحيثية الواجدة للمصلحة وما يشتمل على
المفسدة لا محالة عموم مطلق.
فيقع الكلام في أنه هل يمكن للمولى في هذا المثال أن يأمر بالخياطة
بنحو الاطلاق وينهى عن الخياطة المقيدة أو يجب عليه في مقام
التشريع تقييد متعلق الأمر بعدم كونه في دار زيد؟ وبعبارة أخرى: نزاع
الاجتماع والامتناع هل يجري في هذا المورد أيضا أو يختص
بما إذا كانت هنا حيثيتان متغايرتان بحسب المفهوم، كالصلاة و
الغصب؟ الظاهر جريان النزاع في هذه الصورة أيضا، والحق فيه أيضا
الجواز إذ المفروض أن المشتمل على المصلحة في المثال هو نفس
الخياطة، لا الخياطة المقيدة بعدم كونها في دار زيد، فتقييدها في
مقام الامر بها بهذا القيد العدمي جزاف، فإن الحكيم لا يأمر إلا بنفس
الحيثية
264

المشتملة على المصلحة.
لا يقال: إن العنوان الواحد إذا كان مشتملا على المصلحة من جهة، و
على المفسدة من جهة أخرى كان اللازم متابعة الحكم لاقواهما، و
المفروض - فيما نحن فيه - أن الخياطة حين اجتماعها مع عنوان
الكون في دار زيد تصير مشتملة على المفسدة، وقد فرض اشتمالها
على المصلحة أيضا، فيجب ملاحظة الأقوى أو مراعاة جانب المفسدة
حينئذ، وتخصيص الوجوب بصورة اشتمالها على المصلحة فقط.
فإنه يقال: نفس حيثية الخياطة دائما موضوعة للمصلحة، وما هو
الموضوع للمفسدة ليس نفس حيثيتها، بل بانضمام الحيثية الأخرى،
فافهم.
صور تعلق الأمر والنهي بالحيثيتين:
فذلكة: قد ظهر لك من مطاوي ما ذكرناه أن صدور الأمر والنهي معا
عن مولى واحد متوجهين إلى عبد واحد متعلقين بحيثية واحدة مع
وحدة زمان الامتثال محال، ولكن لا من جهة كون ذلك تكليفا
بالمحال، إذ مجموع الأمر والنهي ليس بتكليف واحد حتى يصدق
عليه
التكليف بالمحال بل من جهة أن صدورهما عن المولى يوجب
اجتماع الضدين (أعني البعث والزجر والإرادة والكراهة) في موضوع
واحد (أعني به شخص المولى)، فإنه الموضوع الذي يتقوم به
التكليف ويقوم به قياما صدوريا، وقد مر أن المطلق الإرادة ومطلق
الكراهة لا تضاد بينهما وإنما يكونان ضدين مع فرض وحدة المكلف
والمكلف والمكلف به وزمان الامتثال.
ومثل هذه الصورة في الاستحالة صدور الأمر والنهي معا عن المولى
الواحد بالنسبة إلى عبد واحد حال كونهما متعلقين بحيثيتين
متساويتين بحسب الصدق أو بحسب الوجود بأن لم تصدقا على
وجود واحد ولكن تلازمتا في مقام التحقق.
وكذلك يستحيل صدورهما عنه مع تعلق الامر بالأخص المطلق و
النهي بالأعم بحسب الصدق، أو بحسب الوجود، ففي هذه الصور
الخمس يستحيل صدور الأمر والنهي معا عن المولى لاستحالة
انقداح الإرادة والكراهة معا في نفسه.
وأما تعلق الأمر والنهي بالحيثيتين اللتين بينهما عموم من وجه، أو
عموم مطلق بحسب الصدق، أو بحسب الوجود بشرط تعلق الامر
بالأعم، وكذلك تعلق الامر بحيثية بنحو الاطلاق والنهي بهذه الحيثية
مقيدة بحيثية أخرى فلا مانع عنه، ولا يستحيل صدور هذا النحو
من البعث
265

والزجر عن المولى، فمجموع الصور عشر، خمس منها مستحيلة و
خمس منها ممكنة.
هذا كله فيما إذا كان الأمر والنهي إلزاميين. ومثله في صور الاستحالة و
صور الامكان صورة كون الامر ندبيا والنهي تحريميا، و
كذلك صورة كون الامر وجوبيا أو ندبيا مع كون النهي تنزيهيا موجبا
لكراهة متعلقه، نعم بين كون النهي تحريميا وبين كونه تنزيهيا
فرق من جهة أخرى، وهو صحة المجمع في التنزيهي إذا كان الامر
عباديا على القول بالجواز.
بيان ذلك: أنك قد عرفت في النواهي التحريمية أن الظاهر بطلان
المجمع للعنوانين إذا كان متعلق الأمر عباديا مأخوذا فيه قصد القربة،
ولو قلنا بالجواز، من جهة أن الوجود الواحد بعد كونه مبعدا عن ساحة
المولى لا يصلح لان يتقرب به، فحينئذ نقول: إن ما ذكر كان في
النواهي التحريمية.
وأما التنزيهية فهي وإن أوجبت حزازة في متعلقاتها ولكن المأتي به لا
يصير مصداقا للتمرد والعصيان، فبعد كونه واجدا للمصلحة و
كونه مصداقا للمأمور به على القول بالجواز لا مانع من وقوعه عبادة
للمولى ومقربا إلى ساحته.
266

بقي أمران آخران يجب أن ينبه عليهما
الأمر الأول: الاستدلال على جواز الاجتماع بالعبادات المكروهة
القائلون بالجواز ربما استدلوا له بالعبادات المكروهة، التي اجتمع فيها
الوجوب أو الندب مع الكراهة، كصوم يوم عاشوراء، أو النوافل
المبتدئة في الأوقات المخصوصة، والصلاة في الحمام، وفي مواضع
التهمة، وكذا بالواجبات التي اجتمع فيها الوجوب مع الندب أو
الإباحة، كالصلاة في المسجد أو الدار.
تقريب الاستدلال: أن التضاد ليس بين الوجوب والحرمة فقط، بل
الأحكام الخمسة بأسرها متضادة، فإن كان التضاد مانعا من الاجتماع
ولم يكن تعدد الجهة مجديا في رفع الغائلة لما وقع الاجتماع في غير
الوجوب والحرمة من سائر الأحكام أيضا وقد وقع ذلك كما في
العبادات المكروهة ونحوها.
وقد أجاب عن ذلك في الكفاية تارة بنحو الاجمال، وأخرى بنحو
التفصيل.
أما الجواب الاجمالي: فهو أن النقض لا يصادم البرهان العقلي،
خصوصا مع كون بعض الموارد المذكورة مما تعلق فيه الأمر والنهي
بحيثية واحدة، وهذا مما يحتاج إلى تأويله القائل بالامتناع أيضا، هذا
حاصل كلامه (طاب ثراه).
أقول: ولنا أيضا أن نجيب عن الاستدلال (إجمالا) بأن المحقق إنما هو
صحة العبادات المكروهة وأما كونها متعلقة للامر والنهي معا
فغير مصرح به في كلام الأصحاب، فلعل صحتها من جهة واجديتها
للملاك وعدم مانعية النهي التنزيهي عن مقربيتها، من دون أن تكون
- بالفعل - مأمورا بها.
وبالجملة: يمكن أن تكون متعلقة للنهي فقط، وتكون صحتها من جهة
الملاك لا الامر، والنهي التنزيهي غير مانع عن صحتها، لعدم كونه
موجبا للبعد عن ساحة المولى.
وأما الجواب التفصيلي: الذي ذكره (قده) فستظهر قسمة منه في
مطاوي كلماتنا.
267

أقسام العبادات المكروهة:
إن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما تعلق الامر فيه بحيثية، والنهي بحيثية أخرى، سواء
كان بينهما عموم مطلق، أو من وجه، كالأمر بالصلاة والنهي عن
الكون في مواضع التهمة.
القسم الثاني: ما تعلق الامر فيه بحيثية بنحو الاطلاق، والنهي بهذه
الحيثية مقيدة بحيثية أخرى، كالأمر بالصلاة والنهي عنها مقيدة
بكونها في الحمام.
القسم الثالث: ما تعلق الامر فيه - على فرض تعلقه - بعين الحيثية
التي تعلق بها النهي، بحيث لا مندوحة في البين كما في صوم عاشوراء
و
النوافل المبتدئة في الأوقات المخصوصة.
أما القسم الأول والثاني فنحن في فسحة عن الاشكال فيهما، حيث
قلنا بجواز الاجتماع في مقام الجعل والتشريع، وعدم مانعية النهي
التنزيهي عن المقربية في مقام الامتثال، وقد عرفت سابقا أن نزاع
مسألة الاجتماع لا ينحصر فيما إذا كان المتعلق للحكمين حيثيتين،
بل يجري أيضا فيما إذا تعلق الامر بحيثية مطلقة والنهي بهذه الحيثية
مقيدة بحيثية أخرى.
وأما القسم الثالث، فهو مما يجب على كل من الاجتماعي والامتناعي
تأويله، بنحو ترتفع به غائلة تعلق الحكمين بحيثية واحدة.
قال شيخنا الأستاذ المحقق الخراساني في مقام الجواب عنه ما
حاصله: إن النهي فيه ليس من جهة وجود حزازة ومفسدة في الفعل،
بل
من جهة كون الترك منطبقا لعنوان ذي مصلحة، أو ملازما لعنوان كذلك
مثل الفعل، غاية الأمر كون مصلحة هذا العنوان المنطبق على
الترك أو الملازم له أهم من مصلحة الفعل، ولاجل ذلك كان الأئمة
عليهم السلام في مقام العمل يختارون الترك، فالمقام من قبيل
المستحبين المتزاحمين اللذين ثبتت أهمية الملاك في أحدهما، فإن
الحكم الفعلي وإن كان تابعا للأهم لكن الاخر أيضا يقع صحيحا
لوجود الملاك والمحبوبية فيه من دون أن تكون فيه حزازة، وهذا
بخلاف ما إذا كان النهي عن الفعل من جهة وجود الحزازة والمفسدة
فيه، فإنه يوجب بطلانه وعدم صحته عبادة. (انتهى).
أقول: ويرد عليه أولا - أن ما ذكره (قده) مبني على كون مفاد النهي
أيضا مثل الامر في كونه من مقولة الطلب، غاية الأمر أن المتعلق
للطلب في أحدهما الفعل وفي الاخر الترك، وقد عرفت سابقا فساد
هذا المبنى، فإن مفاد النهي ليس عبارة عن طلب الترك، بل هو
عبارة عن الزجر عن الفعل، وعلى هذا فيجب أن يكون في متعلقه،
أعني الفعل حزازة ومفسدة ملزمة
268

أو غير ملزمة.
وثانيا - سلمنا كون مفاد النهي عبارة عن طلب الترك، ولكن المتعلق
للطلب على هذا نفس الترك، ولا وجه لفرض عنوان منطبق عليه
أو ملازم له حتى يكون هو المتعلق للطلب.
فإن قلت: وجه فرضه أن الترك بنفسه أمر عدمي فلا يتصور كونه مؤثرا
في المصلحة.
قلت: العنوان المنطبق على الترك أيضا أمر عدمي إذ لا يعقل انطباق
عنوان وجودي على أمر عدمي.
وثالثا - أن الترك وكذا العنوان المنطبق عليه عدمي والعدم لا يعقل
أن يؤثر في المصلحة.
ورابعا - أن ما فرضه مخالف لمفاد الاخبار فإن المستفاد منها كون
صوم عاشوراء أو النوافل المبتدئة في الأوقات المخصوصة و
نحوها ذات حزازة ومفسدة لا كونها مستحبة ومحبوبة وكون ترك كل
منها أيضا من المستحبات التي يثاب عليها بحيث يقال لكل من
فاعل الصوم وتاركه في يوم عاشوراء: إنه فعل مستحبا شرعيا، وهل
لفقيه أن يلتزم بأن تارك صوم عاشوراء صدر عنه مستحب
شرعي، لا بل الذي يحكم به الفقهاء هو أن الصائم في يوم عاشوراء
صدر عنه ما لا يناسب فعله.
وبالجملة: الظاهر عدم إقناع ما ذكره (قده) في مقام الجواب.
فالأولى أن يقال: إن النهي التنزيهي عن هذا القسم من العبادات إنما هو
من جهة أنه ينطبق على فعلها عنوان ذو حزازة، كما ينطبق على
صوم عاشوراء عنوان الموافقة لبني أمية، وعلى النوافل المبتدئة
المأتية حين طلوع الشمس وغروبها عنوان الموافقة لعابدي الشمس
مثلا، وهكذا، فالفعل لكونه منطبقا لعنوان ذي حزازة (أقوى من
المصلحة الكائنة فيه) صار متعلقا للزجر التنزيهي، ولم يتعلق به أمر
فعلي، ولكنه مع ذلك يقع صحيحا إن أتاه بقصد القربة، من جهة كونه
واجدا للملاك والمصلحة، التي كانت تؤثر في الامر الفعلي لولا
عروض هذا العنوان وتعلق النهي التنزيهي به لا يمنع عن قصد التقرب
به وعن صلاحيته لان يتقرب به، لعدم كون مخالفته تمردا على
المولى، بخلاف النهي التحريمي، فتدبر جيدا.
الأمر الثاني:
الاضطرار إلى المحرم والحكم الخروج من الدار المغصوبة
اعلم أن الغرض في هذا المقام بيان حكم المحرم الذي انحصر فيه
طريق التخلص من حرام
269

أشد كالخروج من الدار المغصوبة بعد توسطها على وجه محرم، و
كشرب الخمر الذي انحصر فيه طريق التخلص من الهلكة بعد ما
ارتكب بسوء الاختيار ما يؤدي إليها، ونحو ذلك.
ولكن المحقق صاحب الكفاية لما ذكر في صدر المبحث مطالب من
باب المقدمة ناسب أن نذكرها على وجه الاختصار.
قال (قده) ما حاصله: إن الاضطرار إلى الحرام وإن كان موجبا لرفع
حرمته وعقوبته وبقاء ملاك وجوبه مؤثرا له (لو كان فيه ملاك
الوجوب) ولكنه إذا كان الاضطرار لا بسوء الاختيار، وأما إذا كان بسوء
الاختيار فالحرمة الفعلية وإن كانت مرفوعة أيضا ولكنه حيث
يصدر عن المكلف مبغوضا وعصيانا للنهي السابق الساقط لا يصلح
لان يتعلق به الايجاب وإن كان فيه ملاكه (انتهى).
أقول: أما ما ذكره من أن الاضطرار إلى الحرام يوجب ارتفاع حرمته
فمسلم غاية الأمر أن الحاكم بارتفاعها في الاضطرار العقلي هو
العقل، وفي الاضطرار العرفي مثل حديث الرفع ونحوه.
وأما ما ذكره من تأثير ملاك الوجوب بعد ارتفاع الحرمة الفعلية
بالاضطرار فغير مسلم إذ المانع عن تحقق الوجوب ليس هو الحرمة
الفعلية، حتى يصير ارتفاعها سببا لتحققه، بل المانع عن تحققه وتأثير
ملاكه فيه هو أقوائية ملاك الحرمة (أعني المفسدة الداعية إلى
جعلها) من ملاك الوجوب (أعني المصلحة الباعثة نحو الايجاب)،
فما دامت المفسدة باقية على قوتها لا مجال لتأثير ملاك الوجوب وإن
كان هنا مانع عن فعلية الحرمة أيضا فان البعث نحو ما يشتمل على
مفسدة - تكون أقوى من مصلحته - قبيح بلا ريب وإشكال.
نعم يمكن أن يوجد في الفعل المحرم - بعد الاضطرار إليه - مصلحة
أقوى من مفسدته فلا مانع حينئذ من تعلق الوجوب به، لكنها غير
المصلحة الأولية المغلوبة بالنسبة إلى المفسدة، فإنها لا يمكن أن تؤثر
في الايجاب وإن لم تؤثر المفسدة أيضا من جهة المانع
كالاضطرار ونحوه، ألا ترى أن شرب الخمر المحرم من جهة أقوائية
ملاك الحرمة فيه لا يصير واجبا أو مستحبا بمجرد رفع حرمته
الفعلية لمانع مع أنه يشتمل على المصلحة أيضا، كما يدل عليه قوله
(تعالى):
(قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما.
نعم إن توقف عليه حفظ النفس المحترمة صار واجبا من جهة أقوائية
ملاك حفظ النفس من
270

المفسدة الكامنة فيه، فتأمل.
الاضطرار إلى محرمين أحدهما أهم:
واعلم أن الاضطرار إن كان إلى المعين فلا إشكال في ارتفاع حرمته به،
وإن كان إلى غير المعين كأحد الامرين مثلا، فإن كان أحدهما
أهم وجب رفع الاضطرار بالاخر، فإن رفعه بالأهم عصى واستحق
عليه العقاب إما على تمامه أو على المقدار الذي صار سببا لأهميته، و
إن لم يكن أحدهما أهم تخير في رفع اضطراره، هذا إذا لم يكن
الاضطرار بسبب اختياره أمرا اختياريا يؤدى إلى الاضطرار إلى الحرام،
وأما إذا كان اضطراره إليه بسبب اختيار أمر يؤدى إليه لا محالة فإما أن
يكون الفعل الذي يختاره مباحا ذاتا، وإما أن يكون محرما من
غير سنخ الحرام المضطر إليه، وإما أن يكون محرما من سنخه، وعلى
الثالث فإما أن يكون المضطر إليه من تتمة ما يختاره، وإما أن
يكون فردا آخر في قباله، فالصور أربع:
الأولى: كأكل الطعام المباح الذي يؤدى إلى المرض والاضطرار إلى
شرب الخمر لدفعه.
والثانية: كقتل النفس المحترمة المؤدى إلى أخذه وحبسه في
المحبس الغصبي.
والثالثة: كالدخول في الدار المغصوبة بالاختيار المؤدى إلى الاضطرار
إلى التصرف الخروجي.
والرابعة: كالتصرف في مال الغير المؤدى إلى أخذه وحبسه في
المحبس الغصبي.
وفي جميع هذه الصور إما أن يكون حين ارتكابه للفعل الاختياري
ملتفتا إلى أدائه إلى الاضطرار إلى الحرام، وإما أن يكون مترددا
فيه، وإما أن يكون غافلا عنه، فإن كان غافلا عن أدائه إليه فلا إشكال
في عدم وقوع المضطر إليه محرما فعليا وكون الاضطرار رافعا
لحرمته سواء كان الفعل الاختياري المؤدى إليه محرما أو مباحا، إذ في
صورة الحرمة أيضا لم يقدم المكلف إلا على ارتكاب هذا الحرام
دون ما يتعقبه.
وإن كان ملتفتا إلى أدائه إليه [1] فالاضطرار وإن كان رافعا للزجر الفعلي
بالنسبة إلى المضطر إليه، إلا أنه لما كان بسوء الاختيار
كان العصيان والمبغوضية باقيين بلا ريب، فإن العقل الحاكم بقبح
تكليف المضطر وعقابه لا يحكم به في هذا المقام، وحديث الرفع
أيضا منصرف عن هذا
[1] أقول: لا بد من أن يكون مراده (مد ظله العالي) من الالتفات
خصوص صورة العلم بالأداء، وعلى هذا فلم يعلم من كلامه حكم
صورة
التردد ح - ع - م.
271

المقام الذي أقدم العبد باختياره على ما يتعقبه العصيان.
ولا فرق في هذه الصورة أيضا بين كون الفعل الاختياري مباحا أو
حراما.
هذا كله مما لا إشكال فيه.
إنما الاشكال فيما إذا كان المحرم المضطر إليه بسوء الاختيار مما
انحصر فيه التخلص من الحرام كالخروج من الدار المغصوبة، فهل
يصير حينئذ مأمورا به فقط، كما اختاره الشيخ، أو مع جريان حكم
المعصية عليه، أو منهيا عنه فقط، أو مأمورا به ومنهيا عنه، أو لا يكون
مأمورا به ولا منهيا عنه لكنه يجري عليه حكم المعصية كما اختاره في
الكفاية. فيه وجوه بل أقوال، واختيار أحدها في غاية الاشكال،
فإن القول بكون مثل الخروج منهيا عنه لا يخلو عن محذور، إذ العبد
إن أراد امتثال هذا النهي وترك الخروج لوقع في المحذور الأشد
وهو البقاء في دار الغير. والقول بكونه مأمورا به أيضا في غاية
الاشكال، إذ الخروج مصداق للتصرف في ملك الغير، وهل يمكن
الالتزام بكون الداخل في ملك الغير للتفريح مثلا والخارج منه بعد
قضاء الحاجة من دون ندامة على فعله ممتثلا لامر المولى مطيعا له
حين الخروج، بحيث تكون حركاته الخروجية الواقعة عن تفريح أيضا
محبوبة للمولى وامتثالا لامره مع كونها تصرفا في ملك الغير
بغير إذنه، وأشكل منهما هو الالتزام بكونه مأمورا به ومنهيا عنه معا
حتى يصير من مصاديق مبحث الاجتماع، كما اختاره أبو هاشم و
تبعه المحقق القمي، فإن الاجتماع إنما يجوز فيما إذا كان هنا عنوانان،
وكانت في البين مندوحة وما نحن فيه ليس كذلك، فهو أسوأ
حالا من باب الاجتماع، وحكمه أشكل من حكمه.
هل يجري الترتب في المسألة؟:
وهنا احتمال سادس وهو الالتزام بالترتب، بتقريب: أن الغصب
بجميع أنحائه من الدخول والبقاء والخروج محرم، لا بهذه العناوين،
بل بما هو غصب وتصرف في مال الغير، ولكن التصرف الخروجي
لما صار في رتبة عصيان النهي ذا مصلحة ومعنونا بعنوان حسن
صار مأمورا به في هذه الرتبة فهو منهي عنه بنحو الاطلاق، ومأمور به
في رتبة عصيان النهي وعدم تأثيره في نفس المكلف. ولكن يرد
على ذلك أن الالتزام بالترتب إنما هو فيما إذا كان هنا حكمان
متزاحمان وكان أحدهما - من حيث الملاك - أهم فيصير الأهم - من
جهة
أهمية ملاكه - فعليا بنحو الاطلاق، والمهم فعليا في ظرف عصيان
الأهم، كما في الصلاة والإزالة فإن لكل منهما
272

ملاكا موجبا لحكم على حدة، غاية الأمر أن أهمية ملاك الإزالة
أوجبت أهمية حكمها، فصارت فعلية حكم الصلاة مشروطة بعصيان
حكم
الإزالة.
وفيما نحن فيه ليس كذلك، إذ الموجود في باب الغصب والتصرف
في مال الغير حكم واحد بملاك واحد وهو الحرمة، وأما وجوب
الخروج والتخلص من الغصب فليس حكما آخر في قبال حرمة
الغصب، بل هو عبارة أخرى عنها، إذ التخلص ليس إلا عبارة عن ترك
الغصب الذي هو ضد عام للغصب، وقد عرفت - في مبحث الضد -
أن في الضد العام لا يكون كل من الضدين متصفا بحكم مستقل في
قبال حكم الاخر، بل الامر بأحدهما عبارة أخرى عن النهي عن الاخر،
كما أن النهي عن أحدهما عبارة أخرى عن الامر بالاخر، بحيث
يكون المتحقق بحسب الواقع حكما واحدا ناشئا من ملاك واحد، و
على هذا ففي باب الغصب أيضا لم يصدر عن الشارع إلا حكم واحد و
هو الحرمة، وليس وجوب التخلص منه حكما مستقلا في قبالها، حتى
يصير فعليا في رتبة عصيان الحرمة، بل هو عبارة أخرى عنها و
دائر مدارها.
ومما يشهد لذلك أن المكلف إن عصى ولم يخرج من الدار
المغصوبة لا يقال: إنه صدر عنه عصيانان: أحدهما ارتكاب مقدار
التصرف
الخروجي والاخر ترك التخلص، بل الصادر عنه إنما هو ارتكاب
الحرام فقط.
وهذا بخلاف مسألة الصلاة والإزالة فإن التارك لهما (على القول
بالترتب) قد صدر عنه عصيانان لتفويته ملاكين مستقلين، كان كل
منهما منشأ لحكم مستقل.
وبالجملة: الموجود في مثل الصلاة والإزالة حكمان شرعيان
مستقلان، وهذا بخلاف باب الغصب، فإن الموجود فيه حكم واحد و
هو
الحرمة، وأما وجوب التخلص منه فليس حكما آخر في قباله.
نعم، يحكم العقل بلزوم اختيار التصرف الخروجي، لكونه بالنسبة إلى
التصرف البقائي أقل محذورا.
ومما ذكرنا يعرف أيضا بطلان ما ذكره بعض الفقهاء في باب الغصب
من أن الموجود فيه حكمان: أحدهما حرمته والاخر وجوب الرد،
فإن وجوب الرد ليس حكما مستقلا ذا ملاك مستقل في قبال حرمة
الغصب، نعم كما يحرم الغصب حدوثا يحرم بقاء، ووجوب الرد
عبارة أخرى عن الحرمة البقائية.
وإن شئت قلت: هو حكم عقلي حكم به العقل للتخلص من الحرمة
البقائية.
273

نقل كلام الشيخ ونقده:
اعلم أن الشيخ (قده) قال في تقريب ما اختاره من كون الخروج مأمورا
به ليس إلا، ما حاصله: إن التصرف في أرض الغير بالدخول و
البقاء حرام بلا إشكال، وأما التصرف الخروجي فليس بحرام لا قبل
الدخول ولا بعده، أما قبله، فلعدم التمكن منه، بل هو منتف بانتفاء
الموضوع، وأما بعده، فلكونه مصداقا للتخلص أو سببا له فيكون
مأمورا به، ولا حرمة في البين لكونه مضطرا إليه، فحال الخروج فيما
نحن فيه حال شرب الخمر المتوقف عليه النجاة من الهلكة (انتهى).
وأجاب عنه شيخنا الأستاذ العلامة المحقق الخراساني (أولا) بالنقض
بالبقاء فإنه أيضا مثل الخروج في عدم التمكن منه قبل الدخول مع
كونه حراما بلا إشكال.
(وثانيا) بالحل بأن المقدور بالواسطة مقدور، فترك البقاء والخروج
كلاهما مقدوران من جهة القدرة على ترك الدخول، وهذان
العنوانان، وإن كانا قبل الدخول منتفيين بانتفاء ما هو كالموضوع لهما،
ولكن لا يضر هذا بصحة التكليف المشروط عقلا بالتسلط
على المأمور به والمنهي عنه فعلا وتركا وإن كان بالواسطة (انتهى).
المختار في المسألة:
والتحقيق أن يقال: إن عناوين الدخول والبقاء والخروج لا عين لها و
لا أثر في الأدلة الشرعية، كي يبحث في أنها مقدورة أو غير
مقدورة، بل الوارد في الأدلة الشرعية هو عنوان التصرف في أرض
الغير، فالداخل في أرض الغير ما دام فيها ولم يخرج منها - بوضع
قدمه في خارجها - يكون متصرفا فيها، وتكون جميع حركاته من
الدخول والبقاء والخروج تصرفا واحدا ممتدا في هذه الأرض ناشئا
من اختياره، وليس الوارد في الأدلة عناوين الدخول والبقاء و
الخروج، حتى يقال: إنه يصدق على ترك الدخول ترك الخروج أو لا
يصدق إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، وعلى هذا فمجموع
الدخول والبقاء والخروج تصرف واحد ويقع من المكلف على
الوجه
المنهي عنه بسوء اختياره.
ثم إن تنظير الخروج بمثل شرب الخمر أيضا في غير محله، فإن شرب
الخمر بعد أن توقف عليه حفظ النفس صار ذا مصلحة أقوى من
المفسدة الكامنة فيه الموجبة لتحريمه، وهذا بخلاف
274

الخروج فإنه أمر ذو مفسدة من جهة كونه تصرفا في ملك الغير من دون
أن يكون واجدا لمصلحة مستعقبة للوجوب الشرعي، لما عرفت
من أن الموجود في باب الغصب والتصرف في مال الغير حكم واحد،
وهو الحرمة ليس إلا.
فتلخص مما ذكرنا أن الالتزام بكون الخروج مأمورا به في غاية
الاشكال، كالالتزام بعدم كونه منهيا عنه وعدم صدوره مبغوضا
للمولى.
نعم يمكن أن يقال: بعدم وجود الزجر فعلا من جهة اضطرار المكلف
إلى قدر خاص من التصرف إما بالبقاء أو الخروج، ولكن لا ينافي
هذا ثبوت العصيان والعقاب من جهة صدوره من أول الأمر باختياره.
فالظاهر في مسألة الخروج ما اختاره المحقق الخراساني من عدم كونه
مأمورا به ولا منهيا عنه بالنهي الفعلي، مع ثبوت العقاب بملاحظة
النهي السابق الساقط ولزوم اختياره عقلا من جهة كونه أقل
المحذورين.
الخروج من الدار المغصوبة بعد التوبة:
نعم لاحد أن يقول: إن الداخل في أرض الغير المتوسط فيها بسوء
اختياره إن ندم على عمله وتاب واستغفر ربه التواب خرج خروجه
منها من كونه مبغوضا ومعاقبا عليه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب
له، كما هو مقتضى إطلاقات أدلة التوبة، فلا يقع الخروج منه
تمردا وعصيانا لمولاه.
توضيح ذلك: أن المكلف بعد أن دخل في ملك الغير صار مضطرا إلى
مقدار الخروج من أقصر الطرق في أقصر الساعات، فهذا المقدار
من التصرف مضطر إليه سواء صرفه في البقاء أو الخروج، غاية الأمر أن
الاضطرار إليه لما كان بسوء اختياره لم يترتب عليه ارتفاع
المبغوضية، فصار هو من تبعات الدخول المحرم، وكان حكمه حكمه
في المبغوضية، فإذا تاب العبد بعد توسطه في الأرض واضطراره
إلى الحركات الخروجية صارت توبته رافعة للعصيان الصادر عنه،
أعني الدخول وتوابعه، فان التوبة توجب محو السيئة السابقة، فبعد
التوبة يصير كمن لم يدخل في أرض الغير على الوجه المحرم، ويصير
الدخول الصادر عنه عصيانا المؤدى إلى التوابع المحرمة بمنزلة
ما لو لم يصدر عنه عصيانا وتمردا، بل صدر عنه على الوجه الشرعي،
فيصير الخروج أيضا غير مبغوض، إذ الفرض أنه في حال ارتكابه
مضطر إليه، وإنما كان تحققه عصيانا بنفس تحقق الدخول كذلك،
275

فيكون رفعه بالتوبة رفعا للعصيان الخروجي أيضا، ويترتب على ذلك
أنه إن اتحدت حركاته الخروجية الواقعة بعد التوبة مع أفعال
الصلاة وقعت الصلاة صحيحة لعدم كونها حينئذ مبعدة عن ساحة
المولى، حتى يقال إن المبعد لا يكون مقربا، وقد أشار إلى هذا المعنى
صاحب الجواهر (قده) فراجع.
نقد بعض الأعاظم لكلام الشيخ:
قد أورد بعض الأعاظم على ما أفاده الشيخ (قده) من وجوب الخروج
لكونه مقدمة للتخلص بما حاصله: أن ذلك ينافي ما حقق في محله (و
يسلمه الشيخ أيضا) من أنه لا يتوقف عدم أحد الضدين على وجود
الاخر، ولا وجود أحدهما على عدم الاخر، بل يكونان متلازمين.
وجه التنافي: أن البقاء والخروج ضدان، فلو كان ترك البقاء موقوفا
على الخروج لزم من ذلك توقف عدم أحد الضدين على وجود
الاخر (انتهى). وأنت خبير بأن قياس ما نحن فيه بمسألة الضدين قياس
مع الفارق، فإن الضدين لما كانا في مرتبة واحدة، وكان لوجود
أحدهما مع عدم الاخر معية في التحقق كان لازم ذلك إنكار المقدمية
من الطرفين، وأما فيما نحن فيه فلو وازنا الخروج مع البقاء البديل
له كان الكلام فيهما هو الكلام في الضدين، ولكنه لا يقاس معه بل
يقاس مع الغصب الزائد الذي يتحقق على فرض البقاء ويكون
الخروج
موجبا للتخلص منه.
بيان ذلك: أنه بعد أن توسط الانسان دار غيره مثلا يضطر إلى مقدار
خاص من التصرف فيها، فهذا المقدار مما لا مفر منه سواء صرف
في البقاء أو الخروج، ولكنه إن اختار البقاء اضطر إلى تصرف زائد
على هذا المقدار، وإن اختار الخروج تخلص من هذا المقدار الزائد
المتأخر عنه زمانا، فالمتوسط فيها بعد اختياره للخروج يكون وضع
قدمه الأولى مقدمة لكونه في مكان أقرب إلى باب الدار ووضع
قدمه الثانية مقدمة للكون في مكان أقرب منه إليه وهكذا حتى ينتهي
إلى وضع القدم الأخيرة، فإنه مقدمة لكونه في خارج الدار، فتلك
الاقدام مقدمات للكون في خارج الدار والتخلص من التصرف الزائد
المتأخرين عن تلك الاقدام زمانا، فلا ربط لذلك بمسألة الضدين
الملازم وجود أحدهما لعدم الاخر رتبة وزمانا.
نعم يرد على ما ذكره الشيخ: أولا ما ذكره المحقق الخراساني من أن
الخروج ليس مقدمة للتخلص الذي هو أمر عدمي، بل هو مقدمة
للكون في خارج الدار، وهو أمر وجودي ليس فيه
276

ملاك الوجوب حتى تجب مقدمته.
وثانيا ما ذكرناه آنفا من أن التخلص عبارة عن ترك التصرف وليس فيه
ملاك الوجوب، إذ الموجود في باب الغصب والتصرف في
مال الغير حكم واحد، وهو الحرمة لا غير فراجع.
وربما يقال: إن وجوب الخروج ليس من جهة المقدمية، بل هو من
باب وجوب رد مال الغير إليه، وهو وجوب نفسي.
وفيه أولا ما ذكرناه سابقا: من أن وجوب الرد أيضا ليس حكما شرعيا
مستقلا في قبال حرمة التصرف، بل هو حكم عقلي يحكم به العقل
للتخلص من التصرف البقائي، فإن التصرف في مال الغير كما يحرم
حدوثا يحرم بقاء.
وثانيا: أن وجوب الرد على فرض ثبوته شرعا إنما يثبت في باب
الغصب (أعني به الاستيلاء على مال الغير عدوانا)، وما نحن فيه لا
يرتبط بباب الغصب، إذ التوسط في أرض الغير ليس دائما ملازما
للغصب، بل هو من أفراد التصرف في مال الغير، وبين الغصب و
التصرف في مال الغير عموم من وجه، إذ قد يكون صاحب المال
مقتدرا بحيث لا يمكن الاستيلاء على ماله وأخذ زمام ماله فلا يتحقق
الغصب، ولكن يمكن مع ذلك التصرف في ماله خفاء أو التصرف فيه
من الخارج بإلقاء الأحجار فيه مثلا، وقد يتحقق الغصب بدون
التصرف، كما إذا استولى الانسان على مال غيره، بحيث صار زمام
اختياره بيده، ومع ذلك لم يتصرف فيه بالدخول ونحوه.
وقد يجتمعان كما إذا استولى على مال غيره ودخل فيه أيضا، فتدبر
. [1]
[1] أقول: يظهر من مجموع كلام سيدنا الأستاذ (مد ظله العالي) أنه في
أصل الكبرى موافق للشيخ (قده)، ومخالفته معه في الصغرى
فقط. بيان ذلك: أن المسألة المبحوث عنها هي حكم المحرم المضطر
إليه بسوء الاختيار إذا كان مقدمة لواجب أهم، فاختار الشيخ كونه
مأمورا به فقط، واختار المحقق الخراساني عدم كونه مأمورا به، ولا
منهيا عنه مع جريان حكم المعصية عليه، ويظهر من كلام سيدنا
الأستاذ (مد ظله) أنه يوافق الشيخ في ذلك، وإنما يخالفه في مثال
الخروج من جهة عدم كونه من صغريات المسألة، كما يظهر ذلك من
قوله (مد ظله) في جواب كلام الشيخ: (إن قياس الخروج على شرب
الخمر قياس مع الفارق، فإن شرب الخمر مقدمة لواجب أهم (أعني
حفظ النفس)، والخروج ليس مقدمة لواجب من جهة أن الموجود في
باب التصرف في ملك الغير حكم واحد وهو الحرمة).
ثم اعلم أنه على فرض مقدمية الخروج للواجب ربما يقرب إلى الذهن
قول صاحب الفصول، فإن المكلف قبل دخوله في أرض الغير كان
متمكنا من ترك التصرف بأنحائه، كما كان متمكنا في أول الأمر من
فعله
277

كذلك بأن يدخل فيها، فإنه بدخوله فيها يتحقق منه جميع أنحائه،
غاية الأمر كونه بالنسبة إلى نفس الدخول بلا واسطة، وبالنسبة إلى ما
يستتبعه من مقدار الخروج أو البقاء توليديا مختارا بنفس اختيار سببه،
فلما كان قبل الدخول متمكنا من أنحاء التصرف فعلا وتركا
توجه إليه النهي عن الجميع، ولكن لا بعنوان الدخول أو البقاء أو
الخروج، بل بعنوان التصرف في مال الغير، وقد وقع العصيان بالنسبة
إلى الجميع بصرف الدخول، وأما بعده فلما كان يمكنه البقاء كما
يمكنه الخروج صار الخروج بعنوانه في مقابل عنوان البقاء ذا مصلحة،
فيأمر المولى بصرف المقدار المضطر إليه في الخروج، لا في البقاء و
يخرج النهي حينئذ من الفعلية من جهة الاضطرار، فتدبر.
ح - ع - م.
278

الفصل الثالث في أن النهي عن شي هل يقتضي فساده أو لا؟
279

معنى الصحة والفساد:
اختلفوا في أن النهي المتعلق بالعبادات أو المعاملات يدل على
فسادها (كما عبر به بعض)، أو يقتضي فسادها (كما عبر به بعض آخر)
أولا؟ وقد أطنب المتأخرون في المسألة بتكثير مقدماتها من دون أن
ينقحوا محط النظر فيها، ونحن نكتفي بذكر مقدمة واحدة، ثم
نشرع في تحقيق أصل المقصود.
أما المقدمة: ففي بيان معنى الصحة والفساد، فنقول: الصحة (كما
عرفت في مبحث الصحيح والأعم) عبارة عن كون الموجود، بحيث
ينطبق عليه العنوان المترقب منه، والفساد عبارة عن كونه بحيث لا
ينطبق عليه ذلك، فهما وصفان للموجودات لا للعناوين، ولكن
اتصاف الموجودات بهما إنما هو بإضافتها إلى العناوين التي أوجدت
هذه الموجودات بترقب انطباقها عليها.
بيان ذلك: أنه يظهر باستقراء موارد إطلاق هذين اللفظين أن بعض
الموجودات يتصف عرفا بالصحة، وبعضها يتصف بالفساد، كما أن
بعضها لا يتصف بشئ منهما، سواء في ذلك الموجودات الخارجية
الحقيقية والموجودات المتحققة في وعاء الاعتبار. فالأدوية
المستعملة
لعلاج الأمراض مثلا، وكذا العقود المسببية الموجدة في عالم الاعتبار
قد تتصف عرفا بالصحة، وقد تتصف بالفساد، وكذلك العمل
الخارجي الصادر عن المكلف بترقب كونه مصداقا للصلاة أو الحج أو
نحوهما، قد يتصف بهذا وقد يتصف بذاك، فإذا تأملنا في إحراز
ما هو الموصوف بهما وجدنا أن الموصوف بهما نفس الموجود و
المصداق لا العنوان المنطبق عليه، فنفس العمل الخارجي الصادر عن
المكلف بترقب كونه منطبقا لعنوان الصلاة المأمور بها قد يتصف
بالصحة وقد يتصف بمقابلها، وكذلك نفس ما يوجده الانسان في
عالم الاعتبار بترقب كونه بيعا ذا أثر، وذات الفرد الخارجي من الفاكهة
أو الدواء تتصف بهما، غاية الأمر أن اتصاف الموجود والفرد
بهذين الوصفين ليس
280

بلحاظه في نفسه بل بإضافته إلى العنوان الذي يترقب انطباقه عليه
لتترتب عليه آثار هذا العنوان، فإن وجد بنحو ينطبق عليه اتصف
بالصحة، وإن وجد بنحو لا ينطبق عليه اتصف بالفساد بعد اشتراكهما
في كون الايجاد بترقب هذا الانطباق.
أمور ترتبط بمعنى الصحة والفساد:
وقد اتضح بما ذكرناه في معناهما وما يتصف بهما أمور نشير إليها:
الأول:
أن توصيف العناوين بهما فاسد، فإنها لا تتصف (بما هي عناوين)
بالفساد، إذ كل عنوان هو هو، ويحمل على نفسه (بالحمل الأولي)، و
اتصافه في عالم المفهومية بالفساد وعدم التمامية إنما هو بأن لا يكون
هذا العنوان هذا العنوان، وهو مساوق لسلب الشئ عن نفسه،
فالموصوف بهما إنما هو نفس الذوات والوجودات، ولكن بإضافتها
إلى العناوين.
الثاني:
أن الصحة والفساد وصفان إضافيان، فرب موجود يتصف بالصحة
بالإضافة إلى عنوان، ويتصف بالفساد بالإضافة إلى عنوان آخر،
فالأقوال والحركات والسكنات الخارجية التي يوجدها المكلف
بترقب كونها منطبقة لعنوان الصلاة حتى يترتب عليها آثارها: من
المقربية وإسقاط الامر والإعادة والقضاء ونحو ذلك، إن وجدت
بحيث ينطبق عليها هذا العنوان اتصفت بالصحة بالإضافة إلى هذا
العنوان، وإن وجدت بحيث لا ينطبق عليها اتصفت بالفساد كذلك، و
إن كانت حالها بالإضافة إلى العناوين الأخر بالعكس، فالحركة
الخارجية مثلا (بما هي حركة أو موجود) أمر تام ينطبق عليها عنوان
الحركة والوجود، ويترتب عليها آثارهما، ولكنها بما هي ركوع
أو صلاة يمكن أن تكون تامة صحيحة، بنحو ينطبق عليها عنوان الركوع
أو الصلاة، ويمكن أن تكون غير تامة فلا ينطبق عليها عنوانهما
ولا تترتب عليها آثارهما، فالموصوف بالفساد نفس الحركة الخارجية،
ولكن اتصافها به ليس باعتبار عنوان الحركة، ولا باعتبار
ذاتها الخارجية التي هي من سنخ الوجود، بل هو باعتبار إضافتها إلى
العنوان الذي يترقب انطباقه عليها، كعنوان الركوع مثلا.
الثالث:
أن تقسيم عنوان الصلاة وغيرها من عناوين العبادات والمعاملات
بالصحيح والفاسد فاسد، فإن نفس العنوان لا يتصف بهما وإنما
الموصوف بهما هو نفس العمل الخارجي الذي يوجده العبد بترقب
انطباق عنوان الصلاة عليه، فإن وجد بنحو انطبقت عليه وصار من
مصاديقها اتصفت بالصحة، وإن وجد بنحو لا تنطبق عليه ولم يصر
من مصاديقها وأفرادها
281

اتصف بالفساد، ويكون إطلاق الصلاة عليه من باب المسامحة، من
جهة أن إيجاده كان بترقب صيرورته فردا لها.
الرابع:
أن توصيف الشئ بالصحة والتمامية إنما هو بإضافته إلى العناوين
المترقبة (التي تترتب عليها آثارها قهرا بعد تحققها)، لا بإضافته
(أولا) إلى نفس هذه الآثار، إذ الأثر أثر للعنوان وهو موضوع له، فهو
يتوسط بحسب القصد بين الفعل الخارجي وبين الأثر، فالحركات
والسكنات الخارجية تتصف بالصحة باعتبار انطباق عنوان الصلاة
عليها وكونها مصداقا لها. فإذا انطبقت عليها ترتب عليها آثارها
من موافقة الامر وإسقاط الإعادة والقضاء قهرا، فما في الكفاية من
إضافة الشئ في اتصافه بالصحة إلى نفس الآثار لا يخلو عن
مسامحة.
الخامس:
قد ظهر بما ذكرنا في تعريفهما أن بعض الأشياء لا يتصف بالصحة ولا
بالفساد، فإن اتصاف الشئ بهما إنما هو بإضافته إلى العناوين
المترقبة التي يمكن أن تنطبق عليه، ويمكن أن لا تنطبق، وتكون
موضوعات لاثار مخصوصة، فلو فرض أنه لم يكن لشئ أثر أصلا، أو
كانت له آثار ربما تترتب عليه وربما لا تترتب، ولكن لم يكن إيجاده
بترقب ترتبها عليه لم يتصف بالصحة ولا بالفساد، فمثل
الاتلاف والجناية وملاقاة النجاسة ونحوها لا تتصف بهما مع أن لها
آثارا شرعية (من الضمان وجواز القصاص ونجاسة الملاقي) ربما
تترتب عليها وربما تتخلف، فلو تحقق الاتلاف بنحو لم يترتب عليه
الضمان، أو الجناية بنحو لم توجب القصاص كما إذا أتلف أو جنى
بحق، أو وجد الملاقاة بنحو لم تترتب عليها نجاسة الملاقي لم يتصف
الاتلاف والجناية والملاقاة حينئذ بالفساد، والسر في ذلك عدم
كون إيجادها بترقب ترتب هذه الآثار عليها، فالموصوف بالصحة و
الفساد عبارة عن الأشياء التي توجد بترقب أن تنطبق عليها
عناوين ذات آثار شرعية أو عقلائية أو خارجية، بحيث يكون إيجادها
غالبا بترقب ترتب هذه الآثار عليها ولو بتوسيط العناوين في
القصد، سواء كان النظر إلى العنوان المتوسط نظرا آليا دائما، كما في
عناوين العقود المسببية التي لا تعتبر إلا لترتب الآثار عليها، أو
كان له بنفسه نحو استقلال، ولكن يوجد غالبا بترقب الآثار المترتبة
عليه، وذلك كالصلاة مثلا، فإنها وإن كانت بنظر الأوحدي
معراجا للمؤمن ومحبوبة بذاتها، ولكن أكثر الناس لا يعقلون، فيأتون
بها لاسقاط الإعادة والقضاء أو الفرار من النار والدخول في
الجنة أو نحو ذلك، وقد ظهر بما ذكرنا أن الاتلاف والجناية ونحوها لا
تتصف بالصحة ولا بالفساد، نعم تتصف بهما العبادات
بالمعنى الأخص وبالمعنى الأعم والمعاملات.
282

السادس:
أن التقابل بينهما يشبه تقابل العدم والملكة، فإن الصحة كما عرفت
عبارة عن كون الموجود الخارجي بحيث ينطبق عليه العنوان
المترقب، والفساد عبارة عن كونه بحيث لا ينطبق عليه ذلك، و
انطباق العنوان المترقب وإن لم يكن من الشؤون الواقعية للموجود
الخارجي، ولكن لما كان وجوده بترقب هذا الانطباق صار هذا الترقب
منه بمنزلة كونه من شؤونه، فالفساد عبارة عن عدم الانطباق
فيما يكون من شأنه الانطباق.
ذكر وجهين لدلالة النهي على الفساد:
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: قد ذكروا لدلالة النهي على الفساد
وجهين:
(الأول)
أن النهي يقتضي الحرمة والمبغوضية، وهما تنافيان الصحة.
(الثاني)
أن علماء الأمصار في جميع الأعصار كانوا يستدلون بالنهي الوارد في
العبادات والمعاملات على الفساد. والظاهر تباين هذين
المسلكين، وعدم الجامع بين مقتضى الدليلين، وتوضيح ذلك
يتوقف على بيان نكتة، وهي أن صحة الشئ - كما عرفت - عبارة
عن
كونه بحيث ينطبق عليه العنوان المترقب منه، وفساده عبارة عن كونه
بحيث لا ينطبق عليه ذلك.
ثم إن العناوين مختلفة، فبعضها بحيث يكون انطباقها وعدم انطباقها
واضحا عند الجميع، ولا يختص علمه ببعض دون بعض، ولكن
كثيرا منها مما يجهلها الأكثر ويختص العلم بانطباقها ومنطبقاتها وما
يشترط في انطباقها عليها ببعض الناس، وذلك كالمعاجين
التي يختص العلم بأجزائها وشرائطها وموانعها بالأطباء، فقد يكون
معجون خاص مركبا من أمور يكون لشروط وجودية وعدمية
دخل في انطباق عنوانه على هذه الأمور، ولكن العلم بذلك يختص
بطائفة خاصة، ومن هذا القبيل أكثر العبادات والمعاملات الواردة
في الشريعة، فإنها أمور مركبة من أجزاء خاصة، ويكون لشروط
وجودية وعدمية دخل في انطباق عناوينها على هذه الاجزاء، ولكن
العلم بذلك يختص بمخترعها وهو الشارع، وبناء العرف والعقلاء في
هذا السنخ من الأمور على الرجوع إلى أهل فنها، فإذا رجعوا إليهم
وورد منهم في ذلك أمر أو نهي يكون هذا الامر أو النهي عندهم ظاهرا
في الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية أو المانعية، فإذا قال
الطبيب مثلا للمريض: اجعل السقمونيا بمقدار خاص في المعجون
الذي عالجتك به، لا يكون هذا الامر ظاهرا في الوجوب المولوي، بل
يكون ظاهرا في الارشاد إلى الجزئية، وكذا لو قال: لا تجعل فيه
السقمونيا، لا يتبادر من هذا النهي التحريم المولوي، بل يكون ظاهرا
في الارشاد إلى مانعية
283

السقمونيا عن تحققه بنحو ينطبق عليه العنوان المترقب، وإن قال
الإمام عليه السلام أو النبي صلى الله عليه وآله أو نائبهما: (لا تصل في
جلد ما لا يؤكل لحمه) مثلا كان نهيه هذا ظاهرا في الارشاد إلى مانعية
جلد ما لا يؤكل لحمه، ودخالة عدمه في انطباق عنوان الصلاة على
الاجزاء التي يؤتى بها بترقب انطباقه عليها، وإذا قال: (صل مع
الطهارة) كان أمره هذا ظاهرا في الارشاد إلى الشرطية، والسر في
ذلك أن عنوان الصلاة مثلا من العناوين التي لا تعلم أجزاؤها و
شرائطها وموانعها إلا من قبل الشارع، نظير المعجون الذي يختص
العلم
بخصوصياته بالطبيب. والأوامر والنواهي الواردة في خصوصيات
هذا السنخ من العناوين من قبل أهل فنها ظاهرة في الارشاد إلى
الجزئية أو الشرطية أو المانعية، وهذا ظهور عرفي عقلائي، يشهد به
كل من راجع سيرة العقلا، واحتمال المولوية في هذه الموارد
احتمال مرجوح لا تقبله الأذهان السليمة.
تفاوت مقتضى الوجهين:
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: قد ظهر بذلك سر استدلال علماء الأمصار
في جميع الأعصار بالنواهي - الواردة في أبواب العبادات و
المعاملات بأنواعها من البيوع والأنكحة وغيرها - على الفساد، فإن
استدلالهم بها لم يكن بتوسيط الحرمة المولوية بأن يستفيدوا منها
الحرمة المولوية ويستدلوا بالحرمة على الفساد، بل كان ذلك من جهة
ظهور النواهي الواردة في هذه الأبواب في الارشاد إلى المانعية
المستلزمة للفساد قهرا، نعم، لو فرض ظهور النهي في التحريم
المولوي، أو أحرز الحرمة والمبغوضية بطريق آخر يجري نزاع آخر في
أن الحرمة تقتضي الفساد أو لا؟ ولكن هذا غير النزاع الأول، فإن النزاع
على الأول في الدلالة والبحث لفظي، وعلى الثاني في الاقتضاء
والملازمة، والبحث عقلي.
وبما ذكرنا ظهر اختلاف أساس الاستدلالين، فإن بناء الاستدلال الأول
على ادعاء الملازمة بين الحرمة المولوية والفساد، من دون
نظر إلى ظهور النهي، حتى لو فرض استفادة الحرمة والمبغوضية من
غير اللفظ أيضا جرى النزاع، وبناء الاستدلال الثاني على ادعاء
ظهور قسم خاص من النواهي (وهي الواردة في باب المركبات
المخترعة) في الارشاد إلى المانعية المقتضية للفساد قهرا، كظهور
الأوامر الواردة فيها في الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية.
وبالجملة: هنا مسلكان مختلفان لا جامع بينهما، والبحث على الأول
بحث عقلي وعلى الثاني بحث لفظي، فلاحد أن يلتزم بالفساد على
الثاني دون الأول، واللازم (على المسلك الأول)
284

أن يعبر في عنوان المسألة بالاقتضاء، (وعلى المسلك الثاني) بالدلالة.
وإذا ظهر لك ما ذكرنا فنقول: بناء على ظهور هذا السنخ من النواهي
في الارشاد (كما هو الظاهر) فدلالتها على الفساد واضحة، سواء
في ذلك العبادات والمعاملات، وأما بناء على إنكار ذلك، وادعاء
ظهورها في الحرمة المولوية فهل تلازم الحرمة للفساد أو لا تلازم أو
يفصل بين العبادات والمعاملات؟ الظاهر هو التفصيل، ففي العبادات
تلازم الحرمة للفساد لاحتياجها إلى قصد القربة، والحرمة تلازم
المبغوضية، فيكون إتيان المحرم مصداقا للتمرد والعصيان، ومبعدا
عن ساحة المولى، والمبعد لا يكون مقربا، وقد فصلنا ذلك في
مبحث الاجتماع.
وأما في المعاملات فلا تلازم الحرمة الفساد، لعدم اشتراطها بالقربة و
عدم التنافي بين المبغوضية وبين أن تتحقق مضامينها، و
الفرض عدم كون النهي أيضا ظاهرا في الارشاد إلى مانعية شي
لتحققها، فلا وجه لفسادها من غير فرق بين المعاملات بالمعنى
الأخص وبين غيرها، كالغسل والتطهير، ونحو ذلك من الموضوعات
الشرعية التي تترتب عليها آثارها قهرا، وإن صدرت مبغوضة.
تذنيبان:
الأول: النهي الارشادي والمولوي:
قد قسم الشيخ (قده) - على ما في تقريرات بحثه - النهي المتعلق
بالعبادة إلى قسمين: الارشادي، والتحريمي المولوي، فقال: بدلالة
الأول على الفساد قطعا، ودلالة الثاني أيضا في الجملة. وقسم النهي
المتعلق بالمعاملة إلى أربعة أقسام:
أحدها: الارشادي، والثلاثة الاخر: مولوية تحريمية.
فأولها: أن يتعلق النهي بالمعاملة بما هي فعل مباشري (وبعبارة
أخرى) بالسبب، أعني نفس الايجاب والقبول، كالنهي المتعلق بالبيع
وقت النداء.
الثاني: أن يتعلق بها بما هي فعل تسبيبي (وبعبارة أخرى) بنفس
المسبب، وذلك كالنهي عن بيع المصحف أو العبد المسلم للكافر،
فإن
المبغوض إنما هو مالكية الكافر لهما التي هي نوع من السلطنة و
السبيل.
الثالث: أن يتعلق بالأثر الذي لا ينفك من المعاملة، بحيث لو لم تكن
المعاملة فاسدة لم يمكن تحريم هذا الأثر، من جهة أنه لا معنى
لصحتها
عرفا وشرعا إلا ترتب هذا السنخ من الأثر كالنهي عن أكل ثمن الكلب
أو العذرة، فإن صحة المعاملة وحصول الملكية يستلزمان حلية
285

الثمن للبائع (انتهى).
وزاد في الكفاية قسما آخر وهو أن يكون المتعلق للنهي، التسبب بهذا
السبب إلى هذا المسبب، من دون أن يتعلق النهي بنفس السبب أو
المسبب. [1]
ثم قال: إن النهي عنها بما هو فعل مباشري أو تسبيبي لا يقتضي
الفساد، ومثله ما إذا وقع النهي عن التسبب، وأما النهي عن الأثر غير
المنفك فيقتضي الفساد (انتهى).
أقول: قد مثلوا لصورة تعلق النهي بنفس السبب بالنهي عن البيع وقت
النداء، والظاهر فساد ذلك، فإن معنى حرمة السبب كون نفس
الايجاب والقبول بما هما لفظان محرمين، وليس في المثال نفس
التلفظ بالايجاب والقبول محرما لعدم اشتماله على المفسدة، وإنما
المحرم في وقت النداء هو الاشتغال بالأشغال الدنيوية المانعة عن
الصلاة، ومنها الاشتغال بالتجارات التي أهمها البيع، ولا خصوصية
لنفس البيع، وإنما ذكر من باب المثال أو الكناية، فالمنهي عنه هو
الاعمال المزاحمة للصلاة، والبيع أيضا محرم بهذا العنوان لا بما هو
لفظ خاص.
ثم إن هذا النهي ليس نهيا نفسيا ناشئا من مفسدة في متعلقه، بل هو من
باب تعلق النهي بضد المأمور به الذي لا ملاك له سوى نفس
مصلحة المأمور به، وقد عرفت في مبحث الضد أن الامر بالشئ و
النهي عن ضده ليسا بتكليفين مستقلين واجدين لملاكين، بل الامر و
النهي متحدان بحسب الحقيقة، ففيما نحن فيه النهي عن البيع وقت
النداء تأكيد للامر بصلاة الجمعة، فإن النهي عنه إنما هو من جهة كونه
ضدا لها فلا نهي حقيقي في البين، فتدبر.
التذنيب الثاني: وجوه الاستدلال بالنواهي الواردة على الفساد:
قد عرفت أن للقوم في المسألة مسلكين:
(الأول): أن الحرمة تلازم الفساد أم لا، وعلى هذا فالمسألة عقلية.
(الثاني): أن علماء الأمصار في جميع الأعصار كانوا يستدلون بالنواهي
الواردة في خصوصيات العبادات والمعاملات على الفساد، وقد
عرفت أيضا أن استدلالهم لم يكن بتوسيط الحرمة بل من جهة ظهور
النهي عندهم في الارشاد.
ونزيدك هنا إيضاحا فنقول: إن استدلالهم بهذا السنخ من النواهي
على الفساد وإرسالهم
[1] يمكن أن يمثل له بالنهي عن تملك الزيادة بالبيع الربوي فإن نفس
الانشاء وكذا تملك الزيادة بمثل الهبة ونحوها لا محذور فيه، و
إنما المحرم هو التسبب بالبيع لتملك الزيادة ح - ع - م.
286

ذلك إرسال المسلمات ليس من جهة كون النهي موضوعا للفساد
شرعا بعد عدم كونه كذلك لغة، للقطع بعدم وضع من الشارع في هذا
المقام، وأنه ليس وظيفته إلا بيان الاحكام بلسان قومه، بل ما يحتمل
أن يكون وجها لذلك أمور:
1 - ما سبق منا من أنه إذا أمر من له مزيد اختصاص في العلم بشئ
بهذا الشئ، ثم أمر ببعض الخصوصيات المتعلقة به أو نهي عنه،
يتبادر من هذا السنخ من الأوامر والنواهي الارشاد إلى الجزئية أو
الشرطية أو المانعية، وليس للنهي حينئذ ظهور في المولوية حتى
نحتاج في إثبات الفساد إلى توسيط الحرمة وادعاء الملازمة بينها و
بين الفساد، وقد فصلنا ذلك فراجع.
2 - ما ذكره الشيخ (قده) وحاصله أن الظاهر من النهي المتعلق بعبادة
خاصة أو معاملة خاصة كونه ناظرا إلى العمومات المشرعة لها
تأسيسا أو إمضاء، فيكون بمنزلة المقيد أو المخصص لها، فإذا قال الله
تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم)، أو ورد في الخبر النهي عن
بيع الغرر، أو نحو ذلك علم منه إرادة التخصيص للعمومات الدالة على
صحة النكاح والبيع ونحوهما من المعاملات، وهكذا الامر في
العبادات، هذا ولكن يجب أن يعلم أن ما ذكره (قده) ليس وجها في
قبال سائر الوجوه، فإن النهي إن كان تحريميا مولويا فلا وجه
لاستفادة الفساد منه في المعاملات، كما عرفت، وإن كان إرشاديا
رجع إلى ما ذكرناه في الوجه الأول.
3 - أن يقال في خصوص المعاملات: إن حصول المسببات عقيب
الأسباب إنما هو بجعل الشارع إياها عقيبها واعتباره لها، أو بجعل
السببية للأسباب، بداهة أن السببية فيها ليست تكوينية فهي قابلة
للجعل التشريعي، وحينئذ فمن المستبعد اعتبار الشارع وإمضاؤه لما
هو مبغوض له، فبالنهي الدال على الحرمة والمبغوضية يستكشف
عدم اعتبار الشارع للمسبب الذي يكون تحققه بيده.
4 - ما ذكره بعض المعاصرين من أن النهي يدل على المحجورية
الشرعية، ومن شرائط الصحة في المعاملات عدم الحجر.
5 - أن يقال: إن الظاهر من النواهي المتعلقة بالمعاملات هو المنع عن
ترتيب آثارها عليها، فترجع جميع النواهي المتعلقة بالمعاملات إلى
القسم الثالث، الذي نقلناه عن الشيخ، وهو صورة تعلق النهي بالآثار
التي لا تنفك من المعاملة، بحيث لو صحت المعاملة لم تعقل حرمة
هذه
الآثار. وقد
287

توافق الشيخ وشيخنا الأستاذ المحقق الخراساني على كون النهي في
هذه الصورة دالا على الفساد، ووجهه واضح، ووجه إرجاع جميع
النواهي الواردة في المعاملات إلى هذه الصورة هو أن يقال: إن
للمعاملات ثلاث مراتب:
الأولى: مرتبة الأسباب أعني نفس الايجاب والقبول. الثانية: مرتبة
المسببات التي توجد بها في عالم الاعتبار من الملكية والزوجية و
نحوهما. الثالثة: مرتبة الآثار الشرعية والعقلائية المترتبة على
المسببات من جواز التصرف في الثمن مثلا للبائع وفي المثمن
للمشتري،
وجواز الوطء ونحوه في النكاح، ونحو ذلك، ولا يخفى أن نفس
الأسباب لا نفسية لها عند العرف والعقلاء، وليست مقصودة بالذات
بل هي آلات لايجاد مسبباتها ومندكات فيها بنظرهم، وكذلك
المسببات بأنفسها أمور اعتبارية محضة وليست مقصودة بالأصالة،
فإن نفس الملكية مجردة من جميع آثارها لا تغني عن جوع أحد، فهي
أيضا فانية في الآثار، فالمطلوب بالذات وما هو المقصود عند
العقلا في المعاملات إنما هو ترتيب الآثار من التصرف في الثمن و
المثمن، وقضاء الحوائج بهما ونحو ذلك. فإذا كان نظر العرف و
العقلا إلى الأسباب والمسببات نظرا آليا، وكانتا عندهم في الحسن و
القبح تابعتين للآثار المطلوبة، فلا محالة لا يتبادر إلى أذهانهم
من النواهي المتعلقة بهما إلا النهي عن ترتيب الآثار، إذ لا نفسية لهما
عندهم ولا يتصفان في أنفسهما بحسن ولا قبح، ونظير ذلك ما
ذكرناه في مبحث المقدمة من أن الامر بالمقدمة عين الامر بذيها.
وبالجملة: الأمر والنهي في الأمور الالية يتعلقان حقيقة بما هي فانية
فيه، فلا يتبادر إلى الأذهان من النهي عن نكاح الام مثلا إلا حرمة
ترتيب آثار الزوجية، فإنها المقصودة بالذات من النكاح، لا نفس
الايجاب والقبول ولا الزوجية المجردة منها، وعلى هذا فيدل النهي
على الفساد، فتدبر.
288

المقصد الثالث في المفاهيم وفيه فصول
289

الفصل الأول:
معنى المفهوم
المفهوم والمنطوق وصفان للمدلول أو الدلالة؟:
اعلم أن الظاهر من كلمات القوم كونهما وصفين للمدلول بما هو
مدلول، لا للدلالة وإن كانت كيفية الدلالة منشئا لاتصافه بهما، و
بعبارة أخرى: ينقسم المدلول من اللفظ إلى منطوق ومفهوم، باعتبار
انقسام الدلالة إلى نحوين، فنحو خاص منها يسمى مدلوله
بالمنطوق، ونحو آخر منها يسمى مدلوله بالمفهوم.
والقول بكونهما وصفين لنفس الدلالة في غاية السخافة، ولا نظن
أحدا من القدماء تفوه بذلك، ولعل نظر من جعلهما وصفا لها إلى ما
ذكرناه من أن كونهما وصفين للمدلول ليس بلحاظه بذاته، بل باعتبار
كونه مدلولا لنحوين من الدلالة.
إنما الاشكال في المقام هو في تشخيص نحوي الدلالة (المنقسم
باعتبارهما المدلول إلى المنطوق والمفهوم).
قال الشيخ على ما في تقريرات بحثه ما حاصله: إن دلالة المفردات
على معانيها (بأقسامها من المطابقة والتضمن والالتزام) خارجة من
المقسم، فلا تتصف مداليلها بالمنطوق ولا بالمفهوم.
وأما دلالة المركبات على معانيها التركيبية فإن كانت بالمطابقة فهي
داخلة في المنطوقية بلا إشكال، وإن كانت بالتضمن فالظاهر
منهم، وإن كان دخولها في المنطوقية أيضا، ولكن يمكن الاستشكال
فيه (بناء على تفسير المفهوم بما يفهم من اللفظ تبعا) فإن المعنى
التضمني وإن كان بالذات مقدما على المطابقي، ولكنه متأخر عنه في
الاستفادة من اللفظ، بل قد يتصور الكل إجمالا من دون أن
يتصور الجز، مثال ذلك ما لو أثبت القيام (الذي هو وضع خاص) لزيد
فإنه يفهم منه ضمنا ثبوت بعض هذا الوضع لرأسه مثلا، ولكن
الذهن ربما يغفل عنه.
290

هذا كله في دلالة المركبات على معانيها المطابقية والتضمنية.
وأما دلالتها على معانيها الالتزامية فهي أيضا على قسمين، إذ المدلول
الالتزامي إما أن يكون بحيث يقصد المتكلم دلالة اللفظ عليه، وإما
أن يكون مما يستفاد منه تبعا بلا قصد لافهامه، والقسم الثاني خارج
من المنطوقية والمفهومية معا، وأما القسم الأول فإن كان مفاده
مفاد (لا غير) كما في جميع مفاهيم المخالفة، أو كان الحكم فيه ثابتا
للغير على وجه الترقي، كما في مفهوم الموافقة فهو المفهوم بقسميه،
وإلا فهو أيضا من المنطوق، فاستقر اصطلاحهم على تسمية هذين
النوعين من المداليل الالتزامية المركبة بالمفهوم.
وقد فصل (قده) الكلام في هذا المقام، ونقل في ضمن كلامه تعريف
الحاجبي للمنطوق بأنه ما دل عليه اللفظ في محل النطق، وللمفهوم
بأنه ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، وتفسير العضدي لتعريف
المنطوق بقوله: (أي يكون حكما لمذكور وحالا من أحواله سواء ذكر
الحكم ونطق به أم لا) ولتعريف المفهوم بقوله: (أي يكون حكما لغير
المذكور) (انتهى).
أقول: لم يأت هو (قده) مع تفصيله بما يكون معتمدا عليه في امتياز
المنطوق من المفهوم، فإن الظاهر من القدماء كون المداليل في حد
ذاتها على قسمين، وليس تقسيم المدلول إليهما بحسب جعل
الاصطلاح فقط بأن يصطلحوا بلا جهة على تسمية بعض المداليل
الالتزامية
بالمفهوم وإدخال غيره في المنطوق، ولذلك تريهم يختلفون في أن
دلالة الغاية أو الاستثناء على الانتفاء عند الانتفاء مفهومية أو
منطوقية، فيعلم من ذلك كونهما ممتازين بحسب الواقع.
والمتأخرون عن الشيخ أيضا لم يذكروا في الباب ميزانا صحيحا يعتمد
عليه، فالواجب علينا تفصيل الكلام بنحو يتضح الامتياز بين
نحوي الدلالة (المنقسم باعتبارهما المدلول إلى المنطوق والمفهوم).
المداليل اللفظية وغير اللفظية: ما يفهم من كلام المتكلم قد يكون
بحيث يمكن أن يقال:
(إنه نطق به) بنحو لو قيل للمتكلم: (أنت قلت هذا) لم يكن له إنكاره، و
قد يكون بحيث لا يمكن ذلك، بل يكون للمتكلم مفر منه، وإن
أنكر قوله إياه لم يمكن إلزامه، مثلا إذا قال المتكلم:
(إن جاءك زيد فأكرمه) فمداليله المطابقية والتضمنية والالتزامية كلها
مما لا يمكن للمتكلم أن ينكر نطقه بها، وأما عدم ثبوت الوجوب
عند عدم المجئ فيفهم من اللفظ، ولكن لو قيل للمتكلم: (أنت قلت
هذا) أمكنه إنكار ذلك بأن يقول: ما قلت ذلك وإنما الذي قلته و
نطقت به هو وجوب الاكرام عند المجئ، وليس الانتفاء عند الانتفاء
من لوازم الثبوت عند الثبوت حتى يقال:
291

إن دلالة اللفظ عليه بالالتزام، لوضوح أن وجوب الاكرام عند المجئ
لا يستلزم بحسب الواقع عدم وجوبه عند عدمه، ومع ذلك نرى
بالوجدان أنه يفهم من الكلام، ولكنه ليس بحيث يمكن أن ينسب إلى
المتكلم أنه نطق به، وأما الثبوت عند الثبوت وجميع لوازمه العقلية
والعرفية فمما يمكن أن تنسب إلى المتكلم، ويقال إنه نطق بها وليس
له إنكاره، وكذا الكلام في مفهوم الموافقة فإن النهي عن آلاف
يفهم منه النهي عن مثل الضرب، ولكنه لا تلازم بين المعنيين و
المدلولين بحسب متن الواقع، لعدم الارتباط والعلاقة بين الحرمة
المتعلقة
بالاف وبين الحرمة المتعلقة بالضرب، حتى يقال باستلزام الأول
للثاني.
وبالجملة: المداليل المطابقية والتضمنية والالتزامية جميعها مما لا
يمكن للمتكلم أن ينكر القول بها بعد إقراره بنطقه بالكلام، ولكن
هاهنا مداليل أخر تفهم من الكلام من جهة أعمال خصوصية فيه، ومع
ذلك يكون للمتكلم - مع إقراره بالنطق بالكلام - أن يقول: ما قلت
ذلك، لعدم كونها من مداليلها المطابقية والتضمنية والالتزامية.
والمراد بالمدلول الالتزامي ما فهم من اللفظ من جهة كونه لازما ذهنيا
لما وضع له اللفظ، سواء كان بحسب الخارج أيضا من لوازمه
كالجود للحاتم، أو من معانداته كالبصر للعمى. فما قد يتوهم في بيان
الضابط لدلالة الالتزام - من أنها عبارة عن الدلالة الثابتة بالنسبة
إلى اللوازم البينة بالمعنى الأخص - في غير محله، فإن دلالة الالتزام
تتوقف على اللزوم الذهني لا الخارجي، والمقسم للبين وغيره
بقسميه هو اللازم الخارجي. [1]
وكيف كان فهنا مداليل أخر للكلام سوى المداليل المطابقية و
التضمنية والالتزامية تكون دلالة اللفظ عليها دلالة مفهومية، كما تكون
دلالته على المعنى المطابقي والتضمني والالتزامي دلالة منطوقية،
فالدلالة المفهومية خارجة من الأقسام الثلاثة، فإنها بأجمعها مما يمكن
أن يقال: إن المتكلم نطق بها، غاية الأمر أن نطقه بالنسبة إلى المدلول
التضمني والالتزامي بالواسطة، والمفهوم عبارة عما لم ينطق به
المتكلم، ولو بالواسطة.
حقيقة الدلالة المفهومية:
بيان حقيقة الدلالة المفهومية يتوقف على ذكر مقدمة، فنقول: لا ريب
في أن استفادة المعنى من اللفظ بحيث يمكن الاحتجاج على المتكلم
بإرادته له تتوقف على أربعة أمور مترتبة
[1] أقول: ينافي ذلك تمثيلهم للبين بالمعنى الأخص بمثل العمى و
البصر. ح - ع - م.
292

حسب ما نذكرها:
(الأول) عدم كون المتكلم لاغيا في كلامه وكونه مريدا للإفادة.
(الثاني) كونه مريدا لإفادة ما هو ظاهر اللفظ بحيث يكون ظاهر اللفظ
مرادا له، إذ من الممكن - بحسب مقام الثبوت - عدم كونه لاغيا
في كلامه، ولكن لا يكون مع ذلك مريدا لظاهر اللفظ بأن ألقاه تقية أو
لجهات أخر.
(الثالث) عدم إجمال اللفظ وكونه ظاهرا في المعنى.
(الرابع) حجية الظهور والمتكفل لاثبات الأمر الأول والثاني ليس هو
اللفظ بل بناء العقلا، إذ قد استقر بناؤهم على حمل فعل الغير
على كونه صادرا عنه لغايته الطبيعية التي تقصد منه عادة ولا يعتنون
باحتمال صدوره لغوا وجزافا، ولا باحتمال صدوره لغير ما هو
غاية له نوعا. واللفظ الصادر عن المتكلم أيضا من جملة أفعاله،
فيحمل بحسب بناء العقلا على كونه صادرا عنه لغاية، وكون
المقصود
منه غايته الطبيعية العادية، وحيث إن الغاية العادية للتلفظ إفادة
المعنى، فلا محالة يحكم المستمع للفظ - قبل اطلاعه على المعنى
المقصود منه - بكون التكلم به لغاية وفائدة وكون الغاية المنظورة
منها إفادة معناه - أي شي كان -، وليس هذا مربوطا بباب دلالة
الألفاظ على معانيها، بل هو من باب بناء العقلا على حمل فعل الغير
على كونه صادرا عنه لغايته الطبيعية، وهذا مقدم بحسب الرتبة على
الدلالة الثابتة للفظ - بما هو لفظ موضوع - على معناه المطابقي أو
التضمني أو الالتزامي، لأنه من باب دلالة الفعل لا اللفظ بما هو لفظ
موضوع، ويحكم به العقلا قبل الاطلاع على المعنى الموضوع له.
ثم إن هذا البناء من العقلا كما يكون ثابتا في مجموع الكلام كذلك
يكون ثابتا في أبعاضه وخصوصياته، فكما أن نفس تكلمه - بما أنه
فعل من الأفعال الاختيارية - يحمل على كونه لغايته الطبيعية العادية،
فكذلك الخصوصيات المذكورة في الجملة من الشرط أو الوصف
أو غيرهما تحمل - بما هي من الافعال الصادرة عنه - على كونها
لغرض الإفادة والدخالة في المطلوب، فإنها غايتها العادية، وكما لم
تكن دلالة نفس الجملة على كونها لغرض إفادة المعنى دلالة لفظية
وضعية، بل كانت من جهة بناء العقلا - المتقدم بحسب الرتبة على
الدلالة اللفظية المنطوقية -، فكذلك دلالة الخصوصية المذكورة في
الكلام على كونها للدخالة في المطلوب ليست من باب دلالة اللفظ بما
هو لفظ موضوع، بل هي من باب بناء العقلا ومن باب دلالة الفعل بما
293

هو فعل، سواء كان من مقولة اللفظ أو من غيره.
إذا عرفت هذه المقدمة ظهر لك سر ما قلناه من أن الدلالة المفهومية
خارجة من الأنحاء الثلاثة، أعني المطابقة والتضمن والالتزام، فإن
مقسمها دلالة اللفظ - بما هو لفظ موضوع -، فإن دل على تمام ما
وضع له سميت الدلالة بالمطابقة، وإن دل على جز منه سميت
بالتضمن، وإن دل على لازمه سميت بالالتزام، وأما دلالة اللفظ على
المفهوم فليست ثابتة له بما هو لفظ موضوع بل هو من باب دلالة
الفعل بحسب بناء العقلا.
والحاصل: أن دلالة الخصوصية المذكورة في الكلام من الشرط أو
الوصف أو الغاية أو اللقب أو نحوها على الانتفاء عند الانتفاء ليست
دلالة لفظية بل هي من باب بناء العقلا على حمل الفعل الصادر عن
الغير على كونه صادرا عنه لغاية وكون الغاية المنظورة منه غايته
النوعية العادية، والغاية المنظورة - عند العقلا - من نفس الكلام
حكايته لمعناه، والغاية المنظورة من خصوصياته دخالتها في
المطلوب، ومن هنا يثبت المفهوم، فإذا قال المولى: (إن جاءك زيد
فأكرمه) مثلا حكم العقلا بدخالة مجئ زيد في وجوب إكرامه،
(بتقريب) أنه لو لم يكن دخيلا فيه لما ذكره المولى، وكذلك إن ذكر
وصف في كلامه يحكمون بدخالته في الحكم بهذا التقريب، وهكذا
سائر الخصوصيات التي تذكر في الكلام.
وبالجملة: فائدة ذكر القيد - أي قيد كان - بحسب طبعه عبارة عن
دخالته في الحكم فيحكم العقلا بأن تعليق الحكم عليه ليس إلا
لدخالته وإلا كان ذكره لغوا، ولا ربط لهذا الحكم العقلائي بباب
الدلالات اللفظية، بل هو من جهة بنائهم على عدم حمل فعل الغير
على
اللغوية، بل على فائدته المتعارفة المنظورة منه نوعا، فباب المفاهيم
بأقسامها غير مربوط بباب الدلالات اللفظية بأقسامها.
وقد ظهر بما ذكرنا أن استفادة المفهوم في جميع القيود: من الشرط و
الوصف وغيرهما بملاك واحد، وهو ظهور الفعل الصادر عن
الغير في كونه صادرا عنه لغايته الطبيعية العادية، فلا يجب البحث عن
كل واحد من القيود في فصل مستقل.
294

وينبغي التنبيه على أمور
الأول: النزاع صغروي أو كبروي؟:
قد ظهر لك أن استفادة المفهوم من باب بناء العقلا، ولا ريب أنه قد
استقر بناؤهم على حمل كلام المتكلم وحمل خصوصياته على
كونها صادرة عنه بداعي غايتها النوعية، وأن الغاية النوعية للقيود هي
دخالتها في المطلوب والمقصود الذي سيق لأجله الكلام، وهذا
البناء من العقلا موجود قطعا، وإنما الاشكال في حجيته، فما تراه في
كلام المتأخرين - من أن النزاع في حجية المفاهيم نزاع صغروي،
إذ النزاع في أصل ثبوته لا في حجيته - فاسد على ما ذكرناه من
المبنى، ولذلك ترى القدماء كانوا ينازعون في حجية المفاهيم لا في
أصل ثبوتها، نعم، بناء على ما أسسه المتأخرون في باب المفاهيم من
إرجاعها إلى الدلالات اللفظية الالتزامية، كما قالوا في مفهوم
الشرط مثلا: إنه ثابت بناء على استفادة العلية المنحصرة من الشرط،
يكون النزاع صغرويا كما أفادوه، ولكن هذا الأساس ينهدم بما
ذكرنا.
الأمر الثاني: مفهوم الموافقة:
مفهوم الموافقة بعكس مفهوم المخالفة، فكما أن العقلا يحكمون في
بعض الموارد بدخالة الخصوصية المذكورة في الكلام، حذرا من
حمل الكلام الغير على اللغوية، فكذلك يحكمون في بعض الموارد
بعدم دخالة الخصوصية وشمول الحكم للأعم من واجدها، وليس
مفهوم الموافقة إلا عبارة عن إلقاء الخصوصية والحكم بعدم دخالتها،
سواء وجد في البين أولوية كما في النهي عن آلاف الذي يفهم منه
حرمة الضرب مثلا أم لم توجد، كما إذا سئل الإمام عليه السلام عن
حكم الرجل الشاك مثلا فأجاب، فإن العرف يلقي خصوصية
الرجولية،
ويحكم بعدم دخالتها في الحكم، وليس مفهوم الموافقة منحصرا في
ما إذا كان الفرع أولى من الأصل، وإن كان يوهمه بعض الكلمات،
ولذلك ترى في كلام بعض القدماء، الأقوال في حجيته ثلاثة، ثالثها
التفصيل بين صورة الأولوية وبين غيرها.
295

الأمر الثالث: مفهوم المخالفة:
مفهوم المخالفة عند المتأخرين ينتج انتفاء الحكم عند انتفاء القيد و
أما على ما أسسناه فلا يفيد ذلك، إذ قد عرفت أن ثبوته عندنا من
باب بناء العقلا، وغاية ما يحكم به العقلا في مثل قوله:
(الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شي) إنما هو دخالة الكرية في الحكم
بعدم التنجس، وعدم كون ذات الماء تمام الموضوع له، بتقريب:
أنه لو كان ثابتا لذاته مع قطع النظر عن تخصصه بخصوصية الكرية
لكان ذكرها لغوا، وأما كون هذه الخصوصية دخيلة ليس إلا بمعنى
عدم جواز أن يخلفها خصوصية أخرى مثل الجريان والمطرية و
نحوهما، فلا يحكم به العقلا، فإن مبنى حكمهم هو الفرار من محذور
اللغوية، ولا يخفى أن كون قيد الكرية ذا فائدة وعدم كونه لغوا يتوقف
على عدم كون ذات الماء، بما هي هي تمام الموضوع، لا على
كون الكرية علة تامة منحصرة لعدم التنجس، بحيث لا يخلفها مثل
الجريان والمطرية، فهذه الرواية كافية في رد مثل ابن أبي عقيل
القائل بعدم انفعال الماء مطلقا، ولا تدل على عدم جواز أن يخلف
قيد الكرية قيد آخر، فإنه من الممكن أن لا يكون الحكم ثابتا لذات
الموضوع بما هي هي، بل يكون لخصوصية أخرى دخالة في الحكم،
ولكن هذه الخصوصية قد تكون منحصرة وقد تكون متعددة يكفي
انضمام كل منها إلى ذات الموضوع في ثبوت الحكم، كما في ما نحن
فيه. فإن انضمام كل واحدة من الكرية والمطرية والجريان مثلا
إلى حيثية المائية يكفي في الحكم بعدم التنجس.
وبما ذكرنا ينهدم أساس المفهوم بمعنى الانتفاء عند الانتفاء، سواء
كان القيد المذكور في الكلام شرطا أو وصفا أو غيرهما.
وهذا الذي ذكرناه هو مراد السيد (قده) حيث قال ما حاصله: إن قوله
تعالى: واستشهدوا
296

شهيدين من رجالكم يدل على توقف قبول شهادة الرجل على
انضمام شاهد آخر، ثم دل دليل آخر على أن الامرأتين أيضا قد تقومان
مقام الرجل وهكذا، إلى آخر ما ذكره (قده) في بيان عدم حجية
المفهوم، فإنه (قده) يسلم دخالة الشرط المذكور في الحكم، وإنما
ينكر
دلالته على الانتفاء عند الانتفاء، فكلامه (قده) جيد على ما ذكرناه، و
إن لم يعتن به المتأخرون وجعلوه واضح الفساد.
نعم يمكن أن يستفاد الانتفاء عند الانتفاء في بعض الموارد، كما إذا
كان المولى في مقام بيان جميع ما يمكن أن يكون دخيلا في الحكم،
وحينئذ فمثل مفهوم اللقب أيضا حجة فضلا عن الشرط ونحوه.
وقد تلخص مما ذكرنا أن ذكر القيد الزائد - أي قيد كان - يكفي في
نفي كون الحيثية المقيدة به تمام الموضوع، ولا يكفي بنفسه
للدلالة على الانتفاء عند الانتفاء.
297

الفصل الثاني:
مفهوم الشرط
أقسام القضية الشرطية:
القضية الشرطية على قسمين:
الأول
- ما كان مقدمها بمنزلة الموضوع وتاليها بمنزلة المحمول، فكأنها
قضية حملية ذكرت بصورة الشرطية. وذلك كقول الطبيب مثلا
للمريض: إن شربت الدواء الفلاني انقطع مرضك، فإنه بمنزلة أن يقول:
شرب الدواء الفلاني قاطع لمرضك، وكقول المنجم: إن كان
زحل في الدرجة الكذائية رخصت الأسعار مثلا ونحو ذلك، وهذا
القسم من الشرطيات التي مفادها مفاد الحمليات لا مفهوم لها، إذ
الشرط بمنزلة الموضوع والجزاء بمنزلة المحمول، فلا قيد زائد حتى
يستفاد منه المفهوم.
الثاني
- من الشرطيات المستعملة ما كان المقصود فيها إثبات محمول التالي
لموضوعه، ويكون المقدم بمنزلة القيد الزائد الخارج من الثابت
والمثبت له كقوله: (الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شي)، فإن محط
النظر في هذه القضية بيان حكم الماء من النجاسة أو الطهارة، فقوله:
(إذا بلغ قدر كر) بمنزلة القيد الزائد، وهذا القسم من الشرطيات يستفاد
منه المفهوم، إذ يجب أن يفرض للقيد الزائد فائدة، والفائدة
النوعية للقيد كما عرفت إنما هي الدخالة في موضوع الحكم، فتدبر.
هذا ما عندنا في بيان ما هو الملاك في المفاهيم.
وأما المتأخرون فذهب كل منهم في بيانها مذهبا ولم يستوفوا حقها.
قال بعض أعاظم العصر ما حاصله: إن المدلول الالتزامي للكلام إن كان
من اللوازم البينة بالمعنى الأخص سميناه بالمفهوم، وإن كان
من اللوازم البينة بالمعنى الأعم سميناه بالمدلول السياقي، وإن كان
من اللوازم غير البينة كان مدلولا التزاميا فقط، ولا يسمى باسم
آخر. ولازم كلامه (قده)
298

ثبوت الواسطة بين المنطوق والمفهوم، فإن المدلول السياقي واللوازم
غير البينة خارجتان (بنظره) منهما، وأما بناء على ما ذكرناه فلا
تثبت الواسطة، فإن المداليل الالتزامية بينة كانت أو غير بينة داخلة
عندنا في المنطوق، كما عرفت.
ولعل ما ذكره في الكفاية في باب المفاهيم أمتن ما ذكره المتأخرون،
فلنشر إليه، قال (قده) في تعريف المفهوم: (إنه عبارة عن حكم
إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصية المعنى الذي أريد من اللفظ
بتلك الخصوصية).
أقول: وفيه نظر إذ الخصوصية إن كانت مما دل عليه اللفظ كانت داخلة
في المعنى فاستتباع الخصوصية للمفهوم عبارة أخرى عن
استتباع نفس المعنى له، وهو عبارة أخرى عن الدلالة الالتزامية،
فيبقى السؤال عن وجه تعبيره (قده) عن الدلالة الالتزامية بهذا التعبير،
وإن لم تكن الخصوصية مما دل عليه اللفظ ولم تكن داخلة في
المعنى فيبقى السؤال عن وجه تخصص المعنى بها مع عدم دلالة
اللفظ
عليها، (مثلا) في قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه) لفظة (إن) تدل على
العلية، ثم إن خصوصية الانحصار إن كانت من لوازم هذا المعنى،
فالدلالة على المفهوم أعنى الانتفاء عند الانتفاء دلالة التزامية
منطوقية، وإن لم تكن من لوازمه فأية جهة لتخصصه بها.
ثم شرع (قده) في بيان مفهوم الشرط، فقال: (إن ثبوته يتوقف على
دلالة الجملة الشرطية على اللزوم وترتب الجزاء على الشرط بنحو
العلية المنحصرة).
ثم قال: (إن دلالتها على أصل اللزوم مسلمة، وأما الدلالة على الترتب
فضلا عن العلية والانحصار فللمنع عنه مجال)، ثم ذكر للدلالة على
العلية المنحصرة خمس تقاريب، ورد جميعها فاختار عدم ثبوت
المفهوم في الجمل الشرطية.
والتقاريب الخمس عبارة عن دعوى التبادر، ودعوى الانصراف، و
دعوى جريان مقدمات الحكمة بثلاثة أنحاء، وقد ذكرنا حين ما
نحضر درسه (قده) تقريبا سادسا، (وحاصله) أن قوله: (إن جاءك زيد
فأكرمه) ظاهر في كون خصوصية المجئ دخيلة في ثبوت
الجزاء، فيكون لازم ذلك كون المجئ علة منحصرة، إذ لو كانت هنا
علة أخرى كانت العلة هي الجامع بينهما، لا خصوص كل منهما لعدم
إمكان صدور الواحد (بما هو واحد) عن الاثنين (بما هما اثنان).
وبعبارة أخرى: التعليق على المجئ ظاهر في كون المجئ بما هو
مجئ بخصوصه علة، لا بما أنه مصداق للجامع بينه وبين امر آخر، و
لازم ذلك هو الانحصار.
299

وقد أجاب (قده) عن ذلك بأن عدم صدور الواحد عن الاثنين، وكون
العلة بحسب الحقيقة عبارة عن الجامع أمر تقتضيه الدقة العقلية و
العرف غافل عنه، والمرجع لفهم المعاني هو العرف. [1]
أقول: يمكن أن يقرب ما ذكرناه هنا بالتقريب الذي ذكرناه في أصل
المفهوم بأن يقال: إن بناء العرف والعقلاء على حمل كلام الغير و
جميع خصوصياته على كونها صادرة للفائدة حذرا من اللغوية، فإذا
علق الحكم على المجئ، فكما يفهم العرف من أصل تعليق الحكم
على
القيد كون القيد دخيلا، بتقريب: أنه لو لم يكن دخيلا لما ذكره المولى،
فكذلك يفهم من خصوصية القيد أيضا كون الخصوصية أيضا
دخيلة، وإلا لما صح ذكره بخصوصه، بل وجب ذكر الجامع بين
الواجد لها والواجد لغيرها من الخصوصيات. وبهذا البيان يستحكم
أساس المفهوم بمعنى الانتفاء عند الانتفاء وإن استشكلنا فيه أولا،
فتدبر.
وقد تلخص مما ذكرناه في باب المفاهيم أن مسلك القدماء فيها
يخالف مسلك المتأخرين، فالمتأخرون قد أسسوا بناء مفهوم الشرط
مثلا على استفادة العلية المنحصرة، وأما القدماء فقد أسسوا بناء
جميع المفاهيم على أمر عقلائي، وهو ظهور الفعل الصادر عن الغير

منه التكلم بالخصوصيات) في كونه صادرا عنه لغايته النوعية، والغاية
النوعية للقيد هي الدخالة.
تذنيب: المفهوم في الجمل الانشائية:
إذا قال: (وقفت مالي على أولادي الفقراء) أو (إن كانوا فقراء)، فلا
شبهة في عدم ثبوت الوقف لغير الفقراء، ولكن ليس ذلك من جهة
حجية المفهوم، بل من جهة أن الوقف قد أنشأ بهذا اللفظ، وصار
موجودا بنفس هذا الانشاء، والمفروض أن المنشأ به هو الوقف على
الفقراء خاصة، فلا مجال لثبوته لغيرهم.
توضيح ذلك: أن مفاد القضية الشرطية مثلا هو ثبوت محمول التالي
لموضوعه على تقدير ثبوت المقدم، وبعبارة أخرى: ثبوت الحكم في
التالي معلق على ثبوت المقدم، ومقتضى دلالتها على المفهوم - على
مذاق القوم - هو انتفاء ما هو المعلق عند انتفاء المعلق عليه، فإن ما
يقتضيه
[1] لا يخفى أن دليل امتناع صدور الواحد عن الكثير لو جرى في هذه
المقامات فلا يمكن الجواب عنه بعدم فهم العرف لعدم إمكان
الالتزام بالمحذور العقلي تمسكا بعدم فهم العرف، اللهم إلا أن ينكر
ظهور هذا النحو من الخصوصية (التي لا يحتاج في بيانها إلى مئونة
زائدة) في كونها دخيلة لعدم جريان دليل اللغوية بعد ما لم يكن بيان
ذي الخصوصية أكثر مئونة من بيان الجامع. ح - ع - م.
300

التعليق هو انتفاء نفس ما علق على المقدم عند انتفاء المقدم لا انتفاء
أمر آخر.
ثم إن المعلق إن كان مما يمكن تحققه عند انتفاء المعلق عليه أيضا
جرى فيه النزاع في حجية المفهوم وعدمها، وأما إذا كان أمرا لا يعقل
تحققه عند انتفائه فلا مجال فيه للبحث عن المفهوم، فإن انتفاءه
حينئذ عند انتفاء المعلق عليه عقلي لا يستند إلى ظهور الشرط في
العلية
المنحصرة (كما هو مسلك المتأخرين في باب المفاهيم) أو إلى ظهور
القيد في الدخالة (كما نسبناه إلى قدماء أصحابنا) وإن ناقشنا فيه
أولا وفاقا للسيد بأن الدخالة لا تستلزم الانتفاء عند الانتفاء.
إذا عرفت هذا فنقول: إن المعلق إن كان له نحو تحقق وخارجية مع
قطع النظر عن هذا الكلام المشتمل على التعليق كان من القسم الأول
فيجري فيه النزاع، مثال ذلك ما إذا كان الجزاء جملة خبرية حاكية
لتحقق مضمونها في الخارج كما إذا قال المولى: (إن جاءك زيد يجب
إكرامه)، إذا لم يكن غرضه من هذا الكلام إنشاء الوجوب فعلا، بل كان
غرضه حكاية الوجوب الثابت في ظرفه بإنشائه قبلا أو بعدا، فإن
المعلق على الشرط حينئذ - أعني به المحكي بالجملة الجزائية وهو
الوجوب الثابت في ظرفه - يمكن أن يكون في متن الواقع ثابتا لزيد
الجائي فقط، ويمكن أن يكون ثابتا له ولغير الجائي، بأن يكون قد أنشأ
لكليهما، فحينئذ يقع النزاع في أن التعليق على الشرط يدل على
الانتفاء عند انتفائه أم لا.
ومن هذا القبيل الأوامر والنواهي الواردة عن النبي صلى الله عليه و
آله والأئمة عليهم السلام في مقام بيان أحكام الله تعالى، فإنها كما
حققناه في مبحث الأوامر ليست مولوية صادرة عنهم بقصد إنشاء
الحكم، بداهة أنهم لم يقصدوا بها إعمال المولوية، بل صدرت عنهم
للارشاد إلى أحكام الله الواقعية، نظير أوامر الفقيه عند الافتاء فهي
حاكيات لاحكام الله الثابتة المنشأة في متن الواقع، فوزانها وزان
الجمل الخبرية.
هذا كله فيما إذا كان المعلق على الشرط موجودا متحققا في ظرفه، مع
قطع النظر عن هذا الكلام.
وأما إذا كان تحققه وخارجيته بنفس هذا الكلام المشتمل على
التعليق بحيث لم يكن له خارجية قبله ولا بعده، بل كان هو آلة
لايجاده و
خارجيته، كان من القسم الثاني، ولا مجال فيه للبحث عن المفهوم، بل
ينتفي المعلق بانتفاء المعلق عليه عقلا، إذ المفروض أن خارجيته
بنفس هذا الكلام، والمفروض أنه علق في هذا الكلام على الشرط
فيكون المنشأ شخص ما علق فينتفي بانتفائه عقلا، مثال ذلك جميع
الانشاءات كقوله: وقفت على أولادي إن كانوا فقرأ، وقوله: إن
301

جاءك زيد فأكرمه، إذا كان الغرض إنشاء الوقف أو الوجوب بنفس هذا
الكلام.
وقد اتضح بما ذكرنا أن ثبوت المفهوم في الجمل الانشائية المولوية
محل إشكال، ولا يختص الاشكال بباب الأوقات والوصايا و
نحوهما.
نعم قد عرفت أن الأوامر والنواهي الواردة عن النبي صلى الله عليه و
آله والأئمة عليهم السلام وزانها وزان الجمل الخبرية، فيثبت فيها
المفهوم.
وأما المحقق الخراساني فقال إن الأوامر والنواهي المولوية أيضا
مشتملة على المفهوم، وقال في بيان ذلك: (إن المفهوم هو انتفاء سنخ
الحكم المعلق على الشرط عند انتفائه لا انتفاء شخصه ضرورة انتفائه
عقلا بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده).
والقول بكون النزاع في السنخ يستفاد من تقريرات بحث الشيخ (قده)
أيضا، واستدل على ذلك بأن انتفاء الشخص قطعي لا يقبل
الانكار بعد ارتفاع الكلام الدال على الانشاء، ومن لوازم تشخصه عدم
سراية ذلك الحكم الثابت به إلى غيره.
أقول: القول بكون المراد في باب المفاهيم انتفاء السنخ، وإن اشتهر
بين المتأخرين، وأرسلوه إرسال المسلمات، ولكن لا نجد له معنى
محصلا، لوضوح أن المعلق في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) مثلا هو
الوجوب المحمول على إكرام زيد، والتعليق إنما يدل على انتفاء
نفس المعلق عند انتفاء المعلق عليه كما عرفت، وما تفرضه سنخا إن
كان متحدا مع هذا المعلق موضوعا ومحمولا فهو شخصه لا سنخه،
إذ لا تكرر في وجوب إكرام زيد بما هو هو [1] وإن كان مختلفا معه
[1] أقول: وجوب إكرام زيد على تقدير مجيئه يغاير وجوب إكرامه على
تقدير عدم المجئ بحسب التشخص، مع اتحادهما موضوعا و
محمولا، ولا نعني بالسنخ إلا ذلك. والمعلق على الشرط ليس هو
الانشاء ولا المنشأ بقيد تعليقه على الشرط، حتى يقال بانتفائه بانتفاء
الشرط عقلا ولا يكون معه مجال للبحث عن المفهوم، بل المعلق على
الشرط هو ذات المنشأ وهو وجوب إكرام زيد، وهذا المعنى كما
يمكن أن يتحقق على تقدير تحقق الشرط يمكن أن يتحقق على تقدير
عدمه، بأن يوجد بإنشاء آخر، ففائدة المفهوم نفي تحققه (على
تقدير عدم الشرط) بإنشاء آخر (وبعبارة أخرى) خارجية وجوب إكرام
زيد، وإن كانت بالانشاء، ولكنه يمكن أن يوجد لها فردان
بإنشاءين يكون المنشأ في أحدهما وجوب الاكرام على تقدير
المجئ، وفي الاخر وجوب الاكرام على تقدير عدم المجئ، و
التعليق و
إن كان يفيد انتفاء نفس المعلق (بانتفاء المعلق عليه) لا انتفاء شي
آخر، ولكن المعلق ليس هذا الانشاء ولا المنشأ بقيد التعليق، بل ذات
المنشأ، وهو وجوب الاكرام الذي يمكن أن يتحقق عند انتفاء الشرط
أيضا بإنشاء آخر.
فالظاهر أن المفهوم - على القول به - يثبت في الانشائيات المولوية
أيضا نعم في مثل الأوقاف والوصايا لا
302

موضوعا أو محمولا كوجوب إكرام عمرو مثلا أو استحباب إكرام زيد،
فلا معنى للنزاع في أن قوله: (إن جاءك زيد) يدل على انتفائه،
أو لا يدل، فافهم.
وأما ما ذكره في التقريرات من انتفاء الشخص بانتفاء العبارة، ففيه، إن
المعلق على الشرط إن كان جملة خبرية فالمعلق ثبوت النسبة
في الخارج أعني المحكي، لا الحكاية، والمحكي ثابت في ظرفه، و
إن انتفت الحكاية بانتفاء اللفظ والعبارة، وإن كان حكما إنشائيا
يوجد بنفس هذا الكلام، فهو وإن لم يكن من الحقائق المتأصلة
الخارجية، ولكنه يبقى بعد فنأ اللفظ أيضا في وعاء الاعتبار، فيرى
المكلف شخص الوجوب المنشأ أمرا باقيا يحركه نحو العمل ولا يفنى
بفناء الانشاء والعبارة.
يجري المفهوم لعدم قابلية مال واحد إلا لوقف واحد. ح - ع - م.
303

تعدد الشرط واتحاد الجزاء
إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء كما إذا قال: إذا خفي الاذان فقصر، و
قال أيضا: إذا خفي الجدران فقصر، فبناء على القول بالمفهوم،
تكون في المسألة أربعة وجوه.
الأول: انتفاء المفهوم حينئذ، فيكون كل من الشرطين سببا مستقلا
للجزاء ولا ينفيان الثالث.
الثاني: ثبوت المفهوم في كليهما، وتقييد مفهوم كل منهما بمنطوق
الاخر، فكل منهما سبب مستقل أيضا، ولكن يترتب عليهما نفي
الثالث.
الثالث: تقييد كل من المنطوقين بمنطوق الاخر، فيكون السبب
مجموعهما ولا يكفي أحدهما في حصول المسبب، فإذا انتفى
المجموع من
حيث المجموع لم يتحقق الجزاء.
الرابع: كون السبب هو الجامع بينهما، بمعنى عدم دخالة الخصوصية
في واحد منهما، بل يكون سببية كل منهما من جهة كونه مصداقا لهذا
الجامع.
ثم إنه ليس لأحد أن يلتزم في المثال المذكور بالوجه الأول، إذ قوله:
(إذا خفي الاذان فقصر) وقوله: (إذا خفي الجدران فقصر)، وقد
وردا في مقام تحديد ما يتحقق به القصر، وظهور الشرط الواقع في
مقام التحديد في المفهوم مما لا يكاد ينكر، فتدبر. [1]
وأما الوجه الثاني، ففيه: أن المفهوم بناء على ثبوته أمر تبعي يستفاد
من فحوى الكلام، وليس له ظهور إطلاقي نظير ظهورات الألفاظ،
حتى يخصص أو يقيد.
فيبقى الوجهان الأخيران والأقرب أخيرهما في المثال، إذ الظاهر أن
المعتبر في تحقق القصر هو البعد عن البلد عرفا، بحيث تخفى عليه
آثاره، ويتحقق هذا بطريقين:
أحدهما: طريق يدرك بالبصر، والاخر طريق يدرك بالسمع، فهما
أمارتان لامر يكون هو المعيار في ثبوت القصر، وهو تحقق البعد
المخصوص عن البلد.
[1] بناء على عدم موضوعية لخفاء الاذان ولا لخفاء الجدران، و
كونهما أمارتين لحد واقعي يجب عنده القصر لا يرد هذا الاشكال، إذ
من
الممكن أن يكون لشئ واحد عشر أمارات مثلا فيقتصر في مقام الذكر
على أحدها أو الاثنين منها، ولا مفهوم في البين. ح - ع - م.
304

تداخل الأسباب والمسببات
إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء كقوله: (إذا بلت فتوضأ)، وقوله أيضا:
(إذا نمت فتوضأ) [1] فهل يتداخل السببان: بمعنى أنهما عند
اجتماعهما يستعقبان وجوبا واحدا متعلقا بطبيعة الوضوء، أو لا
يتداخلان، بل يستعقب كل منهما وجوبا مستقلا، وعلى الثاني فهل
يتداخلان المسببان أعني الوجوبين في مقام الامتثال، بمعنى كفاية
الاتيان بالطبيعة مرة واحدة لامتثالهما، أو لا يتداخلان؟ وهذا ما
اشتهر بينهم من أن الأصل تداخل الأسباب أو المسببات أو عدم
التداخل، ومرادهم بالأصل ما تقتضيه القاعدة لولا ظهور الخلاف،
فاختار جماعة، منهم المحقق الخوانساري التداخل، واختار المشهور
عدمه، وفصل الحلي بين اتحاد جنس الشرط وتعدده.
وليعلم أن المسألة غير مبتنية على دلالة القضية على المفهوم و
عدمها، فإن النزاع هنا إنما هو في تداخل المنطوقين، وهذا بخلاف
المسألة السابقة فإنها كانت مبتنية على ثبوت المفهوم، ولا ربط
لإحدى المسألتين بالأخرى، فتفريع شيخنا الأستاذ صاحب الكفاية
النزاع في هذه المسألة على عدم اختيار الوجه الثالث في المسألة
السابقة في غير محله. [2]
الاستدلال لعدم تداخل الأسباب:
وكيف كان فنقول: استدل العلامة في المختلف على عدم التداخل
بأنه إن توارد السببان أو تعاقبا فإما أن يؤثرا في مسببين، أو في
مسبب واحد، أو لا يؤثران أصلا، أو يؤثر أحدهما دون الاخر، والثلاثة
الأخيرة كلها باطلة فتعين الأول، وجه بطلانها، أن الأول منها
ينافي تمامية كل من السببين، والثاني ينافي أصل السببية، والثالث
ترجيح بلا مرجح (انتهى).
[1] يمكن المناقشة في المثال بان وجوب الوضوء وجوب مقدمي
للصلاة وغيرها من الغايات، فلا يجب إلا وضوء واحد قطعا، وليس
واجبا نفسيا عند حصول سببه ح - ع - م.
[2] لا يخفى صحة ما ذكره المحقق الخراساني من عدم المورد لهذا
النزاع بعد اختيار الوجه الثالث في المسألة السابقة إذ بعد تقييد
المنطوقين وإرجاع الشرطين إلى شرط واحد مركب لا يبقى مورد
للبحث عن التداخل. (ثم أنه يمكن أن يقال) في الفرق بين المسألتين:
إن الأولى لفظية ينازع فيها في ثبوت المفهوم وعدمه للقضية الشرطية،
والثانية عقلية، حيث يبحث فيها عن حكم توارد السببين، وإن
ثبتت سببيتهما بغير اللفظ أيضا فتدبر. ح - ع - م.
305

ويمكن أن يناقش فيه بأن لنا أن نختار الوجه الثاني، ونقول باشتراكهما
في التأثير نظير توارد العلل التامة العقلية، أو نختار الوجه
الرابع، ونقول في صورة التعاقب باستناد الأثر إلى أولهما، حيث إنه إذا
أثر لم يبق محل لتأثير الثاني.
وبالجملة: هذا الاستدلال لا يغني عن جوع. واستدل الشيخ
الأنصاري (قده) على عدم التداخل بما ملخصه بتوضيح منا: أن
الظاهر من
الجملة الشرطية كون شرطها علة تامة فعلية لجزائها مطلقا، سواء وجد
حينه أو بعده أمر آخر أم لا، ومقتضى ذلك تعدد المسبب. فإن
قلت: متعلق الوجوبين في الجزاءين طبيعة واحدة وهي التوضؤ مثلا،
والظاهر كونها بإطلاقها متعلقة للامر، والطبيعة الواحدة التي لم
يلحظ فيها جهة الكثرة يستحيل أن يتعلق بها وجوبان مستقلان، إذ كثرة
التكليف إما بكثرة المكلف أو المكلف أو المكلف به، فإن
صرف الشئ لا يتثنى ولا يتكرر، وإنما يتكرر بسبب ماله إضافة إليه،
وللتكليف ثلاث إضافات، - كما عرفت في محله - والمفروض
فيما نحن فيه وحدة المكلف والمكلف والمكلف به، فتستحيل كثرة
التكليف مع وحدتها، وبالجملة: مقتضى إطلاق المتعلق تداخل
الأسباب ووحدة التكليف.
قلت: إطلاق المتعلق إنما هو بمقدمات الحكمة، ومنها عدم البيان، و
ظهور الشرط في السببية التامة يكفي بيانا لرفع اليد عن إطلاق
المتعلق، وبعبارة أخرى: ظهور كل من الشرطين في كونه سببا مستقلا
فعليا يكون واردا على إطلاق المتعلق، ويصير دليلا على عدم
تعلق الوجوب بنفس الطبيعة، بل يكون متعلقا في إحدى القضيتين
بفرد منها، وفي الأخرى بفرد آخر، فظهور الشرط دليل على تقييد
المتعلق [1] انتهى).
[1] فإن قلت: ظهور كل من الشرطين في السببية التامة الفعلية أيضا
بالاطلاق، فإن مقتضى الاطلاق سببيته بهذا النحو، سواء وجد معه أو
بعده شرط آخر أم لا، فلم يحكم إطلاق الشرط على إطلاق المتعلق و
لا يعكس؟ قلت: إذا قال الشارع إذا بلت فتوضأ مثلا فللجملة الشرطية
المذكورة ظهوران: أحدهما ظهور إطلاقي، وهو ظهورها في سببية
البول للوجوب بالسببية التامة الفعلية، سواء وجد معه النوم مثلا أم
لا، وثانيهما ظهور عرفي غير مستند إلى الاطلاق وهو ظهور قوله: (إذا
بلت) في كون كل فرد من البول سببا مستقلا لوجوب الوضوء
في قبال الأبوال الاخر، وهذا ظهور عرفي يفهمه العقلا عند
ملاحظتهم الأسباب العقلية والعادية الخارجية، حيث يكون كل فرد
منها
سببا لوجود فرد من المسبب غير ما وجد بسبب الفرد الآخر، وليس
هذا الظهور مستندا إلى الاطلاق حتى يعارض بإطلاق المتعلق، فهو
القرينة على تقييد المتعلق، وبذلك يفرق بين الأوامر المعلقة على
الأسباب وبين الأوامر الابتدائية المتكررة، حيث لا توجد فيها قرينة
لتقييد المتعلق، وبذلك يستشكل على تقديم التأسيس فيها على
التأكيد. وجه الاشكال أن التأسيس يستلزم تقييد المتعلق والأصل
عدمه.
306

ويقرب من ذلك ما ذكره في الكفاية، إلا أنه قال ما حاصله: إن ظاهر
الجملة الشرطية هو الحدوث عند الحدوث، ومقتضى ذلك عدم
التداخل، إذ على التداخل يلزم - على فرض تعاقب الشروط - رفع
اليد عن ظهور ما سوى الشرط الأول، والقول بدلالتها على مطلق
الثبوت عند الثبوت. ثم تعرض هو (قده) لما تعرض له الشيخ: من كون
ظهور الشرط بيانا لرفع اليد عن إطلاق المتعلق.
أقول: تقريب الشيخ (ره) أبعد عن الاشكال من تقريبه (قده) فإن تقريبه
يجري في الشروط المتواردة والمتعاقبة معا، بخلاف تقريب
صاحب الكفاية، فإنه لا يجري في الشروط المتواردة في زمان واحد،
فإن ظهور الشرطين في الحدوث عند الحدوث حينئذ محفوظ، و
إن قلنا بالتداخل.
ثم اعلم أن كلمات الشيخ - على ما في تقريرات بحثه - مضطربة،
فمن بعضها يستفاد أنه جعل المسبب في المثال المذكور عبارة عن
الوجوب، ومن بعضها يستفاد أنه جعله عبارة عن متعلقه أعني
التوضؤ، ولا يخفى بطلان الثاني. [1]
ومن ذلك يظهر أيضا بطلان ما عن بعض أعاظم العصر: من أن كلا من
السببين يقتضي وضوءا فيتعدد، وجه البطلان أن السبب يقتضي
وجوب الوضوء لا نفسه، فتأمل. هذه كلماتهم
هذا ما يستفاد من كلام الشيخ (قده) عند جوابه عما منع به الفاضل
النراقي للمقدمة الثانية من المقدمات الثلاث التي بني عليها أساس
استدلال العلامة، ولكن يظهر منه - عند عنوانه لمسألة التداخل في
مبحث اجتماع الأمر والنهي - أن ظهور قوله إذا بلت في كون كل
فرد من أفراد البول سببا مستقلا أيضا ظهور إطلاقي، فراجع التقريرات.
ثم إن ما ذكر من الظهور العرفي لا يوجد فيما إذا تعدد الشرط واختلفا
في الجنس كالبول والنوم مثلا، بل الثابت حينئذ هو الظهور
الاطلاقي كما صرح به، فيعارض حينئذ ظهور الشرط لظهور المتعلق، و
لا مرجح لأحدهما، اللهم إلا أن ينكر كون ظهور الشرط في
السببية التامة الفعلية ظهورا إطلاقيا، وهو كما ترى. كما أن إشكال
سيدنا الأستاذ (مد ظله) بعدم ناظرية أحد الشرطين إلى الاخر أيضا
يجري في مختلفي الجنس، دون متحدة، لتسليمه إمكان الامر بفردين
من طبيعة واحدة بخطاب واحد ثبوتا، وإن كان وجوب كل منهما
استقلاليا، فإذا أمكن ذلك ثبوتا حكمنا بتحققه لاستدعاء كل سبب
مستقل مسببا مستقلا، وعلى هذا فمقتضى كلام الشيخ (قده) وكلام
السيد الأستاذ (مد ظله العالي) عدم التداخل في متحدي الجنس،
دون غيره عكس تفصيل الحلي (قده). ح - ع - م.
[1] يستفاد من كلامه (قده) لجعل المسبب نفس الوضوء توجيه متين،
وقد ذكر في الدرر أيضا فراجع ح - ع - م.
307

في المقام.
نقد كلام الشيخ وصاحب الكفاية:
ونحن نقول: إن ما ذكره الشيخ وصاحب الكفاية: من جعل ظهور
الشرطين دليلا على تقييد المتعلق مما لا ينحل به إشكال المسألة، فإن
عمدة الاشكال إنما هي في كيفية تقييد المتعلق وما يقيد به.
توضيح ذلك: أنه لا إشكال في إمكان أن يتعلق بفردين من طبيعة
واحدة وجوب واحد بنحو الارتباط، وكذا لا إشكال في إمكان أن
يتعلق بهما وجوبان مستقلان في عرض واحد بخطاب واحد، بأن
يقول مثلا: (توضأ وضوءين) ويصرح باستقلال كل من الوجوبين،
بحيث يكون لكل منهما على حياله إطاعة وعصيان، ولا يخفى أن
متعلق الوجوبين حينئذ لا يتمايزان، فلا تمايز في مقام الامتثال أيضا،
بمعنى أن العبد إن أتى بوضوء واحد، فقد امتثل واحدا من الامرين من
دون أن يتميز الامر الممتثل من غيره واقعا، ولا خصوصية
لأحدهما حتى يقصد حين الامتثال امتثال الوجوب المتخصص
بالخصوصية الكذائية.
وكيف كان فالامر بفردين أو افراد من طبيعة واحدة على نحو يستقل
كل منهما بوجوب على حدة أيضا مما لا إشكال في صحته إذا كان
الامر بالفردين أو الافراد بخطاب واحد.
وأما إذا كان هنا خطابان أو أكثر، كما إذا ورد في خطاب (إذا بلت
فتوضأ) وفي خطاب آخر (إذا نمت فتوضأ)، فإما أن يقال: إن متعلق
الوجوب في كليهما نفس الحيثية المطلقة أعني طبيعة الوضوء، وإما
أن يقال: إنه في كليهما مقيد، وإما أن يقال: إنه مطلق في أحدهما و
مقيد في الاخر، أما الأول فقد عرفت استحالته على فرض تعدد
الوجوب، إذ الفرض وحدة المكلف والمكلف والمكلف به، فلا يبقى
ملاك لتعدد الوجوب وتكثره، وصرف الشئ لا يتكرر، فلا بد للقائل
بعدم التداخل من الالتزام بأحد الأخيرين، وحينئذ فيسأل عما
يقيد به الطبيعة في أحدهما أو كليهما، وليس لك أن تقول: إن متعلق
الوجوب في أحدهما فرد من الوضوء وفي الاخر فرد آخر منه، فإن
ذلك إنما يصح إذا كان كل من الخطابين ناظرا إلى الاخر بأن يقول
المولى مثلا: إذا بلت فتوضأ وضوءا غير ما يجب عليك بسبب النوم،
ثم يقول: إذا نمت فتوضأ وضوءا غير ما وجب عليك بسبب البول،
بحيث تكون الغيرية مأخوذة في متعلق أحدهما أو كليهما، والالتزام
بذلك مشكل، بداهة عدم كون واحد من الخطابين في الأسباب
المتعددة ناظرا إلى
308

الاخر.
والحاصل: أن نظر القوم إلى بيان ما يكون قرينة على تقييد المتعلق،
مع أن عمدة الاشكال إنما هي في قابلية المتعلق للتقييد، إذ لا مقيد
في البين بالبداهة إلا ما يتوهم من قيد الغيرية، بأن يكون المتعلق
للوجوب في كل من الخطابين عبارة عن طبيعة الوضوء المقيدة بكونها
غير ما هو المتعلق في الخطاب الاخر، وذلك يستلزم نظر كل منهما
إلى الاخر، ولا يمكن الالتزام به.
وبالجملة: العمدة تصوير المقيد لاحد من المتعلقين أو لكليهما، حتى
يتعدد بذلك المتعلق، ويمكن القول بعدم التداخل، فإن أمكن
تصويره بدون أن يكون أحدهما ناظرا إلى الاخر وصلت النوبة إلى
مقام الاستظهار وبيان أن ظهور الشرط أقدم أو ظهور المتعلق و
إطلاقه، فتدبر.
309

تطابق المفهوم مع المنطوق
لا إشكال في أن المفهوم - بناء على ثبوته - عبارة عن انتفاء عين
الحكم الذي ثبت لموضوع خاص عند انتفاء المعلق عليه.
وبعبارة أوضح: لا بد فيه من أن يطابق المنطوق في جميع القيود و
الخصوصيات المأخوذة في الموضوع والمحمول والمعلق عليه،
فمفهوم (إن جاءك زيد يوم الجمعة فأكرمه) قولنا: إن لم يجئك زيد يوم
الجمعة فلا يجب إكرامه، ومفهوم (إن جاءك زيد فأكرمه يوم
الجمعة) قولنا: إن لم يجئك زيد يوم الجمعة فلا يجب إكرامه، ومفهوم
(إن جاءك زيد فأكرمه يوم الجمعة) قولنا: إن لم يجئك فلا يجب
إكرامه يوم الجمعة، وهكذا، وهذا مما لا إشكال فيه، إنما الاشكال
فيما إذا كان الموضوع في الجزاء عاما استغراقيا سواء كان الحكم فيه
ثبوتيا، بأن كانت القضية موجبة كلية، أو سلبيا، بأن كانت سالبة كلية،
فوقع النزاع فيه بين صاحب الحاشية على المعالم الشيخ محمد تقي
الاصفهاني وبين شيخنا المرتضى (قدس سرهما) فقال صاحب
الحاشية: إن المفهوم فيه على طبق النقيض المنطقي، فمفهوم
الايجاب
الكلي السلب الجزئي وسلب العموم، ومفهوم السلب الكلي
الايجاب الجزئي.
وقال الشيخ: إن مفهوم الايجاب الكلي السلب الكلي وبالعكس، وقد
جرى النزاع بينهما في مفهوم قوله عليه السلام: (الماء إذا بلغ قدر
كر لم ينجسه شي)، فقال صاحب الحاشية: إن مفهومه أن الماء إذا لم
يكن بقدر الكر ليس بأن لا ينجسه شي من النجاسات، بل ينجسه
شي منها، وهذا لا ينافي عدم تنجسه بملاقاة بعض الأشياء.
ومقتضى كلام الشيخ تنجسه بملاقاة أي شي لاقاه. ولا يخفى أن
نزاعهما إنما هو في كلمة الشئ الواقعة بعد النفي المفيد للعموم، وأما
كلمة الماء فلا نزاع فيها فإن عمومها محفوظ في المفهوم أيضا بلا
ريب، هذا والظاهر أن الحق في المسألة مع صاحب الحاشية، فإنه
المتبادر من موارد استعمال هذه الجمل فلا يستفاد من قوله: الماء إذا
بلغ (إلخ) إلا أن الكرية تكون بحيث توجد في الماء قوة لا يقاومها
ولا يؤثر مع تحققها شي من النجاسات، فمفهومه أنه إذا لم يكن بقدر
الكر ليس بهذه المثابة من القوة الدافعة لجميع النجاسات، فلا
ينافي ذلك عدم تنجسه حينئذ أيضا بملاقاة بعض النجاسات.
310

فإن قلت: لو كانت استفادة المفهوم مبتنية على استفادة العلية
المنحصرة من الشرط - كما هو مسلك المتأخرين - لزم تطابق المفهوم
و
المنطوق في الشمول أيضا، فإن الحكم في الجزاء ينحل إلى أحكام
عديدة، كما هو مقتضى العموم والاستغراقي، والمفروض انحصار
علة
الجميع في الشرط فبانتفائه تنتفي علة جميع هذه الأحكام، فتنقلب
بأجمعها من الايجاب إلى السلب أو بالعكس.
قلت: علية الشرط بنحو الانحصار إنما هي بالنسبة إلى حكم الجميع،
لا كل فرد فرد بالاستقلال، فعلة الموجبة الكلية مثلا تنحصر في
الشرط، وهذا لا ينافي إمكان استناد الحكم في بعض الافراد إلى علة
أخرى عند عدم ثبوت الحكم للجميع.
فإن قلت: الحكم في العام الاستغراقي ليس ثابتا للمجموع، بل لكل
فرد فرد، فإن العام يلحظ فيه مرآة للحاظ الافراد التي هي
الموضوعات حقيقة، ولا دخالة لوصف العموم والاجتماع.
قلت: لا نسلم عدم لحاظ وصف العموم في مقام الحكم، بل الحكم
حكم واحد، وموضوعه أمر وحداني وهو العام، وليس هنا
موضوعات
متعددة وأحكام متكثرة مستقلة [1] ولذا قالوا: إن نقيض السلب
الكلي الايجاب الجزئي، ونقيض الايجاب الكلي السلب الجزئي،
فافهم.
[1] أقول: ربما يقال في جواب الاشكال: إن العام وإن لوحظ مرآة
للحاظ الافراد، ولكنه لا منافاة بين لحاظه كذلك في مقام الحكم، و
بين لحاظه أمرا وحدانيا في مقام التعليق، فالحكم ثابت للافراد، و
التعليق إنما هو بلحاظ المجموع، وبالجملة: التفكيك بين مقام
الموضوعية للحكم وبين مقام التعليق ممكن ثبوتا، فيكون التبادر دليلا
عليه في مقام الاثبات كما يظهر ذلك بالتأمل في مفهوم قولهم:
لو كان معك الأمير فلا تخف أحدا ونحو ذلك من الأمثلة (انتهى).
ويرد عليه: أن المعلق ليس هو الموضوع حتى يقال بلحاظه في مقام
التعليق أمرا وحدانيا، بل المعلق في جميع التعليقات هو الحكم
الثابت
للموضوع، والفرض أنه يسلم انحلال الحكم وكثرته، ولم يصدر عن
المولى حكمان أحدهما على الافراد والثاني على العام بما هو عام،
حتى يقال بكون التعليق بلحاظ الثاني، فافهم.
فالحق في الجواب ما ذكره سيدنا الأستاذ العلامة (مد ظله العالي) إذ ما
اشتهر بينهم من أن العام في العمومات الاستغراقية ليس
موضوعا حقيقة بل يكون مرآة للحاظ الافراد - التي هي الموضوعات
حقيقة - كلام خال عن التحصيل، لاستلزامه صدور أحكام غير
متناهية وتحقق إرادات غير متناهية أو غير محصورة فيما إذا حكم
المولى بنحو القضية المحصورة، أو صدور إخبارات غير محصورة
فيما إذا أخبر كذلك، ويلزم عليه أيضا عدم كون الموجبة الجزئية
نقيضا للسالبة الكلية وبالعكس، وهو كما ترى. وقد حقق في محله أن
القضية المحصورة برزخ بين الطبيعية وبين القضايا الشخصية، وأن
الحكم فيها يصدر بنحو الوحدة على موضوع وحداني، من غير فرق
بين الحكم الانشائي والاخباري، والتكثر يحصل بتحليل العقل. ح -
ع - م.
311

الفصل الثالث:
مفهوم الغاية والاستثناء
لا يخفى أن القيود في الدلالة على الدخالة في الحكم وثبوت المفهوم
مختلفة، حتى كادت دلالة بعضها من شدة الظهور تدخل في الدلالة
المنطوقية، ولذا اختلفوا في دلالة الغاية والاستثناء - خصوصا في
الكلام المنفي - في أنها منطوقية أو مفهومية، فمن قال إنها منطوقية
استدل عليه بأن أداة الغاية وضعت لتعيين انتهاء الحكم، وبيان عدم
محكومية ما بعدها بما حكم على ما قبلها، وأن أداة الاستثناء وضعت
لبيان مخالفة ما بعدها لما قبلها في الحكم. ومن أنكر كونها منطوقية بل
أنكر دلالتهما رأسا قال: إنهما لا تدلان إلا على أن المولى
يكون فعلا بصدد بيان الحكم، وجعله لما قبلهما فقط، كما أن التقييد
بهما في الاخبارات أيضا لا يدل على حكم المخبر بمخالفة ما
بعدهما لما قبلهما، بل يدل على أن المحكي فعلا هو حكم ما قبلهما،
وهذا يجامع كون ما بعدهما أيضا محكوما بهذا الحكم، غاية الأمر أن
المخبر شاك في حكم ذلك أو لا يرى صلاحا في إظهاره، ونحو ذلك
من الاحتمالات.
وبعبارة أخرى: يمكن أن يكون التقييد بهما من جهة إرادة تحديد
الموضوع الذي أريد فعلا الاخبار بحكمه أو إنشاء الحكم له.
تنبيه:
قال في الكفاية ما حاصله: إنه ربما يستشكل في دلالة كلمة الاخلاص
على التوحيد، بتقريب: أن خبر (لا) محذوف وهو إما موجود أو
ممكن، وأيا ما كان، فلا دلالة لها على المقصود أعني نفي الامكان عن
الشريك وإثبات الوجود له تعالى، أما على الأول: فلأنها وإن دلت
على إثبات الوجود له تعالى، ولكنها لا تنفي إمكان الشريك، بل تنفي
وجوده فقط. وأما على الثاني، فلأنها تدل على نفي إمكان
الشريك وإثبات الامكان له تعالى، وهو أعم من الوجود.
312

ثم أجاب عنه بما حاصله أن لفظة (إله) بمعنى واجب الوجود وحينئذ
فنفي الوجود من جميع أفراده إلا الله يدل على نفي الامكان عن غيره
أيضا، إذ لو أمكن وجودها لوجدت إذ المفروض كونها من أفراد
الواجب.
ويرد عليه: أن تفسير كلمة (إله) بمفهوم واجب الوجود مما ينافي
المتفاهم العرفي، فإن مفهوم الواجب من المفاهيم المصطلحة في
العلوم
العقلية، وليس مما ينساق إلى أذهان الاعراب الجهال الذين أمروا
بذكر كلمة الاخلاص في صدر الاسلام.
فالتحقيق أن يقال: إن العرب في صدر الاسلام لم يكونوا مشركين في
أصل واجب الوجود، بحيث يعتقدون وجود آلهة متعددة في عرض
واحد، بل كانت صفات الألوهية ثابتة عندهم لذات واحدة، وإنما
كانوا مشركين في العبادة، حيث كانوا يعبدون بعض التماثيل التي
ظنوا أنها وسائط بينهم وبين الله، وكانوا يعتقدون استحقاقها للعبودية
أيضا، كما يشهد بذلك قوله تعالى حكاية عنهم: ما نعبدهم إلا
ليقربونا إلى الله فكلمة الاخلاص وردت لردعهم عن ذلك فمعناها
نفي استحقاق العبودية عما سواه كما يشهد بذلك معنى كلمة (إله)
فإنها بمعنى المعبود وبالجملة: كلمة الاخلاص لاثبات التوحيد في
العبادة لا في الألوهية، إذ التوحيد في أصل الألوهية كان ثابتا عندهم
قبل الاسلام أيضا، فافهم.
313

المقصد الرابع في العموم والخصوص وفيه فصول:
315

الفصل الأول:
تعريف العموم والخصوص
قال في الكفاية ما حاصله: إن العام قد عرف بتعاريف، وقد وقع فيها
النقض تارة بعدم الاطراد وأخرى بعدم الانعكاس، ولكنه غير
وارد، فإنها تعاريف لفظية لشرح الاسم، لا لشرح الحقيقة، كيف و
المعنى المركوز منه في الأذهان أوضح مما عرفوه به مفهوما و
مصداقا، ولذا يجعل صدق ذاك المعنى على فرد وعدم صدقه على
فرد آخر مقياسا في الاشكال على التعاريف.
ثم عرف (قده) في ضمن كلامه، العموم بأنه شمول المفهوم لجميع ما
يصلح أن ينطبق عليه (انتهى).
أقول: قد ذكر في محله أن كل ما صدق عليه المعرف (بالكسر) يجب
أن يصدق عليه المعرف (بالفتح) وبالعكس.
فهنا قضيتان موجبتان كليتان، وحيث إن ما اعتبروه أولا هو القضية
الأولى، وكان مفادها منع الاغيار، سموا مفادها بالاطراد، من
الطرد بمعنى المنع، ثم سموا مفاد عكسها - أعني القضية الثانية -
بالانعكاس، ولكنهما معتبران في التعاريف الحقيقية، كما لا يخفى.
ثم إنه يرد على ما ذكره تعريفا للعموم - أولا - أن العموم وكذا
الخصوص ليسا من صفات المفهوم والمعنى، بل من صفات اللفظ، و
لكن
باعتبار المعنى ولحاظه.
وثانيا: أن هذا التعريف لا يشمل العمومات التي هي بصيغ الجمع، أو
ما في معناه، فإن لفظ العلماء مثلا يشمل زيدا وعمرا وبكرا إلى
آخر الافراد، ولكنه لا يصلح لان ينطبق على كل واحد منها كما لا
يخفى، فالأجود أن يقال: إنه عبارة عن كون اللفظ بحيث يشمل
مفهومه
لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه مفهوم الواحد، فلفظة العلماء تتصف
بالعموم من جهة كونها بحيث يشمل مفهومها لجميع ما يصلح أن
ينطبق عليه مفهوم واحدها أعني العالم، فتدبر.
317

وقال في الكفاية أيضا ما حاصله: إن العموم بمعنى الشمول ليس في
نفسه منقسما إلى الافرادي والمجموعي والبدلي، وإنما ينقسم إلى
هذه الاقسام باعتبار تعلق الحكم بالعام واختلاف كيفية تعلقه به، فتارة
يتعلق به الحكم بنحو يكون كل فرد موضوعا على حدة، وأخرى
بنحو يكون المجموع موضوعا واحدا، وثالثة بنحو يكون كل واحد
موضوعا ولكن على البدل (انتهى).
أقول: ما ذكره (قده) في غاية الفساد، فإن الموضوع (أعني العام) قبل
أن يلحقه الحكم، بل وقبل أن يتصور الحكم ينقسم إلى الأقسام الثلاثة
بذاته. [1]
توضيح ذلك: أن المفهوم المتصور في الذهن إما جزئي وإما كلي، ثم
الكلي إما أن لا يجعل مرآة لافراده، بل ينظر في نفسه فهو العام
المنطقي، وإما أن يجعل مرآة لها ووسيلة للحاظها، وهو على ثلاثة
أقسام، فإن الوجودات الملحوظة بوسيلة هذه المرآة متكثرة بذواتها
يستقل كل واحد منها في متن الواقع، وحينئذ فقد يكون النظر إليها
بوسيلة هذه المرآة بما هي متكثرات ومستقلات، كما هي كذلك
بذواتها قبل النظر إليها، فالعام أصولي استغراقي، وقد يكون النظر إلى
هذه المتكثرات مع اعتبار وحدة لها فالعام مجموعي، وقد
يكون النظر إليها لا بنحو يقع في عرض واحد، بل بنحو يلحظ كل فرد
منها ولا يقف اللحاظ والنظر عنده، بل ينتقل منه إلى فرد آخر و
هكذا، فيكون المنظور إليه بهذه المرآة هذا أو ذاك أو ذلك إلى آخر
الافراد فيسمى العام بدليا.
وبالجملة: جعل المفهوم مرآة للحاظ أفراده بنحو من هذه الأنحاء
الثلاثة لا يتوقف على لحاظ كونه موضوعا لحكم، بل بعد لحاظه بنحو
منها قد يجعل موضوعا لحكم وقد لا يجعل، فافهم.
تذنيبات:
الأول:
الأصل في العموم كونه بنحو الاستغراق، فإنه لا يحتاج إلى تصور أمر
زائد ومؤنة زائدة وراء جعل المفهوم مرآة للحاظ الافراد، فإنها
بالذات متكثرات ومستقلات ومقتضى ذلك هو الاستيعاب، وهذا
بخلاف المجموعي فإنه يحتاج مع ذلك إلى اعتبار قيد الوحدة في
المتكثرات بالذات، وبخلاف البدلي فإنه يحتاج إلى اعتبار التردد
بينها.
[1] وإن شئت قلت: إن رتبة الموضوع متقدمة على رتبة الحكم، فيجب
أن يكون في الرتبة السابقة ملحوظا بخصوصياته الدخيلة في
موضوعيته التي منها كونه بنحو الوحدة أو الكثرة ونحوهما، نعم يمكن
أن يوجه كلام صاحب الكفاية (قده) بأن أحدا من العقلا لا
يتصور العام ولا يجعله مرآة للافراد بأحد الأنحاء، إلا إذا أراد إثبات
حكم له، وإلا كان تصوره لغوا. ح - ع - م.
318

الثاني:
أن القدماء من الأصوليين كانوا يقصدون بالعام المجموعي كل مركب
ذي أجزأ، ولذا كانوا يمثلون له بمثل الدار ونحوها فتنبه.
الثالث:
الخاص عند القوم لم يكن أمرا مقابلا للعام، حتى يكون بينهما تقابل، و
يكون له لفظ يخصه كالعام، بحيث تنقسم الألفاظ إلى قسمين
ممتازين: قسم منها يسمى بالعام، وقسم آخر يسمى بالخاص، بل
كانوا يريدون بالعام، العام غير المخصص، وبالخاص العام المخصص
بوصف أو استثناء أو نحوهما، فراجع كلماتهم.
319

الفصل الثاني:
ما يدل على العموم
مما يدل عقلا على العموم النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي، فإن
ثبوت الطبيعة بثبوت فرد ما وانتفاءها بانتفاء جميع الافراد، و
هذا واضح. والطبيعة الواقعة في سياقهما مرسلة لا مبهمة فلا نحتاج
إلى إجراء مقدمات الحكمة فيها، وسيأتي تحقيقه في مبحث المطلق
و
المقيد.
ثم إن الأظهر في (لا) التي لنفي الجنس عدم الاحتياج إلى الخبر، كما
أفاده سيبويه، فإن المتبادر من نحو (لا رجل إنما هو نفي طبيعة
الرجل لا نفي الوجود عنها، ويعلم ذلك بملاحظة مرادفها في
الفارسية حيث يعبرون عنها بقولهم (نيست مرد) ولا يقولون (نيست
مرد
موجود).
فإن قلت: الطبيعة من حيث هي ليست إلا هي، لا موجودة ولا
معدومة.
قلت: مرادهم بهذا الكلام أن الوجود والعدم ليسا في مرتبة ذات
الطبيعة، بحيث يحملان عليها بالحمل الأولي، وإلا فهي بالحمل
الشائع
إما موجودة أو معدومة.
فإن قلت: كلمة (لا) من الحروف، والحروف وضعت للارتباطات، و
الربط لا يتحقق إلا بين شيئين، فنحتاج في نحو (لا رجل إلى تقدير
خبر.
قلت: يمكن أن يقال: إن مفاد (لا) في هذه المقامات هو النفي بالمعنى
الاسمي، فإنه المتبادر منها.
320

الفصل الثالث:
هل العام المخصص حجة فيما بقي أو لا؟
ذكر الأقوال وأدلتها ونقدها:
هل العام المخصص حجة فيما بقي أو لا؟ فيه أقوال، منها الحجية
مطلقا، ومنها التفصيل بين التخصيص بالمتصل والتخصيص
بالمنفصل
فيقال: بالحجية في الأول دون الثاني، إلى غير ذلك من الأقوال. و
احتج من نفى الحجية، بأن اللفظ إذا كان له مجازات متعددة وأقيمت
قرينة تصرف عن المعني الحقيقي احتجنا في حمله على إحداها إلى
قرينة معينة، ولولاها صار اللفظ مجملا، إذ حمله على إحداهما - من
دون قرينة تعينها - ترجيح بلا مرجح، فالعام المخصص إذا لم تقم
قرينة على المراد منه كان حمله على تمام الباقي بلا معين، فإنه أحد
المجازات لتعددها، حسب مراتب التخصيص (انتهى).
وأجيب عنه بوجوه:
الأول: أن تمام الباقي أقرب المجازات، فيقدم على غيره.
وأورد عليه في الكفاية: بأنه لا اعتبار بالأقربية بحسب المقدار، وإنما
المدار في باب المجازات على الأقربية بحسب زيادة الانس
الناشئة من كثرة الاستعمال.
الثاني: ما في التقريرات وحاصله أن ما ذكرت إنما يصح إذا كان
التفاوت بين المعنى الحقيقي والمعاني المجازية بالتباين، وأما إذا
كان بنحو الأقل والأكثر كما في العام والخاص فلا مورد لما ذكرت،
فإن دلالة العام حينئذ على كل فرد من أفراده غير منوطة بدلالته
على سائر الافراد، والمجازية على فرض تسليمها إنما هي بواسطة
عدم شموله للافراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله.
وبالجملة: القرينة إنما هي لاخراج بعض الافراد، وأما غير هذا البعض
فهو باق كما كان، إذ الفرض أنه كان قبل التخصيص داخلا، ولم
توجد بالنسبة إليه قرينة صارفة، فالمقتضى للحمل
321

على الباقي موجود، والمانع مفقود (انتهى).
وأورد عليه في الكفاية ما حاصله: أن دلالة العام على كل فرد إنما
كانت بتبع دلالته على العموم والشمول، فإذا لم يستعمل في العموم و
استعمل في الخصوص مجازا، كما هو المفروض والمفروض أيضا أن
كل واحد من مراتب الخصوصيات مما جاز استعمال اللفظ فيه
مجازا كان تعيين بعضها بلا معين ترجيحا بلا مرجح، ولا مقتضى
لظهوره في خصوص تمام الباقي، إذ الظهور إما بالوضع أو بالقرينة،
والفرض انتفاء كليهما بالنسبة إليه.
الثالث: ما اختاره في الكفاية وحاصله: أن العام لا يصير بالتخصيص
مجازا أما في المتصل، فلانه لا تخصيص فيه أصلا، فإن أدوات العموم
تستعمل في العموم دائما، غاية الأمر أن دائرة العموم تختلف سعة و
ضيقا باختلاف المدخول، فلفظة (كل) في (كل رجل عالم) قد
استعملت في العموم كما في قولنا: (كل رجل بلا تفاوت بينهما، وأما
في المنفصل، فلان إرادة الخصوص واقعا لا تستلزم استعمال اللفظ
فيه، إذ من الممكن استعماله في العموم قاعدة حتى يتمسك به عند
الشك، ويكون الخاص مانعا عن حجية ظهوره، لكونه نصا أو أظهر لا
مصادما لأصل ظهوره.
والحاصل: أنه بعد ما استقر ظهوره في العموم لا يرفع اليد عن أصله
بسبب الخاص، فإن الثابت من مزاحمته له إنما هو بحسب الحجية لا
بحسب أصل الظهور، فالعموم مراد من اللفظ بالإرادة الاستعمالية وإن
كان المراد الجدي هو الخصوص (انتهى).
أقول: ويمكن أن يورد عليه أيضا بأن الإرادة الاستعمالية على ما
ذكرت إرادة تصورية، أعني بها إرادة إفناء اللفظ في المعنى
المخصوص، وجعله قالبا له موجبا لتصوره عند تصوره، وتمسك
العقلا بالعام عند الشك ليس أثرا لصرف هذه الإرادة وإن انكشف
عدم مطابقتها للإرادة الجدية، بل يكون أثرا لها بما هي كاشفة عن
الإرادة الجدية التصديقية.
وبالجملة: التمسك بالعام عند الشك إنما هو من جهة استقرار بناء
العقلا على حمل كلام الغير - بما هو فعل اختياري صدر عنه - على
كونه صادرا عنه لغايته الطبيعية العادية، كما مر تفصيله في مبحث
المفاهيم، وحيث إن الغاية الطبيعية للتلفظ بالكلام إرادة إفهام ما هو
ظاهر فيه فلأجل ذلك يحكمون في العام مثلا بأن المراد الجدي فيه
هو العموم.
وعلى هذا بعد ورود التخصيص على العام يستكشف عدم كون ظاهر
اللفظ مرادا جديا، وينهدم أساس أصالة التطابق بين الإرادتين،
فلا مجال حينئذ لان يتمسك بالعام بالنسبة إلى
322

الافراد المشكوك فيها، وإن ثبت كون العموم مرادا بحسب
الاستعمال. هذا مضافا إلى أن ما ذكره في المتصل لا يجري في
الاستثناء،
فهو بحكم المنفصل، كما لا يخفى. وحيث لم يكن فيما ذكروه غنى،
وجب علينا صرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المسألة مع
الإشارة إلى إمكان أن يرجع كلام الشيخ وصاحب الكفاية أيضا إلى ما
نحققه.
استعمال اللفظ في المعاني الحقيقية والمجازية:
وتوضيح المطلب يتوقف على بيان كيفية استعمال الألفاظ في
المعاني الحقيقية والمجازية بنحو الاختصار، حيث إن لتفصيله محلا
آخر.
فنقول: لا يخفى أن المصحح لاستعمال اللفظ في المعنى هو الوضع لا
غير، فاللفظ لا يستعمل دائما إلا فيما وضع له، غاية الأمر أنه تارة
يستعمل في معناه ويكون مراد المتكلم منه إيجاد المعنى الموضوع له
في ذهن المخاطب ليثبت في ذهنه، ويحكم عليه أو به من دون أن
يريد صيرورة هذا المعنى معبرا إلى غيره. وأخرى يستعمل فيما وضع
له ويكون المراد من استعماله فيه انتقال ذهن السامع من اللفظ
إلى معناه الموضوع له، ثم منه إلى معنى آخر يكون هو المقصود
الأصلي، ففي الحقيقة يستعمل اللفظ في معناه، ثم يستعمل معناه في
معنى
آخر من جهة ادعاء المتكلم نحو اتحاد بينهما، ففي هذه الصورة أيضا
لم يستعمل اللفظ إلا فيما وضع له، ولكنه جعل هذا المعنى مجازا و
معبرا يعبره ذهن السامع إلى المعنى الثاني الذي هو المقصود الأصلي
من اللفظ، ويسمى اللفظ في الصورة الأولى حقيقة، وفي الثانية
مجازا، ووجه التسمية ظاهر فإن الحقيقة من حق بمعنى ثبت والمجاز
بمعنى المعبر.
وعلى ما ذكرنا يبتنى أساس جميع المجازات، فليس لنا فيها مورد
يستعمل اللفظ في غير ما وضع له، بل هو يستعمل دائما في نفس ما
وضع له، ولكنه يراد في الاستعمالات الحقيقية تقرر الموضوع له و
ثباته في ذهن السامع، حتى يحكم عليه أو به، وفي الاستعمالات
المجازية صيرورته معبرا يعبره الذهن إلى ما ادعى اتحاده مع
الموضوع له، ويكون هو المقصود الأصلي بالحكم عليه أو به أو
نحوهما.
فالفرق بين الحقيقة والمجاز بعد اشتراكهما في كون اللفظ مستعملا
في نفس ما وضع له، أن الموضوع له في الأول مراد استعمالا و
جدا، وفي الثاني أريد بحسب الاستعمال فقط ثم جعل معبرا للذهن
إلى المعنى الثاني الذي هو المراد جدا بسبب ادعاء الاتحاد بينهما،
فالجملة المشتملة
323

على استعمال مجازي تنحل إلى قضيتين: يستفاد من إحداهما ادعاء
اتحاد المعنى الثاني مع الموضوع له، ومن الأخرى ثبوت المحكوم به
للمعنى الثاني، ومن هنا تحقق اللطافة في المجاز زائدة على الحقيقة،
بحيث قد يبلغ في اللطافة حد الاعجاز، فقولنا: (جاء زيد) يشتمل
على حكم واحد، بخلاف قولنا: (جاء أسد) مع القرينة، فإنه يشتمل
أولا على الحكم بكون زيد بالغا في الشجاعة حدا يصحح جعله من
أفراد
الأسد وإطلاق لفظ الأسد عليه، وثانيا بأنه ثبت له المجئ.
وبالجملة: نحن ندعي في جميع المجازات ما ادعاه السكاكي في
خصوص الاستعارة، ولطافة الاستعمال المجازي من هذه الجهة، وإلا
فصرف إيجاد المعنى المقصود في ذهن السامع بلفظ آخر غير ما وضع
له لا يوجب اللطافة ما لم يتوسط في البين ادعاء اتحاد المعنيين،
فقوله تعالى في مقام بيان تحير بني إسرائيل: ولما سقط في أيديهم
قد أوجب مزية ولطافة، حيث استعمل هذه الجملة فيما وضع له
بعد ادعاء اتحاد هذا المعنى مع ما كانوا عليه من حالة التحير، من جهة
أن سقوط شي في اليد دفعة من دون التفات، من أشد ما يوجب
التحير، فادعى اتحادهما، وقد مر تفصيل ذلك في محله.
استعمال العام وإرادة الخاص:
ثم لا يخفى أن ما ذكرناه سار في جميع أقسام المجاز إلا في استعمال
العام وإرادة الخاص، وأما هو فعلى نحوين:
الأول: أن يستعمل العام ويراد به جدا بعض أفراده من جهة ادعاء كون
هذا البعض هو الجميع نظير أن يقال: جاءني جميع العلماء، ويراد
به فرد كامل منهم، فهذا النحو من استعمال العام وإرادة الخاص داخل
في عداد سائر المجازات، والكلام فيه هو الكلام فيها.
الثاني: أن يستعمل ويراد به جدا بعض أفراده، ولكن لا بحيث يدعى
كون هذا البعض هو الجميع، وهذا كما في جميع العمومات
المخصصة.
والتحقيق فيها: كونها قسما متوسطا بين الحقيقة والمجاز، فإن
المقصود من الاستعمال في الحقائق كما عرفت إيجاد المعنى
الموضوع
له في ذهن السامع ليتقرر فيه ويثبت، والمقصود منه في المجازات
إيجاده في ذهنه ليعبره إلى معنى آخر.
324

وأما في العام فحيث كان لمعناه الموضوع له وحدة جمعية وكثرة لو
حظت بنظر الوحدة كان المقصود من استعمال العام - الذي أريد
تخصيصه - إيجاد هذا المعنى الوحداني المتكثر في ذهن السامع
ليتقرر بعضه في ذهنه، فيحكم عليه ويخرج بعضه الاخر بواسطة
المخصص. فمن قال:
أكرم العلماء، ثم قال: إلا زيدا، كان مقصوده إيجاد جميع العلماء غير
زيد في ذهن المخاطب حتى يحكم عليهم بوجوب الاكرام، وحيث
لم
يكن لهذا المعنى لفظ موضوع مستقلا استعمل لفظة العلماء، حتى
ينتقل ذهن السامع إلى جميع العلماء، الذي هو الموضوع له ثم أتى
بالمخصص، حتى يبقى في ذهنه ما هو المراد جدا، ويخرج منه بسببه
بعضه الاخر.
فتلخص مما ذكرنا أنه في الاستعمالات الحقيقية يراد بقاء المعنى و
ثباته في ذهن السامع بتمامه، وفي الاستعمالات المجازية يراد
انتقال ذهنه من تمامه إلى معنى آخر، وفي العمومات المخصصة يراد
بقاء بعضه في ذهنه، ليحكم عليه وخروج بعضه منه، فهي أمر
متوسط بين الحقيقة والمجاز، إذ لم يرد فيها ثبوت المعنى بتمامه ولا
جعله معبرا ينتقل منه. وتشترك الأقسام الثلاثة في أن اللفظ لا
يستعمل فيها إلا فيما وضع له.
الكل المبعض كالعام المخصص:
ثم أنه يمكن أن يقال: بثبوت ما ذكرناه في العمومات المخصصة، في
جميع المعاني التي لها جهة وحدة وجهة كثرة إذا أريد جدا بعض
المعنى، كما في الكل والجز فإذا استعمل اللفظ الموضوع للكل و
أريد به جدا جز منه بدلالة القرينة يمكن أن يقال: إن اللفظ قد
استعمل
في معناه، حتى ينسبق إلى ذهن السامع نفس المعنى بجميع أجزائه،
ثم يؤتى بالقرينة حتى يخرج بعض الاجزاء من ذهنه ويبقى المراد
جدا، مثال ذلك ما إذا قال مثلا: بعتك الدار إلا هذا البيت أو إلا العشر
منها، فهذا النحو من الاستعمالات متوسط بين الحقيقة والمجاز،
بالمعنى الذي ذكرنا لهما.
وهذا الذي ذكرناه في العمومات المخصصة يمكن أن يكون مرادا
للشيخ (قده)، حيث قال:
إن القرينة لاخراج غير المراد، لا للدلالة على المراد فإنها باقية كما
كانت، وتعبيره (قده) بالمجازية من جهة أن هذا الامر المتوسط
يمكن أن يعبر عنه بالمجاز، حيث لم يرد فيه ثبوت المعنى وتقرره
بتمامه في ذهن المخاطب كما يمكن أن يعبر عنه بالحقيقة لعدم كون
المعنى فيه معبرا لغيره، وإن كان الحق كما ذكرنا عدم كونه حقيقة ولا
مجازا، وبما ذكرنا يتضح فساد ما ذكره شيخنا الأستاذ
325

المحقق الخراساني في مقام الجواب عن الشيخ حيث قال في الكفاية
ما حاصله: إن الظهور إما بالوضع أو بالقرينة، وكلاهما منتفيان في
العام المخصص بالنسبة إلى تمام الباقي.
توضيح الفساد: أن ما ذكره من كون الظهور إما بالوضع أو بالقرينة إن كان
على سبيل منع الجمع فممنوع، لما عرفت من أن اللفظ في
الاستعمالات المجازية يكون مستعملا في نفس ما وضع له، ولكن
بمعونة القرينة وإن كان على سبيل منع الخلو فمسلم ولكن نمنع
انتفاءهما في العام المخصص، بل نحتاج فيه إلى كليهما، فإن دلالته
على البعض المقصود، بسبب وضعه لما هو في ضمنه واستعماله في
الموضوع له، وأما عدم إرادة غيره فيستفاد بالقرينة.
هذا كله إنما هو في بيان المسألة بالتقريب العلمي، وإلا فلو رجعت
إلى العرف والعقلاء رأيتهم لا يشكون في حجية العام المخصص
بالنسبة إلى الباقي، ولا يعذرون العبد لو ترك الباقي معتذرا، بعدم كون
القرينة الصارفة معينة وكون المجازات متعددة بحسب تعدد
مراتب التخصيص، إلى غير ذلك من المفاهيم المسرودة في حجرات
المدارس.
فإن قلت: على ما ذكرت في بيان المجازات (من كونها مستعملة في
نفس الموضوع له) ما هو المسند إليه في مثل (جاء أسد) إذا أريد به
الرجل الشجاع؟ فإن إسناد المجئ إلى المعنى الحقيقي كذب، وإلى
المجازي وإن لم يكن كذبا، ولكنه غير مذكور في اللفظ على ما
ذكرت. قلت: إن المسند إليه هو المراد الجدي، أعني المشبه في
المثال، والدال عليه هو القرينة، ولا يلزم ذكره في اللفظ بلا واسطة،
فافهم).
326

الفصل الرابع:
إجمال المخصص وعدم جواز التمسك بالعام في الشبهات
المصداقية
أقسام المخصص:
تخصيص العام بمخصص متصل مشتبه يخرجه من الحجية بالنسبة
إلى الافراد المشتبهة، سواء كانت الشبهة مفهومية: بأن اشتبه مفهوم
المخصص، أو مصداقية، بأن اشتبه شموله لفرد بعد العلم بشمول
العام له، وسواء كان التردد بين المتباينين، أو بين الأقل والأكثر.
ووجه ذلك: أن الظهور لا ينعقد للعام إلا بعد تمامية الكلام، فلا مجال
للتمسك به حينئذ.
وكذا لا إشكال في عدم جواز التمسك بالعام فيما إذا خصص
بمخصص منفصل وتردد أمره بين المتباينين فلا يجوز التمسك به في
واحد منهما بخصوصه.
نعم يجوز أن يتمسك به لنفي الثالث، إذ عدم حجيته في هذا
بخصوصه وفي ذاك بخصوصه لا ينافي حجيته في أحدهما المردد، و
يترتب
على ذلك عدم جواز إجراء الأصل المخالف في كليهما، ولا فرق فيما
ذكرنا بين أن يكون المفهومان المتباينان متساويين بحسب
المصداق، وبين أن يكون أحدهما أكثر مصداقا من الاخر إذا لم
يتداخلا بحسب المصداق، كما إذا تردد المخصص بين مفهوم له
عشرة
أفراد، وبين مفهوم له عشرون فردا مغايرة بتمامها لهذه العشرة.
وبالجملة التردد بين المتباينين بقسميه يوجب الاجمال في العام
حكما، كما لا يخفى.
وإن تردد المخصص المنفصل بين الأقل والأكثر، بحيث كان الأول
داخلا في ضمن الثاني، فإما أن تكون الشبهة مفهومية وإما أن
تكون مصداقية.
أما في الأولى،
فيجوز التمسك بالعام في غير ما يكون الخاص حجة فيه فعلا - أعني
الأقل -، فإنه من باب مزاحمة الحجة باللاحجة، مثال ذلك ما إذا قال:
أكرم العلماء، ثم قال: لا تكرم الفساق منهم، وتردد الفساق مفهوما بين
مرتكبي الكبيرة فقط، وبين
327

الصغيرة والكبيرة.
وأما في الثانية، فهل يجوز التمسك بالعام في الافراد المشكوك فيها أو
لا؟
فيه خلاف بين الاعلام، مثالها ما إذا قال: أكرم العلماء، ثم قال: لا تكرم
الفساق منهم، وكان زيد عالما مشكوك الفسق. واستدل القائل
بالجواز بما حاصله أن الحجة من قبل المولى لا تتم إلا بعد ثبوت
الكبرى والصغرى معا، والموجود فيما نحن فيه كبريان معلومتان:
إحداهما قوله: أكرم كل عالم، والثانية قوله: لا تكرم الفساق من
العلماء. والظهور وإن انعقد لكل من العمومين، ولكن فردية زيد مثلا
للأول معلومة وللثاني مشكوك فيها، فتنضم هذه الصغير المعلومة إلى
الكبرى الأولى، فينتج وجوب إكرام زيد، وليس في البين حجة
تزاحمها، إذ الفرض أن فردية زيد لموضوع الكبرى الثانية مشكوك
فيها، وصرف الكبرى لا تكون حجة ما لم تنضم إليها صغرى
معلومة، ففي ناحية العام قد علمت الكبرى والصغرى معا، وفي
جانب المخصص قد علمت الكبرى فقط، فالعام حجة في الفرد
المشكوك
فيه ولا تزاحمه حجة.
ونظير ذلك ما ذكره الشيخ (قده) في إجراء أصل البراءة في الشبهات
الموضوعية، حيث قال: إن قوله لا تشرب الخمر لا يكون حجة إلا
على من ثبتت عنده الكبرى والصغرى معا، حتى تنضم إحداهما إلى
الأخرى، فإن صرف الصغرى أو الكبرى مما لا يمكن الاحتجاج بها ما
لم تنضم إلى الأخرى. هذه غاية ما يمكن أن يستدل به للجواز.
وفيه: أن حكم المخصص لا يختص بأفراده المعلومة، بل هو حكم
صدر عن المولى ويكون دالا على أن كل ما هو فرد للفاسق واقعا، فهو
مما لم تتعلق الإرادة الجدية بوجوب إكرامه، وإن كان مرادا بحسب
الاستعمال، فتصير حجية العام مقصورة على غير من هو من أفراد
المخصص واقعا.
لا نقول: إن التخصيص يوجب تعنون العام، بحيث يصير الموضوع
لوجوب الاكرام عبارة عن العالم غير الفاسق بما هو كذلك.
بل نقول: إن من وجب إكرامه فإنما يثبت له الوجوب بما هو عالم، و
لكن العلماء الفساق قد خرجوا بحسب نفس الامر، بحيث لم تبق
بالنسبة إليهم إرادة جدية بوجوب الاكرام وخالف فيها الجد
للاستعمال، فمصداقية كل واحد منهم للعام بما هو عام، وإن كانت
معلومة،
و لكن مصداقيته له بما هو حجة غير معلومة، لكون حجيته مقصورة
على غير من هو فاسق في متن الواقع.
328

وإن شئت توضيح المطلب، فنقول: إن ما ذكره المستدل من عدم
حجية الكبرى بنفسها ممنوع بإطلاقه، فإن الكبرى حجة بنفسها في
مقام تشخيص الحكم الشرعي الكلي، ولا نحتاج في ذلك إلى وجود
الموضوع خارجا.
نعم حجيتها بالنسبة إلى الخارجيات لا تتصور إلا بعد تشخيص
الصغرى، فهاهنا مقامان:
مقام حجية العام بنفسه، ومقام حجيته بالنسبة إلى الخارجيات، و
المحتاج إلى الصغرى هو الثاني دون الأول، فقول المولى: أكرم العلماء
مثلا حجة على العبد، ويجب عليه أن يتصدى لامتثاله، وإن لم يعلم
وجود عالم في الخارج، فيجب عليه أن يتفحص عن وجودهم وعن
حال من شك في كونه منهم.
ومما يدل على ذلك تمسكهم في عدم وجود نفس الكبرى
بالاستصحاب ونحوه، فيعلم من ذلك كونها ذوات آثار، فيستصحب
عدمها
لنفيها، ولو كانت الحجية مقصورة على صورة ثبوت الصغرى كان
صرف الشك فيها كافيا ولم نحتج إلى إثبات عدمها بالاستصحاب.
كيف وهل يعذر العبد إذا سمع من المولى أكرم العلماء وشك في
عالمية زيد، أو في أصل وجود العالم، فترك الاكرام من غير فحص
عن حال زيد أو عن وجود الموضوع معتذرا بعدم ثبوت الصغرى
عنده؟ لا والله.
والسر في ذلك أن وظيفة المولى إنما هي بيان الاحكام الكلية لا
تعريف الصغريات وتشخيصها، فبعد وصول الكبرى إليه قد حصل
كل
ما هو من قبل المولى.
ولذلك بعينه نستشكل على ما ذكره الشيخ (قده) الاجراء البراءة
العقلية في الشبهات الموضوعية، فإن الظاهر عدم جريانها فيها، نعم
تجري فيها البراءة الشرعية.
والحاصل: أن الكبرى الواصلة من قبل المولى حجة على العبد، و
يجب عليه التصدي لامتثالها والفحص عن وجود موضوعها، من دون
أن
يحتاج في حجيتها إلى العلم بوجود الصغرى. نعم في تشخيص حكم
الموجود الخارجي نحتاج إلى العلم بمصداقيته لما هو عنوان
الموضوع.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: إن قوله: لا تكرم الفساق من العلماء، وإن
كان كليا ولم تثبت فردية مشكوك الحكم لموضوعه، ولكنه حجة
صدرت عن المولى، ويكون مفاده عدم وجوب الاكرام في جميع
الافراد الواقعية للفاسق، فتضيق بهذه الحجة الأقوى دائرة الموضوع
الجدي في حكم العام، وتنحصر في غير من صدق عليه عنوان
المخصص واقعا، فكما تكون فردية مشكوك
329

الحكم للمخصص مشكوكا فيها تكون فرديته لما هو المراد جدا من
العام أيضا مشكوكا فيها، فلا يتمسك بواحد منهما لاثبات حكمه وإن
كان كل منهما في إثبات الحكم الكلي حجة.
فإن قلت: بعد ما كان الفرد المشكوك فيه مرادا في ضمن العام بالإرادة
الاستعمالية نتمسك بالقاعدة العقلائية لاثبات حكمه، فإنهم
يحكمون بتطابق الإرادة الجدية للاستعمالية، ما لم يظهر الخلاف.
قلت: إن أردت بما ذكرت إثبات الحكم للفرد المشكوك فيه بما هو
مشكوك الحكم حتى يصير حكما ظاهريا، ففيه: أن الحكم الظاهري
متأخر عن الحكم الواقعي بمرتبتين، فلا يمكن أن يتكفل قوله أكرم
العلماء بوحدته لحكمين طوليين.
وإن أردت بما ذكرت إثبات الحكم للفرد المشكوك فيه، لا بما هو
مشكوك فيه، بل بما أنه فرد من افراد العام حتى يكون حكما واقعيا،
ففيه: أن المفروض خروج أفراد المخصص رأسا من حكم العام، لكونه
حجة أقوى بالنسبة إلى كل ما هو فرد واقعي للفاسق مثلا، وبعد
ما حصل العلم بمخالفة الإرادة الجدية للاستعمالية في كل ما هو فرد
واقعي للمخصص كيف يمكن التمسك بأصالة التطابق في الفرد
المشكوك فيه لاثبات حكمه الواقعي؟ فتدبر
دليل آخر لجواز التمسك ونقده:
ربما يستدل لجواز التمسك بالعمومات في الشبهات المصداقية بوجه
آخر، وحاصله: أن لقوله:
أكرم العلماء مثلا عموما أفراديا يشمل به كل فرد من أفراد العالم، و
إطلاقا أحواليا بالنسبة إلى جميع الحالات الطارئة للموضوع،
فيشمل بسببه معلوم العدالة ومعلوم الفسق ومشكوكهما، ويكون
حجة في جميعها لولا المخصص، وأما المخصص فهو حجة أقوى
على
خلاف العام في خصوص معلوم الفسق، فيبقى معلوم العدالة و
مشكوكهما باقيين تحته لعدم حجية الخاص بالنسبة إليهما (انتهى).
أقول: قد وقع الخلط من هذا المستدل من جهة عدم إحاطته بمعنى
الاطلاق، وسيأتي تفصيله في مبحث المطلق والمقيد.
وإجماله: أن الاطلاق عبارة عن كون حيثية الطبيعة تمام الموضوع
للحكم وعدم دخالة حيثية أخرى فيه، وبعبارة أخرى: الاطلاق عبارة
عن لحاظ حيثية الطبيعة بوحدتها موضوعة للحكم بحيث يكون النظر
مقصورا على ذاتها وتكون مرسلة بالحمل الشائع عن جميع القيود
كما يدل
330

على ذلك معناه اللغوي.
وبعبارة ثالثة: الاطلاق عبارة عن لحاظ الطبيعة بذاتها، ورفض القيود و
إلغائها بأجمعها، وليس معناه اعتبار القيود والحيثيات
المتحدة ودخالتها في الموضوع حتى تصير الطبيعة في كل مورد
بضميمة القيود المنضمة إليها موضوعا للحكم، فيكون الموضوع مركبا
من حيثيات متعددة بعدد العناوين الطارئة.
إذا عرفت هذا فنقول: معنى الاطلاق في قوله: أكرم العلماء كون حيثية
العالم تمام الموضوع للحكم، بحيث لا تكون لحيثية العدالة أو
الفسق أو غيرهما من الحيثيات المتحدة معه دخالة في الحكم أصلا، و
ليس معناه وجود موضوعات متعددة كما يظهر من كلام المستدل.
وقد تلخص مما ذكرنا: عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات
المصداقية للمخصص، وإن ما يتوهم من إثبات الحكم للمشكوك فيه
بأصالة التطابق بين الإرادتين، أو بالاطلاق الأحوالي فاسد جدا، إذ
مقتضى الأول تكفل العموم بوحدته لبيان حكمين طوليين: واقعي و
ظاهري، ومقتضى الثاني كون معنى الاطلاق لحاظ القيود واعتبارها
في الموضوع، وفسادهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس. [1]
[1] لقائل أن يقول: إن أصالة الجد والتطابق بين الإرادة الاستعمالية و
الجدية ليست من الأصول العملية حتى يكون الحكم المستفاد
بسببها حكما ظاهريا محمولا على الشك، بل هي من الامارات، فإن
أصالة الجد في العمومات عبارة أخرى عن أصالة العموم كما لا يخفى،
وهي من الامارات قطعا. نعم بعد تحكيم الخاص على العام ورفع اليد
عنه بسببه من جهة أظهريته لا يبقى مجال للتمسك بالعام فيما
احتمل خروجه منه، فإن المفروض تحكيم الخاص عليه، وليس
معنى التحكيم إلا تقديمه في الحجية في كل ما هو فرد له فتصير
النتيجة
قصر حجية العام على ما بقي، وليس مفاد أصالة التطابق إلا حجية
العام كما عرفت، فقصر حجية العام على ما بقي مساوق لقصر أصالة
التطابق عليه، فيكون الفرد المشتبه شبهة مصداقية لمجرى أصالة
التطابق فلا يجوز التمسك بها وبعبارة أخرى: أصالة التطابق من
الاحكام العقلائية، فحجيتها تدور مدار اعتبارهم، والفرض أنهم
يحكمون الخاص في مقام الحجية على العام، فتصير النتيجة تضييق
مجرى أصالة التطابق في طرف العام، فالشبهة المصداقية للمخصص
شبهة مصداقية لمجراها أيضا، فافهم. فاتضح بذلك عدم جواز
التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
ويمكن أن يقرر الدليل عليه بوجه آخر، وهو: أن أصالة التطابق أصل
عقلائي، وليست حجيتها إلا من جهة السيرة، فحيث اعتبروها
عملنا بها، وحيث ردوها أو شككنا في اعتبارهم لها رددناها، وبذلك
يظهر الفرق بين المخصص اللفظي واللبي، كما ذكر في الكفاية.
فالأقوى هو الفرق بينهما، كيف، ولو لم يجز التمسك
331

ذكر دليلين لعدم جواز التمسك:
وكان بعض مشايخنا (طاب ثراه) يستدل لعدم جواز التمسك، بأن
التمسك بأصالة العموم وعدم التخصيص إنما يصح فيما إذا شك في
تخصيص العام، أو علم بتخصيصه وشك في تخصيص زائد، وما
نحن فيه ليس كذلك، إذ على فرض عدم التمسك بالعام في الفرد
المشكوك فيه لا يلزم تخصيص زائد، فإن إخراج جميع أفراد الفاسق
في المثال السابق بتخصيص واحد لوقوعه بكلمة واحدة وليس
إخراج كل منها بتخصيص مستقل.
وذكر الشيخ (قده) - على ما في تقريرات بحثه - لعدم جواز التمسك
وجها آخر.
وحاصله: أن التمسك بالعموم إنما يصح في الشكوك التي يكون
المرجع لرفعها هو الشارع، كما إذا شك في تخصيص زائد أو في أصل
التخصيص، وأما الشبهة المصداقية فليس رفعها من وظائف الشارع،
إذ ما هو على الشارع إنما هو بيان كلي المخصص، والمفروض أنه
بينه، وأما أن زيدا مثلا داخل في عنوان المخصص أو لا فلا يرتبط
بالشارع، فلا يجوز فيه التمسك بعموم كلامه.
بها حتى في اللبيات لم يبق لنا عام جائز العمل، فإن كل عام مخصوص
عقلا بما إذا لم يزاحم ملاك حكمه بملاك أقوى واقعا، ولا حكم من
الأحكام الشرعية إلا ويحتمل فيه عروض ملاك أقوى يرفع به الحكم
التابع للملاك الأول، فافهم. ح - ع - م.
332

وينبغي التنبيه على أمور
الأمر الأول: المخصص اللفظي واللبي:
قال الشيخ - على ما في تقريرات بحثه - ما حاصله: إن المخصص إما
أن يكون له عنوان وإما أن لا يكون له عنوان: بأن ثبت خروج
بعض الافراد من تحت العام بلا توسط عنوان جامع بينها يكون هو
الخارج حقيقة، وما لا يجوز فيه التمسك بالعام في الشبهات
المصداقية هو القسم الأول دون الثاني، ثم قال: والأكثر تحقق القسم
الأول في المخصصات اللفظية، والقسم الثاني في المخصصات اللبية
(انتهى).
وفي الكفاية لم يجعل الميزان ما له عنوان، وما ليس له عنوان، بل قال
ما حاصله: إن ما ذكرناه من عدم جواز التمسك بالعام إنما هو في
المخصصات اللفظية، وأما اللبية فإن كان المخصص من الاحكام
البديهية للعقل، بحيث يكون كالمتصل بالعام كان حكمه حكم
المخصصات المتصلة في عدم جواز التمسك، وإن لم يكن كذلك،
فالحق فيه جواز التمسك. والوجه في ذلك أن في اللفظيات قد ألقى
المولى بنفسه حجتين، وبعد تحكيم الخاص وتقديمه في الحجية
بالنسبة إلى ما يشمله واقعا يصير العام كأنه كان مقصور الحجية من
أول الأمر وكأنه لم يكن بعام، وهذا بخلاف المخصصات اللبية فإن
الملقى فيها من قبل المولى حجة واحدة، وهي العام، فيجب العمل به
ما لم تقم حجة أقوى، ألا ترى أنه إذا قال المولى: أكرم جيراني وترك
المكلف إكرام واحد منهم باحتمال عداوته للمولى صح للمولى
مؤاخذته وعقوبته، كما لا يخفى على من راجع السيرة والطريقة
المألوفة بين العقلا، التي هي ملاك حجية أصالة الظهور (انتهى).
فقد ظهر لك أن الشيخ (قده) لم يفرق بين اللفظي واللبي بما هما
كذلك، بل فرق بين ما إذا كان للمخصص عنوان وبين غيره، وأما في
الكفاية فجعل ملاك الفرق كون المخصص لفظيا أو لبيا، وغاية ما
تمسك به للفرق بالآخرة هي السيرة.
أقول: وفي كلامهما نظر. أما كلام الشيخ، فلان المخصص إذا لم يكن له
عنوان فكيف يتصور
333

له شبهة مصداقية، بل الامر يدور حينئذ بين قلة التخصيص وكثرته،
فيخرج من محل الكلام.
وأما كلام صاحب الكفاية، فلانا لا نتصور الفرق بين كون المخصص
لفظيا، وبين كونه لبيا بعد كون اللبي أيضا حجة، لان رفع اليد عن
العام بسبب المخصص اللبي ليس إلا لكونه حجة أقوى من العام، و
حينئذ فيصير العام بسببه مقصور الحجية على ما بقي مثل ما ذكر في
المخصص اللفظي، طابق النعل بالنعل. وبالجملة: أي فرق بين أن
يصدر نحو (لا تكرم أعداء المولى) عن نفس المولى، وبين أن يحكم
به
العقل، بعد فرض حجيته على التقديرين، وأقوائيته من العام، وكون
المراد من المخصص - كيف ما كان - أفراده الواقعية، لا العلمية
فقط.
ولقائل أن يقول: إن للحجية - كما ذكرنا سابقا - مرتبتين: (الأولى)
حجية نفس الكبريات والعمومات، وفي هذا المقام لا نحتاج إلى
إحراز الصغريات. (الثانية) حجيتها بالنسبة إلى المصاديق، وفي هذا
المقام نحتاج إلى إحراز المصاديق والصغريات، فلا يكون قوله:
(لا تشرب الخمر) مثلا حجة بالنسبة إلى هذا الفرد الخارجي، إلا بعد
إحراز خمريته، وإن كان نفس الكبرى في حجيتها لا تحتاج إلى
إحرازها، وعلى هذا فالحكم العقلي أيضا على قسمين: الأول: حكم
كلي لا يحتاج العقل في حكمه به إلى إحراز الصغرى، كحكمه بحرمة
إكرام أعداء المولى.
الثاني: حكم جزئي يحتاج في حكمه به إلى العلم بالصغرى والكبرى
معا، كحكمه بحرمة إكرام زيد مثلا، فإنه يحتاج في حكمه به إلى
إحراز عداوة زيد، حتى تجعل هذه صغرى لحكمه الأول، فتنتج حرمة
إكرامه.
إذا عرفت هذا فنقول: بعد أن صدر عن المولى قوله: (أكرم جيراني)
يحتمل أن يكون قد اعتمد في تخصيص حكمه هذا على الحكم
الثاني
للعقل دون الأول، ونتيجة ذلك حجية كلامه في غير ما أخرجه العقل
بحكمه الثاني المتوقف على إحراز الصغرى، فتصير المصاديق
المشتبهة محكومة بحكم العام قهرا. وبعبارة أخرى: يمكن أن يكون
إكرام الجيران في نظر المولى، بمثابة من الأهمية، بحيث تقتضي
إكرام الافراد الذين تحتمل عداوتهم له أيضا احتياطا لتحصيل الواقع، و
إنما الذي لا يجب هو إكرام خصوص من ثبتت عداوته، فاعتمد
في إخراجهم على الحكم الثاني للعقل، ولا دليل على اعتماده على
الحكم الأول له حتى يصير موجبا لاجمال العام.
ولا يخفى عدم جريان هذا البيان في المخصصات اللفظية، إذ الفرض
أن المولى بنفسه قد ألقى المخصص، فلا يمكن عدم اعتماده عليه،
بل يصير حجة أقوى في قبال العام موجبا لقصر حجيته على ما بقي
تحته واقعا.
334

الأمر الثاني: الشك في أن المخصص كاللفظي أو كاللبي؟:
إذا قال: أكرم العلماء، ثم قال: لا تكرم زيدا، فإنه عدو لي، واستفدنا من
التعليل، العموم، فهل هو كالمخصص اللفظي أو يكون وزانه
وزان المخصص اللبي؟ فيه وجهان، ولعل السيرة هنا على جواز
التمسك كالعقلي.
الأمر الثالث: تزاحم العام والخاص:
كل ما ذكرنا إلى هنا إنما هو فيما إذا لم يكن كل واحد من الدليلين تام
الاقتضاء متكفلا لاثبات حكم فعلي على العنوان المذكور فيه،
بحيث يكون هذا العنوان تمام الموضوع له، إذ في هذه الصورة يصير
الحكمان متزاحمين، فيجب الاخذ بكل منهما ما لم يثبت مزاحم
أقوى، ولا يجوز رفع اليد عن الحكم الفعلي باحتمال المزاحم. فإذا
قال: أكرم العلماء، ثم قال: لا تكرم الفساق، وأحرز كون كل من
الموضوعين تمام الموضوع لحكمه، لزم في الفرد المشتبه الاخذ
بحكم العام، فافهم وتدبر جيدا. [1]
الأمر الرابع: جريان استصحاب العدم الأزلي في المقام:
كل ما ذكرناه إنما هو فيما إذا لم يحرز عنوان المخصص إثباتا أو نفيا
بأصل موضوعي، وإلا كان المصداق المشتبه محكوما بحكم
المخصص على الأول، وبحكم العام على الثاني، ففي المثال السابق
إن كان لفسق زيد أو عدم فسقه حالة سابقة صح استصحابه وحكم
على زيد بحكم المخصص أو العام. هذا إذا كان المتيقن في السابق
اتصاف زيد في حال وجوده بصفة الفسق أو عدمه، وأما إذا لم يكن
كذلك فهل يجري استصحاب العدم الثابت قبل وجود زيد؟ فيه كلام
بين الاعلام ويعبرون عن ذلك باستصحاب العدم الأزلي.
وتقريره بوجهين:
الأول: أن يكون المستصحب هو العدم المحمولي، أعني به مفاد (ليس
التامة).
الثاني: أن يكون عبارة عن العدم الربطي، أعني به مفاد (ليس الناقصة)،
ومرادنا بالعدم الربطي ما هو الرابط في القضايا السالبة، فإن
التحقيق عندنا أن الرابط فيها هو نفس العدم، فكما يعتبر في الموجبات
وجود رابط يعبر عنه بكون الشئ شيئا، فكذلك يعتبر في
السوالب عدم
[1] ربما يقال بعدم صحة فرض التزاحم في أمثال المقام مما كان
العموم فيه استغراقيا، لعدم وجود المندوحة في مورد الاجتماع من
أول الأمر
، فيكون التنافي في مقام الجعل، ولا بد فيه من الكسر والانكسار
في مقام الجعل وإنشاء حكم واحد لما هو الأقوى منهما ملاكا. نعم
إذا كان العموم في أحدهما بدليا كان من باب التزاحم، لكون التصادم
في مقام الامتثال، ولتحقيق المطلب محل آخر، فتدبر. ح - ع - م.
335

رابط أي عدم الشئ شيئا. [1]
وما قد يتوهم من كون مدخول السلب في السوالب عبارة عن الوجود
الرابط فاسد جدا، فإن المدخول له هو نفس المحمول، والعدم هو
الرابط، بداهة أنه لا يعتبر في القضية السالبة أزيد من تصور الموضوع و
المحمول والنسبة السلبية، أعني بها سلب المحمول عن
الموضوع، ولا يجب أن يتصور وجود المحمول للموضوع أولا، ثم
يجعل مدخولا للسلب حتى تصير أجزاؤها أربعة:
الموضوع، والمحمول، والوجود الرابط، والسلب، ويعلم ذلك
بملاحظة مرادفها في الفارسية فيقال:
(زيد نيست قائم) ولا يقال: (زيد نيست هست قائم).
والحاصل: أن وزان العدم وزان الوجود، فكما أن الوجود قد يكون
محموليا، كما في الهليات البسيطة، وقد يكون ربطيا كما في
الهليات المركبة، فكذلك العدم قد يكون محموليا وقد يكون
[1] أقول: هذا ما اختاره بعض المتأخرين، وذهب القدماء من القوم إلى
أن القضية السالبة لا تشتمل على النسبة، بل يكون مفادها سلب
النسبة وقطعها لا بأن تعتبر أولا بين الطرفين نسبة ثبوتية ثم ترفع و
تسلب، بل السلب عندهم يتوجه أولا إلى نفس المحمول، ولكن
سلب المحمول عن الموضوع عبارة أخرى عن سلب الانتساب
بينهما، كما أن الموجبة لا يعتبر فيها أولا نسبة ثبوتية ثم تثبت
للموضوع،
بل يثبت فيها أولا نفس المحمول للموضوع، ومع ذلك يقال إن فيها
إيجاب النسبة وإيجادها، والسر في ذلك أن النسبة معنى حرفي
إلي، فلا يتعلق بها لحاظ استقلالي إلا بنظر ثانوي مساوق لخروجها من
كونها نسبة بالحمل الشائع، فالذي يتوجه إليه الذهن أولا ويراه
مفادا للقضية إنما هو إثبات شي لشئ أو سلبه عنه، ثم بالنظر الثانوي
يرى أن الموجبة تشتمل على نسبة وارتباط بين الموضوع و
المحمول، والسالبة لا تشتمل إلا على سلب النسبة والارتباط، لا على
ارتباط يكون بنفسه أمرا عدميا. هذا بعض ما قيل في المقام، و
تحقيق المطلب خارج من عهدة فن الأصول. وربما يستشكل على
مبنى سيدنا الأستاذ (مد ظله العالي) بأن المراد بالعدم الرابط إن كان
صورته الذهنية المتحققة في القضية الذهنية، ففيه: أنها ليست عدما
بالحمل الشائع، بل هي أمر موجود في الذهن، وإن كان المراد به ما
به يرتبط الموضوع والمحمول في الخارج، نظير الكون الرابط في
الموجبات المركبة.
ففيه: أن مقتضى ذلك هو أن يتحقق في الخارج أمر يكون حقيقة ذاته
العدم والبطلان ويكون مع ذلك رابطا بين الموضوع والمحمول،
وهذا واضح الفساد، مع أنه من الممكن أن لا يكون شي من الطرفين
موجودا في الخارج، كما في السالبة بانتفاء الموضوع، فيلزم على
هذا أن يتحقق في الخارج عدم رابط بين عدمين، وفساد هذا أوضح
من السابق.
لا يقال: مقتضى ما ذكرت أن لا تكون السالبة مشتملة على النسبة مع
أن تقوم القضية بالنسبة.
فإنا نقول: لا نسلم توقفها مطلقا على النسبة، بل هي أمر يتقوم ويتحقق
إما بالنسبة أو بسلبها، فمفاد الموجبة تحقق الارتباط بين
الطرفين، ومفاد السالبة عدم تحققه بينهما. ح - ع - م.
336

ربطيا، والأول في السالبة البسيطة، والثاني في السالبة المركبة.
إذا عرفت هذا فنقول: استصحاب العدم الأزلي بناء على صحته إنما
يجري في كلا قسمي العدم، مثال ذلك أن الشارع حكم بأن المرأة
تحيض إلى الخمسين، ثم استثنى من ذلك القرشية، فحكم بتحيضها
إلى الستين، فالعام هو عنوان المرأة والمخصص هو عنوان القرشية،
وحينئذ فقد يجعل المستصحب عبارة عن مفاد الهلية البسيطة، أعني
به العدم المحمولي، فيقال: انتساب هذه المرأة إلى قريش لم يكن
فيستصحب، فالمستصحب حينئذ هو عدم الانتساب المتحقق قبل
وجود المرأة، وقد يجعل المستصحب عبارة عن مفاد الهلية المركبة
أعني به العدم الربطي والنعتي، فيقال:
هذه المرأة لم تكن منتسبة إلى قريش فيستصحب، والمستصحب
حينئذ أيضا هو العدم الثابت قبل وجود المرأة، فالقضية المتيقنة هي
السالبة بانتفاء الموضوع، والمشكوكة هي السالبة بانتفاء المحمول، و
لا يضر ذلك بالاستصحاب بعد اتحاد مفادهما عرفا.
لا يقال: موضوع الحكم الشرعي هو السالبة بانتفاء المحمول، فإثباتها
باستصحاب أصل السلب الجامع، اعتماد على الأصل المثبت.
فإنا نقول: لا نسلم ذلك: إذ ما ذكرت موقوف على لحاظ الوجود في
موضوع القضية الشرعية، ولا دليل على ذلك، بل الموضوع فيها
ظاهرا هو نفس الماهية. نعم هنا شي آخر، وهو أن إثبات السلب
الناقص باستصحاب السلب التام يوجب العمل بالأصل المثبت، فلا
بد
فيما إذا كان الأثر مترتبا على السلب الناقص من أن يستصحب نفسه،
هذا ما ذكروه في المقام.
والظاهر عدم صحة استصحاب العدم الأزلي بكلا قسميه، وانصراف
(لا تنقض) عن مثل هذا الاستصحاب [1] فإن الذي يراد استصحابه
في المقام ليس نفس عدم الانتساب، بل عدم انتساب هذه المرأة، و
الهذية إنما تعتبر عند وجود المشار إليه، ولا هذية للمرأة المعدومة
فلا عرفية لهذا الاستصحاب، وتكون الأدلة منصرفة عنه. وإن شئت
قلت: إن عدم المحمول في حال وجود الموضوع يعتبر بنظر العرف
مغايرا للعدم الذي يفرض في حال عدم الموضوع، فإن الموضوع
للأول أمر يمكن أن يشار إليه بهذا، دون الثاني، ففي الحقيقة ليس لنا
متيقن مشكوك البقاء حتى
[1] لا يخفى أن سيدنا الأستاذ (مد ظله العالي) لا يريد إنكار
الاستصحاب العدمي مطلقا، كما قد يتوهم من منعه استصحاب العدم
المحمولي أيضا في المقام، بل مراده إنكاره فيما إذا كان العدم مضافا
إلى مفهوم لا يعتبر إلا عند الوجود، كمفهوم الهذية فلا عرفية
للاستصحاب حينئذ سواء في ذلك العدم الربطي والمحمولي. ح - ع
- م.
337

يستصحب، فتبين مما ذكرنا: أن استصحاب العدم الأزلي من الأمور
المخترعة في المدرسة، ولا أساس له عند العرف والعقلاء، فافهم.
هل التخصيص يوجب تعنون العام أو لا؟:
اعلم أنه قال شيخنا الأستاذ (طاب ثراه) في هذا المبحث من الكفاية ما
هذا لفظه: (إيقاظ: لا يخفى أن الباقي تحت العام بعد تخصيصه
بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل لما كان غير معنون بعنوان خاص،
بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص كان إحراز المشتبه
منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد - إلا ما شذ - ممكنا
فبذلك يحكم عليه بحكم العام) (انتهى).
ثم ذكر مسألة تحيض المرأة إلى الخمسين، واستثناء القرشية منها.
وذكر بعض أعاظم العصر في بيان عدم تعنون العام أن المخصص إنما
يكون لاخراج الافراد غير المرادة، وأما الافراد الباقية تحت
العام فهي محكومة بالحكم، بما أنها من أفراد العام، فيكون عنوان العام
بالنسبة إلى حكم الباقي تمام الموضوع من غير دخل للمخصص
وجودا أو عدما في ثبوت الحكم له، فالتخصيص بمنزلة موت بعض
الافراد، فكما أن الموت لا يوجب تعنون الموضوع، وإنما يوجب
التقليل في أفراده، فكذلك التخصيص.
أقول: عبارة المحقق الخراساني قد توهم ما يبعد جدا إرادته من مثله،
فإن الظاهر منها في بادي النظر أن العام إذا اتحد مع كل عنوان
سوى عنوان الخاص صار - مقيدا بهذا العنوان - موضوعا للحكم
الثابت للباقي، فيصير كل عنوان طارئ دخيلا في الموضوع، فيلزم
وجود موضوعات غير متناهية وأحكام متعددة بعددها، وهذا واضح
الفساد لا يصدر القول به عن مثله، فيجب حمل كلامه على ما
حكيناه عن بعض المعاصرين. فيكون مراده أن الموضوع للحكم هو
حيثية المرأة فقط في المثال، والخارج منها هو القرشية، وبعد نفي
عنوانها باستصحاب العدم الأزلي يكون حكم العام متبعا، ومراده
(قده) باستصحاب العدم هنا استصحاب العدم المحمولي. ثم إنه يرد
على القول بعدم التعنون، وكون عنوان العام تمام الموضوع أن معنى
تمامية العنوان في الموضوعية دوران الحكم مداره وجودا وعدما،
والمفروض فيما نحن فيه خلاف ذلك، فإن عنوان العام متحقق في
ضمن أفراد المخصص أيضا، وليست مع ذلك محكومة بحكمه. و
بعبارة أوضح: في مقام الثبوت والإرادة الجدية إما أن يكون تمام
الملاك في وجوب الاكرام مثلا هو حيثية العالمية فقط، وإما أن
338

لا يكون كذلك، بل يشترط في ثبوت الحكم للعالم عدم كونه فاسقا،
فعلى الأول لا معنى للتخصيص، وعلى الثاني لا يكون عنوان العام
بنفسه تمام الموضوع، بل يشترط في ثبوت الحكم له عدم عنوان
المخصص بالعدم النعتي أو المحمولي، فعدم المخصص - إجمالا -
بأحد
النحوين دخيل ثبوتا، وهذا معنى التعنون وعدم كونه تمام الموضوع.
ثم إن الظاهر دخالة العدم بنحو النعتية والربطية، فإن حكم المخصص
ثابت لوجوده الربطي، وانتفاء الوجود الربطي بالعدم الربطي،
فالتحيض إلى الستين مثلا ثابت للمرأة الموصوفة بالقرشية، وبإزاء هذا
الوجود الربطي العدم الربطي، فبضم المخصص إلى العام
يستظهر أن التحيض إلى الخمسين إنما يكون للمرأة الموصوفة بعدم
الانتساب إلى قريش، فيتعنون الموضوع بالعدم الربطي والنعتي،
وقد عرفت أنه لا مجال للاستصحاب في ذلك إلا إذا كان بنحو الربطية
متيقنا في السابق مع وجود الموضوع.
وأما تنظير بعض الأعاظم التخصيص بموت بعض الافراد فعجيب،
فإن انعدام بعض الافراد لا يوجب تقيدا في موضوع الحكم ولا
يخرجه
من كونه تمام الموضوع، وهذا بخلاف التخصيص، فإنه يخرجه من
التمامية كما عرفت. وكيف كان فلا يعقل كون عنوان العام تمام
الموضوع ثبوتا بعد ورود التخصيص عليه. نعم، لا يوجب التخصيص
تقيده في مقام الاثبات، وهذا بخلاف المطلق والمقيد فإن ورود
المقيد يوجب تقيد المطلق في مقام الاثبات أيضا.
الأمر الخامس: التمسك بعمومات العناوين الثانوية:
قال في الكفاية ما هذا لفظه: (ربما يظهر عن بعضهم التمسك
بالعمومات فيما إذا شك في فرد لا من جهة احتمال التخصيص بل من
جهة
أخرى، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف
فيكشف صحته بعموم مثل أوفوا بالنذور فيما إذا وقع متعلقا للنذر بأن
يقال: وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر للعموم وكل ما يجب
الوفاء به لا محالة يكون صحيحا للقطع بأنه لولا صحته لما وجب
الوفاء
به، وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الاحرام والصيام قبل الميقات
وفي السفر إذا تعلق بهما النذر كذلك، والتحقيق أن يقال: إنه لا
مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتكفلة لاحكام العناوين الثانوية
فيما شك من غير جهة تخصيصها إذا أخذ في موضوعاتها أحد
الاحكام المتعلقة بالافعال بعناوينها الأولية كما هو الحال في وجوب
إطاعة الوالد والوفاء بالنذر وشبهه في الأمور المباحة أو الراجحة،
ضرورة أنه معه لا يكاد يتوهم عاقل أنه إذا شك في رجحان شي أو
حليته جاز التمسك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في
رجحانه أو حليته.
339

نعم، لا بأس بالتمسك به في جوازه بعد إحراز التمكن منه والقدرة
عليه فيما لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلا (انتهى). [1]
أقول: ليت شعري على أي شي حمل المحقق الخراساني كلام هذا
البعض، حيث استوحش منه، وقال: إنه لا يكاد يتوهم عاقل ذلك، مع
أن
ما ذكره هذا البعض ليس إلا تمسكا بالعام في الشبهات المصداقية
للمخصص المنفصل، وقد التزم جم غفير بجوازه، فليس الالتزام به
موجبا للوحشة، ولذلك اهتم المتأخرون حتى نفسه (قده) بالمسألة،
كما مر.
ووجه كون ما نحن فيه من جزئيات تلك المسألة ظاهر، فإن قوله:
(أوفوا بالنذور) عام، وقد خص - بسبب قوله: (لا نذر إلا في طاعة
الله) - بما إذا كان متعلقه راجحا فيكون التمسك بالعام والحكم
بوجوب الوفاء فيما شك في رجحانه، تمسكا بالعام في الشبهة
المصداقية للمخصص.
نعم كأن غرض هذا البعض مضافا إلى الحكم بوجوب الوفاء إثبات
رجحان العمل وصحته في غير مورد النذر أيضا، لكن هذا أمر آخر
يمكن أن يلتزم به من يعمل بلوازم العموم ومثبتاته،
[1] ربما يقرر مقصود صاحب الكفاية (قده) بأن المنذور في المثال
ليس هو صرف الغسلات، بل ما يكون وضوءا شرعيا، والقدرة عليه
إنما هي بعد تشريع الشارع إياه، والمفروض أنه مشكوك فيه، فالشك
إنما يكون في القدرة، وهي مما لا يمكن إثباتها بالعموم، وإن
قلنا بجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص (انتهى)
أقول: هذا صحيح لو لم يكن جعل القدرة بيد الشارع، وأما إذا كان
بيده، كما فيما نحن فيه أمكن التمسك بعموم أوفوا بالنذور و
استكشاف تشريعه له بدلالة الاقتضاء. نعم لا يجوز التمسك نظرا إلى
ورود المخصص، فليس الاشكال في المسألة زائدا على إشكال
التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، هذا والظاهر أن نظر صاحب
الكفاية (قده) في المقام إلى أمر آخر، وهو أن جواز التمسك بالعموم
في الشبهات المصداقية (بناء على القول به) إنما هو فيما إذا ثبت
الحكم لنفس عنوان العام، ثم طرأ عليه تخصيص، فحينئذ يمكن أن
يقال بجواز التمسك به في الافراد المشكوك فيها، نظرا إلى أن شمول
عنوان العام لها قطعي، وشمول عنوان المخصص مشكوك فيه، فرفع
اليد عنه بسببه من قبيل رفع اليد عن الحجة باللاحجة.
وأما إذا لم يكن الحكم من أول الأمر ثابتا لنفس عنوان العام، بل أخذ -
ولو بدليل منفصل مع بعض الخصوصيات ومعنونا بعنوان خاص
ثبوتي - موضوعا للحكم، وكان تحقق هذا العنوان الخاص مشكوكا
فيه، فإثباته بعموم الحكم غير معقول، إذ الفرض ثبوت الحكم لعنوان
خاص، وهو في العموم والخصوص تابع لموضوعه، ومثال النذر من
هذا القبيل، فإن قوله: (أوفوا بالنذور) وإن كان بحسب الصورة
عاما، ولكنه أخذ في موضوعه بدليل منفصل خصوصية رجحان
المتعلق فوجوب الوفاء ثابت لخصوص ما كان راجحا، فإثبات
الرجحان
بعموم الوفاء من قبيل إثبات الموضوع بحكم نفسه، وهو محال، كما لا
يخفى. ح - ع - م
340

وكيف كان فالمسألة من جزئيات المسألة السابقة، وليس الاشكال فيها
من جهة كون عنوان أولياء أو ثانويا، أو غير ذلك.
اللهم إلا أن يقال: إن وجوب الوفاء بالنذر عبارة عن وجوب الاتيان
بالمنذور، والمنذور فيما نحن فيه ليس هو إتيان صورة العمل فقط،
بل الوضوء الشرعي بالماء المضاف، والمفروض أن مشروعية الوضوء
به وكونه وضوءا شرعيا مشكوك فيه، فإثباته بعموم وجوب
الوفاء بالنذور تمسك بالعام فيما شك في كونه من أفراده، وهو مما
يجب أن يستوحش منه.
ثم قال في الكفاية ما حاصله: إن صحة الصوم في السفر بنذره فيه، و
كذا الاحرام قبل الميقات فإنما هي من جهة الدليل الدال على
صحتهما. هذا في مقام الاثبات، وأما في مقام الثبوت فيمكن أن تكون
صحتهما من جهة رجحانهما ذاتا في السفر وقبل الميقات، غاية الأمر
أنه كان للامر بهما ندبا أو وجوبا مانع يرتفع بالنذر، كما يمكن أن
تكون صحتهما من جهة صيرورتهما راجحين بسبب تعلق النذر
بهما بعد ما لم يكونا كذلك. ويدل على قوة الثاني ما ورد من أن
الاحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت. [1]
لا يقال: لا تجدي صيرورتهما راجحين بذلك في عباديتهما، فإن
وجوب الوفاء بالنذر توصلي، ولا شك أن الصوم والاحرام تعبديان،
فإنه يقال: عباديتهما ليست بالامر النذري، بل من جهة كشف دليل
صحتهما عن عروض عنوان راجح عليهما ملازما لتعلق النذر بهما،
هذا
بناء على اعتبار الرجحان في متعلق النذر مع قطع النظر عن نفس
الرجحان النذري. ولكنه يمكن أن يقال بكفاية الرجحان الطارئ
عليهما من قبل النذر في عباديتهما، بعد تعلق النذر بإتيانهما عباديا، و
عدم تمكن المكلف من إتيانهما كذلك قبل النذر لا يضر بعد
تمكنه منه بعده، فإنه لا يعتبر في صحة النذر إلا التمكن من الوفاء ولو
بسببه (انتهى).
أقول: لا يخفى أن الاحرام قبل الميقات صحيح عند العامة، بل
يجعلونه أفضل من الميقات ولكنه فاسد عندنا بالأخبار الواردة فيه، و
أما
إذا تعلق به النذر فقد دلت الاخبار على صحته.
ثم إن في جعل مسألتي الاحرام قبل الميقات والصوم في السفر
مؤيدين لما نحن فيه نظرا، فإن الصوم في السفر والاحرام قبل الميقات
فاسدان قطعا، وإنما يصحان في حال النذر فقط، فكيف تصير
صحتهما في هذه الحالة مؤيدة لصحة الوضوء بالماء المضاف مثلا
عند
عدم تعلق النذر به.
[1] ويضعف الأول أيضا بأنه يلزم عليه كونهما مشروعين قبل تعلق
النذر بهما أيضا، لوجود الملاك. ح - ع - م.
341

نعم، يمكن أن يؤيد بها صحته في حال النذر فقط. وليعلم أيضا أن ما
التزمه في الكفاية أخيرا من تعلق النذر بإتيان الصوم والاحرام
عباديا، وكفاية نفس الامر النذري في إتيانهما كذلك تجري فيه
إشكالات باب التعبدي والتوصلي وهو (قده) مع إيراده الاشكالات
في ذلك الباب (من الدور وغيره) التزم هنا بما تجري فيه الاشكالات
بعينها، فتدبر.
الأمر السادس: دوران الامر بين التخصيص والتخصص:
ما ذكرناه سابقا من جواز التمسك بالعام أو عدم جوازه إنما كان فيما إذا
أحرزت فردية زيد مثلا للعام وشك في حكمه، من جهة
احتمال كونه من أفراد المخصص.
وأما إذا كان هنا عام ذو حكم، وعلمنا بعدم كون زيد محكوما بحكمه،
ولكن شك في كونه من أفراده حتى يكون خروجه بالتخصيص،
أو عدم كونه كذلك حتى يكون خروجه بالتخصص، فهل يثبت بأصالة
العموم عدم كونه من أفراده وتترتب عليه آثار ذلك أو لا؟ فيه
كلام: قال في الكفاية ما حاصله بتوضيح منا: إن مثبتات الأصول
اللفظية وإن كانت حجة ولكن حجية أصالة العموم إنما هي من باب
بناء
العقلا، والمتيقن من بنائهم على العمل بها إنما هو فيما إذا شك في
المراد من جهة الشك في إرادة العموم، لا فيما إذا علم بالمراد وشك
في كيفيتهما وأنها بنحو التخصيص أو التخصص (انتهى).
أقول: قد عرفت سابقا أن استعمال اللفظ على ثلاثة أنحاء:
الأول: أن يستعمل في معناه الموضوع له ليتقرر بنفسه في ذهن
السامع، من جهة كونه مرادا جديا.
الثاني: أن يستعمل فيه ليجعل معبرا يعبره ذهن السامع إلى معنى آخر
يكون هو المراد جدا.
الثالث: أن يستعمل في معناه ويكون المقصود تقرر بعض المعنى في
ذهن السامع، ليحكم عليه وخروج بعضه الاخر، من جهة عدم إرادته
جدا، وهذا القسم إنما يتصور فيما إذا كانت للمعنى وحدة جمعية و
كانت متكثرة في عين الوحدة، كالعام الافرادي أو المجموعي، و
الاستعمال على النحو الأول حقيقي، وعلى الثاني مجازي، وعلى
الثالث لا هذا ولا ذاك، وقد عرفت تفصيل الانحاء الثلاثة سابقا
فراجع.
وكيف كان فالعام المخصص من القسم الثالث فهو أيضا يستعمل في
نفس معناه الموضوع له، أعني به جميع الافراد، غاية الأمر أنه لما
كان المقصود بالحكم عليه بعض أفراده أتي بالمخصص
342

حتى تخرج بسببه الافراد غير المرادة ويبقى الباقي، فالتخصيص ليس
عبارة عن تضييق المستعمل فيه، بل هو عبارة عن تضييق المراد
الجدي، والمستعمل فيه ليس إلا جميع الافراد، وهو وإن كان معنى
وحدانيا، لكنه لما كان عين الكثير خارجا كان المستعمل فيه بحسب
الحقيقة هو المتكثرات، وعلى هذا فإن علمنا بكون الجميع مرادا
جديا أيضا فهو، وإلا جرت بالنسبة إلى كل فرد شك في حكمه أصالة
تطابق الإرادة الجدية مع الاستعمالية، حتى أنه لو علم بخروج بعض
الافراد، وشك في بعضها الاخر جرى بالنسبة إلى هذا المشكوك فيه
ذلك الأصل العقلائي، فليس في العام أصل عقلائي وحداني، بل
تجري فيه أصول عقلائية متعددة بعدد أفراده.
وبالجملة: حجية العام تتقوم بأمرين: (أحدهما) وضعه للعموم وكونه
مستعملا في العموم دائما، (والثاني) جريان الأصل العقلائي
المذكور في كل فرد فرد منه، بمعنى أن كل فرد علمت إرادته جدا فهو،
وكل ما علم عدم إرادته فلا إشكال فيه أيضا، وأما كل فرد شك
في حكمه، فتجري فيه أصالة التطابق، فيكون محكوما بحكم العام،
فأصالة العموم أصل عقلائي مرجعه إلى استقرار سيرة العقلا على
الحكم بتطابق الإرادتين، وكون ما هو المراد بحسب الاستعمال مرادا
جديا.
إذا عرفت هذا تبين لك عدم جواز التمسك بأصالة العموم لنفي فردية
شي للعام إذ لم يرد في آية أو رواية لفظ أصالة العموم، حتى
ينازع في أنها تشمل لما نحن فيه أو تختص بصورة الشك في المراد،
بل الثابت ليس إلا بناء العقلا على إجراء أصالة التطابق بين
الإرادتين في كل فرد، ولا محالة يختص ذلك بما إذا أحرزت فردية
شي للمستعمل فيه وشك في كونه مرادا بحسب الجد.
وأما إذا شك في فردية شي للعام مع العلم بعدم كونه محكوما
بحكمه فلا مجال للتمسك بلفظ العام، ولا بالأصل العقلائي لاثبات
فرديته أو نفيها، فإن لفظ العلماء مثلا قد استعمل في جميع أفراد
العالم، وأما أن زيدا من جملة أفراده أو لا فمما لا يتكفل له لفظ
العلماء.
وأما الأصل العقلائي فإنما يجري بعد إحراز كونه من أفراد المستعمل
فيه، والمفروض كون ذلك مشكوكا فيه، مضافا إلى أن مفاد
الأصل العقلائي، كما عرفت تطابق الإرادة الجدية للاستعمالية وكون
الفرد محكوما بحكم العام، فلا مجال لان يتمسك به لنفي فرديته
له.
فتلخص مما ذكرنا أن المتحقق في العمومات أمران: أحدهما صيغة
العموم المستعمل في العموم دائما، والثاني الأصل العقلائي الحاكم
بتطابق الإرادتين وهو معنى أصالة العموم،
343

ولا يتكفل واحد من الامرين لنفي فردية شي أو إثباتها، فافهم وتأمل
جيدا.
الأمر السابع: دوران المخصص بين فردين:
إذا قال: (أكرم العلماء) ثم قال: (لا يجب إكرام زيد) فتردد ذلك بين
شخصين مسميين بزيد: أحدهما عالم، والاخر جاهل، فالظاهر أنه
يجب العمل بعموم العام وإكرام زيد العالم، إذ العام حجة ما لم تنهض
في قباله حجة أقوى، والمفروض أن الفرد المرخص فيه مجمل
مردد بين زيد العالم وغيره، فلا حجة في البين في قبال العام.
هذا إذا كان الحكم الثاني ترخيصيا، وأما إذا كان إلزاميا كما إذا قال: لا
تكرم زيدا، فيقع فيه الاشكال من جهتين:
الأولى: أنه هل يجب إجراء حكم العام على زيد العالم، أو يكون العلم
الاجمالي بحرمة إكرام أحد الشخصين موجبا لاجمال العام أيضا؟
الثانية: أنه بناء على العمل بالعموم بالنسبة إلى زيد العالم هل ينحل
العلم الاجمالي بسبب عموم العام ويحكم بكون المراد من زيد الذي
حرم إكرامه هو الفرد الجاهل، حتى تترتب عليه آثار العلم بحرمة
الاكرام تفصيلا أو لا ينحل؟ يمكن أن يقال: بحجية العام في الفرد
العالم، لعدم وجود حجة أقوى على خلافه، ولا عذر للعبد في رفع
اليد عن عموم العام، هذا بالنسبة إلى الجهة الأولى، وأما بحسب
الجهة
الثانية ففي جواز الحكم بانحلال العلم الاجمالي نظر، لما عرفت من أن
الثابت من بناء العقلا إنما هو الحكم بتطابق الإرادتين فيما إذا
ثبتت فيه الإرادة الاستعمالية، وأما تكفله لنفي فردية شي أو إثبات
حكم آخر فليس ثابتا عند العقلا، وكون الأصول اللفظية من
الامارات لا يقتضي ترتيب جميع لوازمها العقلية، بعد عدم بناء العقلا
على ترتيبها.
وقال بعض أعاظم العصر ما حاصله: إنه ربما يقال: إن العلم الاجمالي
بحرمة إكرام زيد العالم أو الجاهل موجب لترك إكرامهما معا، ولا
يكون عموم العام موجبا لانحلاله، فإن دليل العموم بمنزلة الكبرى
الكلية فلا يتكفل لحال الفرد، وليس حاله حال البينة القائمة على
وجوب إكرام زيد العالم الموجبة لانحلال العلم، فالعلم الاجمالي
موجب لسقوط العام من الحجية بالنسبة إلى زيد العالم. وفيه: أن العام
و
إن لم يتكفل لحكم الفرد ابتدأ، ولكنه يثبت حكمه بعد انضمام
الصغرى المعلومة إلى الكبرى المستفادة من دليل العام، وإذا ثبت له
الحكم الوجوبي بالعموم ارتفع عنه الحكم التحريمي بالملازمة،
فتتعين الحرمة في الطرف الآخر لكون المثبتات من الأصول اللفظية
حجة، فينحل العلم أيضا ببركة العام، إذ الانحلال يتحقق إما بإثبات
الحكم المعلوم
344

بالاجمال في طرف أو بنفيه عنه (انتهى).
أقول: هذا المعاصر لم يعنون الامر السابق، فكأنه كان مبناه فيه أيضا
جواز التمسك بالعام لنفي فردية ما شك في فرديته له، لما ذكره
من حجية مثبتات الأصول اللفظية، وقد عرفت الجواب عن ذلك، و
أن حجيتها من باب بناء العقلا، ولم يستقر بناؤهم على العمل بأصالة
العموم إلا فيما إذا شك في تطابق الإرادتين، فتدبر.
الأمر الثامن: التمسك بعموم (على اليد) في الشبهة المصداقية له:
إذا وقع الاختلاف في كون يد أمينة أو عادية، فالمشهور على أن القول
قول مدعي الضمان، وأن البينة على مدعي الأمانة، وحيث إن ذلك
بحسب الظاهر على خلاف القواعد، إذ القاعدة تقتضي تقديم قول
مدعي الأمانة من جهة أن الأصل عدم الضمان، تصدى بعضهم
لتصحيح
فتوى المشهور، فاستدل لذلك بعموم (على اليد)، ونحن أيضا
تمسكنا به في حواشينا على العروة، ولكنه لا يخفى فساده، فإن
عمومه
مخصص باليد الأمينة، فالتمسك به في اليد المشكوك فيها تمسك
بالعام في الشبهات المصداقية، وليس فتوى المشهور في هذه المسألة
دليلا على إجازتهم لهذا النحو من التمسك لعدم استنادهم في هذه
الفتوى إلى ذلك.
والظاهر أن مستندهم في هذه الفتوى الروايات الواردة في المسألة، و
حيث لم يظفر عليها بعض المتأخرين ذكر وجوها غير مغنية، و
من الروايات رواية ابن أبي نصر عن إسحاق بن عمار عن أبي الحسن
الأول عليه السلام فراجع.
345

الفصل الخامس:
عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص
هل يجوز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص أولا؟ فيه
خلاف، وأول من عنوان المسألة أبو العباس بن سريج المتوفى في
أوائل
المائة الرابعة من الهجرة، وكان هو يقول بعدم الجواز، واستشكل عليه
تلميذه أبو بكر الصيرفي بأنه لو لم يجز ذلك لما جاز التمسك
بأصالة الحقيقة أيضا قبل الفحص عن قرينة المجاز (انتهى).
ولا بد قبل الشروع في تحقيق المسألة من ذكر أمور:
الأول: أن القدماء من الأصوليين كانوا يعنونون في كتبهم مسألة أخرى
بهذا العنوان: هل يجوز اسماع العام المخصص بدون ذكر
مخصصاته أولا؟ والظاهر أن النزاع في المسألة الأولى كان مرتبطا
بالنزاع في المسألة الثانية فمن كان يقول في المسألة الثانية بجواز
اسماع العام بدون اسماع مخصصه كان يقول في المسألة الأولى
بوجوب الفحص، ومن كان يقول في المسألة الأولى بعدم وجوب
الفحص كان يقول في المسألة الثانية بعدم جواز اسماعه بدون اسماع
المخصص، ولعل نظر من ادعى الاجماع على وجوب الفحص إلى
أن وجوبه على فرض جواز اسماع العام بدون اسماع المخصص
مجمع عليه.
الثاني: أن النزاع في المسألة كما في الكفاية إنما هو بعد الفراغ من كون
أصالة العموم حجة من باب الظن النوعي لا الشخصي، وكونها
معتبرة من باب الظن الخاص، لا من باب الظن المطلق، وبعد عدم
وجود علم تفصيلي أو إجمالي بالتخصيص، ووجه اعتبار القيود
الثلاثة واضح.
الثالث: أن النزاع لا ينحصر في العمل بالعام قبل الفحص، بل يجري
في العمل بكل دليل لفظي قبل الفحص عما يعارضه ويزاحم ظهوره،
بل يمكن أن يقال بجريانه في كل أصل لفظي أو عملي، فلا يجوز
العمل به قبل الفحص عن مزاحماته، ولا خصوصية لباب العمومات،
وما
نذكره دليلا لوجوب الفحص يجري في جميع الأصول اللفظية و
العملية، فملاك الفحص ومقدار
346

وجوبه في جميع ذلك واحد، فتدبر.
إذا عرفت هذا فنقول: قال شيخنا الأستاذ (قده) في الكفاية ما حاصله:
إن التحقيق عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص إذا كان في
معرض التخصيص، كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة، و
ذلك من جهة القطع باستقرار سيرة العقلا على عدم العمل قبله، ولولا
القطع فلا أقل من الشك، وأما إذا لم يكن في معرضه، كما هو الحال
في العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات فلا شبهة في أن
السيرة قد استقرت على العمل به بلا فحص عن المخصص (انتهى).
أقول: ما ذكره من كون العام في معرض التخصيص كلام مجمل، فإن
كان المراد بالمعرضية وجود العلم الاجمالي بورود التخصيص على
بعض العمومات، ففيه: مضافا إلى أنه خارج من مورد النزاع، كما مر
آنفا، أنه لو كان المانع عن العمل بالعموم وجود العلم الاجمالي كان
مقتضاه جواز العمل بلا فحص، بعد انحلال العلم بالظفر بمقدار
المعلوم بالاجمال، وهو كما ترى، وإن التزم به بعضهم. وإن كان
المراد
بالمعرضية كون المولى ممن جرت عادته على ذكر المخصصات
منفصلة ولو غالبا، ففيه: أن المولى الكذائي إذا أمر عبده الخاص بأمر
متعلق بالعام، فهل للعبد ترك العمل به معتذرا باحتمال طرؤ
التخصيص؟ لا والله ولا يعده العقلا معذورا.
فالتحقيق أن يقال: - ولعله مراد صاحب الكفاية أيضا - إن التكاليف
الصادرة عن الموالي متوجهة إلى عبيدهم على قسمين:
القسم الأول: ما كان صادرا في موارد خاصة، مثل ما إذا أمر المولى
عبده في مقام خاص بعمل مخصوص، ففي هذا القسم يجب على
العبد
القيام بما يقتضيه ظاهر الخطاب، والدليل على ذلك عدم قبول
العقلا اعتذار العبد الكذائي إذا اعتذر لترك العمل بالعموم بكونه
بصدد
الفحص عن المخصص أو سائر القرائن.
القسم الثاني: ما كان صادرا على نحو ما يجعل القوانين الكلية لجميع
الناس أو لجميع من في سلطنة المولى، وهو أيضا على قسمين:
الأول: ما كان الغرض من جعله العمل به على فرض حصول العلم به و
الاطلاع عليه، ففي هذا القسم أيضا لا يجب الفحص.
الثاني: ما كان الغرض من جعله تفحص العبيد وبحثهم عنه، ثم إجراؤه
والعمل به بعد ذلك، حيث لم يكن مقصورا على من يحصل له العلم
به اتفاقا، بل كان مطلوبا من كل واحد من الناس مطلقا ولاجل ذلك
حث المولى - بعد جعله وتقنينه - على التفقه فيه والنفر لتحصيل
347

العلم به، وأعلن بكرات عديدة عدم معذورية الجاهل به والتارك له
عن جهل، فمثل هذه القوانين يحكم العقل بوجوب تعلمها والبحث
عن حدودها وتقييداتها وتخصيصاتها، إذ قد تم ما كان من قبل
المولى: من بيان الاحكام وبيان حدودها والاعلام بكونها ثابتة لكل
من الحاضر والغائب والموجود والمعدوم إلى يوم القيامة وعدم
معذورية أحد من المكلفين في تركها، وجميع القوانين الدائرة في
العالم من هذا القبيل، حيث تقنن من قبل الهيئة المقننة أولا الضوابط و
القوانين الكلية، ثم تذكر تقييداتها وتخصيصاتها، ثم يعلن بوجوب
الفحص عنها، ثم إجراؤها، ومن هذا القبيل أيضا القوانين الشرعية
الاسلامية، فإن الله تبارك وتعالى أرسل رسوله ليبين الاحكام الكلية
لجميع البشر، وأنزل إليه الكتاب الجامع، وأمر رسوله بنصب الخلفاء و
الأئمة عليهم السلام، لتتميم قواعد الدين وتشييد مبانيها، ثم
أوجب على جميع الناس تعلم الاحكام والنفر لتحصيلها فقال وقوله
الحق: فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و
لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. وقد ورد في
الحديث أنه يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: هلا عملت، فإن قال: لم
أعلم
يقال له: هلا تعلمت. وعليك بمراجعة الآيات والاخبار حتى يظهر
لك أنه كيف وقع فيها الحث على التفقه في الدين وتعلم أحكامه،
فعلى
هذا يجب على العبيد الفحص عن جميع الأحكام بخصوصياتها و
حدودها، ولا عذر في ترك العمل بها عن جهل، فتتبع.
تبصرة: لا فرق بين الفحص فيما نحن فيه، والفحص في الأصول
العملية، فإنهما من واد واحد كما عرفت، والواجب في الجميع هو
الفحص
بمقدار اليأس والاطمئنان بأنه لو كان مزاحم لظفر به، فما في الكفاية
من الفرق بين المقامين، فيه ما لا يخفى، فتدبر.
348

الفصل السادس:
هل الخطابات الشفاهية تشمل المعدومين أو لا؟
هل الخطابات الشفاهية تشمل الغائبين والمعدومين في حال
الخطاب أو لا؟ فيه كلام بين الاعلام.
قال في الكفاية ما حاصله بتوضيح منا: إن محل النزاع يمكن أن يكون
أحد الأمور الثلاثة.
الأول: أن التكليف الذي يتضمنه الخطاب يصح تعلقه بالمعدومين أم
لا؟ فالنزاع حقيقة في صحة تكليف المعدوم.
الثاني: أن الخطاب بما هو خطاب، أعني به توجيه الكلام نحو الغير
سواء كان بأدواته أم لا، هل يصح أن يتوجه إلى المعدومين أو لا؟.
الثالث: أن الألفاظ الواقعة عقيب أدوات الخطاب تشمل بعمومها
المعدومين أو تصير الأدوات قرينة على اختصاصها بالحاضرين في
مجلس التخاطب؟ والنزاع على الأولين عقلي وعلى الثالث لغوي.
إذا عرفت هذا فنقول: أما المسألة الأولى فتتصور على وجوه ثلاثة:
الأول: تكليف المعدوم بمعنى بعثه وزجره فعلا حين كونه معدوما، و
هذا محال بلا إشكال. الثاني: إنشاء الطلب منه بلا بعث وزجر فعلا، و
هذا القسم لا استحالة فيه أصلا، فإن الانشاء خفيف المئونة،
فالحكيم ينشئ على وفق المصلحة طلب شي قانونا من الموجود و
المعدوم حين الخطاب ليصير فعليا، بعد ما وجد الشرائط وفقد
الموانع. الثالث: إنشاء الطلب مقيدا بوجود المكلف ووجدانه
للشرائط، وإمكان هذا القسم أيضا بمكان من الامكان (انتهى ما أردنا
نقله
من كلامه).
أقول: الظاهر أن نظر الباحثين في المسألة والمتنازعين فيها لم يكن إلى
الأمر الأول، فإن عموم التكاليف الشرعية وشمولها إجمالا
للمعدومين كان مفروغا منه بين الفريقين، غاية الأمر أن
349

القائل بعدم شمول الخطاب لهم كان يثبت لهم التكليف في ظرف
وجودهم بأدلة الاشتراك من الاجماع ونحوه، ولا إلى الأمر الثالث،
لعدم كونه معنونا في كلماتهم، فما هو محط نظر الأصحاب هو الأمر الثاني
من الأمور الثلاثة، أعني عموم الخطاب وتوجيه الكلام لمن لم
يكن في مجلس التخاطب، سواء كان حال التخاطب من الموجودين،
أو كان معدوما بالكلية.
وكيف كان فنحن نبحث في مقامين:
المقام الأول: مسألة تكليف المعدوم،
وملخص الكلام فيها أن التكليف الحقيقي بمعنى البعث والزجر
الفعلي بالنسبة إلى المعدوم أمر غير معقول، بداهة عدم إمكان انبعاثه
و
انزجاره في حال عدمه، ولم يقل أحد أيضا بجواز تكليفه كذلك، وأما
إنشاء التكليف بالنسبة إليه فإن أريد به إنشاء الطلب منه في
ظرف عدمه بأن يكون في حال العدم موضوعا للتكليف الانشائي فهو
أيضا غير صحيح، إذ لا يترتب عليه الانبعاث ولا غيره من دواعي
الانشاء حال كونه معدوما، وانبعاثه في ظرف وجوده وتحقق شرائط
التكليف فيه ليس من فوائد إنشاء الطلب منه في ظرف العدم، بل
هو من الآثار المترتبة على إنشاء الطلب من المكلف على فرض
وجوده، فالذي يصح في المقام ويعقل تحققه من المولى الحكيم هو
إنشاء
التكليف بالنسبة إلى المكلف بنحو القضية الحقيقية، بحيث يشمل
الموجود والمعدوم، ولكن لا بلحاظ ظرف عدمه، بل في ظرف
وجوده
وفرض تحققه، ففي قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت من
استطاع إليه سبيلا، ليس وجوب الحج مقصورا على من وجد و
استطاع
حال نزول الآية، بل الحكم فيها يعم الموجود والمعدوم حاله، ولكن
المعدوم في ظرف عدمه لا يكون مشمولا للحكم الفعلي ولا
الانشائي، وإنما يصير مشمولا له على فرض تحققه ووجوده، بداهة
أن الموضوع للحكم الانشائي والفعلي في الآية هو من كان من
الناس وصدق عليه عنوان المستطيع، والمعدوم في رتبة عدمه ليس
من أفراد الناس ولا يصدق عليه أنه مستطيع، فلا تعقل سراية
الانشاء إليه، فإن الحكم المنشأ لا يسري من موضوعه إلى شي آخر.
نعم، إنما يصير المعدوم حال الخطاب في ظرف وجوده وتحقق
الاستطاعة له مصداقا لما هو الموضوع في الآية فيتحقق حينئذ بالنسبة
إليه التكليف الانشائي، وبتحقق سائر الشرائط العامة يصير
فعليا.
والحاصل: أن المعدوم في ظرف عدمه ليس موردا للتكليف بكلا
قسميه، وبعد وجوده
350

وصيرورته مصداقا لما هو الموضوع يصير موردا له، والظاهر أن ما
ذكرناه أمر لا ينكره أحد من الباحثين في مسألة الخطابات
الشفاهية، سواء قيل بعمومها للمعدومين أم لا.
نعم، على الأول يكون ثبوت التكليف لهم في ظرف الوجود من جهة
شمول الخطاب لهم. وعلى الثاني: من جهة الاجماع وغيره من أدلة
الاشتراك، بعد اتفاق الفريقين في عدم ثبوته لهم في ظرف العدم.
وقد ظهر لك مما ذكرنا كيفية جعل الأحكام الشرعية وأنها من قبيل
القضايا الحقيقية بمعنى أن الحكم الشرعي جعل كاللازم للطبيعة
المأخوذة موضوعة، لا بما هي هي، بل بما أنها مرآة وحاكية
لوجوداتها الخارجية فيسري الحكم بسريانها ذاتا، فما لم يصر شي
مصداقا
لعنوان الموضوع لم يكن موردا للحكم، وبعد صيرورته من مصاديقه
يسري الحكم إليه، فالمعدوم في ظرف عدمه ليس موردا للحكم
أصلا.
وانقدح بما ذكرنا أيضا، فساد ما في الكفاية حيث قال: (إن الانشاء
خفيف المئونة، فالحكيم ينشئ على وفق الحكمة والمصلحة طلب
شي قانونا من الموجود والمعدوم حين الخطاب ليصير فعليا بعد ما
وجد الشرائط).
فإن ظاهر كلامه (قده) كون التكليف بالنسبة إلى المعدوم حال عدمه
ثابتا، وبوجوده يصير فعليا، وقد عرفت أن الشئ ما لم يوجد لا
يصير مصداقا لما هو الموضوع، والحكم لم ينشأ، إلا لموضوعه،
فكيف يسري إلى غير الموضوع.
وبالجملة: توجه التكليف الفعلي الحقيقي إلى المعدوم مستحيل، و
لم يقل أحد بإمكانه، وتعلق التكليف بالعنوان الكلي الشامل للموجود
و
المعدوم - ولكن بلحاظ وجوده بحيث يصير في ظرف الوجود موردا
للتكليف - جائز، ولم يقل أحد بامتناعه، سواء كان ثبوته للمعدوم
بنفس الخطاب أو بأدلة الاشتراك. وأما تعلقه بالمعدوم في حال عدمه
ليصير فعليا بعد ما يوجد فهو الذي تظهر من الكفاية صحته، وقد
عرفت بما لا مزيد عليه فساد ذلك أيضا، وكون الصيغة موضوعة
للطلب الانشائي والانشاء خفيف المئونة، لا يثبت صحة إنشاء الطلب
و
وقوعه من الحكيم بالنسبة إلى المعدوم في ظرف عدمه، لما عرفت
من أن انبعاث المعدوم بعد وجوده ناشئ من البعث المتوجه إليه
بلحاظ ظرف الوجود، فإنشاء الطلب منه في ظرف العدم لغو، لا يصدر
عن الحكيم.
فالصحيح من الأقسام الثلاثة التي ذكرها في الكفاية هو القسم الثالث،
ولكن لا بمعنى
351

التكليف إلى المعدوم مشروطا بوجوده، بل بمعنى تعلق التكليف
بنفس العنوان الكلي، بنحو القضية الحقيقية، بحيث كلما وجد فرد من
الموضوع يصير موردا للحكم، فتدبر.
فإن قلت: الطلب من المعاني الإضافية المتقومة بالطالب والمطلوب
منه، فبالنسبة إلى الافراد التي لم توجد بعد لا يمكن أن يصدر الطلب
من قبل المولى فإن الامر الإضافي لا يتحقق إلا بتحقق أطرافه.
قلت: ليس الطلب من مقولة الإضافة التي هي أحد من الاعراض
التسعة، بل هو أمر اعتباري يوجد بإنشائه، ووزانه وزان الأمور
الحقيقية
ذات الإضافة، كالعلم والقدرة والإرادة، فالعلم مثلا ليس من مقولة
الإضافة، بل يكون عرضا وكيفا نفسانيا ثابتا لذات العالم. نعم، له
نحو إضافة إلى المعلوم الخارجي، وإن كان معدوما حال العلم،
فكذلك الطلب أيضا أمر اعتباري يتحقق بإنشاء المنشئ واعتباره،
غاية الأمر
أن له نحو إضافة إلى المطلوب، ونحو إضافة إلى المطلوب منه،
ولكن يكون تقومه بالطالب، حيث إنه فعل من أفعاله ويقوم به
قياما صدوريا، وما هو المتعلق له أولا وبالذات أيضا هو عنوان
الموضوع لا الافراد، إلا أنه لما لوحظ مرآة لمصاديقه يصير كل فرد منه
- بعد وجوده وصيرورته مصداقا له - موردا للطلب قهرا، ويكون نحو
تعلق الطلب به نحو تعلق العلم بالمعلوم بالعرض، كما لا يخفى.
المقام الثاني: مسألة مخاطبة المعدوم وتوجيه الكلام نحوه.
قال في الكفاية ما حاصله: إنه لا ريب في عدم إمكان خطاب المعدوم،
بل الغائب حقيقة، ضرورة عدم تحقق توجيه الكلام نحو الغير
حقيقة إلا إذا كان موجودا، وكان بحيث يتوجه إلى الكلام ويلتفت
إليه، لكن الظاهر أن ما وضع للخطاب مثل أدوات النداء لم يكن
موضوعا للخطاب الحقيقي، بل للخطاب الايقاعي الانشائي،
فالمتكلم ربما يوقعه تحسرا وتأسفا وحزنا، مثل: (أيا كوكبا ما كان
أقصر
عمره)، أو شوقا أو نحو ذلك. نعم، لا تبعد دعوى الظهور انصرافا في
الخطاب الحقيقي، كما هو الحال في حروف الاستفهام والترجي و
التمني وغيرها، على ما حققناه من كونها موضوعة للايقاعي منها
بدواع مختلفة مع ظهورها في الواقعي منها انصرافا إذا لم يكن هناك
ما يمنع عنه، كما تمكن دعوى وجوده غالبا في كلام الشارع، ضرورة
عدم اختصاص الحكم في مثل (يا أيها الناس) بمن حضر مجلس
الخطاب (انتهى).
أقول: الخطاب - كما يستفاد من تتبع موارد استعمالاته العرفية - عبارة
عن توجيه الكلام نحو الغير بقصد إفهام معناه، فمفهوم
المخاطبة ينتزع عن كل كلام ألقي إلى الغير بهذا القصد، سواء
352

كانت في البين أدوات الخطاب أم لا، نعم، مع استعمال الأدوات
كحرف النداء أو كاف الخطاب أو نحوهما يكون الخطاب أوضح و
صدق
عنوان المخاطبة آكد.
وبالجملة: ليس مفهوم المخاطبة من المفاهيم الاعتبارية التي تستعمل
فيها ألفاظ استعمالا إنشائيا، فإن الكلام الصادر عن المتكلم
مشتمل على ألفاظ مفردة، وضع كل منها بإزاء معنى خاص، وله هيئة
خاصة موضوعة بإزاء النسبة، ولم توضع المفردات ولا الهيئة بإزاء
مفهوم المخاطبة، غاية الأمر أنه لما كان الكلام من الأفعال الاختيارية
للمتكلم فلا محالة يكون له - بما أنه فعل من أفعاله - غاية عقلائية،
والغاية الطبيعية العقلائية للتكلم هي إفهام الغير وإعلامه بما في
الضمير، فإذا صدر الكلام بهذا الداعي ينتزع عنه - بما أنه فعل صدر
بهذا الداعي - عنوان المخاطبة، وإن لم يكن صدوره عنه بهذا الداعي
لم يصدق مفهوم المخاطبة. نعم، إذا لم يكن هناك مخاطب حقيقي
يفهم الكلام، ولكن المتكلم نزل شيئا مما لا يمكن خطابه منزلة من
حضر وأريد إفهامه فألقى إليه الكلام - نحو ما يلقى إلى من أريد
إفهامه - لاظهار التحسر أو الشوق أو نحوهما، فيصدق حينئذ مفهوم
الخطاب، ويكون خطابا ادعائيا، فمفهوم الخطاب نظير مفهوم
التكلم والاخبار ونحوهما مفهوم انتزاعي ينتزع عن الكلام بما أنه فعل
صدر بداعي الافهام وليس مما يستعمل فيه اللفظ استعمالا
إنشائيا، حتى يدل عليه اللفظ دلالة لفظية وضعية، وهذا من غير فرق
بين قسميه من الحقيقي والادعائي. غاية الأمر أن الغاية الطبيعية
للتكلم لما كانت هي الافهام يحمل الخطاب على الحقيقي منه ما لم
يثبت كونه ادعائيا، نظير سائر الأفعال الصادرة عن العقلا، حيث
تحمل على كونها صادرة لأجل غاياتها الطبيعية ما لم يثبت خلافه. و
مما ذكرنا ظهر فساد ما في الكفاية من كون الخطاب من الأمور
الايقاعية التي تستعمل فيها الألفاظ بداعي الانشاء.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: لا ريب أن الخطابات القرآنية ليست من قبيل
الخطابات الادعائية الصادرة بداعي إظهار التحسر ونحوه
مثل قوله: (أيا كوكبا ما كان أقصر عمره)، بل هي خطابات حقيقية
صدرت عن الله تعالى بداعي الافهام والاعلام، وحينئذ فيقع الكلام
في أنها تشمل المعدومين حال الخطاب أم لا، وملخص الكلام في
المقام أنه إن أريد بشمولها للمعدوم شمولها له حال كونه معدوما فهذا
أمر مستحيل، لما عرفت من كونها صادرة بقصد الافهام، ولا يعقل
إفهام المعدوم في ظرف عدمه، وإن أريد بشمولها له شمولها لكل
من صدق عليه عنوان الموضوع بعد ما وجد وصار من مصاديقه، وإن
لم يكن موجودا حال التكلم والمخاطبة، فنقول: إن كانت وسيلة
353

الخطاب أمرا غير قار لا يبقى إلى زمان وجود المخاطب، كما إذا
خوطب بوسيلة الألفاظ، ولم تكن في البين وسائل لحفظها وحكايتها،
فهذا أيضا غير معقول، إذ المخاطب في ظرف عدمه لا يقبل الخطاب،
وفي ظرف وجوده يكون الخطاب معدوما، وإن كانت آلة
الخطاب ووسيلته من الأمور القارة، كالكتابة ونحوها، أو كانت بحسب
الذات من الأمور غير القارة كالألفاظ، ولكن كانت في البين
وسائل لحفظها وحكايتها، فحكاها السامعون لمن بعدهم، وهكذا
حفظها ووعاها كل واحدة من الطبقات وأداها إلى من بعدها، فمثل
هذا الخطاب لا مانع من شموله للمعدومين حال الخطاب، بنحو يصير
كل فرد منهم بعد ما وجد وصار من مصاديق الموضوع مشمولا
للخطاب.
والخطابات القرآنية من هذا القبيل، فإنها صدرت عن الله تعالى
بداعي الافهام والاعلام، ونزلت على قلب النبي صلى الله عليه وآله
بوسيلة جبرائيل، وألقاها النبي صلى الله عليه وآله إلى الناس بما أنها
كلمات الله تعالى، ثم إنها بقيت بوسيلة النقل والكتابة معا، حتى
وصلت إلى جميع الناس طبقة بعد طبقة، فيكون الجميع مخاطبين بها
كل في زمان وجوده، فقوله تعالى مثلا: يا أيها الذين آمنوا كلام
ألقي من الله تعالى إلى الذين آمنوا، بداعي إفهام ما تضمنه من الحكم
الشرعي، والمعدوم حال عدمه ليس مصداقا للمؤمن، فلا يشمله
الخطاب، ولكنه بعد ما وجد وصار مؤمنا يصير من مصاديق ما جعل
موضوعا، فيصير ممن أريد إفهامه وإعلامه بنفس هذا الخطاب
الواصل إليه بسبب النقل والوجود الكتبي، فجميع المؤمنين
مخاطبون بنفس هذا الخطاب من قبل الله تعالى، لا من قبل النبي
صلى الله
عليه وآله، فإنه أيضا من الوسائط ونسبته تعالى إلى جميع
الموجودات في جميع الأعصار على السواء، فكل منهم في ظرف
وجوده
حاضر لديه وهو (تعالى) محيط بالجميع إحاطة قيومية وعلمية، لا
يعزب عن علمه مثقال ذرة، وقد أراد بكلامه خطاب الجميع، بحيث
يتلقى كل منهم في ظرف وجوده كلامه (تعالى)، ويفهم مراده ويعمل
بمضمونه، كيف وإلا يلزم أن لا يكون الحاضرون أيضا مخاطبين
بكلام الله تعالى، لعدم حضورهم في مرتبة ذاته المقدسة، وعدم
تلقيهم كلامه تعالى بالوحي، فنسبة الموجودين حال الخطاب إليه
تعالى،
كنسبة الموجودين في الأعصار المتأخرة، وكل منهم قد تلقى خطاباته
تعالى في ظرف وجوده بالواسطة، فالجميع مخاطبون بها في
ظرف وجودهم، ويكون الخطاب بالنسبة إليهم خطابا حقيقيا.
ومن هذا القبيل أيضا الخطابات الصادرة عن المصنفين في مؤلفاتهم
مثل قولهم: (اعلم) أو (تدبر) أو نحوهما، فإنها لما كانت تبقى ببقاء
الكتابة كانت خطابات حقيقية أريد بها إفهام كل من راجع الكتاب،
فافهم وتدبر.
354

وقد ظهر بما ذكرنا فساد ما في الكفاية، حيث يظهر منه شمول
الخطابات الشرعية للمعدومين، باعتبار وضوح عموم الحكم لهم، و
جعل ذلك قرينة على عدم كون تلك الخطابات حقيقية. وجه الفساد
هو ما عرفت من أن شمول الخطابات للمعدومين ليس باعتبار حال
العدم، بل باعتبار ظرف الوجود، كيف ولا يكون المعدوم في ظرف
العدم مصداقا لقوله تعالى: يا أيها الناس مثلا، وفي ظرف وجوده
يكون الخطاب بالنسبة إليه حقيقيا لا ادعائيا، حيث إن الكلام ألقي إليه
بداعي الافهام لا بداعي التحسر وأمثاله، فكيف جعل (قدس سره)
الخطابات القرآنية خطابات إيقاعية غير حقيقية.
تتمة:
ذكرت للنزاع في الخطابات الشفاهية ثمرتان: الأولى: حجية ظواهر
خطابات الكتاب للمعدومين على فرض عمومها لهم. ولا يخفى أن
ترتب هذه الثمرة مبني على ما ذهب إليه المحقق القمي من عدم
حجية الظواهر إلا بالنسبة إلى من قصد إفهامه، وسنحقق في محله أن
ظاهر اللفظ حجة بالنسبة إلى كل من سمعه، سواء قصد إفهامه أم لم
يقصد، وتدل على ذلك سيرة العقلا، فلو أمر المولى واحدا من
عبيده بشئ، وأمره بتبليغ هذا الحكم إلى سائر العبيد أيضا، وكان
سائر العبيد يستمعون ذلك الخطاب من المولى ولكن لم يصل إليهم
بوسيلة العبد، فتركوا ما أمر به المولى وعلم بسماعهم لخطابه، كان
للمولى عتابهم وعقابهم، وليس هذا العتاب والعقاب قبيحا بنظر
العقلا، وليس للعبيد أن يعتذروا بعدم كونهم مقصودين بالافهام، هذه
حال الثمرة الأولى، ولا يهمنا التعرض لثانيتهما فراجع.
355

الفصل السابع:
ما إذا تعقب العام ضمير يرجع إليه باعتبار البعض
إذا كان في الكلام عام موضوعا لحكم، وتعقبه ضمير يرجع إليه
محكوما بحكم آخر، وعلم من الخارج اختصاص الحكم الثاني ببعض
أفراد العام، فهل يخصص العام بذلك أو لا؟ فيه كلام بين الاعلام، وقد
مثلوا له بقوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قرؤ
إلى قوله تعالى:
وبعولتهن أحق بردهن في ذلك البقرة، آية: 228.
قال في الكفاية ما حاصله: إن الامر يدور بين احتمالات ثلاثة:
الأول: أن يتصرف في العام بأن يراد منه خصوص ما أريد من الضمير،
وعليه فلا يلزم تصرف في ناحية الضمير.
الثاني: أن يتصرف في ناحية الضمير بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد
من مرجعه، فيكون من باب المجاز في الكلمة.
الثالث: أن يتصرف فيه بإرجاعه إلى تمام ما أريد من المرجع، مع
التوسع في الاسناد بإسناد الحكم - المسند إلى البعض حقيقة - إلى
الكل توسعا وتجوزا، فيكون من باب المجاز في الاسناد، وحيث إن
المراد في ناحية الضمير معلوم، وإنما الشك في كيفية الاستعمال و
الإرادة، وأنه على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو في الاسناد، و
في ناحية العام يكون الشك في أصل المراد، كانت أصالة الظهور في
ناحية العام بلا مزاحم، لان المتيقن من بناء العقلا هو اتباع الظهور في
تعيين المراد لا في تعيين كيفية الاستعمال (انتهى).
أقول: ويرد عليه، أولا: أن احتمال عود الضمير إلى بعض ما أريد من
المرجع، بحيث تلزم منه المجازية في ناحية الضمير لا يتمشى بعد
الإحاطة على معاني الضمائر. بيان ذلك: أنك قد عرفت في محله أن
الضمائر وأسماء الإشارة والموصولات كلها من واد واحد، وقد
وضعت لان
356

توجد بها الإشارة، فيكون الموضوع له فيها نفس حيثية الإشارة التي
هي معنى اندكاكي متوسط بين المشير والمشار إليه، ويكون
استعمالها في هذا المعنى استعمالا إنشائيا، فكما أن الانسان قد يوجد
الإشارة بتوجيه إصبعه نحو المشار إليه، ويتوهم بذلك بينهما
امتداد موهوم، فكذلك ربما يوجدها باستعمال كلمة هذا ونحوها،
فكلمة هذا مثلا قد وضعت لان يشار بها إلى المفرد المذكر، وما
ذكره بعض الأدباء من كونها موضوعة للمفرد المذكر المشار إليه فاسد
جدا، سواء أراد بذلك مفهوم المشار إليه أو حقيقة المشار إليه
الخارجي الواقع في طرف الامتداد الموهوم، إذ ليست لنا مع قطع
النظر عن لفظة هذا إشارة في البين، حتى يتصف المفرد المذكر
بكونه مشارا إليه وتستعمل فيه لفظة هذا، فالإشارة توجد بنفس هذا
اللفظ، وقد أشار بما ذكرنا محمد بن مالك في ألفيته حيث قال:
بذا لمفرد مذكر أشر (إلى آخر ما قال).
نعم لما كانت الإشارة معنى اندكاكيا فانيا في المشار إليه فلا محالة
ينتقل الذهن من لفظة (هذا) مثلا إلى المشار إليه ويعامل معها
معاملة اللفظ الموضوع للمشار إليه فتجعل مبتدأ مثلا ويحكم عليها
بأحكام المشار إليه، فيقال مثلا: (هذا قائم) كما يقال زيد قائم، و
بالجملة المبهمات بأجمعها موضوعة للإشارة، ومنها الضمائر، فيشار
ب (كاف) الخطاب مثلا إلى المخاطب الحاضر، وبضمير الغائب إلى
المرجع المتقدم ذكره، وبضمير المتكلم إلى نفس المتكلم، ولا بد في
جميع الإشارات من أن يكون للمشار إليه نحو تعين، حتى تمكن
الإشارة إليه، فتعينه في مثل (هذا) وأمثاله بحضوره، وفي ضمير
المتكلم بكونه حاضرا للمخاطب وموردا لتوجهه، وفي ضمير
المخاطب بكونه موجها إليه الكلام، وفي ضمير الغائب بسبق ذكره، و
في الموصولات بكون الموصول معروفا لمفاد الصلة وموصوفا
به، والداعي إلى وضع المبهمات هو الاختصار أو الفرار من التكرار،
حيث إنه لولا الضمير مثلا لاحتاج المتكلم إلى تكرار علم الشخص
مرارا، وكيف كان فتعين المشار إليه والمرجع في ضمير الغائب بسبق
ذكره، وعلى هذا فلا محيص عن إرجاعه إلى نفس ما تقدم ذكره
بما له من المعنى، ولا يصح إرجاعه إلى بعض ما أريد من العام مثلا، إذ
لا تعين للبعض، وبالجملة إرجاع الضمير إلى غير ما أريد من
المرجع لا يتمشى احتماله بعد الإحاطة على ما حققناه في بيان معنى
الضمائر.
وثانيا: أنه لا مجال هنا لتوهم المجاز في الاسناد أيضا، فإن إسناد حكم
البعض إلى الكل إنما يصح فيما إذا كان العام مجموعيا، ولو حظ
بين الافراد المتكثرة جهة وحدة اعتبارية، كما في قولهم: (بنو تميم
قتلوا فلانا)، فإن انتسابهم إلى أب واحد، يوجب لحاظهم بنحو
357

الوحدة، ويصحح إسناد القتل الصادر عن بعضهم إلى الجميع، وأما
إذا كان العام أفراديا، ولو حظ كل فرد منه موضوعا مستقلا فلا
مجال لان يسند ما صدر عن بعضهم إلى الجميع، إذ لا مصحح لهذا
الاسناد، ففي مثل قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة
قرؤ قد لو حظ كل واحدة من المطلقات موضوعا مستقلا لوجوب
التربص، ولم يلحظ مجموع المطلقات موضوعا وحدانيا، فلا مجال
لان يسند الحكم في قوله: وبعولتهن أحق بردهن إلى الجميع بلحاظ
ثبوته لبعضهن.
وثالثا: أنه لا مجال في المقام لتوهم المعارضة بين أصالة الظهور في
ناحية العام وأصالة الظهور في ناحية الضمير، فإن الشك في ناحية
الضمير مسبب عن الشك فيما أريد من العام، إذ لو أريد منه العموم
تعين التصرف في ناحية الضمير، وإن أريد منه الخصوص لم يقع
تصرف في ناحيته.
وبالجملة المراد في ناحية الضمير معلوم، والشك إنما هو في كيفية
استعماله، وأنه بنحو الحقيقة أو المجاز، وهذا الشك مسبب عن
الشك فيما أريد من العام، وقد حقق في محله أن الأصل يجري في
السبب، ولا يعارضه الأصل المسببي، وإنما يرتفع الشك في ناحيته
قهرا بإجراء الأصل السببي.
هذه خلاصة ما يمكن أن يورد على ما ذكره في الكفاية.
والذي يقتضيه التحقيق في المسألة هو أن يقال: إن هنا احتمالا آخر
غير ما ذكره في الكفاية من الوجوه الثلاثة، وهو أنك قد عرفت أن
العام يستعمل دائما في العموم، غاية الأمر أن الإرادة الجدية قد تطابق
الإرادة الاستعمالية، فيكون المراد الجدي أيضا هو العموم، وقد
تخالفها فيكون الخصوص مرادا جديا، وبناء العقلا على الحكم
بتطابق الإرادتين دائما ما لم تثبت إرادة الخصوص، ففيما نحن فيه
يكون كل واحد من العام والضمير الراجع إليه مستعملا في العموم، و
يكون الاستعمال في كليهما بنحو الحقيقة، غاية الأمر: أنه قد ثبت
بالدليل الخارجي أن المراد الجدي في ناحية الضمير هو الخصوص
فيحمل عليه، ولا دليل على تخالف الإرادتين في ناحية العام،
فالأصل
العقلائي الحاكم بتطابق الإرادتين هو المحكم في ناحيته، ورفع اليد
عن أصالة التطابق في ناحية الضمير لا يوجب رفع اليد عنها في
ناحيته، فتأمل جيدا.
358

الفصل الثامن:
جواز تخصيص الكتاب بالمفهوم المخالف
قال في الكفاية ما حاصله: إنهم اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم
المخالف مع الاتفاق على الجواز بالمفهوم الموافق، وتحقيق المقام:
أنه إذا ورد العام وماله المفهوم في كلام أو كلامين، ولكن على نحو
يصلح أن يكون كل منهما قرينة للتصرف في الاخر، ودار الامر
بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فلا يكون هناك عموم ولا
مفهوم، فلا بد من العمل بالأصول العملية إذا لم يكن أحدهما أظهر، و
منه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بينهما ذاك الاتصال وأنه يعامل
معهما معاملة المجمل لو لم يكن في البين أظهر، وإلا فهو المعول
(انتهى).
أقول: دعوى الاتفاق في مفهوم الموافقة بلا وجه، فإن تلك المسألة
أيضا خلافية، كما هو المستفاد من عبارة العضدي، ثم إن الاتفاق في
أمثال هذه المسائل لا يستكشف منه قول المعصوم عليه السلام فلا
حجية فيه. ثم إنه (قده) كما ترى فصل بين كون ماله المفهوم متصلا
بالكلام أو كالمتصل وبين غيره، ولكنه جعل حكم الشقين واحدا، و
على هذا فيكون تفصيله وتشقيقه لغوا، إذ التشقيق إنما يحسن فيما
إذا اختلف الشقان بحسب الحكم، والتحقيق أن يقال: إن المسألة من
باب تعارض المطلق والمقيد، وحكمه حمل المطلق على المقيد،
بعد
إحراز وحدة الحكم، كما سيأتي في محله.
بيان ذلك: أنه إذا ورد مثلا أن الله تعالى خلق الماء طهورا لا ينجسه
شي، إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته استفدنا منه أن حيثية المائية
تمام الموضوع، لعدم التنجس من غير فرق بين أن يجعل الألف واللام
في كلمة الماء للجنس أو للاستغراق. فمفاد هذا الدليل أنه لا دخالة
لقيد آخر في هذا الحكم، ثم إذا ورد قوله: الماء إذا بلغ قدر كر لا
ينجسه شي، استفدنا منه كون الماء بقيد الكرية موضوعا لعدم
التنجس، ولاجل ذلك يستفاد منه المفهوم، فيكون مفاده كون حيثية
359

جزا من الموضوع، فيكون التعارض بين الدليلين من باب تعارض
المطلق والمقيد، وحيث إن ظهور القيد في كونه دخيلا أقوى من
ظهور المطلق في كونه تمام الموضوع، فلا محالة يحمل المطلق على
المقيد.
وبالجملة: يقدم ما له المفهوم على العموم. وقد عرفت منا في باب
المفاهيم أن المفهوم إنما يستفاد من ظهور القيد الزائد - بما أنه فعل
اختياري - في كونه دخيلا في الموضوع، وهذا هو مسلك القدماء
أيضا في باب المفاهيم، حيث كانوا يستدلون على ثبوت المفهوم بأنه
لولاه لكان ذكر القيد لغوا.
وملخص ما ذكرناه هناك: أن دلالة القيد الزائد، كالشرط والوصف و
أمثالهما على المفهوم ليست من قبيل دلالة اللفظ الموضوع على
معناه الموضوع له، بل من قبيل دلالة الأفعال الاختيارية - بما أنها
كذلك - على أمور. فإن الفعل الاختياري الصادر عن الغير يحمل عند
العقلا على كون صدوره عنه لأجل غايته الطبيعية، ومن الأفعال الاختيارية
هو التكلم فيحمل - بما أنه فعل اختياري - على كونه
صادرا
عن المتكلم لأجل الفائدة، وفوائد التكلم وإن كانت كثيرة، ولكن
الغاية الطبيعية للتكلم بالكلام الموضوع عبارة عن إفادة معناه و
إفهامه، وهذا من غير فرق بين تمام الكلام، وبين أجزائه وقيوده، فإن
الغاية الطبيعية للقيد أيضا عبارة عن إفهام معناه، فيستفاد من
ذكره - بما أنه فعل اختياري - كون معناه دخيلا في موضوع الحكم،
بحيث لا تكون حيثية المطلق تمام الموضوع، وإن جاز أن يخلفه قيد
آخر، كما أشار إليه السيد المرتضى (قده)، حيث قال ما حاصله: إن
المستفاد من قوله (تعالى): واستشهدوا شهيدين من رجالكم قبول
شهادة الرجل مقيدا بانضمامه إلى شاهد آخر، ومع ذلك يثبت قبولها
عند انضمام اليمين أيضا.
والحاصل: أن ثبوت المفهوم عندنا من جهة دلالة ذكر القيد - بما هو
فعل اختياري - على كونه دخيلا في الموضوع، بمعنى عدم كون
حيثية المطلق تمام الموضوع، ولا ينافي ذلك أن يخلفه قيد آخر، وأما
على مذاق المتأخرين فثبوته من جهة ما ادعوه من دلالة القيد على
كونه علة تامة لثبوت الحكم، وقد مر تفصيل ذلك في باب المفاهيم،
فراجع.
ومن هذا القبيل أيضا حمل اللفظ الصادر عن المتكلم على معناه
الحقيقي، فإن الفعل
360

الاختياري، كما عرفت، يحمل عند العقلا على كونه صادرا بداعي
غايته الطبيعية، والغاية الطبيعية لايجاد اللفظ هي إفهام معناه
الحقيقي، فأصالة الحقيقة وأصالة العموم أيضا من شعب هذا الأصل
العقلائي، ومن هذا القبيل أيضا حمل الطلب الانشائي على كونه
صادرا
بداعي البعث والتحريك، لا لأجل الدواعي الاخر، فإن البعث هو
الغاية الطبيعية والعقلائية لايجاد الطلب وإنشائه.
361

الفصل التاسع:
ما إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة
إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة، فهل الظاهر رجوعه إلى الجميع، أو
خصوص الأخيرة، أو لا ظهور له في واحدة منها؟ وجوه.
قال في الكفاية ما حاصله: إنه لا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على
أي حال، وكذا في صحة رجوعه إلى الكل، ضرورة أن تعدد
المستثنى منه كتعدد المستثنى لا يوجب تفاوتا في ناحية الأداة
بحسب المعنى، كان الموضوع له في الحروف عاما أو خاصا، وتعدد
المخرج أو المخرج منه خارجا، لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة
الاخراج مفهوما (انتهى).
أقول: قد عرفت في مبحث المعاني الحرفية أن الحروف وضعت
لحقائق الارتباط المندكة في الأطراف، ففي قولنا: الماء في الكوز مثلا
ما
هو المتحقق في الخارج عبارة عن شخص الماء وشخص الكوز، و
ليس وراء هما شي على حياله بعنوان الظرفية. نعم، لا يكون
الموجود
في الخارج هو الماء والكوز بنحو الاطلاق، بل يكون الماء متخصصا
بكونه مظروفا للكوز، والكوز أيضا متخصصا بكونه ظرفا للماء،
فيكون الماء والكوز مرتبطين في الخارج بحقيقة الارتباط الظرفي، و
لكن الارتباط ليس أمرا على حياله في قبال الكوز والماء، بل هو
مندك فيهما. هذا حال الخارج، وأما الذهن فلسعة عالمه يمكن أن
يوجد فيه نقش الخارج من دون تفاوت، فتوجد فيه صورة الماء و
الكوز مرتبطتين بحقيقة الارتباط الظرفي، على وزان ما في الخارج، و
يمكن أن يوجد فيه مفهوم الظرفية مستقلا في قبال صورتي الماء
والكوز، فعلى الأول تكون الظرفية مندكة في الطرفين، بحسب
اللحاظ، ويكون تحققها بتحققهما، وعلى الثاني يكون الموجود في
الذهن ثلاثة مفاهيم مستقلة، غير مرتبطة، يعبر عنها بالماء والظرفية و
الكوز، فلفظة (في) وضعت لان تدل على حقيقة الارتباط
الظرفي المندك في الطرفين، وهذا بخلاف كلمة الظرفية، فإنها
وضعت لان تدل على
362

المفهوم الاستقلالي الملحوظ في قبال الطرفين.
إذا عرفت ما ذكر فنقول: إن العمومات الواقعة في الجمل المتعددة إن
لوحظ بينها جهة وحدة، بحيث يرى كأنها عام واحد فلا إشكال
حينئذ في إمكان رجوع الاستثناء إلى الجميع، ويكون الاخراج بهذا
اللحاظ إخراجا واحدا، وأما إذا لوحظ كل واحد من العمومات أمرا
مستقلا في قبال غيره فلا محالة يكون معنى إرجاع الاستثناء إلى
جميعها هو تعدد الاستثناء والاخراج بعدد العمومات، وعلى هذا
فيكون استعمال كلمة (إلا) مثلا في الاخراج من الجميع من قبيل
استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد. واستعمال اللفظ كذلك وإن
جاز عند من يرى الاستعمال من باب جعل اللفظ علامة للمعنى، لا من
باب إفناء اللفظ فيه، ولكن لا يجري هذا الكلام في الحروف، لما
عرفت من عدم كون معانيها ملحوظة بنحو الاستقلال، بل هي معان
ربطية مندكة في الطرفين، بحسب اللحاظ، بمعنى أن لحاظ المعنى
الحرفي بلحاظ طرفيه، وحيث إنه تعدد الأطراف هنا بتعدد المستثنى
منه، صار مرجع استعمال أداة واحدة في الاخراج من جميعها إلى
لحاظ حقيقة واحدة ربطية، بنحو الاندكاك والفناء في هذا الطرف
تارة، وفي ذاك الطرف أخرى، ومقتضى ذلك كون حقيقة واحدة
ربطية في عين وحدتها حقائق ربطية متكثرة، وهذا أمر مستحيل. [1]
[1] أقول: بناء على كون الاستعمال من باب جعل العلامة - كما هو
المفروض - لم لا يمكن أن يلحظ في المقام حقائق ربطية متعددة
بعدد
المستثنى منه، وتجعل كلمة واحدة علامة لتلك الملحوظات
المتعددة؟ وبالجملة لا يرى فرق بين الأسماء والحروف، بناء على
هذا
الفرض، فافهم. ح عليه السلام. م.
363

الفصل العاشر:
جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد
اختلفوا في جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، فذهب المحققون
إلى جوازه، واستدلوا عليه باستقرار سيرة الأصحاب من زمن النبي
صلى الله عليه وآله إلى زماننا هذا على العمل بالخبر الواحد، مع أنك
لا تجد خبرا إلا ويوجد على خلافه عام كتابي، ولم يرد عن صاحب
الشرع ولا عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ردع عن هذه السيرة.
وذهب جماعة إلى المنع واستدلوا عليه بوجوه أربعة:
الأول: أن الكتاب مقطوع به صدورا، والخبر مظنون سندا، فلا يرفع به
اليد عن المقطوع به.
الثاني: أنه لو جاز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد لجاز نسخه به أيضا،
والتالي باطل بالاجماع فالمقدم مثله.
الثالث: أن حجية الخبر ثابتة بالاجماع، ولا إجماع على العمل به في
عرض الكتاب. الرابع: الأخبار الكثيرة الدالة على أن ما خالف
القرآن يجب طرحه، أو أنه زخرف، أو نحو ذلك.
ويرد على الوجه الأول: أن الكتاب وإن كان قطعيا، بحسب الصدور،
لكنه ظني الدلالة، فإن الحكم بالعموم إنما هو من جهة أصالة
التطابق بين الإرادتين، كما مر في محله، وليست هي بقطعية، وعلى
هذا فرفع اليد عنه بالخبر من قبيل رفع اليد عن المظنون بمثله، بل
بالمقطوع به، فإن الخبر، وإن كان ظنيا ولكنه ثبتت حجيته بالأدلة
القطعية، فكما أنه إذا قطع بصدور الخبر وجب رفع اليد بسببه عن
عموم الكتاب، فكذلك إذا دل الدليل القطعي على وجوب ترتيب آثار
الواقع على مفاد الخبر، والمعاملة معه معاملة المقطوع به.
ويرد على الوجه الثاني: أولا: أنه لم يرد دليل قطعي على عدم جواز
نسخ الكتاب به.
وثانيا: أنه لو فرض قيام دليل قطعي على عدم جواز نسخه به لم يثبت
بذلك عدم جواز
365

التخصيص بسببه.
ويرد على الوجه الثالث: أنا لا نسلم ثبوت حجية الخبر بالاجماع، بما
أنه إجماع، بل عمدة ما دل عليها هو بناء العقلا وسيرتهم
المستمرة على الاحتجاج بالخبر في مقام الاحتجاج واللجاج، كما بين
الموالي والعبيد، وليس للشارع فيه تأسيس، بل كل ما ورد عنه
في هذا الباب فليس إلا إمضاء لطريقة العقلا. وأول من ادعى
الاجماع في المسألة هو الشيخ (قده) في العدة، حيث ادعى فيها
إجماع
الصحابة من زمن النبي صلى الله عليه وآله على العمل بالاخبار
الآحاد. والظاهر أن مراده بالاجماع ليس إلا استقرار سيرة المسلمين
من
الصدر الأول عليه، ولكن لا بما هم مسلمون ومتدينون بدين الاسلام،
حتى يستكشف بذلك ورود نص فيه عن النبي صلى الله عليه و
آله، ويكون العمل بالاخبار حكما من أحكام الاسلام، بل بما هم
عقلا، فيرجع الاجماع المدعى في المسألة إلى سيرة العقلا طرا على
الاحتجاج بها ولم يرد من قبل الشارع ردع عنها، إذ لو ورد النقل
لتوفرت الدواعي على نقله في مثل المقام. وبالجملة: الدليل على
حجية
الاخبار سيرة العقلا، والدليل على حجية العمومات أيضا ليس إلا
الأصل العقلائي الحاكم بتطابق الإرادة الجدية للاستعمالية، وبناء
العقلا في الاحتجاجات الثابتة بين الموالي والعبيد قد استقر على
تخصيص العام بالدليل الخاص، ولو كان من قبيل الاخبار الآحاد.
ويرد على الوجه الرابع: أن الاخبار المشار إليها تنقسم بحسب
المضمون إلى طوائف أربع:
(الأولى): ما دل على أن العمل بالخبر مطلقا إنما يجوز، فيما إذا كان
عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله. (الثانية): ما دل على هذا
المضمون في خصوص الاخبار المتعارضة. (الثالثة): ما دل على أن ما
خالف الكتاب، أو لم يوافقه زخرف، أو مما لم نقله، أو نحو ذلك.
(الرابعة): ما دل على وجوب عرضها على الكتاب، فما وافقه وجب
أخذه، وما خالفه أو لم يوافقه لزم طرحه.
أما الطائفة الأولى: فمفادها عدم حجية الخبر رأسا، إذ لو فرض وجود
شاهد أو شاهدين من كتاب الله على وفق الخبر، فالمحكم هو
الكتاب لا الخبر. ومقتضى ذلك سقوط هذه الطائفة أيضا من الحجية،
فإنها أيضا أخبار آحاد، فيلزم من حجيتها عدم حجيتها. هذا مضافا
إلى أنها لا تقاوم السيرة القطعية على العمل بالخبر في عصر النبي
صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، حتى بعد صدور هذه الأخبار
عنهم عليهم السلام. فالظاهر أن هذه الطائفة من الاخبار وردت
في مقام تحديد العمل بالخبر والردع عن العمل بالاخبار التي
كانوا يدسونها وينسبونها إلى الأئمة عليهم السلام في المسائل
الاعتقادية ترويجا لعقائدهم الباطلة.
366

وأما الطائفة الثانية: فلا دخل لها بما نحن فيه، كما لا يخفى وجهه.
وأما الطائفة الثالثة: فالظاهر أن المراد منها أيضا هو الردع عما خالف
الكتاب، بنحو التباين المتحقق غالبا في المسائل الاعتقادية،
حيث إن مخالفة الخاص للعام لا يعد مخالفة بنظر العقلا، كيف وقد
كثر عن النبي صلى الله عليه وآله وعن الأئمة عليهم السلام صدور
الاخبار المخصصة للكتاب، واستمرت سيرة الأصحاب أيضا على
العمل بها في جميع الأعصار.
وبالجملة: محط النظر في هذه الطائفة أيضا هو الردع عن العمل
بالاخبار المكذوبة المجعولة في المسائل الاعتقادية، كالقول بجسميته
تعالى، وكالجبر والتفويض، والقضاء والقدر، وأمثال ذلك.
وبهذا البيان ظهر المراد من الطائفة الرابعة أيضا.
وملخص الكلام في المقام: أن استقرار سيرة الأصحاب على العمل
بالاخبار المروية عنهم عليهم السلام، والاعتماد عليها في تخصيص
الكتاب وتقييده بلغ حدا لا يمكن معه رفع اليد عنها بمثل هذه الأخبار
، وقد وردت عنهم عليهم السلام أيضا أخبار كثيرة فوق حد
التواتر، يستفاد منها إجمالا إمضاء هذه السيرة، فلا تقاومها الاخبار
المشار إليها، فتدبر.
367

المقصد الخامس في المطلق والمقيد وفيه فصول
369

الفصل الأول:
تعريف المطلق والمقيد
اعلم أنهم قسموا اللفظ إلى المطلق والمقيد، وعرفوا المطلق بأنه ما
دل على شائع في جنسه، والمقيد بخلافه. والظاهر من التعريفين أن
الاطلاق والتقييد عندهم وصفان لنفس اللفظ، لكن بلحاظ المدلول،
فإن كان مدلول اللفظ شائعا سمي اللفظ مطلقا، وإن لم يكن كذلك
سمي اللفظ مقيدا.
ثم لا يخفى أن ظاهر كلامهم أيضا كون التقسيم للفظ في حد ذاته مع
قطع النظر عن تعلق حكم به، فيوجد القسمان في الألفاظ، وتتصف
بالوصفين، سواء كان في البين حكم أم لا، فيتحقق في الألفاظ نوعان
متمايزان: نوع مطلق، ونوع مقيد، نظير انقسام الكلمة إلى الاسم و
الفعل والحرف.
وهذا فاسد جدا: فإن اللفظ في حد ذاته لا يتصف بالاطلاق والتقييد،
بل التقسيم إليهما والاتصاف بهما بلحاظ الحكم، فاللفظ الذي يكون
لمدلوله شياع وانتشار ذاتا إذا صار موضوعا لحكم من الاحكام سواء
كان حكما وضعيا أم تكليفيا فإن كان تمام الموضوع لهذا الحكم
سمي مطلقا، وإن لم يكن تمام الموضوع لهذا الحكم، بل كان في مقام
الموضوعية مقيدا بقيود، سمي مقيدا، فالرقبة مع كونها لفظا واحدا
إن جعلت تمام الموضوع للحكم اتصفت بالاطلاق، وإن جعلت
مقيدة بقيد موضوعا له اتصفت بالتقييد، فالرقبة في قولنا: (أعتق رقبة)
مطلقة، وفي قولنا:
(أعتق رقبة مؤمنة) مقيدة، فاللفظ الواحد يمكن أن يتصف بالاطلاق
بلحاظ حكم، وبالتقييد بالنسبة إلى حكم آخر، وحيث إن الموضوع
للحكم حقيقة هو نفس المدلول، واللفظ يكون موضوعا في القضية
الملفوظة، فلا محالة يكون الاطلاق والتقييد أولا وبالذات وصفين
لنفس المعنى الذي له شيوع أفرادي أو أحوالي، وبتبع المعنى يتصف
اللفظ بهما. وكيف كان فالاتصاف بهما إنما يكون بلحاظ
الموضوعية للحكم، فإن لوحظ تمام الموضوع له من دون أن تؤخذ
معه حيثية
370

أخرى اتصف بالاطلاق وإلا فبالتقييد، وكلاهما وصفان لمعنى واحد
كالرقبة مثلا، ففي قول الشارع: (أعتق رقبة مؤمنة) ما يتصف
بالتقييد هو نفس الرقبة من جهة صيرورة حيثية الايمان قيدا له في مقام
الموضوعية للحكم، لا الرقبة المؤمنة، بل الرقبة المؤمنة تتصف
بالاطلاق بالنسبة إلى قيود أخر يمكن أن تؤخذ في الموضوع.
وقد انقدح بذلك أن المعنى إذا لم يكن له شيوع أفرادي ولا انتشار
أحوالي فلا يتصف بالوصفين أصلا، وإن كان له شيوع أفرادي أو
أحوالي وصار موضوعا لحكم، فإن لوحظ في مرتبة جعله موضوعا
كونه تمام الموضوع له سمي مطلقا وإلا فمقيدا، وعلى هذا فمثل
الاعلام الشخصية أيضا باعتبار حالاتها المختلفة يمكن أن تتصف
بالاطلاق والتقييد، ولكن بلحاظ موضوعيتها للحكم، فزيد في قول
المولى: (أكرم زيدا) مطلق، وفي قوله: (أكرم زيدا الجائي) مقيد.
وقد ظهر بما ذكرنا أن التقابل بين الاطلاق والتقييد من قبيل تقابل
الاعدام والملكات، إذ كلاهما وصفان لما له شأنية التقييد، لكن
التقييد عبارة عن ضم حيثية أخرى إليه في مقام الموضوعية للحكم، و
الاطلاق عبارة عن عدم تقييد ماله شأنية التقييد وقابليته. ثم إنهم
مثلوا للمطلق بأمثلة وذكروا منها أسماء الأجناس كإنسان، ورجل و
فرس، وأمثال ذلك. وقال في الكفاية ما حاصله: إن الموضوع له
لاسم الجنس هو نفس الماهية المبهمة المهملة وصرف المفهوم غير
الملحوظ معه شي أصلا ولو كان ذلك الشئ هو الارسال، ولا
الملحوظ معه عدم لحاظ شي معه الذي هو الماهية اللا بشرط
القسمي (انتهى).
371

الفصل الثاني:
اعتبارات الماهية
اعلم أنهم قسموا الماهية إلى ثلاثة أقسام: اللا بشرط، والبشرط شي و
البشرط لا، وقالوا في بيان ذلك: إنه إن لوحظ نفس الماهية من
دون أن يلحظ معها شي آخر من القيود الوجودية والعدمية سميت
باللابشرط، وإن لوحظت مقيدة بوجود شي معها سميت بالبشرط
شي، وإن لوحظت مقيدة بعدم كون شي معها سميت بالبشرط لا.
ثم قالوا: إن البشرط لا ليست موجودة في الخارج، لكونها معراة من
جميع ما يكون وراء ذاتها حتى الوجود الخارجي والذهني، ونفس
لحاظها وإن كان وجودا ذهنيا لها، ولكن هذا الوجود مغفول عنه، وما
هو متعلق اللحاظ هو نفس الماهية المعراة، نظير شبهة المعدوم
المطلق، حيث أجابوا عنها بكونه معدوما بالحمل الأولي الذاتي، و
موجودا في الذهن بالحمل الشائع، ولكن وجوده في اللحاظ الأول
مغفول عنه.
وكيف كان فالماهية التي تكون بشرط لا ليست موجودة، والبشرط
شي موجودة، وكذلك اللا بشرط، بمعنى نفس الماهية لتحققها
في ضمن البشرط شي، وحملها عليها.
ثم إنهم توجهوا إلى أنه لا بد في التقسيم من مقسم يوجد في جميع
الاقسام ويغاير كل واحد منها، وفيما نحن فيه يكون المقسم هو نفس
الماهية، وهي بعينها جعلت قسما أولا، فاتحد القسم والمقسم،
فتصدى بعضهم للجواب عن ذلك فقال: إن المقسم نفس الماهية، و
القسم
الأول هو الماهية المقيدة بكونها لا بشرط، ويسمى الأول باللابشرط
المقسمي والثاني باللابشرط القسمي.
ثم اختلفوا في أن الكلي الطبيعي - أعني ما هو معروض وصف الكلية
- هو اللا بشرط المقسمي أو القسمي، بعد الاتفاق على عدم كونه
عبارة عن القسمين الأخيرين، فممن قال بكونه عبارة عن اللا بشرط
المقسمي صاحب المنظومة (قده)، وممن قال بكونه عبارة عن
القسمي المحقق الطوسي (قده) في التجريد. ثم سرى هذا البحث
تدريجا إلى الأصول، فوقع البحث في أن
372

اسم الجنس الذي يعد من مصاديق المطلق وضع لنفس الماهية من
حيث هي، أعني اللا بشرط المقسمي أم للطبيعة الملحوظ معها عدم
لحاظ
شي معها، أعني اللا بشرط القسمي، هذا ما ذكروه في المقام.
ونحن نقول: ما دعا القوم إلى تقسيم الماهية إنما هو تعيين ما يعرضه
وصف الكلية، أعنى الكلي الطبيعي وبيان أنه موجود في الخارج أم
لا، فإنهم لما رأوا أن الماهية يمكن أن توجد في الذهن وحدها، و
يمكن أن توجد فيه مقيدة بوجود شي معها، ويمكن أن توجد فيه
مقيدة
بأن لا يكون معها شي، فلا محالة احتاجوا إلى تحقيق الأقسام الثلاثة
الموجودة في الذهن، حتى يتبين أن ما هو معروض وصف الكلية
في الذهن، وما وقع النزاع في وجوده في الخارج أي قسم من الأقسام الثلاثة
، وعلى هذا فليس التقسيم - حقيقة - لنفس الماهية، ولو في
ظرف الخارج، بل التقسيم إنما يكون للماهية في ظرف لحاظها، فإنه
ظرف عروض وصف الكلية، فالتقسيم أولا وبالذات النفس اللحاظ
والاعتبار، أعني الوجود الذهني، وينسب إلى الماهية الموجودة بهذا
اللحاظ ثانيا وبالعرض، فالمقسم ليس نفس الماهية من حيث هي
هي، بل المقسم هو لحاظ الماهية واعتبارها، وينقسم هذا المقسم
إلى أقسام ثلاثة:
الأول: أن يتعلق اللحاظ بالماهية فقط، بحيث لا يتعدى اللحاظ من
نفس الماهية إلى شي آخر من القيود الوجودية والعدمية.
الثاني: أن يتعلق بالماهية المقيدة بشئ وراء ذاتها، فقد تعدى اللحاظ
في هذا القسم من نفس الماهية إلى أحد من قيودها فصار ملحوظا
معها.
الثالث: أن يتعلق بالماهية المقيدة بعدم كون شي - مما هو وراء ذاتها
- معها، فقد تعدى اللحاظ في هذا القسم أيضا من نفس الماهية إلى
أمر آخر وراء ذاتها، وهو عدم كون شي معها، فالملحوظ في القسم
الأول هو نفس الماهية، وفي القسم الثاني والثالث هو الماهية مع
شي آخر وجودي أو عدمي.
وبهذا البيان يختلف المقسم والاقسام، فإن المقسم هو اعتبار الماهية
ولحاظها، والقسم الأول هو لحاظ الماهية حال كون اللحاظ مقيدا
بعدم تعديه من نفس الماهية إلى أمر آخر، والقسم الثاني هو لحاظها
حال كون اللحاظ مقيدا بتعديه من الماهية إلى أحد من قيودها و
حالاتها، والقسم الثالث هو لحاظها حال اللحاظ مقيدا بتعديه من
الماهية إلى عدم كون شي معها، فنفس اللحاظ هو المقسم، وفي كل
واحد من الأقسام الثلاثة قد انضم إليه قيد به امتاز القسم من المقسم، و
أما
373

الملحوظ ففي القسم الأول هو نفس الماهية، وفي القسم الثاني هو
الماهية مع أحد من قيودها الوجودية، وفي القسم الثالث هو الماهية
مع
عدم كون شي معها، ففي كلا القسمين الأخيرين يتعدى اللحاظ من
الماهية إلى شي آخر.
وبالجملة: ليس التقسيم لنفس الماهية، إذ هي ليست إلا قسما واحدا،
وهو الماهية البشرط شي، فإنها التي تتحقق في الخارج، بل التقسيم
لاعتبار الماهية ولحاظها، ولاجل ذلك اشتهر بينهم أن اعتبارات
الماهية ثلاثة، وعلى هذا فليس هنا لا بشرطان: قسمي ومقسمي، كما
توهموه.
وحيث عرفت أن تقسيم لحاظ الماهية إنما هو لبيان أن معروض
وصف الكلية في الذهن هو الملحوظ بأي قسم من اللحاظات الثلاثة،
و
عرفت أيضا أن الملحوظ في القسم الأول هو نفس الماهية بخلاف
القسمين الآخرين، فلا محالة يجب الاذعان بأن الكلي الطبيعي -
أعني
ما يعرضه وصف الكلية في الذهن - هو الملحوظ في القسم الأول،
أعني نفس الماهية، وإن شئت قلت:
إن الكلي الطبيعي هو القسم الأول، لكن مع حذف اللحاظ واعتبار
الملحوظ فقط. وأما على مذاق من جعل التقسيم لنفس الماهية، و
جعل
المقسم نفسها، والقسم الأول عبارة عن الماهية المقيدة بكونها لا
بشرط، فلا محالة يتعين الكلي الطبيعي في المقسم، كما هو واضح،
فتدبر. [1] هذا كله
[1] أقول: لا يخفى أن التقسيم عبارة عن ضم قيود إلى المقسم الواحد،
حتى يحصل بضم كل قيد إليه قسم في قبال الاقسام الاخر التي
يتحقق كل منها بضم قيد آخر، ولا بد من أن تكون القيود متقابلة، كما
هو واضح. وعلى هذا فليس تقسيم القوم تقسيما صحيحا، حيث
جعلوا القيد في القسم الأول عبارة عن نفس مفهوم اللا بشرطية التي
هي أمر ذهني، فيجب بمقتضى المقابلة أن يجعل القيد في القسمين
الأخيرين أيضا عبارة عن نفس مفهوم البشرط شيئية والبشرط لائية،
حتى تصير القيود الثلاثة كلها ذهنية متقابلة، وهم قد جعلوا
التقييد باللابشرطية في القسم الأول في قبال التقييد ببعض القيود
الخارجية أو التقييد بعدمها، فلا يحصل التقابل بين القيود حينئذ، ولو
جعلوا القيد في البشرط شي أعم من القيود الخارجية والذهنية لم
يكن اللا بشرط القسمي قسما على حدة، بل كان داخلا في البشرط
شي.
والحاصل أن التقسيم يجب أن يكون إما بلحاظ القيود الذهنية فقط أو
الخارجية فقط أو بلحاظ الأعم منهما فعلى الأول تكون القيود
عبارة عن مفهوم اللا بشرطية والبشرط شيئية والبشرط لائية، و
تشترك الأقسام الثلاثة في عدم الوجود خارجا، وعلى الثاني لا يصح
اعتبار اللا بشرطية قيدا، حتى يحصل قسما في قبال القسمين
الآخرين، وعلى الثالث يدخل اعتبار اللا بشرطية في البشرط شي،
فليس
قسما على حدة أيضا.
فتدبر.
وبما ذكرنا من لزوم تقابل القيود في التقسيمات ظهر فساد ما ربما
يتوهم في المقام من تربيع الاقسام بناء على
374

فيما يرجع إلى اعتبارات الماهية، وإذا عرفت ذلك فلنرجع إلى ما كنا
فيه.
الاطلاق والتقييد ثبوتا:
إن الطبيعة الواقعة موضوعة للحكم قد تكون جميع أفرادها متساوية
النسبة بلحاظ هذا الحكم، فيكون ثابتا لجميع الافراد وساريا
بسريان الطبيعة، وقد لا يكون كذلك بل يكون الحكم ثابتا لبعض
الافراد، فعلى الأول تتصف الطبيعة بالاطلاق وعلى الثاني بالتقييد،
فهذا في الجملة مما لا إشكال فيه.
إنما الاشكال في ملاك الاطلاق والتساوي المذكور بحسب مقام
الثبوت والجعل، فالمستفاد من كلام الشيخ (قده) وجملة ممن تبعه
أن
ملاك الاطلاق والتساوي إنما هو لحاظ السريان، وملاك التقييد لحاظ
الطبيعة مع قيد ينضم إليها، وبالجملة يتوقف كل منهما على
اللحاظ. قال الشيخ (قده) - على ما في تقريرات بحثه - في مقام بيان
الماهية الملحوظة بشرط شي ما حاصله: إنه قد تلاحظ الماهية مع
قيد آخر ينضم إليها، وإن كان ذلك القيد هو السريان الذي بلحاظه
يشمل الحكم جميع الافراد، وتسمى الماهية حينئذ بالبشرط شي
(انتهى).
فمحصل كلام هؤلاء أن اسم الجنس مثلا موضوع للماهية، من حيث
هي هي، وهي بذاتها مهملة، فلا بد في كونها مطلقة، بحيث يسري
الحكم بسرايتها، من لحاظ الشيوع والسريان في مقام جعلها موضوعة
للحكم، فالشياع والسريان كالعرض المفارق للماهية يتوقف
ثبوته لها على اللحاظ، فيكون كل واحد من الاطلاق والتقييد أمرا
وجوديا يتصف به اللفظ، فاللفظ إذا وقع موضوعا للحكم فإن لوحظ
سريان مدلوله ووضع الحكم على الطبيعة السارية سمي مطلقا، وإن
انضم إليه قيد آخر وراء السريان، بحيث يمنعه عن السريان سمي
مقيدا - هذا بحسب مقام الثبوت. وأما في مقام الاثبات فيتوقف إحراز
الاطلاق على وجود دليل يحرز بسببه لحاظ
جعل المقسم عبارة عن اللحاظ، كما هو مبنى السيد الأستاذ (مد ظله
العالي)، بل على كلا المبنيين.
بتقريب: أن اللحاظ قد يتعلق بالماهية فقط، بحيث لا يتعدى منها، و
قد يتعلق بها ويتعدى منها إلى أمر آخر من قيودها الخارجية، وقد
يتعلق بها، ويتعدى منها إلى عدم كون قيودها معها، وقد يتعلق بها و
يتعدى منها إلى كونها لا بشرط بالنسبة إلى قيودها، فهذا هو اللا
بشرط القسمي.
وجه الفساد أن عد القسم الأخير في قبال سائر الاقسام بلا وجه، فإن
القيد فيه ذهني، والتقسيم كان بلحاظ القيود الخارجية فقط، وقد
عرفت بيانه. ح - ع - م.
375

السريان، كمقدمات الحكمة مثلا.
فحاصل كلام القوم يرجع إلى دعاوى أربع:
الأولى: أن اسم الجنس مثلا موضوع للماهية المهملة.
الثانية: أن السريان خارج من ذاتها، ويكون بالنسبة إليها كالعرض
المفارق.
الثالثة: أن ثبوت السريان لها بحسب مقام الثبوت وجعل الحكم
يتوقف على لحاظه. الرابعة: أن إحراز الاطلاق في مقام الاثبات يتوقف
على إحراز هذا اللحاظ.
هذه خلاصة مغزاهم في باب الاطلاق. وفيه نظر: بداهة أن السريان أمر
ذاتي للطبيعة.
لا يحتاج إلى لحاظ وراء لحاظ نفس الطبيعة، إذ ليس المراد بالشياع و
السريان إلا حكاية الطبيعة لمصاديقها واتحادها معها خارجا، و
الطبيعة بذاتها تحكي مصاديقها، بما هي وجودات لها، ولا يعقل
انفكاك هذه الخاصية من الطبيعة، لا أقول: إن مفهوم السريان مأخوذ
في
الطبيعة، بل أقول: إنه من قبيل الخارج المحمول المنتزع عن نفس
الطبيعة، بلا احتياج إلى لحاظ أمر وراء لحاظ نفس الطبيعة،
فالسريان ذاتي للطبيعة بهذا المعنى، بل لحاظ مفهوم السريان وضمه
إلى الطبيعة مما يخرجها من السريان، لكونه قيدا ذهنيا، كما لا
يخفى.
وبالجملة: ليس ملاك الاطلاق ثبوتا لحاظ سريان الماهية قيدا لها، ولا
لحاظها في حال السريان، بل الملاك في الاطلاق والتقييد هو ما
أشرنا إليه في صدر المبحث: من أن الطبيعة الواقعة موضوعة للحكم
إن كانت تمام الموضوع لهذا الحكم، بحيث كان الملحوظ في مقام
الموضوعية هو نفس حيثية الطبيعة من دون أن تؤخذ معها حيثية
أخرى سميت مطلقة، وإن لم تكن كذلك، بل انضم إليها أمر آخر، و
كان كل منهما دخيلا في الموضوعية سميت مقيدة، فملاك الاطلاق و
تساوي نسبة الافراد في الحكم عبارة عن كون نفس حيثية الطبيعة
تمام الموضوع، بحيث لم يلحظ أمر وراء ذاتها وإن كان هذا الامر هو
السريان، فإذا جعل نفس حيثية الطبيعة تمام الموضوع فبسريانها
الذاتي إلى جميع وجوداتها يسري الحكم أيضا إليها، وملاك التقييد
عبارة عن عدم كون نفس الحيثية تمام الموضوع، بل هي مع قيد
آخر يمنع عن سراية الحكم بسراية الطبيعة، فالمولى قد يرى أن تمام
غرضه يحصل بعتق الرقبة مثلا ومن دون أن يكون لحيثية أخرى
دخل في متعلق غرضه، فيجعل نفس طبيعة الرقبة موضوعة لحكمه،
وتسمى الرقبة حينئذ مطلقة، وقد يرى أن تمام غرضه إنما يحصل
بعتق الرقبة المؤمنة، فيكون لحيثية الايمان أيضا دخالة فيه، فيجعل
الموضوع عبارة عن الرقبة المؤمنة، فتصير الرقبة جزا للموضوع و
تسمى الرقبة حينئذ مقيدة. نعم،
376

الرقبة المؤمنة أيضا مطلقة بالنسبة إلى القيود التي يمكن أن تنضم إليها.
وعلى ما ذكر فلا يكون ملاك الاطلاق أمرا وجوديا، بل يكون أمرا
عدميا، أعني به عدم لحاظ حيثية أخرى وراء حيثية الطبيعة، وإطلاق
لفظي الاطلاق والتقييد في المقام ليس من باب اصطلاح خاص، بل
هو باعتبار معناهما اللغوي، فإن الاطلاق بحسب اللغة هو الارسال، و
يعبر عنه بالفارسية (رها كردن)، وفي مقابله التقييد، ومعناه جعل
الشئ في قيد ويعبر عنه بالفارسية (زنجير كردن)، والرقبة في
(أعتق رقبة) تكون مرسلة أي غير مقيدة، وفي (أعتق رقبة مؤمنة)
تكون في قيد.
فإن قلت: إن جعل الحكم على نفس الطبيعة أعم من كونها تمام
الموضوع، إذ لعلها مهملة فلا بد في الاطلاق من لحاظ السريان.
قلت: الاهمال إنما يتصور في مقام الاثبات ولسنا فعلا بصدد بيان ما
هو ملاك الاخذ بالاطلاق في مقام الاثبات، إذ الكلام يأتي فيه عن
قريب، بل الكلام فعلا إنما هو في مقام الثبوت وجعل الحكم، و
معلوم أن جاعل الحكم للرقبة مثلا قد يجعله لها بحيث لا يلاحظ حين
الجعل أمرا وراء هذه الحيثية، وقد يجعله للرقبة مع قيد آخر، ولا
يعقل الاهمال في مقام الثبوت، فتأمل. [1]
[1] أقول: قال في نهاية الدراية في مبحث اعتبارات الماهية ما حاصله:
إن الماهية إذا لوحظت وكان النظر مقصورا على ذاتها من دون
نظر إلى الخارج من ذاتها فهي الماهية المهملة التي ليست من حيث
هي إلا هي، وإذا نظر إلى الخارج من ذاتها فإما أن تلاحظ بالإضافة
إلى هذا الخارج مقترنة به بنحو من الانحاء فهي البشرط شي. وإما أن
تلاحظ بالإضافة إليه مقترنة بعدمه فهي البشرط لا، وإما أن
تلاحظ بالإضافة إليه لا مقترنة به، ولا مقترنة بعدمه فهي اللا بشرط، و
حيث أن الماهية يمكن اعتبار أحد هذه الاعتبارات معها بلا تعين
لاحدها، فهي أيضا لا بشرط من حيث قيد البشرط شي وقيد البشرط
لا وقيد اللا بشرط، فاللابشرط حتى عن قيد اللا بشرطية هو اللا
بشرط المقسمي، واللا بشرط بالنسبة إلى القيود التي يمكن اعتبار
اقترانها وعدم اقترانها هو اللا بشرط القسمي.
وقال أيضا: إن نفس الماهية من حيث هي غير واجدة إلا لذاتها و
ذاتياتها، وأما إذا حكم عليها بأمر خارج من ذاتها فلا محالة تخرج من
حد الماهية من حيث هي، فيكون المحكوم عليه هو الماهية بأحد
الاعتبارات الثلاثة.
وقال أيضا: كما أن المتقيد به الماهية في البشرط شي والبشرط لا
نفس المعنى المعتبر لا بما هو معتبر ولا اعتباره، كذلك اللا بشرط
القسمي، فإن قيد الماهية هو عدم لحاظ الكتابة وعدمها لا لحاظ عدم
اللحاظ، فهذه الاعتبارات مصححة لموضوعية الموضوع على الوجه
المطلوب لا أنها مأخوذة فيه.
377

(فذلكة)
قد اتضح لك من جميع ما ذكرناه أمور:
الأول: أن الاطلاق والتقييد وصفان للمدلول، فإنه الموضوع للحكم
حقيقة، وإنما يتصف بهما اللفظ بالعرض والمجاز.
الثاني: أن الاتصاف بهما إنما يكون بلحاظ الموضوعية للحكم، وإلا
فنفس المفهوم مع صرف
وقال في أوائل العام والخاص ما لفظه: (إن العام ليس حكمه حكما
جهتيا من حيث عنوان العالم مثلا فقط، بل حكم فعلي تام الحكمية،
بمعنى أن العالم (وإن كان معنونا بأي عنوان) محكوم بوجوب الاكرام،
فيكشف عن عدم المنافاة لصفة من صفاته وعنوان من عناوينه
لحكمه) (انتهى). أقول: لا يخفى أن الحاكم بعد تصوره للعنوان الواجد
للمصلحة، كعتق الرقبة مثلا لا بد من أن يلاحظ أنه واجد للمصلحة
مطلقا معنونا بأي عنوان كان، أو أن الواجد لها هو عتق الرقبة المقترنة
بالايمان مثلا، فنفس تعلق اللحاظ بالماهية إجمالا لا يكفي في
جعلها موضوعة أو متعلقة للحكم، ما لم يلحظ أنها تامة المصلحة، أو
أنها جز المحصل لها، ولكنه بعد ما رأى أن عتق الرقبة تمام
الموضوع في تحصيل المصلحة يجعل نفس هذه الحيثية موضوعة
للحكم من غير احتياج إلى لحاظ السريان، فتمام الموضوع للحكم هو
نفس حيثية الماهية لا الماهية المقيدة بكونها تمام الموضوع أو
بالسريان، ولكن تماميته ملحوظة باللحاظ السابق على جعلها
موضوعة
للحكم، إذ يجب على الحاكم أن يلحظ أن تمام المحصل للغرض هو
نفس هذه الحيثية أو هي بضميمة حيثية أخرى. والظاهر أن مراد هذا
المحقق من لزوم اعتبار الماهية في مقام الموضوعية بنحو اللا بشرط
القسمي، هو ما ذكرناه من لزوم اعتبار التمامية في مرحلة تصور
الموضوع وملاحظة جهاته لا في مرحلة جعل الحكم عليه، كما أن
الظاهر أن مراد الأستاذ (مد ظله العالي) من عدم تعدي اللحاظ في
المطلقات عن نفس الماهية هو عدم التعدي في مرتبة الموضوعية و
جعل الحكم عليه، لا في المرحلة السابقة عليها. وبالجملة المطلق
عبارة عما يكون في مقام جعل الحكم تمام الموضوع، بحيث كان
النظر في هذا المقام مقصورا على ذاته، وهذا لا ينافي لحاظ تماميته
في
المصلحة الموجبة لتماميته في الموضوعية قبل مرتبة الجعل، وعلى
هذا فلا تنافي بين الكلامين، نعم، الظاهر كون مشي الأستاذ (مد ظله
العالي) في باب اعتبارات الماهية أمتن من مشي هذا المحقق، ولا
سيما أنه يرد على ما سماه باللابشرط القسمي: أنا وإن سلمنا أن
الحاكم قبل جعل الحكم في المطلقات يلاحظ أن الماهية بنفسها تامة
في المصلحة والموضوعية وليست مقترنة بوجود القيد ولا بعدمه، و
لكن لا يصير عدم الاقتران بوجود القيد ولا بعدمه من قيود الماهية،
بل الملحوظ حينئذ نفس الماهية، غاية الأمر أنه تعلق لحاظ مستقل
آخر بأن هذه الماهية غير مقترنة، لا بوجود شي ولا بعدمه، من دون
أن يصير الملحوظ بهذا اللحاظ قيدا للملحوظ بذاك اللحاظ المتعلق
بالماهية، إذ ليس كل مجتمعين في اللحاظ يجب أن يكون أحدهما
قيدا للاخر، وهذا بخلاف القسمين الآخرين، ففي البشرط شي مثلا
يصير الايمان الملحوظ باللحاظ الثاني قيدا للرقبة الملحوظة أولا،
لكونه من حالاتها، فبطل ما سماه باللابشرط القسمي، وعده أحدا من
اعتبارات الماهية من أصله وأساسه، فتدبر، فإن المسألة دقيقة جدا، و
لأجل ذلك خرجنا من طور الاختصار. ح - ع - م.
378

النظر عن كونه موضوعا لحكم من الاحكام لا يتصف بالاطلاق ولا
بالتقييد.
الثالث: أن المهم في مبحث المطلق والمقيد ليس بيان مفهوم المطلق
والمقيد، بل بيان ما يتصف بهما من المفاهيم. وبعبارة أخرى:
المقصود بيان ما هو المطلق أو المقيد بالحمل الشائع، لا بيان المطلق
أو المقيد بالحمل الأولي الذاتي.
الرابع: أن الطبيعة الواقعة موضوعة للحكم إنما تتصف بالاطلاق إذا
كانت جميع أفرادها متساوية النسبة بحسب هذا الحكم، بحيث يسري
الحكم إلى جميع الافراد، وتتصف بالتقييد إذا لم تكن كذلك.
الخامس: أن تمام الملاك في حصول هذا التساوي وعدمه عبارة عن
كون نفس هذه الحيثية تمام الموضوع للحكم، أو كونها مع قيد آخر
تمامه، هذا كله بحسب مقام الثبوت.
الاطلاق والتقييد إثباتا:
وأما في مرحلة الاثبات فإن كان الحكم في لسان الدليل مجعولا على
الطبيعة مع قيد آخر وجب الحكم بتقيدها، إلا أن يثبت من الخارج
عدم دخالة القيد، وإن كان مجعولا على نفس الطبيعة وعلمنا بكونها
تمام الموضوع وجب الحكم بإطلاقها، وإن شككنا في ذلك: بأن
احتملنا دخالة قيد زائد في الموضوعية، وأن ترك المولى ذكره كان من
جهة عدم كونه في مقام بيان تمام الموضوع لحكمه، فحينئذ يقع
البحث في أنه هل يكون لنا طريق لاحراز الاطلاق أو لا؟.
التقييد لا يوجب المجازية:
وقبل الورود في هذا المبحث يجب أن نشير إلى أن التقييد هل يوجب
المجازية كما نسب إلى المشهور أو لا؟ فنقول: إن توهم المجازية
إما بتخيل كون السريان مأخوذا في الموضوع له والتقييد يوجب إلغاءه
فيصير اللفظ الموضوع للكل مستعملا في الجز، وإما بتخيل
كون المطلق بعد التقييد مستعملا في بعض أفراده كما هو الظاهر من
أكثر القائلين بالمجازية. وقد خالف المشهور في القول بالمجازية
سلطان العلماء فقال (قده) على ما في تقريرات بحث الشيخ (قده): إنه
يمكن العمل بالمطلق والمقيد من دون إخراج من حقيقته بأن يعمل
بالمقيد ويبقى المطلق على إطلاقه، فلا يجب ارتكاب مجاز حتى
يجعل ذلك وظيفة المطلق، فإن مدلول المطلق ليس صحة العمل بأي
فرد
كان حتى ينافي مدلول المقيد، بل هو أعم منه ومما يصلح للتقييد، بل
المقيد في الواقع، ألا ترى أنه
379

معروض للقيد كقولنا: (أعتق رقبة مؤمنة) وإلا لزم حصول المقيد بدون
المطلق، مع أنه لا يصلح لاية رقبة كانت، فظهر أن مقتضى
المطلق ليس ذلك، وإلا لم يتخلف عنه (انتهى).
أقول: مراده (قده) بالمطلق اللفظ الموضوع لنفس الطبيعة، وغرضه
بيان عدم كون التقييد مجازا من جهة كون نفس الطبيعة محفوظة
حال التقييد أيضا، والدلالة على البعض من باب تعدد الدال و
المدلول، لا من باب استعمال المطلق في بعض الافراد. وهذا هو
الحق عندنا
أيضا، حيث عرفت أن الاطلاق ليس بلحاظ السريان وكونه مأخوذا في
الموضوع له، حتى يكون التقييد موجبا لالغائه فيصير مجازا.
نعم، نفس حيثية الطبيعة بذاتها سارية إلى أفرادها، وحينئذ فإن
جعلت تمام الموضوع للحكم سميت مطلقة ويسري الحكم بسريانها
الذاتي، وإن لم تكن تمام الموضوع، بل انضمت إليها حيثية أخرى
سميت مقيدة، ولا يوجب ذلك المجازية، إذ اللفظ الدال على حيثية
الطبيعة لا يستعمل في البعض، بل يراد منه نفس معناه، والتقيد
يستفاد من القيد المنضم إليه المانع عن سريان الحكم بسريان الطبيعة.
وبالجملة: نحن أيضا نوافق سلطان العلماء في عدم كون التقييد موجبا
للمجازية، ولكنه مع ذلك بين كلامه (قده)، وبين ما ذكرناه فرق
بين، إذ المطلق عنده عبارة عن اللفظ الموضوع لنفس الطبيعة المهملة
المحفوظة حال التقييد أيضا، فالمطلق على مذهبه باق حال التقييد
أيضا على وصف الاطلاق، وأما على ما ذكرناه، فالطبيعة إنما تتصف
بوصف الاطلاق، حال كونها تمام الموضوع للحكم وعدم أخذ
حيثية أخرى معها، وأما بعد التقييد فلا تتصوف بوصف الاطلاق. هذا
كله بناء على عدم أخذ السريان في الموضوع له. وأما بناء على
أخذه فيه فالتقييد يوجب المجازية، حيث إنه يستلزم إلغاء قيد
السريان، كما لا يخفى.
380

الفصل الثالث:
إحراز الاطلاق في مقام الاثبات:
إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم: أنه إذا شك في الاطلاق فعلى القول بكون
التقييد مجازا، كما نسب إلى المشهور، يحرز الاطلاق بأصالة
الحقيقة. وأما على القول بعدم المجازية، كما هو الحق، فلا بد لاحرازه
من دليل آخر، وقد ذكروا لاثباته دليلا سموه بقاعدة الحكمة، و
هي على ما في الكفاية تتألف من ثلاث مقدمات:
بيان مقدمات الحكمة:
الأولى: كون المتكلم في مقام بيان ما هو تمام الموضوع لحكمه، لا في
مقام الاهمال أو الاجمال.
الثانية: انتفاء قرينة توجب تعيين المراد.
الثالثة: انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب، والمراد من القدر
المتيقن في مقام التخاطب أن يكون بعض أفراد الطبيعة، بحيث يتيقن
المخاطب ويعلم تفصيلا بكونه مرادا إما بخصوصه وإما في ضمن
الجميع مع كون تيقنه لذلك بنفس إلقاء الخطاب، ولا بعد التأمل و
التدبر، فحاصل المقدمة الثالثة عبارة عن عدم كون المتكلم عالما بأن
ذهن المخاطب مسبوق ببعض الخصوصيات، وأنه يحصل له
بصرف إلقاء الخطاب إليه العلم بأن البعض المعين مراد قطعا و
موضوع للحكم جزما، غاية الأمر وقوع الشك بالنسبة إلى بقية الافراد،
فإذا تحققت المقدمات الثلاث علم منها أن ما ذكره المولى من الطبيعة
المطلقة هو تمام الموضوع لحكمه وإلا لاخل بغرضه، والاخلال
بالغرض ينافي الحكمة، وإن انتفت واحدة منها بأن لم يكن المولى
بصدد بيان ما هو تمام الموضوع لحكمه، أو ذكر قرينة على التعيين،
أو كان في البين قدر متيقن كذلك، لما كان عدم إرادة الاطلاق ملازما
للاخلال بالغرض، أما في الأوليين فواضح، وأما في الثالثة، فلان
غرضه إن كان هو البعض
381

المتيقن لما كان الاطلاق مخلا بهذا الغرض، إذ الفرض تيقن المخاطب
بأن هذا البعض المعين متيقن الإرادة، فهو يعلم بما هو بالحمل
الشائع تمام غرض المولى، والمولى أيضا أحرز ذلك من ناحية
المخاطب، فليس الاطلاق منه إخلالا بالغرض، لأنه بصدد بيان ما هو
تمام
الغرض بالحمل الشائع، وقد بينه، لا بصدد بيان أنه تمامه كي يقال: إنه
أخل ببيانه. هذه خلاصة ما ذكر في تقريب مقدمات الحكمة.
أقول: لا يخفى أنه بناء على ما ذكره القوم من احتياج الاطلاق في مقام
الثبوت إلى لحاظ السريان يصير المطلق عاما، ويكون موضوع
الحكم بحسب الحقيقة أفراد الطبيعة، فإن تمت المقدمات الثلاث
يحرز بسببها للمخاطب ما هو تمام غرض المولى، أعني الاطلاق و
العموم، وإن تمت الأوليان وانتفت الثالثة بأن كان في البين قدر متيقن،
ففي بادي النظر تكون موضوعية الافراد المتيقنة معلومة، و
بقية الافراد مشكوكا فيها، ولكن هذا الشك بدوي ينقلب قهرا إلى
العلم بكون البعض المتيقن تمام الغرض، فيحرز التمام بما أنه تمام
أيضا، ووجه ذلك أن المفروض بحسب المقدمة الأولى كون المولى
بصدد بيان ما هو تمام الموضوع لحكمه من الجميع أو البعض، و
المفروض بحسب المقدمة الثانية عدم قرينة معينة في البين، وحينئذ
فإذا فرض كون البعض المعين متيقن الإرادة فلا محالة يحصل
للمخاطب - بضم المقدمة الأولى إلى هذا المتيقن - الجزم بأن هذا
البعض المعين تمام الموضوع للحكم، وأن ما عداه من الافراد ليس
موضوعا له، إذ الواصل إليه هو موضوعية هذا البعض المعين، والباقي
مشكوك فيه، ولم يصل بالنسبة إليه بيان، والمفروض بحسب
المقدمة الأولى كون المولى بصدد بيان ما هو تمام الموضوع فيظهر من
ذلك عدم موضوعية الافراد المشكوك فيها.
والحاصل: أنه بعد ما فرض تحقق المقدمتين الأوليين، ووجود القدر
المتيقن في البين يتحقق شكل ثان، ينتج كون القدر المتيقن تمام
غرض المولى، وصورة الشكل هكذا: لا شي من غير القدر المتيقن
بمعلوم، وكل ما هو مراد المولى معلوم، ينتج لا شي من غير القدر
المتيقن بمراد، أما الصغرى فواضحة، وأما الكبرى فبمقتضى المقدمة
الأولى.
وبالجملة: يحرز بذلك غرض المولى وهو البعض ويعلم أيضا أنه
تمامه.
فما في الكفاية من أنه بعد إحراز المقدمتين الأوليين، ووجود القدر
المتيقن في البين يعلم تمام غرض المولى، وإن لم يعلم أنه تمامه،
فاسد كما لا يخفى.
382

كفاية المقدمة الأولى لاحراز الاطلاق:
هذا كله بناء على مذاق القوم في باب الاطلاق.
وأما على ما بيناه من أن الملاك فيه كون حيثية الطبيعة تمام الموضوع،
كما أن ملاك التقييد دخالة حيثية أخرى في الموضوعية، من دون
أن يلحظ السريان وعدمه، فيرد الاشكال على المقدمة الثالثة، إذ
المفروض بحسب المقدمة الأولى كون المولى بصدد بيان ما هو تمام
المراد من اللفظ بحسب الاستعمال، وليس المراد بذلك ما أريد من
اللفظ بحسب الاستعمال فقط، إذ لا ينحصر ذلك بلفظ دون لفظ، بل
يجري في جميع الألفاظ، بل المقصود بذلك كونه بصدد بيان ما هو
المراد بحسب الواقع والجد، وحينئذ فإن لم يكن تمام الموضوع
بحسب الواقع نفس حيثية الطبيعة، بل كانت لحيثية أخرى دخالة فيه
صار عدم ذكرها إخلالا منه بالغرض، إذ المفروض أن المذكور
ليس إلا حيثية الطبيعة، والمستفاد منه هو الاطلاق وكونها تمام
الموضوع للحكم، وكون بعض الافراد متيقن الإرادة لا يضر بالاطلاق
بعد كون الملاك في الاطلاق والتقييد عندنا وحدة الحيثية وتعددها
من دون نظر إلى الافراد.
والحاصل: أن التيقن بالنسبة إلى بعض الافراد يوجب العلم بكفايته
في مقام الامتثال، ولا يوجب ذلك تقييدا في موضوع الحكم، بحيث
يصير الموضوع للحكم الطبيعة المقيدة، إذ بيان حدود الموضوع من
وظائف المتكلم، والمفروض أنه لم يذكر إلا نفس حيثية الطبيعة، و
مقتضى ذلك كون نفس الحيثية تمام الموضوع لحكمه وسريان الحكم
بسريانها قهرا.
والسر في ذلك أن نظر المتكلم بحسب ما حققناه في معنى الاطلاق و
التقييد ليس إلى الافراد، بل إلى نفس الحيثية، فالملاك كل الملاك
فيهما هو وحدة الحيثية وتعددها. وبالجملة:
المقدمة الثالثة غير محتاج إليها، بل هي مخلة بعد ما حققناه من أن
الملاك في الاطلاق والتقييد ليس لحاظ السريان وعدمه، وليس
الافراد ملحوظة، بل النظر مقصور على نفس حيثية الطبيعة، فإن
جعلت تمام الموضوع سميت مطلقة وإن انضم إليها حيثية أخرى
سميت
مقيدة، فيكفي في الاطلاق لحاظ الطبيعة وعدم لحاظ حيثية أخرى
معها، وعلى هذا فالامر في التيقن والشك بعكس ما ذكروه، إذ كون
نفس حيثية الطبيعة دخيلة في الموضوع متيقن ودخالة حيثية أخرى
مشكوك فيها، وحيث إن المولى لم يبين دخالتها مع كونه في مقام
البيان، فلا محالة يحرز بذلك إرادة الاطلاق. هذا كله بالنسبة إلى
المقدمة الثالثة. وأما المقدمة الثانية: فهي أيضا زائدة، إذ البحث
383

إنما هو في صورة الشك، ومع وجود القرينة لا يكون شك في البين،
فتبقى من المقدمات الثلاث المقدمة الأولى، وهي بنفسها تكفي
لاثبات الاطلاق، ولكن على مذاقنا دون مذاق القوم.
بيان ذلك: إنه بناء على ما ذكرناه في معنى الاطلاق والتقييد لا يحتاج
الاطلاق في مقام البيان إلا إلى بيان نفس حيثية الطبيعة. وأما
التقييد فيحتاج إلى مئونة زائدة، إذ يجب فيه مضافا إلى ذكر ما يدل
على حيثية الطبيعة أن يذكر ما يدل على الحيثية المنضمة.
والحاصل: أنهما يشتركان في الاحتياج إلى بيان الطبيعة، ويمتاز
التقييد باحتياجه إلى بيان الحيثية المنضمة، وعلى هذا فإذا فرض
كون المولى بصدد بيان ما هو تمام الموضوع لحكمه بمقتضى المقدمة
الأولى، وفرض أيضا عدم ذكره إلا لما يدل على نفس حيثية
الطبيعة، فلا محالة يثبت الاطلاق أي كون هذه الحيثية تمام الموضوع
لحكمه ويسري الحكم إلى جميع الافراد بسريانها الذاتي، من دون
احتياج إلى اللحاظ، هذا بناء على مذاقنا. وأما بناء على مشي القوم
في الاطلاق، فكل من الاطلاق والتقييد يحتاج إلى مئونة زائدة بعد
اشتراكهما في لحاظ أصل الطبيعة، إذ المفروض احتياج الاطلاق أيضا
إلى لحاظ السريان والشمول، واللفظ الدال على نفس حيثية
الطبيعة لا يدل على السريان الملحوظ، فلا بد في بيانه من لفظ آخر
يدل عليه، وعلى هذا فصرف كون المولى بصدد بيان تمام
الموضوع لحكمه لا يثبت الاطلاق على مذاقهم، إذ المفروض أنه في
مقام الاثبات لم يذكر إلا اللفظ الدال على نفس حيثية الطبيعة، وعلى
مذاقهم لا يكفي صرف لحاظ الطبيعة في تحقق الشمول والسريان.
فتلخص مما ذكرناه أن المقدمات لا تنتج الاطلاق على مذاق القوم، و
أما بناء على ما اخترناه من عدم احتياج الاطلاق إلا إلى لحاظ نفس
حيثية الطبيعة، فدليل الحكمة ينتج الاطلاق، إلا أن المادة العاملة فيه
هي المقدمة الأولى فقط، فتدبر.
384

وينبغي التنبيه على أمور:
التنبيه الأول: أساس الاطلاق كون المتكلم في مقام البيان:
قد عرفت أن ملاك الاطلاق عندنا - بحسب مقام الثبوت - هو جعل
حيثية الطبيعة تمام الموضوع للحكم، من دون احتياج إلى لحاظ
السريان والشياع، وملاك التقييد انضمام حيثية أخرى إليها في مقام
الموضوعية، هذا بحسب مقام الثبوت، وأما في مقام الاثبات
فيتوقف الحكم بالاطلاق على إحراز كون المولى في مقام بيان ما هو
تمام الموضوع لحكمه، فهو الأساس لاحراز الاطلاق ولا نحتاج
إلى مقدمة أخرى، وحينئذ فيقع الكلام في أن إحراز كون المولى
بصدد البيان هل يتوقف على العلم به أو أنه يوجد هناك أمارة عقلائية
يحرز بها ذلك؟ الظاهر هو الثاني، فإن الظاهر من كلام المتكلم العاقل -
بما أنه تكلم وفعل اختياري له - هو أنه صدر عنه ذلك بداعي
الافهام والبيان، لا الاهمال والاجمال، إذ الظاهر من الفعل الصادر عن
العاقل - بما أنه فعل اختياري له - أن يكون صدوره عنه بداعي
غايته الطبيعية، أعني ما يعد غاية وفائدة له عند العقلا، بحيث يكون
صدور هذا النوع من الفعل عنهم بهذا الداعي، والغاية الطبيعية
العادية للتكلم بكلام إنما هي إلقاء مضمونه بداعي بيان المقصود، و
نظير ذلك: حمل الألفاظ على معانيها الحقيقية عند عدم القرينة، إذ
الفائدة الطبيعية المتعارفة لاستعمال اللفظ الموضوع عبارة عن إفهام
معناه الذي وضع هو بإزائه من دون أن يجعل هذا المعنى معبرا
لمعنى آخر كما هو الملاك في الاستعمالات المجازية.
والحاصل: أن الكلام الصادر عن العاقل يحمل عند العقلا على كونه
صادرا عنه لغرض إفادة ما هو قالب له، ولا يحمل على الاهمال، إلا
إذا كانت هناك قرينة عليه، ولذلك ترى العقلا يعتمدون على
المطلقات الصادرة عن الموالي وغيرهم، وعلى ذلك استقر بناؤهم
في
محاوراتهم، وإن سمع أحدهم مطلقا وبنى عليه وعمل بإطلاقه بعد
الفحص عن المقيد لم يكن
385

للمولى الاحتجاج عليه بأنه لم يكن في مقام البيان، ولعل نظر
المشهور القائلين بوجوب الحمل على الاطلاق ما لم تثبت قرينة على
التقييد
أيضا إلى ما ذكرناه، لا إلى كون التقييد مخالفا للأصل من جهة
المجازية، إذ القول بالمجازية ينشأ إما من توهم كون اللفظ موضوعا
للطبيعة بقيد السريان، وكون التقييد موجبا لالغاء هذا القيد واستعمال
اللفظ الموضوع للكل في الجز، أو توهم كونه موضوعا لأصل
الطبيعة، وكونه عند التقييد مستعملا في الطبيعة المقيدة مع قيدها،
فيكون من قبيل استعمال لفظ الجز في الكل، ومن البعيد ذهاب
المشهور إلى كون اللفظ موضوعا للطبيعة بقيد السريان، أو كونه عند
التقييد مستعملا في الطبيعة مع القيد. وكيف كان فاللفظ الدال
على الطبيعة إذا ذكر في كلام ولم يذكر معه قيد يحمل - عند العقلا
- على أن نفس حيثية الطبيعة تمام الموضوع للحكم وأن المولى
بصدد البيان لا الاهمال أو الاجمال، إذ الظاهر من كلامه - بما أنه فعل
اختياري له - كونه صادرا لبيان الحكم بموضوعه، فيستفاد من
ذكر الطبيعة وعدم ذكر القيد كون نفس الطبيعة تمام الموضوع للحكم،
ولذا لو صدر عنه بعد ذلك كلام آخر وجعل فيه نفس هذه
الطبيعة مقيدة بقيد موضوعة للحكم المذكور بحيث أحرز وحدة
الحكم لصار الكلامان بنظر العقلا متعارضين، وإن كانا مثبتين، فإذا
قال المولى: إن ظاهرت فأعتق رقبة، ثم قال: إن ظاهرت فأعتق رقبة
مؤمنة، وأحرز بوحدة السبب مثلا وحدة الحكم حصل التعارض
بين الكلامين لظهور الأول في كون نفس حيثية الطبيعة تمام الموضوع،
وظهور الثاني في خلافه، غاية الأمر أنه يجمع بينهما بحمل
المطلق على المقيد أو حمل المقيد على أفضل الافراد، والأول أقوى
كما يساعد عليه العرف، فتخصيص بعضهم حمل المطلق على المقيد
بصورة كونهما مختلفين في النفي والاثبات في غير محله. نعم، مورد
التعارض والحمل، كما أشرنا إليه ما إذا أحرز صدور الكلامين
لبيان حكم واحد، وإلا فيعمل بظاهر كل منهما ويحملان على كونهما
حكمين مستقلين لموضوعين مختلفين.
التنبيه الثاني: اختلاف نتيجة الاطلاق في متعلق الأمر والنهي:
قد عرفت ان معنى الاطلاق كون حيثية الطبيعة تمام الموضوع للحكم،
وحينئذ فنقول: إن نتيجة كونها تمام الموضوع تختلف باختلاف
الاحكام المتعلقة بها، فان تعلق بها طلب الايجاد الذي هو مفاد الامر
كانت النتيجة هي السريان والعموم البدلي، وان تعلق بها النهي
كانت النتيجة السريان والعموم الاستغراقي، إذ الطلب إذا تعلق بنفس
الطبيعة من دون ان يلحظ الوحدة أو السريان - كما هو مقتضى
الاطلاق - كان مقتضاه وجوب إيجادها على المكلف من دون نظر
386

إلى خصوصيات المصاديق، والطبيعة توجد بوجود فرد ما، فإذا
وجدت الطبيعة بإيجاد فرد أو فردين منها في عرض واحد سقط الامر
بها قهرا لحصول الامتثال فلا تقع الافراد المتعقبة مصاديق للامتثال.
وبالجملة تعلق الامر بنفس حيثية الطبيعة يقتضى العموم البدلي، و
هذا بخلاف ما إذا تعلق بها النهي فان مفاد النهي - كما عرفت في
محله - ليس عبارة عن طلب الترك، بل المستفاد منه هو الزجر عن
متعلقه، فالمتعلق لكل من الأمر والنهي ليس الا نفس حيثية الطبيعة، و
الفرق بينهما ان الامر من مقولة الطلب والبعث، والنهي من مقولة
الزجر، فمتعلق الامر على فرض وجوده يقع امتثالا له، ومتعلق النهي
على فرض وجوده يقع عصيانا له، فإذا تعلق الزجر بنفس حيثية
الطبيعة كان الغرض منه انزجار العبد من نفس حيثية الطبيعة وعدم
تحققها منه في الخارج، فكل ما هو وجود للطبيعة يكون مزجورا عنه
بما انه وجود لها، ولو عصى المكلف وأوجد فردا منها يكون
سائر الافراد أيضا مزجورا عنها لأنها أيضا وجودات لهذه الطبيعة، و
المفروض تعلق الزجر بنفس حيثية الطبيعة، ومقتضاه تنفر المولى
من وجود الطبيعة بما هو وجود لها فيسري الحكم أينما سرت.
فان قلت: كما أن امتثال التكليف يوجب سقوطه فكذلك عصيانه،
فكيف يبقى الزجر عنها مع تحقق العصيان قلت: هذا الكلام من
الاغلاط
المشهورة، إذ لا نسلم أن العصيان من المسقطات، وما تراه من سقوط
الواجب الموقت بعصيانه في وقته فليس ذلك من جهة مسقطية
العصيان، بل من جهة عدم القدرة عليه بانقضاء وقته.
والحاصل: أن تعلق الزجر بأصل الطبيعة، بحيث تكون نفس حيثيتها
تمام الموضوع للزجر يقتضي سريان الزجر إلى جميع أفرادها، و
يكون كل فرد منها بما هو وجود لها مزجورا عنه، وإذا تحقق العصيان
في بعضها يبقى الزجر بالنسبة إلى البقية، وليس ذلك بسبب
لحاظ السريان استيعابا، بل هو مقتضى كون نفس حيثية الطبيعة تمام
الموضوع للزجر، ومثل ذلك الأحكام الوضعية إذا تعلقت
بالطبيعة كقوله تعالى: أحل الله البيع مثلا، فإن كون نفس حيثية
الطبيعة تمام الموضوع للصحة مثلا يقتضي سريانها أينما سرت، و
نتيجته العموم الاستغراقي.
387

وبالجملة اختلاف نتيجة الاطلاق بالبدلية والاستغراق إنما هو من
مقتضيات الاحكام المتعلقة بها، وإلا فمعنى الاطلاق في جميعها
ليس
إلا جعل حيثية الطبيعة تمام الموضوع للحكم، من دون أن يلحظ
السريان فضلا عن البدلية أو الاستيعاب، وعلى هذا فلا يرد ما أورده
بعض أعاظم العصر من أن مقدمات الحكمة إما أن تنتج السريان البدلي
أو السريان الاستيعابي، فلم يحكم في بعض الموارد بهذا وفي
بعض الموارد بذاك؟ ولا يصح الجواب عن ذلك بأن نتيجة المقدمات
هو أصل السريان، والخصوصيات تستفاد من قرائن المقام، بل
الحق في الجواب: أن نتيجة المقدمات هو الارسال لا السريان، ومعنى
الارسال هو عدم تقييد الطبيعة في مقام الموضوعية للحكم، و
جعلها تمام الموضوع له، لا لحاظ الشياع والسريان، غاية الأمر أن
نتيجة كونها تمام الموضوع تختلف باختلاف الاحكام المتعلقة بها،
ففي الأوامر تكون النتيجة هي العموم البدلي، وفي النواهي والاحكام
الوضعية العموم الاستغراقي، ولذا يطلق على البيع في قوله تعالى:
أحل الله البيع العام، كما يطلق عليه المطلق، فالثاني باعتبار كون
حيثيته تمام الموضوع للصحة، بحيث لم تنضم إليه حيثية أخرى في
مقام
الموضوعية، والأول باعتبار أن نتيجة الاطلاق في المقام شمول
الحكم المتعلق بالبيع لجميع أفراده. [1]
التنبيه الثالث: الطبيعة المتعلقة للاحكام التكليفية والوضعية:
لا يخفى ثبوت الفرق بين الطبيعة الواقعة في حيز الامر أو النهي، وبين
الطبيعة الواقعة في حيز الأحكام الوضعية، فإن الامر لطلب إصدار
الطبيعة وإيجادها والنهي للزجر عن إصدارها، فالطبيعة الواقعة في
حيزهما غير مفروضة الوجود، وإنما أريد بالامر إيجادها، و
بالنهي إبقاؤها على حالة العدم. وأما الأحكام الوضعية فمتعلقها هو
الطبيعة المفروضة الوجود، فيكون الحكم ثابتا - بنحو القضية
الحقيقية - لوجوداتها المفروضة، بما هي وجودات له، فعتق الرقبة في
نحو (أعتق رقبة) أو (لا تعتق رقبة)
[1] أقول: قد اشتهر بينهم أن كل عام مطلق وكل مطلق عام، والفرق بين
العام والمطلق أن إطلاق المطلق على حيثية إنما هو باعتبار
كونها تمام الموضوع وأنه لم ينضم إليها حيثية أخرى في الموضوعية،
وفي مقابله التقييد، وإطلاق العام عليها باعتبار شمول الحكم
المتعلق بها لجميع في الموضوعية، وفي مقابله التقييد، وإطلاق العام
عليها باعتبار شمول الحكم المتعلق بها لجميع أفرادها، وفي مقابله
التخصيص، وقد يفرق بينهما بأن العام ما لوحظ فيه الكثيرة وجعل
الطبيعة فيه ما به ينظر، بخلاف المطلق فإنه لم يلحظ فيه الكثرة
فضلا عن جعل الطبيعة مرآة لها. وقد يفرق أيضا بأن العام لا يطلق إلا
على ما يكون شموله بالوضع، سواء كان استيعابيا أم مجموعيا أم
بدليا، والمطلق يطلق على ما كان الشمول فيه بقرينة الحكمة. ح - ع -
م.
388

لم يفرض وجوده، حتى يكون الحكم لوجوداته المفروضة، وهذا
بخلاف البيع في نحو أحل الله البيع، فإن الصحة والامضاء إنما
شرعت
للبيع المفروض وجوده في الخارج.
التنبيه الرابع: موارد الاحتياج إلى مقدمات الحكمة:
لا يخفى أن الاحكام المتعلقة بالطبائع على نحوين: بعضها مما يمكن
أن يتعلق بأصل الطبيعة مع فرض كون الموضوع لها بحسب الواقع
والجد الطبيعة المقيدة، وبعضها مما لا يمكن تعلقها بأصل الطبيعة إلا
إذا كان الموضوع واقعا هو نفس حيثيتها، فمثال القسم الأول
الاحكام الايجابية كالأوامر مثلا، فإذا كان مراد المولى بحسب الواقع
عتق الرقبة المؤمنة صح له أن يقول في مقام الانشاء: أعتق رقبة، و
يكون غرضه ذكر القيد بعد ذلك، ومثال القسم الثاني الاحكام السلبية
كالنفي والنهي، فلا يصح أن يقال لا رجل أو لا تعتق رجلا، إلا إذا
كان المراد بحسب الواقع نفي حيثية الطبيعة المطلقة أو الزجر عنها و
إن كان مراده نفي المقيد لم يصح إدخال حرف النفي على نفس
الطبيعة، بلا ذكر القيد، لان حرف النفي موضوع لنفي مدخوله، وانتفاء
الطبيعة بانتفاء جميع أفرادها، وهذا بخلاف الامر، فإنه لطلب
إيجاد المتعلق، فإن كان المطلوب بحسب الواقع إيجاد المقيد أيضا
صح في مقام الانشاء تعلق الامر بأصل الطبيعة، إذ وجودها بوجود
فرد ما فإرادة إيجاد المقيد إرادة لايجادها أيضا، فيصح أن يتعلق
الطلب بها ويذكر القيد بعده.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: إن الاحتياج إلى مقدمات الحكمة إنما هو
في القسم الأول، أعني الاحكام الايجابية، لما عرفت من صحة تعلق
الحكم فيها بأصل الطبيعة مع كون المراد لبا هو المقيد، فنحتاج في
إثبات الاطلاق إلى إحراز كون المولى في مقام بيان تمام الموضوع
لحكمه وعدم كونه بصدد الاهمال.
وأما القسم الثاني، أعني الاحكام السلبية، فيمكن أن يقال فيها بعدم
الاحتياج إلى مقدمات الحكمة، لما عرفت من أن كلمة (لا) مثلا
موضوعة لنفي مدخولها، أي شي كان، فإن كان المدخول عبارة عن
اللفظ الدال على نفس حيثية الطبيعة كان النفي متوجها إليها، و
انتفاؤها كما عرفت إنما يكون بانتفاء جميع وجوداتها، فلا يحتمل
الاهمال حتى ينتفي بإحراز كونه في مقام البيان، وبالجملة استفادة
الاطلاق هنا إنما تكون بالاستعانة من وضع (لا) [1] لأنها لنفي
[1] أقول: وهذا البيان يجري في لفظة (كل) ونحوها أيضا، مما وضع
للشمول، فإنها وضعت لشمول المدخول، لا لشمول ما أريد منه لبا،
فإن قلت: على هذا يلزم أن يكون التقييد بدليل منفصل موجبا
للمجازية بالنسبة إلى لفظ (لا) أو (الكل) أو نحوهما، وإن لم يلزم
المجازية بالنسبة إلى المدخول قلت: لفظة (كل) مثلا إنما
389

المدخول - أي شي كان - من المطلق أو المقيد.
هذا آخر ما أورده السيد الأستاذ (مد ظله العالي على روس
المسلمين) في مباحث الألفاظ وتتلوه إن شاء الله المباحث العقلية.
وقد وقع الفراغ من تسويد هذه الصحائف في شهر محرم الحرام سنة
1368.
بيد العبد المفتقر إلى رحمة ربه الغني حسين علي المنتظري بن علي
النجف آبادي الاصفهاني عاملهما الله بلطفه وفضله بحق محمد وآله
الطاهرين.
وضعت لشمول ما أريد من المدخول استعمالا لا بحسب الجد و
إحراز الجد إنما يكون بأصالة التطابق بين الإرادتين، والتقييد تصرف
في الجد لا في الاستعمال، فافهم. ح - ع - م.
390

المقصد السادس في القطع وفيه فصول
392

الفصل الأول: حجية القطع
حالات المكلف الملتفت إلى الحكم الشرعي
وقد شرع فيه الأستاذ آية الله البروجردي مد ظله العالي في يوم
الأربعاء، الثاني والعشرين من المحرم سنة 1368 قمرية. فقال مد ظله:
قال الشيخ (قده): (اعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي فاما ان
يحصل له القطع به أو الظن أو الشك إلخ). أقول: نفس الالتفات لا
يكفي في حصول إحدى الحالات الثلاثة إذ قد يلتفت الشخص إلى
نسبة شي إلى شي ويدركها بالادراك التصوري ولا يلتفت إلى انها
واقعة أم لا وحصول إحدى الحالات الثلاثة انما هو في مرتبة لحاظ
الخارج وانها هل تكون واقعة في الخارج أم لا.
ثم إن تقسيمه (قده) لما كان مظنة ان يستشكل عليه [1] بأنه تقسيم
الشئ إلى نفسه وغيره بلحاظ ان الشاك - مثلا - ربما لا يكون مكلفا
بما شك فيه، بين شيخنا الأستاذ في الكفاية عنوان البحث بعبارة
أخرى فقال: (ان البالغ الذي وضع عليه القلم إلخ)، ليسلم عن
الاشكال.
وفيه، ان الاشكال آت فيه أيضا، فالأولى ان يقال في الجواب: ان
صدق عنوان المكلف لا يلزم ان يكون بلحاظ هذا التكليف المظنون
فيه
أو المشكوك فيه حتى يرد الاشكال بل اللازم صدقه ولو بلحاظ
التكاليف الضرورية.
[1] ليس الاشكال عبارة عن تقسيم الشئ إلى نفسه وإلى غيره فان
عمدة الاشكال هو ان كلا من القطع والظن والشك قد يتخلف عن
الواقع فلا يكون تكليف في البين ولا ينحصر الاشكال ببعض الاقسام.
ثم إن الظاهر عدم ورود الاشكال على ما ذكره في الكفاية إذ ليس
مراده، من وضع عليه القلم بالنسبة إلى هذا التكليف بل ليس مراده
(قده) المكلف الفعلي بل من له شأنية التكليف. فافهم. ح - ع - م.
393

هل البحث عن القطع أصولي أو كلامي؟:
قال في الكفاية: (ان مبحث القطع ليس من مسائل الأصول بل يكون
أشبه بمسائل الكلام وانما ذكر هنا استطرادا).
أقول: بل هو من مسائل الأصول ولا شباهة له بالكلام أصلا.
اما الأول: أعني كون مبحث القطع من مسائل الأصول: فلما عرفت في
محله من أن موضوع علم الأصول هو، عنوان (الحجة في الفقه) و
عوارضها المبحوثة عنها في الأصول عبارة عن تعيناتها وتشخصاتها
الخارجة عنها مفهوما المتحدة معها خارجا كخبر الواحد والكتاب
وغيرهما من الحجج ولا نعنى بالحجة ما يقع وسطا للاثبات كما
عرفته ونسب إلى المنطقيين أيضا مع أن المنطقي يطلقها على مجموع
الصغرى والكبرى لا على الأوسط فقط. وكيف كان فليس مرادنا
بالحجة التي نجعلها موضوع علم الأصول ذلك بل المراد بها ما يحتج
به الموالي على العبيد والعبيد على الموالي في مقام الامتثال و
المخالفة.
وبعبارة أخرى: هي ما يكون منجزا للتكاليف الواقعية بمعنى ان لا
يكون العبد معذورا في مخالفتها في صورة المصادفة ويكون
معذورا إذا عمل به وخالف الواقع وهذه الآثار كلها تترتب على القطع
كما لا يخفى، فهو أيضا من افراد الحجة ومن تعيناتها فالبحث
عنه بحث أصولي. وعدم تعرض القدماء له، من جهة وضوح مباحثه
عندهم وان شئت تفصيل المطلب فراجع إلى ما ذكرناه في موضوع
علم الأصول.
واما الثاني: أعني عدم شباهته بمباحث الكلام، فلان غاية ما يمكن ان
يقال:
هو دخول المسألة في مسألة (ما يصح على الله وما يقبح) أو في مسألة
(ثبوت العقاب في يوم الجزاء) وهما من المسائل الكلامية. ولكن
يرد على ذلك ان المبحوث عنه في الأولى هو ان الله تعالى يصدر عنه
الحسن ولا يصدر عنه القبيح واما تعداد صغريات القبيح فليس
مربوطا بالمسألة ولا البحث عنها من وظائف المتكلم. والمبحوث
عنه في الثانية هو ان العقاب ثابت يوم الجزاء واما تعداد ما يمكن ان
يعاقب عليه فليس أيضا من وظائف المتكلم وعلى هذا فليس البحث
عن عدم قبح عقاب من خالف القطع بحثا كلاميا ولا مربوطا به.
فافهم.
394

مراتب الحكم:
اعلم أن شيخنا الأستاذ قال في الكفاية وساير كتبه: ان للحكم أربع
مراتب: الاقتضاء والانشاء والفعلية والتنجز. فالأولى، عبارة عن
المصالح والمفاسد الكائنة في متعلقات الاحكام. والثانية عبارة، عن
الانشاء الصادر لا بداعي البعث والزجر. والثالثة: عبارة عن
مرتبة البعث والزجر. والرابعة: عبارة عن مرتبة وصوله إلى العبد بالعلم
أو بما يقوم مقامه. هذه خلاصة كلامه زيد في علو مقامه.
وفيه نظر: فان ما ذكر من المراتب الأربعة ليست مراتب لحقيقة واحدة
بل هي أمور متباينة.
بيان ذلك: ان هذا التعبير انما يصح فيما إذا كان حقيقة واحدة مقولة
بالتشكيك وهي ما تكون في عين وحدتها ذات مراتب متفاوتة
بالشدة والضعف مع انحفاظ أصل حقيقتها في جميع المراتب كالنور
الصادق على نور الشمس والسراج مثلا. وما نحن فيه ليس كذلك
إذ ما يستحق ان يطلق عليه اسم الحكم (هو الانشاء الصادر بداعي
البعث أو الزجر) وليس الانشاء المجرد عن هذا الداعي أو المصالح و
المفاسد من المراتب الضعيفة لهذا المعنى.
نعم: المصلحة والمفسدة علتان لتحقق الحكم ومن البديهيات عدم
كون مثل هذه العلة، مرتبة من المعلول.
واما التنجز: فعدم كونه من مراتب الحكم أوضح بل هو ما يتصف به
بعض الأحكام أعني ما يشتمل على الالزام باعتبار مقارنة هذا الحكم
لعلم المكلف أو ما يقوم مقامه.
وبالجملة: فهو امر يصدق في التكاليف الالزامية فقط التي توجب
مخالفتها العقاب وليس صدقه من جهة صيرورة الحكم في مرتبته
قويا، بل من جهة مقارنة الحكم لامر خارج عن حقيقته أعني العلم وما
يقوم مقامه.
والحاصل: ان الاقتضاء والانشاء المجرد والتنجز، لا يصلح ان يطلق
عليها الحكم. ولو أبيت الا عن إطلاقه عليها بالمسامحة فليعلم ان
إطلاقه على واحد منها بالحقيقة وعلى غيره بالمسامحة.
والتحقيق ان يقال: ان للحكم مرتبتين: الشأني والفعلي.
بيان ذلك: انك قد عرفت آنفا ان الحكم عبارة عن الانشاء الصادر
بداعي البعث أو الزجر لا الانشاء المجرد عنهما ومن الواضحات عدم
حصول الانبعاث أو الانزجار من نفس هذا الانشاء ما لم يتعلق به
العلم، فعلى هذا لا يكون غرض المولى من إنشائه حصول الانبعاث
مثلا
من نفس
395

إنشائه بل ينشأ البعث ليعلم به العبد فينبعث ولا يمكن ان يكون
صدور الفعل عن العبد أحيانا بداعي الاحتياط أو بدواع أخرى غرضا
من
الانشاء إذ وجوده وعدمه واقعا سواء في حصول ذلك الفعل من العبد
وليس ذلك الصدور من آثار ذلك الانشاء الواقعي. فتأثيره في
نفس العبد يتوقف على العلم به وفي هذه المرتبة يتحقق ما هو حقيقة
الحكم أعني الباعثية والزاجرية واما قبل تعلق العلم به فهو وإن كان
حكما أيضا حيث إنه إنشاء صدر بداعي البعث ولكن حيث لا
يمكن ان يؤثر في نفس المكلف وان يترتب عليه الغرض المقصود
منه،
يتصف في هذه المرتبة بالشأنية. فالشأني: عبارة عن الانشاء الصادر
بداعي البعث مع عدم تعلق علم المكلف به.
والفعلي: عبارة عن نفس هذا الانشاء بعد صيرورته معلوما للمكلف و
قابلا للتأثير في نفسه.
والمحقق الخراساني أيضا كان يلتزم بوجود هاتين المرتبتين. فعلى
هذا تصير المراتب على مذاقه خمس: الاقتضاء والانشاء المجرد و
هاتان المرتبتان والتنجز ويمكن ان يعبر عن الثالثة (بالفعلي قبل
التنجز) وعن الرابعة (بالفعلي مع التنجز).
واما التنجز فقد عرفت انه لا يوجد في جميع الأحكام بل هو امر
يتصف به الحكم الالزامي باعتبار صيرورته بحيث يصح ان يعاقب
عليه،
اما لتعلق القطع به، أو لجعل المولى حكما طريقيا لاحرازه وقد وصل
هذا الحكم الطريقي إلى العبد. وهذا مثل إيجاب الاحتياط في
موارد الشك أو إيجاب العمل بخبر الواحد أو الاستصحاب أو نحو
ذلك مما لم يتعلق به التكليف لمصلحة في نفسه بل أوجبه الشارع
لاحراز الواقع وحفظه. وهذه الأحكام المجعولة لحفظ الاحكام
الأخرى هي التي تسمى بالأحكام الظاهرية، فلو فرض كون نفس
العمل
بالخبر مشتملا على المصلحة فأوجب الشارع العمل به لذلك لا يكون
هذا حكما ظاهريا بل هو حكم واقعي في عرض ساير الأحكام
الواقعية لا في طولها.
ثم إنه كما يكون القطع والاحكام الظاهرية من المنجزات، فكذلك قد
يكون نفس الاحتمال سببا للتنجيز، كما في الشبهة قبل الفحص و
فيما إذا احتمل التكليف وعلم باهتمام الشارع به على فرض ثبوته
بحيث لا يرضى بتركه ولو في حال الشك. ومعنى التنجيز في جميع
ذلك، هو استحقاق العبد للعقاب على الواقع على فرض ثبوته.
هذه خلاصة ما أردنا ذكره في باب تقسيم الحكم مقدمة لما ذكره في
الكفاية في عنوان البحث.
التعرض لتقسيم صاحب الكفاية:
فإذا عرفت ذلك فلنذكر كلامه (قده) مع ما يتوجه عليه.
396

فنقول: قال (قده) ما حاصله: (ان البالغ الذي وضع عليه القلم إذا
التفت إلى حكم فعلى واقعي أو ظاهري، فاما ان يحصل له القطع أو لا،
فان
حصل له القطع عمل به والا فلا بد من انتهائه إلى الوظائف المقررة له
عقلا).
ثم قال ما حاصله:
وانما عممنا متعلق القطع لعدم اختصاص أحكامه بما إذا كان متعلقا
بالأحكام الواقعية ولذلك عدلنا عن ما في الرسائل من تثليث
الاقسام وان أبيت الا عن التثليث فالأولى ان يقال:
ان المكلف اما ان يحصل له القطع أو لا، وعلى الثاني اما ان يقوم عنده
طريق معتبر أولا، ووجه الأولوية ان التقسيم انما هو لاختلاف
الاقسام في الاحكام وعلى تقسيم الشيخ (قده) يلزم تداخل الاقسام
في الاحكام إذ رب ظن ليس في مورده أمارة معتبرة فيلحق بالشك و
رب شك في مورده أمارة معتبرة فلا يرجع فيه إلى الأصول، انتهى.
واستشكل عليه بعض بان التقسيم إلى القطع والظن والشك انما هو
من جهة النظر إلى حالات المكلف مضافا إلى افتراق الظن عن
الشك بان الظن قابل لان يجعل طريقا منجزا للواقع، لاشتماله على
كشف ناقص دون الشك إذ لا معنى لصيرورته كاشفا وموجبا
لتنجيز الواقع.
أقول: ما ذكره هذا البعض غير صحيح إذ الشك أيضا قد يكون منجزا
كما عرفت، هذا مضافا إلى أن اعتبار الطرق المجعولة ليس
باعتبار إيجابها للظن فالظن، بما هو ظن مثل الشك في عدم الاعتبار. و
ما هو المعتبر هو الامارات الموجودة في موردها وهي بعينها
حجة في مورد الشك أيضا. وبالجملة: فما ذكره في الكفاية من أن
الاعتبار بوجود الامارة المعتبرة لا وصف الظن والشك في محله.
واما ما ذكره في الكفاية من تعميم متعلق القطع ومن جعل التقسيم
ثنائيا فيتوقف وضوح صحته أو سقمه على بيان مقدمة وهي:
انهم ذكروا انه لا إشكال في وجوب متابعة القطع، ومرادهم بهذا
الكلام ليس ثبوت الوجوب الشرعي لمتابعة القطع بما هو قطع وليس
المراد أيضا ان من قطع بوجوب الصلاة مثلا فهو غافل عن قطعه وانما
يرى نفس وجوب الصلاة، فان هذا المعنى يكون توضيحا للواضح
إذ يرجع إلى أن القاطع بالوجوب مثلا قاطع بالوجوب، بل المراد من
وجوب متابعة القطع، حكم العقل بكون القطع منجزا للواقع على
فرض اصابته وعدم كون العبد معذورا في مخالفته بل يكون بها
خارجا عن زي الرقية ورسم العبودية.
397

والحاصل: ان الظاهر من هذه العبارة كون متابعة القطع بما هي تتصف
بالوجوب وليس هذا الوجوب وجوبا شرعيا بل هو إلزام عقلي
يحكم به كل عاقل، سواء في ذلك نفس القاطع وغيره وهذا الحكم
من العقل من توابع حكمه بكون القطع منجزا للواقع بحيث لا يكون
العبد معذورا في مخالفة الواقع مع إصابة قطعه.
قيام الطرق مقام القطع في تنجيز الواقع:
فإذا عرفت ذلك وتبين لك معنى تنجيز القطع فنقول: يقوم مقام القطع
في تنجيز الواقع جميع الطرق الشرعية المجعولة لاحراز الواقع
كخبر الواحد والبينة وكذا إيجاب الاحتياط بل الاستصحاب أيضا
على ما هو الحق عندنا كما يأتي في محله. فبعد حكم الشارع بوجوب
العمل بخبر الواحد يصير الخبر منجزا للواقع بمعنى عدم كون العبد
معذورا في مخالفته إذا كان الخبر مصادفا للواقع وخالفه العبد. و
كذلك معنى تنجيز الاستصحاب للواقع فان العبد يعاقب على مخالفة
الواقع فيما إذا خالف الاستصحاب وكان مصادفا، فالثواب و
العقاب في الاحكام الطريقية يدوران مدار مخالفة الواقع لا مخالفة
أنفسها.
وبالجملة: فجميع تلك الأحكام الظاهرية تشترك مع القطع في تنجيز
الواقع. ولا فرق في القطع أيضا بين التفصيلي والاجمالي في ذلك
فإذا علم إجمالا بوجوب هذا أو ذاك، يلزمه العقل إتيان كلا الطرفين لا
من جهة كون كل طرف واجبا عليه بنفسه بل من جهة حكمه بكون
الواقع منجزا، سواء أكان في هذا الطرف أم في ذاك ولا يكون العبد
معذورا في مخالفته في أي طرف كان.
نعم، قد يتفق في بعض الموارد عدم صلاحية العلم الاجمالي لتنجيز
الواقع على بعض التقادير أو مطلقا.
وان شئت تفصيل ذلك، فنقول:
إذا تعلق العلم الاجمالي بجنس التكليف أعني مطلق الالزام فصوره
أربع:
1 - ان يتردد الامر بين وجوب هذا أو ذاك.
2 - ان يتردد الامر بين حرمة هذا أو ذاك.
3 - ان يتردد بين وجوب شي وحرمة شي آخر.
4 - ان يتردد بين وجوب شي وحرمة هذا الشئ.
398

والضابط الكلي في أحكام هذه الصور، انه اما ان يتمكن المكلف من
الموافقة القطعية واما ان يتمكن من الموافقة الاحتمالية ويمكنه
المخالفة القطعية أيضا واما ان لا يتمكن من الموافقة القطعية ولا
المخالفة القطعية. فعلى الأول يتنجز عليه الواقع في أي طرف كان و
على الثاني يجب عليه الموافقة الاحتمالية، فلو تركها عوقب على
مخالفة الواقع. وحينئذ فإن كان أحد الطرفين مظنون المطابقة للواقع
تعين أخذه، لحكم العقل بوجوب كون العبد بصدد إحراز الواقع مهما
أمكن والظن أقرب إلى إحرازه من الوهم، وان تساوى الطرفان
كان مخيرا في أخذ أي من الطرفين، وعلى الثالث يدور الامر بين
المحذورين فيثبت التخيير أيضا ان لم يكن في البين ظن.
والفرق بين التخييرين واضح، إذ التخيير في دوران الامر بين
المحذورين قهري إذ لا يتمكن العبد بحسب الفرض من فعل كلا
الطرفين
ولا من تركهما، ففي هذه الصورة، وجود العلم الاجمالي كعدمه، لا
تنجيز له بالنسبة إلى الواقع أصلا، وهذا بخلاف التخيير في الفرض
السابق إذا العلم فيه منجز على بعض الفروض وهو صورة ترك كلا
الطرفين، فحكم العقل فيه بالتخيير، انما هو لاحراز الواقع احتمالا،
حيث لا يتمكن عن إحرازه بنحو القطع، فالعلم الاجمالي أيضا كالعلم
التفصيلي منجز للواقع بحكم العقل ما لم يمنع عنه مانع، فلذا يحكم
العقل بوجوب متابعته بإيجاد كلا الطرفين، أو بإيجاد أحدهما على
حسب اختلاف الموارد، وهذا هو المسمى عندهم بقاعدة الاشتغال،
فهي حكم عقلي لاحراز الواقع.
وقد تلخص من جميع ما ذكرناه، ان القطع تفصيليا كان أو إجماليا و
كذلك ساير الأحكام الشرعية الظاهرية المجعولة لاحراز
الواقعيات، تشترك في تنجيز الواقع على فرض المصادفة وليست
موافقتها ولا مخالفتها موجبتين للثواب والعقاب على أنفسهما بل
الثواب والعقاب يدوران مدار الواقع.
إذا عرفت ذلك فقد تبين لك ضعف تقسيم الكفاية في عنوان البحث،
حيث جعل التقسيم ثنائيا وقال: (ان حصل القطع بالحكم الواقعي أو
الظاهري عمل به والا رجع إلى الأصول العقلية من البراءة والتخيير و
الاشتغال).
وجه الضعف، ان الحكم الظاهري ليس في عرض الحكم الواقعي و
ليس له بنفسه تنجز حتى يكون القطع منجزا له بل التنجز وعدمه
يدوران مدار الواقع والحكم الظاهري أيضا في عرض القطع بالحكم
الواقعي في كونه منجزا للواقع.
ثم إن قاعدة الاشتغال أيضا من المنجزات العقلية للواقع فان موردها
العلم الاجمالي كما
399

عرفت وهو كالتفصيلي في التنجيز فعدها في عداد البراءة والتخيير
في غير محله.
والأولى في التقسيم الثنائي ان يقال: ان المكلف إذا التفت إلى الحكم
الواقعي، فاما ان يثبت له أحد منجزاته من العلم بقسميه والطرق
الشرعية كالبينة وخبر الواحد بل الاستصحاب أيضا، أو لا، وعلى
الثاني يكون المرجع هو البراءة أو التخيير ان دار الامر بين
المحذورين. ففي القسم الأول يكون التكليف على فرض ثبوته منجزا،
وفي القسم الثاني لا تنجز له أصلا. والتخيير بل البراءة أيضا
حكمان عقليان فما ذكره الشيخ (قده) أيضا من أن المرجع للشاك هو
القواعد الشرعية في غير المحل فتأمل.
معنى حجية القطع:
ثم إن الشيخ (قده) قال ما حاصله: انه لا إشكال في وجوب متابعة
القطع ما دام موجودا لأنه بنفسه طريق إلى الواقع وليست طريقيته
قابلة لجعل الشارع نفيا أو إثباتا. ومن هنا يعلم أن إطلاق الحجة عليه
ليس كإطلاق الحجة على الامارات المعتبرة شرعا فان الحجة هي
الحد الأوسط الذي به يحتج على ثبوت الأكبر للأصغر. فقولنا: الظن
حجة أو البينة حجة يراد بهما كونهما وسطين لاثبات أحكام
متعلقهما فيقال هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية يجب
الاجتناب عنه، وهذا بخلاف القطع لأنه إذا قطع بوجوب شي يقال
هذا
واجب وكذلك إذا قطع بالخمرية يقال هذا خمر ولا يقال هذا معلوم
الخمرية إلخ. انتهى.
أقول: قد ظهر لك سابقا ان عبارته تحتمل معنيين:
الأول: ان يكون مراده بوجوب متابعة القطع، هو الوجوب الشرعي و
يكون متعلقه، العمل الذي هو مصداق لمتابعة القطع وتحمل هي
عليه
بالحمل الشائع كالصلاة المقطوع بوجوبها، لا نفس المتابعة بما هي
متابعة، وعلى هذا يكون المراد من عدم الاشكال، عدم الاشكال عند
نفس القاطع ويصير حاصل المعنى، ان القاطع بوجوب الصلاة، لا
إشكال عنده في وجوب الصلاة التي تكون بوجودها في الخارج
مصداقا لمفهوم متابعة القطع أيضا، ومعنى عدم الاشكال عنده، ثبوت
القطع له. فيرجع الكلام إلى أن القاطع بوجوب الصلاة، قاطع
بوجوب الصلاة.
وهذا الاحتمال وإن كان في نفسه بعيدا، الا ان الظاهر من مجموع كلام
الشيخ خصوصا بعد وروده في تفسير الحجة، إرادة ذلك.
الثاني: ان يكون مراده بالوجوب، الوجوب العقلي ويكون متعلقه
متابعة القطع بما
400

متابعة والمراد من عدم الاشكال، عدم ثبوت الاشكال عند جميع
العقلا، فإنهم يحكمون بان القاطع يجب عليه متابعة قطعه ولا يكون
معذورا في مخالفته، فيكون القطع حجة عندهم بمعنى كونه سببا
لتنجز الواقع. وقد عرفت ان مراد الأصوليين بالحجة ذلك، لا ما يجعل
حد الأوسط فكلما أطلقوا (الحجة) سواء حملوها على القطع أو على
ساير الامارات، لا يريدون بها الا ما ذكرنا.
وما ذكره (قده) من جعل الامارات أوساطا دون القطع ففيه: انها تجعل
حدودا وسطى للحكم الظاهري دون الواقعي فالحرمة في قولنا
هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية حرام هي الحرمة الظاهرية
الثابتة بدليل العمل بالظن وإطلاق الأصوليين لفظ الحجة عليها
ليس من هذه الجهة بل من جهة كونها سببا لتنجيز الحكم الواقعي،
بحيث يعاقب العبد على الواقع. على فرض مصادفتها للواقع وهذا
المعنى بعينه موجود في القطع.
وبالجملة: فالامارات وان كانت تجعل أوساطا للاحكام الظاهرية و
لكن نظر الأصولي في إطلاق الحجة عليها ليس بالنسبة إلى هذه الأحكام
بل بالنسبة إلى الأحكام الواقعية التي يدور مدارها الثواب و
العقاب وهي تشترك مع القطع في تنجيزها، فإطلاق الحجة عليها و
على القطع بمعنى واحد. فافهم.
وليعلم، ان ظاهر عبارة الشيخ (قده) كما عرفت، انه لا إشكال عند
القاطع بوجوب الصلاة مثلا في وجوب الصلاة عليه. ومعنى عدم
الاشكال كما عرفت، ثبوت القطع له، فصار محصل المعنى، ان القاطع
بوجوب الصلاة قاطع بوجوبها.
ثم استدل على ذلك بقوله: (لأنه بنفسه طريق إلى الواقع وليست
طريقيته قابلة لجعل الشارع) انتهى.
ويرد على ذلك أيضا، ان الدليل عين المدعى إذ الطريقية ليست الا
كشف الواقع وهو عين القطع كما لا يخفى.
فمحصل الاشكال عليه أمران:
الأول: وحدة الموضوع والمحمول في المدعى.
الثاني: وحدة المدعى والدليل.
وهذان الاشكالان، لا يردان على عبارة الكفاية حيث قال ما هذا لفظه:
(لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا ولزوم الحركة
على طبقه جزما وكونه موجبا لتنجز التكليف الفعلي
401

فيما أصاب، باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته وعذرا فيما أخطأ
قصورا. إلى أن قال:
(ولا يخفى ان ذلك لا يكون بجعل جاعل لعدم جعل تأليفي بين
الشئ ولوازمه. انتهى).
أقول: صريح عبارته (قده) ان الوجوب الثابت لمتابعة القطع عقلي،
موضوعه نفس المتابعة بما هي متابعة. وقد عرفت ان هذا الوجوب
امر يحكم به جميع العقلا وهو عبارة أخرى عن حجية القطع كما
اصطلح عليه القدماء وعن منجزيته كما في اصطلاح المتأخرين. و
ليس
التنجز والحجية عين القطع بل هما من لوازمه وثبوتهما له ليس بجعل
تأليفي بين القطع وبينهما لعدم تخلل الجعل بين الملزوم واللازم.
وبالجملة: فالمدعى في كلامه، عدم شبهة العقلا في أن متابعة، القطع
بما هي متابعة يثبت لها الوجوب عقلا الذي هو عين الحجية و
المنجزية ودليله على ذلك، هو انهما من لوازمه وثبوت اللازم
للملزوم بديهي لا يتخلل بينهما جعل. فتأمل.
ثم انك قد عرفت ان الحكم الواقعي يتنجز اما بالقطع أو بأحد الطرق
أو بنفس الاحتمال إذا لم يكن في البين فحص. ومعنى منجزية هذه
الأمور له، هو انه بوجوده الواقعي، ليس مدارا للثواب والعقاب ما لم
يحصل أحد هذه الأمور، فما هو المقتضى لثبوت الاستحقاق، هو
وجود أحد هذه الأمور لا نفس التكليف الواقعي وعلى هذا فلو فقد
هذه الأمور لم يكن التكليف منجزا وكان المكلف معذورا، سواء قطع
بخلاف الواقع أيضا أم لا. وعذره يكون مستندا إلى عدم ثبوت
المقتضى للتنجز لا إلى ثبوت المانع عنه كما هو واضح.
وعلى هذا فعد القطع بالخلاف عذرا، كما في الكفاية فاسد، فان العذر
حينئذ يستند إلى عدم ثبوت المقتضى للتنجز أعني القطع بالوفاق
أو غيره من المنجزات لا إلى ثبوت القطع بالخلاف، فلو فرض عدم
المنجزات وعدم القطع بالخلاف أيضا، كان معذورا كما في الغافل و
في من احتمل التكليف بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل.
نعم ما ذكره (قده) من أن القاطع بالخلاف انما يكون معذورا فيما إذا
كان عن قصور دون ما إذا كان مقصرا، صحيح، ولكن عذره من
جهة عدم وجود المقتضي للتنجيز.
والحاصل ان القاصر يكون معذورا إذا فقد المنجزات سواء قطع
بالخلاف أم لا والمقصر، لا يعذر وان قطع بالخلاف أيضا كما إذا كان
في أول الأمر ملتفتا إلى التكليف ومحتملا لثبوته ولم يتفحص عنه
كمال التفحص بل اقتصر على تتبع ناقص ثم قطع بعدمه، فان هذا
الشخص غير معذور قطعا في مخالفته للواقع. فتدبر.
402

الفصل الثاني: أقسام القطع
اعلم أن القطع طريقي وموضوعي:
والطريقية صفة للقطع باعتبار متعلقه موضوعا كان أو حكما. واتصافه
بذلك من جهة عدم دخالته في تحصل المتعلق فكما ان الطريق لا
دخالة له في تحصل ذي الطريق وانما يترتب عليه الايصال إليه بعد
تحصله في نفسه فكذلك القطع بالنسبة إلى متعلقه فيجب ان يكون
المتعلق متحصلا مع قطع النظر عن القطع ويكون القطع كاشفا عنه و
موصلا إليه.
واما الموضوعية فهي صفة للقطع باعتبار الأثر المترتب على نفسه
بحيث يكون نفس القطع موضوعا لهذا الأثر، كما إذا كان الموضوع
للنجاسة مثلا مقطوع الخمرية لا نفس الخمر وبهذا البيان يظهر لك
عدم جواز كون القطع بحكم، مأخوذا في موضوع عين هذا الحكم، إذ
معنى كونه مأخوذا في موضوعه عدم تحصل الحكم مع قطع النظر
عنه ومعنى كونه متعلقا بهذا الحكم تحصل الحكم مع قطع النظر عنه.
وبعبارة أخرى: مرجع ذلك إلى كون القطع بالنسبة إلى حكم واحد
طريقيا وموضوعيا، فيلزم كون الحكم متحصلا في حد نفسه على
الطريقية وغير متحصل على الموضوعية فيجتمع النقيضان.
واما أخذ القطع بحكم أو بموضوع ذي حكم في موضوع مثل هذا
الحكم فليس بمحال عندنا، فيجوز ان يكون الخمر في حد نفسه
حراما
ثم ينشأ حرمة أخرى على مقطوع الخمرية أو الحرمة.
وقال المحقق الخراساني باستحالة ذلك وهذا منه مبنى على
مقدمتين:
الأولى: كون الاحكام عوارض خارجية لمتعلقاتها.
الثانية: كون المتعلق للحكم بحسب الحقيقة هو المصاديق الخارجية لا
العناوين الكلية، فعلى هذا يلزم من تعلق الحرمة تارة بنفس الخمر و
أخرى بمعلوم الخمرية، اجتماع المثلين.
403

هذه خلاصة كلامه (قده) ونحن قد أثبتنا في محله بطلان كلتا
المقدمتين وان البعث والزجر من عوارض الباعث والزاجر حقيقة
لصدورهما منه ولا عروض لهما بالنسبة إلى المتعلق وان المتعلق
ليس الا نفس العنوان الكلي الذي تعلقت به الإرادة. فراجع ما حررناه
في مسألة اجتماع الأمر والنهي.
فان قلت: تعلق الحرمة تارة بالخمر وأخرى بمعلوم الخمرية وان لم
يكن من باب اجتماع المثلين ولكن يترتب عليه محذور اللغوية.
قلت: يمكن ان يكون في نفس الخمر مفسدة وفي معلوم الخمرية
مفسدة أخرى، فيتعلق بهما زجران وفائدتهما انه قد لا ينزجر الانسان
عن زجر واحد وينزجر عن الزجرين لمكان شدة العقوبة. فافهم.
قيام الامارات وبعض الأصول مقام القطع:
ثم إن الامارات وبعض الأصول مثل الاستصحاب تقوم مقام القطع
الطريقي دون الموضوعي مطلقا.
اما الأول: فلما عرفت من أن أثر القطع تنجز الواقع بمعنى كون المكلف
مستحقا للعقوبة على الواقع لو خالف قطعه وكان مصادفا من
باب الاتفاق، وهذا الأثر بعينه يترتب على الامارات وعلى هذا السنخ
من الأصول أعني، ما يكون محرزا للواقع وقد عرفت تفصيل ذلك
آنفا، فراجع.
واما الثاني: أعني عدم قيامها مقام القطع الموضوعي سواء كان تمام
الموضوع بان لا يكون للمتعلق دخالة في موضوعيته أو كان جزا
للموضوع بان كان الموضوع مركبا من القطع ومتعلقه، فبيانه يتوقف
على بيان كيفية جعل الامارات والأصول بنحو الاجمال.
فنقول: معنى اعتبار الامارة المتعلقة بحكم أو موضوع هو وجوب
فرض مؤداها من الحكم أو الموضوع واقعا ووجوب ترتيب آثار
الواقع على مؤداها، فإذا أدت الامارة عدالة زيد مثلا، فمعنى اعتبار
الشارع لهذه الامارة هو وجوب البناء على كون العدالة متحققة و
وجوب ترتيب آثارها ولزوم إلغاء احتمال عدم تحققها واقعا. فهذا
الاعتبار انما يصح من الشارع إذا كان ما قامت عليه الامارة حكما
شرعيا أو موضوعا ذا حكم وأراد الشارع بجعلها ترتيب آثار المؤدى،
فهذا الذي ذكرنا في معنى جعل الامارة مما لا إشكال فيه.
فإذا عرفت ذلك، يتضح لك عدم جواز قيامها مقام القطع المأخوذ
موضوعا بكلا قسميه، إذ
404

الموضوع ما لم يتحقق لا يمكن إجراء حكمه عليه فإذا قامت الامارة
في صورة الشك في الخمرية على الخمرية مثلا وكان موضوع الحرمة
عبارة عن معلوم الخمرية أو الخمر المعلوم، فعدم جواز الحكم
بالحرمة مما لا شك فيه إذ اعتبار الامارة انما يقتضى ترتيب أثر الخمر
و
المفروض عدم كون الحرمة أثرا له وما هو الموضوع لها أعني العلم
بالخمرية مقطوع الانتفاء لفرض الشك فيها.
وبالجملة: فبعد كون الموضوع للحرمة عبارة عن معلوم الخمرية أو
الخمر بقيد المعلومية، يكون في صورة الشك معلوم العدم والامارة
لم تقم على ما هو الموضوع أعني المعلومية، بل قامت على نفس
الخمرية والفرض عدم كون الأثر لها.
نعم للشارع ان يجعل بدليل اخر، الخمر الذي قامت عليه الامارة أو
نفس ما قامت عليه الامارة وان لم يكن واقعا، محكوما بحكم الخمر
المعلوم أو معلوم الخمرية، فيصير نظير قيام التيمم مقام الوضوء و
يكون كلاهما حكما واقعيا كما لا يخفى.
والحاصل: ان أدلة اعتبار الامارات لا تدل على جواز قيامها مقام القطع
الموضوعي بأقسامه وهذا الذي ذكرناه هو مراد الشيخ (قده)
أيضا وان كانت عبارته مجملة، فاللازم ذكرها وتوضيحها حتى تنطبق
على ما ذكرنا.
قال: (قده) ما هذا لفظه: (ثم من خواص القطع الذي هو طريق إلى
الواقع قيام الأمارات الشرعية وبعض الأصول العملية مقامه في العمل
بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعية فإنه تابع لدليل
الحكم، فان ظهر منه أو من دليل خارج، اعتباره على وجه الطريقية
للموضوع قامت الامارات وبعض الأصول مقامه، وان ظهر من دليل
الحكم اعتبار القطع في الموضوع من حيث كونه صفة خاصة قائمة
بالشخص، لم يقم غيره مقامه). انتهى.
أقول: عبارته هذه صارت معركة للآراء وقد حملها كل واحد منهم
على معنى. وقد كان يتبادر إلى ذهني حين تعلمي للرسائل ما ذكرناه
من أنه (قده) يقول: بقيام الامارات مقام القطع الطريقي دون
الموضوعي وليس نظره (قده) إلى تقسيم الموضوعي إلى ما يكون
موضوعا
بلحاظ الوصفية وإلى ما يكون موضوعا بلحاظ الكاشفية كما حملها
بعضهم على ذلك.
وحاصل مقصوده (قده) على ما ذكرناه، ان القطع إن كان طريقيا،
قامت الامارات مقامه، وان أخذ في لسان الدليل موضوعا للحكم،
فتارة يظهر من القرائن، ان الموضوع حقيقة، هو متعلق القطع وان ذكر
القطع في لسان الدليل من جهة انه كاشف عن الموضوع لا من
جهة دخالته في الموضوع، فهو عين القطع الطريقي غاية الأمر انه ذكر
في لسان الدليل. وقد عرفت ان الامارات
405

تقوم مقامه.
وأخرى يكون لنفس القطع دخالة في الموضوع، أو يكون تمام
الموضوع، فلا تقوم الامارات والأصول مقامه. هذه خلاصة مقصوده و
يدل على إرادته ذلك، قوله: (ثم من خواص القطع الذي هو طريق إلى
الواقع، قيام الامارات والأصول مقامه) فيدل لفظ (الخواص) على أن
الموضوعي ليس كذلك مطلقا. وكذلك قوله: (فان ظهر منه أو من
دليل خارج، اعتباره على وجه الطريقية للموضوع) إلخ. إذ يظهر من
ذلك، ان الموضوع هو متعلق القطع وان القطع طريق إليه، إذ لو كان
نفس القطع موضوعا لم يكن القطع طريقا إلى الموضوع فتأمل.
وبعد هذا الوجه الذي ذكرناه في بيان مراده فالأقرب ما ذكره بعضهم
في بيانه وحاصله:
ان القطع له نسبتان، نسبة إلى القاطع من جهة كونه من صفاته النفسانية
ونسبة إلى المقطوع به من جهة كونه طريقا إليه وكاشفا عنه.
فعلى الأول لا تقوم الامارات مقامه وعلى الثاني، تقوم مقامه من جهة
انها أيضا تكشف عن الواقع.
وقد نظر إلى رد هذا الفرق، المحقق الخراساني حيث قال: (ان
الامارات لا تقوم مقامه سواء أخذ صفة للقاطع أو المقطوع به). وهو
الحق
عندنا أيضا لما عرفت من أن القطع إذا أخذ في الموضوع بأي نحو كان،
ففي صورة الشك نقطع بانتفاء الموضوع، وأدلة اعتبار
الامارات انما تتكفل لوجوب ترتيب آثار الواقع. فافهم.
وأبعد الوجوه في بيان مراد الشيخ (قده) ما قاله بعضهم، من أن القطع
اما ان يؤخذ في الموضوع بما هو صفة خاصة، أي بما انه كاشف
تام، فيكون لخصوصية المقطوعية دخالة في الموضوع، واما ان يؤخذ
في الموضوع لا بما انه كاشف تام، بل بما ان له مطلق الكاشفية و
الطريقية ففي الحقيقة لا يكون لخصوصية المقطوعية دخالة، بل
الموضوع بحسب الحقيقة، هو الطريق المعتبر سواء كانت طريقيته
بذاته
أو بواسطة الجعل. فعلى الأول لا تقوم الامارات مقامه. وعلى الثاني
تقوم بل ليس في الحقيقة قيام في البين إذ القطع وسائر الامارات
حينئذ في عرض واحد ويكون كل منهما فردا لما هو الموضوع وهو
مطلق الطريق المعتبر.
ثم استشكل هذا البعض على نفسه بأن أدلة اعتبار الامارات لا تتكفل
لاعتبارها الا فيما إذا كان لمؤدياتها آثار شرعية لأن مفادها
وجوب ترتيب آثار المؤدى والفرض فيما نحن فيه ترتب الأثر على
نفس الطريق لا على المؤدى.
وأجاب عن ذلك بان الطريق اما ان يؤخذ تمام الموضوع، واما ان
يكون جز له وتكون للواقع
406

أيضا دخالة فيه.
فعلى الأول يتوقف تحقق الموضوع على كون المؤدى أيضا ذا أثر اخر
كما إذا رتبت الحرمة على نفس الخمر، والنجاسة على ما قام
الطريق على خمريته، فإذا لم يكن المؤدى ذا أثر شرعي لا يتحقق
الموضوع.
واما على الثاني فيتحقق الموضوع دائما. وأدلة اعتبار الامارات تفي
بإثباته، إذ الفرض دخالة نفس المؤدى أيضا في الموضوع ويكفى
في اعتبار الامارة، كون مؤداها جز للموضوع، غاية الأمر كون اثره
تعليقيا فإذا قامت الامارة على الخمرية مثلا ثبت أحد جزئي
الموضوع أعني الخمرية بالتعبد، والجز الاخر أعني قيام الامارة
بالوجدان.
وفيه ان ذلك يستلزم الدور [1] فان اعتبار الامارة يتوقف على كون
مؤداها ذا أثر وكونه ذا أثر، يتوقف على اعتبار الامارة لدخالته
في الموضوع أيضا فيدور فتدبر. [2]
[1] أقول: والعجب من الأستاذ مد ظله تسليمه لهذا الدور مع بداهة
بطلانه فان اعتبار الامارة لا يتوقف على كون المؤدى ذا أثر فعلى بل
يكفي في ذلك انتهائه بالآخرة إلى أثر شرعي، لكفاية ذلك في دفع
محذور اللغوية، بل لنا إجراء ذلك في تمام الموضوع أيضا إذ
الموضوع إذا كان عبارة عن معلوم الخمرية مثلا وان خالف الواقع
فالخمر وان لم يكن جز للموضوع ولكنه قيد له فاعتبار الامارة
لاثبات القيد.
بل لقائل ان يقول: كون نفس القيام الامارة ذا أثر شرعي يكفي في دفع
محذور اللغوية في الجعل من دون احتياج إلى كون المتعلق أيضا
ذا أثر شرعي، على إشكال في الأخيرين. ح - ع - م.
[2] وجواب الدور، هو ان كونه ذا أثر، لا يتوقف على ثبوت الجز
الاخر، بل ترتب الأثر خارجا يتوقف على ثبوته فلا دور، فافهم. ح - ع
- م.
407

الفصل الثالث: التجري
تحرير محل البحث
قد ذكرنا سابقا ان حجية القطع ومنجزيته للواقع، ذاتية فإذا قطع بحرمة
شي وكانت الحرمة ثابتة في الواقع كانت منجزة على العبد
بحيث لا عذر له في مخالفتها ويستحق العقوبة عليها. واما إذا قطع
بالحرمة ولم تكن ثابتة في الواقع فهل يستحق العبد العقوبة بمخالفة
قطعه حينئذ أم لا؟ فيه خلاف. وقد عبروا عن هذه المسألة (بالتجري).
وقبل الورود فيها وبيان ما قالوا، يجب تحرير محل النزاع و
بيان الجهات التي يمكن أن تكون مبحوثا عنها.
فنقول: يمكن ان يكون المبحوث عنه، هو ثبوت الحرمة الشرعية
لمقطوع الحرمة مثلا. ويمكن ان يكون المبحوث عنه، هو قبحه
العقلي
من دون ان يستتبع حكما شرعيا، وعلى الأول، فاما ان يقال: بثبوت
الحرمة لمقطوع الحرمة بما هو مقطوع الحرمة، سواء كان القطع
مصادفا للواقع أو مخالفا له فيجتمع في صورة المصادفة حكمان
شرعيان، تعلق أحدهما بالعنوان الواقعي، وثانيهما بعنوان مقطوع
الحرمة. واما ان يقال: بثبوت الحرمة لمقطوع الحرمة ولكن لا مطلقا
بل في صورة مخالفة القطع للواقع فيكون الموضوع في الحقيقة
عبارة عن مقطوع الحرمة الذي خالف قطعه، الواقع.
وكذا لو كان النزاع في القبح العقلي، فاما ان يقال: بثبوت ملاك اخر
لقبح الفعل المتجري به سوى ما هو ملاك القبح العصيان. واما ان
يقال بقبحه بعين ملاك العصيان بحيث يكون ملاك حكم العقل بقبح
العصيان والتجري أمرا واحدا. فالجهات التي يمكن أن تكون
مبحوثا عنها أربعة.
ولا يتوهم انه بناء على الأول يلزم اجتماع المثلين في صورة المصادفة
وذلك لما عرفت منا في مبحث اجتماع الأمر والنهي من بيان
حقيقة الاحكام وان تعلقها بالمتعلقات ليس من باب العروض،
فراجع. وقد أشرنا إلى ذلك قبيل هذا المبحث أيضا.
409

إذا عرفت جهات البحث فنقول: اما احتمال ثبوت الحرمة الشرعية
بقسميه فمما يرتفع بتأمل ما، لعدم الدليل عليها وعدم ثبوت ملاك
يقتضيها، مضافا إلى أنه يرد على القسم الأول من قسميه، لزوم
التسلسل في الاحكام إذ لو كان مقطوع الحرمة بما هو مقطوع الحرمة
موضوعا لحرمة شرعية أخرى فهذه أيضا يصير مقطوعا وتتعلق به
حرمة أخرى وبعد القطع بها أيضا تتعلق حرمة أخرى، فتتسلسل
الاحكام.
ويرد على القسم الثاني أعني القول بثبوت الحرمة لمقطوع الحرمة
الذي خالف قطعه، ما ذكره المحقق الخراساني، من أن القاطع لا
يتيسر له الالتفات إلى مخالفة قطعه للواقع ويستحيل ذلك منه فيلزم
تعليق الحكم على موضوع يستحيل الالتفات إليه وكيف كان
فاحتمال ثبوت الحكم الشرعي في صورة التجري بلا وجه.
واما القبح العقلي فاحتمال كون التجري قبيحا بملاك مستقل أيضا بلا
وجه، للقطع بعدم ملاك اخر.
فيبقى الكلام في أن ما هو الملاك لحكم العقل بقبح العصيان، هل
يكون ثابتا في التجري أم لا؟ والحق ثبوت ذلك فيحكم العقل بقبح
الفعل المتجري به ولكن لا بعنوانه الذاتي أي بما هو شرب الماء مثلا،
بل بجهة انتسابه إلى المولى وكونه هتكا لحرمته وخروجا عن
رسم عبوديته. وهذا هو بعينه ملاك قبح العصيان.
وتفصيل ذلك: ان صدور الفعل من العبد، مسبوق بمبادئ نفسانية
متحققة على سبيل التعاقب ويكون غايتها، تحقق الفعل خارجا،
فيتصور العبد أو لا الفعل، ثم يلاحظ جهاته المحسنة والمقبحة
فيتحقق في نفسه الميل، ثم يشتد إلى أن يصل إلى مرتبة الشوق
المؤكد، ثم
تتعقبه الإرادة فيحرك العضلات ويوجد الفعل خارجا. فالميل
النفساني بمنزلة بذر تحرك إلى أن وصل إلى آخر مراتب الفعلية أعني
صورة الفعل خارجا، وقد تحقق في محله ان الحركة عبارة عن خروج
الشئ من القوة إلى الفعلية على سبيل التدرج، وقبل وصول هذا
المتحرك إلى اخر مراتبها يكون للعبد معاوقته عن الوصول إلى المرتبة
الفعلية.
واما بعد وصوله إلى اخر مراتبها فقد أنهى العبد كمال قدرته ولم يبق
محل للعذر، إذ كل ما كان بيده فقد تحقق منه فإذا تصور
المعصية، ثم انصرف عنها يستعذر بالانصراف ويكون عذره مقبولا، و
كذا إذا تصور ومال ولم تتحقق المراتب الأخرى بل له الاعتذار
ولو وصل إلى مرتبة الإرادة ثم فسخها. واما إذا تحقق منه الفعل فلم
يبق محل الاعتذار العبد سواء صادف ما
410

قصده أم لم يصادف، ففي كلتا الصورتين قد خرج العبد بفعله عن رسم
العبودية وذي الرقية وصار بسببه طاغيا على المولى وهاتكا
لحرمته فيكون فعله قبيحا عند العقل بما هو معنون بعنوان الهتك و
الطغيان لا بعنوانه الذاتي: من شرب الخمر أو الماء.
نعم، الفرق بينهما ان الخمر مشتمل على المفسدة دون الماء ولكن لا
ارتباط لذلك بما هو ملاك حكم العقل بقبحه، فان حكمه بذلك انما
هو بجهة انتسابه إلى المولى وكونه مصداقا للطغيان والخروج عن
رسم العبودية.
وبالجملة: فقد تبين مما ذكرنا، ان تقبيح العقل ليس لنفس تحقق
مبادئ الفعل في النفس بل لوصولها إلى اخر مراتب الفعلية ومنتهى ما
هو في اختيار العبد، وبعبارة أخرى: متعلق التقبيح في صورتي
العصيان والتجري، هو نفس الفعل الصادر من العبد ولكن لا بعنوانه
الذاتي بل بما هو معنون بعنوان الهتك أعني بجهة إضافته وانتسابه
إلى المولى.
نقد كلام الشيخ في المقام:
ومما ذكرنا، تبين فساد ما ذكره الشيخ (قده) في هذا المقام ولنذكر
خلاصة ما ذكره ثم نشير إلى ما فيه.
قال (قده) ما حاصله: ان القطع هل يكون حجة على القاطع وإن كان
مخالفا أو انه حجة في صورة المصادفة فقط؟ ظاهر كلماتهم الاتفاق
على الأول ويؤيده بناء العقلا على الاستحقاق وحكم العقل بقبح
التجري ثم أورد الخدشة في الأدلة إلى أن قال: (واما بناء العقلا فلو
سلم فإنما هو على مذمة الشخص من حيث إن هذا الفعل يكشف عن
وجود صفة الشقاوة فيه لا على نفس فعله كمن انكشف لهم من حاله
انه بحيث لو قدر على قتل سيده، لقتله، فان المذمة على المنكشف لا
على الكاشف). انتهى.
أقول: اما ما ذكره أولا من إطلاق (الحجة) على القطع المخالف للواقع
ففيه ما عرفت سابقا في معنى الحجية من كونها عبارة عن تنجيز
الواقع وصيرورته بحيث يستحق عليه العقوبة وفي صورة المخالفة لا
واقع حتى ينجز فإطلاق الحجة غير سديد.
واما ما ذكره أخيرا من أن التقبيح على المنكشف أعني خبث السريرة،
ففيه ما عرفت من أن التقبيح على نفس الفعل فما هو المتعلق
للتقبيح في صورتي المصادفة والمخالفة أمر واحد لا ان التقبيح في
الأول على الفعل وفي الثاني على الصفة النفسانية بداهة اشتراكهما
فيما هو الملاك
411

لحكم العقل بقبح الفعل وهو كونه هتكا لحرمة المولى وطغيانا عليه.
هذا مضافا إلى أنه يرد عليه أولا: انه لا يكون صدور المعصية والتجري
دائما عن خبث سريرة العبد بل العبيد في ذلك مختلفة فبعضهم
يقدم على المعصية من جهة خبث السريرة وسوء الباطن وكونه غير
ملتزم بعبودية المولى، وبعضهم يقدم عليها مع عدم خبث الباطن و
مع كونه مؤمنا بالمولى خائفا منه، غاية الأمر انه تغلب عليه الشهوة آنا
ما فيصدر منه العصيان ثم يتوب بمقتضى حسن باطنه وبقاء
فطرته الأصلية.
وبالجملة: فخبث الباطن أمر لا يكشف عنه العصيان والتجري لعدم
التلازم، والتقبيح انما هو على الفعل الذي هو مصداق التجري و
الهتك.
وثانيا: ان خبث السريرة ليس أمرا اختياريا حتى يدور التقبيح و
استحقاق العقوبة مداره، فافهم.
نعم قد يتيسر ببعض المعالجات الصعبة رفعه.
ثم إن المحقق الخراساني استأنف في هذا المقام ما ذكره في مبحث
الطلب والإرادة وقد حررنا في ذلك المبحث فساد ما ذكره فراجع
. [1]
[1] أقول: يمكن ان يقع النظر في مواقع مما ذكره الأستاذ مد ظله:
الأول: ما ذكره أولا من (ان ثبوت الحرمة لمقطوع الحرمة يوجب
التسلسل).
وفيه: انا لا نسلم لزوم التسلسل، إذ فعلية الحكم المتعلق بالموضوع
يتوقف على تحقق موضوعه خارجا فثبوت الاحكام غير المتناهية
يتوقف على تحقق العلوم غير المتناهية في ذهن العبد وحيث لا
يتحقق هذا فلا يتحقق ذاك وبالجملة، تنتهي سلسلة الاحكام بانتهاء
سلسلة الالتفاتات.
الثاني: ما ذكر مد ظله، من (ان الجهة الأولى مما يمكن ان يقع البحث
عنها هو ان مقطوع الحرمة هل يصير حراما أم لا وان مقطوع
الوجوب هل يصير واجبا أم لا).
وفيه: ان القائلين بحرمة التجري لا يفرقون بين ما إذا قطع بالحرمة أو
بالوجوب ففي كليهما يثبتون الحرمة كما يشهد على ذلك عنوان
الباب، غاية الأمر ان متعلقها في الثاني، هو الترك.
الثالث: ما ذكره مد ظله في رد الشيخ أولا (من إطلاق الحجة على
القطع المخالف).
وفيه: ان الحجة عبارة عما يحتج به المولى على العبد ويصير سببا
لاستحقاقه العقوبة وهذا يختلف على القولين فعلى القول بقبح
التجري يكون القطع تمام الموضوع لذلك ولا أثر للواقع في إيجاب
العقوبة فلا معنى لتنجز الواقع إذ العقاب ليس دائرا مداره.
نعم: على القول بعدم قبحه يكون القطع جزا للموضوع فيكون
العقاب دائر مدار الواقع المنجز وليس معنى
412

ويؤيد ما ذكرناه في ذلك المبحث ويشهد له بعض الآيات القرآنية و
الاخبار المأثورة، فمن الآيات قوله تعالى في سورة (هل أتى): (انا
خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه) إلخ.
بناء على كون المراد بالنطفة في هذه الآية، الرقائق واللطائف المختلفة
التي خمرت منها طينة آدم وروحه، لا النطفة الجسمانية فراجع
ما ذكرناه وحررناه في بيان الآية في تلك المسألة.
ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: (ان الخاسرين الذين خسروا
أنفسهم) حيث إن الانسان مع التئام روحه من اللطائف المختلفة إذا
غلب فيه جانب بعضها كالشهوة والغضب مثلا ربما أدى ذلك إلى
الخسران الذاتي وزوال الملكات الحسنة بالكلية، مع أن بها إنسانية
الانسان.
ويشير إلى هذا المطلب أيضا ما ورد في بعض الأخبار من أن، في قلب
الانسان نكتتين:
نكتة سوداء ونكتة بيضاء فإذا صدرت منه المعصية غلب السواد على
البياض وربما يؤدي ذلك إلى اضمحلال النكتة البيضاء بالكلية.
وكذا ما ورد من أن لقلب الانسان، أذنين، ينفخ في أحدهما، الملك و
في الاخر، الشيطان، وما ورد من أن الله تعالى بعد ان أراد خلق آدم
عليه السلام، قبض جبرئيل قبضات من السماوات السبع وقبضات من
الأرضين السبع فخمر طينة آدم منها.
إلى غير ذلك من الاخبار المشيرة إلى ما ذكرنا من التئام الروح الانساني
من العوالم المختلفة. [1]
فراجع الاخبار وتدبرها لعلك تطلع على صدق ما ذكرناه. فتأمل.
الملاك للثواب والعقاب:
وكيف كان، فقد ظهر مما ذكرناه ان الفعل المتجري به يثبت له القبح و
لكن لا بملاك يخص التجري بل بعين ملاك قبح العصيان و
نوضح ذلك ببيان آخر وهو: ان الافعال قد تتصف
تنجزه الا صيرورته بحيث يستحق على مخالفته العقوبة. فافهم. ح - ع
- م.
[1] قد كرر الأستاذ مد ظله هنا أيضا ما ذكره في مبحث الطلب والإرادة
ردا على شيخه الأستاذ، ولكن حيث حررناه هناك فلا نعيد و
لكن لما لم يذكر الاخبار المشيرة إلى ما ذكره في ذلك المبحث أشرنا
إليها هنا. ح - ع - م.
413

بالحسن أو القبح بنفس ذواتها من جهة اشتمالها على المصالح و
المفاسد الكامنة فيها ولا دخالة لجهة الانتساب إلى المولى في ثبوت
هذا
الحسن أو القبح، فما اشتمل على المصلحة حسن بذاته، سواء أمر به
المولى أم لم يأمر، وسواء علم العبد بأمره أم لم يعلم، وما اشتمل على
المفسدة قبيح بذاته كذلك. وقد تتصف بالقبح لا بنفس ذواتها بل
بجهة انتسابها إلى المولى وكونها هتكا لحرمته وخروجا عن رسم
عبوديته ووقوعها من العبد طغيانا على المولى وكفرانا للنعم والالا.
وبالجملة، تتصف بالقبح من جهة كونها معنونة بتلك العناوين القبيحة
وانطباق تلك العناوين العرضية عليها. وانطباق تلك العناوين
العرضية على الافعال انما يكون بعد لحاظ أمر المولى بها وكونها
مقصودة له من دون ان يكون لوجوده الواقعي دخالة في ذلك بل ما
هو تمام الموضوع في انتزاع تلك العناوين هو نفس إحراز أمر المولى
بهذه الافعال أو نهيه عنها بعد عدم الاعتناء بهذا الاحراز و
مخالفته في مقام العمل.
فإذا ثبت ان اتصاف الافعال بالحسن والقبح بجهتين: جهة غير راجعة
إلى المولى وجهة راجعة إليه، فاعلم أن حكم العقل باستحقاق
العقاب أو الثواب انما هو بملاك الحسن والقبح الراجعين إلى جهة
المولوية لا الحسن والقبح التابعين للمصالح والمفاسد التي هي
ملاكات الاحكام فإنهما لا يختلفان بالعلم والجهل وكون المكلف
معذورا أو غير معذور بل يكونان ثابتين مع قطع النظر عن أمر
المولى ونهيه أيضا. فالملاك كل الملاك في حكم العقل باستحقاق
العقاب على الفعل، هو صيرورته مصداقا للعناوين القبيحة التي لها
جهة انتساب إلى المولى كالخروج عن رسم عبوديته ونحوها و
(التجري) و (العصيان) في ذلك على حد سواء كما عرفت بيانه وانما
التفاوت بينهما في الحسن والقبح التابعين للمصالح والمفاسد ولا
دخالة لهما في استحقاق العقاب أصلا.
وقد ظهر ان العقاب في التجري وفي العصيان على نفس الفعل بجهة
انتسابه إلى المولى أعني جهة كونه هتكا له.
واما ما يتوهم من ترتب العقاب في التجري على عزم المعصية أو على
إرادته، لا على نفس الفعل ففيه: ان قبح العزم مثلا ليس لما انه
عزم، بل لما انه عزم للمعصية ومؤد إليها بالآخرة.
فقبح المعصية بما انها هتك لحرمة المولى وخروج عن رسم عبوديته،
ذاتي وقبح العزم والإرادة تبعي، فكيف يقال بعدم ثبوت العقاب
على نفس الهتك وبثبوته للعزم عليه؟ مع أن العزم على
414

الهتك ليس مصداقا للهتك، بل يكون قبيحا من جهة تعلقه بالهتك
القبيح [1]
نقد كلام صاحب الفصول:
وبما ذكرنا لك من أن الثواب والعقاب يدوران مدار الحسن والقبح
العرضيين الثابتين للفعل بجهة انتسابه إلى المولى من دون دخالة
للمصالح والمفاسد الكامنة في الافعال، يظهر ما في كلام (صاحب
الفصول) حيث إنه بعد ما اختار في الجملة قبح التجري وحرمته قد
فصل بين موارده فقال ما حاصله: انه لو قطع بحرمة فعل أو وجوبه و
كان بحسب الواقع مباحا أو مندوبا أو مكروها كان مخالفة هذا
القطع موجبة لاستحقاق العقوبة ولو قطع بحرمة فعل وتجري بفعله و
اتفق كون الفعل واجبا بحسب الواقع أو قطع بوجوبه وتجري
بتركه وكان حراما في الواقع، وقع التزاحم بين الجهة الواقعية وبين
القبح الناشئ من التجري، وربما تغلب الجهة الواقعية على جهة
التجري فيرفع قبحه. ولو قطع بالحرمة أو الوجوب ثم تجري وصادف
قطعه، والواقع، تداخل عقاب الواقع والتجري. انتهى.
ونحن نقول: انه وان ظهر ضعف كلامه مما ذكرنا ولكن نوضح ذلك
ثانيا
بالتنبيه على أمرين:
الأول:
انه قد قرع سمعك في مطاوي كلماتهم، ان الحسن والقبح هل يكونان
ذاتيين أو يختلفان بالوجوه والاعتبارات؟ والتحقيق ان يقال:
انهما، ان لو حظا بالنسبة إلى العناوين الحسنة أو القبيحة، فذاتيان وان
لو حظا بالنسبة إلى المعنونات والمصاديق فيختلفان بالوجوه و
الاعتبارات، ومعنى كونهما ذاتيين للعناوين، ان بعض العناوين تكون
بحيث لو جرد النظر عن غيرها وصار النظر مقصورا على ذاتها،
كانت موضوعة لحكم العقل عليها بالحسن أو القبح، فالظلم قبيح
بحكم العقل والاحسان حسن بالذات بمعنى ان العقل إذا لاحظ نفس
عنوان الظلم بما هو هو، حكم بقبحه وإذا لاحظ عنوان الاحسان حكم
بحسنه.
واما المعنونات، أعني الافعال الصادرة من الفواعل، فاتصافها بالحسن
والقبح انما هو بانطباق
[1] وبالجملة: قبح العزم والإرادة انما هو بتبع قبح متعلقهما وكل ما
بالعرض ينتهى إلى ما بالذات فالعقاب يرجع إلى ما هو قبيح
بالذات. ح - ع - م.
415

تلك العناوين عليها، فقد ينطبق عليها عنوان حسن، فيحكم بحسنها و
قد ينطبق عليها عنوان قبيح، فيحكم بقبحها وقد يتوارد عليها
العنوانان فيتزاحمان ويكون الحسن أو القبح تابعا لا قوى الجهتين.
وبالجملة، فحسن العناوين وقبحها ذاتيان وليسا دائرين مدار انطباق
عناوين أخرى عليها إذ الانطباق انما يكون على المعنونات
الموجودة في الخارج لا على العناوين. واما حسن المعنونات و
قبحها، فبتبع انطباق العناوين وفي صورة توارد العناوين المختلفة
يكون حسنها وقبحها تابعين لما هو الأقوى من الجهتين وعلى فرض
التساوي لا تتصف بالقبح ولا بالحسن.
الأمر الثاني:
ان العناوين التي يوجب انطباقها على الافعال، استحقاق الثواب أو
العقاب، عبارة عن العناوين الراجعة إلى جهة المولوية وهي التي
تنتزع من الافعال بجهة انتسابها إلى المولى كعنوان الظلم على المولى
وعنوان الطغيان والعصيان وصيرورة العبد بسبب فعله خارجا
عن رسم العبودية ونحو ذلك من العناوين المستقبحة وكذا أضدادها
الحاكية عن كيفية رابطة العبد مع المولى.
واما العناوين القبيحة أو الحسنة الأخرى التي لا ترجع إلى جهة
المولوية فلا ارتباط لها بباب الثواب والعقاب كما لا يخفى.
إذا عرفت ذلك فنقول: ان العبد إذا قطع بحرمة فعل مثلا وأتى به و
اتفق كونه واجبا، فاما ان ينظر إلى نفس الفعل وكيفية تأثيره في
نفس المولى وكونه محبوبا له أو مبغوضا له واما ان ينظر إلى جهة
صدوره من الفاعل وجهة انتسابه إلى المولى، فإن كان النظر على
النحو الأول فنحن نسلم تزاحم الجهات في حسن الفعل وقبحه ولعل
الفعل بما هو، يكون محبوبا للمولى مع كون العبد متجريا فيه
لحصول قتل أعدى أعدائه مثلا ولكن لا ارتباط لهذا الحسن والقبح
الفعلي وهذه المحبوبية والمبغوضية بباب الثواب والعقاب كما
عرفت آنفا في الأمر الثاني.
واما إذا وقع النظر إلى هذا الفعل على النحو الثاني وانه وقع هتكا
لحرمة المولى وخارجا به العبد عن رسم العبودية، فلا محالة يحكم
العقل باستحقاق العقوبة ولا يزاحمه في هذه الجهة جهة الواقعية لما
عرفت من عدم ارتباطها بجهة الثواب والعقاب.
فتلخص مما ذكرنا، ان المتجري كالعاصي يستحق العقاب بفعله ولكن
لا بجهته الواقعية بل بجهة صدوره عنه، ظلما وطغيانا على المولى
ولا فرق في ذلك بين كون الفعل بحسب الواقع قبيحا أو حسنا أو غير
ذلك.
416

لا يقال: ثبوت العقاب للمتجري مما تكذبه الآيات والاخبار إذ العقاب
المتوعد فيها على المعصية.
فإنه يقال: انه ليس غرضنا في هذا الباب، إثبات فعلية العقاب
للمتجري حتى يقال بعدم التوعيد عليه، بل الغرض إثبات الاستحقاق
بحسب حكم العقل واما الفعلية فيمكن عدمها في بعض المعاصي
أيضا كما هو مقتضى كرم الباري عز اسمه.
ثم إنه بقي في المقام شي يجب ان ينبه عليه وهو ان ما ذكره
(صاحب الفصول) من تداخل عقاب الواقع والتجري في صورة
مصادفة
القطع بالحرمة للحرمة الواقعية، كلام مجمل بل غير صحيح، إذ مخالفة
هذا القطع من مصاديق العصيان فان المفروض موافقة القطع
للواقع، فالثابت انما هو عقاب واحد على المعصية، إذ البحث عن
التجري انما هو في صورة مخالفة القطع للواقع.
اللهم، الا ان يكون المقطوع به حرمة الشئ بسبب تخيل انطباق
عنوان خاص محرم وكان في متن الواقع محرما ولكن لا بهذا العنوان
بل بعنوان آخر مجهول، كما إذا قطع بالحرمة بتخيل الخمرية وكان في
الواقع مغصوبا لا خمرا فلو خالف قطعه حينئذ تحقق التجري لا
العصيان، بناء على عدم كفاية العلم بجنس الحرمة في تنجيز نوعها و
لكن يقع الاشكال حينئذ بان الواقع غير المنجز كيف يعاقب عليه
حتى يقال بتداخل عقابه مع التجري.
وبعبارة أخرى، إن كان العلم بالجنس كافيا في تنجيز النوع، فالعقاب
على العصيان لا غير، وان لم يكن كافيا في ذلك فلا عقاب الا على
التجري فأين العقابان حتى يتداخلان. [1]
وحدة الملاك في العاصي والمتجري:
قد تحصل مما ذكرنا، ان النزاع في التجري، انما هو في ثبوت
استحقاق العقاب وعدمه وقد عرفت ثبوته ولكن لا على المبادي
النفسانية من العزم والجزم والإرادة، ما لم تصل إلى مرتبة الفعلية، بل
على صدور الفعل بعناوينه الثانوية المنتزعة عنه بجهة انتسابه
إلى المولى وكونه
[1] لعل مراد صاحب الفصول (قده) ان التجري بالمعنى الأعم
المتحقق في صورة العصيان أيضا ملاك لاستحقاق العقاب ونفس
العصيان
أعني مخالفة الواقع عن علم وعمد، ملاك آخر، ففي صورة العصيان
يجتمع الملاكان ويثبت عقابان ومعنى تداخلهما، هو ثبوت عقاب
واحد بنحو الاشتداد بحيث يساوي عقابين والعلم في الملاك الأول
تمام الموضوع وفي الثاني قيده فلا يتوهم ان ذلك يستلزم القول
بثبوت العقاب على الواقع وان لم يكن منجزا. ح - ع - م.
417

مصداقا للخروج عن رسم عبوديته، وهذا هو بعينه ملاك الاستحقاق
في العاصي أيضا، فالمبدأ النفساني في كل من العاصي والمتجرى
قد تحرك إلى أن وصل إلى آخر مرتبة الفعلية، غاية الأمر، تصادف قطع
العاصي دون المتجري ولكنه خارج عن تحت اختيارهما،
فالقول بثبوت الاستحقاق على المراتب السابقة على الفعلية كالعزم و
الإرادة، فضلا عن خبث السريرة في غاية الفساد، بداهة بقاء موقع
الاستعذار للعبد عن جميع المبادي ما لم يصل إلى مرتبة الفعل، كما أن
القول بدخالة المصادفة في ذلك وكون المتجرى والعاصي
مختلفين في الاستحقاق مع اشتراكهما في جميع المراحل، أفسد من
القول الأول، فخير الأمور أوسطها.
ولا يتوهم ان موجب الاستحقاق، هو الاتيان بمبغوض المولى والترك
لمحبوبه ولا يتحققان الا عند المصادفة وذلك لما عرفت من أن
باب الثواب والعقاب غير مربوط بالجهات الواقعية من المصالح و
المفاسد والمحبوبية والمبغوضية ولذا لو فرض امر المولى وبلا
مصلحة ومحبوبية، كان مخالفته موجبة للاستحقاق كما لا يخفى. [1]
ثم إن نية المعصية، ان تعقبها الندم، فلا إشكال في عدم إيجابها
للاستحقاق واما إذا لم يتعقبها ذلك بان كان مجدا في حصول العصيان
ولكن العوائق الخارجية حالت بينه وبين مقصوده، فقد وقع الكلام
في إيجابها للاستحقاق، ولا يهمنا التعرض لذلك نفيا أو إثباتا. وما
يتراءى من الاستدلال لنفيه بالاختبار الحاكمة بعدم العقاب، فاسد إذ
مدلولها نفى الفعلية لا الاستحقاق وهو المتنازع فيه، فلعل ما دل
على الثبوت، دل على الاستحقاق، وما دل على العدم كان المراد منه
عدم الفعلية فافهم.
[1] لقائل ان يقول: ان الموجب للاستحقاق ليس هو الاتيان بمبغوض
المولى بل مخالفة امره ونهيه بلا عذر فيها من جهل أو عجز أو
نحوهما وما هو المخرج عن رسم العبودية، هو ذلك لا مطلق مخالفة
العلم وان لم يصادف إذ لا نسلم ان رسم العبودية عدم مخالفته
مطلقا، بل رسمها العمل بأوامره والانتهاء عن نواهيه مع التنجز. ح - ع
- م.
418

الفصل الرابع:
تنجيز العلم الاجمالي
العلم اما تفصيلي أو إجمالي فالأول: كما لو علم بحرمة إناء معين و
الثاني كما إذا علم بحرمة أحد الإناءين مثلا وقد عرفت ان العلم
التفصيلي، موجب لتنجز الواقع عقلا فهل العلم الاجمالي أيضا
كذلك؟ فيه خلاف.
فقد نسب إلى المحقق الخوانساري والقمي، القول بعدم تأثيره في
تنجيز الواقع وكونه كالشك البدوي ولكن سنشير إلى فساد هذه
النسبة. وقال المحقق الخراساني: انه منجز للواقع بنحو الاقتضاء لا
العلية، بمعنى ان العبد لو خالفه وارتكب جميع الأطراف أو أحدها و
صادف الواقع، استحق العقوبة على مخالفة الواقع ولكن الشارع
الترخيص في بعضها أو جميعها، فتنجيزه موقوف على عدم
الترخيص.
وقال الشيخ (قده): انه بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية، علة تامة و
لكنه بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء، فليس
للشارع الترخيص في جميع الأطراف وله الترخيص في بعضها وجعل
الاخر بدلا عن الواقع على فرض الفوت، فتجب الموافقة القطعية ما
لم يرد الترخيص وبعد وروده يكشف عن قناعته بالموافقة الاحتمالية.
والظاهر أن العلم الاجمالي على فرض كونه علما، علة تامة لحرمة
المخالفة ووجوب الموافقة بحيث لا مجال للترخيص أصلا، وتوضيح
ذلك يتوقف على رسم مقدمات:
الأولى: ان محل الكلام ليس مطلق الحجة الاجمالية كما يوهمه بعض
الأمثلة التي ذكرها الشيخ، بل الذي هو محط البحث، عبارة عن
خصوص العلم الذي هو حالة نفسانية ينكشف بها متعلقها تمام
الانكشاف، غاية الأمر، تردده بين الأطراف.
الثانية: انه إذا علم العبد بحرمة أحد الإناءين، فليس معنى ذلك علمه
بحرمة أحدهما بنحو
419

التخيير نظير الواجب التخييري حتى يكون لازم ذلك، التخيير في مقام
العمل، بل معنى ذلك، علمه بتحريم المولى فردا خاصا معينا في
متن الواقع، غاية الأمر، ان جهل العبد بخصوصياته، أوجب اشتباهه،
فعلمه بحرمة إناء زيد أو إناء عمرو مثلا بمعنى انه يعلم أن الحرمة اما
ان تتعلق بخصوص إناء زيد أو بخصوص إناء عمرو، وبالجملة، فيعلم
ان مطلوب المولى، واحد منهما بخصوصه ولكنه قد خفي عليه.
الثالثة: قد عرفت سابقا ان عد المصالح والمفاسد أو الانشاء الذي
ليس بداعي البعث من مراتب الحكم، في غير محله وان الحكم عبارة
عن الانشاء الصادر عن المولى بداعي البعث والتحريك أو الزجر و
الامساك وقد عرفت أيضا ان له مرتبتين: الشأنية والفعلية.
بتقريب ان الحكم وإن كان عبارة عن الانشاء الصادر بداعي البعث و
الزجر ولكنه لما كان انبعاث العبد وانزجاره عن الحكم، موقوفا
على العلم به فلا محالة تكون الغاية المقصودة من الحكم، هي ان يعلم
به العبد فينبعث، لا ان ينبعث مطلقا. وليس ذلك تقييدا للحكم بحيث
يقيد بالعلم به، بل هو في مرتبة ذاته مطلق ولكن تأثيره في نفس العبد،
يتوقف على توسط العلم، فهو قبل العلم به شأني لا بمعنى قصور
من قبله ومن قبل المولى، بل هو من هذه الجهة تمام والقصور من قبل
العبد من جهة جهله فصارت هذه سببا لخيبة الحكم وعدم إمكان
تأثيره واما إذا علم به العبد، فلا محالة يصير فعليا منجزا، إذ الفرض انه
إنشاء صدر بداعي البعث والتحريك لا بداع آخر وما كان
مانعا عن فعليته وتأثيره قد زال بالعلم والانكشاف فلا يعقل عدم
وصوله إلى مرتبة الفعلية الحتمية المساوقة لاستحقاق العقوبة على
مخالفته.
وبالجملة، فحقيقة الحكم عبارة عن الانشاء بداعي البعث والزجر و
هو وان لم يتقيد بالعلم والا لدار، ولكن تأثيره موقوف على العلم،
فقبل العلم شأني وبه يصير فعليا لا محاله.
ولا يتوهم ان انبعاث العبد باحتمال الامر والحكم مما يمكن ان
يستند إلى واقع الحكم ويجعل من غاياته، بداهة ان وجوده في متن
الواقع وعدمه سواء في حصول الاحتمال وفي باعثيته فليس
الانبعاث مستندا إلى واقع الحكم، واستناده إليه انما هو في صورة
العلم به
وانكشافه لدى العبد، فافهم.
وكيف كان، فكلامنا في العلم الاجمالي انما هو فيما إذا تعلق بحكم
المولى أعني بإنشائه الصادر عنه بداعي بعث العبد من دون ان يكون
هذا الانشاء مقيدا بالعلم به واما العلم بالاقتضاء أو الانشاء المجرد عن
هذا الداعي فخارج عما نحن فيه، كما عرفت.
420

إذا عرفت هذه المقدمات وتبين لك موضع النزاع فنقول:
انه لا يبقى مجال للتشكيك في تنجيز العلم الاجمالي بعد فرض تعلقه
بحقيقة الحكم أعني بعث المولى وتحريكه، لكونه سببا لوصول
الحكم إلى العبد وإمكان تأثيره في نفسه وانبعاثه من قبله وارتفاع ما
كان مانعا عن فعليته وتنجيزه أعني الجهل به، فيحكم العقل
حينئذ باستحقاق العقوبة على مخالفته وعدم فرق بينه وبين العلم
التفصيلي في وجوب موافقته وحرمة مخالفته. وليس له الاعتذار
بالجهل التفصيلي به بعد العلم بوجوده وانكشاف توجهه إليه وكما لا
تجوز مخالفته القطعية، تجب موافقته القطعية بارتكاب الطرفين
فيما إذا علم بوجوب أحدهما وتركهما فيما إذا علم بحرمة أحدهما و
لكن لا من جهة كون الطرفين واجبين أو محرمين، بل من جهة كون
ارتكابهما أو تركهما مقدمة علمية لاتيان الواقع، فالاعتبار انما هو
بموافقة الواقع ومخالفته بعد فعليته وتنجزه.
وما ذكره الشيخ (قده) من إمكان اقتناع الشارع في مقام الامتثال
بالموافقة الاحتمالية وجعل المأتي به بدلا عن الواقع، ففيه:
ان هذا غير صحيح بعد ما عرفت ما هو محل النزاع، أعني صورة كون
الواقع فعليا على أي حال بمعنى عدم تصرف المولى في حكمه
برفع اليد عنه، وببيان أوضح: المراد بجعل البدل، اما هو الجعل في
مقام الواقع بان يكون حرمة خصوص الخمر منحصرا بما إذا علم به
تفصيلا واما إذا علم به إجمالا، فالحرام أحد الإناءين بنحو التخيير، و
اما الجعل في مقام الظاهر ومقام الامتثال بعد بقاء الواقع على ما
هو عليه من إطلاقه، فعلى الأول يكون فرض جعل البدل، خروجا عن
الفرض من إطلاق الحكم الواقعي أعني حرمة الخمر وعدم تقييدها
بالعلم التفصيلي. وعلى الثاني، يرد عليه ان ثبوت الحكم بإطلاقه و
فعليته على أي تقدير وفي أي طرف كان، ينافي الترخيص ولو في
بعض الأطراف كما هو واضح، إذ الفرض تنجز الحكم وفعليته ولو كان
في الطرف المرخص فيه ومعنى تنجزه استحقاق العبد للعقوبة
على مخالفته بما هي مخالفته من دون ان يستحق العقوبة على شي
آخر، فلو فرض عبدان، علم كل منهما بحرمة إناءين فارتكب أحدهما
كليهما والاخر أحدهما واتفق كونه الحرام واقعا، لا يرى العقل فرقا
بين العبدين في مخالفة تكليف المولى بعد وصوله إليهما وكونهما
مستحقين للعقوبة لذلك.
فان قلت: لا نسلم كون العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي، علة تامة
للتنجيز، بداهة كون كل
421

من الطرفين مشكوك الحكم فمرتبة الحكم الظاهري أعني الشك فيه
محفوظة وهذا بخلاف العلم التفصيلي، وبالجملة فالعلم الاجمالي
يشترك مع الشبهات البدوية في انحفاظ الشك فيه، وما هو الموضوع
للحكم الظاهري هو الشك.
قلت: قد عرفت الفرق بين الشبهات البدوية وبين الشبهات المقرونة
بالعلم الاجمالي، فان الحكم الواقعي في الأولى لم يبلغ بعد، مرتبة
الفعلية والتنجز، لعدم إمكان باعثيته وتأثيره في نفس العبد وان صدر
بهذا الداعي، فيمكن جعل الحكم الظاهري في رتبة خيبته وعدم
تأثيره، واما في الثانية فلم يبق مجال لعدم تنجزه، لوصوله إلى العبد و
صيرورته بحيث يمكن ان يؤثر في نفس العبد، فارتفع المانع عن
تنجزه كما عرفت تفصيله.
وحاصل المسألة:
ان العلم الذي هو صفة خاصة نفسانية ويرادفه القطع والجزم إذا تعلق
بالتكليف الفعلي والإرادة الحتمية من المولى فلا مجال للقول
بعدم تنجيزه تفصيليا كان أو إجماليا، محصورة كانت الشبهة أو غير
محصورة، وفي هذا الفرض تجب موافقة نفس التكليف المعلوم و
تحرم مخالفته والطرف الآخر في العلم الاجمالي يكون كالحجر
بجنب الانسان ما لم يتصرف المولى في مقام الواقع فلا يكون لاتيانه و
تركه ارتباط بإتيان التكليف الحتمي وتركه. وفرض جعله بدلا في متن
الواقع أو العفو عن الواقع على فرض الاتيان بالفرد الاخر،
ينافي ما هو مفروض البحث من تعلق الجزم بكون أحد الشيئين
بخصوصه مرادا حتميا للمولى بحيث لا يرضى بتركه وموجبا
لاستحقاق
العقوبة على مخالفته كيف ما كان.
تصوير موضوع المسألة:
والعمدة في ذلك، تصوير موضوع المسألة، فان الشيخ (قده) وان ذكر
في مقام العنوان (العلم الاجمالي) ولكن في مقام التمثيل ذكر
غير العلم من الحجج الاجمالية ولا نأبى في هذه من القول بإمكان
الترخيص في بعض الأطراف أو في جميعها، فلو علم بان هذا الاناء أو
ذاك خمر، يكون معنى ذلك هو العلم بشمول إطلاق لا تشرب الخمر
بالنسبة إلى هذا أو ذاك وهذا ليس علما إجماليا بالتكليف الفعلي،
بل علما بوجود الحجة أعني الاطلاق، اما بالنسبة إلى هذا أو ذاك،
ففي هذه الصورة يمكن في مقام الثبوت، الترخيص، إذ غاية ما في
الباب، ظهور لا تشرب الخمر في فعليته بالنسبة إلى جميع الافراد، و
لكن يمكن ان يرفع اليد عن هذا الظهور بإطلاق أدلة الأصول
المرخصة مثلا، فان مصلحة الواقع أو مفسدته، يمكن ان لا تكون
بمثابة من الأهمية
422

بحيث يجب على العبد لاحرازها الوقوع في الكلفة بالاحتياط، أو لعل
الاحتياط والجمع بين الأطراف يشتمل على مفسدة أقوى من ملاك
الواقع، ففي هذه الصورة للمولى، الترخيص في جميع الأطراف أو في
بعضها، فلا مانع من أخذ إطلاق أدلة الأصول ورفع اليد عن ظهور
لا تشرب في فعليته بالنسبة إلى جميع الافراد، ولكن هذا لا يجري
فيما إذا كان الحجة على التكليف الفعلي، هو العلم والجزم فان الفعلية
المستفادة من ظهور إطلاق أو أمارة أخرى، مما يحتمل خلافها،
فيمكن ان يرخص في مخالفتها وينكشف بذلك عدم فعلية الواقع، و
اما
العلم فلا يتمشى فيه احتمال الخلاف، فالعلم بالتكليف الفعلي
الحتمي مما تجب موافقته ويثبت استحقاق العقوبة على مخالفة نفسه
من
دون دخالة للطرف الآخر في ذلك.
هذا كله، تفصيل الكلام بالنسبة إلى العلم واما حكم ساير الحجج
الاجمالية فتفصيل جريان الأصول في أطرافها موكول إلى مبحث
البراءة والاشتغال، فان المناسب في مبحث القطع بيان حال العلم
فقط والمبحوث عنه في ساير الحجج الاجمالية، هو جواز إجراء
الأصول في أطرافها وعدم جوازه والمناسب لهذا البحث، هو مبحث
البراءة فانتظر.
ثم إن (المحقق الخوانساري) و (القمي) أيضا صرحا بوجوب الموافقة
القطعية وعدم إمكان الترخيص في صورة تعلق العلم الاجمالي
بالتكليف الفعلي ومناقشتهما انما هو في وجوب العمل بالحجج
الاجمالية الأخرى فراجع كلامهما.
ثم إنه ربما يستشكل على ما ذكرنا من وجوب الموافقة القطعية وعدم
إمكان الترخيص أو جعل البدل في صورة تعلق العلم والجزم
بالتكليف الفعلي بما نراه من قناعة الشارع في مقام الامتثال
بالمشكوك، كما في قاعدتي (الفراغ) و (التجاوز) و (الشك بعد
الوقت) و
ساير موارد الشكوك التي حكم فيها بصحة العمل مع العلم تفصيلا
بوجوب العمل المشكوك في صحته.
وفيه: ان مقتضى حكم الشارع بعدم الاعتناء في (قاعدة الفراغ) و
نحوها، كون المأتي به مصداقا للطبيعة المأمور بها وكونه مجزيا،
غاية الأمر، كونه فردا طوليا وافيا بغرض المأمور به في حال الشك فقط
وقد ذكرنا تفصيل ذلك في مبحث الاجزاء فراجع.
واما الشك بعد الوقت، فيما إذا شك في أصل إتيان العمل، فمقتضى
حكم الشارع فيه بعدم الاعتناء هو رفع اليد عن الواقع على فرض
عدم الاتيان به واقعا، تسهيلا على المكلف وإلا فلا معنى لبقاء الواقع
على ما هو عليه من الحتمية مع الاذن في تركه.
وبالجملة: فكل مورد وردت أمارة أو أصل في مورد العلم، فلا محيص
عن القول بكفاية مؤداه
423

عن الواقع، من جهة كونه فردا طوليا للطبيعة المأمور بها أو القول برفع
اليد عن الواقع على فرض تخلفه عنه، ولو فرض العلم بكون
الواقع فعليا حتميا على أي حال كما هو مفروض البحث في العلم
الاجمالي، فلا مجال لجريان الأصل أو الامارة. تأمل جيدا.
العلم الاجمالي في مقام الامتثال:
هذا تمام الكلام في حكم العلم الاجمالي في مقام الاثبات.
واما في مقام الاسقاط أعني امتثال التكليف المعلوم تفصيلا أو إجمالا
أو المظنون بالظن المعتبر بنحو الاجمال مع التمكن عن امتثاله
بنحو التفصيل - إذ في صورة عدم التمكن عن ذلك، لا مجال
للاشكال في جوازه - فنقول: اما في التوصليات فلا إشكال في جوازه،
انما
الاشكال في التعبديات.
والصور المتصورة فيها أربع:
إذ الدوران قد يكون بين الأقل والأكثر، وقد يكون بين المتباينين،
فالاحتياط في الثاني يستلزم تكرار أصل العمل.
والأول ينقسم إلى أقسام ثلاثة ويشترك جميعها في عدم استلزام
الاحتياط فيها لتكرار أصل العمل:
القسم الأول: ما كان الجز المشكوك فيه، مما ثبتت جزئيته للعمل و
انما كان الترديد بين كونه جز وجوبيا أو جز ندبيا.
القسم الثاني: ما كان امر الجز المشكوك فيه دائرا بين كونه جز
وجوبيا أو امرا زائدا في الصلاة بحيث يكون لغوا بعد إحراز عدم
مانعيته للصلاة، والا لرجع الترديد إلى الترديد بين المتباينين.
القسم الثالث: ما إذا تردد الجز المعلوم جزئيته بين أمرين متباينين
بحيث يستلزم الاحتياط، تكرار الجز لا أصل العمل، كما إذا علم
بوجوب القراءة اما جهرا أو إخفاتا.
فهذه صور أربع نذكر حكم الاحتياط فيها.
وليعلم ان النزاع في المقام ليس في جواز الاحتياط وعدمه إذ
الاحتياط عبارة عن الاتيان بما يترتب عليه العلم بإتيان مطلوب
المولى
على أي حال، واجدا لجميع ما يعتبر فيه وجودا، وفاقدا لجميع ما
يعتبر فيه عدما.
424

وهذا المعنى مما يحكم بحسنه جميع العقلا، فلا معنى للنزاع في
جوازه، بل النزاع في المقام انما هو في أنه هل تجوز القناعة بالامتثال
الاجمالي أم لا؟ فالقائل بالجواز يقول بكونه احتياطا لعدم كونه موجبا
للاخلال بشئ مما يعتبر في العبادة، والقائل بعدم الجواز يقول
بعدم كونه احتياطا لاستلزامه الاخلال ببعض ما يعتبر فيها من قصد
القربة أو قصد الوجه، فالنزاع في الحقيقة في تحقق الاحتياط و
عدمه، لا في جوازه بعد تحققه.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول:
اما القسم الأول من أقسام الأقل والأكثر، أعني صورة ثبوت الجزئية
للشئ وتردد امره بين الوجوب والندب، فالاحتياط فيه ممكن بلا
شك وارتياب من دون ان يكون في البين إخلال بشئ مما يحتمل
دخالته في العمل كقصد الوجه مثلا.
وتحقيق ذلك يتوقف على بيان كيفية تصوير الجز الندبي للعمل
الواجب فإنه من الأمور المشكلة.
تصوير الجز الندبي:
الظاهر أنه لا يتصور كون شي كالقنوت مثلا مع استحبابه جز للصلاة
إلا أن يفرض الصلاة عنوانا بسيطا [1] ذات مراتب طولية ينتزع
بعض مراتبها من الأقل وبعضها من الأكثر ويصدق هذا العنوان البسيط
بمرتبته الناقصة على الأقل وبمرتبته الكاملة على الأكثر صدقا
عرضيا
[1] ولنذكر لذلك مثالا عرفيا، وهو انه إذا امر المولى عبده ببناء مدرسة
فللعبد بناء مدرسة تشتمل على عشر حجرات مثلا وله بناء
مدرسة تشتمل على مائة حجرة والمدرسة عنوان عرضي مقول
بالتشكيك على مجموع المتكثرات، فإذا بنى العبد ما تشتمل على
المائة
أيضا تصير بأجمعها منطبقا لعنوان المأمور به وامتثالا للامر الوجوبي و
كذا لو امر عبده بتشكيل مجمع، فله تشكيل مجمع يشتمل على
خمسة نفر وله تشكيل ما يشتمل على مائة مثلا، والجمعية عنوان
عرضي تنتزع من مجموع المتكثرات كما لا يخفى.
ثم إنه ربما يتوهم جواز تصوير الجز الندبي بنحو آخر وذلك بان
يكون الندبي جز من الفرد دون الطبيعة كاللحية التي هي جز من
زيد دون الانسان.
وفيه: ان هذا يصح في ما إذا اتحد أجزأ الفرد بحسب الوجود كما في
مثل زيد ولحيته واما المركب الاعتباري كالصلاة مثلا فجزئية
شي لها تحتاج إلى الاعتبار، فإنها حقائق متباينة متعددة بحسب
الوجود ووحدتها باعتبار المعتبر، فلا تنتزع الجزئية الا عما دخل
تحت الامر والا للزم كون تحريك اليد مثلا أيضا من اجزائها مع أنه من
المقارنات. فافهم. ح - ع - م.
425

لا ذاتيا ينتزع من مقام ذات المتكثرات، لكونها في مرتبة ذاتها أمورا
متباينة ومعنى كون الشئ جز وجوبيا، هو دخالته في جميع
المراتب ومعنى كونه جزا ندبيا، دخالته في المرتبة الكاملة فقط، و
صرف الطبيعة المشككة الواقعة تحت الامر، يصدق على كل فرد من
الافراد الطولية بجميع اجزائه الدخيلة في انتزاع تلك المرتبة من
الطبيعة، مثلا عنوان الصلاة، أعني المقرب الخاص الذي هو، (قربان
كل
تقي) و (معراج المؤمن)، عنوان انتزاعي بسيط له مراتب متفاوتة في
الكمال والنقص، تنتزع مرتبتها الكاملة من التكبير والركوع و
القراءة والقنوت وسائر الأقوال والهيئات الواجبة والمستحبة بحيث
تكون لكل منها دخالة في انتزاع تلك المرتبة، ومرتبة منها تنتزع
من مجموع الأجزاء الواجبة وبعض الأجزاء المستحبة المخصوصة، و
مرتبة منها تنتزع من الواجبات وبعض آخر من المستحبات وهكذا
يتدرج من الكمال إلى النقص إلى أن يصل إلى مرتبة هي أخس
المراتب وهي التي تنتزع من الأجزاء الواجبة فقط، وليس صدق
عنوان
الصلاة على تلك الأجزاء الواجبة والمستحبة أو الواجبة فقط، صدقا
ذاتيا بحيث تكون ماهية هذه المتكثرات عبارة عن الحيثية الصلاتية،
بداهة ان هذه الاجزاء أمور متباينة يكون كل منها داخلا تحت نوع
مباين لنوع آخر، غاية ما في الباب، انها بأجمعها ينتزع عنها عنوان
عرضي اخر وراء عناوين ذواتها، يسمى هذا العنوان (صلاة) يترتب
عليها آثار من الناهوية عن الفحشاء والمقربية إلى ساحة المولى و
غيرهما، ومعنى كون الركوع مثلا جز وجوبيا هو كونه دخيلا في
جميع المراتب، ومعنى كون القنوت جز ندبيا هو كونه دخيلا في
بعض المراتب الكاملة، فانتزاع هذه المرتبة لا يمكن بدون الاتيان
بالقنوت، ولكن لو لم يؤت به صار الباقي منطبقا لعنوان الصلاة
أيضا، غاية الأمر بمرتبة أنزل من الأول وليس معنى الاستحباب هنا،
تعلق امر بالقنوت وراء الامر المتعلق بطبيعة الصلاة إذ لو كان
كذلك للزم كون القنوت مستحبا مستقلا شرع إتيانه في ضمن الصلاة
بحيث تكون محلا له، وهذا ينافي الجزئية مع أنه يعد من اجزائها
بلا شك.
نعم الأقوى عندنا، كون الصلوات في الركوع والسجود مستحبا مستقلا
لا دخالة لها في انتزاع عنوان الصلاة وانما جعل الركوع مثلا،
محلا لاتيان هذا المستحب كما تدل على ذلك، الرواية الواردة في
تشريعها في الركوع.
وكيف كان، فالجزئية تنافي تعلق الامر الاستقلالي النفسي وانما
الثابت في الجز هو الامر الضمني الانبساطي في ضمن الامر الواحد
المتعلق بالكل، بمعنى ان الداعي إلى إتيان الجز، هو نفس الامر
المتعلق بالكل، ففي باب الصلاة ليس لنا الا امر واحد متعلق بأصل
طبيعة
الصلاة و
426

هو امر وجوبي يجب امتثاله وقد عدت في الاخبار لهذه الطبيعة أجزأ
وجوبية وأجزأ ندبية وتصوير كون الشئ مندوبا مع جزئيته لا
يعقل الا بما ذكرنا من كون الطبيعة مشككة ويكون هذا جز لمرتبة
منها، وحيث إن الامر الوجوبي لم يتعلق بمرتبة خاصة من طبيعة
الصلاة بل تعلق بصرف الطبيعة، فلا محالة يصير هذا الامر داعيا إلى
إيجادها في ضمن فرد من افرادها، والفرض ان لها افرادا طولية،
فكل فرد أتى به العبد يصير بتمامه مصداقا لهذه الطبيعة المأمور بها و
قد كان الداعي إلى إتيان الطبيعة المنطبقة على هذه الاجزاء
بأجمعها، هذا الامر الوجوبي، فان العبد وان أتى بالفرد المشتمل على
القنوت والتسبيحات الثلاثة ونحوهما من المستحبات ولكن لما
كانت هي أيضا جز من الطبيعة المأمور بها وكانت الواجبات و
المستحبات بأجمعها منطبقة لهذا العنوان، فلا محالة يكون الامر
الوجوبي الداعي إلى إتيان الطبيعة، داعيا إلى الأجزاء المستحبة أيضا،
وتكون هي أيضا متعلقة للامر الضمني.
ومعنى استحبابها ليس الا انه كان للعبد تركها في مقام العمل، إذ
الفرض ان الطبيعة المأمور بها تنطبق على الباقي أيضا، غاية الأمر،
بمرتبة أخس من الأول. فالعبد الآتي بالمرتبة الكاملة أيضا لا يمتثل الا
امرا واحدا كغيره ممن يأتي بالناقصة إذ الفرض عدم ثبوت امر
في المقام سوى امر واحد وجوبي تعلق بصرف الطبيعة اللا بشرط ولولا
الالتزام بذلك، لوجب القول بكون كل من القنوت ونحوه
متعلقا لامر ندبي استقلالي وقد عرفت ان هذا ينافي الجزئية لان الامر
المتعلق بالجز ضمني لا استقلالي.
إذا عرفت ما ذكرنا وتبين لك ان الداعي إلى الأجزاء الواجبة و
المستحبة بأجمعها، امر واحد وجوبي تعلق بأصل الطبيعة، فإذا دار
امر
شي بين كونه جزا وجوبيا أو ندبيا، بعد ما ثبت أصل جزئيته فلا
يوجب الدوران فيه، إخلالا بوجهه على فرض اعتبار قصد الوجه في
الاجزاء أيضا كما لا يخفى.
ثم إن الظاهر، عدم إمكان تصوير الجز الندبي الا بما ذكرناه من فرض
الصلاة عنوانا عرضيا مشككا ينطبق على الاجزاء.
وليعلم انه كما يمكن اختلاف مصاديق هذه الطبيعة بالنسبة إلى
شخص واحد في حال واحد، فكذلك يمكن اختلافها بالنسبة إلى
الحالات
المختلفة حتى بالنسبة إلى الأجزاء الواجبة فبالنسبة إلى الحاضر مثلا
يتوقف صدق هذا العنوان العرضي على أمور لا يتوقف عليها
بالنسبة إلى المسافر وهكذا بالنسبة إلى ساير الحالات من الصحة و
المرض بأقسامه والخوف والامن و
427

نحوها فالصلاة في جميعها عبارة عن حقيقة واحدة والا للزم
الاشتراك اللفظي كما لا يخفى.
تصوير آخر للجز الندبي ونقده:
ثم إن بعض من عاصرناه من الأعاظم، كان بصدد تصوير الجز الندبي
بنحو اخر فقال:
يمكن ان يكون الصادر من المولى أمران: أحدهما وجوبي تعلق
بمجموع التسعة الفاقدة للقنوت مثلا، والاخر ندبي تعلق بمجموع
العشرة
التي هي عبارة عن هذه التسعة بإضافة القنوت وحيث إن متعلق الأمر
الوجوبي داخل في ضمن متعلق الأمر الندبي، فالاتي بالعشرة يمتثل
أمرين والآتي بالتسعة يمتثل امرا واحدا.
فقلت له: ان الصلاة عبارة عن أي الطبيعتين؟ فان كانت عبارة عن
التسعة فيلزم ان لا يكون القنوت جز منها وان كانت عبارة عن
العشرة فيلزم عدم جواز ترك القنوت وكذا اللازمين باطلان فلا محيص
عن القول بكونها طبيعة مشككة كما عرفت.
ولو أبيت عن تصوير الجز الندبي بما ذكرنا حتى يرتفع إشكال قصد
الوجه، فنقول:
ان الاحتياط في هذا الجز المردد بين الوجوب والاستحباب وإن كان
يوجب الاخلال بقصد الوجه في هذا الجز ولكنا نقطع بعدم
اعتباره في تحقق العبادة. والشاهد على ذلك، ان سيرة النبي صلى
الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام كانت في بيان الواجبات و
المستحبات بسياق واحد حتى في المقامات التي كانوا فيها بصدد
بيان تمام ما هو المعتبر في العبادة كما في خبر حماد المتضمن
لصلاته عند الإمام عليه السلام وصلاة الامام له لبيان ما هو المعتبر
فيها.
وبالجملة: فكثيرا ما كانوا يذكرون الأجزاء الواجبة والمستحبة بسياق
واحد ولم ينبهوا على ما هو الواجب منها وما هو المستحب مع
كونهم بصدد البيان، بل كان المرسوم في كتب الفقه إلى زمن الشيخ
(قده) أيضا ذكر الواجبات والمستحبات بالاختلاط من دون اشعار
بوجوب بعضها واستحباب البعض الاخر، وأول من ميز بينهما هو
الشيخ (قده).
فيعلم من ذلك كله، عدم دخالة قصد الوجه في صحة الاجزاء كما لا
يخفى على من تتبع.
هذا كله فيما إذا ثبتت جزئية الشئ للواجب وشك بين كونه وجوبيا
أو ندبيا، فقد تبين لك إمكان قصد الوجوب الضمني في هذا الجز
كما في سائر الأجزاء فلا يوجب الاحتياط، الاخلال بشئ مما يحتمل
اعتباره في العبادة.
واما غير هذه الصورة من صور الاحتياط في العبادة فليس الاشكال
فيها مربوطا بمسألة
428

قصد الوجه بل الامتثال الاجمالي لو أخل فيها بشئ فإنما يخل بقصد
القربة والامر، والاشكال المتوهم فيها، انما هو لزوم الاخلال به، لا
بقصد الوجه وقد عرفت ان هذه الصور ثلاث حتى تصير مع الصورة
السابقة أربع ونضيف إليها هنا صورة خامسة:
وهي ما إذا احتمل وجود امر عبادي من دون اقتران بالعلم الاجمالي
فمع عدم احتساب الصورة السابقة التي عرفت حكمها تفصيلا،
يوجد صور أربع [1] للاحتياط في العبادة مشتركة في الحكم.
وتفصيلها: انه اما ان يعلم بوجود الامر إجمالا ويتردد متعلقه بين
المتباينين واما ان يحتمل وجود الامر بشئ من دون اقتران بالعلم
الاجمالي وعلى كلا التقديرين، فالامر المعلوم أو المحتمل اما نفسي
استقلالي واما ضمني انبساطي. مثال المعلوم الاستقلالي، ما إذا
تردد الواجب بين القصر والاتمام، ومثال المعلوم الضمني، ما إذا
تردد الجز بين القراءة الجهرية والاخفاتية ومثال المحتمل
الاستقلالي، ما إذا احتمل وجوب صلاة مثلا ومثال المحتمل الضمني
ما إذا احتمل جزئية شي للواجب التعبدي. والصور الأربع، تشترك
في أن كيفية إطاعتها تباين مع صورة العلم التفصيلي بالامر، إذ في
صورة العلم التفصيلي بالامر يكون هو الداعي إلى إتيان الفعل و
يوجد الفعل بقصد الامر الذي علم تعلقه به وهذا بخلاف تلك الصور
الأربع فان الداعي إلى إتيان الفعل فيها هو احتمال الامر.
نعم بين صورتي العلم وصورتي الاحتمال فرق ما، إذ في صورتي
العلم يكون الداعي أولا وبالذات هو نفس الامر المعلوم لا بمعنى انه
يدعو إلى كل واحد من الطرفين بخصوصهما، بل بمعنى انه يدعو إلى
متعلقه أعني الواجب في البين وجهل المكلف به بخصوصه دعاه إلى
إتيان الطرفين واما في صورتي الاحتمال فالامر غير مكشوف ولو
إجمالا فلا دخالة له في الداعوية أصلا فاحتمال الامر يكون داعيا لا
الامر المحتمل.
وكيف كان فكيفية الامتثال في تلك الصور تخالف صورة العلم
التفصيلي، فلو كان فيها إخلال بشئ مما يعتبر في العبادة، فإنما هو
الاخلال بالقربة واما الوجه فيها فمعلوم انه الوجوب لعدم تردده بينه و
بين الندب.
[1] وهنا صورة أخرى أيضا لم يذكرها الأستاذ مد ظله، وهي، ما إذا
علم بتعلق الامر بشئ بنحو الاستقلال ودار الامر بين كونه
وجوبيا أو استحبابيا كغسل الجمعة مثلا. ح - ع - م.
429

اعتبار قصد التمييز وعدمه:
قد يقال: ان الاختلال فيها يقع من جهة قصد التمييز أيضا بناء على
اعتباره.
وفيه: منع الاختلال بشئ سوى ما ذكرنا من اختلاف كيفية الإطاعة.
وتفصيل ذلك: ان من الأمور المعتبرة في بعض الواجبات، هو قصد
العنوان المأمور به المعبر عنه بقصد التعيين واعتبار ذلك، انما هو
في ما إذا كان الواجب من العناوين القصدية ونعني بالعناوين القصدية
ما يكون انطباقها على معنوناتها موقوفا على قصد العنوان من
جهة كون صورة العمل الخارجي مشتركة بين هذا العنوان المأمور به و
بين عناوين أخرى ولا يكاد ينطبق واحد منها عليها الا بعد
إتيانها بهذا القصد كالتعظيم، فان الانحناء امر يشترك بين التعظيم و
الإهانة وانطباق كل منهما عليه انما هو بعد إتيانه بقصد هذا أو
ذاك، فالقصد مما له دخالة في وجود هذه العناوين وفي تحققها
خارجا، وأمثلة ذلك في الشرعيات كثيرة كصلاة الظهر والعصر
فإنهما نوعان متباينان مع اشتراكهما في الصورة ويتقوم كل منهما
بقصد عنوانه وليس الاختلاف بينهما بصرف التقدم والتأخر بان
يكون الظهر اسما للأربعة المأتي بها أولا والعصر اسما للأربعة المأتي
بها ثانيا والا لم يكن معنى للعدول من أحدهما إلى الاخر [1] كما
لا يخفى.
وبالجملة، فقصد العنوان مما يعتبر في الواجبات المتقومة بالقصد و
لكن لا يختص ذلك بالتعبديات إذ يمكن ان يكون بعض التوصليات
أيضا مما يعتبر في تحققها القصد كما إذا امر بالتعظيم لزيد مثلا.
إذا عرفت ذلك فنقول: ان أريد بقصد التمييز ما ذكرناه من قصد
العنوان، ففيه:
أولا: عدم جريانه في جميع الواجبات التعبدية إذ منها ما لا تكون
قصدية كالقصر والاتمام مثلا على ما اخترناه من عدم كونهما قصديين
وانما الاختلاف بينهما بالزيادة والنقصان.
وثانيا: عدم اختصاص ذلك بالتعبديات كما عرفت آنفا.
وثالثا: ان الاحتياط لا يوجب الاخلال بذلك فان من يحتاط بإتيان
الظهر والجمعة يقصد في الأول خصوص عنوان الظهر وفي الثاني
خصوص عنوان الجمعة.
نعم، قد لا يتحقق في بعض المواقع، القصد التفصيلي كما إذا علم
بوجوب صلاة مرددة بين
[1] أو وقوع المأتي بها أولا عصرا في بعض الصور. ح - ع - م.
430

الظهر والعصر، فيأتي بأربع بقصد العنوان الواجب عليه واقعا ويكتفى
بهذا القصد الاجمالي ولكن ليس هذا مربوطا بباب الاحتياط إذ
فيه يوجد القصد التفصيلي أيضا.
هذا كله إذا أريد بقصد التمييز قصد العنوان المأمور به المعبر عنه
بقصد التعيين.
وان أريد به تمييز الواجب عن غيره حتى يكون الاحتياط مخلا
بذلك، ففيه:
ان الواجب بوجوده الواقعي متميز عن غيره بعد ان لم يكن مما يعتبر
فيه قصد العنوان أو تحقق قصده من المكلف، وبوجوده العلمي وان
لم يكن متميزا عن غيره بمعنى عدم علم المكلف بخصوص ما هو
الواجب حتى يأتي به بقصد امره ولكن التمييز بمعنى العلم ليس امرا
قصديا إذ بعد فرض جهل المكلف لا يرتفع جهله بقصد العلم و
التمييز.
فلا يبقى في المقام الا ان يقال: بأنه يعتبر في عبادية العبادة علم
المكلف وتمييزه لخصوص الواجب حتى يأتي به بقصد امره ولا
يكفي
إتيانه بداعي احتمال الامر وهذا هو الذي ذكرناه من أن الاخلال في
هذه الصور الأربع لو كان، فإنما هو بقصد الامر والقربة، حيث إن
كيفية الإطاعة في هذه الصور تخالف كيفية الإطاعة في صورة العلم
التفصيلي كما عرفت بيانه.
الامتثال الاجمالي:
إذا عرفت ما ذكرنا، فيقع الكلام في أنه هل يجوز القناعة بهذا النحو من
الإطاعة في هذه الصور مع التمكن من الإطاعة التفصيلية أم لا؟
بعد الاتفاق على أن الإطاعة الاحتمالية أيضا نحو من أنحاء الطاعة و
لذا تجب عند تعذر غيرها في أطراف العلم الاجمالي.
وبعبارة أخرى: النزاع انما هو في كون الامتثال الاحتمالي في طول
الامتثال العلمي التفصيلي أو في عرضه؟ ولنقدم الكلام في أطراف
العلم الاجمالي فنقول:
يمكن ان يوجه الجواز بان المعتبر في العبادة ليس الا كون صدور
الفعل بداعي إلهي، بحيث يكون جهات العبودية، داعية له إلى إتيانه
في مقابل الدواعي النفسانية، بل يمكن ان يقال: بأنه لا يتصور وقوع
العبادات المعروفة بالدواعي النفسانية لعدم ملائمتها للقوة
الشهوية. نعم ربما يأتي بها رياء ليظهر بها للناس انه يعبد الله وانه من
الصلحاء ويستفيد بذلك استفادات دنيوية، ولكن ليس ذلك
لملامة العبادة للاميال النفسانية بل لاستجلاب المنفعة بسبب الاتيان
بما يراه الناس عبادة لله تعالى، ولولا جهة عباديته وعدم كونه
من الملائمات النفسانية ذاتا، لم يكن الرياء به جالبا للمنفعة، فيكشف
ذلك عن أن حقيقة العمل، حقيقة عبادية يكفي في صحتها
431

إتيانها بنحو ترتبط بالمولى، ولاجل ذلك لم يرد في الروايات اسم من
لزوم قصد الامر أو سائر الدواعي الأخرى ولكن قد استفاضت
في النهي عن الرياء وانه من المبطلات، فيعلم من ذلك عدم اعتبار
شي في عبادية العمل سوى كون الاتيان بها لا لداع شهواني بل بوجه
قربي وداع يرجع إلى المولى.
ولو سلم لزوم قصد الامر فيها، فالامر في مورد الفرض أعني أطراف
العلم الاجمالي سهل، إذ الداعي إلى إتيان كل واحد من الطرفين
في الحقيقة هو الامر المعلوم في البين، وتميز خصوص المأمور به
بحيث يعلم المكلف حين الاتيان به، انه الذي تعلق به الامر مما لا
دخالة
له في صيرورة العمل عباديا ومقربا.
واحتمال كونه معتبرا في عرض قصد الطاعة، مدفوع، بأنه لا دليل
على اعتباره حيث لا اسم من ذلك في الاخبار ولا أثر، فقاعدة قبح
العقاب من غير بيان محكم ولو قيل بعدم إمكان نفى اعتباره بالاطلاق
ولا بالأصول الشرعية من جهة كونه من الاعتبارات المتأخرة
عن الامر.
وبالجملة فقصد الامر، متحقق في أطراف العلم الاجمالي وكذا قصد
الوجه، لعدم كون الامر مرددا بين الوجوب والندب. والتمييز
بمعنى العلم التفصيلي، لا دليل على اعتباره، بعد عدم دخالته في
تحقق العبادية. ولا فرق في ذلك بين تعلق العلم الاجمالي بتكليف
نفسي
مردد بين أمرين، أو بتكليف ضمني مردد، ففي الثاني أيضا يكون
الداعي هو الامر الضمني المعلوم في البين.
هذا وربما يستدل على عدم كفاية الامتثال الاجمالي بالاجماع و
بكونه مستلزما للعب بأمر المولى.
والاستدلال بهما من الغرائب إذ المسألة لم تكن معنونة في كتب
القدماء حتى يدعى فيها الاجماع، وأول من عنونها على ما هو ببالي
صاحب (الإشارات) من المتأخرين وحجية الاجماع، انما هي من
جهة انه يستكشف من اتفاق العلماء في عصر على حكم واحد، انهم
تلقوه
من العصر السابق وهكذا إلى أن يصل إلى الامام، وذلك انما يكون في
المسائل المعنونة لا في مثل المسألة.
هذا مضافا إلى عدم حجية الاجماع المنقول خصوصا مع وهنه بما
ذكرنا من عدم التعنون.
وأضعف من ذلك، ما ذكره من كونه لعبا، بداهة ان من يأتي بأمرين
يعلم بكون أحدهما مطلوبا للمولى بداعي حصول ما هو المأمور به لا
يكون داعيه، اللعب وانما الداعي له، هو حصول
432

مطلوب المولى. وترك الفحص عما هو الواجب واقعا، يمكن ان
يكون لداع عقلائي.
نعم لو كان الداعي، هو اللعب، كان العمل باطلا، ولكن لا يختص ذلك
بالامتثال الاجمالي إذ التفصيلي أيضا كذلك، فافهم.
واستقرار سيرة المتشرعة على الفحص عن الواجبات مع التمكن من
الاحتياط، لا يدل على عدم الجواز في صورة التمكن، إذ استقرار
سيرتهم على الفحص انما هو من جهة كونهم بصدد تسهيل الامر حيث إن
تكرار العمل يوجب الزحمة ففحصهم انما هو للداعي العقلائي و
ربما يكون الداعي العقلائي في ترك الفحص والاحتياط ولم يعلم
كون الاحتياط مع التمكن من الفحص امرا منكرا لديهم.
الامتثال الاحتمالي:
هذا كله حكم الامتثال الاجمالي. اما الاحتمالي في غير أطراف العلم
فالظاهر كفايته أيضا وان تمكن من الفحص لما عرفت من عدم
اعتبار شي في عبادية العبادة سوى كون الاتيان بها بداع إلهي في
مقابل الدواعي النفسانية ومن يأتي بما يحتمل كونه مأمورا به
للمولى بهذا الداعي يكون عمله هذا بنظر العقل مقربا بل هو أولى في
نظره ممن يأتي بالمعلوم، حيث يكشف ذلك عن شدة اهتمامه
بأوامر المولى بحيث ينبعث عن احتمال امره فضلا عن العلم به.
فافهم.
433

المقصد السابع في الظن وفيه فصول:
435

الفصل الأول:
إمكان التعبد بالظن وما يترتب عليه
هل يمكن التعبد بالظن أم لا؟ لازم ما ذكره ابن قبة في الخبر الواحد من
عدم إمكان التعبد به هو الثاني، إذ لا خصوصية للخبر فلو امتنع
التعبد به لامتنع التعبد بكل ما لم يفد العلم ولو لم يكن أمارة كأحد
طرفي الاحتمال في باب الاستصحاب وسائر الأصول.
أقسام الامكان
ثم إن اللازم في المقام، هو الإشارة الاجمالية إلى المعاني المذكورة
للامكان حتى يعلم المراد من لفظ الامكان في عنوان المسألة.
فنقول: قد يوصف الامكان بالذاتي ويجعل صفة لذات الماهية
بالنسبة إلى الوجود والعدم، وهو عبارة عن كونها بحسب ذاتها غير
مستحقة لحمل الوجود أو العدم، فإن كان سلبا لضرورة الوجود و
العدم معا كان خاصا، وإن كان سلبا لاحدى الضرورتين كان عاما،
فسلب ضرورة الايجاب إمكان عام سالب وسلب ضرورة السلب
إمكان عام موجب، ويقابل الامكان الخاص، الضرورة الذاتية و
الامتناع الذاتي وهما عبارتان عن اقتضاء نفس الذات للوجود أو
العدم.
وقد يوصف الامكان بالاستعدادي، وهو بعرفهم سوى استعداد، فان
تهيؤ النطفة مثلا واستعدادها لصيرورتها إنسانا، له نسبة إلى
النطفة المستعدة ونسبة إلى الانسانية المستعد لها، فبالاعتبار الأول
يسمى بالاستعداد وبالاعتبار الثاني يسمى بالامكان الاستعدادي.
ثم إنه ذكر بعضهم قسما اخر للامكان سماه بالاستقبالي، فإنهم لما
سمعوا ان كل ممكن محفوف بضرورتين أو امتناعين، أرادوا تصوير
الامكان بنحو لم يخرج المتصف به بعد من حاق الوسط، فتوهموا ان
الامكان في الأمور المستقبلة كذلك.
436

ولكن التدقيق الفلسفي يقتضى خلاف ذلك فان الامر المستقبل ان
لوحظ بالنسبة إلى الوجود قبل ظرفه المقدر له في عمود الزمان فهو
محفوف بامتناعين لعدم تحقق علته في هذا الوقت وان لوحظ بالنسبة
إلى وجوده في ظرفه فهو محفوف بالضرورتين لوجود علته في
هذا الظرف.
وقد يذكر الامكان ويراد به الاحتمال كما في عبارة الشيخ (ابن سينا):
(كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان ما لم
يذدك عنه قاطع البرهان). أي كلما سمعته فلا تبادر إلى نفيه أو إثباته
بلا دليل بل ذره في بقعة الاحتمال.
وقد ذكر الأصوليون معنى اخر للامكان سموه بالوقوعي وهو كون
الشئ بحيث لا يلزم من وقوعه امر محال وفي مقابله الامتناع
الوقوعي وهو ما يلزم من وقوعه ذلك. والفرق بين الامتناع الذاتي و
الوقوعي، ان الأول عبارة عن كون الشئ بالنظر إلى نفسه
مستحيلا، والثاني عبارة عن كونه مما يترتب عليه المحال وإن كان
بالنظر إلى نفس ذاته ممكنا وبهذا البيان يظهر الفرق بين
الامكانين.
المراد من الامكان:
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: لا ريب في أن المراد بالامكان في عنوان
المسألة، هو الوقوعي دون غيره من المعاني، إذ من يدعى امتناع
التعبد بالظن انما يدعى ذلك من جهة توهم انه يترتب على التعبد به
أمور مستحيلة كما يأتي بيانها ولا يتوهم أحد انه من الممتنعات
الذاتية، كما لا يخفى.
ثم إنه إذا شك في إمكان شي بالمعنى الأخير أعني الوقوعي فلا
يحكم بأحد طرفي الشك ولا معنى لكون مقتضى الأصل هو الامكان
كما
توهم، إذ الامكان ليس حكما شرعيا فلا مجال للتعبد فيه. مضافا إلى أن
حجية هذا الأصل يتوقف على إمكان التعبد به وهو أول الكلام
لأنه المتنازع فيه في المسألة.
نعم في المقام شي يجب ان ينبه عليه وهو انه لو لم يكن لنا دليل
على التعبد بالامارات ونحوها فالبحث عن إمكانه وامتناعه لغو، وإن كان
لنا دليل على التعبد وجب الاخذ بمضمونه ما لم يثبت الامتناع،
فان صرف احتمال الامتناع واقعا لا يكون معذرا لرفع اليد عن ظاهر
الدليل.
نعم لو ثبت الامتناع، رفع اليد عن ظاهره وبالجملة فليس علينا إثبات
الامكان فيما دل عليه ظاهر الدليل، بل العقل يحكم بوجوب الاخذ
به ما لم يثبت امتناعه، ولكن لا يدل هذا على
437

الامكان أيضا، وما قيل: من أن أدل الأشياء على إمكان الشئ وقوعه
فإنما يصح فيما إذا ثبت الوقوع بالقطع فإنه يستلزم القطع
بالامكان، ووقوع التعبد بالامارات انما استظهر من الظواهر وليس مما
قطع به فلا يستفاد إمكان التعبد من أدلة وقوعه كما لا يخفى.
رد أدلة القول بالامتناع:
ثم إنه استدل للامتناع في باب الخبر بوجهين:
الأول:
انه لو جاز التعبد بالخبر في الاخبار عن النبي صلى الله عليه وآله أو
الأئمة عليهم السلام لجاز التعبد به في الاخبار عن الله تعالى و
التالي باطل إجماعا.
وفيه نظر: إذ المبحوث عنه في المقام ليس عبارة عن جواز عمل
المكلف بصرف اخبار المخبر من غير دليل أو عدم جوازه، بل
المبحوث
عنه هو انه هل يمكن ان يأمر الشارع بالعمل بما أخبر به المخبر و
التصديق لقوله أو يستحيل وما قام الاجماع على بطلانه هو الأول بل
يكون بطلانه من البديهيات والفطريات، وليس المورد محلا للاجماع
سواء كان الاخبار عن الله أو عن غيره، في الفروع أو الأصول،
فان الفطرة الانسانية تحكم بان صرف الادعاء ليس دليلا على الصدق
بل المتابعة انما تكون بعد مطالبة الآية أو الدليل.
وبالجملة، فما هو الفاسد بالبداهة انما هو متابعة المدعى والاخذ
باخباره من غير دليل وآية، واما ما هو المبحوث عنه في المقام أعني
إمكان ان يأمر الله بأخذ قول المدعى والمخبر ووجوب تصديقه
فليس فاسدا عقلا ولا مجمعا على فساده ولو في الاخبار عن الله
لجواز
ان يأمر الله بوجوب تصديق من يخبر عنه، غاية الأمر عدم وقوع ذلك،
والنزاع ليس في الوقوع وعدمه بل في الامكان والاستحالة.
وبالجملة، فالتالي في الاستدلال، ليس جواز عمل المكلف بل إمكان
ان يعبده الله بذلك وليس هذا باطلا بل الباطل هو الأول.
ثم إن ظاهر كلمات المستدلين بهذا الاستدلال، ان مرادهم بالاخبار
عن الله في التالي هو الاخبار عنه بنحو التنبي بان يخبر أحد عنه
تعالى بأنه أرسله على عباده، والمحقق الخراساني حمل ذلك على
مطلق الاخبار، فأجاب عن الاستدلال، بأنا لا نسلم امتناع ان يعبد الله
عباده بوجوب الاخذ والتصديق لما أخبر به سلمان - مثلا - عن الله
تعالى، والامر سهل وإن كان الظاهر من كلام القوم هو خصوص
التنبي وحينئذ يرد عليه ان التعبد وإن كان بمكان من
438

الامكان كما عرفت ولكنه يتوقف على ثبوت النبوة فلا يفرض ذلك
في المتنبي، اللهم الا ان يثبت التعبد ممن ثبتت نبوته بالأدلة
بوجوب الاخذ بقول المتنبي. فافهم.
الوجه الثاني:
ان التعبد بالعمل بالخبر الواحد يوجب تحليل الحرام وتحريم الحلال
وتفصيله على نحو يشار فيه إلى جميع المحذورات المتوهمة، هو
ان يقال: انه إذا لزم العمل على وفق ما أخبر به الثقة وجب ترتيب آثار
الحرام على ما أخبر بحرمته والوجوب على ما أخبر بوجوبه و
هكذا، فلا يخلو اما ان يكون الحكم الشرعي منحصرا في مؤدى
الامارة بحيث لا يكون لله بحسب الواقع أحكام ثابتة للموضوعات
بعناوينها الأولية يشترك فيها العالم والجاهل ومن قامت الامارة عنده
ومن لم تقم، واما ان لا يكون منحصرا فيه، بل جعل للعناوين
الواقعية مع قطع النظر عن أداء الامارة أحكاما يشترك فيها الجميع.
فعلى الأول: يلزم التصويب الذي دل على بطلانه العقل والأخبار المتواترة
وإجماع الامامية، وان اختلف العامة في صحته وبطلانه و
على الثاني: اما ان يكون قيام الامارة موجبا لانقلاب الحكم الواقعي
بان يكون الحكم الذي يشترك فيه العالم والجاهل ثابتا مع قطع
النظر عن الامارة القائمة ويكون قيامها موجبا لزواله، واما ان لا يكون
كذلك بل يكون ثابتا مع قيامها أيضا.
فعلى الأول: يلزم قسم اخر من التصويب أيضا يسمى بالانقلابي، وهو
أيضا باطل بالاجماع.
وعلى الثاني: فاما أن تكون الامارة مطابقة للواقع واما أن تكون مخالفة
له.
فعلى الأول: يلزم اجتماع وجوبين أو تحريمين - مثلا - في موضوع
واحد، أحدهما ما ثبت له بعنوانه الواقعي، وثانيهما ما ثبت له بسبب
قيام الامارة وحينئذ يجتمع المثلان وهو محال، بداهة ان الاثنينية اما
بحسب الماهية أو العوارض أو التشخص، والمثلان يتحدان بحسب
الماهية ولا عرض لهما حيث إنهما عرضان ولا يقوم بالعرض عرض،
وتشخص العرض بالموضوع فاجتماعهما في موضوع واحد يرفع
الاثنينية، وهذا خلف.
وعلى الثاني: أعني به صورة مخالفة الامارة للواقع، ففيه محاذير يعم
بعضها جميع صور المخالفة ويختص بعضها ببعضها.
اما ما يعم الجميع، فاجتماع الضدين، إذ الأحكام الخمسة بأسرها
متضادة فإذا أدت الامارة إلى أحدها وكان الواقع خلافه أيا ما كان،
يلزم اجتماع الضدين، وكذلك يلزم اجتماع النقيضين فيما
439

إذا كان الشئ محكوما بأحد الأحكام الخمسة وقامت الامارة على
نفيه.
واما ما لا يعم الجميع فالتكليف بما لا يطاق فيما إذا قامت الامارة
على وجوب شي وكان ضده واجبا بحسب الواقع، أو فيما إذا كان
الشئ حراما في الواقع وقامت الامارة على وجوبه.
هذا كله مضافا إلى أنه تلزم في صورة مخالفة الامارة للواقع محاذير
ملاكية أيضا بناء على ما هو الحق المحقق عند العدلية من تبعية
الاحكام للمصالح والمفاسد، فبعضها يختص ببعض الصور وهو لزوم
تفويت المصلحة الملزمة فيما إذا كان الشئ واجبا وقامت
الامارة على غيره من الأربعة الأخرى ولزوم الالقاء في المفسدة فيما
إذا كان الشئ حراما وقامت الامارة على غير الحرمة، وبعضها
يجري في جميع الصور وهو لزوم الحكم بلا ملاك أو اجتماع ملاكين
مستقلين بلا كسر وانكسار.
بيان ذلك: ان الفعل اما ان يشتمل على المصلحة فقط، أو على
المفسدة فقط، أو على المصلحة من جهة والمفسدة من جهة أخرى،
أو لا
يشمل على شي منهما، فإن كان مشتملا على المصلحة فقط وجب
إيجابه ان كانت بحد الالزام، والندب إليه ان لم تكن بحد الالزام، وإن كان
مشتملا على المفسدة فقط وجب تحريمه ان كانت ملزمة والحكم
بكراهته ان كانت غير ملزمة، وإن كان مشتملا عليهما فالحكم
تابع للغالب منهما بعد الكسر والانكسار، وعلى فرض التساوي يجب
الحكم بإباحته، ففي صورة الاشتمال عليهما يتصور كل من
الأحكام الخمسة كما لا يخفى، وان لم يشتمل عليهما وجب الحكم
بإباحته أيضا.
إذا عرفت هذا فنقول: لو قامت الامارة على وجوب فعل أو استحبابه و
كان في الواقع حراما أو مكروها، فإن كان كل منهما بملاك
يخصه، لزم اجتماع المصلحة والمفسدة بلا كسر وانكسار، مع أن
اللازم كما عرفت، تبعية الحكم للغالب منهما في ما إذا كانتا في فعل
واحد، وإن كان أحدهما بلا ملاك، لزم الحكم بلا ملاك. ومنه يظهر
الكلام فيما إذا كان مباحا بحسب الواقع وقامت الامارة على غيرها
أو كان محكوما بأحد الأربعة الأخرى وقامت الامارة على الإباحة.
فهذه هي المحاذير اللازمة في التعبد، بالامارات، وقد عرفت ان
بعضها راجعة إلى نفس الاحكام وبعضها راجعة إلى ملاكاتها. و
الاستدلال على التأليف القياسي يرجع إلى قياس استثنائي مؤلف من
شرطية متصلة مرددة التالي بنحو منع الخلو ومن حملية، وصورته
هكذا:
لو جاز التعبد بالخبر، لزم على فرض قيامه، اما التصويب بأحد قسميه،
أو اجتماع المثلين، أو الضدين، أو النقيضين، أو تفويت المصلحة
أو الالقاء في المفسدة، أو الحكم بلا ملاك، والتالي
440

بشقوقه باطل، فالمقدم مثله.
والجواب الحقيق بالتصديق ان يقال: ان عمدة الاشكال، انما هو في
صورة مخالفة الامارة أو الأصل، للواقع فيجب التفصي عن المحاذير
الملاكية والخطابية اللازمة عليها، واما في صورة الموافقة للواقع فلا
يتوهم محذور [1] سوى ما ذكر من اجتماع المثلين، وقد عرفت منا
مرارا، ان ما اشتهر من وجود التماثل أو التضاد بين الاحكام بمراحل
عن الواقع، ومنشأ اشتباه المشهور توهم كون الاحكام أعراضا
خارجية لمتعلقاتها، وليس الامر كذلك، بل هي أعراض لموجدها
أعني المكلف بالكسر لقيامها به قياما صدوريا، ولها نحو إضافة إلى
المتعلق أيضا إذ كل حكم يوجد ويتحقق فله ثلاث إضافات: إضافة
إلى موجده، وإضافة إلى المكلف بالفتح، وإضافة إلى المكلف به
أعني
الطبيعة المتصورة في الذهن التي أريد بالامر أو النهي إيجادها في
الخارج أو عدم إيجادها فيه ولا يعقل تعلق الحكم بما هو حاصل في
الخارج فان الحصول فيه مسقط للتكليف كما لا يخفى. وقد عرفت
تفصيل ذلك في مبحث اجتماع الأمر والنهي فلا نعيد.
الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري:
فالواجب صرف عنان الكلام إلى بيان ما هو التحقيق في الجواب في
صورة مخالفة الحكم الظاهري للواقعي، ولنقدم المحاذير الملاكية.
فنقول:
قد أجاب الشيخ (قده) عنها تارة على الطريقية،
وأخرى على السببية، والظاهر أن السببية صرف فرض لا واقعية لها
في باب الامارات، مضافا إلى انها تخرج بفرض السببية عن كون
مؤدياتها أحكاما ظاهرية وتصير أحكاما واقعية كما سيأتي بيانه
فالمحقق في باب الامارات انما هو الطريقية المحضة، والمجعول فيها
ليس الا أحكام ظاهرية مجعولة لمصلحة حفظ الواقعيات من دون أن تكون
متعلقاتها بنفسها مشتملة على مصلحة في عرض الواقعيات، و
لا نعنى بالجعل فيها، الجعل التأسيسي، فان الأمارات الشرعية التي
عمدتها خبر الواحد، أمارات وطرق عقلائية يحتجون بها على
مواليهم
وعبيدهم، ولم يردع عنها الشارع الا فيما اشتمل على مفسدة
كالقياس مثلا، وفي غير المردوع يستكشف إمضائه بنفس عدم الردع،
وسيأتي في باب حجية
[1] أقول: المحذور الملاكي أيضا يلزم في صورة الموافقة بالنظر البدوي
إذ اجتماع الملاكين المستقلين المؤثرين في حكمين غير معقول
في موضوع واحد بل يجب تداخل الملاكين وإيجابهما لحكم واحد
كما لا يخفى.
فتأمل ح - ع - م.
441

الاخبار، ان حجيتها كانت مفروضة الوجود في زمن الأئمة عليهم
السلام، وان الآيات والروايات الكثيرة الواردة في الباب، ليست
بصدد
جعلها تأسيسا، بل وردت بعد فرض حجيتها لبيان بعض
الخصوصيات، أو الصغريات الراجعة إليها، أو للردع عن بعضها. الا
ترى ان آية
النبأ، انما وردت بعد عملهم بخبر الوليد على حسب ارتكازهم،
فورودها لم يكن لتشريع الحجية بالنسبة إلى قول العادل، بل للردع عن
خبر الفاسق، وسيأتي تفصيل ذلك في محله.
وبالجملة، فما هو الثابت في الامارات ليس الا الطريقية الموجبة لتنجز
الواقعيات.
توضيح ذلك: انك قد عرفت سابقا ان الأحكام الواقعية قد جعلت
لموضوعاتها بعناوينها الأولية غير مقيدة بالعلم بتلك الاحكام، أو
الجهل
بها، ولكن حيث إن الحكم انما يكون لايجاد الداعي في نفس العبد
إلى إتيان متعلقه، والغاية المقصودة من جعله كانت انبعاث العبد و
انزجاره وكانت داعويته وترتب هذه الغاية عليه متوقفة على العلم به،
لكونه بوجوده العلمي داعيا ومحركا، فلا محالة يكون غرض
المولى من جعله، ان يعلم به العبد فينبعث، لما عرفت من قصور
الحكم بوجوده الواقعي عن كونه داعيا، فإذا تعلق شوق المولى و
إرادته
إلى حصول فعل من عبده مشتمل على المصلحة، تتولد من هذه
الإرادة اراده بعث العبد نحوه، ولكن لا بغرض الانبعاث مطلقا بل
بغرض
ان ينبعث به في صورة العلم به.
والحاصل ان الغاية الأولية وان كانت حصول الفعل من العبد مطلقا، و
تولدت من الشوق إليه إرادة انبعاث العبد نحوه ومن هذه الإرادة
إرادة البعث والزجر، ولكن لما كان ترتب الانبعاث على البعث موقوفا
على العلم به، فلا محالة تصير مطلوبية الانبعاث محدودة بصورة
العلم بالبعث وتكون الغاية المقصودة من إيجاد البعث بنحو الاطلاق،
ان يعلم به العبد، فينبعث، لا الانبعاث مطلقا.
وحينئذ، فإذا أراد المولى تحقق المتعلق في صورة الجهل أيضا،
وجب عليه جعل أحكام ظاهرية موجبة لتنجز الواقعيات الموجودة
في
ضمنها من دون أن تكون مشتملة على مصالح في متعلقاتها، بل
جعلت لمصلحة حفظ الواقعيات، وحيث انها قد تطابق الواقع
بحسب نفس
الامر وقد تخالفه، ولم تكن موارد المطابقة ممتازة عن موارد
المخالفة، فلا محالة وجب عليه جعل هذه الأحكام الظاهرية بنحو
الكلية، و
يكون حفظ الواقعيات بمنزلة الحكمة لجعلها، كما في تشريع العدة
على نحو الاطلاق لغرض الحفظ عن اختلاط المياه، فعلى هذا لا
يجب
تحقق الملاك في جميع الموارد الجزئية بل المصلحة النوعية تكفي
حكمة لجعل الحكم الكلي. وحينئذ فإذا
442

الحكم الظاهري، للواقع فهو المطلوب، ولم يلزم منه محذور ملاكي، و
إذا خالفه فان الواقع ولكن لا بسبب الامارة، بل بسبب الجهل به،
حيث عرفت ان الاحكام بوجوداتها الواقعية لا تؤثر في نفس العبد، و
الاحتياط أيضا مرغوب عنه شرعا لاشتماله على المفسدة، ففوت
الملاكات الواقعية يستند دائما إلى جهل المكلف [1] وجعل الامارة
خير محض لترتب انحفاظ الواقعيات عليه عند الإصابة فلا يلزم
محذور ملاكي من جعلها أصلا.
ولا يخفى، ان الاعتبار في ذلك بعلم المولى لا بعلم العبد وجزمه،
فإذا رأى المولى ان في ترك جعل الامارات تفويتا لأكثر المصالح و
إلقاء في كثير من المفاسد، فلا محالة يجب عليه جعلها وإن كان باب
الجزم مفتوحا للعبد ولكن كانت الامارات أغلب مطابقة للواقع من
جزمه، فالتفصيل بين انفتاح باب العلم للعبد وانسداده، في غير
محله، بل الأولى، التفصيل بين ما إذا كانت الامارات احفظ للواقعيات
و
بين ما إذا كان إحالة العبد إلى جزمه احفظ لها، فيجب جعلها في الأول
دون الثاني. فافهم.
فتلخص مما ذكرنا، ان جعل الامارات على نحو الطريقية، لغرض حفظ
الواقعيات، وان الإصابة إليها محض خير جاء من قبلها، وان فوت
بعض الواقعيات لا يستند إلى هذا الجعل، بل إلى جهل المكلف
بالواقعيات.
هذا كله بناء على الطريقية كما هو الأقوى،
وأما السببية، فقد قال الشيخ (قده) إنها على ثلاثة أنحاء:
[1] لا يخفى ان ما ذكره الأستاذ مد ظله يتم في الشبهات البدوية كما إذا
كان ما يعلم من الاحكام بمقدار ينحل به العلم الاجمالي بوجود
الاحكام في الشريعة، واما إذا لم يكن كذلك، بل كان العلم الاجمالي
باقيا بحاله فلا يمكن اسناد فوت الواقعيات إلى جهل المكلف ولا
إلى الامارات المجعولة، بل إلى اشتمال الاحتياط على مفسدة تامة
موجبة للزجر عنه ففي الحقيقة يستند إلى زجر المولى عن الاحتياط. و
لا يخفى ان ادعاء انحلال العلم الاجمالي مع قطع النظر عن الامارات
في غاية البعد. ثم لا يخفى أيضا ان في الشبهات البدوية أيضا يمكن
استناد فوت بعض المصالح - مثلا - إلى جعل الامارة، كما إذا كان
هناك علم إجمالي صغير فانحل بالامارة المخالفة للواقع، وكما إذا
كان عموم لفظ أو إطلاق، مطابقا للواقع فقامت أمارة أخرى على
تخصيصه أو تقييده، فقيام هذه الامارة صار سببا لفوت الواقع، ولكن
يجاب عن ذلك بأنه شر قليل يجب تحمله ليحصل النفع الكثير.
واعلم أيضا ان ما ذكره الأستاذ مد ظله من كون جعل الاحكام
الظاهرية لغرض حفظ الواقعيات، لا يجري في الامارات المرخصة و
أصل
الإباحة مثلا. فافهم ح - ع - م.
443

الأول:
ان لا يكون العناوين الواقعية بأنفسها مشتملة على المصالح و
المفاسد، ولا محكومة بحكم من الاحكام بالنسبة إلى الجاهلين، بل
قيام
الامارة يوجب اشتمالها على المصالح والمفاسد، ويصير سببا
لمحكوميتها بالحكم الذي دلت عليه الامارة، فصلاة الجمعة مثلا قبل
أداء
الامارة إلى وجوبها، ليست محكومة بحكم من الاحكام، فإذا أدت
الامارة إلى وجوبها صارت بما هي صلاة الجمعة محكومة بالوجوب و
هذا أظهر افراد التصويب الذي قام على بطلانه العقل والنقل و
الاجماع، وقد تواترت الاخبار بوجود أحكام واقعية يشترك فيها
العالم
والجاهل.
الثاني:
أن تكون العناوين الواقعية بما هي، مشتملة على المصالح والمفاسد و
محكومة باحكام واقعية، ولكن صار أداء الامارات سببا لوجود
ملاكات أقوى في نفس العناوين الذاتية الواقعية، فصار هذا سببا
لانقلاب الأحكام الواقعية إلى مؤديات الامارات بعد حصول الكسر و
الانكسار بين الملاكات الذاتية والملاكات الطارية، وذلك مثل ان
يكون صلاة الجمعة بما هي صلاة الجمعة، مشتملة على مفسدة
واقعية
مستتبعة للحرمة، ولكن صار أداء الامارة إلى وجوبها سببا لوجود
مصلحة في نفس صلاة الجمعة بعنوانها بحيث تزيد تلك المصلحة
على
المفسدة الواقعية، بنحو تستتبع الوجوب بعد الكسر والانكسار، وهذا
أيضا تصويب انقلابي باطل، على أصول المخطئة.
الثالث:
أن تكون العناوين الواقعية بما هي، مشتملة على المصالح والمفاسد و
محكومة باحكام واقعية ولم يكن أداء الامارة على خلافها موجبا
لانقلاب الواقع مصلحة أو حكما، بل المصلحة الحادثة انما تكون في
سلوك الامارة وتطبيق العمل على طبقها، والحكم الظاهري يثبت
لهذا العنوان أعني سلوك الامارة بما هو سلوك، فلو أدت الامارة إلى
وجوب الجمعة - مثلا - وكان الواجب بحسب الواقع هو الظهر،
فقيام الامارة لا يصير سببا لاشتمال صلاة الجمعة على المصلحة، ولا
لمحكوميتها بالوجوب، بل هي بعد، باقية على ما كانت عليه، و
الظهر أيضا باق على وجوبه الواقعي، والمصلحة انما تكون في سلوك
الامارة بما هو سلوك، وبهذه المصلحة يتدارك فوت مصلحة
الواقع بقدر فوتها، إلخ.
هذه خلاصة ما ذكر في بيان السببية. اما القسم الأول والثاني منها،
فمستلزم للتصويب الباطل، فلو صحت السببية لكانت على النحو
الثالث، وعبارة (الرسائل) في بدو الامر كانت دالة على كون المصلحة
الحادثة في نفس السلوك ولكن نقل بعض تلامذة الشيخ (قده)
انه استشكل عليه بإشكال لم يمكن له التفصي عنه، فأمر بتغيير العبارة
وزيادة لفظ الامر حتى يكون مفاده
444

كون المصلحة الحادثة في نفس الامر بالسلوك دون المتعلق.
نقد تفسير الشيخ عن المصلحة السلوكية:
ولي في كلا المبنيين نظر، فلا يصح كون المصلحة في نفس الامر ولا
تتم المصلحة السلوكية أيضا.
اما الأول: فلوجهين:
الوجه الأول: ان الامر في الأوامر الحقيقية ليس مقصودا بالذات، بل
القصد إليه انما يكون للتسبب به إلى متعلقه، فهو فان في المتعلق و
مندك فيه حيث إن مطلوب المولى أولا وبالذات هو صدور الفعل من
العبد، ولكن لما كان صدوره منه بحركة نفسه وإعمال اختياره،
فلا محالة تتولد من إرادة الفعل من العبد، إرادة تبعية متعلقه بالامر
حتى تصير داعيا له إلى إيجاد الفعل ومحركا لعضلاته نحوه بعد
كون العبد بالذات من العبيد الذين هم بصدد إيجاد مرادات المولى.
وبالجملة، فإرادة الامر، إرادة تبعية متولدة من إرادة المتعلق، ونظر
المولى في الامر إلى وجود المتعلق حقيقة، فيجب ان يكون هو
متعلقا لشوقه ومشتملا على المصلحة، واشتمال نفس الامر على
المصلحة وكونه بنفسه متعلقا لشوق المولى، يخرجه عن كونه امرا و
آلة
يتسبب به إلى وجود المتعلق، فوزان الامر وزان الإرادة فكما ان الإرادة
التكوينية لا يعقل تحققها خارجا الا بعد اشتمال متعلقها على
المصلحة وكونه مشتاقا إليه اما بالذات أو بالعرض، ولا يعقل تحقق
الإرادة إذا كانت المصلحة مترتبة على نفسها والشوق متعلقا بذاتها
من دون ان يكون المتعلق مشتاقا إليه ولو بالعرض. والسر في ذلك،
ان الإرادة امر فان في المراد وتعلق الشوق بمتعلقها من مبادئ
تحققها. فإذا كان هذا حال الإرادة التكوينية فكذلك حال الإرادة
التشريعية أعني الأمر والنهي، فتشتركان في أن تحققهما خارجا
يتوقف على مطلوبيتهما تبعا لمطلوبية المتعلق وفي طولها. [1]
الوجه الثاني: انه لو سلم إمكان تحقق الامر، عن مصلحة في نفسه، و
لكن لا ربط لها بمصلحة الواقع التي يفوت من العبد [2] فكيف
يتدارك بها؟ اللهم الا ان يقال: بان المولى يعطى
[1] نعم صرف الانشاء أعني التكلم باللفظ، لا يتوقف على إرادة
المتعلق، ولكن الكلام في البعث والزجر الحقيقيين. فافهم ح - ع - م.
[2] أقول: ما ذكره الأستاذ مد ظله انما يتم بناء على كون مصلحة
المتعلق دائما عائدة إلى العبد ومصلحة الامر راجعة إلى المولى، و
كلاهما محل نظر، إذ يمكن كون مصلحة الفعل مصلحة نوعية، أو
تكون هناك
445

للعبد جزافا، مصالح يتدارك بها ما فات منه، ولكن هذا غير تداركه
بنفس المصلحة التي تكون في الامر وتكون عائدة إلى المولى.
فظهر مما ذكرنا فساد كون نفس الامر مشتملا على المصلحة وان ذكره
بعض المتأخرين.
واما كون نفس سلوك الامارة مشتملا على المصلحة فهو باطل
لوجهين أيضا:
الوجه الأول: ان السلوك ليس امرا وراء العمل الذي يوجده المكلف و
يكون محكوما بالحكم الواقعي كصلاة الجمعة - مثلا - وفي مقام
التحقيق لا ينفك عنه، فصلاة الجمعة التي يوجدها المكلف، هي
بعينها محققة للسلوك ومصداق له، وليس تحقق السلوك الا بنفس
هذا
العمل وقد عرفت منا سابقا انه لو كان شي واحد مشتملا على
المصلحة من جهة وعلى المفسدة من جهة أخرى وجب الكسر و
الانكسار
وكان الحكم تابعا لاقوى الملاكين، ولو تكافئا كان الحكم، التخيير، و
كيف كان فلا يكون مقتض لوجود حكمين، حتى يكون أحدهما
واقعيا والاخر ظاهريا، والشيخ (قده) فرض المسألة فيما إذا قامت
الامارة على وجوب الجمعة وكان الواجب هو الظهر حتى يكون
متعلق كل من الحكمين يباين متعلق الاخر، مع أن اللازم تصوير
المصلحة السلوكية لو تمت، بحيث تجري في جميع الصور التي
تفرض.
فالأولى، الإشارة إلى بعض الصور، حتى يتضح بطلان المصلحة
السلوكية وأنها مما لا تغني عن جوع في مقام الجمع بين الحكم
الظاهري
والواقعي، فنقول:
لو فرض قيام الامارة على وجوب الجمعة - مثلا - وكانت بحسب
الواقع محرمة، فلا يخفى ان سلوك الامارة والعمل على طبقها ليس الا
عبارة أخرى عن إتيان الجمعة، والفرض كونها مشتملة على المفسدة،
فبعد قيام الامارة واستتباعها للمصلحة، يجب الكسر والانكسار
بين الملاكين، والفرض كون المصلحة أقوى بحيث تتدارك بها مفسدة
الجمعة وفوت مصلحة الظهر أيضا، فاللازم انقلاب الحكم
الواقعي، إذ لا يعقل ان يوجد في موضوع واحد ملاكان مستقلان يؤثر
كل منهما في حكم مستقل. ولو فرض قيامها على حرمة الجمعة و
كانت بحسب
مصلحة واحدة يقوم بها فعل جميع العبيد ويكون فعل كل منهم كجز
المحصل، أو تكون مصلحة الفعل عائدة إلى المولى وان لم يتصور
ذلك في مولى الموالي، وكذلك يمكن كون مصلحة الامر أيضا عائدة
إلى العبد، ولو سلم ان مصلحة الفعل تعود إلى العبد ومصلحة الامر
إلى المولى، فلا نسلم وجوب تدارك المولى لما يفوت من العبد، و
ليس هذا التفويت بقبيح، فان القبيح انما هو تفويت المصلحة غير
المزاحمة لا مطلقا. فافهم ح - ع - م.
446

الواقع واجبة فالحكم الظاهري أعني الحرمة يجب أن تكون من جهة
المفسدة في الفعل الذي هو صلاة الجمعة ويجب أن تكون أقوى من
المصلحة الواقعية أيضا فيلزم الانقلاب.
فلو فرض قيامها على إباحة الفعل أو استحبابه أو كراهته وكانت
بحسب الواقع واجبة أو محرمة، فالحكم الظاهري أعني الإباحة أو
الاستحباب، أو الكراهة مستلزم للترخيص في مخالفة الواقع، مع أن
ملاك كل من الإباحة والندب والكراهة ملاك غير ملزم، فكيف
يتدارك به ملاك الواقع الذي هو بحد الالزام؟ وملخص الكلام، ان
القول بالسببية انما يتم إذا كان هناك عنوان ذو مصلحة وراء العناوين
الواقعية، حتى يقال: بان المسألة من مصاديق مسألة اجتماع الامر و
النهي، وليس الامر كذلك [1] فان العنوان المتوهم هنا، هو سلوك
الامارة وليس السلوك الا عبارة أخرى
[1] أقول: لعلك ترى ما حررناه في رد السببية مشوشا والسر في ذلك أنه
لم يتضح لي مراد الأستاذ مد ظله كاملا، والظاهر أن مراد
القائلين بالسببية بالمعنى الثالث ليس انحلال مثل (صدق العادل) -
مثلا - إلى الأحكام الخمسة، بان يكون الحكم المجعول موافقا
لمؤدى
الامارة، بل القائلون بالطريقية أيضا لا يقولون بذلك، بان يكون
المجعول فيما إذا قامت الامارة على الوجوب - مثلا - هو الوجوب، و
فيما إذا قامت على الاستحباب، هو الاستحباب وهكذا، بل الظاهر أن
المجعول - لو كان في البين جعل - هو الوجوب مطلقا، سواء قلنا
بالطريقية أو السببية، وسواء كان المؤدى وجوب شي أو حرمته أو
غيرهما من الاحكام.
فالمجعول في باب خبر الواحد - مثلا - ليس الا وجوب العمل على
وفق مؤداها أي شي كان، لا حكم مماثل للمؤدى، حتى ينحل قوله:
(صدق العادل) مثلا إلى الأحكام الخمسة. غاية الأمر ان القائل
بالطريقية يقول:
ان العمل بخبر الواحد والاعتناء بقوله وفرضه واقعا لا يترتب عليه أثر
سوى إحراز الواقع على تقدير الإصابة، فوجوب العمل وجوب
طريقي كما في وجوب الاحتياط، فإنه أيضا لا ينحل إلى الأحكام الخمسة
، حتى يكون في الشبهات التحريمية - مثلا - كل شبهة
محكومة
بالحرمة ظاهرا بحسب جعل الشارع هذه الحرمة لها، وفي الوجوبية
مثلا، محكومة بالوجوب، بل المجعول ليس الا وجوب الاحتياط
حتى
في التحريمية أيضا، ولكن لا عن مصلحة في نفس الاحتياط بل
المنظور من جعل هذا الوجوب هو انحفاظ الواقعيات.
واما القائل بالسببية، فيقول: ان الاعتناء بقول العادل وتطبيق العمل
على وفق قوله من حيث إنه احترام له وتجليل - مثلا - يشتمل على
مصلحة ملزمة مستتبعة للوجوب دائما، حتى أنه لو أخبر بالاستحباب
- مثلا -، فلا يجب العمل بالمؤدى، ولا يستحب أيضا، وانما يجب
تطبيق العمل، بمعنى انه إذا أراد العمل، وجب ان يكون على وفق
قوله، وما ذكره الأستاذ مد ظله من أن السلوك ليس عنوانا آخر وراء
العناوين الواقعية ففيه نظر واضح فتأمل ح - ع - م.
447

عن العمل بمؤدى الامارة، فلو قامت على وجوب الجمعة مثلا
فمؤداها وجوب الجمعة، والعمل بمؤداها ليس الا عبارة أخرى عن
إتيان
الجمعة، فلو فرضت حرمتها واقعا لزمت المحذورات، ولو فرض كون
قيام الامارة سببا لحدوث ملاك فيها وجب الكسر والانكسار
بين الملاك الذاتي والطاري، وكان الحكم تابعا لاقواهما فهذا البيان لا
يصحح الجمع بين الحكمين.
فافهم.
الوجه الثاني: انه سلمنا كون سلوك الامارة عنوانا مستقلا مشتملا على
ملاك مستتبع للحكم، ولكن الالتزام بذلك يخرج هذا الحكم عن
كونه حكما ظاهريا ويجعله حكما واقعيا في عرض سائر الأحكام
الواقعية، فان الحكم الظاهري كما عرفت ما يكون تشريعه لحفظ
الأحكام الواقعية وتنجيزها في صورة الجهل، حيث إن الحكم الواقعي
كما عرفت وان لم يكن مقيدا بالعلم والجهل ولكن داعويته في
نفس العبد انما يكون في صورة العلم به فقط، فلو أراد المولى انبعاث
العبد في صورة الجهل أيضا، لزمه جعل حكم ظاهري طريقي
لغرض حفظ الواقع دون ان يكون متعلقه بنفسه مشتملا على
المصلحة فلو كان غرضه حفظ الواقع في صورة الجهل، مطلقا، لزمه
إيجاب
الاحتياط، ولو لم يكن الغرض حفظه مطلقا من جهة اشتمال الاحتياط
على مفسدة شديدة، كان عليه جعل طرق موجبة لتنجز الواقع على
فرض الإصابة، وكيف كان فاشتمال الحكم المجعول في باب الطرق
على مصلحة غير مصلحة الواقع يخرجه عن كونه حكما ظاهريا، و
يجعله حكما واقعيا عن مصلحة في متعلقه، ولا يتنجز به الواقع أصلا
وان صادفه، فان العلم بحكم ثابت لعنوان لا يكون منجزا لحكم اخر
مجعول على عنوان اخر، فافهم.
هذا كله فيما يتعلق بالمحذور الملاكي، وقد عرفت ان الحق في دفعه
ان يقال: ان جعل الامارات على نحو الطريقية، وان جعلها لا يوجب
تفويت المصلحة والالقاء في المفسدة، بل التفويت والالقاء يحصلان
بنفس جهل المكلف، والامارة لا يترتب عليها الا الخير.
الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بنحو الترتب:
واما المحاذير الثابتة في نفس الحكم التي عمدتها كما عرفت، في
صورة مخالفة الامارة للواقع فقد أجيب عنها بوجوه:
الأول: ما ذكره الميرزا الشيرازي (قده) وقرره تلامذته من القول
بالترتب، بحيث يرتفع الاصطكاك المتوهم بين الحكمين. وتقريبه ان
يقال: ان الحالات الطارية لموضوع الحكم على
448

قسمين:
القسم الأول: ما تكون من أوصاف الموضوع وحالاته بالنظر إلى ذاته،
من دون ان، تكون لوجود الحكم دخالة في اتصافه بها، ككون
الرقبة مثلا مؤمنة أو كافرة، وكون الماء حارا أو باردا.
القسم الثاني: ما تكون من أوصاف الموضوع وحالاته بعد عروض
الحكم له، بحيث لا يعقل اتصاف الموضوع بها مع قطع النظر عن
الحكم، ككونه معلوم الحكم أو مجهوله - مثلا -.
وكذلك الحالات الطارية للمكلف أيضا على قسمين، فقسم منها، ما لا
تكون لوجود الحكم دخالة في اتصافه بها ككونه ذكرا أو أنثى مثلا
حرا أو عبدا ونحو ذلك، ومنها ما يكون اتصافه بها، بعد صيرورته
مكلفا ثبت له الحكم، ككونه عالما بالحكم أو جاهلا به، عاصيا أو
مطيعا ونحو ذلك.
ثم إن الحاكم لا بد وان يتصور الموضوع والمكلف في الرتبة السابقة
على الحكم، فاما ان يتصورهما مطلقين، واما ان يتصورهما
مقيدين على حسب اختلاف المصالح والمفاسد، ولكن كلا من هذا
الاطلاق والتقييد انما يكون بحسب الانقسامات الأولية والحالات
الثابتة لذات الموضوع، إذ لا يعقل لحاظ الحالات التي يعرضه بسبب
الحكم، ولا يكون الموضوع متصفا بها قبل الحكم، فالموضوع
بحسب الانقسامات الأولية، اما مطلق أو مقيد، واما بحسب
الانقسامات الثانوية فلا إطلاق ولا تقييد في الرتبة التي هي قبل
الحكم، واما
في الرتبة التي هي بعده فيمكن لحاظ هذه الحالات أيضا.
إذا عرفت هذا فنقول: موضوع الحكم الواقعي نفس العناوين الواقعية،
وهي في هذه الرتبة لا تتصف بكونها معلوم الحكم أو مجهول
الحكم، كما لا يتصف المخاطب بكونه عالما بالحكم أو جاهلا به، و
بعد ان ثبت لها الحكم تتصف بكونها معلومة الحكم أو مجهولة
الحكم.
وحينئذ فلو فرض كون العنوان الواقعي مشتملا على مصلحة مستتبعة
للوجوب وكان في رتبة كونه مجهول الحكم مشتملا على مفسدة
مستتبعة للحرمة فلا تصادم بين الحكمين ولا كسر ولا انكسار في
البين، فإنه في رتبة تصور ذات الموضوع التي هي قبل رتبة الحكم،
لا يتحقق موضوع الحكم الظاهري، أعني عنوان مجهول الحكم، وفي
رتبة تصور موضوع الحكم الظاهري، أعني عنوان مجهول الحكم، لا
يتحقق موضوع الحكم الواقعي، فان موضوعه نفس الذات في حال
خلوه عن الحكم وفي الرتبة التي هي قبل رتبته، فالذات متقدمة على
موضوع الحكم الظاهري بمرتبتين، فلا يعقل تجافيها عن مرتبتها. الا
ترى صحة الامر بالضد الأهم مطلقا، وبالضد المهم في
449

رتبة عصيان الأهم، وذلك من جهة ان الأهم لا إطلاق له بالنسبة إلى
عصيان امره لكونه من الاعتبارات المتأخرة عن الامر بالأهم فلا
يعقل لحاظه في رتبة كونه موضوعا، التي هي قبل رتبة الامر.
نقد ما حققه الميرزا الشيرازي في الترتب:
هذه خلاصة ما ذكروه في بيان الترتب في المقام، ولكن التحقيق عدم
جريانه في المقام وقياسه بمسألة الضدين قياس مع الفارق، و
بيان ذلك يتوقف على إشارة إجمالية إلى ما ذكرناه في بيان معنى
الاطلاق فنقول:
قد عرفت ان الاطلاق والتقييد ينتزعان عن الماهية باعتبار
موضوعيتها للحكم، فلو كانت حيثية الماهية تمام الموضوع بمعنى
عدم
دخالة حيثية أخرى فيه، سميت مطلقة وان لم تكن تمام الموضوع،
بل كانت لحيثية أخرى دخالة فيه، سميت مقيدة، وليس معنى
الاطلاق،
لحاظ جميع القيود ولحاظ إرسال الماهية بالنسبة إليها، بل المراد منه
كون الحيثية التي تعلق بها الشوق والإرادة وجعلت موضوعة
للحكم، هي نفس حيثية الماهية ليس الا، فعلى هذا لا يعقل الاهمال
في مقام الثبوت، بل الحيثية التي جعلت موضوعة للحكم إذا لاحظتها
بالنسبة إلى حيثية أخرى اية حيثية كانت، فاما مطلقة بالنسبة إليها أو
مقيدة، وهذا من غير فرق بين الحالات الطارية لذات الموضوع من
حيث هي والحالات الطارية لها بعد عروض الحكم، فبالنسبة إليها
أيضا وان لم يمكن التقييد ولا الاطلاق اللحاظي، ولكن ما هو حقيقة
الاطلاق، ثابتة، فان حقيقتها كما عرفت كون حيثية الذات تمام
الموضوع، فبسريان الذات يسرى الحكم، والذات محفوظة في الرتبة
التي هي بعد الحكم أيضا.
إذا عرفت هذا، ظهر لك ان موضوع الحكم الظاهري وان لم تكن ثابتة
في رتبة موضوع الحكم الواقعي، ولكن موضوع الحكم الواقعي
أعني نفس حيثية الذات محفوظة حتى في رتبة الحكم الظاهري أيضا،
وكذا الكلام في مسألة الأهم والمهم، وما هو المصحح للامر بالمهم
في رتبة عصيان الأهم، ليس صرف اختلاف الرتبة، كيف ولو كفى
ذلك لزم جواز الامر بالمهم في رتبة إطاعة الأهم أيضا، وللزم فيما
نحن فيه أيضا جواز جعل حكم اخر في رتبة العلم بالحكم الواقعي
لاشتراك الإطاعة والعلم مع العصيان والجهل في كونهما من الأحوال
الطارية بعد الحكم.
450

وبالجملة، فما هو المصحح للترتب ليس صرف اختلاف الرتبة، بل
المصحح له امر اخر يجري في مسألة الضدين دون ما نحن فيه، ونحن
وان فصلنا بيان ما هو المصحح له في مسألة الضد ولكن نشير إليه
هاهنا إجمالا ليتضح الفرق بين المقامين، فنقول:
من البديهي ان طلب المحال بالطلب الجدي محال، فان الطلب
الحقيقي انما يكون بإرادة الفعل من العبد ولا يعقل انقداح الإرادة في
نفس
المولى بالنسبة إلى الفعل بعد علمه باستحالة صدوره عن العبد، واما
تعلق طلبين مستقلين بفعلين يكون كل منهما ممكنا ومقدورا للعبد
ولكن لا يقدر على جمعهما، فليس من افراد طلب المحال، إذ
المفروض ان كلا من الفعلين ممكن، والطلب تعلق بذات كل منهما
مستقلا، و
الجمع بين الفعلين وان لم يكن مقدورا للعبد ولكن الطلب لم يتعلق
بالجمع بينهما، إذ المفروض وجود طلبين لا طلب واحد متعلق
بالجمع، والاثنان بما هما اثنان ليسا مصداقا للطبيعة.
وبالجملة، فليس هذا القسم من افراد طلب المحال، ولكن العقل
بالتحليل والتعمل يحكم بامتناع تحقق هذا النحو من الطلبين أيضا، و
لكن لا من جهة عدم القدرة على المتعلق إذا الفرض انهما طلبان و
متعلق كل منهما مقدور للعبد، بل من جهة انه يرى أن الطلب انما
يكون
للتأثير في نفس العبد وانبعاثه من قبله، والعبد وإن كان قادرا على
إتيان كل من الفعلين برأسه ولكنه لا يقدر على إتيان هذا في
عرض إتيانه لذاك وبالعكس، ولا يمكنه الانبعاث من هذا الخطاب و
ذاك، فلذلك يستحيل وجود هذين الطلبين في عرض واحد
فاستحالة تحققهما في عرض واحد مع ثبوت القدرة على متعلق كل
منهما قد نشأت من جهة عدم إمكان تأثيرهما في عرض واحد في
نفس العبد وحينئذ فلو فرض اشتراط أحدهما بصورة عدم تأثير الاخر
في نفس العبد وصورة خيبته وعدم وصوله إلى هدفه كصورة
العصيان، ارتفع وجه الاستحالة وخرجا عن كونهما في عرض واحد،
فهذا هو المصحح للترتب في مسألة الضدين.
والحاصل: ان كلا من الأهم والمهم فعل مقدور للمكلف، فيمكن
انقداح الإرادة في نفس المولى بإتيانه وانقداح كلتا الإرادتين في نفسه
ليس انقداحا لإرادة واحدة متعلقة بالجمع بينهما، فكان اللازم بالنظر
البدوي جواز انقداحهما في نفسه، ولكن العقل بالتحليل والتعمل
يحكم باستحالة انقداحهما في عرض واحد من جهة انه يرى أن العبد
لا يقدر على الانبعاث نحو الفعلين في عرض واحد، فاستحالتهما
انما هو لاستحالة انبعاث العبد منهما معا واستحالة تأثيرهما في
عرض واحد في نفسه، فلو علق أحدهما بصورة عدم تأثير الاخر و
صورة عصيان
451

العبد له، كان وجودهما بهذا الترتيب ممكنا إذ الزمان في هذا الفرض
فارغ عن الفعل فيمكن للعبد اشتغاله بالفعل الاخر الذي هو ضده.
فبهذا الوجه نصحح الامر بالأهم مطلقا والامر بالمهم في صورة
عصيان الأهم التي هي صورة عدم تأثيره في نفس العبد.
هذا كله فيما يتعلق بالضدين، واما ما نحن فيه، فلا يجري فيه هذا
البيان، إذ الفعل المحرم واقعا إذا قامت الامارة على وجوبه - مثلا -
يلزم بناء على الترتب، اجتماع الإرادة والكراهة في نفس هذا الفعل، و
ليس هناك فعلان يكون أحدهما محكوما بحكم والاخر بخلافه،
وهذا بخلاف مسألة الضدين، حيث عرفت ان متعلق كل من الطلبين
امر غير متعلق الاخر. [1]
هذا ولعلنا نصحح الترتب في بعض فروض المسألة سنشير إليها إن
شاء الله في اخر المبحث.
[1] أقول: قد عرفت ان موضوع الحكم الظاهري يخالف موضوع
الحكم الواقعي بحسب العنوان، وهذا يكفي في المقام، وجريان
الترتب
في المقام أولى من جريانه في مسألة الضدين، إذ الامر بالأهم قد تنجز
هناك ومع ذلك كان عدم تأثيره في نفس العبد مصححا للامر
بالمهم في رتبة عدم تأثيره، وفيما نحن فيه، الحكم الواقعي لم يبلغ
مرتبة التنجز وقد خاب وخسر عن تأثيره في نفس العبد فلم لا يصح
إنشاء الامر متعلقا بعنوان مجهول الحكم إذا كان مشتملا على
المصلحة، مع أن ظرف الجهل ظرف عدم تأثير الحكم الواقعي فلم
ينقدح في
نفس المولى إرادة الانبعاث من قبله.
فان قلت: ان كانت صلاة الجمعة - مثلا - بحسب الواقع واجبة وأدت
الامارة إلى حرمتها، يكون لازم ترتب الخطاب الظاهري على
الواقعي الامر بترك الجمعة ان لم يؤثر الامر الواقعي، في نفس العبد
حتى يأتي بها، ومحصل ذلك، لزوم ترك الجمعة على فرض تركها
و هذا طلب للحاصل:
قلت: الخطاب الظاهري لا يتعلق بعنوان ترك الجمعة، بل يتعلق
بعنوان الجهل بالواقع، فلا محذور في البين، وهذا كما في الاحكام
المتعلقة بذوات الافعال، مع أن المكلف لا يخلو، اما ان يكون آتيا
للفعل بحسب الواقع، أو تاركا له، والأول طلب الحاصل، والثاني
طلب
المحال، والجواب ان الطلب يتعلق بنفس عنوان الفعل لا بشرط
الاتيان أو الترك. فافهم.
ولو سلم ذلك، فنفرض الترتب فيما إذا كان هناك أمران تعلق الوجوب
مثلا بحسب الواقع بأحدهما وبحسب الظاهر بالاخر كما في
مثال الظهر والجمعة فلا يرد محذور.
هذا كله بناء على كون القدرة شرطا في الفعلية، واما إذا قيل بكونها
شرطا للتنجز فقط، فالترتب في المسألة وفي مسألة، الضدين،
ترتب في التنجز فقط، بمعنى ان تنجز المهم مثلا مشروط بعدم تنجز
الأهم، والا فكلاهما فعلى في عرض واحد من دون ترتب.
ولنا لاثبات هذا المعنى مشيا بديعا ليس المقام مقام ذكره. فافهم. ح -
ع - م.
452

نقد ما ذكره المحقق الخراساني في الجمع بين الحكم الواقعي و
الظاهري:
الثاني: من الوجوه المذكورة في مقام الجواب عن المحاذير ما ذكره
المحقق الخراساني في حاشية الرسائل ومحصله:
ان مراتب الحكم أربع: الاقتضاء والانشاء والفعلية والتنجز وقد مر
بيانها سابقا، ولا يخفى ان التضاد بين الاحكام انما يكون بعد
فعليتها ووصولها إلى المرتبة الثالثة، وإذا تبين ذلك فنقول: ان
المحاذير انما تلزم لو قلنا بفعلية الحكم الواقعي والظاهري معا ولا
نقول بذلك بل البعث أو الزجر الفعلي ليس الا بما أدت إليه الامارة
أعني الحكم الظاهري، والحكم الواقعي بالنسبة إلى الجاهلين إنشائي
لم يبلغ مرتبة البعث والزجر فلا منافاة في البين.
فان قلت: يلزم من ذلك، التصويب المجمع على بطلانه، قلت: كما قام
الاجماع على بطلان التصويب، قام الاجماع أيضا على عدم فعلية
الأحكام الواقعية بالنسبة إلى الجاهلين بل رخص بعض الناس في
مخالفتها.
هذه خلاصة كلامه، ثم استشكل على نفسه أيضا بان اللازم من ذلك
عدم لزوم امتثال الأحكام الواقعية حتى في صورة العلم بها إذ الانشاء
الذي ليست على طبقه إرادة البعث والزجر لا يجب امتثاله. وأجاب
بما لا يغنى عن جوع، ويمكن ان نجيب عن الاشكال كما ذكره هو
أيضا بان يقال:
ان المقصود ليس كون الحكم الواقعي إنشائيا محضا، بل الانشاء الذي
ليست لفعليته حالة منتظرة سوى علم المكلف فهو فعلى من بعض
الجهات وان لم يكن فعليا من تمام الجهات وكان (قده) يعبر عن
المرتبة التي هي قبل العلم، بالفعلي قبل التنجز، وعن المرتبة التي
تتحقق بالعلم، بالفعلي مع التنجز.
الثالث من الوجوه: ما ذكره المحقق الخراساني أيضا في الحاشية بنحو
الإشارة وقد اختاره في الكفاية واكتفى به وحاصله:
ان معنى التعبد بخبر الواحد - مثلا - ليس إنشاء أحكام تكليفية على
وفق المؤديات بان ينحل قوله: صدق العادل - مثلا - بعدد ما تؤدى
إليها الامارة من الاحكام فتكون النتيجة ثبوت الوجوب ظاهرا فيما إذا
أدت إلى وجوب شي وثبوت الحرمة ظاهرا فيما إذا أدت إلى
حرمة شي وهكذا، بل التعبد به انما يكون بجعل الحجية له، و
الحجية بنفسها حكم وضعي تنالها يد الجعل من دون ان يكون جعلها
مستتبعة لانشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدت إليه الامارة وأثر
453

الحجية المجعولة كالحجية المنجعلة في القطع، التنجيز للواقع على
فرض الإصابة وصحة الاعتذار على فرض الخطأ، وعلى هذا فليس
هناك حكم تكليفي وراء الحكم الواقعي فلا تلزم المحاذير.
نعم، لو قيل: باستتباع جعل الحجية لاحكام تكليفية، أو قيل: بأنه لا
معنى لجعلها الا جعل أحكام تكليفية طريقية مماثلة للمؤديات من
جهة
انها من الوضعيات المنتزعة من التكليفيات ولا تنالها يد الجعل
مستقلا فاجتماع حكمين تكليفيين وإن كان يلزم حينئذ ولكنهما ليسا
بمثلين أو ضدين، فان الحكم الظاهري حكم طريقي عن مصلحة في
نفسه بلا إرادة متعلقة وبمتعلقه ولا مصلحة في المتعلق وراء مصلحة
الواقع والحكم الواقعي حكم نفسي عن مصلحة في متعلقه وتكون
على طبقه الإرادة.
هذه خلاصة ما ذكره في الكفاية، وكان يبنى عليه أخيرا، وبعض
أعاظم العصر، وأفق المحقق الخراساني في كون المجعول في باب
الامارات حكما وضعيا ولكنه ذكر بدل الحجية، الطريقية والوسطية
في الاثبات ونحوهما من التعابير، واستشكل على جعل الحجية. و
الظاهر أن مراد الجميع واحد والاختلاف انما يكون بحسب التعبير.
التهافت بين كلامي المحقق الخراساني ورفعه:
ثم إنه صرح المحقق الخراساني وهذا المعاصر بعدم جريان هذا
الجواب في باب الأصول المرخصة كأصل الإباحة، فأجابا عنه بغير
هذا
الطريق، ولا يخفى عليك ان ما ذكره المحقق المذكور في حاشيته
يناقض ظاهرا مع ما ذكره في الكفاية أخيرا، حيث صرح في الحاشية
بان الحكم الواقعي حكم إنشائي محض والحكم الظاهري فعلى، و
صرح في الكفاية بان الحكم الواقعي هو الفعلي الذي تكون على طبقه
إرادة البعث والزجر والحكم الظاهري حكم طريقي ليست على وفقه
الإرادة والكراهة أصلا ومعنى الحكم الطريقي انه ليس حكما
حقيقيا في قبال الحكم الواقعي بل إن طابق الواقع فهو عينه وان خالفه
كان حكما صوريا ليست على طبقه إرادة.
ويمكن الجمع بين كلاميه (قده) بحيث يرتفع التهافت بتقريب ان
يقال:
ان ما هو حقيقة الحكم وروحه عبارة عن إرادة المولى تحقق الفعل من
العبد فإنه الذي يتعلق به الشوق أو لا، غاية الأمر انه لما كان الفعل
من الافعال الإرادية للعبد وكان تحققه منوطا بتحرك عضلاته نحوه،
يتولد من إرادة الفعل، إرادة تحرك العضلات، وحيث إن تحرك
عضلاته متوقف على وجود الداعي في نفسه حتى ينبعث منه لو كان
بحسب ملكاته ممن ينبعث من الدواعي
454

الإلهية فلا محالة تتولد في نفس المولى إرادة بعثه وإنشاء الحكم
بالنسبة إليه حتى يعلم به، فينبعث منه نحو المقصود، فما هو المراد
أولا
وبالذات ويكون متعلقا للشوق، نفس تحقق الفعل المشتمل على
المصلحة من العبد واما البعث وانبعاثه منه فمرادان بالتبع من جهة انه
يتسبب بهما إلى ما هو المقصود بالذات، ولا يخفى ان إرادة الفعل و
ان كانت مطلقة ولكن إرادة انبعاث العبد من الخطاب والبعث،
مقصورة بصورة علم العبد بالخطاب من جهة انه لا يعقل داعوية
البعث ما لم يتعلق به العلم، حيث إنه بوجوده العلمي يصير داعيا و
محركا
وحينئذ، تصير إرادة الفعل الثابتة بنحو الاطلاق، داعيا للمولى إلى
إيجاد خطاب اخر في طول الخطاب الواقعي حتى يكون هو الداعي
للعبد نحو الفعل المقصود بعد ان لم يطلع على الخطاب الواقعي ولم
يمكنه الانبعاث منه.
وبالجملة، بعد جهل العبد بالخطاب الواقعي وعدم إمكان تأثيره في
نفسه لو كان روح الحكم وحقيقته أعني إرادة الفعل باقية، لتولدت
منها إرادة خطاب اخر لا لمصلحة في نفس متعلقه بل لعين ما وجد
بلحاظه الخطاب الواقعي، فلو كان الواقع بمثابة لا يرضى المولى
بتركه أبدا كان الحكم المجعول ظاهرا عبارة عن وجوب الاحتياط، ولو
لم يكن كذلك، أو كانت في إيجاب الاحتياط مشقة ومفسدة
كان الحكم الظاهري عبارة عن جعل الطرق والامارات، فكل من
الخطاب الواقعي والظاهري مجعول بلحاظ ما تعلق به الشوق أو لا، و
إرادة هذا صارت منشأ لتولد إرادة أخرى متعلقة بالخطاب الواقعي، و
إرادة ثالثة متعلقة بالخطاب الظاهري، غاية الأمر ان موارد إصابة
الامارة لما لم تكن متميزة عن موارد خطائها، صار المجعول فيها حكما
كليا يعم صورة الإصابة والخطأ، ولكن ما هو المقصود من
جعلها هو صورة الإصابة فقط وصورة الخطأ صارت مجعولة بالعرض،
نظير المقصود الضرورية المتحققة بتبع المقصود الأصلي، فان
طابق الحكم الظاهري للواقع كان عين الواقع حيث إن المقصود من
كليهما وما هو روحهما امر واحد، لما عرفت من أن نفس إرادة الفعل
والشوق إليه صارت داعية للبعث الواقعي أو لا والبعث الظاهري ثانيا
حتى يتسبب بهما إليه، وان خالف الحكم الظاهري للواقع، كان
صورة حكم لا حقيقة لها من جهة عدم وجود الإرادة على طبقه وعدم
كون متعلقه محبوبا للمولى ومتعلقا لشوقه، وانما تعلق به القصد
قهرا من جهة عدم تميز صورة المخالفة عن صورة الإصابة.
فتلخص مما ذكرنا، ان ما هو المشتاق إليه أولا للمولى وما هو العلة
الغائية للبعث هو نفس الفعل المشتمل على المصلحة، وإرادة نفس
الفعل، روح الحكم وحقيقته. غاية الأمر انه تولدت
455

من هذه الإرادة، إرادة متعلقة بسببه أعني البعث والخطاب، فان له
نحو سببية في النفوس التي لها ملكة الانبعاث عن أوامر المولى و
إرادة الفعل ثابتة بنحو الاطلاق ولذلك أثرت في إيجاد خطاب مطلق
غير مرهون بالعلم والجهل ولكن لما كان إيجاده لغرض
الانبعاث وكان الانبعاث منه موقوفا بالعلم به، فلا محالة تصير إرادة
الانبعاث منه مقصورة بصورة العلم به، بمعنى ان المولى بعد علمه
بعدم قابلية الخطاب للتأثير في نفس العبد من جهة جهله به لا يعقل ان
تنقدح في نفسه إرادة انبعاثه من هذا الخطاب الخاص، ولكن لا
يضر ذلك بإطلاق إرادة الفعل والشوق إليه بما هو هو لا بما انه
متسبب إليه بهذا الخطاب، وحينئذ، فلو كان جعل خطاب اخر طريقي
مستلزما للمشقة الشديدة - مثلا - لزمه رفع اليد عن واقعه، ولو لم
يكن كذلك، أو كان الواقع بمثابة من الأهمية بحيث لا يمكنه رفع اليد
عنه، لزمه جعل حكم ظاهري طريقي ليصير هو الباعث للعبد بعد
عدم تأثير الخطاب الأول، فالعلة الغائية لكلا الحكمين وما هو
روحهما
امر واحد وهو نفس إرادة الفعل، وهي ثابتة في حال الجهل بالخطاب
الواقعي أيضا، ولذا أثرت في إيجاد الخطاب الظاهري.
نعم إرادة الانبعاث من الخطاب الواقعي نحو الفعل غير ثابتة في حال
الجهل وانما الثابت حينئذ، إرادة الانبعاث من الخطاب الظاهري
نحوه، وحينئذ، فلو جعل الحكم الواقعي عبارة عن نفس إرادة الفعل،
نقول: انه فعلى في حال الجهل أيضا والخطاب الظاهري أيضا عينه
ان طابقه وصوري ان خالفه، ولو جعل عبارة عن إرادة الفعل ولكن لا
مطلقا، بل الفعل الذي يحصل خارجا بسبب داعوية الخطاب
الواقعي وبعبارة أخرى: إرادة الانبعاث من الخطاب الواقعي نحوه،
نقول:
انه شأني في حال الجهل، لما عرفت من أن إرادة الانبعاث قاصرة عن
شمول مورد الجهل، والفعلي حينئذ، عبارة عن الخطاب الظاهري
فإنه الذي أريد الانبعاث عنه فعلا نحو الفعل.
إذا عرفت ذلك فنقول: لعل كلام الحاشية مبنى على المشي الثاني في
تفسير الحكم الواقعي، وكلام الكفاية مبنى على المشي الأول. ولا
يخفى ان المشي الأول امتن، فان تفسير الحكم الواقعي بإرادة الفعل
بشرط حصوله بسبب داعوية خصوص الخطاب الواقعي، انما هو من
قصور النظر والا فالنظر الدقيق يقتضى خلاف ذلك فان ما ثبت أو لا
هو نفس إرادة الفعل والشوق إليه بنحو الاطلاق، والانبعاث نحوه
من خصوص خطاب خاص لا خصوصية له في مطلوبية الفعل وانما
صار مطلوبا ومرادا بالتبع يعنى بتبع إرادة نفس الفعل ومطلوبيته
من جهة ان إرادة المسبب، إرادة لأسبابه بالتبع، فنفس الفعل مطلوب
مطلقا ولو في حال الجهل، ولذا أثرت
456

هذه المطلوبية في إيجاد خطاب اخر ليتسبب به إلى المقصود بعد
عدم وفاء السبب الأول أعني الخطاب الواقعي بهذا المقصد، وقد
عرفت ان هذه المطلوبية هو روح الحكم وحقيقته، فما هو روح
الحكم فعلى مطلقا وهو الذي يتسبب إلى حصول متعلقه تارة
بالخطاب
الواقعي وأخرى بالخطاب الظاهري، فافهم وتأمل.
هذا كله، بناء على كون المجعول في الامارات، عبارة عن الأحكام التكليفية
من جهة توهم عدم قابلية نفس الحكم الوضعي في المقام
كالحجية ونحوها للجعل ولزوم كونها منتزعة من الأحكام التكليفية، و
اما بناء على قابليتها له وكونها مجعولة، فليست في باب
الامارات أحكام طريقية كما لا يخفى.
تذنيبان:
الأول: بيان ما هو المجعول في الأمارات الشرعية
قد يقال: ان المجعول في باب الامارات، أحكام الطريقية وقد يقال: ان
المجعول فيها هو الحجية كما في الكفاية وقد يقال: ان المجعول
فيها هو الطريقية والوسطية في الاثبات ونحوهما من التعابير كما في
تقريرات بعض الأعاظم.
أقول: اما الحكم الطريقي، فقد عرفت تعريفه وملخص ما قلنا فيه: ان
البعث الواقعي إذا لم تمكن داعويته في نفس العبد لجهله به وعدم
عثوره عليه فلا يخلو اما أن تكون إرادة المولى لانبعاث العبد وتحركه
نحو العمل باقية واما ان لا تبقى، فان بقيت فلا بد له من جعل
حكم اخر ليكون وصوله إلى العبد موجبا لتنجز الواقع عليه على فرض
الإصابة، وحيث إن ملاك هذا الحكم نفس ملاك الواقع، فلا محالة
إذا طابق الواقع فهو عينه، لا حكم آخر، إذ الفرض ان منشأهما ملاك
واحد وإرادة واحدة، وإذا خالف الواقع كان حكما صوريا ليست
على طبقه إرادة لعدم اشتمال متعلقها على الملاك. ولا يخفى ان هذا
النحو من الحكم يكفي لتنجز الواقع، الا ترى ان العقل الذي يحكم
بقبح العقاب بلا بيان يحكم أيضا بصحة العقاب على الواقع إذا حكم
المولى بوجوب العمل بما يخبر به الثقة أو يقوم عليه الاستصحاب أو
بوجوب الاخذ بأحد طرفي الاحتمال أو بوجوب الاحتياط ونحو
ذلك فخالفه العبد واتفق مصادفة مؤدياتها للواقع.
457

واما الحجية [1] فالظاهر أنها غير قابلة للجعل وان أصر على ذلك،
المحقق الخراساني وجعل من آثارها تنجز الواقع في صورة الإصابة
والمعذورية في صورة الخطأ، بداهة ان ما جعله من آثارها هي عينها،
وتنجز الواقع والمعذورية لا تنالهما يد الجعل، بل المجعول لا بد
وأن يكون امرا يترتب عليه هذان الاثران كالبعث الطريقي مثلا. و
قياسه (قده) حجية الامارات على الحجية الثابتة للقطع في غير محله
إذ القطع عبارة أخرى عن رؤية الواقع، وتنجزه وصحة العقوبة على
مخالفته بعد رؤيته امر لا ريب فيه وهذا بخلاف باب الامارات
لعدم انكشاف الواقع فيها.
ولا يتوهم اشتراكها معه في كون كل منهما مرآة للواقع، ضرورة ان
تعبير المرآتية في باب القطع من الاغلاط لما أشرنا إليه من أن
القطع ليس شيئا تترتب عليه رؤية الواقع بل هو نفس رؤية الذهن
للواقع واطلاعه عليه وهذا المعنى غير متحقق في الامارات، فافهم.
واما الطريقية ونحوها، فوزانها أيضا وزان الحجية في عدم قابليتها
بنفسها للجعل، بداهة عدم كونها من الأمور الاعتبارية والذي تناله
يد الجعل عبارة عن أمور عقلائية متحققة في عالم الاعتبار بحسب
اعتبارات العقلا.
وبالجملة، فان أريد بالطريقية في باب الامارات، إيصالها إلى الواقع
أحيانا، فهو امر تكويني لا يحتاج تحققه إلى الجعل، وان أريد امر
اخر فلا نتعقله. والذي يسهل الخطب ان النزاع في بيان المجعول و
إتعاب النفس في تعيينه، انما يصح فيما إذا كان هناك جعل في البين،
مع أنه ليس في باب الامارات جعل من قبل الشارع أصلا، وانما هي
طريق عقلائية دائرة بينهم في مقام الاحتجاج واللجاج، غاية الأمر
عدم ردع الشارع عنها بحيث يكشف ذلك عن إمضائه ورضايته، و
ليس للعقلاء أيضا في هذا الباب جعل لاحد هذه الأمور من الطريقية
ونظائرها، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى مبحث حجية
الظواهر، فراجع.
التذنيب الثاني: بيان المراد مما ذكر في الجمع بين الحكمين
لعلك توهمت مما ذكرناه أخيرا في بيان الجمع بين الحكمين، ان
المقصود بيان فعلية الحكم الواقعي وإن كان الحكم الظاهري مخالفا
له،
أو كان العبد جاهلا بكلا الحكمين، فنقول لدفع هذا التوهم: ان ما
ذكرناه آنفا، هو ان إرادة المولى لصدور الفعل من العبد التي هي روح
الحكم إذا كانت باقية
[1] قد مر منا في ذيل مبحث الاجزاء بيان مفصل في عدم كون الحجية
أو الطريقية أو نحوهما من الأمور القابلة للجعل فراجع ح - ع - م.
458

في حال جهل العبد بالبعث الواقعي لزم عليه إنشاء خطاب ظاهري
حتى يكون وصوله إلى العبد منجزا للواقع على فرض الإصابة، مثل ما
إذا أصاب نفس البعث الواقعي، فحينئذ، يكون الواقع أعني إرادة
الفعل من العبد فعليا لفرض وصوله إلى العبد، غاية الأمر بسبب البعث
الظاهري، واما في صورة الخطأ أو في صورة جهل العبد بكلا
الخطابين، فلا محالة يجب على المولى رفع اليد عن مراده بمعنى انه
لا
تمكن إرادته لانبعاث العبد نحو الفعل وصدوره عنه مع كونه بهذا
الوضع الفعلي من عدم الاطلاع على مراد المولى لا بسبب البعث
الواقعي ولا بسبب البعث الطريقي فتصير الإرادة شأنية حينئذ، و
يكون العبد معذورا في مخالفة الواقع في كلا الفرضين أعني صورة
الخطأ وصورة الجهل بالبعثين بملاك واحد وهو الجهل وعدم
الاطلاع على إرادة المولى.
وما يتراءى في بعض الكلمات من جعل المعذرية أثر للامارة في
صورة المخالفة للواقع فاسد جدا لما عرفت في مبحث القطع ان العذر
يستند دائما إلى عدم وصول الواقع والجهل به سواء علم بخلافه أم لا
وسواء قامت على خلافه أمارة أم لا فأثر الامارة هو التنجيز فقط
في صورة الإصابة مثل القطع بعينه، فافهم.
بحث في الاجزاء:
وينبغي التنبيه على أن ما ذكرناه من فعلية الحكم الواقعي وكون
الحكم الظاهري عينا له في صورة الموافقة وصورة حكم لا حقيقة له
في صورة المخالفة، انما يصح فيما إذا كان المجعول الظاهري حكما
مستقلا غير ناظر إلى توسعة الواقع، كما إذا قامت الامارة على
حرمة شي أو عدم وجوبه مثلا وكان بحسب الواقع واجبا، أو قامت
على وجوبه وكان بحسب الواقع حراما، أو غير واجب ونحو ذلك
من الأمثلة، واما إذا كان المجعول الظاهري ناظرا إلى الواقع من دون ان
يكون مفاده ثبوت حكم مستقل في عرضه، بل كانت بلسان
تبيين ما هو وظيفة الشاك في أجزأ التكليف الواقعي المعلوم و
شرائطها فلا مجال حينئذ، لفعلية الواقع بل الحكم الظاهري يكون
فعليا
في ظرف الشك ويكون العمل على وفقه مجزيا.
وان شئت تفصيل ذلك فنقول: ان القوم حين ما أرادوا البحث عن
الاجزاء، قالوا: ان امتثال كل امر يكون مجزيا بالنسبة إلى نفسه، واما
أجزأ امتثال الامر الاضطراري أو الظاهري عن الامر الواقعي الأولى
ففيه بحث، وعنوان المسألة بهذا الوجه غير صحيح، وهو الذي
أوجب استبعاد الاجزاء إذ لو فرض لنا أمران مستقلان فلا وجه لاجزاء
امتثال أحدهما عن الاخر فان سقوط كل امر انما هو بإتيان
متعلقه، فما هو المطرح في مسألة الاجزاء ويكون موردا للنفي و
459

الاثبات ليس صورة فرض الامرين، بل المطرح للبحث، هو انه لو كان
لنا امر واحد متعلق بطبيعة واحدة كالصلاة - مثلا - وكانت لهذه
الطبيعة أجزأ وشرائط وموانع بينها الشارع، ثم حكم الشارع بأنه
يجوز للمكلف في صورة خاصة كصورة الاضطرار أو الجهل، الاتيان
بنفس هذه الطبيعة المأمور بها بكيفية خاصة مخالفة للكيفية التي بينها
أو لا، أو الاتيان بها مقتصرا في مقام إحراز اجزائه وشرائطه على
ما أخبر به الثقة أو قام عليه الأصل ثم زال الاضطرار أو الجهل، فهل
يجزى ما أتى به المكلف عن الإعادة والقضاء أم لا؟ وبعبارة أخرى:
محل كلامهم في الاجزاء، هو انه لو كان لنا امر واقعي معلوم متعلق
بطبيعة ذات أجزأ وشرائط ثم اضطررنا إلى ترك بعض الاجزاء و
الشرائط، فحكم الشارع بسقوط ما اضطر إلى تركه أو شككنا في وجود
جز أو شرط فقامت الامارة أو الأصل على تحققهما أو شككنا
في جزئية شي أو شرطيته فقامت الامارة أو الأصل على عدمهما و
حكم الشارع بجواز الاعتماد على هذه الامارة أو الأصل فاعتمد عليه
المكلف وعمل على وفق تكليفه حينئذ، فهل يجزى ما أتى به أم لا؟
الاجزاء في الاحكام الاضطرارية والظاهرية:
فإذا عرفت محل البحث، فنقول: ان اللازم أو لا هو الرجوع إلى مقام
الاثبات فنظر إلى أن أدلة الاحكام الظاهرية أو الاضطرارية هل
تكون ظاهرة في الاجزاء أو لا، فان كانت ظاهرة في الاجزاء نبحث ثانيا
في أنه هل يلزم محذور عقلي من الاخذ بهذا الظهور أو لا يلزم؟
فان لزم منه ذلك تركناه والا عملنا على طبق ما تقتضيه ظواهر الأدلة،
والمقصود فيما نحن فيه بيان الاجزاء في الاحكام الظاهرية، و
اما الاضطرارية فالاجزاء فيها أسهل، فلنشرع في بيان ما تقتضيه ظواهر
أدلة الامارات والأصول الواردة في مقام تعيين الوظيفة لمن
شك في أجزأ الواجب الواقعي المعلوم وشرائطه وموانعه، فنقول:
ان الشارع الذي أوجب على المكلفين، الاتيان بالصلاة - مثلا - و
جعلها (عمود الدين) وبين اجزائها وشرائطها وموانعها، إذا حكم لمن
شك في إتيان بعض الاجزاء بوجوب المضي وعدم الاعتناء، أو حكم
لمن شك في طهارة لباسه أو بدنه بان (كل شي نظيف حتى يعلم أنه
قذر)، أو حكم برفع جزئية السورة مثلا عمن نسيها، أو شك في
جزئيتها أو حكم بوجوب العمل بخبر الثقة مثلا فأخبر بطهارة شي
أو عدم جزئية شي للصلاة أو غيرها من الواجبات، فهل يكون مفاد
هذه الأحكام الظاهرية وجوب العمل على وفق هذه الأمور من دون
تصرف في الواقع، أو يكون المستفاد من ظواهر هذه الأدلة كون الصلاة
أو الحج أو نحوهما بالنسبة إلى
460

هذا المكلف، عبارة عن نفس ما تقتضيه وظيفته الظاهرية؟ لا يخفى ان
الظاهر هو الثاني، فقوله: - مثلا - (كل شي نظيف حتى يعلم أنه
قذر) ظاهر في أنه يجوز للمكلف ترتيب جميع آثار الطهارة على
الشئ المشكوك طهارته ومن جملتها، شرطيتها للصلاة فيكون مفاده
جواز الاتيان بالصلاة في الثواب المشكوك الطهارة، وحينئذ، فهل
يكون المتبادر من ذلك ان المكلف بعد إتيانه بالصلاة في هذا الثوب
قد عمل بوظيفته الصلاتية وامتثل قوله: (أقيموا الصلاة)، أو انه فعل
فعلا يمكن ان يكون صلاة وأن يكون لغوا وتكون الصلاة باقية في
ذمته؟ لا إشكال في أن المتبادر، هو ان الصلاة في حق هذا الشخص،
عبارة عما أتى به وانه قد عمل بوظيفته الصلاتية وأوجد فرد
المأمور به، فقوله: عليه السلام (لا أبالي أبول أصابني أم ماء) لا يتبادر
منه، انى لا أبالي بوقوع الصلاة منى أم بعدم وقوعه بل المتبادر
منه، كون المشكوك طاهرا بالنسبة إلى الشاك وان العمل المشروط
بالطهارة إذا أتى به مع هذا المشكوك يكون منطبقا للعنوان
المأمور به وان المصلى فيه يكون من المصلين، لا انه يمكن ان لا
يكون مصليا، غاية الأمر انه معذور في المخالفة.
وبالجملة، فالرجوع إلى أدلة الأصول والامارات المتعرضة لاجزاء
المأمور به وشرائطه، يوجب العلم بظهورها في توسعة المأمور به
بالنسبة إلى الشاك والحكم بحكومتها على الأدلة الواقعية المحددة
لاجزاء المأمور به وشرائطه، ولازم ذلك سقوط الجز أو الشرط
الواقعي عن جزئيته وشرطيته بالنسبة إلى هذا الشاك، وإن كان لولاها
لوجب الحكم بانحفاظ الواقع على ما هو عليه ولزوم إحراز
الاجزاء والشرائط الواقعية بعد تنجز التكليف الصلاتي - مثلا - وعدم
جواز الاقتصار على المشكوك، وقد مر تفصيل هذا المعنى في
مبحث الاجزاء سابقا فراجع.
إذا عرفت ان ظواهر أدلة الامارات والأصول الحاكمة بترتيب آثار
الواقع على المشكوك، هو أجزأ ما يؤتى به ظاهرا وكون الجز أو
الشرط أعم من الواقع والظاهر، فيجب الدقة في أن العمل بهذا الظاهر
هل يلزم منه محذور عقلي أم لا فإذا لم يكن فيه محذور وجب
الاخذ بما تقتضيه تلك الظواهر. [1]
[1] أقول: ما أفاده السيد الأستاذ (مد ظله) هنا في الاجزاء والجمع بين
الحكم الواقعي والظاهري كان ملخصا لما أفاده دام ظله بالتفصيل
في مبحث الألفاظ فمن شاء فليراجع إليه وقد تم تحرير هذا البحث
يوم الأحد 14 شعبان 1368 قمرية، ح - ع - م.
461

الفصل الثاني:
تأسيس الأصل فيما لم يعلم حجيته
إذا شك في حجية شي فهل الأصل يقتضى حجيته أو عدم حجيته؟
قال الشيخ (قده) في هذا المقام ما حاصله: ان التعبد بالظن الذي لم
يدل
دليل على وقوع التعبد به، محرم بالأدلة الأربعة:
فمن الكتاب:
قوله تعالى: (الله أذن لكم أم على الله تفترون) ومن السنة:
قوله عليه السلام في عد القضاة من أهل النار: (ورجل قضى بالحق و
هو لا يعلم).
ومن الاجماع: ما ادعاه (الفريد البهبهاني) من كون عدم الجواز بديهيا
عند العوام فضلا عن الخواص.
ومن العقل: تقبيح العقلا، من يتكلف من قبل مولاه بما لا يعلم
بوروده عنه.
نعم، قد يتوهم متوهم ان الاحتياط من هذا القبيل وهو غلط واضح، إذ
فرق واضح بين الالتزام بشئ من قبل المولى، على أنه منه وبين
الالتزام بشئ باحتمال كونه منه ورجائه.
انتهى.
أقول: قد وردت بمضمون الآية الشريفة آيات كثيرة مخاطبا فيها الكفار
والمنافقون ولكن ليست الآيات بصدد تشريع حرمة الافتراء
على الله فإنها وردت لافحام الكفار وتبكيتهم فيما كانوا ينسبونه إلى
الله تعالى بحسب ظنونهم وأوهامهم من اتخاذ الصاحبة والولد و
نحو ذلك، وحرمة الافتراء في الديانة الاسلامية لا تقتضي إفحامهم،
فالآيات الشريفة وردت في قبال
463

الكفار إرجاعا لهم إلى ما يقتضيه جميع العقول وتشهد له سيرة جميع
العقلا من قبح نسبة شي إلى شخص مع عدم ثبوته وعدم قيام
الدليل عليه، فليس مضمون الآيات الا نفس ما دل عليه العقل وليست
الآيات دليلا مستقلا في قباله.
وهكذا الاجماع الذي ادعاه (البهبهاني) (قده) ليس مما يستكشف
عنه الحكم الشرعي فان الظاهر، ان اتفاق العلماء في ذلك من جهة
انهم
عقلا وليس الاجماع في المسائل العقلية كاشفا عن الحكم الشرعي.
لا ربط بين حجية الظن وجواز التعبد به:
ان المحقق الخراساني (قده) استشكل على (الشيخ) (قده) بان حرمة
التعبد بشئ لم يرد التعبد به من الشارع وحرمة نسبته إلى الله
تعالى لا ترتبطان بالحجية أصلا، إذ ليس من آثارها جواز التعبد و
النسبة إليه تعالى، ضرورة ان حجية الظن عقلا على تقرير الحكومة
في حال الانسداد لا توجب صحتهما، فلو فرض صحتهما مع الشك
في التعبد لما كانت تجدي في الحجية شيئا، وبالجملة فمسألة حرمة
التعبد بشئ لم يرد التعبد به وحرمه نسبته إليه تعالى لا ترتبط بباب
الحجية وعدمها أصلا، فان الحجة عبارة عن امر يقع واسطة بين
الموالي والعبيد، بها يحتج المولى على العبد عند الإصابة والعبد
على المولى عند التخطي، ولا شك ان ترتب المنجزية والمعذرية
عليها
موقوف على العلم بها فإنها بوجودها الواقعي لا يكفي في تنجيز الواقع
لو كانت مطابقة له ولا يمكن اعتذار العبد بسببها في صورة
تخطيها عن الواقع.
والحاصل ان التنجيز والمعذرية أثر ان للحجة الواصلة التي علم
حجيتها، فمع الشك في الحجية يقطع بعدم ترتب الاثرين فلا نحتاج
إلى
أصل يحرز به عدم الحجية بحسب الواقع.
ولا يتوهم في المقام، ورود الدور، بان يقال إن الحجية موقوفة على
العلم والعلم على الحجية.
فانا نقول: ان الحجية امر تناله يد الجعل التشريعي ولكن المجعول
بوجوده الواقعي لا يترتب عليه أثر أصلا بل الأثر المترقب يترتب
على المعلوم منها، انتهى ملخص كلامه (قده). أقول ما ذكره (قده)
متين ولا نحتاج مع وضوح المطلب إلى إطالة الكلام في المقام، نعم
قد
ذكرنا سابقا ان المعذورية تترتب على نفس عدم وصول الواقع لا على
وصول خلافه فراجع ما حررناه في أوائل القطع.
464

الفصل الثالث:
حجية ظواهر الألفاظ
إذا احتاج الانسان إلى الاطلاع على ما يعتقده الغير في واقعة خاصة،
اما من جهة العلم بكون معتقده مطابقا للواقع أو من جهة كون
معتقده حجة في حق الانسان فلا وسيلة إلى إحراز عقيدته الا بوسيلة
الألفاظ الصادرة عنه بقصد إبراز ما في ضميره إذ غيره من
الوسائل لا يكفي لافهام جميع المقاصد ولا يمكن إبراز العقيدة بسببها
الا بتكلفات شديدة، واما افهام المقاصد بسبب الألفاظ ففي غاية
السهولة ولذلك اختارها البشر على سائر الامارات.
والسر في ذلك ان التنفس كان امرا ضروريا قهريا لجميع الناس وكان
الهواء عند خروجه عن الرئة واصطكاكه مع المقاطع، مما يمكن
ان توجد بوسيلته أصوات موزونة يخالف بعضها بعضا آخر، فلذلك
اختار الناس هذا الامر الطبيعي السهل وسيلة لافهام العقائد بالوضع
والمواضعة لا بكون دلالتها عليها طبيعية ذاتية كما توهم، إذ القول
بكون التناسب بين الألفاظ والمعاني ذاتية مما تضحك به الثكلى، و
لأجل ذلك ترى اختلاف اللغات والألسنة.
وبالجملة فالألفاظ، أمارات وضعية وضعت لافهام المقاصد والشارع
أيضا لا بد في افهام أحكامه إلى إعمال هذه الامارات بجعل
مقاصده في قالب الألفاظ الموضوعة، فلأجل ذلك يتمشى البحث
عن حجية الظواهر.
ثم إن البحث في المقام، صغروي وكبروي فالبحث الصغروي يتكفل
لتعيين موجبات الظهور ومصاديق الظاهر، والبحث الكبروي
يتكفل لتعيين حجيتها بعد إحراز ظهورها.
ثم إن البحث عن كون المبحث من المسائل الأصولية أم لا مما لا
ينبغي لنا ان نصرف فيه الوقت بعد ما تبين لك موضوع علم الأصول و
الملاك في كون المسألة، أصولية في أول العلم فراجع.
465

أقسام الألفاظ الموضوعة:
اعلم أن الأوضاع، لما كانت لرفع الحوائج وكانت الاحتياجات مختلفة
متشتتة، فلا محالة كانت الألفاظ الموضوعة على أنحاء، وقد مر
تفصيل ذلك في مباحث الألفاظ، وإجمال ذلك ان الألفاظ الموضوعة
بإزاء المعاني على خمسة أقسام:
بيان ذلك: ان المتكلم ربما يكون بصدد إيجاد المعنى، وربما يكون
بصدد افهامه، وبعبارة أخرى، استعمال المتكلم للفظ، تارة يكون
بنحو الايجاد وذلك انما يتصور فيما إذا كان المعنى من الأمور التي
يكون امر إيجادها بيد المتكلم فيجعل اللفظ آلة لايجاده.
وتارة يكون بنحو الافهام وذلك انما يتصور فيما إذا فرض للمعنى مع
قطع النظر عن هذا الاستعمال الخاص نفس أمرية ما، فأريد
باستعمال اللفظ فيها افهامه للمخاطب حتى يتصوره أو يصدق
بوقوعه.
اما القسم الأول:
أعني المعنى الايجادي الذي جعل اللفظ آلة لايجاده فهو أيضا على
قسمين:
الأول: ما لا يكون فانيا في غيره وذلك كالطلب الموجد بنحو (افعل) و
البيع الموجد بنحو (بعت) ونحو ذلك. [1]
الثاني: ما يكون فانيا في غيره بحيث يكون الموجد معنى اندكاكيا، و
ذلك مثل الإشارة الموجدة بأسماء الإشارة والضمائر و
الموصولات، فان التحقيق فيها كما عرفت منا مرارا انها موضوعة
للإشارة ولكن لا لمفهومها، بل لان يوجد بها حقيقة الإشارة أعني بها
الامتداد الموهوم الذي يكون أحد طرفيه عبارة عن المشير والطرف الآخر
عبارة عن المشار إليه، فقولك (هذا) بمنزلة توجيه الإصبع
الذي يوجد بها الإشارة ويكون آلة لانشائها، وحقيقة الإشارة امر
اندكاكي فانية في المشار إليه ولذلك ترى انه يتوجه من توجيه
الإصبع ومن لفظ (هذا) ذهن المخاطب إلى نفس المشار إليه، وعلى
هذا تترتب على لفظ (هذا) أحكام الأسماء فيقع مبتدأ وخبرا أو نحو
ذلك و
[1] أقول: تمثيل ذلك بمثل (بعت) و (أطلب منك الضرب) صحيح، و
اما تمثيله بمثل (اضرب) فربما تختلج بالبال مخالفته لما ذكره
الأستاذ مد ظله في محله من الفرق بين (اضرب) وبين (أطلب منك
الضرب) بل يمكن ان يقال: ان الطلب مطلقا حقيقة اندكاكية فانية في
المطلوب وان تعلق به اللحاظ الاستقلالي فالتمثيل (بأطلب منك
الضرب) أيضا غير صحيح، فتدبر ح - ع - م.
466

لم يوضع لفظ (هذا) أولا بإزاء نفس المشار إليه كما لم يوضع بإزاء نفس
مفهوم الإشارة حتى يستعمل فيها استعمالا إفهاميا، بل وضع
لحقيقة الإشارة حتى يستعمل فيها استعمالا إيجاديا، غاية الأمر ان هذا
المعنى الايجادي فان في المشار إليه فتترتب على هذا اللفظ
أحكام المشار إليه ومثل ذلك، الضمائر أيضا فإنها أيضا وضعت لان
توجد بها حقيقة الإشارة، غاية الأمر، انها وضعت للإشارة إلى
الألفاظ السابقة الذكر، وكذلك الموصولات فإنها أيضا وضعت لان
يشار بها إلى أمور متعينة بتعين الصلة.
وبالجملة فأسماء الإشارة والضمائر والموصولات، كلها من واد واحد
وقد وضعت لان يشار بها إلى أمور متعينة، اما خارجيا، واما
ذكريا، واما وصفيا كما في الموصولات، فإنها وضعت لان يشار بها إلى
ما تصدق عليه الصلة، ولاجل ذلك يستفاد من الموصول العموم
إذا كانت صلته قابلة للانطباق على جميع ما يمكن ان يتصف
بمضمونها وقد مر بيان ذلك في مباحث المطلق والمقيد أيضا
فراجع. هذا
كله فيما يتعلق بالقسم الأول.
واما القسم الثاني
أعني المعنى الذي كان عمل اللفظ فيه عملا إفهاميا، بان أريد من
اللفظ إفهامه للمخاطب فهو على ثلاثة أقسام فان المعنى الافهامي، اما
ان
يكون من المفاهيم المستقلة، واما ان يكون من المفاهيم الاندكاكية.
اما الأول: فكمفهوم الضرب والرجل ونحوهما من المفاهيم المستقلة
التي وضع بإزائها الأسماء ولا محالة يكون عمل اللفظ فيها عملا
إفهاميا تصوريا، بمعنى ان مقصود المتكلم من ذكر اللفظ هو افهام
معناه للمخاطب حتى يفهمه بنحو التصور.
واما الثاني: فكالمعاني الحرفية والنسب الإضافية والايقاعية وهي
على قسمين: فان عمل اللفظ في المفهوم الاندكاكي، اما ان يكون
بنحو الافهام التصوري واما ان يكون بنحو الافهام التصديقي، بمعنى
ان المتكلم، اما ان يريد باستعماله افهام هذا المعنى للمخاطب حتى
يتصوره لا بنحو الاستقلال بل بنحو الفناء في غيره، واما ان يريد
باستعماله، إفهامه للمخاطب حتى يصدق بوقوعه.
فالأول كالمعاني الحرفية التي يتحقق بسببها، الارتباط بين المعاني
الاسمية من دون ان يكون متعلقا للتصديق، وذلك كحقيقة
(الابتدائية) الموجبة لارتباط السير (بالبصرة) وحقيقة (الانتهائية) التي
يرتبط بها السير (بالكوفة)، وكحقيقة النسبة الإضافية
الموجودة في مثل (سيري) و (سير زيد) ونحوهما. والثاني كالنسبة
الموجودة بين الفعل وفاعله والمبتدأ وخبره
467

فإنها معنى اندكاكي وضعت بإزائه هيئة الجملة ويكون المقصود من
إفهامه للمخاطب، تصديقه بوقوعه.
فتلخص مما ذكرنا ان عمل اللفظ في المعنى اما ان يكون بنحو الايجاد
بان يصير آلة لايجاده، واما ان يكون بنحو الافهام، والأول على
قسمين والثاني على ثلاثة أقسام، فصار المجموع خمسة.
وليعلم، ان حيثية الافهامية والايجادية والتصورية والتصديقية،
ليست مما وضع اللفظ بإزائها، بل هي من أنحاء الاستعمال، فلفظ
(هذا)
مثلا، لم يوجد بإزاء إيجاد الإشارة بل وضع بإزاء حقيقة الإشارة، غاية الأمر
، ان عمل اللفظ في هذا المعنى يكون بنحو الايجاد، بمعنى ان
هذا اللفظ يكون آلة لايجاد هذا المعنى، وكذلك هيئة الجملة مثلا، لم
توضع بإزاء التصديق بوقوع النسبة، بل وضعت بإزاء نفس النسبة،
غاية الأمر ان عمل اللفظ فيها يكون بنحو التصديق بمعنى انها وضعت
ليستعمل فيها استعمالا إفهاميا تصديقيا.
وبالجملة، فهذه حيثيات لاحظها الواضع في وضعه من جهة ان وضعه
كان لرفع الاحتياجات والناس ربما يحتاجون إلى إيجاد المعنى، و
ربما يحتاجون إلى إفهامه، ثم الذي يحتاجون إلى إفهامه، اما ان يكون
معنى مستقلا، واما ان يكون حقيقة اندكاكية، والحقيقة
الاندكاكية التي أريد إفهامها، اما ان يراد بإفهامها للمخاطب، ان يصدق
بوقوعها، واما ان لا يكون كذلك، بل يراد بإفهامها له، ان
يتصورها بما هي عليه من الاندكاك والفناء في غيره، فإذا احتاج الناس
إلى هذه الانحاء من الاستعمال، فلا محالة كان على الواضع ان
يجعل بعض الألفاظ بإزاء بعض المعاني ليستعمل فيه بنحو الايجاد، و
بعضا منها بإزاء بعض آخر ليستعمل فيه بنحو الافهام، اما بنحو
التصور، أو بنحو التصديق فتدبر.
وقد اتضح لك مما ذكرنا، ان دلالة اللفظ على المعنى الافهامي، اما أن تكون
تصورية، واما تصديقية، فالأولى كدلالة الأسماء على معانيها
الاستقلالية ودلالة الحروف على معانيها الاندكاكية التي هي حقائق
ارتباطية، ترتبط بسببها المفاهيم الاستقلالية. والثانية كدلالة هيئة
الجملة على النسبة الايقاعية التي تقع متعلقة للتصديق.
معنى تبعية الدلالة للإرادة:
ثم إن المراد بالدلالة التصديقية التي تتبع الإرادة، هو ما ذكرنا لا ما ذكره
(المحقق الخراساني) في
468

توجيه كلام العلمين، حيث قالا بتبعية الدلالة للإرادة.
وتحقيق ذلك هو: ان الألفاظ الموضوعة للأفهام التصوري لا تكون في
دلالتها على معانيها متوقفة على شي، بل يكون نفس سماعها مع
العلم بالوضع، موجبا لتصور معانيها الاستقلالية أو الاندكاكية ولو
سمعت من النائم أو غير المريد، واما ما وضعت للأفهام التصديقي
بان كان المراد من استعمالها في معانيها تصديق المخاطب بوقوعها،
فترتب هذا المعنى عليها يتوقف على أربعة أمور:
الأول: ان يكون المتكلم عالما بالوضع.
الثاني: ان يكون مريدا في استعماله للفظ، بان يكون مقصوده افهام
المعنى ليصدق المخاطب بوقوعه.
الثالث: ان يكون عالما بتحقق مضمون كلامه في الخارج.
الرابع: ان يكون علمه مطابقا للواقع.
وحينئذ فإذا أحرز المخاطب، هذه الأمور الأربعة من المتكلم بنحو
القطع، صدق بمضمون الكلام تصديقا قطعيا وإذا أحرز جميعها أو
بعضها بنحو الظن صدق بمضمونه تصديقا ظنيا.
وبالجملة فاللفظ الموضوع للأفهام التصديقي يكون ترتب هذا المعنى
عليه، أي ترتب تصديق المخاطب على استعمال المتكلم موقوفا
على إحراز المخاطب أمورا أربعة من ناحية المتكلم، منها إرادة
المتكلم لتصديق المخاطب. فهذا معنى ما ذكروه من تبعية الدلالة
للإرادة،
فمرادهم بالدلالة هنا الدلالة التصديقية بالمعنى الذي ذكرناه واما
اللفظ الموضوع للأفهام التصوري فترتب هذا المعنى عليه أعني تصور
المخاطب للمعنى لا يتوقف على إرادة المتكلم كما هو ظاهر.
والحاصل ان الألفاظ الموضوعة بإزاء معان تصديقية بحيث تكون
قالبا بحسب الوضع إذا ألقيت إلى المخاطب فان أحرز الأمور الأربعة
السابقة بنحو القطع صدق بمضمونها تصديقا قطعيا ورتب عليه الآثار،
وان أحرزها أو بعضها بنحو الظن حصل له تصديق ظني، وان لم
يحرزها بالظن أيضا، لم يحصل له التصديق أصلا، وفي كلتا الصورتين
ربما يرتب الآثار على وفق مضمونها كما إذا وافق الاحتياط و
ربما لا يرتب عليه الأثر، ولكن هذا كله في غير الألفاظ الصادرة من
الموالي بالنسبة إلى عبيدهم. واما الألفاظ الصادرة منهم متوجهة
إلى عبيدهم فإذا كانت بحسب وضعها أو القرائن المحفوفة بها قالبة
لمعان خاصة وظاهرة فيها فتكون حجة للمولى على العبد وللعبد
على المولى ولا تتوقف حجيتها على الظن بمضمونها فضلا عن
القطع.
469

والبحث عن حجية الظواهر، انما يتمشى في هذا القبيل من الألفاظ
أعني ما وقع منها رابطة بين الموالي وعبيدهم، فمحصل الكلام في
باب حجية الظواهر يرجع إلى أنه إذا صدرت من المولى ألفاظ تكون
بحسب وضعها أو القرائن المحفوفة بها قوالب لمعان مخصوصة و
تكون كاشفة بهذا الاعتبار عن إرادة المولى فهل تكون حجة له على
العبد وبالعكس، أم لا؟ ومعنى كونها حجة للمولى على العبد ان
العبد إذا خالف ما هو مقتضى ظاهرها معتذرا باحتمال إرادة خلاف
الظاهر كان عند العقلا مستحقا للعقوبة ولم يكن عذره مقبولا
عندهم إذا اتجرت مخالفة الظاهر إلى مخالفة حكم إلزامي، ومعنى
كونها حجة للعبد على المولى ان العبد إذا عمل على طبق ما هو
مقتضى ظاهرها ولم يكن الظاهر مرادا جديا للمولى وضاع بسبب
ذلك بعض مراداته الواقعية لم يكن له عتاب العبد وعقابه على ترك
الواقع، بل العبد يحتج عليه بما اقتضاه ظاهر كلامه.
فإذا عرفت موضوع النزاع في الحجية ومعناها، حصل لك التصديق بحجية الظواهر وصارت حجيتها لديك من الضروريات، فإنها من
القضايا التي قياساتها معها، إذ الطريق في افهام المقاصد والمرادات ينحصر تقريبا في الألفاظ، وممن يحتاج إلى افهام مقاصده لغيره،
الموالي بالنسبة إلى عبيدهم فإذا استعمل المولى الألفاظ القالبة لمعان خاصة فلا محالة يجب على العبد الاعتماد عليها وتتأتى المحاجة
من الطرفين.
وبالجملة، فظواهر الألفاظ من أقوى الامارات وأقدمها وبسببها دارت رحى الاجتماع وقام النظام البشري فان الانسان مدني بالطبع
يحتاج في إمرار معاشه إلى التعاون والامداد من أبناء نوعه ويتوقف ذلك على افهام المقاصد والضمائر إلى الغير، وأسهل طرقه هو
استعمال الألفاظ، كما مر وجهه في صدر المبحث، وممن يحتاج إلى افهام المقاصد وإظهار المرادات، الموالي بالنسبة إلى عبيدهم من
غير فرق بين مولى الموالي وغيره من الموالي العرفية.
الاستدلال لحجية ظواهر الألفاظ:
ان (المحقق الخراساني)، يقرر سيرة العقلا القائمة على حجية ظواهر الألفاظ، بوجهين:
الأول: ان العقلا كانت تعتمد عليها في مقام استنباط مقصد الغير وكان هذا المعنى بمرأى الصادع بالشريعة ومسمعه ولم يردع عنه
فيستكشف من عدم ردعه، جواز الاعتماد عليها.
470

الثاني: ان بناء العقلا في مقام المخاصمة واللجاج كان على الاحتجاج بظواهر الألفاظ فكانوا يحتجون بها على عبيدهم ومواليهم و
كانوا يرون العبد ملزما بموافقة ظواهر كلام المولى ومستحقا للعقوبة على فرض ترك الموافقة إذا انجر إلى مخالفة حكم إلزامي فهكذا
كان بنائهم في مقام الاحتجاج وفي الجهات الراجعة إلى رابطة المولوية والعبودية، ومن الموالي المحتاجة إلى افهام المقاصد لعبيدهم،
موالي الموالي والمولى الحقيقي والمنتسبين إليه من الأنبياء والأئمة عليهم السلام، ومن الواضحات انهم لم يتخذوا لافهام المقاصد
طريقا جديدا ومسلكا مبتدعا، فلا محالة كان طريقهم في ذلك هو الطريقة العقلائية في باب تفهيم المقاصد وإلقاء المرادات إلى العبيد
فتصير ظواهر ألفاظه حجة من الطرفين.
ولا يخفى ان التقرير المناسب للمقام هو التقرير الثاني لا الأول، فان المقصود في المقام ليس إثبات صرف جواز العمل بالظاهر و
بيان حكمه التكليفي، بل المقصود، بيان حجية الظواهر بحيث يصير العبيد ملزمين على العمل بها ويكون للمولى عتابهم وعقابهم على
فرض مخالفة الواقعيات بترك العمل بها.
ثم إن حجية ظواهر كلام المولى لعبيده هل تكون متوقفة على عدم ردع بناء العقلا أو لا؟ لا إشكال في توقفها على ذلك فلو اتخذ المولى
لافهام مقاصده طريقا اخر غير الطريقة المألوفة، بان صرح (بأني لا أثيب ولا أعاقب على طبق ما تقتضيه الظواهر بل يجب على عبيدي
تحصيل العلم بمراداتي)، لم يكن للعبيد ولا له الاحتجاج بظواهر كلامه، ولكن ليس ذلك في الحقيقة ردعا لبناء العقلا فان بنائهم على
الاحتجاج بالظواهر وحكمهم بصحته من أول الأمر مقيد بصورة عدم ردع المولى وعدم إحداثه طريقا جديدا للتفهيم والتفهم، فتدبر.
حكم العقل بحجية الظواهر:
ثم إنه لما كانت عمدة الدليل على حجية الظواهر وخبر الواحد الذين بنى عليهما أساس الفقه، عبارة عن بناء العقلا كما تمسك به القوم
لزم علينا تعقيب هذا البناء وبيان هويته. فنقول:
هل بنائهم وسيرتهم على الاحتجاج، وسط لاثبات الحجية ودليل عليها بحيث يحتاج كل واحد منا لاثبات الحجية إلى مراجعة بناء العقلا
ولا يدركها عقلنا بنفسه؟ أو الذي يحكم بحجية الظواهر مثلا هو عقلنا بحيث لا يحتاج عقلنا في الحكم بذلك إلى استمداد سائر العقول،
والاستدلال ببناء العقلا أيضا ليس من جهة جعل بنائهم وسطا
471

للاثبات، بل المراد به حكم العقلا بما هم عقلا بذلك ومرجع ذلك إلى حكم العقل بالحجية؟ لا إشكال في أن الصحيح هو الاحتمال
الثاني، فليس مرجع الاستدلال إلى جعل بناء العقلا وسطا للاثبات حتى يقال إن البرهان في المقام، (انى) أو (لمي)؟ مثلا، بل مرجعه إلى
دعوى كون الحجية للظاهر مثلا من الاحكام الضرورية لكل عقل ويرجع ذلك إلى التحسين والتقبيح العقليين، فيحكم كل عقل بحسن
عقوبة المولى عبده إذا خالف ظاهر كلامه المتضمن لحكم إلزامي باحتمال إرادة خلاف الظاهر وقبح عقوبته إذا وافقه وان ترتبت
عليها مخالفة حكم إلزامي آخر من دون ان يحتاج كل عقل لاثبات ذلك إلى إقامة البرهان والاستمداد من سائر العقول.
حجية الظواهر ذاتية أو عرضية؟:
ثم إن حكم العقل بحجية الظواهر وكون موافقتها ومخالفتها موجبتين لحسن العقوبة وقبحها هل هو من جهة إدراكه لجهة ذاتية في
الظواهر بحيث يكون الظاهر بما هو ظاهر محكوما عند العقل بالحجية وتكون الحجية ذاتية له كما في القطع أو هو لجهة عرضية؟ لا
إشكال في فساد الاحتمال الأول، بداهة عدم كون الظاهر بما هو موضوعا للحجية كالقطع، بل الحكم بحجيتها لجهة خارجية ملازمة لها
وغير منفكة عنها وباعتبار هذه الملازمة صارت حجيتها من الواضحات عند العقل حتى وصلت إلى مرتبة يمكن ان يقال بكونها ذاتية و
لذلك لا يشك عقل من العقول في الحكم بالحجية وبالحسن والقبح المذكورين وان لم يلتفت تفصيلا إلى جهة الحجية.
ثم إن الجهة العرضية الموجبة لحجية الظواهر ونحوها وحكم العقل بوجوب موافقتها وحسن العقوبة في مخالفتها وقبحها عند
موافقتها، يمكن أن تكون أحد هذين الامرين:
الأول: انحصار طريق الإفادة والاستفادة في ذلك ومرجع ذلك إلى دعوى انسداد باب العلم عند العقلا في افهام المقاصد.
بيان ذلك: ان الانسان مدني بالطبع يحتاج في إمرار معاشه إلى التعاون، فلا يمكنه إمرار الحياة الا بان يتصدى كل واحد لجهة من
الاحتياجات ولاجل ذلك يحتاجون إلى العقود والايقاعات وافهام المقاصد إلى الغير حتى يطلع كل واحد منهم على ما في ضمير غيره
ليرفع
472

حوائجه، وارتباط القلوب بغير وسيلة جعلية، غير ميسر، فلا محالة احتاجوا إلى وسيلة جعلية تتوسط بينهم في الإفادة والاستفادة وهي
منحصرة في الألفاظ إذ غيرها من الوسائل لا يفي الا بأقل قليل من المقاصد، وممن يحتاج إلى افهام مقاصده إلى الغير، الموالي بالنسبة
إلى عبيدهم حيث يحتاجون إلى توسيط العبيد في رفع حوائجهم أو تنبيههم على ما فيه صلاحهم أو فسادهم، فلا محالة ينحصر الطريق
المتوسط بين الموالي والعبيد في الألفاظ الموضوعة للمعاني بسبب الوضع أو بسبب القرائن المحفوفة فصارت هي المدار للاحتجاج و
الوسيلة للمخاصمة واللجاج، فإذا صدرت من المولى، ألفاظ دالة على معنى خاص بسبب الوضع أو القرائن المحفوفة فخالف لمضمونها
العبد معتذرا بعدم العلم بمراد المولى، حكم العقل بحسن عقوبته.
وبالجملة، فطريق التفهيم والتفهم بين الموالي والعبيد لما كان منحصرا في الألفاظ وانسد فيهما باب العلم بما في الضمير، صار هذا
سببا لحجية ظواهر الألفاظ وهذا الانسداد ملازم للاخذ 0 بالظواهر دائما فصارت الحجية كأنها ذاتية للظواهر فتدبر.
الثاني: ان العمل بالظواهر يكون من فطريات العقلا ومرتكزاتهم بحيث رسخ في أذهانهم وجوب الاعتماد عليها إذا صدرت من الموالي
بالنسبة إلى عبيدهم من غير التفات إلى سبب هذا الارتكاز
[1]
فصار هذا المعنى موضوعا لحكم العقل بصحة مؤاخذة المولى إذا ترك
العبد، العمل بها وقبح المؤاخذة إذا عمل على وفقها. وبالجملة، فحجية الظواهر في الجملة مما لا ريب فيها ولم يستشكل فيها أحد الا انه
ظهر من بعض المتأخرين من أصحابنا تفصيلان في المقام:
الأول: التفصيل بين من قصد إفهامه وغيره
يظهر من (المحقق القمي) التفصيل بين من قصد إفهامه بالكلام وبين غيره، حيث خص حجية الظاهر بمن قصد إفهامه سواء كان مخاطبا
كما في الخطابات الشفاهية أم لا كما في الكتب المصنفة لرجوع كل من يمكن ان يستفيد منها، واما من لم يقصد إفهامه بالكلام
[1]
أقول: اعلم أن الأستاذ مد ظله قد ذكر الوجه الأول والثاني أولا بنحو الاجمال ولكنه في مقام التفصيل لم يتصد لبيان الوجه الثاني
بل فصل خصوص الوجه الأول، فكأنه أعرض عن الثاني، والفرق بينهما ان موضوع حكم العقل في الثاني نفس ارتكاز العقلا من دون
نظر إلى سبب هذا الارتكاز والوجه الأول بيان لسبب هذا الارتكاز ح - ع - م.
473

فلا يكون الظاهر عنده حجة بالنسبة إليه الا من باب الظن المطلق، وهذا المعنى هو عمدة ما دعاه إلى الالتزام بالانسداد وحجية الظن
المطلق لا المناقشة في الاخبار من حيث إسنادها.
ووجه كلامه (الشيخ) (قده) في الرسائل بما حاصله: ان ظهور اللفظ ليس حجة الا من باب الظن النوعي وهو كون اللفظ بنفسه لو خلى و
طبعه مفيدا للظن بالمراد، فإن كان مقصود المتكلم من الكلام افهام من قصد إفهامه فيجب عليه إلقائه على وجه لا يقع الملقى إليه في
خلاف المراد بحيث لو فرض وقوعه فيه لكان اما لغفلة منه في الالتفات إلى ما اكتنف به الكلام واما لغفلة المتكلم من إلقائه على وجه
يفي بالمراد، ومعلوم ان احتمال الغفلة من المتكلم أو السامع مما لا يعتنى به العقلا، واما إذا لم يكن الشخص مقصودا بالافهام فوقوعه
في خلاف المقصود واختفاء القرائن منه لا ينحصر سببه في الغفلة من المتكلم أو السامع، بل يمكن ان يكون لدواع خارجة غير مربوطة
بهما، فان احتمال وجود القرينة حين الخطاب واختفائه علينا، احتمال راجع حتى لو تفحصنا عنها ولم نجدها لا تحكم العادة بأنها لو
كانت لظفرنا بها، لكثرة ما خفيت علينا، مع أنه لو سلمنا حصول الظن بانتفاء القرائن المتصلة، لكن احتمال القرائن الحالية والمنفصلة
المعلومة عند المخاطب المعتمد عليها المتكلم، بحاله ولو بعد الفحص. وبالجملة، فظواهر الألفاظ حجة، بمعنى عدم الاعتناء باحتمال
خلافها إذا كان منشأ الاحتمال غفلة المتكلم في كيفية الإفادة أو المخاطب في كيفية الاستفادة، دون ما إذا كان مسببا عن احتمال اختفاء
أمور لم تجر العادة بأنها لو كانت لو صلت إلينا، انتهى ما ذكره (الشيخ) (قده) لتوجيه كلامه.
أقول: ويرد على ذلك أولا: بأنه كما جرت سيرة العقلا على الاحتجاج بالظواهر بالنسبة إلى من قصد إفهامه، فكذلك جرت سيرتهم
على الاحتجاج بها بالنسبة إلى من لم يقصد، الا ترى انه إذا قال المولى لبعض عبيده: (قل لفلان يفعل كذا) - وكان هذا أيضا من عبيده -
فسمع الكلام من وراء الجدار ولم يعمل على وفق ظاهره، عد عاصيا عند العقلا وحسنت عقوبته وان لم يقصد إفهامه ولا يسمع منه
الاعتذار بأنه لم يكن مقصودا بالافهام أو بأنه احتمل اتكأ المولى على أمور مرتكزة في ذهن من قصد إفهامه موجبة لانصراف الظاهر
عما هو ظاهر فيه.
وثانيا: بان احتمال القرائن الحالية والمتصلة والمنفصلة، يتصور في حق من قصد إفهامه أيضا من دون ان يكون لأحدهما غفلة فان
الواجب على المتكلم إلقاء الكلام على المخاطب
474

يفهم منه المراد لو خلى وطبعه فربما يكون كلامه محفوفا بتلك القرائن ومع ذلك لا يقف عليها المخاطب مع ماله من الالتفات وعدم
الغفلة بطرو ما منع عن وقوفه عليها ولا يجب على المتكلم أكثر من هذا. فتأمل.
وثالثا: بان شيئا من هذه الاحتمالات لا يصادم حجية الظهور:
اما احتمال القرائن المتصلة، فلانه يمكن استكشاف حالها من مراجعة رجال الخبر وملاحظة حالهم في الضبط وعدمه ومرتبة الوثاقة و
الحفظ ومن مراجعة نفس الخبر حتى يعلم بوقوع التقطيع وعدمه.
واما احتمال اتكأ المتكلم على امر اعتقده مركوزا في ذهن المخاطب، فمما لا يعتنى به من قصد افهامه وغيره، فمن قصد افهامه من
العبيد أيضا لا يعتنى باحتمال إرادة المتكلم خلاف الظاهر من جهة اطلاعه على سريرة العبد واعتماده على ما هو المرتكز في ذهنه و
يظهر هذا المعنى بالمراجعة إلى حال الموالي والعبيد في مقام المخاصمة والاحتجاج.
واما احتمال قرينية الموجود، فهو مما يوهن الظهور ويسقطه عن الحجية من غير فرق فيه بين من قصد وبين غيره أيضا.
واما احتمال القرائن المنفصلة، فلا يفرق فيه أيضا بينهما. وتفصيل ذلك قد مر في مبحث العام والخاص. وإجماله: ان اللفظ الملقى من
المولى إلى العبد، تارة يكون متضمنا لحكم شخصي، وأخرى يكون متضمنا لحكم كلي وقانون عام يرجع إليه كل من صار مصداقا
لموضوعه، فإن كان من قبيل الأول فلا مجال فيه للاتكال على القرائن المنفصلة واحتمالها أيضا غير معتنى به عند العقلا، وإن كان من
قبيل الثاني فللمولى تخصيصه أو تقييده أو ذكر قرينة تخالف ظاهره ولو منفصلا واتفق الأصوليون في هذا المورد على وجوب
الفحص وان اختلفوا في مقداره، وقد دلت على وجوب الفحص في هذا القسم، الأدلة الشرعية الدالة على وجوب تعلم الاحكام ومعرفتها
وأخذها عن أهله ولا يفرق في القسمين بين من قصد افهامه وبين غيره.
وبالجملة، فسيرة العقلا من أقوى الشواهد على عدم الفرق في باب الظواهر بين من قصد افهامه وبين غيره، ولا يعتنون بهذه
الاحتمالات في مقام المؤاخذة والاحتجاج، بل تجري أصالة عدم ما يصرف الظاهر عن ظاهره.
بل يمكن ان يقال بعدم الاحتياج إلى إجراء هذا الأصل، فان المرادات انما تستكشف بمعونة
475

نفس الألفاظ التي هي قوالب لها بحسب أوضاعها، ما لم يحرز ما يصرفها عن ظواهرها. والسر في ذلك ان صدور الفعل من الفاعل
المختار يحمل على صدوره عنه بإرادته واختياره وعلى كونه صادرا لفائدة وغاية مترقبة منه غالبا، أعني بها غايته الطبيعية، وهذا
من غير فرق بين الافعال الصادرة عن اليد مثلا وبين غيرها، ومن الافعال الصادرة عنه، التكلم، فيجب ان يحمل بما هو فعل صادر عنه
على كونه صادرا باختيار وإرادة لغايته الطبيعية والغاية الطبيعية للكلام هو افهام ما هو قالب له بحسب وضعه.
ثم إنه يرد على ما ذكره (الشيخ) (قده) من كون سبب احتمال مخالفة الظاهر للمراد بالنسبة إلى من قصد افهامه منحصرا في غفلة
المتكلم أو السامع، إشكال آخر، وهو ان المتكلم في الآيات والاخبار لا يتصور في حقه الغفلة لعصمته والسامع أيضا لا يعقل ان يلتفت
إلى غفلته في حال الغفلة فلازم ذلك هو القطع بالمراد في ظواهر الاخبار بالنسبة إلى من قصد افهامه فيرجع التفصيل بين من قصد و
بين غيره، إلى التفصيل بين من حصل له القطع بالمراد وبين غيره وهو كما ترى.
الثاني: التفصيل في حجية الظواهر بين الكتاب وغيره
وهذا التفصيل، هو الذي ظهر في الاعصار الأخيرة عن بعض الامامية من التشكيك في حجية ظواهر الكتاب المجيد بعد ما لم يكن بين
المسلمين من العامة والخاصة خلاف في حجيته، بداهة انه لم ينزل للالغاز والتعمية، بل نزل ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وقد
أخرجهم عنها كما يظهر بمراجعة التواريخ وكانت الاعراب يفهمونه بمجرد قراءة النبي وكان يؤثر في أنفسهم أشد التأثير كما روى أن
رئيس بنى مخزوم، أتى النبي صلى الله عليه وآله فقرأ عليه سورة (حم سجدة) حتى وصل إلى قوله تعالى: (فان أعرضوا فقل أنذرتكم
صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)
. [1]
فجعل أصابعه في أذنيه وخرج من عنده فلما سأله قومه عما رآه قال: لقد سمعت بكلام لم اسمع
بمثله.
[1]
وفيه ان السامع وان لم يلتفت إلى غفلته ولا ينقدح في نفسه احتمال غفلة نفسه حال الغفلة أعني حال السماع ولكنه يمكن ان ينقدح
في نفسه بعد ذلك احتمال الغفلة حين السماع فلا يقطع بالمراد.
اللهم الا ان يقال إن مقتضى ذلك، حصول القطع له حين السماع وهو كما ترى. ح - ع - م.
476

وقد نقل أيضا قصة مصعب بن عمير حيث أرسله النبي صلى الله عليه وآله إلى يثرب فوجه الناس إلى الاسلام بقراءة القرآن.
فأمثال هذه القضايا تشهد بأنهم كانوا يفهمون القرآن كيف وقد قال تعالى في شأنه: (نذيرا للبشر) وقال: (لا نذركم به ومن بلغ).
وبالجملة، فالقرآن نزل بلسان قوم النبي صلى الله عليه وآله مبينا لمقاصده بنحو يخرج عن طاقة البشر، فان المتكلمين مختلفون
متفاوتون في افهام المقاصد وسوق المستمعين جانب المقصود.
قال الشيخ (محمد عبده) في شرح نهج البلاغة في مقام بيان علوه ما حاصله:
(انى وقفت على هذا الكتاب فقرأت صفحة منه فرأيت نفسي في ضمن عسكر عظيم قد خاطبهم خطيب يشجعهم ويحرضهم على القتال
فأبلغ في خطاباته إلى أن وجدت نفسي كالمتهيئ معهم للقتال وقرأت صفحة أخرى منه فرأيت نفسي في مجمع من الزهاد والعباد
يخاطبهم خطيب يخوفهم ويحذرهم ويحثهم على تقوى الله، حتى صرت كأني أحد منهم وقد تهيأت للعبادة وحصلت في، ملكة الزهادة
وهكذا كل صفحة منه تصور لي مجلسا وخطيبا يحث على مقصد عال.) انتهى.
فالقرآن في الدرجة العليا من هذا الشأن، فيسوق الناس إلى ما فيه صلاحهم وسعادتهم، وبالجملة فالاستفادة من القرآن كان من دأب
المسلمين إلى أن ظهر من بعض المنتحلين إلى الامامية في الأعصار الأخيرة، التشكيك في ذلك.
أدلة المفصلين ونقدها:
وقد ذكر في (الكفاية) لهم وجوها خمسة:
الأول: دعوى اختصاص فهم القرآن بأهله ومن خوطب به من النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، كما يشهد لذلك ما ورد في
ردع (أبي حنيفة) و (قتادة) عن الفتوى به، حيث قال أبو عبد الله عليه السلام لأبي حنيفة: (أنت فقيه العراق؟ قال نعم، قال فبم تفتيهم؟
قال بكتاب الله وسنة نبيه، قال يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال نعم، قال: يا أبا حنيفة لقد
ادعيت علما، ويلك، ما جعل الله ذلك الا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك ولا هو الا عند
477

الخاص من ذرية نبينا، وما ورثك الله من كتابه حرفا).
وقال أبو جعفر عليه السلام لقتادة: (أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال هكذا يزعمون. فقال بلغني انك تفسر القرآن، قال: نعم، إلى أن قال: يا
قتادة ان كنت انما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وان كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت. ويحك يا
قتادة، انما يعرف القرآن من خوطب به).
ومال هذه الدعوى، اما إلى دعوى كون خصوص النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام مقصودين بالافهام فلذا لا يكون حجة
بالنسبة إلى غيرهم، واما إلى دعوى كونه لغموض مطالبه أو لخفاء قرائنه التي بمعونتها يصل الناظر فيه إلى المقصود مختفيا عن
غيرهم.
وعلى الأول يصير ما نحن فيه صغرى للبحث السابق أعني، ما ذكره (المحقق القمي) (قده) من عدم حجية الظواهر بالنسبة إلى غير من
قصد افهامه.
الثاني: دعوى كون مطالبه شامخة عالية عن سطح افهام عامة الناس، كيف ولا يصل إلى فهم كلمات الأوائل الا الأوحدي من الأفاضل مع
كونهم من البشر وكون كلماتهم مولودات أفكارهم الضعيفة فكيف بكلام خالق البشر، وهذا الوجه يرجع إلى الوجه الأول، غاية الأمر
انه ذكر فيه علة اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به.
الثالث: دعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه، للظاهر ولا أقل من احتمال شموله له لتشابه المتشابه واحتمال كون المراد به معنى
يشمل الظاهر.
الرابع: دعوى شمول الأخبار الناهية عن التفسير بالرأي لحمل الظواهر على معناها.
الخامس: دعوى العلم الاجمالي بطرو تخصيصات وتقييدات وتجوزات في ظواهر الكتاب، فلا يجوز العمل بالأصول اللفظية فيها لكون
كل من مواردها طرفا للعلم الاجمالي.
والجواب: اما عن الوجه الأول: فبان القرآن كما أشرنا إليه لم ينزل بنحو المعمى، بل نزل لبيان طرق صلاح الناس وهو بنفسه يدعو
الناس إلى التأمل فيه والتدبر في آياته وقد أثر آثارا عجيبة في المسلمين في صدر الاسلام وكان العمل به والاستدلال به مما جرت
عليه سيرة المسلمين، فإذا سمعوا مثلا قوله تعالى: (الله على الناس حج البيت) - الآية - فهموا المقصود منها من دون ان يحتاجوا إلى
مراجعة النبي صلى الله عليه وآله كيف وربما استدلوا بما هو أخفى من هذه الآية من دون ان يردعهم النبي صلى الله عليه وآله أو الأئمة
عليهم السلام وقد روى أن عليا عليه السلام لما خرج إلى صفين رأى جماعة
478

من المسلمين قد ضربوا الفسطاط خارجا من العسكرين، فسئل عن حالهم فقيل له هؤلاء يقولون انا لا نقاتل أهل القبلة حتى يثبت لنا بغي
أحدهما على الاخر إذ لم يثبت لنا جواز قتالهم الا حينئذ، حيث قال الله تعالى: (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فان
بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفي إلى أمر الله). فلما سمع علي عليه السلام هذه المقالة قال: هذا هو الفقه ولم
يردع مقالتهم، فهؤلاء وان قصروا في باب الإمامة، الا انهم حسب اعتقادهم في الإمامة من عدم وجوب إطاعة الامام الا فيما يوافق الكتاب
والسنة، انعزلوا عنه عليه السلام، فان نظرهم إلى الامام كالنظر إلى الخلفاء والسلاطين.
وكيف كان، فلم يصل إلينا مورد ردع فيه أحد من الأئمة عليهم السلام، أحدا من أصحابهم عن التمسك بالكتاب، بل كان من دأبهم
إرجاعهم إليه كما في مسألة المسح على المرارة ونحوها.
واما ردع (أبي حنيفة) و (قتادة) فإنما هو لأجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه من دون مراجعة إلى أهله ورفضهم أحد الثقلين و
الحجتين الذين تركهما النبي صلى الله عليه وآله حيث إن بنائهم كان على الاستدلال بالكتاب والسنة النبوية ثم القياس والاستحسان
بمقايسة الوقائع غير المنصوصة بأشباهها والحكم بالمناسبات والملاكات المظنونة، مع أن النبي صلى الله عليه وآله ترك لهم حجتين و
أوجب عليهم المراجعة والتمسك بهما معا، وهذا غير باب الإمامة والخلافة، فلو لم يدل خبر الثقلين على إمامة العترة فدلالته على حجية
قولهم في عرض ساير الحجج مما لا ينكر، وهم عليهم السلام لاطلاعهم على ملاكات الاحكام، كانوا عالمين بموارد التخصيص والتقييد
وغيرهما، كما استفادوا من عدم الجناح في آية التقصير، العزيمة مع وقوعه في مقام توهم الحظر، واستفادوا خروج كثير السفر مثلا
من الحكم من جهة كون الحكمة في القصر خروج المسافر بسفره عن حالته الطبيعية وانتفاء هذا المعنى في المكاري وغيره وغير ذلك.
وبالجملة، فردع أبي حنيفة وقتادة، كان لرفضهما إحدى الحجتين في مقام الافتاء والتفسير، والمراجعة إلى خصوص الكتاب، مع أن
مقيداته ومخصصاته ونواسخه وغيرها لا تعلم الا من قبلهم عليهم السلام ولا يختص ذلك بالكتاب، إذ لم يكن لهما العمل بالنسبة
النبوية أيضا قبل الفحص عن مخصصاتها ومقيداتها بالمراجعة إليهم عليهم السلام.
ويدل على ما ذكرنا، قوله عليه السلام لأبي حنيفة: (وتعرف الناسخ من المنسوخ) وقوله له:
479

(ما ورثك الله من كتابه حرفا) فان المراد بميراث الكتاب، ليس فهم ظواهره بل العلم به بتمامه ومعرفة ناسخه ومنسوخه ومخصصه و
مقيدة ونحو ذلك مما لا يجوز الافتاء على طبقه الا بعد معرفتها، وهذا شأن النبي صلى الله عليه وآله، والأئمة عليهم السلام فإنهم ورثوا
هذا المعنى من النبي صلى الله عليه وآله وصار قولهم حجة في عرض الكتاب ولم يرثه مثل أبي حنيفة وقتادة عنه صلى الله عليه وآله و
لذا قال لأبي حنيفة: (لقد ادعيت علما) وكان ردعهما لجلوسهما مجلسا عظيما، حيث جلسا مجلس الافتاء ليراجع إليهم الناس في جميع ما
يحتاجون إليه من الوظائف الدينية، مع اختصاص هذا بمن ورث الكتاب من النبي صلى الله عليه وآله ومن اقتبس من آثارهم وعرف
أحكامهم وروى أحاديثهم ونظر في حلالهم وحرامهم.
كيف ولو لم تكن هذه الأخبار ظاهرة فيما ذكرنا لوجب حملها عليه جمعا بينها وبين الأخبار الكثيرة الواردة في إرجاع الناس إلى
الكتاب وعرض الاخبار عليه.
وعن الوجه الثاني: فبان القرآن وان اشتمل على المطالب العالية ولكنه لما كان منزلا لهداية الناس وإرشادهم إلى ما فيه صلاحهم،
نزل على أسلوب عجيب، فيفيد هذه المطالب العالية لكل من عرف اللغة العربية، وهذا أحد وجوه إعجازه، وقياسه بكلمات الأوائل و
الفلاسفة، قياس مع الفارق، فان الفلاسفة لم يصنفوا كتبهم لعامة الناس ليستفيد منها كل أحد ولم يكونوا بصدد إصلاح عامة الناس و
هدايتهم وإرشادهم بل قصدوا بذلك بيان ما وصل إليه أفكارهم حتى يطلع عليها العارف باصطلاحاتهم.
هذا مضافا إلى أن سوق الكلام بنحو لا يفهمه الا الأوحدي ليس دليلا على شموخ المطلب بل يمكن ان يكون من ضعف المتكلم فان إنزال
المطالب العالية إلى مرتبة تناسب أذهان العامة أيضا ممكن.
ثم إن مطالب القرآن أيضا ليست بأجمعها عالية عن سطح أفكار الناس، فان منها ما يرجع إلى بيان الاحكام ومنها ما يرجع إلى
الانذارات والتبشيرات وهذان القسمان سهل التناول لكل أحد، ومنها ما يرجع إلى بيان الحقائق الكونية وهي مما لا يفهمه العامة أو لا
بل ينكشف بعضها بالتدريج وبمرور الأيام وازدياد علوم الناس وتجربياتهم وتكاملهم في الصناعات كما في كثير من المطالب،
كحركة الأرض وكرويتها ونحوها مما كانت مجهولة في عصر نزول القرآن، خصوصا للعرب حيث كانوا أبعد الناس من المدنية حتى أن
كتابة الخط بينهم كانت منحصرة في اشخاص مشارة بالبنان.
480

وبعض مطالبه مما يعجز عن إدراكها، افهام البشر كأكثر أحوال الآخرة وكيفية موجودات الجنة والنار، فهذه المطالب مما بينها القرآن
تحت الأستار بحيث يصل إليها من هو من أهلها ولعل المراد بالمتشابهات، الآيات المتضمنة لهذا السنخ من المطالب، فالتشابه امر نسبي
والنهي عن المراجعة إليها انما هو بالنسبة إلى من ليس سطح فكره مناسبا لسطح مطالبها.
وبعضها أيضا مما لا يفهمه الا من خوطب به كالرموز الواقعة في أوائل السور.
ثم إن ما تعرض من الآيات لبيان الحقائق الكونية أيضا، ليست أولا وبالذات بصدد بيانها فان المقصود من إنزال القرآن، إرشاد
البشرط فلا يتصدى لما لا يرتبط بالهداية والارشاد، فذكر الحقائق الكونية وآيات الآفاق والأنفس أيضا للارشاد والهداية و
الاستدلال بها على وجود خالقها.
وعن الوجه الثالث: فبالمنع عن كون الظاهر، من المتشابه ومنع كون المتشابه متشابها إذ المراد به ما يوجب الاشتباه وقد عرفت ان
المراد بمتشابهات القرآن الآيات الدالة على المطالب غير المسانخة لفهم العامة وليست آيات الاحكام من هذا القبيل.
وعن الوجه الرابع: فبان العلم الاجمالي انما حصل لنا بعد المراجعة إلى الاخبار والعثور فيها على التقييدات والتخصيصات وليس لنا مع
قطع النظر عن الاخبار الواصلة، علم بطرو التقييد والتخصيص لعموماته ومطلقاته، والعلم الحاصل بالمراجعة إلى الاخبار ينحل بنفس
المراجعة، ولو سلم حصول العلم بذلك من الخارج فبالمراجعة إلى الاخبار أيضا ينحل بنفس المراجعة، ولو سلم حصول العلم بذلك من
الخارج فبالمراجعة إلى الاخبار أيضا ينحل وليس غرضنا إثبات العمل بظواهر الكتاب من دون المراجعة إلى الاخبار، بل بعد الفحص
عن المقيدات والمخصصات والقرائن المتصلة والمنفصلة كما هو الشأن في العمل بالسنة النبوية وأخبار الأئمة عليهم السلام أيضا.
وعن الوجه الخامس: فبان التفسير لغة، كشف القناع ولا قناع للظاهر، ويدل على ذلك، تقييده في بعضها بالرأي فيدل على أن المنهي
عنه هو التوسل في فهم مقاصد القرآن باعمال الرأي والاستنباطات الظنية، ومنه حمل ظواهرها على أمور خيالية وهمية كما يشاهد من
بعض الصوفية مثل ان يقال: (وإذ قال إبراهيم) العقل (لإسماعيل) النفس ونحو ذلك.
الاستدلال بأخبار التحريف ونقده:
ثم إنه ربما يتوهم عدم حجية الكتاب من جهة وقوع التحريف فيه استنادا إلى الأخبار الكثيرة
481

الدالة عليه.
ويرد على ذلك، انه لو سلم وقوع التحريف فإنما هو في غير آيات الاحكام، كما تدل عليه الاخبار، فلا يضر بحجية آياتها، فان وقوع
الزيادة في القرآن معلوم العدم بلا شبهة وريب ويظهر ذلك لمن كان خبيرا بنظم القرآن وأسلوبه ووقوع النقص أو التبديل، لو سلم
فإنما هو فيما كان مربوطا بمناقب أهل البيت ومثالب أعدائهم.
وبالجملة، ف آيات الاحكام ليست طرفا للعلم الاجمالي بوقوع التحريف، ولو سلم فلا يضر بحجيتها أيضا لعدم تصور الحجية بمعنى
جواز الاحتجاج به بين المولى والعبد في غير آيات الاحكام فلا يكون أصالة الحجية فيها معارضة بغيرها.
اختلاف القراءات:
ثم إن القراءات المختلفة الواقعة في القرآن وان ادعى تواترها ولكنه ممنوع، وما هو المسلم جواز القراءة بإحدى القراءات السبع
المشهورة واما جواز الاستدلال فيما إذا اختلفت، بما يقتضيه قراءة خاصة فلا.
شبهة تحريف الكتاب ونقدها إجمالا:
ان مسألة تحريف القرآن من المسائل المهمة المحتاجة إلى تتبع واستقصاء كثير وليس من دأبنا الورود في مسألة بدون الاستقصاء و
المراجعة الجديدة وليس لنا فعلا مجال المراجعة فنؤخر بيان المسألة إلى وقت آخر ونقول هاهنا إجمالا:
ان وقوع التحريف فيه بعيد غاية البعد، فإنه من الواضحات، ان المسلمين كانوا يهتمون بحفظ القرآن وكان من أهم الأمور عندهم
حفظه وتلاوته وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله أخبار في ثواب تلاوة جميعه أو بعض سوره وفي بيان خواصها، وقد روى
حكاية قراءة (معاذ) حين إمامته، سورة البقرة في صلاته، فيظهر من ذلك أنه كان في زمن الرسول صلى الله عليه وآله منظمة مسورة
محفوظة للمسلمين فكيف يمكن وقوع التحريف فيه بمرآهم ومنظرهم مع كمال عنايتهم به بكثرتهم.
نعم لو كان القرآن مكتوبا في أوراق خاصة من دون ان يكون للمسلمين اطلاع تفصيلي عليه لامكن تضييعه.
482

هذا مع أنه ورد في الخطب والروايات لا سيما خطب نهج البلاغة، التحريض والترغيب على العمل بالقرآن وحفظه وتعظيمه وبيان
شأنه فلو كان محرفا لما صدرت عنهم هذه الأخبار الكثيرة في شأنه.
واما الأخبار الواردة في تحريفها، فهي وان كانت كثيرة من قبل الفريقين ولكنه يظهر للمتتبع ان أكثرها بحيث يقرب ثلثيها مروية
عن كتاب (أحمد بن محمد السياري) من كتاب (آل طاهر) وضعف مذهبه وفساد عقيدته معلوم عند من كان مطلعا على أحوال الرجال.
وكثير منها - يقرب الربع - مروي عن تفسير (فرات بن إبراهيم الكوفي) وهو أيضا مثل (السياري) في فساد العقيدة، هذا مع أن
أكثرها محذوف الواسطة أو مبهمها.
وكثير منها معلوم الكذب، مثل ما ورد من كون اسم علي عليه السلام مصرحا به في آية التبليغ وغيرها، إذ لو كان مصرحا به لكان
يحتج به علي عليه السلام في احتجاجاته مع غيره في باب الإمامة، ومثل ما ورد في قوله: (يا ليتني كنت ترابا) انه كان في الأصل
(ترابيا) ونحو ذلك مما يعلم بكذبها
. [1]
وبالجملة، فقد نقل كثير من العامة والخاصة روايات في مقام تنزيه أئمتهم وتجليلهم وبيان مثالب أعدائهم وضيعوا بذلك القرآن، فمما
رواه العامة، روايات دالة على أن عمر، جاء عند أبي بكر في زمن خلافته وقال: ان سبعين من قرأ القرآن قتلوا في غزوة يمامة فيخاف
على القرآن ان يضمحل، فلعلك أمرت بجمعه وترتيبه حتى لا يضيع فأبى أبو بكر أولا، معتذرا بعدم الاقدام على ما لم يقدم عليه النبي
صلى الله عليه وآله ثم رضى بذلك، فأمر زيد بن ثابت بجمع القرآن وقال له كل من ادعى ان عنده آية، فطالبه بشهيدين عدلين واقبل
منه، فجمع زيد القرآن بهذا الترتيب، وقد جمع هذه الأخبار، السيوطي في تفسيره وكان غرض العامة في نقل هذه الروايات، بيان فضل
أبي بكر وعمر وكمال خدمتهما بالاسلام، ومن قبلهم ألقى هذه الروايات في الخاصة وقد فرط العامة في نقل هذه الروايات التي بها
تهدم عظمة القرآن، إعظاما لامر الخليفتين كما أفرط الخاصة في نقل الروايات الدالة على أن عليا جمع القرآن وأتى به إلى الناس فقالوا:
[1]
ومثل ما ورد من كون المنافقين، مذكورين بأسمائهم وهل يحتمل أحد ان النبي كان يقرأ سورة المنافقين في صلاة الجمعة مصرحا
باسم أبي بكر وعمر وغيرهما مع كونهم مقتدين به، فهذه الروايات تحمل على كون ما ذكر فيها مقصودا بالآية وتفسيرا لها، فافهم ح
- ع - م.
483

لا نحتاج إلى كتابك فقال: فاذن لا ترونه إلى زمن المهدي عليه السلام.
والعامة أيضا نقلوا هذه الروايات أيضا ولكن لا بنحو يستفاد منها إنكار علي عليه السلام لخلافة أبي بكر بل بنحو يستفاد منها عدم
إنكاره لها، وان لزومه البيت كان لجمع القرآن لا لانكاره خلافة أبي بكر. والشيعة رووها بنحو يستفاد منها عدم رضايته بخلافته و
إنكاره لها.
و بالجملة، فوقوع التحريف في القرآن مما لا يمكن ان يلتزم به من راجع إلى كتب التاريخ المضبوط فيها مقدار عناية المسلمين في
صدر الاسلام بالقرآن وقد عرفت أيضا انه لو سلم فإنما يكون بالنقيصة أو بالتقديم والتأخير في مقام الجمع واما الزيادة فلا تحتمل
أصلا كما يعرف ذلك بالدقة في نسقه وأسلوبه ولو زيد في ضمن كلام آدمي، كلام من غيره لأطلع عليه من كان له بصيرة بسنخ كلامه،
فكيف بكلام من يكون سنخ كلامه مباينا لكلام غيره ويعجز غيره عن الاتيان بمثله، قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا).
ثم إنه مما استدل به على عدم التحريف، قوله (انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون) فإنه قد تكرر في الآية ضمير المتكلم مع الغير و
وقعت فيها وجوه من التأكيد إعظاما للمطلب، فيعلم من ذلك عظمة المقصود فيكون معناها، انا بقدرتنا الكاملة نحفظه عن الضياع و
المراد من التنزيل، إنزاله تدريجا في مقابل الانزال دفعة ولذا قال تعالى في آية أخرى: (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه و
أنزل التورية والإنجيل).
وأجيب عن هذا الاستدلال أولا: بان المراد (بالذكر)، النبي كما في اية أخرى، حيث قال فيها: (ذكرا، رسولا).
وثانيا: بان المراد، حفظه من أن تتطرق إليه شبهات المشككين.
وثالثا: بان المراد، حفظه عند الامام.
ورابعا: بالنقض بما ورد من تضييع الوليد له، بالرمي.
ويرد على الأول: ان لفظ التنزيل لا يناسب كون المراد بالذكر هو الرسول لما عرفت من كون
484

المراد بالتنزيل الانزال تدريجا، ولو قيل بكون المراد بالذكر، القرآن ورجوع الضمير مع ذلك إلى الرسول فقد خرجنا بذلك عن
سياق الآية.
وعلى الثاني: ان القول بالتحريف، مضيع لاصله فهو سواء حالا من التشكيك المشككين وتطرقه إليه.
وعلى الثالث: ان الظاهر من الآية، حفظه بما هو ذكر يتذكر به الناس، فتدل الآية على حفظه بحيث يكون بيد الناس ويمكنهم ان
يتذكروا به.
وعلى الرابع: ان المراد، بقائه بنوعه بين الناس، لا بقاء كل فرد منه فتدبر.
485

الفصل الرابع:
حجية الخبر
(الشيخ) (قده) وان ذكر مسألة حجية الشهرة والاجماع المنقول، قبل هذه المسألة ولكن لكمال ارتباطهما بها وتفرعهما عليها
نؤخرهما ونقدم بحث حجية الخبر، فنقول:
الخبر هو الكلام الحاكي عن تحقق مضمونه في الواقع في قبال الانشاء الذي هو بنفسه وسيلة لايجاد مضمونه من دون ان يكون له واقع
يطابقه أو لا يطابقه.
وبعبارة أخرى: الخبر هو القول الذي يحتمل الصدق والكذب.
أقسام الخبر:
1 - الخبر المتواتر
انهم قسموا الخبر إلى المتواتر وغيره وسموا غير المتواتر بالواحد فالمتواتر عبارة عن اخبار جماعة بلغوا في الكثرة حدا يمتنع عادة
تواطؤهم على الكذب عمدا أو خطأ، فهو خبر يوجب بنفسه العلم بالواقع.
وقسمه القدماء إلى اللفظي والمعنوي وزاد المتأخرون قسما اخر، سموه تواترا إجماليا.
والظاهر أن الاجمالي ليس قسيما للفظي والمعنوي لاختصاصهما بما إذا كان المخبر به قول شخص واما الاجمالي فيعم ما إذا كان
المخبر به غيره.
فالأولى في مقام التقسيم ان يقال: التواتر اما تفصيلي أو إجمالي، فالتفصيلي عبارة عن اخبار الجماعة عن واقعة واحدة بحيث يكون
المخبر به في جميع الاخبارات، واقعة واحدة وامر مخصوص شخصي.
والاجمالي عبارة عن اخبار كل واحد من الجماعة عن واقعة مخصوصة غير الوقائع التي
486

أخبر بها الآخرون بحيث يكون وقوع كل منها مشكوكا، ولكن يعلم إجمالا بوقوع واحدة منها فيؤخذ بمدلول تضمني أو التزامي يدل
عليه الجميع، كشجاعة علي عليه السلام المستفاد إجمالا من الاخبارات المربوطة بغزواته، فان بعضها يرتبط بواقعة خيبر وبعضها
بواقعة أحد وبعضها بواقعة بدر.
ثم إن كلا من التفصيلي والاجمالي ينقسم إلى قسمين:
الأول: ما إذا كان المخبر به للجماعة والمحكي لاخباراتهم قول شخص.
الثاني: ما إذا كان المخبر به، غير القول من الوقائع الأخرى.
ثم إن القسم الأول من التفصيلي
[1]
ينقسم إلى قسمين: اللفظي والمعنوي.
فالأول: ما إذا كان منقول أعني قول الشخص منقولا بألفاظه.
والثاني: ما إذا كان منقولا بألفاظ أخرى فيكون المنقول للجماعة معنى هذا القول الشخصي.
فاللفظي والمعنوي قسمان لقسم من التفصيلي الذي هو في مقابل الاجمالي.
2 - الخبر الواحد
والخبر الواحد أيضا على قسمين: مستفيض وغير مستفيض.
فالأول: عبارة عما إذا كان المخبرون ثلاثة أو أزيد كما في بعض التفاسير، أو أزيد من ثلاثة كما فسره آخرون. وربما يجعل التقسيم
ثلاثيا، فيقسم الخبر أولا إلى المتواتر والمستفيض والواحد ولا مشاحة في الاصطلاح.
ثم إنه ربما يقال، بإفادة مطلق الخبر الواحد للقطع وخص ذلك بعضهم باخبار (الكافي) وزاد بعضهم اخبار (الفقيه) واخر، اخبار
(التهذيب) و (الاستبصار) وهذا السنخ من الأقوال لا ينبغي ان يصدر من العاقل، وكان (أحمد بن حنبل) من العامة أيضا قائلا بإفادة
مطلق الخبر القطع، وكان رجلا وجيها عند العامة لكمال تقدسه وتزهده، واما غير هؤلاء فالمشهور بينهم من العامة والخاصة، قائلون
بحجية الخبر والمتتبع في كتب فتاوى العامة يظهر له ان بنائهم كان على الاعتماد بالخبر في فقههم وقد نسب العامة عدم الحجية إلى
(الخوارج).
[1]
الظاهر جريان القسمين في القسم الأول من الاجمالي أيضا ح - ع - م.
487

أدلة المنكرين لحجية الخبر الواحد والمناقشة فيها:
واما الخاصة: فالمتكلمون منهم قالوا بعدم الحجية وقد استفاض عنهم ان اخبار الآحاد لا تفيد علما ولا عملا، وادعى (المرتضى) عليه
الاجماع والشيخ (قده) ادعى الاجماع على الحجية مع أنه كان تلميذا له في سنين متعددة، فمن هنا تعسر الجمع بين هذين الاجماعين. ولا
ريب ان المشهور بين أصحابنا، سلفا وخلفا هو العمل به ولا إشكال في أن مقتضى الأصل عدم حجيته كما مر في مقام تأسيس الأصل في
المسألة، الا ان يدل دليل قطعي على الحجية فعدم الحجية لا يحتاج إلى دليل يثبته وانما المحتاج إليه هو القول بالحجية.
ولكنه مع ذلك، استدل للعدم، بالآيات الناهية عن متابعة غير العلم كقوله تعالى: (لا تقف ما ليس لك به علم) وغيره وبالاخبار
الكثيرة المتواترة إجمالا وهي طوائف:
منها ما دل على رد كل خبر (لم يكن على وفقه شاهد أو شاهدان من كتاب الله) وقد ورد بعض هذا القسم في باب الخبرين المتعارضين
وبعضه في مطلق الخبر.
ومنها: ما دل على رد خبر (لم يوافق كتاب الله).
ومنها: ما دل على رد (ما خالفه).
ومنها: غير ذلك.
أقول: والجواب اما عن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم، فبان القائل بالحجية ان أقام عليها دليلا قطعيا موجبا للقطع بحجيته فلا
يكون متابعته والعمل به حينئذ عملا بغير العلم، بل هو متابعة للعلم فيكون دليل الحجية واردا على الآيات الناهية.
وان لم يقم عليها دليلا قطعيا فيكون عدم الحجية ثابتا بمقتضى الأصل ولا نحتاج إلى دليل يثبته. ويظهر من الشيخ (قده) ان تقدم أدلة
الحجية على الآيات الناهية، بالتخصص ولكن الظاهر ما عرفت من كونه بنحو الورود.
ويمكن تقريب ذلك بوجهين: الأول: ان المراد بالعلم في الآيات القرآنية ليس خصوص القطع بل مطلق الدليل والحجة العقلائية التي
يعتمد عليها عند العقلا والشاهد على ذلك قوله
488

مخاطبا للكفار (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو إثارة من علم أن كنتم صادقين). وقوله: (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ان
تتبعون الا الظن). وغير ذلك من الآيات، فان المراد بالعلم في الآيتين، مدارك مأثورة واصلة إليهم من الاسلاف لا القطع كما لا يخفى،
فالمراد بالعلم هو الحجة العقلائية.
الثاني: ان خبر (زرارة) مثلا إذا حكى عن حرمة شي مثلا فالحكم الظاهري في حق المكلف بعد ما قام الدليل على وجوب الاخذ بالخبر
ليس هو محكي الخبر، بل ما دل عليه لسان دليل الحجية وهو وجوب الاخذ والعمل بالخبر والمكلف يعمل به لا بما انه خبر (زرارة)، بل
بما انه حجة قام الدليل القطعي على حجيته، فمتابعته متابعة للعلم لا لغيره.
وبعبارة أخرى، الآيات الناهية قد دلت على حرمة متابعة غير العلم وحينئذ، فإن لم يقم لنا دليل علمي على حجية الخبر لم نعمل به ولم
نتابعه، وان قام على حجيته دليل علمي فعلمنا بالخبر، ليس بما انه خبر، بل بما انه معلوم الحجية، ففي الحقيقة تكون متابعتنا متابعة
لدليل الحجية فلا تشملها الآيات الناهية ويكون دليل الحجية واردا عليها.
والفرق بين التخصص والورود، بعد اشتراكهما في كون الخروج خروجا حقيقيا عن موضوع الحكم، ان الخروج في التخصص ثابت مع
قطع النظر عن حكم الشارع أيضا كما في خروج زيد الجاهل المنهي إكرامه، عن عموم إكرام العلماء، فان زيدا كان خارجا عن العموم
حقيقة مع قطع النظر عن الحكم بحرمة إكرامه أيضا، واما الخروج في الورود، فإنما هو بمعونة حكم الشارع وإن كان الخروج حقيقيا،
كما فيما نحن فيه، فإنه لو لم يكن الحكم بوجوب متابعة الخبر ثابتا لما كان متابعته خارجة عن عموم الآيات الناهية ولكنه بعد ما ورد
دليل قطعي على وجوب متابعته صار متابعته من حيث إنه متابعة لدليل الحجية، خارجة عن العموم حقيقة.
واما الاخبار، فأكثرها ناظرة إلى رد الاخبار المدسوسة في اخبارهم عليهم السلام فان كثيرا من المخالفين ومن ضعفة الشيعة و
عوامهم، قد دسوا في اخبار الأئمة عليهم السلام وكان غرض المخالفين إفضاح الأئمة عليهم السلام، فلذلك كانوا يجعلون اخبارا مخالفة
للكتاب والسنة أو العقل وينسبونها إليهم عليهم السلام، فإذا قطعنا النظر عن هذا القسم منها صار غيره نازلا عن حد التواتر، فلا يقاوم
أدلة الحجية،
489

لو فرض حصول القطع بها لما عرفت من أن القول بالحجية يحتاج إلى دليل يثبتها بنحو القطع.
هذا مضافا إلى أنه يرد على ذلك، ان المدعى إذا كان عدم حجية الخبر الواحد فكيف يثبت بالخبر الواحد؟ اللهم الا ان يقلب الدليل فيقال
لو كان المدعى حجية الخبر الواحد لزمت منه حجية هذه الأخبار أيضا والفرض انها تنفي الحجية فيلزم من وجودها عدمها.
وبعبارة أخرى: اما ان يسلم عدم الحجية فهو المطلوب أو يقال بالحجية فيلزم من وجودها عدمها وما يلزم من وجودها عدمها باطل
فافهم.
أدلة حجية الخبر الواحد:
والعمدة في المقام بيان أدلة الحجية وقد استدل لها بالأدلة الأربعة: (الكتاب والسنة والاجماع والعقل)
اما الكتاب فب آيتين منه:
1 - آية النبأ
قال تعالى في سورة الحجرات: (ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).
والاستدلال بها تارة بمفهوم الشرط وأخرى بمفهوم الوصف.
اما الأول:
فتقريبه على ما ذكروه ان الشارع لم يحكم برد خبر الفاسق مطلقا بل أوجب تبينه والعمل به على فرض الصدق وطرحه على فرض
الكذب ومفهوم الآية، انه ان لم يجئكم الفاسق بالنبأ، فلا يجب التبين، فاما ان يقال حينئذ بطرح الخبر المأتي به من غير تبين، واما ان
يقال بوجوب الاخذ من غير تبين، والأول باطل لاستلزامه كون العادل أسوأ حالا من الفاسق، فتعين الثاني.
هذا ولكن لا يخفى ان وجوب التبين شرطي لا نفسي فالجزاء بحسب الحقيقة: هو حرمة العمل بغير تبين واشتراطه بالتبين، فيصير
مفاد الآية انه ان جاءكم الفاسق بنبأ فالعمل به مشروط بالتبين ومفهومه، ان غيره لا يجب التبين فيه عند العمل ولا يحرم العمل بدونه،
490

فلا نحتاج في مقام الاستدلال إلى ضم المقدمة التي ذكروها من أن طرح خبره بدون التبين يستلزم كونه أسوأ حالا.
واما التقريب الثاني:
فهو الاستدلال بمفهوم الوصف بتقريب ان تعليق الحكم على وصف يدل على دخالته فيه وسيجئ توضيحه.
ولا يخفى ان التقريب الأول مما لا مجال له في المقام فان الشرط هنا لبيان تحقق الموضوع، فلا مفهوم له يجدى في المقام.
فلنذكر مقدمتين لتوضيح المطلب:
الأولى: قد عرفت منا في باب المفاهيم، ان كيفية استفادة المفهوم عند القدماء تباين كيفيتها عند المتأخرين، فان المتأخرين أرادوا
استفادة المفهوم من الجملة الشرطية مثلا، من جهة استظهار العلية المنحصرة، ولذلك جعلوا مفهوم الشرط، أقوى من مفهوم الوصف، من
جهة كون ظهورها في العلية أقوى واما المتقدمون من العامة والخاصة، فسنخ الدلالة المفهومية عندهم سنخ يباين كيفية الدلالة
المنطوقية، فالدلالة المنطوقية دلالة اللفظ بما هو لفظ موضوع وهي التي تنقسم إلى المطابقة والتضمن والالتزام واما الدلالة المفهومية
فهي دلالة التكلم بما هو فعل من الافعال، من جهة ان صدور الفعل عن الفاعل المختار يحمل عند العقلا على أنه لم يصدر عنه لغوا، بل
صدر عنه لغرض وغاية، ومن الافعال التي تصدر عنه، هو التكلم فيجب ان يحمل على كونه لفائدة. وكما أن التكلم بمجموع الكلام
يحمل على ذلك، فكذلك، التكلم باجزائه، فكل قيد وقع في كلام المتكلم يحمل على عدم وقوعه لغوا وكونه لفائدة منظورة وهذا من
غير فرق بين ان يكون القيد شرطا أو وصفا أو غيرهما إذ الملاك في ذلك هو الاحتراز عن اللغوية وهذا الملاك مشترك في جميع
القيود.
وبالجملة، فسنخ الدلالة المفهومية يغاير الدلالة المنطوقية بأقسامها الثلاثة، فان المنطوقية دلالة اللفظ بما هو لفظ موضوع والمفهومية
دلالة التكلم بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار، ولا فرق على مشرب القدماء بين القيود من الشرط وغيره، فالقيد المذكور في
الكلام يحمل على الفائدة، وفائدته الغالبة دخالته في موضوع الحكم وعدم كون الموضوع تمام الموضوع.
واما عند المتأخرين فالدلالة المفهومية أيضا دلالة اللفظ من جهة الدلالة على العلية المنحصرة فيفرق بين الشرط وغيره.
المقدمة الثانية: الجملات الشرطية على قسمين:
491

الأول: ما ذكر لبيان الموضوع، بمعنى ان الموضوع للحكم ليس امرا وراء الشرط حتى يكون الشرط قيدا له بل الموضوع بنفسه قد عبر
عنه بالجملة الشرطية كقوله: (ان رزقت ولدا فاختنه) فمال هذه القضية إلى قضية حملية، هو قولنا: (الولد يجب ختانه) إذ لو عبر بهذا
النحو أيضا كان مقتضاه تحقق الحكم عند تحقق الولد، فان الحكم يتوقف على ثبوت موضوعه وقد ذكر في محله ان القضايا الحقيقية
ترجع إلى قضايا شرطية، فالشرط في هذا القسم من الشرطيات ليس من قيود الموضوع، بل هو بنفسه متكفل لبيان الموضوع.
الثاني: ما ذكر لبيان قيد دخيل في ثبوت الحكم للموضوع، فلا محالة يكون مع قطع النظر عن الشرط، موضوع مفروض الوجود، كقوله:
(الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شي)، فالماء في المثال امر مفروض الوجود وهو الموضوع للعاصمية، غاية الأمر دخالة الكرية في
ثبوت هذا الحكم لموضوعه.
ولا يخفى ان الشرط في القسم الأول لا مفهوم له ولا يدل على العدم عند العدم الا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع. وان شئت قلت: ان
المفهوم حينئذ، أشبه شي بمفهوم اللقب فان مال قولنا: (ان رزقت ولدا فاختنه) إلى قولنا: (الولد يجب ختانه) كما مر. واما في القسم
الثاني، فيثبت المفهوم إذ الفرض كون الموضوع امرا اخر وراء الشرط، فالتقييد بالشرط يجب ان يكون لفائدة وقد عرفت ان فائدة
القيد دخالته في الموضوعية وعدم كون الموضوع لفظا تمام الموضوع.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: ان الشرط في الآية الشريفة، مسوق لبيان تحقق الموضوع فمال الآية إلى أن خبر الفاسق يحرم العمل به
بدون التبين ولا محالة يكون الحكم تابعا لثبوت موضوعه ومعنى قوله تعالى: (ان جاءكم فاسق بنبأ) انه ان وجد خبر الفاسق فلا تعملوا
به بدون التبين فلا مجال للاستدلال بمفهوم الشرط على حجية خبر العادل ولو كان النبأ مفروض الوجود وأريد تقسيمه باعتبار
الجائي به وتخصيص الحرمة بقسم منه لكان اللازم ان يعبر بغير عبارة الآية فان التعبير الوارد فيها ظاهر في كونه لبيان تحقق
الموضوع، فالذي يمكن ان يستدل به في الآية، هو مفهوم الوصف، فان حيثية الخبر الواحد لو كانت مقتضية لحرمة العمل لكان ذكر كلمة
الفاسق لغوا فذكره يدل على دخالته في ثبوت الحكم أعني حرمة العمل بدون التبين ووجوب التبين عند العمل. فافهم.
492

الاشكالات الواردة على الاستدلال ب آية النبأ ونقدها:
ان جمعا من القوم كالشيخ في العدة وغيره استشكلوا على الاستدلال بالآية بما حاصله:
ان الحكم بحرمة التبين معلل في الآية بقوله تعالى: (ان تصيبوا قوما بجهالة) والعلة مشتركة بين خبر الفاسق والعادل، وقد حقق في
محله ان العلة مخصصة ومعممة ويكون ظاهر التعليل بها دوران الحكم مدارها.
فان قلت: فعلى هذا يصير التقييد بالفسق لغوا.
قلت: قد وقع ذلك لنكتة أخرى ولعله للتنبيه على فسق (الوليد)، فان الآية نزلت حين ما بعث (الوليد) إلى بنى المصطلق لجميع الصدقات
منهم فاستقبلوه احتراما، فرجع وأخبر بامتناعهم عن الصدقة لعداوة سابقة بينه وبينهم وكان غرضه تهييج المسلمين لقتالهم. انتهى.
وأجيب عنه: بان المراد بالجهالة هو السفاهة لا عدم العلم ولا سفاهة في العمل بخبر العادل.
ويرد عليه أولا: انه لا وجه لصرف الكلمة عن معناها اللغوي.
وثانيا: بان احتمال كون المراد بالجهالة، عدم العلم يكفي لعدم صحة الاستدلال.
وربما يتوهم ان المفهوم خاص بالنسبة إلى عموم التعليل فيختص به.
ويرد عليه أولا: ان المدعى في المقام، عدم انعقاد ظهور للكلام في المفهوم مع اقتران الحكم بعلة هي أعم من الموضوع.
وثانيا: ان تقديم الخاص على العام، من جهة كونه أظهر منه، فإذا فرض عدم كونه أظهر منه كما في المقام فلا مجال لتقديمه.
نعم يمكن ان يقال في مقام الجواب عن الاشكال، بان العلة أيضا معللة بقوله تعالى:
(فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) فالاعتبار بحصول الندامة من جهة العمل وعدمه والعمل بالحجة الشرعية مما لا تترتب عليه الندامة فلا
مانع من الاخذ بالمفهوم فتستفاد منه حجية قول العادل ولا تترتب على العمل به ندامة.
هذا، ولكنه يرد على ذلك، ان المراد بالندامة إن كان هي الندامة الأخروية كما في قوله تعالى: (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) فلما
ذكرت وجه من جهة ان الندامة الأخروية تابعة للحرمة
493

الشرعية فيرتفع موضوعها بجعل خبر العادل جائز العمل، واما إذا كان المراد بها الندامة الدنيوية الحاصلة بسبب كشف الخطأ في
إصابة القوم فيشترك فيها خبر الفاسق وغيره وإن كان حجة، بل لو فرض كون المراد بها هي الأخروية أمكن ان يقال أيضا
باشتراكهما فيها إذ الندامة لم تترتب في الآية أو لا على العمل بالخبر، بل على إصابة القوم بجهالة فيظهر منه ان الملاك في حصول
الندامة ولو كانت أخروية، هو إصابة القوم بجهالة وهذا المعنى يشترك فيه خبر العادل وغيره.
وربما يقال في جواب أصل الاشكال بان للمفهوم حكومة على عموم التعليل، إذ العلة هي إصابة القوم بجهالة والمفهوم يدل على كون
خبر العادل علما تشريعا، بمعنى ان الشارع جعله كالعلم في الكاشفية والوسطية في الاثبات فيخرج العمل به عن كونه عملا بغير العلم.
ويرد عليه: انه لو سلم ذلك ولو في الدليل الواحد، فإنما هو فيما إذا كان للحاكم لسان ناظر إلى المحكوم والمفهوم لا لسان له حتى
يكون ناظرا وشارحا.
وبعبارة أخرى: يرد على ذلك أولا: ان ما ذكرت انما يتمشى فيما إذا كان المفهوم في دليل والعموم في دليل آخر واما إذا كانا في
دليل واحد فلا يكون للفظ ظهور في المفهوم.
وثانيا: ان المفهوم لا لسان له حتى يكون شارحا ومفسرا.
واما ما يرى في بعض الكلمات من أن ذكر القيد مقتض للمفهوم فيؤخذ بمقتضاه ما لم يثبت المانع، ففساده أظهر من الشمس.
ولكنه لقائل ان يقول: ان تعليق الحكم على قيد خاص ثم تعليله بعلة تشمل صورة تحقق القيد وعدمه امر مستهجن عند العقلا كمال
الاستهجان، حيث يلزم منه وقوع ذكر القيد لغوا وبلا جهة، فيجب ان يحمل التعليل الوارد في الآية الشريفة بحيث لا يشمل صورة فقد
القيد.
وحينئذ فيمكن ان يقال، ان خبر الفاسق يحتمل فيه كل من الكذب والخطأ واما خبر العادل فلا يحتمل فيه الكذب، واحتمال الخطأ أيضا
ليس مما يصرف العقلا عن العمل بالخبر حيث لا يعتنون به فيحصل لهم من خبر العادل كمال الاطمئنان والوثوق بخلاف الفاسق، فهذا
هو الفارق بينهما ويوجب ذلك عدم شمول التعليل لخبر العادل أصلا، حيث لا يرى العقلا أنفسهم جاهلين بعد قيام خبر العادل الموثوق
به الموجب للاطمئنان.
الاشكال على الاستدلال بمطلق الأدلة ونقده:
ثم إنه، ربما يستشكل على الاستدلال ب آية النبأ بل بمطلق الأدلة، بعدم شمولها للاخبار المشتملة على الوسائط. وتقرير هذا الاشكال
بوجوه:
494

الأول: ان إطلاقات أدلة حجية الخبر تنصرف عن الأخبار المشتملة على الوسائط.
وفيه ان الخبر المشتمل على الوسائط ينحل إلى إخبارات متعددة مستقلة، لكل منها حكمه فإخبار (الشيخ) مثلا عن اخبار (المفيد)
مصداق مستقل، واخبار (المفيد) عن اخبار (الصدوق) مثلا مصداق آخر وهكذا إلى الامام، فليس الخبر على قسمين خبر بلا واسطة و
خبر مع الواسطة حتى يدعى انصراف الاطلاقات عن الفرد الثاني، فان ما يطلق عليه انه خبر مع الواسطة ليس بحسب الحقيقة مصداقا
واحدا لطبيعة الخبر بل مصاديق متعددة.
الثاني: ان في قولنا: روى الشيخ عن المفيد عن الصدوق مثلا، اخبار الشيخ لنا محرز بالوجدان فتشمله آية النبأ واما اخبار المفيد وغيره
إلى الإمام عليه السلام فليس بمحرز حتى تشمله الآية.
فان قلت: بعد حجية اخبار الشيخ يصير اخبار المفيد محرزا بالتعبد، إذ ما أخبر به الشيخ عبارة عن اخبار المفيد.
قلت: فعلى هذا يلزم الدور فان الموضوع مقدم على حكمه والفرض فيما نحن فيه توقف الموضوع على الحكم. وبعبارة واضحة: فعلية
قوله: صدق العادل مثلا، تتوقف على تحقق موضوعه وهو اخبار المفيد والفرض توقف ذلك أيضا على فعلية الحكم وشموله لخبر
الشيخ.
والجواب عن ذلك بوجهين: الأول: ان قوله (صدق)، ينحل إلى أحكام متعددة بعدد الموضوعات، وعلى هذا فالموقوف على اخبار
المفيد، غير ما توقف عليه إحراز اخبار المفيد.
الثاني: ان اخبار المفيد ليس بوجوده الخارجي متوقفا على شمول (صدق) لقول الشيخ وانما يتوقف عليه إحرازه والعلم به فما هو
المتوقف على قوله (صدق) هو اخبار المفيد بوجوده العلمي وما يتوقف عليه الحكم هو الموضوع أعني اخبار المفيد بوجوده الخارجي
فلا دور. الثالث: من وجوه الاشكال، ان التعبد بوجوب العمل على وفق الامارة، انما يصح فيما إذا كان مؤداها بنفسه حكما شرعيا عمليا
أو موضوعا ذا حكم كذلك، وهذا واضح، وعلى هذا فشمول قوله: (صدق) لاخبار الشيخ يتوقف على كون ما أخبر به الشيخ أعني به
اخبار المفيد ذا أثر شرعي والفرض انه لا أثر لاخبار المفيد الا نفس وجوب التصديق، فيلزم الدور، لان قوله:
صدق يتوقف على كون المخبر به ذا أثر وكونه كذلك يتوقف على قوله: (صدق).
والجواب عنه، يظهر بما عرفت من انحلال قوله: (صدق) بعدد الموضوعات.
الرابع: ولعله أصعب الوجوه ان شمول (صدق) لاخبار المفيد يتوقف على إحراز خبر المفيد توقف الحكم على موضوعه وإحراز خبر
المفيد يتوقف على شمول قوله: (صدق) لاخبار الشيخ،
495

لما عرفت من أن خبر المفيد محرز بالتعبد لا بالوجدان والفرض ان شمول قوله: (صدق) لاخبار الشيخ أيضا يتوقف على شموله لاخبار
المفيد، إذ لو لم يشمل لاخبار المفيد لم يكن التعبد باخبار الشيخ باعتبار أثر شرعي وهذا دور ظاهر، إذ لزم مما ذكرنا، توقف صدق
المفيد على قوله: صدق الشيخ وتوقف قوله صدق الشيخ على قوله صدق المفيد.
والجواب عن هذا الاشكال أيضا، يظهر من خلال ما بيناه، فان شمول قوله: (صدق) لاخبار المفيد لا يتوقف على إحراز خبر المفيد بل
على نفس ثبوته واقعا وانما تتوقف على إحرازه، فعليته لا شموله بحسب الواقع وبعبارة أخرى: كما أن مرتبة الحكم الواقعي قبل مرتبة
الحكم الظاهري غاية الأمر ان تنجزه قد يكون بوسيلة الحكم الظاهري، فكذلك مرتبة وجوب التصديق الثابت لقول المفيد قبل مرتبة
وجوب التصديق الثابت لقول الشيخ فهو في ثبوته لا يتوقف عليه بل في فعليته وتنجزه.
والسر في ذلك، ان وجوب التصديق الثابت لقول المفيد بمنزلة الحكم الواقعي بالنسبة إلى وجوب التصديق الثابت لقول الشيخ وهكذا
وجوب التصديق الثابت لقول الصدوق بمنزلة الحكم الواقعي لوجوب التصديق الثابت لقول المفيد، حيث إن التعبد به قد وقع بلحاظ هذا
الأثر كما هو المفروض.
ويمكن ان يقال في جواب الاشكال، بأنه يكفي في الأثر، انتهاء كل من الاخبار بالآخرة إلى أثر شرعي، وفيما نحن فيه كذلك فان
تصديق كل من الاخبار مما له دخالة في ثبوت قول الإمام، فتأمل.
الاشكال على الاستدلال بالآية بلزوم تخصيص المورد ونقده:
ومما يستشكل به أيضا على الاستدلال ب آية النبأ انه لو كان لها مفهوم لزم تخصيص المورد وهو امر مستهجن.
بيان ذلك: ان مورد الآية هو اخبار (الوليد) بارتداد بنى المصطلق وهو من الموضوعات الخارجية ولا يثبت الموضوعات ولا سيما
الارتداد بالخبر الواحد وإن كان عادلا لوضوح عدم ثبوتها بأقل من اثنين، فلو كان للآية مفهوم يدل على حجية قول العادل لزم
تخصيصه بإخراج المورد أعني الخبر بالارتداد.
وقد أجاب الشيخ عن هذا الاشكال، بما يرجع إلى وجهين:
الأول: ان غاية ما يلزم في المقام، هو تقييد المفهوم لا تخصيصه، فان المفهوم من الآية حجية خبر كل عادل وحينئذ فان أخرجنا منه فردا
والتزمنا بعدم حجيته لزم التخصيص، ولكن نحن
496

لا نقول بذلك، بل نلتزم بحجية جميع الأخبار، غاية الأمر انها بالنسبة إلى الموضوعات الخارجية يتقيد ببعض الحالات وهي صورة
اشتراط التعدد، فكل خبر يكون حجة في الموضوعات بشرط تعدده وانضمامه إلى خبر اخر.
الثاني: انه لو سلم التخصيص بالنسبة إلى المفهوم، فلا يلزم أيضا ما ذكرت من تخصيص المورد لان المورد، مورد لعموم المنطوق لا
المفهوم.
وبعبارة أخرى: بناء على ثبوت المفهوم، يكون هنا عمومان: أحدهما عموم المنطوق الدال على عدم حجية اخبار الفاسق، وثانيهما عموم
المفهوم المقتضى لحجية اخبار العادل ومورد الآية هو اخبار الوليد الفاسق بالارتداد، وهو مورد للمنطوق، والتخصيص بالنسبة إلى
الموضوعات الخارجية، انما هو في عموم المفهوم، فما يكون المورد موردا له، لم يقع عليه التخصيص وما وقع عليه التخصيص ليس
المورد موردا له.
ولو أبيت عن كون مورد الآية هو خصوص اخبار الفاسق بالارتداد وجعلت المورد عبارة عن الاخبار بالارتداد مطلقا حتى يكون
موردا لكلا العمومين أجبناك بالجواب الأول. هذا محصل ما ذكره الشيخ (قده) في المقام.
أقول: اما ما ذكره أولا، من كون اللازم في المقام هو التقييد لا التخصيص فيرد عليه، ان ما اعتبره الشارع حجة في الموضوعات، ليس
عبارة عن خبر العادل المقيد بكونه منضما إلى عادل آخر، إذ لازم ذلك، تحقق حجتين بتحققهما كما لا يخفى، بل الذي اعتبره حجة فيها،
هو مجموع العدلين بحيث يكون كل منهما جز من الحجة واعتبرهما الشارع بنحو الوحدة كما في سائر المركبات الاعتبارية، حيث
يلاحظ الاجزاء فيها بنظر الوحدة، وعلى هذا فلا يكون ما هو الحجة في باب الموضوعات مشمولا لمفهوم الآية أصلا فان مفهومها هو
حجية خبر العادل، والبينة ليست مصداقا له، فان الاثنان بما هما اثنان ليسا مصداقا للطبيعة وانما المصداق لها كل واحد منهما فزيد
مثلا إنسان وعمرو إنسان ولكن مجموعهما ليس مصداقا للانسان.
وبالجملة، فمقتضى مفهوم الآية حجية خبر العادل مطلقا حتى في الموضوعات، ولكن ثبت بالدليل خروجها، إذ الحجة فيها هي البينة و
ليست هي مصداقا للعادل، فمفهوم الآية مخصصة بالنسبة إلى الموضوعات، فافهم
. [1]
[1]
لقائل ان يقول إن كيفية أخذ المفهوم على طريقة الأستاذ مد ظله، هو استفادة الدخالة من القيد المذكور في الكلام بحيث يرتفع به
احتمال كون الحيثية المطلقة تمام الموضوع وذلك لا ينافي قيام قيد آخر مقام القيد
497

واما ما ذكره ثانيا، من كون المورد موردا للمنطوق لا للمفهوم، فلا حد ان يورد عليه أيضا بان المفهوم تابع للمنطوق في كل جهة لما
عرفت منا مفصلا من أن المفهوم يستفاد من كيفية التنطق ومن الخصوصيات المذكورة في مقام التكلم فليس المنطوق والمفهوم دليلين
مستقلين حتى يقال بان المستفاد منهما عمومان ولا يكون المورد لأحدهما موردا للاخر، بل المفهوم في السعة والضيق تابع للمنطوق
لكونه من شؤونه، وان شئت حقيقة الحال فارجع إلى ما بيناه في باب المفاهيم حيث كان أخذ المفهوم على طريقتنا مباينا لاخذه على
طريق القوم.
2 - آية النفر
قال الله تعالى في سورة البراءة: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا
قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).
وقبل بيان وجوه الاستدلال بالآية نشير إلى ما قالوا في تفسيرها. لا يخفى ان سورة البراءة وان كانت أكثر آياته في مقام عتاب
المشركين حيث نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وتعرضوا لبعض من كان في ذمته، ولكنه مع ذلك تشتمل على آيات لا ترتبط
بالمشركين والجهاد معهم ونحو ذلك ومنها هذه الآية فالخدشة في دلالتها بكونها مربوطة بباب الجهاد من جهة السياق، في غير محله،
فان مخالفة السياق في الآيات القرآنية أكثر من حد الاحصاء وحيث انهم أرادوا ربطها بباب الجهاد فسروها بما هي ظاهرة في خلافه،
فالواجب، الإشارة إلى ما هي ظاهرة فيه وإلى غيره.
الوجوه المحتملة في تفسير الآية:
ملخص الوجوه المحتملة فيها ثلاثة وإن كان الثاني والثالث منها بعيدين غاية العبد:
المذكور، مثلا قوله: (الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شي) يستفاد منه ان حيثية المائية ليست تمام الموضوع في العاصمية والا كان
التقييد بالكرية لغوا ولكنه لا ينافي ذلك قيام قيد اخر كالجريان والمطرية مثلا مقامها، وعلى هذا ففي ما نحن فيه تدل الآية على أن
حيثية الخبرية ليست تمام الموضوع في وجوب التبين والا لكان التقييد بالفسق لغوا وحينئذ فيمكن ان ينوب مناب هذا القيد قيد اخر
ككون المخبر به من الموضوعات أو خصوص الارتداد ولا ينفى ذلك مفهوم الآية، فان المفهوم انما يقتضى فقط عدم كون حيثية
الخبرية تمام الموضوع في وجوب التبين.
وعلى هذا فالآية تكفي لاثبات الحجية فيما إذا لم تحتمل نيابة قيد اخر كما في خبر العادل في الاحكام. ح - ع - م.
498

الوجه الأول:
ان يقال: ان الآية غير مربوطة بباب الجهاد أصلا كما هو مقتضى ظاهرها بل هي لبيان وجوب النفر لطلب العلم والتفقه في الدين و
السياق غير قادح كما عرفت وعلى هذا فكلمة (ما) في صدر الآية للنفي لا للنهي واللام لتأكيد النفي ولعل المراد، - والله أعلم - ان
المؤمنين ليسوا بأجمعهم أهلا للنفر فلو لا نفر من كل فرقة وقبيلة منهم طائفة، والمستفاد من ذلك ان المقتضى لنفر الجميع موجود
بحيث لو لم يكن مانع عنه لامروا جميعا بالنفر والتفقه ولكنهم ليسوا أهلا لذلك لاختلال نظامهم وتفرق امر معاشهم وحينئذ فلم لا
يجعلون الاحتياج إلى المطالب الدينية في عرض سائر احتياجاتهم؟ فيوجهون طائفة منهم إلى تحصيلها كما يتوجه كل طائفة منهم إلى
جهة من الجهات الأخرى المربوطة بأمور المعاش كالزراعة والنجارة والتجارة ونحوها. والمراد بالفرقة على ما فسروه، هو القبيلة و
وجه تسميتها بها افتراق كل قبيلة عن غيرها في موطن الإعاشة وكيفيتها، ففي الحقيقة يكون المنظور، امر كل جماعة مفترقة عن
الجماعات الأخرى كأهل قرية أو بلد افترقوا عن أهالي سائر القرى والبلدان بان يتوجه منهم طائفة ليتفقهوا في الدين فيرشدوا
بأنفسهم ويرشدوا قومهم إذا رجعوا إليهم، والمراد بالانذار ليس صرف التخويف بنقل آيات العذاب مثلا بل المراد به إيصال الأحكام الشرعية
الحاصلة لهم بالتكلف والجد والاجتهاد في الفقه، كما أن المراد بحذر القوم هو الحذر العملي أي الانتهاء عما نهى الله عنه و
الائتمار بما امر به والتعبير عن إيصال الاحكام وامتثالها بالانذار والحذر، انما هو من جهة ان الأوامر والنواهي تتضمن مخالفتها
العقاب فمن يبلغ حكم الله إلى أحد فهو يخوفه ويحذره عن مخالفته بالالتزام.
وبالجملة: فهذه الآية، على ما ذكرنا، تدل على أنه لولا مخافة اختلال النظام، لامر الجميع بالنفر في تحصيل الفقاهة، ولكنه بعد ما يلزم
من نفر الجميع الاختلال فلم لا ينفر بعضهم ليرشدوا بأنفسهم ويرشدون ويصير ذلك سببا لاطلاع جميع الناس على أحكام الله تعالى
وحلاله وحرامه فسياق الآية ينادى بأعلى صوته إلى مطلوبية الانذار والحذر ووجوبهما فلا نحتاج في إثبات ذلك إلى بيان مفاد (لعل)
وان المراد بها ليس هو الترجي الحقيقي بل مطلوبية مدخولها ونحو ذلك من التقريبات التي قرروها في المقام، والتعبير ب (لعل) انما
هو من جهة ان الانذار ليس مستتبعا لحذر القوم دائما إذ ربما لا يؤثر كلام المنذرين فيهم كما هو المحسوس بين الأنبياء وأقوامهم
أيضا، فالمراد ان المنذر يجب عليه العمل بوظيفته ولا يعوقه عن ذلك احتمال عدم تأثير كلامه فان في التبليغ مظنة التأثير.
هذا هو المعنى المستفاد بالتأمل في ظاهر الآية وتشهد لهذا الوجه اخبار كثيرة حيث استشهد
499

الأئمة عليهم السلام بالآية لوجوب النفر للتفقه والتعليم والتعلم.
الوجه الثاني:
ان يقال كما قيل رعاية للسياق: ان المراد بالنفر هو النفر للجهاد والمراد انهم إذا لم يكونوا ينفرون بأجمعهم فلم لا ينفر بعضهم
ليتفقهوا في الدين. والمقصود من تفقههم، اطلاعهم في ضمن الجهاد على آيات الله وغلبة المؤمنين مع قلة عددهم على المشركين مثلا،
فيزدادوا بذلك إيمانا ويخبروا بذلك قومهم إذا رجعوا إليهم ليوجب نقل ذلك، زيادة الايمان فيهم أيضا.
ولا يخفى بعد هذا الوجه في نفسه وإن كان أقوى من الثالث فان المراد بالتفقه، هو البصارة في أحكام الله تعالى وحلاله وحرامه
[1]
هذا مضافا إلى أن الآية تدل على أن المقصود من الترغيب على النفر، هو حصول التفقه وليس المقصود في النفر للحرب، ذلك بل
المقصود منه دفع المشركين.
الوجه الثالث:
وهو أبعد الوجوه، ان يقال: انه ليس للمؤمنين ان ينفروا بأجمعهم إلى الجهاد بل يجب على بعضهم ان يبقوا مع النبي صلى الله عليه وآله
في البلد ليتفقهوا عنده ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم من الجهاد، فالمراد بالنفر هو النفر للجهاد وبالتفقه تفقه البعض المتخلف لا
النافر، فكلمة (ما) على هذا التفسير، للنهي، والضمير في قوله (ليتفقهوا) راجع إلى البعض المقدر الذي دل عليه تخصيص النفر بطائفة
منهم.
ولا يخفى بعد هذا الوجه ومخالفته لظاهر الآية من وجوه:
الأول: ان لازم هذا الوجه، كون كلمة (ما) للنهي وذلك لا يناسب ذكر اللام بعده.
الثاني: ان النهي عن نفر الجميع انما يحسن فيما إذا استعد الجميع للنفر فأريد بالنهي زجرهم عن ذلك ومعلوم ان الامر لم يكن كذلك،
خصوصا في السرايا التي لم يحضرها النبي صلى الله عليه وآله بشخصه كما هو المفروض على هذا الوجه، بل ربما لم يتهيئوا للخروج
بعد التحريضات والترغيبات الكثيرة، فليس المقام مقام الزجر عن نفر الجميع وطلب البقاء من بعضهم.
الثالث: ان الظاهر من قوله: (لولا نفر) التوبيخ على ترك النفر لا ترك التخلف والبقاء.
[1]
لقائل ان يقول: بناء على هذا التفسير، ان المراد بالتفقه ليس هو الاطلاع على آيات الله، بل على حلاله وحرامه فان الناس إذا نفروا
مع النبي أو الوصي إلى الجهاد صار ذلك سببا لمزاولتهم معه مدة مديدة فيستفيدون أحكام الله وحدوده كما يشاهد ذلك في
الاشخاص المزاولين لأهل العلم كثيرا فان ذلك سبب لبصارتهم في أحكام الله تعالى ح - ع - م.
500

الرابع: ان الظاهر، رجوع الضمير في قوله: (ليتفقهوا) إلى الطائفة النافرة وإرجاعها إلى البعض المقدر خلاف الظاهر.
والحاصل: انه لا وجه لصرف الآية عن ظاهرها وهو الوجه الأول، فهي تدل على وجوب التعلم والتعليم وان الجهل في أحكام الله تعالى
ليس بعذر فيجب على الجميع تعلمها، اما بالنفر أو بالاستفادة من النافرين ويستفاد من الآية عدم جواز الرجوع إلى الأصول اللفظية و
العملية الا بعد الفحص واليأس عما يخالفها.
وبالجملة: فالآية من أقوى الأدلة على وجوب التعليم والتعلم.
وجه الاستدلال ب آية النفر:
إذا عرفت هذا، فاعلم أنه ربما يستدل بالآية على حجية الخبر الواحد، بتقريب انها تدل على حجية قول النافرين لقومهم إذا رجعوا إليهم
ومعلوم ان النافرين من كل فرقة لا يبلغ عددهم إلى حد التواتر، ولو سلم اتفاق ذلك، فلا يجتمعون في مقام التبليغ، وربما يقرب هذا
الاستدلال، بوجوه أخرى لا يحتاج إليها فراجع ما ذكروه.
واستشكل على الاستدلال بها بوجوه:
الأول:
ان الآية ليست بصدد بيان وجوب الحذر حين إنذار المنذر حتى يستفاد منها الاطلاق، بل المستفاد منها وجوب الحذر في الجملة عند
إنذار المنذرين وهذا لا ينافي اعتبار حصول العلم.
الثاني:
انها تدل على وجوب الحذر العملي بامتثال الأحكام الشرعية الواصلة إليهم ولا تدل على وجوب العمل بكل ما وصل إليهم وان لم يكن
من أحكام الله وحينئذ فإذا لم يعلم المنذر (بالفتح) ان ما وصل إليه من أحكام الله أو من غيرها فلا يجب عليه العمل فيتقيد وجوب العمل لا
محالة بما إذا حصل له العلم باحكام الله من قول المنذر (بالكسر).
الثالث:
ان الآية تدل على حجية قول الفقيه بالنسبة إلى المقلد لا على حجية الخبر فان المنذرين على ثلاث طوائف:
1 - من كان شأنه مزاولة فن الوعظ والخطابة لتهييج الناس وليس غرض هذه الطائفة، تعليم الناس بما جهلوا به، بل تذكيرهم بما علموا
به ولكنه خفي في زوايا أذهانهم، فلا يتأثرون منه الا بتذكير مذكر ووعظ واعظ.
501

2 - من كان شأنه استنباط الأحكام الشرعية من مداركها من الكتاب والسنة والاخبار المروية عن الأئمة عليهم السلام ثم الافتاء
للجاهلين بما استنبطه، فما يصدر منه هو الفتوى بما هو حكم الله تعالى في نظره لا صرف نقل الخبر وحكايته بنحو سمعه بلفظه أو
بمعناه، ويعبر عن هذا الاستنباط بالتفقه، غاية الأمر، ان الاستنباط في زمن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام كان أسهل
بالنسبة إلى زماننا لقربهم من الأئمة عليهم السلام واطلاعهم على ما هو حكم الله في نظر الامام وعلى كيفية صدور الاخبار المتعارضة،
واما في زماننا فتعسر امر الاستنباط والاجتهاد لكثرة الاخبار المتعارضة وكثرة وسائطها وخفأ جهات اختلافها فيتعسر استنباط
ما هو حكم الله في نظر الإمام عليه السلام منها. ولكن هذا المعنى لا يوجب اختلافا في معنى التفقه والاستنباط، فقد كثر في زمنهم عليهم
السلام الفقهاء العالمون باحكام الله وجهاته والمطلعون على فتوى الأئمة عليهم السلام بحيث كانوا يشيرون إلى من روى رواية من
الإمام عليه السلام مخالفة لفتواه الواقعي ظاهرا بأنك قد أعطيت من جراب النورة. كما اتفق بالنسبة إلى رجل سأله عليه السلام عمن مات
وتخلف منه بنت وعصبة فأجابه الإمام عليه السلام (بان نصف التركة للبنت)، فأشار الصحابة إليه بان المال كله، للبنت فأعطاها كله ثم
سئل الإمام عليه السلام بعد ذلك فقرر ذلك.
3 - من كان من شأنه التحديث والرواية بان يسمع من أحد كلاما فيحكيه لغيره وربما لا يكون الراوي عالما بمضمونه أيضا وقد ورد:
(رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
والفرق بين الراوي والفقيه مما لا يكاد يخفى، فان الفقيه انما يحكى عن رأيه وعقيدته وإن كان الخبر مثلا مأخذا لعقيدته، واما
المحدث الراوي فيحكي عما سمعه بلفظه أو بمعناه. فان دأب كثير من الصحابة كان نقل خصوص الألفاظ وبعضهم كان يروى بالمعنى
فلذلك نشاهد الاختلافات في بعض الروايات وقد اضطربت اخبار بعض هذه الطائفة مثل اخبار (عمار) و (يونس بن عبد الرحمن) نعم:
ربما يتصادقان بان يروى الفقيه في مقام إظهار العقيدة والفتوى، الخبر المطابق لمعتقده فيجتمع الحيثيتان كما هو الأغلب في كثير
من أصحاب الأئمة عليهم السلام ولكنه مع ذلك يكون لكل حيثية حكمها، فما يرويه هذا الراوي حجة لمن له قوة الاستنباط من حيث
الرواية لا من حيث الافتاء، كما أن حيثية الوعظ والرواية وكذا الوعظ والافتاء أيضا يمكن اجتماعهما ويترتب على كل حيثية، حكمها.
إذا عرفت هذا فنقول: ان ظاهر الآية، وجوب نفر الطائفة من كل فرقة للتفقه وهو وان
502

كان ذا عرض عريض، حيث إن شرائطه في زمن الأئمة عليهم السلام كان أقل ولذلك كانت جملة من أصحابهم فقهاء ولكنه مع ذلك
مباين لحيثية الرواية والتحديث فلا تدل الآية على حجية قول الراوي والمخبر بل تدل على حجية قول الفقيه.
وبالجملة، فالاستدلال بالآية على مسألة الافتاء والتقليد، أولى من الاستدلال بها على مسألة حجية الخبر ولا يخفى ان (الشيخ) و
(صاحب الكفاية) حملاها على الافتاء من جهة كلمة الانذار، حيث إن وظيفة الراوي ليست هي الانذار ولكن استفادة ذلك من كلمة التفقه
أسهل كما مر بيانه.
نقد الاشكالات الثلاث:
هذه ثلاثة إشكالات وردت على الاستدلال بالآية ولا يخفى ان مال الأول والثاني منها إلى إشكال واحد ففي الحقيقة، ما يرد على
الاستدلال أمران.
ويمكن ان يجاب عن الأول، بان المراد إن كان تقييد الطائفة النافرة بكونها بحد توجب اخبارها العلم ويكون المقصود في الرجوع و
الانذار أيضا اجتماعهم لذلك فهذا خلاف ظاهر الآية، بل المقطوع عدم إرادته.
وإن كان المراد بالطائفة النافرة أعم من ذلك ولكن يكون المقصود وجوب حذر القوم بعد ما علموا بالاحكام لا مطلقا، ففيه ان ذلك
مخالف لسياق الآية ومناف لحكمة تشريع الحكم المستفاد من الآية فان الآية تدل على أنه لو لم يكن مانع عن نفر الجميع لأوجبنا عليهم
ذلك ولكنه بعد ما لم يمكن نفر الجميع فلم لا تنفر طائفة منهم حتى تقوم بهذه الحاجة التي هي من أقوى حوائج البشر ثم يرجعوا إلى
قومهم ويعلموهم ويرفعوا حوائجهم الدينية، فلو كان حذر القوم متوقفا على صيرورتهم عالمين ولم تكن اخبار النافرين حجة في
حقهم لبطل تعليل وجوب النفر بإنذار القوم وكان مقتضى وجوب تحصيل العلم على الجميع، نفرهم بأجمعهم وهذا مخالف لصريح صدر
الآية، فافهم.
والحاصل ان هذا الاشكال، غير متوجه فالعمدة في المقام هو الاشكال الأخير، فان حيثية التحديث غير حيثية الفقاهة كما عرفت وكانت
الحيثيتان منفكتين بحسب الخارج أيضا، فقد كثر المحدثون الذين كان من شأنهم ضبط ما سمعوا وحكايته فقط من غير أن يعملوا
النظر في استفادة حكم الله عنه، فان ذلك كان متوقفا على مقدمات من لحاظ المقيدات والمخصصات و
503

سائر الجهات وإن كان تحصيل المقدمات في أعصارهم في غاية السهولة بالنسبة إلى زماننا، فراجع إلى التواريخ حتى تطلع على
اختلاف الفريقين وقد ذكر في (تاريخ بغداد) ان (سليمان بن حرب) كان من أكابر المحدثين وانه جاء في زمن (المأمون) ببغداد فهيأ
له مجلسا للتحديث ووضع له منبرا قرب قصره وبالغ في تعظيمه وتكريمه. وقد اجتمع لضبط أحاديثه جماعة كثيرة بحيث احتاجوا إلى
عدة اشخاص موصلة لكلامه إليهم.
وبالجملة فالاستدلال بالآية على حجية الرواية بما هي رواية مشكل، وقد استدل الأئمة عليهم السلام في اخبار كثيرة بالآية الشريفة
على وجوب النفر والتفقه، وكثير منها راجع إلى النفر لمعرفة الإمام عليه السلام، ولعل مدرك القائلين باعتبار العلم بقول النافرين
هذه الأخبار فان معرفة الإمام عليه السلام
[1]
يجب أن تكون عن علم فراجع الاخبار.
فذلكة: قد عرفت ان الظاهر كون كلمة (ما) في الآية للنفي وكون اللازم الواقعة بعدها للجحد وقد جي بها لتأكيد النفي كما هو الغالب
في اللام الواقعة بعد الكون المنفي، وقد ذكر النحاة ان متعلقها كلمة (قاصدا) وما يفيد معناه، ولكن الأنسب في مثل الآية تعلقها بمثل
كلمة (أهلا) ونحوه، والتفقه من باب التفعل ومن معانيه التكلف وظاهر صدر الآية كون ما امر بالنفر إليه بمثابة من الأهمية بحيث لولا
مثل اختلال النظام ونحوه لوجب على الجميع النفر إليه، ولكن حدوث هذه الأمور، منع من إيجاب النفر على الجميع، فعلى هذا لم لا
ينفر بعضهم حتى يرشدوا بأنفسهم ويرشدون غيرهم أيضا، فمقتضى ظاهر الآية وجوب النفر للتفقه لا للجهاد، وكونها في سياق
آيات الجهاد لا يضر بعد استقرار طريقة القرآن على عدم الاعتداد بالسياق.
ولا يتوهم اختصاص آيات سورة البراءة بباب الجهاد إذ يوجد فيها آيات غير راجعة إليه ك آية الزكاة ونحوها.
وبالجملة، فالخدشة في الآية من حيث السياق في غير محلها ودلالتها على مطلوبية الحذر أيضا مما لا مجال لانكاره وانما الكلام في
سائر الاشكالات المتوجهة على الاستدلال بالآية وقد عرفت انها ثلاثة:
الأول: ان القدر المتيقن من وجوب الحذر هو ما لو حصل للمنذر (بالفتح) العلم بالأحكام من إنذار المنذرين ولا يمكن التمسك بإطلاق
الآية لاثبات وجوبه مطلقا، وانما تدل على وجوبه في
[1]
لقائل ان يقول: ان تقييدها بالنسبة إلى أصول الدين لا يدل على التقييد مطلقا، فتدبر ح - ع - م.
504

الجملة.
الثاني: ان المقصود من الآية بيان طريق ووسيلة لوصول الاحكام إلى الجاهلين وليست بصدد بيان وجوب العمل بكل ما أخبر به أحد و
على هذا فتعين العمل بخصوص ما أحرز كونه من أحكام الله تعالى.
الثالث: ان الآية تدل على حجية قول الفقيه والمفتي بالنسبة إلى مقلديه لا على حجية قول الراوي والمحدث وحيثية الافتاء غير حيثية
التحديث وان اتفق اجتماعهما في بعض الأوقات.
ومال الاشكالين الأولين إلى واحد، غاية الأمر ان المدعى في الأول التقييد بالعلم من باب القدر المتيقن من جهة عدم إمكان التمسك
بالاطلاق وفي الثاني تعين التقييد من جهة كون المقصود إيجاب الحذر والعمل بما هو حكم الله لا بكل شي.
ثم إنه قد ظهر مما ذكرنا، ورود الاشكال الثالث من جهة دلالة كلمة التفقه أيضا. واما الأول، فيمكن تقريبه أيضا بالاخبار الكثيرة
[1]
الواردة في تطبيق الآية على وجوب النفر لمعرفة الامام ونحوها، واما الثاني، فقد عرفت منا سابقا إشكال الالتزام به، فان الآية وان
دلت على وجوب الحذر والعمل باحكام الله لا بكل شي ولكنها بصدد بيان طريق ووسيلة لاحراز الاحكام وقد دلت على أن طريقه
بعد تعذر نفر الجميع، ينحصر في نفر طائفة منهم إلى المراكز العلمية ليتفقهوا ويطلعوا على حلال الله وحرامه فينذروا قومهم إذا
رجعوا إليهم، فالطريق لاحراز الاحكام بالنسبة إلى المتخلفين ينحصر في قول المنذرين ومن الواضحات عدم طريق اخر للمتخلفين
ليحصل لهم بسببه العلم بقول المنذرين، ولو فرض وجود وسيلة أخرى فهي بنفسها طريق لهم إلى الاحكام ولا يحتاجون معه إلى قول
المنذرين.
ولا يحتمل اشتراط كون الطائفة النافرة بحد يحصل من قولهم العلم إذ يبعد جدا وصول الطائفة النافرة من كل فرقة إلى حد التواتر
[2 [
ولو فرض تحقق ذلك فيبعد جدا رجوعهم جميعا للانذار ليحصل من أقوالهم العلم ولو فرض وقوع ذلك فهو في غاية الندرة ولا يفي
ذلك بإيصال الاحكام إلى العباد فاشتراط حصول العلم يستلزم نقض الغرض الذي لأجله وجب النفر.
[1]
و قد جمعها في تفسير البرهان في مقام تفسير الآية، فراجع ح - ع - م.
[2]
لقائل ان يقول: ان بلوغ العدة النافرة إلى حد التواتر دفعة نادر ولكنه يكثر جدا بلوغها إلى هذا الحد تدريجا، الا ترى ان أكثر
الناس عالمون بفتاوى مراجع التقليد من جهة كثرة أهل العلم وذهابهم وإيابهم فبالتدريج يحصل للسامعين العلم ح - ع - م.
505

نعم يحصل غالبا من اخبار المنذرين، الوثوق والاطمئنان للطائفة المتخلفة، فلا تبعد دلالة الآية على حجية قول المنذر إذا حصل من قوله
الوثوق والاطمئنان.
وجوه أخرى للاستدلال بالآية ونقدها:
ثم إن الأولى نقل ساير الوجوه التي ذكروها للاستدلال بالآية وهي ثلاثة والمقصود في جميعها إثبات وجوب الحذر عملا بإنذار
المنذرين.
الأول: ان كلمة (لعل) لما لم تكن للترجي الحقيقي لامتناعه في حقه تعالى فالمقصود بها هو المطلوبية وتحمل على الوجوب، اما لما ذكره
في (المعالم) من عدم المعنى لاستحباب الحذر، أو لأنه إذا ثبتت مطلوبية الحذر ثبت وجوبه بعدم الفصل.
الثاني: ان الانذار لوقوعه غاية للنفر الواجب واجب، فيكون الحذر أيضا واجبا والا لغا وجوبه ووجه وجوب النفر، وقوعه في حيز (لولا
).
الثالث: ان السياق الآية يقتضى ترتب العلية والمعلولية بين وجوب النفر ووجوب التفقه ووجوب الانذار ووجوب الحذر، فإذا وجب
النفر وجبت غايته وغاية غايته فان غاية الواجب واجبة، وهكذا، فيصير الحذر واجبا.
ويرد على الوجه الأول: ان حمل كلمة (لعل) على المطلوبية والوجوب فاسد ولا يكاد يخفى ذلك على من له اطلاع على فنون البلاغة إذ
مقتضى ذلك ان يكون مفاد الآية: فلو لا نفر طائفة ليتفقهوا ولينذروا قومهم ويجب الحذر على القوم. ولازم ذلك انقطاع سلسلة العلية
والمعلولية بين النفر والتفقه والانذار والحذر مع أن سياق الآية يقتضى ذلك، فالحق ان كلمة (لعل) في المقام للترجي ولا يلازم
الترجي، الجهل وان ذكر النحاة انه ملازم لجهل المتكلم أو السامع، وذلك من جهة ان التعبير بها كما يحسن عند الجهل يحسن عند عدم
كون ما ذكر قبلها علة تامة لمدخولها بعد كونه معرضا له. ففيما نحن فيه، حيث كان الانذار معرضا للحذر ومقتضيا له ومع ذلك لم
يكن حصوله مطلقا موجبا لحصوله من جهة اختلاف الناس في التأثر من المطالب الحقة، حسن التعبير ب (لعل)، إيماء إلى أن ترتبه عليه
ليس دائما كما في قوله تعالى: (وقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى).
506

واما الوجه الثاني: فقد أورد عليه في (الكفاية) بما حاصله: ان فائدة وجوب الانذار ليست منحصرة في وجوب الحذر تعبدا لعدم وجود
إطلاق في الآية يقتضى ذلك.
أقول: وجوب الحذر تعبدا بعض مصاديق وجوب الحذر المطلق ولا يحتمل في الآية كون غير الحذر غاية للانذار بعد النص عليه في الآية
فليست الآية من قبيل قوله: (ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) حيث أجيب عن الاستدلال بها لحجية الخبر بمنع انحصار
الفائدة لحرمة الكتمان في قبول قولهن تعبدا، فان الغاية فيها مستنبطة غير منصوصة عليها وهذا بخلاف ما نحن فيه.
وكيف كان: فيرد على الوجه الثاني، ان المراد بوجوب الحذر إن كان وجوبه ظاهرا أي بما ان المنذر (بالفتح) جاهل بالحكم الواقعي
ففيه: ان ذلك مخالف لما يدل عليه سياق الآية من جهة كونها في مقام بيان الوسيلة لايصال الأحكام الواقعية.
وإن كان المراد وجوبه واقعا ففيه: انه لا معنى لجعل الحكم الواقعي غاية للانذار، إذ يصير معنى ذلك وجوب الانذار ليصير الحذر واجبا
واقعا ومجعولا في نفس الامر وهذا المعنى فاسد جدا، فان الامر بالعكس حيث إن وجود الاحكام في نفس الامر ووجوب العمل بها هو
العلة لوجوب الانذار والتفقه والنفر، فبقي من الوجوه الثلاثة، الوجه الثالث مما ذكروها، فافهم وتدبر.
الاستدلال ب آيات أخرى:
ثم إنهم ذكروا في مقام الاستدلال على حجية الخبر آيات أخرى أيضا.
والانصاف انه لا مجال للاستدلال بالآيات في باب حجية الاخبار فيجب الغمض عنها، ولا تستبعد ما ذكرنا فان الاستدلال بالآيات
حدث في كتب المتأخرين من الأصوليين والكتب الأولية المصنفة في هذا الفن ليس فيها أثر من الاستدلال بالآيات في المقام وقد سئل
(الشافعي) الذي هو أول من صنف كتابا في هذا الفن عن حجية الخبر فحكى وقائع وسننا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله تستفاد
منها حجية الخبر منها قضية تحويل القبلة ولم يتعرض للآيات أصلا ولا محالة كانت الوقائع المحكية متواترة عنده ولو إجمالا إذ لا
مجال للاستدلال لحجية الخبر الواحد بخبر الواحد.
507

الاستدلال لحجية الخبر الواحد بالسنة:
أقول: لو عثرنا على اخبار متواترة إجمالا بحيث يحصل لنا القطع بصدور بعضها وكانت دالة على حجية الخبر الواحد ولو بالالتزام، فلا
محالة تصير حجية الخبر الواحد مقطوعة إجمالا الا ان اللازم، هو الاخذ بما هو أخصها مضمونا فإنه القدر المتيقن الذي يدل عليه الجميع.
فلو فرضت دلالة بعضها على حجية مطلق الخبر وبعضها على حجية خبر الثقة وبعضها على حجية خبر العدل الامامي المعدل كل واحد
من رواته بعدلين مثلا، فلا محالة تصير حجية الأخير مقطوعة ولا تثبت حجية غيره.
نعم كان بعض مشايخنا، يذكر طريقا لاثبات حجية الأعم مضمونا فالأعم، بتقريب: انه بعد ما أخذ بما هو أخص مضمونا وثبتت حجية
الخبر الصحيح الاعلائي مثلا. يتفحص في هذه الأخبار المتواترة إجمالا ليعثر في ضمنها على خبر صحيح أعلائي تستفاد منه حجية الأعم
كخبر الثقة العدل مثلا فإذا ثبتت حجية ذلك يتفحص في ضمنها ليعثر على خبر موصوف بهذه الصفة تستفاد منه حجية الأعم منه وهكذا
إلى أن يثبت ما هو المطلوب من حجية مطلق خبر الثقة.
ولا يخفى، ان هذا الطريق طريق حسن في عالم الكلية والمفهومية ولكن الشأن في تحققه خارجا وإمكان المشي بهذه الطريقة في مقام
الاستدلال على حجية خبر الثقة، فتجب ملاحظة ما ادعى تواتره في المقام حتى يؤخذ بأخصها ثم يلاحظ انه هل يوجد في ضمنها ما يتصف
بهذه الصفة ويدل على حجية الأعم وهكذا أم لا؟ والشيخ (قده) في الرسائل، قسم الأخبار الدالة على حجية الخبر إلى أربع طوائف
فلنذكرها حتى يتضح مفادها:
الأولى: الأخبار الواردة في علاج الخبرين المتعارضين.
الثانية: ما دلت على إرجاعهم عليهم السلام آحاد الرواة إلى آحاد أصحابهم وقد سقط كثير منها من قلم الشيخ (قده).
الثالثة: ما دلت على وجوب الرجوع إلى الرواة والثقات والعلماء بنحو الاجمال.
الرابعة: الأخبار الكثيرة التي يظهر من مجموعها جواز العمل بخبر الواحد وإن كان في دلالة كل واحد منها على ذلك نظر.
508

أقول: دلالة المجموع مع عدم دلالة كل واحد منها، يحتاج تصورها إلى تأمل، ولقائل ان يقول بأنه لا يتصور ذلك.
ثم إن الاستدلال بالطائفة الأولى، اما بصرف وقوعها في مقام العلاج للمتعارضين بان يقال: ان المستفاد من ذلك حجية كل منهما مع
قطع النظر عن المعارضة، واما بسبب الخصوصيات المذكورة فيها.
فان أريد الاستدلال بها على النحو الأول، فيرد عليه ان صرف التصدي لبيان العلاج لا يدل على حجية الخبر الذي لم يقطع بصدوره كما
هو محل الكلام فان المعارضة لا تنحصر في الاخبار غير المقطوعة إذ يمكن حصول المعارضة بين الخبرين الذين نقطع بصدور كليهما،
بان يكون أحدهما صادرا لا لبيان الحكم الواقعي بل لتقية ونحوها الا ترى الأخبار الواردة في بيان أول وقت المغرب؟ حيث إن المتتبع
يحصل له القطع بصدور اخبار الاستتار واخبار زوال الحمرة إجمالا ومع ذلك تقع المعارضة بين الطائفتين.
وبالجملة: فالتعارض كما يوجد في الخبرين غير المقطوعين، كذلك ربما يوجد في المتواترين أو المحفوفين بما يوجب القطع
بصدورهما، فصرف بيان العلاج للتعارض لا يدل على حجية الخبر الذي لم يقطع بصدوره.
وان أريد الاستدلال بالخصوصيات المذكورة في بعض الأخبار العلاجية مثل إطلاق الخبرين
[1]
في قوله: (إذا ورد عليكم خبران
مختلفان) ومثل قوله في بعضها: (خذ بأعدلهما)، ومثل قوله أيضا في بعضها: (يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين)، فيرد عليه، ان ما
اشتمل منها على الخصوصيات التي يمكن الاستدلال بها ليست بالغة حد التواتر الاجمالي فلا مجال للاستدلال بها، فالأولى ذكر ما
اشتمل على هذه الخصوصيات في عداد الطائفة الرابعة.
وملخص الكلام في المقام، هو ان الاخبار التي ذكرها الشيخ (قده) لا تبلغ حد التواتر الاجمالي فان الطائفة الرابعة بعد تصريحه بعدم
دلالة كل فرد فرد منها ودلالة المجموع من حيث المجموع ترجع إلى دال واحد فهي بمنزلة خبر واحد. والطائفة الثالثة قليلة جدا و
الطائفة الأولى قد عرفت حالها فبانضمام هذه إلى الثانية يشكل حصول القطع بصدور واحد منها
[1]
ليس هذا الاطلاق في مقام البيان حتى يصح التمسك به ح - ع - م.
509

خصوصا بعد إمكان المناقشة في دلالة بعضها.
ولكن الذي يسهل الخطب، عدم انحصار الاخبار فيما ذكره (قده) بل هي كثيرة جدا ويستفاد من جميعها ان العمل بالخبر الواحد كان
مما استقرت عليه سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام. وكان بعضهم يحتج بذلك على غيره ولا فرق في ذلك
بين العامة والخاصة بل لم ينكر من العامة أحد، ذلك سوى المتكلمين منهم كالنظام وغيره ولو كان العمل بالخبر امرا منكرا لكان على
الأئمة عليهم السلام تنبيه أصحابهم وردعهم عنه كما ردعوا عن القياس.
وبالجملة، فكثرة الاخبار بحد يحصل القطع منها بكون حجية الخبر امرا مفروغا عنه بين العامة والخاصة في عصر النبي صلى الله عليه
وآله والأئمة عليهم السلام ونحن نذكر بعض هذه الأخبار حتى تطلع عليها ويعثر نظرك على نظائرها في طول المراجعة إلى كتب
الاخبار، ويدخل كثير مما نذكره تحت ضوابط كلية يمكن بسبب ذلك، عد كل قسمة منها طائفة في قبال الطوائف التي ذكرها الشيخ
فلنذكر نحن أيضا أربع طوائف:
الأولى: اخبار واردة في احتجاجات الأئمة عليهم السلام مع قضاة العامة وذوي آرائهم وسؤالهم عنهم عما يفتون ويقضون بها، فإنه
يظهر من كثير منها، كون بنائهم على العمل بالخبر ثم بالقياس فردعهم الأئمة عليهم السلام عن القياس دون الخبر.
الثانية: الأخبار الكثيرة التي يظهر منها كون بناء الصحابة حين ما بعدوا عن الإمام عليه السلام واحتاجوا إلى مسألة، على إرسال أحد
منهم عند الامام ليسأل المسألة ويخبرهم بفتوى الإمام عليه السلام وكون بناء الأئمة عليهم السلام أيضا حين ما أرادوا تبليغ امر ديني أو
فقهي أو وظيفة مربوطة بجهة ولايتهم وإمامتهم إلى شيعتهم ومواليهم في الأمصار، على تبليغ ذلك بسبب إرسال أحد من الناس إليهم
ليخبروهم بذلك.
وكان بناء الشيعة على العمل بما يأتي به رسول الإمام عليه السلام وكذلك كان بناء الأصحاب في عصر النبي صلى الله عليه وآله أيضا.
الثالثة: الأخبار الكثيرة التي يظهر منها كون بناء صحابة النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام في مقام احتجاج بعضهم على
بعض في المسائل الدينية على التمسك باخبار الآحاد الواصلة إليهم وكان يرتفع نزاعهم ومخاصمتهم بذلك. فيظهر من ذلك، ان حجية
خبر الواحد كانت امرا مفروغا عنها بينهم.
الرابعة: الاخبار المتفرقة في الأبواب المتشتتة في الفقه، التي يظهر من كل منها أيضا ذلك، و
510

هذه الطائفة كثيرة أيضا جدا وان لم تدخل تحت ضابطة كلية، فلنذكر بعض الأخبار.
فمن الطائفة الأولى: ما رواه محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب عن داود بن فرقد عن رجل عن سعيد
بن أبي الخصيب عن جعفر بن محمد عليه السلام في حديث أنه قال لابن أبي ليلى: (بأي شي تقضي؟ قال بما بلغني عن رسول الله وعن
علي وعن أبي بكر وعمر. قال: فبلغك عن رسول الله أنه قال: ان عليا أقضاكم؟ قال نعم. قال فكيف تقضى بغير قضاء على وقد بلغك
هذا، فما تقول إذا جي بأرض من فضة وسماوات من فضة ثم أخذ رسول الله بيدك فأوقفك بين يدي ربك وقال يا رب ان هذا قد قضى
بغير ما قضيت؟) ولا يخفى، ان قول ابن أبي ليلى، حيث قال: بما بلغني، يكون المراد منه البلوغ بنحو الآحاد لقلة المتواتر جدا ولو في
تلك الاعصار ولعله لا يزيد عن اثنين أو ثلاثة وبالتتبع في التواريخ وفي صحاحهم ومسانيدهم يظهر ان بنائهم كان على العمل بخبر
واحد، الا ترى ان مبنى فقههم على مثل رواية أبي هريرة ونحوه وقد انحصر مبناهم في مسألة (منجزات المريض) في خبر عمران بن
الحصين.
وبالجملة، فيظهر من الخبر، ان بناء ابن أبي ليلى، كان على العمل بخبر الواحد ولم يردعه الإمام عليه السلام عن ذلك بل نبهه على خبر
اخر وصل إليه.
ومن الطائفة الأولى أيضا، ما رواه شبيب ابن أنس عن بعض أصحاب أبي عبد الله في حديث، ان أبا عبد الله عليه السلام قال لأبي حنيفة:
(أنت فقيه العراق؟ قال نعم. قال: فبم تفتيهم؟ قال بكتاب الله وسنة نبيه. قال: يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ و
المنسوخ؟ قال نعم. قال يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما، ويلك ما جعل الله ذلك الا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك ولا هو الا عند
الخاص من ذرية نبينا محمد صلى الله عليه وآله وما ورثك الله من كتابه حرفا) إلى أن قال عليه السلام: (يا أبا حنيفة إذا ورد عليك
شي ليس في كتاب الله ولم تأت به الآثار والسنة كيف تصنع؟ فقال أصلحك الله أقيس وأعمل فيه برأيي. فقال عليه السلام: يا أبا حنيفة
ان أول من قاس إبليس) الحديث ولا يخفى ان أبا حنيفة كان ممن يعمل بخبر الواحد ويرشد إلى ذلك قوله عليه السلام: ولم تأت به
511

الآثار والسنة، ومع ذلك ردعه عليه السلام عن العمل بالقياس وبالكتاب مستقلا دون الخبر.
ومن هذه الطائفة أيضا رواية معاوية بن ميسرة بن شريح القاضي قال: (شهدت أبا عبد الله في مسجد الخيف وهو في حلقة فيها نحو
من مائتي رجل وفيهم عبد الله بن شبرمة فقال له: يا أبا عبد الله انا نقضي بالعراق فنقضي بالكتاب والسنة ثم ترد علينا المسألة فنجتهد
فيها بالرأي إلى أن قال: فقال أبو عبد الله: فأي رجل كان علي بن أبي طالب؟ فأطراه ابن شبرمة وقال فيه قولا عظيما، فقال له أبو عبد
الله: فان عليا أبى ان يدخل في دين الله، الرأي وان يقول في شي من دين الله بالرأي والمقاييس. إلى أن قال: لو علم ابن شبرمة من أين
هلك الناس ما دان بالمقاييس ولا عمل بها).
ومعاوية من أحفاد شريح القاضي ربما ينسب إلى أبيه وربما ينسب إلى جده وهو ثقة، وتقريب الاستدلال بالخبر يظهر مما سبق.
وبالجملة، فنظائر هذه الأخبار كثيرة فراجع كتاب القضاء من الوسائل، ونذكر هنا جملة من الاخبار من الطوائف المختلفة التي تقدم
ذكرها. وعليك بتبويبها والتفحص عن نظائرها، والمستفاد من جميعها كون بناء الأصحاب على العمل بخبر الواحد لقلة المتواتر جدا
ولا يمكن دعوى محفوفية هذه بالقرائن:
1 - روى الشيخ في الصحيح عن محمد بن يحيى عن بعض أصحابنا عن أبي جميلة البصري قال: (كنت مع يونس ببغداد وانا أمشي معه في
السوق ففتح صاحب الفقاع، فقاعه، فأصاب ثوب يونس فرأيته قد اغتم لذلك حتى زالت الشمس فقلت له: يا أبا محمد ألا تصلي؟ قال فقال
لي: ليس أريد أصلي، حتى ارجع إلى البيت فأغسل هذا الخمر من ثوبي فقلت له هذا رأى رأيته أو شي ترويه فقال: أخبرني هشام بن
الحكم انه سال أبا عبد الله عن الفقاع فقال لا تشربه فإنه خمر مجهول فإذا أصاب ثوبك فاغسله) فانظر كيف استنكر الراوي العمل
بالرأي دون الرواية.
2 - ما بسنده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن الحسن بن موسى الخشاب عن غياث بن
512

كلوب عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه
[1]
ان رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله اختلفا في صلاة رسول الله فكتبا
إلى أبي بن كعب، كم كانت لرسول الله من سكتة؟ قال: كانت له سكتتان: إذا فرغ من أم القرآن وإذا فرغ من السورة).
3 - ما بسنده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن حديد قال: سألت الرضا عليه السلام فقلت:
ان أصحابنا اختلفوا في الحرمين فبعضهم يقصر وبعضهم يتم وانا ممن يتم على رواية قد رواها أصحابنا في التمام وذكرت عبد الله بن
جندب انه كان يتم فقال: رحم الله ابن جندب ثم قال لي:
لا يكون الاتمام الا ان تجمع على إقامة عشرة أيام وصل النوافل ما شئت).
4 - ما بسنده عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن الحسن بن الحسين عن صفوان عن عبد الرحمن ابن الحجاج قال: (اشتريت محملا فأعطيت
بعض ثمنه وتركته عند صاحبه ثم احتبست أياما ثم جئت إلى بائع المحمل لاخذه فقال قد بعته فضحكت ثم قلت: لا والله لا أدعك أو
أقاضيك فقال لي: ترضى بأبي بكر بن عياش قلت: نعم، فأتيناه فقصصنا عليه قصتنا فقال أبو بكر: بقول من تحب ان أقضي بينكما، بقول
صاحبك أو غيره قال: قلت: بقول صاحبي قال: سمعته يقول من اشترى شيئا فجاء بالثمن ما بينه وبين ثلاثة أيام والا فلا بيع له).
ويمكن ان يقال: ان القناعة والاعتماد بقول أبي بكر كان من جهة القضاء لا من جهة نقل الرواية فلا دلالة للحديث على ما نحن فيه.
5 - ما رواه الكشي عن العياشي عن علي بن الحسن عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن عليه السلام قال: (ان أبا الخطاب أفسد أهل الكوفة
فصاروا لا يصلون المغرب حتى يغيب الشفق ولم يكن ذلك انما ذاك للمسافر وصاحب العلة، ورواه الشيخ بسنده عن أحمد بن محمد عن
سعيد بن جناح عن بعض أصحابنا عن الرضا عليه السلام).
[1]
ربما يتوهم ان هذا التعبير عن إسحاق بن عمار فزعموا بذلك كونه عاميا، وهو فاسد والتعبير عن غياث ح - ع - م.
513

فيعلم من ذلك ان بناء الناس كان على العمل بخبر الواحد حيث عملوا جميعا بخبر أبي الخطاب الذي رواه عن أبي عبد الله لأهل الكوفة
. [1]
6 - ما رواه الكشي عن جبرئيل بن أحمد عن موسى بن معاوية بن وهب عن علي بن معبد عن عبيد الله بن عبد الله الواسطي عن واصل
بن سليمان عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (لما صرع زيد بن صوحان يوم الجمل جاء أمير المؤمنين عليه السلام
حتى جلس عند رأسه فقال: رحمك الله يا زيد قد كنت خفيف المئونة عظيم المعونة قال: فرفع زيد رأسه إليه ثم قال: وأنت فجزاك الله
خيرا يا أمير المؤمنين، فوالله ما علمتك الا بالله عليما وفي أم الكتاب عليا حكيما وان الله في صدرك لعظيم والله ما قاتلت معك على
جهالة ولكني سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من كنت مولاه، فعلى
مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، فكرهت والله ان أخذ لك فيخذلني الله).
7 - ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسن بن علي بن فضال عن عبد الله بن بكير عن زرارة قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن وقت
صلاة الظهر في القيظ فلم يجبني، فلما إن كان بعد ذلك، قال: لعمرو بن سعيد بن هلال ان زرارة سألني عن وقت صلاة الظهر في القيظ
فلم أخبره، فحرجت من ذلك فأقرئه مني السلام وقل: له إذا كان ظلك مثلك فصل الظهر، وإذا كان ظلك مثليك فصل العصر).
8 - ما رواه الكشي عن حمدويه عن محمد بن عيسى عن القسم بن عروة عن ابن بكير قال:
دخل زرارة على أبي عبد الله عليه السلام فقال: (إنكم قلتم لنا في الظهر والعصر على ذراع وذراعين ثم قلتم: أبردوا بها في الصيف،
فكيف الابراد بها؟ وفتح ألواحه ليكتب ما يقول، فلم يجبه أبو عبد الله بشئ فأطبق ألواحه فقال: انما علينا ان نسألكم وأنتم اعلم بما
عليكم وخرج ودخل أبو بصير على أبي عبد الله فقال عليه السلام: ان زرارة سألني عن شي فلم أجبه وقد ضقت من ذلك فاذهب أنت
رسولي إليه فقل صل الظهر في الصيف إذا كان ظلك مثلك والعصر إذا كان مثليك وكان زرارة هكذا يصلى في الصيف ولم اسمع أحدا
من أصحابنا يفعل ذلك غيره وغير ابن
[1]
كما يظهر من الخبر الذي رواه في الوسائل، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 18، الرواية: 4877 ح - ع - م.
514

بكير).
9 - الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن إبراهيم بن عمر اليماني عن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس
الهلالي قال: قلت لأمير المؤمنين عليه السلام: (انى سمعت من مقداد وسلمان وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن النبي غير
ما في أيدي الناس ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة في تفسير القرآن وأحاديث عن النبي
صلى الله عليه وآله أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون أن ذلك كله باطل افترى الناس يكذبون على رسول الله متعمدين ويفسرون
القرآن ب آرائهم؟ قال: فأقبل علي عليه السلام ثم قال إلى أن قال: وانما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس، رجل منافق يظهر
الايمان متصنع بالاسلام لا يتأثم ولا يتحرج ان يكذب على رسول الله، ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يسمعه على وجهه ووهم فيه
ولم يتعمد كذبا فهو في يده ويقول به ويعمل به ويرويه فيقول: انا سمعته من رسول الله، فلو علم المسلمون انه وهم لرفضوه ولو علم
هو انه وهم لرفضه، ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا امر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم أو نهى عنه ثم امر به وهو
لا يعلم فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه ولو علم الناس إذ سمعوه منه انه منسوخ لرفضوه، واخر رابع).
الحديث.
فيعلم منه أيضا، بناء الناس على العمل بخبر سمعوه ولم يردع عنه.
10 - في الوسائل باب تحويل القبلة عن أمالي ابن الشيخ حديث، يدل على أنه لما صرف النبي إلى الكعبة أتى رجل من رجال بنى عبد
الأشهل وهم في الصلاة فأخبرهم فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال وصلوا إلى الكعبة.
وفي التهذيب حديث يدل على ذلك وفيه (أتوهم وهم في الصلاة) وفي حديث آخر (وصل إليهم الخبر) وقد استدل الشافعي على
حجية الخبر أيضا بروايات منها رواية تحويل القبلة.
11 - في الرسالة التي رواها الكليني في الروضة بأسانيد عن أبي عبد الله عليه السلام، (انه أرسلها إلى أصحابه وأمرهم بتعاهدها و
العمل بها بعد ذكر القياس والنهي عنه والرد على العامل به قال
515

واتبعوا آثار رسول الله وسنته، فخذوا بها ولا تتبعوا أهواءكم ورأيكم فتضلوا، فان أضل الناس عند الله من اتبع هواه ورأيه بغير هدى
من الله وقال عليه السلام أيتها العصابة: عليكم ب آثار رسول الله وسنته وآثار الأئمة الهداة من أهل بيت رسول الله من بعده وسنتهم،
فإنه من أخذ بذلك فقد اهتدى ومن ترك ذلك ورغب عنه ضل، لأنهم هم الذين امر الله بطاعتهم وولايتهم).
الحديث.
12 - في تفسير الامام عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث قال: (أتدرون من المتمسك به؟ الذي بتمسكه ينال هذا الشرف
العظيم، هو الذي يأخذ القرآن وتأويله عنا أهل البيت وعن وسائطنا السفراء عنا إلى شيعتنا لا عن آراء المجادلين).
13 - محمد بن علي الفتال في روضة الواعظين قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: (من تعلم بابا من العلم عمن يثق به كان أفضل من أن
يصلى الف ركعة).
14 - في مرفوعة ابن محبوب عن أمير المؤمنين في ذم بعض القضاة إلى أن قال: (يذري الروايات ذرو الريح الهشيم).
15 - ما في نهج البلاغة من قوله عليه السلام في كتابه إلى قثم بن العباس عامله على مكة:
(فأقم للناس الحج وذكرهم بأيام الله واجلس لهم العصرين فأفت للمستفتي وعلم الجاهل وذكر العالم) وقوله عليه السلام في خطبة
له عليه السلام: (فيا عجبا وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتفون أثر نبي ولا يقتدرون بعمل
وصى) إلخ
[1]
[1]
أقول: وإن كان الأستاذ مد ظله قد ذكر أكثر من هذه الروايات التي يعلم منها كون بناء صحابة النبي صلى الله عليه وآله والأئمة
عليهم السلام على العمل باخبار والآحاد ولكن نحن اكتفينا بذكر خمس عشرة منها في المتن وذكرنا مأخذ الباقي في الهامش لمن شاء
ان يرجع إليها: ففي الكافي المجلد 1، الصفحة: 452 باب النهي عن الاشراف.
516

الاستدلال لحجية الخبر الواحد بالاجماع:
ومن الأدلة التي استدلوا بها على حجية الخبر، الاجماع: قال الشيخ الأنصاري (قده) ما حاصله:
ان تقريره من وجوه:
الأول: إجماع العلماء ما عد السيد واتباعه.
الثاني: إجماع العلماء حتى السيد واتباعه.
الثالث: إجماع صحابة النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام وبنائهم عملا على العمل باخبار الآحاد.
الرابع: استقرار طريقة المسلمين طرا على استفادة الاحكام باخبار الآحاد.
الخامس: استقرار بناء العقلا طرا على ذلك.
وطريق تحصيل الوجه الأول، أمران:
أحدهما: تتبع أقوال العلماء من زماننا إلى زمان الشيخين، فيحصل من ذلك القطع، ويكشف رضا المعصوم عليه السلام.
وثانيهما: تتبع الاجماعات المنقولة مثل ما ادعاه الشيخ في العدة، وابن طاوس، والعلامة في
الرواية: 1 والمجلد 4، الصفحة: 360، الرواية: 6 والمجلد 5، الصفحة: 512، الرواية 8 والمجلد 6، الصفحة:
141، الرواية: 9 والصفحة: 411، الرواية: 16 والصفحة: 423، الرواية: 7 والمجلد 7، الصفحة: 256، الرواية: 5 وفي الوسائل، كتاب
المواريث، أبواب موجبات الإرث، الباب 8، الرواية مسلسلا: 32543 وكتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادة، الباب 2، الرواية: 58 وكتاب
الأمر والنهي، أبواب الأمر والنهي، الباب 30، الرواية: 21444 وأبواب فعل المعروف، الباب 23، الرواية: 21724 والباب 32، الرواية
21806 وكتاب الطلاق، أبواب مقدمات الطلاق، الباب 30، الرواية: 28056 و 28057 وأبواب أقسام الطلاق، الباب 3:، الرواية: 28153 و
كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح، الباب 157، الرواية: 25572 وكتاب الحج، أبواب بقية الكفارات، الباب 19، الرواية: 17520 وأبواب
النيابة في الحج، الباب 4، الرواية: 14549 وكتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 14، الرواية: 33591 وأبواب صفات القاضي، الباب
6، الرواية: 33136 وأبواب صفات القاضي، الباب 6، الرواية: 33175 وأبواب صفات القاضي، الباب 11، الرواية: 33405 وأبواب صفات
القاضي، الباب 11، الرواية: 33413 وأبواب صفات القاضي، الباب 9، الرواية: 33348 وأبواب صفات القاضي، الباب 12، الرواية: 33501.
ح - ع - م.
517

النهاية، والمجلسي في بعض رسائله، وما اطلعنا عليه من الاجماعات المنقولة وان لم يزد على هذه الأربعة، ولكنها محفوفة بما يوجب
القطع، فيخرج عن الاجماع المنقول بخبر الواحد، والقرائن الموجبة للقطع بذلك كثيرة، مثل ما ادعاه الكشي، ومثل ما ادعاه النجاشي
إلخ. وطريق تحصيل الوجه الثاني، ان المعلوم من العلماء حتى من السيد، هو العمل بهذه الاخبار الموجودة في أيدينا المودعة في أصول
الشيعة، غاية الأمر، ان إدخال السيد في زمرتهم، اما من جهة كون هذه الأخبار عنده محفوفة بالقرائن الموجبة للقطع، واما من جهة ان
السيد أيضا يجوز العمل بالاخبار عند انسداد باب العلم بالواقع، بحيث لو استفتينا منه حكم المسألة في صورة الانسداد لأفتى بالجواز.
هذه ملخص ما ذكره الشيخ (قده) بطوله.
استدلال الشيخ لحجية الخبر بالاجماع ونقده:
أقول: ظاهره (قده) ان الوجه الأول من وجوه تقرير الاجماع، ادعاء الاجماع القولي من العلماء من زمن المفيد إلى زماننا في قبال السيد
واتباعه وان طريق تحصيل أقوالهم أمران:
الأول: تتبعها بأنفسها.
الثاني: الاجماعات المنقولة الأربعة، ولازم ذلك، كون نقل الشيخ - مثلا - للاجماع طريقا لتحصيل أقوال من تأخر منه إلى زماننا، وهذا
فاسد جدا، مضافا إلى أن الشيخ في العدة لم يدع الاجماع القولي من العلماء، وانما ادعى بنائهم عملا على الاستدلال بالخبر
. [1]
ثم إن في دعوى القطع بنقل الأربعة والقرائن التي ذكرها أيضا، مجازفة واضحة، ولو أغمضنا عن جميع ذلك وفرضنا اتفاق العلماء من
زمن المفيد إلى زماننا على العمل بالخبر، فكون ذلك إجماعا كاشفا عن قول المعصوم عليه السلام كما ترى، إذ ليس كل اتفاق، إجماعا،
فان الاتفاق في المسائل العقلية، وكذا في المسائل التفريعية المستنبطة من الأصول المتلقاة عن الأئمة عليهم السلام باعمال الرأي و
الاجتهاد ليس إجماعا، فالاجماع الذي هو حجة عندنا عبارة عن اتفاق صحابة
[1]
بالمراجعة إلى الرسائل، يظهر ان مراد الشيخ الأنصاري أيضا، ادعاء إجماع العلماء تارة قولا، وأخرى عملا، وان تحصيل الأول
بالتتبع، والثاني بالاجماعات المنقولة، وليس في كلامه كون المراد في كلا الطريقين، الاجماع القولي ح - ع - م.
518

النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام والعلماء المطلعين على فتاواه في مسألة من المسائل الشرعية، بحيث يكشف اتفاقهم عن
تلقيهم هذه المسألة منه عليه السلام ومن المعلوم، ان حجية الخبر ليست من تأسيسات الشارع قطعا، بل العمل بالخبر مما استقرت عليه
سيرة العقلا ولم يكن عمل الصحابة به ولا العلماء أيضا من جهة تلقيهم ذلك من الإمام عليه السلام، بل عملوا به بما هم عقلا وبهذا
البيان يظهر رجوع الوجه الأول والثالث والرابع والخامس إلى وجه واحد، وهو استقرار بناء العقلا طرا من المسلمين وغيرهم من
سائر الفرق حتى الملاحدة والدهرية على ترتيب الأثر على خبر الثقة والاعتماد عليه وهكذا كان بناء الصحابة ولكن لا من جهة تلقيهم
في ذلك شيئا من الإمام عليه السلام، بل بما هم عقلا ولم يردع عن هذه الطريقة العقلائية، الأئمة عليهم السلام مع كونها بمرآهم و
مسمعهم فيكشف بذلك رضايتهم بما عليه بناء العقلا. ولا تكفي الآيات الناهية عن العمل بالظن، للردع عنها لرسوخ العمل بها في
أذهانهم بحد يحتاج الردع عنه إلى تنبيهات صريحة بتأكيدات شديدة.
وقد عرفت منا سابقا في باب حجية الخبر، تحقيق حال هذه السيرة العقلائية، وان منشأها والحكمة فيها هو الانسداد فراجع.
وبالجملة، فدعوى إجماع العلماء أو الصحابة أو المسلمين في هذه المسألة وراء السيرة العقلائية مجازية صرفة، فان إجماع علماء
الاسلام بما هم علماء أو إجماع الصحابة بما هم كذلك، انما يتحقق في المسائل التي تلقوها من الأئمة عليهم السلام وإجماع المسلمين بما
هم مسلمون انما هو في المسائل التي يمتاز بها المسلمون عن غيرهم بحيث يكون امتيازهم بذلك من بين سائر الفرق كاشفا عن كون
هذا الامر من مزايا دينهم ومما جاء به نبيهم وقد عرفت انه من المقطوع، عدم تأسيس من الشارع في باب حجية الخبر ويستفاد من
الآيات والاخبار التي استدل بها لحجيته أيضا كون أصل الحجية وبناء العقلا على العمل به امرا مفروغا عنه، الا ترى ان المسلمين أرادوا
ترتيب الأثر على خبر الوليد قبل نزول آية النبأ، فنزلت لردعهم عن ذلك من جهة كونه فاسقا، فالآية للردع عما استقر عليه بنائهم من
العمل ولو بخبر الفاسق، لا لاثبات الحجية لخبر العادل.
والحاصل: ان استقرار بناء الصحابة على العمل بالخبر وعدم ردع الأئمة عليهم السلام إياهم عن ذلك، امر لا شك فيه وتدل عليه أيضا
اخبار كثيرة قد مضى بعضها ولكن ليس ذلك من جهة تلقيهم هذا المعنى من الإمام عليه السلام، بل من جهة رسوخ ذلك في أذهانهم بما
هم عقلا.
هذا كله فيما يرتبط بما عدا الوجه الثاني واما الوجه الثاني، أعني تقرير الاجماع بنحو
519

بدخل السيد أيضا، فقد عرفت تقريبه بوجهين، ولكنه يرد عليهما، ان دعوى انفتاح باب العلم في زمن السيد وكونه متمكنا من القرائن
الموجبة للقطع وافتراق زمانه عن زماننا دعوى بلا دليل، بل المقطوع خلاف ذلك، بل يمكن ان يدعى كون الانسداد حتى في زمن الأئمة
عليهم السلام أيضا أشد من زماننا هذا، فان الشيعة في زمانهم كانوا متفرقين في البلاد البعيدة كخراسان وما ورائه ولم يكن لهم
وسائل إلى تحصيل فتوى الإمام عليه السلام الا بنقل أحد منهم رواية من الإمام عليه السلام، مع كون كثير من المنقولات صادرة عنهم من
جهة التقية ونحوها. فكيف يقاس هذا الزمان بزماننا الذي نتمكن فيه من الاطلاع على جميع الأخبار الصادرة عنهم في الأبواب المتفرقة
بمعارضاتها ومخصصاتها ومقيداتها بعد تنقيحها عما دس فيها في أزمنتهم من الاخبار المجعولة، فدعوى الانسداد في زمن الأئمة عليهم
السلام لغير الوافدين عليهم أولى بالنسبة إلى زماننا، خصوصا مع تعسر وسائل الكتابة والضبط في أعصارهم.
وبالجملة، فعصر الأئمة عليهم السلام، وعصر السيد أيضا لا مزية لواحد منهما من هذه الجهة بالنسبة إلى عصرنا حتى يدعى تمكن السيد
من القرائن المحفوفة بالاخبار الموجبة للقطع بها.
نقل كلام الشيخ الطوسي ونقده في المقام:
ان المناسب هنا، نقل بعض ما ذكره الشيخ الطوسي في العدة في هذا المقام والإشارة إلى بعض النكات المربوطة به، قال (قده): بعد
ذكر الأقوال في باب حجية الخبر ما حاصله:
واما ما اخترته من المذهب، فهو ان خبر الواحد إذا ورد من طريق أصحابنا الإمامية وكان مرويا عن النبي صلى الله عليه وآله أو عن
أحد من الأئمة عليهم السلام، وكان الراوي ممن لا يطعن في روايته ولم تكن هناك قرينة تدل على صحة مضمونه - إذ الاعتبار حينئذ،
بالقرينة لا بالخبر - جاز العمل به والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة، فانى وجدتها مجتمعة على العمل بهذه الاخبار التي رووها
في تصنيفاتهم ولا يتناكرون ذلك حتى أن واحدا منهم إذا أفتى بشئ فسألوه من أين قلت هذا؟ فأحالهم على أصل معروف وكان رواية
ثقة، سكتوا وسلموا الامر إليه والذي يكشف عن ذلك، انه لما كان العمل بالقياس محظورا عندهم لم يعملوا به أصلا وإذا شذ منهم واحد
وعمل به في مقام المحاجة لخصمه وان لم يكن اعتقاده، ردوا قوله وأنكروا عليه، فلو كان العمل بالخبر عندهم جاريا هذا المجرى
لوجب فيه مثل ذلك وقد علمنا خلاف ذلك.
520

فان قيل: كيف تدعون إجماع الفرقة على العمل به والمعلوم من حالها انها لا ترى العمل به، كما لا ترى العمل بالقياس؟ قلنا: المعلوم من
حالها، انهم لا يرون العمل بخبر الواحد الذي يرويه مخالفوهم في الاعتقاد ويختصون بطريقه، فاما ما كان رواته منهم وطريقه
أصحابهم، فقد بينا ان المعلوم خلاف ذلك.
فان قيل: أليس شيوخكم لا يزالون يناظرون خصومهم في أن خبر الواحد لا يعمل به وما رأينا أحدا تكلم في جواز ذلك ولا صنف فيه
كتابا ولا أملى فيه مسألة فكيف أنتم تدعون خلاف ذلك؟ قيل: من أشرت إليهم، انما تكلموا من خالفهم في الاعتقاد ودفعوهم من وجوب
العمل بما يروونه ومن الاخبار المتضمنة للاحكام التي يروون خلافها.
فان قيل: إذا جوز العقل التعبد بخبر الواحد والشرع ورد به، فما الذي يحملكم على الفرق بين ما يرويه الطائفة المحقة وبين ما يرويه
أصحاب الحديث من مخالفينا؟ قلنا: ينبغي ان يقتصر في العمل بمقدار قرره الشرع، ودل عليه إجماع الفرقة، على أن العدالة شرط في
الخبر ومن خالف لم يثبت عدالته بل ثبت فسقه. انتهى.
أقول: ما ذكره أولا من القيود للخبر الذي هو حجة عنده ليس واحد منها قيدا حقيقة سوى الأول منها، وهو كون الخبر مرويا بطرق
أصحابنا واما غير هذا القيد فهو مما يعتبره كل من يقول بحجية الخبر من الفريقين، غاية الأمر ان العامة يقتصرون على العمل بما روى
عن النبي صلى الله عليه وآله فقط.
واما ما أورد على نفسه من الاشكالات، فجميعها إشكالات متينة كما أن أجوبتها أيضا في غاية الجودة.
وتوضيح ذلك يتوقف على بيان نكتة وهي انه بعد ما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وتصدى الغاصبون لاحراز مقام الخلافة،
تنبهوا على كونهم محتاجين إلى الاطلاع على قوانين الاسلام وأحكامه لمراجعة الناس إليهم في مسائلهم ومخاصماتهم، والمفروض انهم
أظهروا الغنى عما وصل من النبي صلى الله عليه وآله إلى أهل بيته عليه السلام من العلوم والمعارف الاسلامية، فلا محالة أحوجهم ذلك
إلى العمل بما يرويه صحابة النبي صلى الله عليه وآله عنه صلى الله عليه وآله في الوقائع ليعمل بها في مواردها ويقاس عليها أشباهها و
نظائرها وقد كثر في زمان عمر الاستعلام من الصحابة في القضايا المرفوعة إليه فصار قول الصحابي بما هو صحابي حجة واضحة
عندهم بحيث لم يمكن لاحد إظهار المخالفة
521

في مقابل ذلك فمن هنا ارتفع شأن الصحابة ولم يتأب الفساق منهم من الجعل والافتراء على النبي صلى الله عليه وآله أيضا، فكثرت من
قبلهم روايات عن النبي صلى الله عليه وآله في الفروع والأصول على طبق ما اقتضته آرائهم وشهواتهم وارتكز في أذهان التابعين ان
الصحابي لا يمكن ان يكون فاسقا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله، فكانوا يتلقون جميع رواياتهم بالقبول، فصار مبنى
عقائدهم في الأصول والفروع روايات الصحابة، حتى مثل روايات أبي هريرة وعائشة ونحوهما.
وهذه كانت طريقتهم إلى أن التفت جماعة من متكلميهم أعني المعتزلة، اشتمال الأحاديث المروية في الأصول على أمور مخالفة للعقل
موجبة للاعتقاد بتجسم الباري جل شأنه وجواز رؤيته ونحو ذلك، فأنكروا هذه الأحاديث فقوبلوا بالتكفيرات والتهديدات، إذ كان
بناء مخالفيهم أعني الأشاعرة، على العمل بكل ما ورد من النبي صلى الله عليه وآله ورواه الصحابة وإن كان مخالفا للعقل والاعتبار.
ثم ابتلي ببلاء المعتزلة، المتكلمون من أصحابنا الإمامية أيضا، إذ كانوا يناظرونهم في الأصول الاسلامية، فكانوا يروون عن النبي صلى
الله عليه وآله ما وصل إليهم من أبي هريرة وأنس بن مالك وعائشة ومعاوية وغيرهم مما يخالف العقل وأخذوا من الأئمة عليهم
السلام خلافه، فدار امر أصحابنا المناظرين معهم، بين ان يظهروا عقيدتهم من التبعيض بين الصحابة وإظهار الاعتماد بما يرويه مثل
أبي ذر وعمار وأبي سعيد الخدري، دون ما يرويه عائشة ومعاوية وأبو هريرة وأمثالهم وبين ان ينكروا حجية الخبر الواحد مطلقا
في مقام المخاصمة معهم وحيث إن الأول كان مساوقا لتفسيق مثل عائشة وأبي هريرة وغيرهما من البدو إلى الختم وكان ذلك
عندهم بمثابة الكفر والخروج من الدين لارتفاع شأنهم في الناس
[1]
فلا محالة التجئوا إلى الثاني.
ومن هنا اشتهر بين متكلمينا، القول بان اخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا وذلك من غير فرق بين المعاصرين منهم للأئمة عليهم السلام
مثل فضل بن شاذان وبين غيرهم، مثل ابن قبة والمفيد والسيد المرتضى وغيرهم ووجه اشتهار هذه الجملة بين المتكلمين منا
دون غيرهم، ان المتكلمين منا، كانوا في مقام المناظرة مع المخالفين.
[1]
وقد ورد ان ارتفاع شأن معاوية وصل إلى حد بحيث كان السقاؤون يسقون الناس ويقولون: ترحموا على معاوية، وتصدى
المعتضد لردع الناس عن ذلك بالاعلان على خلاف ذلك ثم وجهوه وتوجه بعدم القدرة على ذلك ح - ع - م.
522

ومن هنا اتضح ان الاشكال الذي أورده الشيخ على نفسه في غاية المتانة بدوا، إذ كتب المتكلمين منا مشحونة بالجملة المشار إليها، كما أن
جواب الشيخ أيضا جواب حسن فإنه مع اشتهار هذه الجملة ترى أصحابنا الإمامية بأجمعهم من المتكلمين وغيرهم، انهم كانوا يعملون
بما وصل إليهم من الأئمة عليهم السلام أو النبي صلى الله عليه وآله بطرق أصحابهم الثقات، كما دل على هذا المعنى كثير من الروايات
التي ذكرناها سابقا وغيرها فراجع، فإنهم وان لم يألفوا في بيان حجيتها تصنيفا، ولم يصرحوا بحجيتها قبل الشيخ ولكن العمدة هو
استقرار بنائهم على ذلك عملا، فإنها كانت مبنى فقههم فجزى الله الشيخ (قده) عنا خير الجزاء حيث جمع بين ما نرى منهم عملا من العمل
باخبار الآحاد الواصلة إليهم من طريق أصحابهم وبين ما أثبتوه في كتبهم الكلامية، من أن اخبار الآحاد لا تفيد علما ولا عملا، كيف ولو
لم يتصد لرفع هذا التهافت لبقي هذا الاشكال وأشكل رفعه فراجع (العدة) في المقام، فان مبحث حجية الخبر من أركان الفقه وقد ورد
فيه (قده) وحقق فيه بما لا يغنى عنه غيره.
اختلاف العلماء في بيان مراد الشيخ الطوسي
: [1]
قد ظهر من كلام الشيخ في العدة، انه ادعى إجماع الإمامية على العمل بخبر الواحد، لكن القوم اختلفوا في بيان مراده (قده) فحمل العلامة
(قده) كلامه على إرادة حجية خبر العدل الامامي، سواء كان مدونا في الكتب المشهورة المعمول بها عند الأصحاب أم لا؟ وحمله صاحب
المعالم تبعا للمحقق في (المعارج) على إرادة حجية الاخبار التي دونها الأصحاب في جوامعهم وعملوا بها في فتاواهم ورسائلهم و
استفاد ذلك من استدلاله (قده) في العدة بعد ذكر مختاره، بإجماع الامامية على العمل بالكتب المدونة من قبل الشيعة الحاوية لاخبار
الأئمة عليهم السلام وجريان سيرتهم على الاستدلال بها في مخاصماتهم ومناظراتهم في المسائل الفقهية.
أقول: لو كان مراد الشيخ (قده) إثبات حجية هذه الأخبار المدونة في كتب الأصحاب،
[1]
اعلم أنه تخلل في البين في هذا المقام أيام تعطيل الصيف وبعدها عرض لي سانحة وكسالة عاقت بيني وبين حضور درس الأستاذ
مد ظله إلى مبحث دليل الانسداد فاستنسخت من هذا المقام إلى أول الانسداد من جزوة بعض أصدقائي حفظه الله تعالى بتغييرات منى
في النظم والترتيب وتصرفات في العبارات فان السلائق مختلفة كما لا يخفى ح - ع - م.
523

بإجماعهم على العمل بها، صار مرجع كلامه إلى المصادرة
. [1]
وبعبارة، أخرى ان أريد بالاجماع، اتفاقهم على العمل بكل واحد واحد من
هذه الأخبار فهو معلوم الخلاف. وان أريد الاتفاق على العمل بما عملوا به لزم المصادرة. فان معنى حجية الخبر ليست الا جواز العمل به،
فالاجماع على عملهم بالاخبار ليس الا عبارة عن إجماعهم على الحجية، وعلى هذا يصير محصل كلامه، ان الاخبار التي في هذه الكتب و
عمل بها الأصحاب حجة لأنها حجة، فتأمل.
والانصاف ان مراد الشيخ الطوسي (قده) هو ما فهمه العلامة وقواه الشيخ الأنصاري في الفرائد أيضا.
نقد كلام الشيخ الطوسي في العدة:
ولكن هنا شي وهو ان ظاهر كلامه في العدة بملاحظة القيود التي اعتبرها في موضوع الحجية، كون حجيته بتأسيس من الشارع و
تعبد منه وكون بناء الأصحاب على العمل بها، كاشفا عن ورود التعبد بها من قبله وهذا ينافي ما مر منا من رجوع جميع أدلة حجية
الخبر حتى بناء الأصحاب على العمل بها إلى جريان سيرة العقلا بما هم عقلا على العمل بخبر الثقة وانها الدليل العمدة في هذا الباب و
الأدلة النقلية أيضا وردت إمضاء لها وليست بصدد التأسيس أصلا، إذ من جملتها، آية النبأ ويستفاد منها ان بناء الناس كان على العمل
حتى بخبر الفاسق أيضا، غاية الأمر، ردع الشارع إياهم عن العمل بهذا القسم وتقريرهم في العمل بخبر العدل، وكذلك ساير الآيات، لا
يستفاد منها أكثر من إمضاء سيرة العقلا وهكذا الاجماعات التي قررها الشيخ في الرسائل، إذ قلنا إن مرجع جميعها إلى جريان سيرة
العقلا بما هم عقلا.
فالواجب تأويل كلام الشيخ (قده) بما لا ينافي ما ذكرنا.
تأويل كلام الشيخ في العدة:
يمكن ان يقال: بأنه (قده) أراد بذكر القيود في كلامه، تعيين الصغرى وليس فيه بصدد بيان أصل الكبرى التي جرت عليها السيرة.
[1]
لم يظهر لي وجه كونه مصادرة، إذ المدعى حجيتها لنا، والدليل حجيتها عند الأصحاب، فلا يتحدان ح - ع - م.
524

بيان ذلك: ان يقال: ان الشيخ (قده) أيضا يقول بحجية خبر مطلق الثقة كما عليها بناء العقلا، الا ان المصداق عنده لهذا العنوان من بين
الاخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، هو خصوص ما كان واجدا للقيود التي ذكره ولا يبعد ذلك.
والسر فيه ان قلة زمان النبي صلى الله عليه وآله وضيق مجاله صلى الله عليه وآله وكثرة اشتغاله صلى الله عليه وآله بالمشاغل
المختلفة من توطئة الحروب والاحتجاج على الأمم المختلفة في أصول الدين ولا سيما التوحيد وغير ذلك من مشاغله، منعته صلى الله
عليه وآله من بيان الاحكام للمسلمين بحيث يضبطونها فلم يضبط الاحكام كما هي، فربما سئل عن المنسوخ ولم يسأل عن الناسخ، و
رب من ضبط منه صلى الله عليه وآله العام دون الخاص، أو بعض كلامه صلى الله عليه وآله دون بعضه لكثرة مشاغل الصحابة أيضا و
لذا ترى ان أغلبهم ممن لا يروى عنه بحديث وكثير منهم ضبط وروى ما لا يرتبط بالاحكام من الحكم والمعارف المترشحة منه صلى
الله عليه وآله.
نعم، روى عنه أبو هريرة وعائشة وابن عباس أحاديث كثيرة الا ان حال الأولين معلومة.
ثم إن بعده صلى الله عليه وآله توجه المسلمون إلى احتياجهم إلى بيان الاحكام وهو صلى الله عليه وآله وان بين وظيفتهم فيما بعده من
الرجوع إلى الأئمة عليهم السلام كما يدل عليه حديث الثقلين، حيث جعلت فيه العترة عدلا للكتاب، فيفهم منه انه يجب ان يترقب منهم ما
يترقب من الكتاب ولا أقل من دلالته على حجية قولهم مثله، الا انهم أعرضوا عن العترة عليهم السلام فألجأهم الاحتياج إلى الاحكام و
عدم رجوعهم إليهم عليهم السلام، إلى الرجوع إلى ما يرويه الصحابة عنه صلى الله عليه وآله، فعظم بذلك امر الصحابة فأكثروا الكذب
عليه صلى الله عليه وآله خصوصا مع ما رأوه من اعتقاد الناس في حقهم من أنهم لا يكذبون أصلا وان جميعهم عدول لا ينبغي ان يتكلم
فيهم بشئ وان ظهر منهم فجائع عظيمة، فلأجل ذلك لم يبق وثوق بما يرويه العامة عن النبي صلى الله عليه وآله، فهذا وجه تخصيص
الشيخ موضوع الحجية بما يرويه أصحابنا من طرقهم عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام لاهتمامهم في ضبط الأحاديث و
اجتنابهم عن الكذب والتأويل، فبذلوا جهدهم في جمع الأحاديث وضبطها وتعاطيها، فجمع أصحاب الصادق عليه السلام أحاديث كثيرة
ضبطوها في جوامعهم وجمع أصحاب الرضا عليه السلام - فقهاء الطبقة السادسة البالغ عددهم إلى ثمانية وعشرين - أحاديث كثيرة
بعد التنقيح والتطهير مما دس فيها وصارت جوامعهم، جوامع عظيمة بالنسبة إلى جوامع أصحاب الصادق. ومنها الف الجوامع الثانوية
الأربعة.
وبالجملة، فحصر الشيخ الحجية في الاخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام بطرقنا ليس
525

لتعبد شرعي وتأسيس من قبل الشارع، بل لعدم بقاء خبر يوثق بصدوره بين روايات القوم لما عرفته من الأوضاع. فالوجه في حجية
الخبر عند الشيخ أيضا، ليس الا بناء العقلا على العمل بخبر مطلق الثقة. ولازم ذلك ان يراعى في موضوع الحجية ما يعتبره العقلا من
الشرائط والقيود في الخبر الذي يحتج به العبد على المولى والمولى على العبد، فمنها، كون ناقله ظاهر الصلاح وظاهر حاله الصدق و
عدم كونه ممن يتعمد الكذب.
ومنها: عدم كونه إذنا سريع التصديق، ولا كثير السهو والنسيان.
ومنها: ان لا يكون مفاده معرضا عنه عند بطانة المولى وأصحاب سره المطلعين على آرائه وأهدافه. هذا تمام الكلام في حجية الخبر
بالاجماع. ويتفرع على هذا البحث أمران نتعرض لهما إجمالا:
526

بحث إجمالي حول الاجماع
الأمر الأول في حجية الاجماع المنقول:
فقد يظهر من بعضهم ولا سيما المتأخرين كصاحب الرياض، جعله من مصاديق الخبر وانقسامه بأقسامه وان الدليل على حجية الاجماع
المنقول بالخبر الواحد، هو الدليل على حجية الخبر الواحد. بل ربما يظهر ذلك من العلامة أيضا، حيث استدل لنجاسة العصير العنبي بان
الشيخ (ره) ادعى الاجماع عليها وهو عادل فقوله حجة.
ولا بد قبل البحث في حجيته من بيان معنى الاجماع وحقيقته فنقول:
الاجماع في اللغة يستعمل في معنيين: الأول: العزم، ومنه الحديث: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له.) (سنن البيهقي ج 4 ص
202) الثاني: الاتفاق، ويختلف ذلك باختلاف المضاف إليه فيصدق على اتفاق الاثنين والثلاثة وما زاد.
وفي الاصطلاح أيضا يطلق على معنيين مأخوذين من المعنى الثاني:
الأول: ما اصطلح عليه العامة، وهو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وآله على امر من الأمور الدينية في عصر واحد. و
منشأ هذا الاصطلاح، الحديث الذي رووه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (لا تجتمع أمتي على خطأ) أو (على ضلالة.) وظاهره وإن كان
اتفاق جميع الأمة إلى يوم القيامة، ولكنهم حملوه على اتفاق العلماء وأهل الحل والعقد منهم في عصر واحد، بداهة ان رأي غير أهل
العلم والخبرة لا أثر له في المسائل الدينية فيكون المقصود لا محالة اتفاق أهل الحل والعقد منهم. واتفاق الأمة إلى يوم القيامة أيضا لا
يتحقق الا بعد انتهاء الدنيا ووقوع القيامة، فما هو الحجة لا محالة ليس الا اتفاق الموجودين من أهل الحل والعقد من الأمة في عصر واحد
لا اتفاق الموجودين والمعدومين من السابقين واللاحقين. وغرضهم إثبات الخلافة بادعاء تحقق الاجماع في العصر الأول. وقال
بعضهم: ان المراد به اتفاق الصحابة. وقال مالك: اتفاق أهل المدينة.
527

الثاني: اتفاق أهل كل فن من الفنون على مسألة من مسائل هذا الفن، كاتفاق الصرفيين مثلا على لزوم إعلال الاجوف، واتفاق النحويين
على كون الفاعل مرفوعا، وهكذا في جميع العلوم والفنون، ومنها علم الفقه. فإذا قال العلامة مثلا في التذكرة أو المنتهى: أجمع علمائنا
أو أجمع علماء الاسلام فهو على هذا الاصطلاح. وقد جرى دأب كل ذي فن على أن يشير في كل مسألة مطروحة إلى أن المسألة من
المسائل الخلافية أو مما أجمع عليها الكل. هذا.
والاصطلاح الأول هو المتداول عند العامة وهو الأصل لهم، حيث بنوا عليه أساس مسألة الخلافة، وهم الأصل له، حيث ذكروه في كتبهم و
برهنوا له في علم الأصول وهم ألفوا في الأصول قبل الخاصة، ومنهم ورد علم الأصول فينا. ومقتضى كلماتهم، كون الاجماع بما هو
إجماع واتفاق، حجة بنفسه في قبال ساير الأدلة من الكتاب والسنة والعقل، لا بملاك كونه كاشفا عن قول المعصوم أو السنة القطعية.
فاتفاق أهل الحل والعقد في عصر واحد حجة عندهم بنفسه، وكل واحد من الأقوال جز من الحجة. واستدلوا له بأمور منها الحديث
الماضي.
واما أصحابنا الإمامية فلما رأوا اعتماد العامة على الاجماع بهذا المعنى واستدلالهم له بالحديث المذكور وببعض الآيات أوردوا عليهم
أولا: بان الحديث المذكور غير ثابت عندنا والآيات المذكورة لا دلالة لها.
وثانيا: بان اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وآله لو فرض تحققه في عصر واحد فلا محالة يكون الامام المعصوم
عليه السلام أيضا داخلا فيهم لعدم خلو عصر منه عليه السلام فنحن أيضا نعترف بحجية الاجماع المذكور ولكن لا بمعنى كون الاجماع
بنفسه حجة مستقلة بل لاشتماله على هذا الفرض على قول الإمام المعصوم عليه السلام فيكون هو تمام الحجة حقيقة والباقون من قبيل
ضم الحجر إلى الانسان، فإذا رأيت قدماء أصحابنا استدلوا في مسألة من المسائل المختلف فيها بيننا وبين العامة بالاجماع كما هو دأب
السيد المرتضى في الانتصار والناصريات، والشيخ في الخلاف، وابن زهرة في الغنية وهكذا، فالظاهر إرادتهم الاجماع على هذا
الاصطلاح لا اتفاق جميع الفقهاء في جميع الأعصار، ويريدون بذلك المماشاة مع العامة في الاستدلال بالاجماع ولا يريدون الا اتفاق
جماعة متضمن لما هو ملاك حجيته عندنا أعني الامام المعصوم عليه السلام. وان شئت قلت: لا يريدون بذلك الا قول المعصوم عليه
السلام.
لا يقال: إذا فرض ان الحجة عند أصحابكم قول المعصوم عليه السلام وان انضمام ساير الأقوال إليه من قبيل وضع الحجر بجنب الانسان
فلم عبروا عن ذلك بالاجماع؟
528

فإنه يقال: الاشكال وارد لو كان ابتدأ هذا التعبير والاصطلاح من ناحية أصحابنا. ولكن قد مر ان الأصل فيه هم العامة وحيث مشينا
معهم على طبق اصطلاحاتهم في علم الأصول الذي هم أسسوه وهم كانوا يذكرون الاجماع بعنوان دليل مستقل فلأجل ذلك عبر أصحابنا
بالاجماع مماشاة لهم وإشارة إلى موافقتنا لهم إجمالا في أصل حجيته وان اختلفنا معهم في ملاكها. ففي الحقيقة يراد بالاجماع في
كلمات الأصحاب، اتفاق جماعة يعلم بدخول المعصوم فيهم وان لم يعرف بشخصه، ولم يريدوا بذلك اتفاق جميع الفقهاء المصطلح عليه
عند المتأخرين كالعلامة مثلا. وكان غرضهم من التعبير عن رأي الامام المعصوم عليه السلام بالاجماع، التحفظ والفرار عن طرح
مسألة الإمامة وحجية قول المعصوم عليه السلام في كل مسألة مسألة. هذا.
وقد صرح بما ذكرنا السيدان العلمان: المرتضى وابن زهرة: ففي أوائل الانتصار بعد ادعاء حجية إجماع الإمامية قال: (وانما قلنا
إجماعهم حجة، لان في إجماع الإمامية قول الإمام الذي دلت العقول على أن كل زمان لا يخلو منه وانه معصوم لا يجوز عليه الخطأ في
قول ولا فعل، فمن هذا الوجه كان إجماعهم حجة ودليلا قاطعا).
وفي الذريعة (ص 630): (لان الاجماع إذا كان علة كونه حجة، كون الامام فيه، فكل جماعة - كثرت أو قلت - كان قول الإمام في جملة
أقوالها، فإجماعها حجة، لان الحجة إذا كانت هو قوله، فبأي شي اقترن لا بد من كونه حجة لأجله لا لأجل الاجماع.) وفي أوائل الغنية في
مبحث الاجماع قال: (فعندنا ان العلة في كونه حجة، انه يشتمل على قول المعصوم. وعندهم ان الله تعالى علم أن هذه الأمة لا تجتمع على
خطأ. فان قيل: إذا كان المرجع بكون الاجماع حجة عندكم إلى قول المعصوم عليه السلام وليس للاجماع تأثير في ذلك، كان قولكم:
الاجماع حجة لغوا لا فائدة فيه. قيل: نحن لا نبدأ بالقول ان الاجماع حجة بل إذا سئلنا فقيل لنا: ما قولكم في إجماع المسلمين؟.
قلنا: هو حق وحجة من حيث كان قول المعصوم عليه السلام في إجماعهم. وهذا كما لو قيل في جماعة فيها نبي هل قول هذه الجماعة حق
وحجة؟. فإنه لا بد في الجواب لنا ولكل مسؤول عن ذلك من القول بأنه حجة، وإن كان لا تأثير لقول من عدا النبي صلى الله عليه وآله في
ذلك.) هذا
. [1]
[1]
أقول: وقال المحقق (ره) في مقدمة المعتبر: (واما الاجماع فعندنا هو حجة بانضمام المعصوم عليه السلام. فلو خلا المائة من فقهائنا
عن قوله عليه السلام لما كان حجة. ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة، لا باعتبار اتفاقهما، بل باعتبار قوله عليه السلام. فلا تغتر إذا
بمن يتحكم فيدعى الاجماع باتفاق الخمسة والعشرة من الأصحاب مع جهالة
529

ولكن يمكن ان يقال: ان ما ذكروه من اتفاق جماعة فيهم الامام المعصوم عليه السلام مجرد فرض يشكل إحرازه في المسائل، إذ قلما
يتفق اتفاق جمع من العلماء على حكم شرعي بحيث يقطع بدخول شخص المعصوم فيهم مع عدم معرفته بشخصه. وقد كنا في سالف
الزمان حين قراءتنا للمعالم والقوانين نتعجب من طرح هذا الموضوع في كلمات الأصحاب.
وكيف كان، فالاجماع في اصطلاح العامة عبارة عن اتفاق العلماء وأهل الحل والعقد في عصر واحد على مسألة دينية. وعلى وفق هذا
الاصطلاح جرى فقهائنا المحاجين لهم في المسائل.
قول الباقين الا مع العلم القطعي بدخول الامام في الجملة.) هذا.
وفي أول مبحث الاجماع من عدة الشيخ رحمه الله قال: (والذي نذهب إليه: ان الأمة لا يجوز ان تجتمع على خطأ وان ما يجمع عليه لا
يكون الا صوابا وحجة، لان عندنا انه لا يخلو الاعصار من امام معصوم حافظ للشرع يكون قوله حجة يجب الرجوع إليه كما يجب
الرجوع إلى قول الرسول صلى الله عليه وآله. فان قيل: إذا كان المدعى في باب الحجة قول الإمام المعصوم عليه السلام فلا فائدة في أن
تقولوا: ان الاجماع حجة أو تعتبروا ذلك بل ينبغي ان تقولوا: ان الحجة قول الإمام عليه السلام ولا تذكرون الاجماع.
قيل له: الامر وإن كان على ما تضمنه السؤال، فان لاعتبار الاجماع فائدة معلومة وهي انه قد لا يتعين لنا قول الإمام في كثير من
الأوقات فيحتاج حينئذ إلى اعتبار الاجماع ليعلم بإجماعهم ان قول المعصوم داخل فيهم. ولو تعين لنا قول المعصوم الذي هو الحجة
لقطعنا على أن قوله هو الحجة ولم نعتبر سواه على حال من الأحوال.) أقول: قوله: (ان قول المعصوم داخل فيهم) ان أراد به دخول
شخص المعصوم في المجمعين وان لم يعرف بشخصه، كان الاجماع دخوليا لا محالة. ولكن يحتمل انه لم يرد بذلك دخول شخص
المعصوم في المجمعين، بل أراد بذلك انكشاف قوله من اتفاق جميع العلماء في عصر واحد، فيكون حجيته من باب اللطف الذي هو مبناه
كما يظهر من موارد أخر من كلامه.
ومحصل الكلام في المقام: ان عد الاجماع من الأدلة الشرعية امر أبدعه العامة، واستدلوا لحجيته في كتبهم الاستدلالية وكان غرضهم
من ذلك في بادئ الامر، تحكيم خلافة الخلفاء ولا سيما الأول منهم بذلك. مع وضوح عدم تحقق الاجماع بالنسبة إليها، وانما بائع أبا
بكر في السقيفة خمسة: عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بن حضير وبشير بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة. ثم أوجدوا
جو الدعايات والارهاب، فلحق بهم الناس تدريجا ولم يبايع أمير المؤمنين عليه السلام وسلمان وأبو ذر ومقداد وجمع آخرون.
فالاجماع عند العامة دليل مستقل في قبال الكتاب والسنة والعقل.
وكيف كان، فلما واجههم على ذلك قدماء أصحابنا ومؤلفوهم، قالوا لهم مما شاة: نحن أيضا نسلم حجية الاجماع على فرض تحققه و
لكن لا بعنوان دليل مستقل في قبال ساير الأدلة، بل لدخول المعصوم فيهم على ذلك، ففي الحقيقة قوله الحجة والباقون من قبيل الحجر
في جنب الانسان.
530

(أدلة حجية الاجماع)
واستدل العامة لحجيته بالكتاب والسنة.
اما السنة فما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: (لا تجتمع أمتي على خطأ) بالتقريب الذي مر ومر الجواب عنها بعدم ثبوت
الرواية عندنا.
واما الآيات فعمدتها قوله تعالى في سورة النساء (115): (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله
ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا.) بتقريب ان المستفاد منها وجوب اتباع المؤمنين، ولا يراد منه وجوب اتباع كل واحد منهم
مستقلا فلا محالة يراد اتباعهم مجموعا فيما اتفقوا عليه.
وقد أجيب عنها بوجوه أنهاها في العدة إلى ثمانية وجوه.
ومما قيل في الجواب عنها، ان اللام لعلها للعهد لا للجنس والاستغراق، أو ان الآية تدل على
والظاهر أن هذا صار سببا لادعاء القدماء من أصحابنا الاجماع حتى في المسائل الخلافية بعد اعتقادهم بكون رأي خاص مطابقا لرأي
الإمام عليه السلام، لا بأن سمعوا الرأي من جماعة فيهم الامام بلا معرفة لشخصه فإنه فرض نادر بل غير واقع، بل بسبب إحرازهم رأي
الإمام عليه السلام مما قام عندهم من الأدلة المتعارفة من الكتاب والسنة والقواعد الدارجة المستنبطة منهما بضميمة أقوال جمع من
الفقهاء.
ففي الحقيقة حكاية الاجماع من قبلهم ترجع إلى حكاية رأي الإمام عليه السلام على حسب اجتهاد المدعى وفتواه المستنبطة من الأدلة و
ان كانت المسألة خلافية. وانما عبروا بالاجماع مما شاة للعامة أو أرادوا بذلك ثبوت الاتفاق بالنسبة إلى نفس الدليل أو القاعدة الكلية
التي اعتمدوا عليها في إفتائهم. ويعبر عن ذلك بالاجماع على القاعدة فتدبر. هذا.
والأقوال في الاجماع عند أصحابنا ترجع إلى أقوال أربعة:
الأول: دخول شخص الامام المعصوم في المجمعين والسماع منه. وهذا فرض نادر جدا بل غير واقع.
الثاني: حكم العقل أو الشرع بوجوب موافقة المعصوم عليه السلام للمجمعين من باب قاعدة اللطف وان رأيه عليه السلام لو كان على
خلاف ما عليه جميع فقهاء العصر لوجب عليه إظهاره عقلا أو شرعا تحفظا لوضوح الحق في كل عصر.
الثالث: حدس رأيه عليه السلام عادة من اتفاق آراء الفقهاء المتعبدين بالنصوص في جميع الأعصار وانهم تلقوه منه عليه السلام أو وصل
إليهم من قبله دليل معتبر واضح.
الرابع: حدس رأيه تصادفا في مورد خاص بالقرائن الموجودة أو بالأدلة الخاصة القائمة عند المدعى والأخبار الواردة في المسألة. و
يظهر ممن اعتذر عن وجود المخالف في مسألة بأنه معلوم النسب اعتماده على الاجماع من باب دخول المعصوم في المجمعين وممن
اعتذر عنه بانقراض عصره اعتماده عليه من باب قاعدة اللطف.
531

حرمة مخالفتهم لا وجوب موافقتهم. ولكن الأولى والأحسن ان يقال: ان مفاد الآية وجوب اتباع المؤمنين بما هم مؤمنون، إذ تعليق
الحكم على الوصف مشعر بالعلية. ومن الواضح ان الايمان بما هو إيمان بالله وبرسوله لا يقتضي الا إطاعة الله وإطاعة رسوله فيما
يأتي به من الله تعالى وفيما يحكم به بولايته وسلطنته والإلهية على الأمة.
وبالجملة فمرجع الآية إلى وجوب اتباع المؤمنين فيما يقتضيه إيمانهم، من العمل بكتاب الله تعالى وإطاعة رسوله والتسليم له، فيكون
عبارة أخرى عن حرمة مشاقة الرسول ومخالفته، والعطف تفسيري. وأين هذا من لزوم اتباعهم فيما اتفقوا عليه ب آرائهم ولو لم تكن
مما يقتضيه إيمانهم.
ومن الآيات أيضا قوله تعالى في سورة آل عمران (110): (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر و
تؤمنون بالله.) حيث وصف الله تعالى الأمة الاسلامية بأنها خير أمة، فلا يجوز عليها بمجموعها وبما هي أمة الخطأ والا لخرجت عن
كونها خيرا وجاز أمرها بالمنكر ونهيها عن المعروف.
وفيه، ان الآية ليست بصدد بيان حال الأمة خارجا واتصافها خارجا بالخيرية، بل بصدد بيان ملاك الخيرية والسعادة وان الأمة تكون
خيرا لو فرض اتصافها خارجا بصفات ثلاث يرتبط إحداها بروابطها مع الله وهو الايمان به بلوازمه والاخريان بروابط بعضهم مع
بعض أعني الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. فملاك كون الأمة خيرا تحصيلها لهذه الصفات الثلاث واتصافها بها.
وبالجملة مفاد الآية قضية شرطية فتدبر. هذا.
وقد تحصل لك مما ذكرنا، ان الاجماع عند العامة اتفاق أهل الحل والعقد في عصر واحد على امر من الأمور الدينية. وعلى هذا الأساس
مشى القدماء من أصحابنا ولا سيما في المسائل التي كانوا يحاجون فيها أهل الخلاف ولكن أرادوا به دخول الامام المعصوم وكونه
الملاك في الحجية.
وان شئت قلت: أرادوا به قوله الذي هو الملاك في حجيته عندهم.
واما ما يرى في كلمات الفقهاء المتأخرين، من دعوى الاجماع في بعض المسائل، فلا يراد به ما هو المصطلح عليه عند القدماء، بل يراد به
اتفاق جميع أهل الفن نظير ما يدعيه كل ذي فن في بعض مسائل فنه، فليس المقصود دخول المعصوم عليه السلام فيهم. وعلى هذا فيقع
الاشكال في وجه حجيته فنقول:
اما في ساير الفنون غير علم الفقه فلا دليل على حجيته الا إذا حصل القطع بسببه. واما في المسائل الفقهية ففي حجيته ووجهها خلاف.
532

كلام الشيخ الطوسي في الاجماع
يظهر من الشيخ في موارد من عدته كون الدليل عليها قاعدة اللطف بتقريب ان الأمة إذا تطابقت على مسألة من المسائل فلو كان رأي
الامام المعصوم الذي لا يخلو الزمان منه على وفقه فهو والا وجب عليه من باب اللطف إبراز رأيه بإلقاء الخلاف لئلا يكون جميع الأمة
على خلاف الحق.
قال في مبحث الاجماع من العدة في حكم ما إذا اختلفت الأمة على قولين يكون أحدهما قول الإمام على وجه لا يعرف بنفسه والباقون
كلهم على خلافه: (متى اتفق ذلك وكان على القول الذي انفرد به الامام دليل من كتاب أو سنة مقطوع بهما لم يجب عليه الظهور ولا
الدلالة على ذلك، لان ما هو موجود من دليل الكتاب والسنة، كاف في باب إزاحة التكليف. ومتى لم يكن على القول الذي انفرد به دليل،
وجب عليه الظهور أو إظهار من يبين الحق في تلك المسألة. وذكر المرتضى علي بن الحسين الموسوي (ره) أخيرا: انه يجوز ان يكون
الحق فيما عند الامام والأقوال الاخر كلها باطلة ولا يجب عليه الظهور لأنه إذا كنا نحن السبب في استتاره فكلما يفوتنا من الانتفاع به
وبتصرفه وبما معه من الاحكام يكون قد أتينا من قبل نفوسنا فيه ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وادى إلينا الحق الذي
عنده. وهذا عندي غير صحيح، لأنه يؤدي إلى أن لا يصح الاحتجاج بإجماع الطائفة أصلا لأنا لا نعلم دخول الإمام عليه السلام فيها الا
بالاعتبار الذي بيناه. ومتى جوزنا انفراده بالقول وانه لا يجب ظهوره منع ذلك من الاحتجاج بالاجماع.) - هذا ما ذكره الشيخ (ره) في
باب الاجماع.
ولكن يمكن ان يناقش بعدم ثبوت وجوب اللطف على الامام لا عقلا ولا شرعا، ومن أين ثبت حجية الاجماعات وجواز الاحتجاج بها
حتى يجعل هذا دليلا على بطلان كلام السيد (ره)؟. هذا.
حجية الاجماع بالحدس
وذهب جماعة إلى أن حجية الاجماع من باب الحدس، حيث إن العلماء مع كثرة اختلافاتهم واختلاف مبانيهم ومشاربهم إذا فرض
اتفاقهم على مسألة من المسائل فلا محالة يحصل بذلك الحدس القطعي أو الاطمئناني بتلقيهم ذلك ممن يكون قوله حجة عند الجميع. وقد
ذهب إلى هذه الطريقة بعض العامة كالشافعي أيضا حيث لم يتمسك هو في رسالته التي ألفها في علم الأصول لحجية الاجماع بما مر من
الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وآله، بل قال: ان العلماء متى اتفقوا على
533

مسألة علمنا بذلك انهم تلقوها عن النبي صلى الله عليه وآله.
ولكن يمكن ان يقال: بأنا لا نسلم تمامية هذه الطريقة بنحو الكلية بحيث يحكم بالملازمة العادية بين اتفاق العلماء على امر وبين العلم
بتلقيهم ذلك من المعصوم عليه السلام أو وصول دليل معتبر منه إليهم، الا ترى ان علماء المعقول مع تعمقهم ودقة إنظارهم كثيرا ما
اتفقوا على بعض المسائل في أعصار متتالية ثم ظهر خلافها بالدليل والبرهان.
نعم لو كانت المسألة من المسائل النقلية المحضة واتفق عليها الفقهاء الذين لا يتعبدون الا بالنقل طبقة بعد طبقة إلى عصر المعصومين
عليهم السلام علم منه قهرا انهم تلقوها منهم بعد ما أحرزنا انهم لم يكونوا ممن يفتى بالقياس والاستحسانات العقلية والاعتبارات
الظنية.
ولكن هذا الكلام يجري في المسائل الكلية الأصلية المبتنية على النقل المحض، نظير بطلان العول والتعصيب في المواريث الذي هو من
ضروريات فقه الشيعة بتلقيهم إياه من الأئمة عليهم السلام.
واما المسائل العقلية المحضة كالمسائل الكلامية، وكذا المسائل التفريعية التي استنبطها الفقهاء من المسائل الأصلية والقواعد الكلية
باعمال النظر والاجتهاد، فاتفاق العلماء فيها لا يكشف عن تلقيها عن المعصومين عليهم السلام بل يكون من باب التوافق في الفهم و
النظر.
هذا كله في ماهية الاجماع، واما الاجماع المنقول فسيأتي البحث فيه.
البحث في الاجماع المنقول
اعلم أن الشيخ الأنصاري (ره) في الرسائل ذكر للبحث عن الاجماعات المنقولة مقدمتين:
الأولى ما محصلها: ان أدلة حجية الخبر انما تدل على حجيته إذا كان الاخبار عن حس فلا تشمل الاخبار عن الحدسيات المحضة المبتنية
على الاجتهاد والنظر.
الثانية ما محصلها: ان وجه حجية الاجماع عند الإمامية - كما قالوا - هو اشتماله على قول الإمام المعصوم عليه السلام فيكون نقله نقلا
لقوله عليه السلام فيدخل قهرا في الحديث والخبر. ولكن مستند علم الناقل لقوله عليه السلام اما السماع منه في جملة جماعة، أو قاعدة
اللطف التي بنى عليها الشيخ في العدة، أو الحدس لقوله عليه السلام من أقوال العلماء بشقوقه. والأول في غاية القلة بل نعلم جزما بأنه لم
يتفق لاحد من الشيخين والسيدين وغيرهما من الناقلين للاجماعات الدارجة فلا محالة يكون الاخبار بقوله عليه السلام من باب اللطف
أو الحدس. واللطف لا نقول بوجوبه. ولم يعلم كون الحدس من قبيل الحدس الضروري المبتني على الآثار المحسوسة نظير الاخبار
بالعدالة أو الشجاعة بمشاهدة
534

آثارهما المحسوسة، إذ لعله من الحدسيات المبتنية على الاجتهاد والنظر فلا يشمله أدلة حجية الخبر.
ويرد عليه: ان ما يظهر منه من أن تحصيل قول الإمام من طريق الحس منحصر في سماع قوله عليه السلام في ضمن أقوال المجمعين، و
هو مما يعلم بعدم تحققه لنوع الحاكين للاجماعات، مدفوع بعدم كون نقل قوله عليه السلام عن حس منحصرا في سماع الناقل من
شخصه، ولا الامام منحصرا في امام العصر عجل الله تعالى فرجه. بل مرادهم من نقل قوله عليه السلام نقله ولو بطريق صحيح وصل
إليهم من أي واحد من الأئمة المعصومين عليهم السلام وهم نور واحد، والنقل بالطريق الصحيح أيضا من مصاديق الحس، نظير ما اتفق
في مسألتي العول والتعصيب ونحوهما من المسائل الواصلة عن أئمة الشيعة بالضرورة بطرق صحيحة في قبال العامة فادعوا عليها
الاجماع. وقد مر سابقا ان الاجماع كان عند العامة عبارة عن اتفاق العلماء من الأمة في عصر واحد وأقاموا لحجيته أدلة وبنوا عليها في
الأصول والفروع.
ولما واجههم أصحابنا وجدوا أدلتهم غير تامة ومخالفتهم بالكلية غير خالية عن الاشكال فقالوا: ان هذا الاتفاق على فرض تحققه حجة
عندنا أيضا ولكن لا بكونه حجة مستقلة في قبال ساير الأدلة بل لاشتماله على قول المعصوم الذي لا يخلو منه عصر وزمان.
وإذا كان قول الإمام تمام الحجة، فلا فرق بين طرق استكشافه فإذا فرض استكشافه من طريق خاص فلا نبالي بكون ساير الفقهاء
موافقين أو مخالفين، والسر في التعبير عنه بالاجماع انهم لما أثبتوا في كتبهم الاعتقادية والأصولية حجية أقوال الأئمة عليهم السلام و
عصمتهم ولم يتمكنوا في الفقه من عنوانهم في قبال أدلة العامة لكونه مفضيا إلى التنازع في مسألة الإمامة والخلافة في كل مسألة مسألة
حاولوا إدراج هذه الحجة وهو قول المعصوم عليه السلام في واحد من الأدلة الدارجة الدائرة على لسان القوم، ولم يتمكنوا من إدراجه
في الكتاب كما هو واضح ولا في السنة لانحصارها عند العامة في السنة النبوية، فألجأتهم الضرورة إلى إدراجه في الاجماع الذي اصطلح
عليه العامة لأنه كان حجة مستقلة عندهم ومشتملا عليها أيضا عندنا. فإذا استدلوا في مسألة بالاجماع، أرادوا بذلك قول المعصوم عليه
السلام ولكن لا بالسماع من شخصه بل بوصول نص صحيح معتبر من أحد من الأئمة الاثني عشر إلى ناقل الاجماع، فترى مثلا في مسألة
حرمان الزوجة من أرض المساكن - التي انفرد بها أصحابنا - استدلوا بالاجماع في قبال العامة المنكرين لها مع كون الأخبار الواردة
فيها بحد التواتر. فيظهر بذلك ان مقصودهم بالاجماع المذكور دليلا، قول الأئمة عليهم السلام
535

المنقولة بالتواتر. فلا وجه لحصر قول الإمام الثابت بالحس في السماع من شخص امام العصر عجل الله تعالى فرجه حتى يحكم عليه
بالندرة أو عدم الوقوع.
نعم يكون قوله عليه السلام أيضا لا محالة موافقا لأقوال ساير الأئمة المنقول عنهم فيصح الاسناد إليه أيضا.
وبالجملة، فإذا رأيت الشيخ الطوسي (قده) قد يتمسك في بعض المسائل بإجماع الطائفة مع كونها مما وردت فيها روايات مستفيضة أو
متواترة وافية بإثبات المسألة، فليس مقصوده حينئذ بالاجماع، اتفاق الفقهاء وكشف قول الإمام بسببه بل أراد به قول الإمام المعصوم
عليه السلام المنقول له بالاخبار المسندة المعتبرة عنده الموجبة للعلم به.
ولم يدع الاجماع في كثير من المسائل المذكورة في الخلاف وغيره حيث لم يرد فيها نص يكشف به قول الإمام. والتعبير بالاجماع
كان للفرار عن تجديد النزاع في مسألة الإمامة في كل مسألة مسألة، لا لما يظهر من الشيخ من أن هذا الاصطلاح كان للتحفظ على عناوين
الأدلة وعدم زيادتها على أربع وإن كان هذا أيضا محتملا فتدبر.
وحاصل الكلام ان الشيخ (ره) في الرسائل حصر طريق كشف قول الإمام عليه السلام في أمرين:
الأول: ان يحصل العلم بقوله عليه السلام من أقوال ساير العلماء بان يكون العلم، بأقوالهم متقدما على العلم بقوله عليه السلام وإن كان
الواقع بعكس ذلك، حيث إن قوله عليه السلام منشأ لحدوث أقوالهم.
الثاني: ان يحصل العلم بقوله عليه السلام في ضمن أقوالهم في رتبة واحدة، بان يسمع من جماعة يعلم أن أحدهم الإمام عليه السلام. ثم
قسم الأول إلى ثلاثة أقسام، بتقريب ان العلم بقوله بسبب أقوالهم اما ان يكون من باب وجوب اللطف، أو وجود الملازمة العادية بين
أقوالهم وبين قوله عليه السلام، أو حصول العلم به اتفاقا للناقل.
ولكن يرد عليه: ان التقسيم غير حاصر، فان هنا طريقا آخر لكشف قوله عليه السلام وهو نقل قوله عليه السلام بطريق مسند معتبر
واصل إليه. ولاجل ذلك ترى الشيخ الطوسي (ره) في العدة بعد ما جعل الملاك لحجية الاجماع، قول الإمام المعصوم عليه السلام. عقد
فصلا لبيان طرق الكشف لقوله عليه السلام فذكر ثلاثة طرق لمعرفة قوله عليه السلام: الأول: السماع منه عليه السلام والمشاهدة لقوله.
الثاني: النقل عنه بما يوجب العلم، يعني متواترا، الثالث: اتفاق العلماء بنحو يكشف به قول الإمام عليه السلام من باب اللطف. ثم ذكر كلام
السيد (ره) وإنكاره لقاعدة اللطف، ثم رده بما مر من استلزام إنكارها عدم صحة الاحتجاج بإجماع الطائفة على ما مر من نقل كلامه. و
ليس مقصوده (قده) انحصار وجه حجية
536

الاجماع في اللطف على ما نسب إليه في الرسائل وأسقط بذلك إجماعات الشيخ عن الاعتبار.
بل مقصوده ان الطريق لكشف قول الإمام إن كان اتفاق الفقهاء غير الامام فحجيته لا تكون الا من طريق اللطف كما لا يخفى على من
راجع العدة.
وقد ظهر لك بما ذكرناه إلى هنا: ان الاجماعات المنقولة في كلمات القدماء من أصحابنا كالشيخين والسيدين وغيرهما، ليست بمعنى
ان ناقل الاجماع استكشف قول الإمام عليه السلام من اتفاق جماعة هو داخل فيهم، أو ان أقوالهم أوجبت علمه بقول الإمام عليه السلام
لطفا أو حدسا، بل قصدوا بالاجماع ما هو الملاك عندهم لحجيته وهو نفس قول الإمام الواصل إليهم بالأدلة المعتبرة.
والظاهر منهم وصول قوله عليه السلام إليهم بالطرق الحسية أعني الاخبار الموجبة للعلم، فيشمله أدلة حجية الخبر. بل لو فرض الشك
في كون إدراكه له عن حس أو حدس فالظاهر حمله على كونه عن حس، فان الشخص العادل إذا أخبر عن امر وكان من المحتمل
استناده إلى الحس أو المبادئ الحسية الظاهرة، فقوله حجة عند العقلا ويكون دعواه الاجماع بمنزلة نقل قول الإمام عليه السلام عن
حس.
ومن ذلك يعلم منشأ تعارض الاجماعات المنقولة، إذ من الممكن ان وصل إلى كل من ناقلي الاجماع قوله عليه السلام بطريق معتبر عنده
لكثرة الاخبار المتعارضة في الأبواب المختلفة
. [1]
ويظهر هذا الامر لمن تتبع كلمات شيخ الطائفة. فتراه مثلا تعرض لمسألة منجزات
المريض في سبعة مواضع من كتاب الخلاف ونسب فيها إلى أصحابنا قولين: إخراجها من الأصل، وإخراجها من الثلث، وأشار فيها إلى
روايات الأصل وروايات الثلث معا.
ولكنه في كتاب العتق من الخلاف رجح اخبار الثلث وحكم بإخراجها من الثلث وقال:
(دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم.) فيعلم بذلك، ان مقصوده من الاجماع ليس الا قول الإمام الثابت له بعد ترجيح اخبار الثلث ولم يرد به
اتفاق الأصحاب.
وعلى هذا فناقل الاجماع إن كان عدلا وثقة وكان نقله محتملا لكونه عن حس، كان نقله
[1]
أقول: إذا كان مرجع نقل الاجماع إلى نقل وصول خبر معتبر عن الأئمة عليهم السلام عند الناقل، والمفروض ان الاخبار المتعارضة
كثيرة في الأبواب المختلفة من فقهنا فيرجع نقل الاجماع إلى ترجيح بعض الأخبار على بعض. ومرجع هذا إلى نقل اجتهاد الناقل فيخرج
عن كونه اخبارا عن امر حسي.
وان شئت قلت: ان اخباره يرجع إلى الاخبار عن اعتبار الخبر الذي اعتمد عليه وهذا امر يدخله النظر والاجتهاد فان المباني و
المشارب في شرائط اعتبار الخبر مختلفة جدا فيشكل ان يعامل مع اخباره هذا معاملة خبر العادل الثقة. ولو فرض الشك في كون
اخباره عن حس أو عن حدس فإنما يحكم العقلا بالحجية فيما إذا لم يكن الغالب فيها هو الحدس كما في المقام.
537

الاجماع في المسائل الفقهية الأصلية المبتنية على النقل حجة، ووزانه وزان نقل الخبر عن الأئمة عليهم السلام.
واما في المسائل التفريعية المبتنية على النظر والاجتهاد، فليس بحجة، لأنه اخبار عن حدس الناقل واستنباطه.
فان قلت: إذا كان مقصود الشيخ وأمثاله من الاجماع، قول الإمام عليه السلام لا الاجماع الاصطلاحي فلم نرى كثيرا منهم يذكرون بعد
نقل الاجماع اخبار المسألة أيضا ولا يكتفون بذكر الاجماع؟.
والشيخ أيضا يتمسك في المسائل الخلافية بإجماع الفرقة واخبارهم، فهذا يدل على أن المقصود بالاجماع غير الأخبار الواردة.
قلت: ذكرهم للاخبار بعد الاجماع لبيان مدرك الاجماع المدعى وان ادعاء الاجماع مستند إلى هذه الأخبار.
واما الشيخ في الخلاف، فلعله أراد باستدلاله الدارج في الخلاف في قبال العامة بيان ان في المسألة دليلين: إجماع الفرقة أعني قول الإمام
المعصوم والاخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وآله التي لم تذكر في جوامعهم الحديثية ووصلت إلينا بواسطة الأئمة عليهم
السلام، ففي الحقيقة أقام في المسألة دليلين: قول الإمام والسنة النبوية. وقد ورد في أخبارنا ان روايات أئمتنا وصلت إليهم من النبي
صلى الله عليه وآله ويجوز روايتها عنه صلى الله عليه وآله. ففي الوسائل (ج 18 ص 58) بسنده عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان و
غيره قالوا: سمعنا أبا عبد الله عليه السلام يقول: (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث
الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله، وحديث
رسول الله صلى الله عليه وآله قول الله عز وجل.) ثم إنه يظهر من الشيخ (ره) في الرسائل: ان نقل الاجماع مطلقا مشتمل على نقل
الكاشف والمنكشف معا. وقد ظهر مما ذكرنا خلاف ذلك، إذ بعض الاجماعات المنقولة مشتمل على نقل المنكشف، أعني قول الإمام
فقط كإجماعات الشيخ في الخلاف كما مر بيانه، وبعضها مشتمل على نقل الكاشف، أعني أقوال العلماء فقط، نظير كثير من إجماعات
العلامة في التذكرة مثل قوله: (أجمع علماء الاسلام على كذا) إذ ليس المقصود منه الا اتفاق جميع علماء الاسلام من العامة والخاصة نظير
ادعاء أحد أرباب الفنون اتفاق علماء فنه في مسألة من مسائل الفن، فليس نظر الناقل الا نقل فتوى جميع أهل الفن. ففي الحقيقة نقل
موضوعا يمكن ان يستكشف منه قول الإمام بالملازمة أو الحدس.
538

فان قلت: نقل الاجماع بالمعنى الذي ذكرت لا فائدة له، لان النص الواصل إلى ناقل الاجماع اما ان وصل إلينا أيضا أولا، فعلى الأول لا
نحتاج إلى الاجماع المنقول، وعلى الثاني لا يجوز الاعتماد عليه لاحتمال كونه مبنيا على قاعدة اللطف وقد مر بطلانها.
قلت: نقله مفيد على كلا التقديرين، إذ مع وصول النص إلينا يكون نقل الاجماع بمنزلة خبر آخر وكما أنه مع وجود اخبار عديدة في
المسألة نتمسك بجميعها ويتأيد بعضها ببعض فكذلك في المقام. واما مع عدم وصوله إلينا فلان عدم جواز الاعتماد عليه مبني على أن
يشترط في حجية النقل، العلم بكونه عن حس وليس كذلك لما مر من جواز الاعتماد على الخبر مع احتمال كونه عن حس ولا يلزم
إحراز ذلك لبناء العقلا على العمل به إلا مع إحراز الخلاف كما مر.
هذا مضافا إلى أن الاعتماد على نقل الاجماع لو كان الناقل من أهل التتبع أكثر من الاعتماد على نقل النص لان ناقل النص ينقل النص
الصادر عن الامام، فيحتمل كون ظاهره مرادا ويحتمل عدمه أيضا لأجل التقية ونحوها، واما ناقل الاجماع فينقل رأي الامام ومذهبه
الحق فتدبر.
ثم لا يخفى انا لا نقول بلزوم متابعة الاجماع المنقول بحيث لا يجوز مخالفته كيف ما كان، بل نقول بان وزانه وزان الخبر الواحد، فكما
ان في مورده يتفحص عن المعارضات والمرجحات وبعد الترجيح يؤخذ به فكذا في المقام
. [1]
[1]
لا يخفى اختلاف الاجماع المنقول باختلاف إنظار الناقلين وألفاظ النقل. فتارة ينقل رأي الإمام عليه السلام أيضا في ضمن نقل
الاجماع اما حدسا كما هو الغالب أو حسا وإن كان فرضه نادرا. وأخرى لا ينقل إلا ما هو السبب عنده لاستكشاف رأيه عليه السلام عقلا
أو شرعا أو عادة أو اتفاقا. فإن كان المنقول السبب والمسبب معا عن حس فالظاهر شمول أدلة حجية الخبر له. ومثله ما إذا كان عن
حدس ضروري قريب من الحس من ناحية الآثار المحسوسة. وكذا إن كان المنقول هو السبب فقط ولكن كانت سببيته واضحة عند
المنقول إليه أيضا فيعامل مع المنقول معاملة المحصل في الالتزام بمسببه وترتيب آثاره ولوازمه.
واما إذا كان النقل للمسبب لا عن حس أو حدس قريب منه بل بمقتضى التزام الناقل بوجوب اللطف عقلا أو شرعا أو بحدسه رأي
المعصوم عليه السلام من باب الاتفاق أو استنباطه رأيه من الأدلة المتعارفة والأخبار الواردة فالظاهر عدم شمول أدلة حجية الخبر له،
إذ المتيقن من بناء العقلا حجية الاخبار عن حس أو قريب منه، وهو المنصرف إليه للآيات والاخبار المستشهد بها لذلك. ولو شك في
ذلك فقد يقال بالشمول أيضا لبناء العقلا على ذلك إذ ليس بنائهم إذا أخبروا بشئ على التفتيش والسؤال عن كونه عن حس أو عن
حدس.
ولكن يمكن منع ذلك فيما إذا كان الغالب فيه هو الحدس أو الالتزام بما لا يلتزم به المنقول إليه مثل قاعدة اللطف في المقام.
539

نقل الخبر المتواتر
تنبيه: يظهر من الشيخ في الرسائل ما محصله: ان نقل الخبر المتواتر كنقل الاجماع، فقد يكون المنقول السبب والمسبب أعني قول الإمام
عليه السلام أيضا، وقد يكون المنقول خصوص السبب، فالأول لا يفيد إذ ليس كل تواتر ثبت لشخص مما يستلزم في نفس الامر عادة
تحقق المخبر به ويختلف ذلك باختلاف الاشخاص والمقامات.
واما إذا كان المنقول خصوص السبب، مثل ان أخبر باخبار الف عادل مثلا بأمر خاص فأدلة حجية الخبر يشمله ويرتب المنقول إليه
على المخبر به آثاره ولوازمه.
ويرد عليه أولا: ان قوله: ان ناقل الاجماع قد ينقل المسبب وقد ينقل خصوص السبب كلام ظاهري. لما مر من أن نقل الاجماع عندنا
على وجهين:
الأول: نقل نفس رأي الإمام عليه السلام لا بالسماع منه ولا بتحصيله من اتفاق العلماء بل بوصوله إليه بالاخبار المتصلة إلى الأئمة عليهم
السلام، وهذا هو المتراءى من إجماعات الخلاف والغنية ونحوهما كما مر.
الثاني: نقل اتفاق أهل الفن في مسألة، كما في إجماعات التذكرة ونحوه من دون نظر إلى سببيته لاستكشاف رأي الإمام عليه السلام.
واما ثانيا: فعلى فرض التسليم نقول: ليس نقل التواتر نظير نقل الاجماع، فان ناقل الاجماع اما ان ينقل نفس رأي الإمام عليه السلام أو
ينقل ما يكون سببا للعلم بقوله خارجا بالحمل الشائع كاتفاق العلماء مثلا.
واما ناقل التواتر فهو ينقل سبب العلم ونفس العلم بالحمل الأولي أيضا. فإذا قال الناقل:
ثبت بالتواتر ذلك فهو ناقل لاخبار الجماعة ولحصول العلم في نفسه أيضا، إذ هذا معنى التواتر.
فقياس نقل التواتر بنقل الاجماع مع الفارق.
وكيف كان فنقله لا يفيد للمنقول إليه الا في بعض المقامات لاختلاف مراتب الناقلين في الفطانة والدرك واختلاف الاشخاص في
حصول العلم لهم.
نعم يثبت نفس السبب بمقدار دل عليه ألفاظ الناقل أو المتيقن منه فيرتب عليه المنقول إليه ما هو الأثر عنده ولو علم بكون المدرك
لناقل الاجماع النصوص الموجودة عندنا أو احتمل ذلك لم يكن الاجماع دليلا وإن كان مؤيدا مستقلا ونعبر عنه بالاجماع المدركي
فتدبر.
540

البحث في الشهرة الفتوائية الأمر الثاني في الشهرة الفتوائية:
وقد استدل لحجيتها بمرفوعة زرارة عن الباقر عليه السلام ومقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه السلام.
ففي الأولى في حكم الخبرين المتعارضين قال: (يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر.) فقلت: يا سيدي انهما معا
مشهوران مرويان مأثوران عنكم؟. فقال: (خذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك الحديث) وفي الثانية بعد فرض اختلاف
الحكمين لروايتهما حديثين مختلفين وكون راويهما عدلين مرضيين قال: (ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به
المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فان المجمع عليه لا ريب فيه.) قلت: فإن كان
الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟. الحديث.
والمحتملات في قوله: (المجمع عليه) بالنظر البدوي أربعة: المتفق عليه عند الجميع أو المشهور بين الأصحاب في قبال الشاذ النادر، و
على الوجهين الاتفاق أو الشهرة في الرواية أو في الفتوى فهذه أربعة.
اما احتمال كون المراد الاتفاق في الرواية فهو باطل قطعا لعدم وقوع هذا الامر خارجا، إذ ليس لنا رواية رواها جميع أرباب الأصول و
الجوامع فان أصحاب الإمام الصادق عليه السلام - على ما قالوا - كانوا أربعة آلاف ولم يتفق اتفاق جميعهم على نقل رواية واحدة عنه
عليه السلام.
وكذا احتمال كون المراد الاتفاق في الفتوى إذ المستفاد من الحديث وجود الشاذ في قباله.
ومقتضى التعليل بكون المجمع عليه لا ريب فيه كون مقابله مما فيه ريب، ولو كان الفتوى مما اتفق عليه الكل بلا استثناء كان القول
بخلافه واضح البطلان لا مما فيه ريب.
وبعبارة أخرى: المقصود بالمجمع عليه بقرينة ذكر الشاذ الذي ليس بمشهور في قباله هو المشهور لا المتفق عليه. وكذا احتمال ان
يكون المراد الشهرة الروائية لوضوح بطلانه وان أصر عليه بعض، إذ مقتضى إطلاقه على هذا لزوم الاخذ بالرواية التي رواها أكثر
الأصحاب وان أعرضوا عنه
541

وكان فتوى الجميع حتى الرواة لها مخالفة لها.
وهذا مما لا يمكن الالتزام به. كيف؟. والرواية على هذا تصير مما فيه كل الريب فكيف يحكم بكونها مما لا ريب فيه. فبقي من
الاحتمالات ان يكون المقصود، الشهرة الفتوائية بان يكون مفاد الرواية مشهورا بين الأصحاب إفتاء وعملا.
وبما ذكرنا يظهر الاشكال فيما ذكره الشيخ في الرسائل حيث قال: (مورد التعليل الشهرة في الرواية).
وقال أيضا في ضمن كلامه: (فالمراد انه يؤخذ بالرواية التي يعرفها جميع أصحابك ولا ينكرها أحد منهم ويترك ما لا يعرفه الا الشاذ
ولا يعرفه الباقي.) فنقول: ما هو المقصود من هذه المعرفة؟. فإن كان المقصود منها ان جميعهم رووها عن الإمام عليه السلام. ففيه ان
هذا مما لم يتفق في الروايات المأثورة أبدا، ولو سلم فلا اعتبار بها مع إعراض الجميع عنها عملا.
وإن كان المقصود منها ان جميع العلماء معترفون بان الراوي الفلاني روى هذه الرواية. ففيه ان مقتضى ذلك ان يكون مجرد هذه
المعرفة كافية في لزوم الاخذ بالرواية وإن كان فتوى الجميع على خلافها. مع أن الرواية على هذا تكون مما فيه ريب لا مما لا ريب فيه.
فالظاهر أن المقصود بمعرفة الأصحاب لها معرفتهم لمضمونها بعنوان الحكم الشرعي وانه مطابق لرأي الامام. فيكون المقصود
بالشهرة في الحديث، اشتهار الافتاء بالرواية بين الأصحاب وإن كان راويه واحدا أو اثنين ويترك الرواية التي لم يفت بها المشهور
بل أعرضوا عنها. نعم إفتاء أكثر القدماء من أصحابنا كان بنفس نقل الرواية.
وقد مر ان المقصود بالمجمع عليه في الحديث بقرينة المقابلة للشاذ، هو المشهور بين الأصحاب والفقهاء ويراد بذلك، المشهور بين
المعروفين منهم لا المتفق عليه بحيث لا يشذ عنه أحد إذ ليس الإمام عليه السلام في مقام إلزام السائل بان يتفحص عن فتاوى جميع
الأصحاب في جميع الأعصار وفي جميع البلاد والأمكنة.
فان قلت: حمل الشهرة في الحديث على الشهرة الفتوائية مخالف لفرض الراوي كليهما مشهورين، لعدم تصور الشهرة الفتوائية في
طرفي المسألة.
قلت: ليس المقصود بالشهرة في الحديث، الشهرة بالمعنى الاصطلاحي بين الأصوليين أعني ذهاب الأكثر إلى مسألة. بل يراد بها معناها
اللغوي أعني الوضوح، فالمشهور هو الواضح المعروف في قبال الشاذ الذي ينكر.
542

ومنه قولهم: شهر سيفه وسيف شاهر. وهذا المعنى يتصور في طرفي المسألة إذا فرض كون كليهما ظاهرين بين الأصحاب حتى ولو
فرض كون أحدهما أكثر من الاخر إذا لم يبلغ الاخر إلى حد الشذوذ والندرة.
وقد تحصل مما ذكرنا ان الشهرة الفتوائية بين الأصحاب، أعني إفتاءهم بمضمون الرواية والاخذ بها في مقام العمل، هو المرجح لاحدى
الروايتين المتعارضتين ويجعلها مما لا ريب فيه، لا الشهرة الروائية فقط من دون الاخذ بها والاعتماد عليها.
نعم هنا شي وهو ان المستفاد من الحديثين أولا وبالذات كون الشهرة الفتوائية والاخذ بالرواية في مقام الفتوى مرجحة للرواية
الواجدة لشرائط الحجية مع قطع النظر عن المعارض، واما كونها بنفسها حجة شرعية مستقلة فهو امر آخر يجب البحث فيها وهو محط
النظر هنا.
فنقول: يمكن ان يستظهر من الحديثين حجيتها بإلقاء الخصوصية. إذ الخصوصية المتوهم دخلها في المقام أمران:
الأول: وجود رواية في قبالها تخالف لمضمونها فيكون لخصوصيته وجود المعارض دخل في نفي الريب عنها.
الثاني: وجود رواية حاكية لقول الإمام عليه السلام في موردها على وفقها.
اما الأول فمعلوم عدم دخله في الحكم لوضوح انه لا دخل لوجود المعارض للشئ في الحكم بعدم الريب فيه.
واما الثاني فيمكن ان يقال أيضا: بعدم دخله في الحكم وان الذي لا ريب فيه هو نفس الشهرة بإطلاقها، إذ تعليق الحكم على وصف
مشعر بعليته له. وان شئت قلت: ان الخبرين بعد تعارضهما وتكافئهما تسقطان وتكون الحجة هي الشهرة بنفسها. هذا.
ولكن لاحد منع إلقاء الخصوصية الثانية لاحتمال ان يكون لوجود الرواية الموافقة لمضمون الشهرة دخل في حجيتها ونفي الريب عنها
باعتبار تأيد إحداهما بالأخرى.
ولكن الأظهر مع ذلك، التفصيل والقول بحجية الشهرة الفتوائية بنفسها في المسائل الأصلية المبنية على نقلها بألفاظها، وكشف الشهرة
عن تلقيها عن الأئمة المعصومين عليهم السلام.
توضيح ذلك ان مسائل فقهنا على ثلاثة أنواع:
الأول: المسائل الأصلية المأثورة عن الأئمة عليهم السلام التي ذكرها الأصحاب في كتبهم المعدة لنقل خصوص هذه المسائل كالمقنع و
الهداية والمقنعة والنهاية والمراسم والكافي والمهذب ونحوها.
543

وكان بناء الأصحاب فيها على نقل هذه المسائل بألفاظها المأثورة أو القريبة منها طبقة بعد طبقة، واتصلت سلسلتها إلى أصحاب الأئمة
فيكون وزانها وزان الاخبار المأثورة في كتب الرواية.
الثاني: المسائل التفريعية المستنبطة من المسائل الأصلية باعمال الاجتهاد والنظر.
الثالث: المسائل المتصدية لبيان موضوعات الاحكام وحدودها وقيودها. وان شئت الوقوف على تنويع المسائل، فراجع أول المبسوط
للشيخ الطوسي (ره) إذا عرفت هذا فنقول: الشهرة في النوع الأول تكون كاشفة عن تلقيها عن الأئمة عليهم السلام موجبة للوثوق
بصدورها عنهم عليهم السلام بخلاف النوعين الأخيرين لابتنائهما على إعمال الاجتهاد والنظر فلا تفيد الشهرة فيهما شيئا، بل الظاهر أن
الاجماع فيها أيضا غير مفيد فان الاجماع فيها على وزان الاجماع في المسائل العقلية النظرية فتدبر.
544

الفصل الخامس:
حجية مطلق الظن
دليل الانسداد:
مما يستدل به على حجية مطلق الظن، دليل الانسداد، قال الشيخ (قده) ما حاصله:
ان هذا الدليل مركب من أربع مقدمات:
الأولى: انسداد باب العلم والعلمي في أكثر المسائل الفقهية، اما الأول فواضح واما الثاني فهو مبنى على عدم ثبوت حجية الخبر
بالخصوص.
الثانية: انه لا يجوز لنا إهمال الوقائع المشتبهة وترك التعرض لامتثالها ويدل عليها وجوه:
1 - الاجماع القطعي على أن المرجع على فرض الانسداد ليس هو البراءة بل لا بد من التعرض للامتثال وهذا الحكم وان لم يصرح به
أحد لعدم كون المسألة معنونة الا انه معلوم لمن تتبع طريقة الأصحاب، فرب مسألة غير معنونة يعلم اتفاقهم فيها من ملاحظة كلماتهم في
نظائرها.
2 - ان الرجوع في جميع تلك الوقائع إلى البراءة مستلزم للمخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها في لسان جمع بالخروج من الدين.
3 - عدم جواز الرجوع إلى البراءة للعلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرمات في الوقائع المشتبهة.
المقدمة الثالثة: انه إذا وجب امتثالها فليس امتثالها بالاحتياط التام، ولا بالرجوع في كل مسألة إلى الأصل الثابت فيها مع قطع النظر عن
سائر المسائل، ولا بالتقليد.
اما الاحتياط التام فلاستلزامه العسر والحرج أو اختلال النظام، مضافا إلى الاجماع على عدم وجوبه. واما الرجوع في كل مسألة إلى
الأصل الثابت فيها، فلان الرجوع إلى الأصول النافية يوجب مخالفة العلم الاجمالي، وإلى المثبتة يوجب الحرج، لكثرة المشتبهات. واما
التقليد
545

فلكونه من رجوع العالم إلى الجاهل.
المقدمة الرابعة: ان ترجيح المرجوع على الراجح قبيح، فلا يجوز بعد بطلان الاحتياط التام الاخذ بالمشكوكات والموهومات وترك
المظنونات، فيثبت بذلك وجوب الاخذ بالمظنونات وترك غيرها، انتهى.
وأضاف في الكفاية مقدمة أخرى، جعلها أول المقدمات وهي العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرمات في الشريعة، فصارت المقدمات
خمسة.
أقول: قد أطنبوا الكلام في مبحث الانسداد ولا يهمنا التعرض لجميع ما ذكروا فيه، فالأولى ان نتعرض لنكات تنقدح في النفس في ضمن
فوائد:
الفائدة الأولى: نقد التمسك بالعلم الاجمالي
يمكن ان يورد على المقدمة التي أضافها في الكفاية بوجهين:
الأول: ان العلم الاجمالي ان تعلق بوجود تكاليف فعلية بالغة مرتبة البعث والزجر بحيث علم اهتمام الشارع بها وعدم رضاه بمخالفتها
ولو مع الجهل بخصوصياتها وعدم قيام طريق إليها، فمقتضاه لزوم الاحتياط التام ولا مجال للترخيص في تركها وان لزم منه العسر
فتجويز الارتكاب بالنسبة إلى بعض الأطراف يرجع إلى عدم العلم بتعلق الإرادة الحتمية بامتثاله وقد عرفت تفصيل ذلك في مبحث
العلم الاجمالي.
وان تعلق بوجود تكاليف لم تبلغ هذه المرتبة بل تكون بحيث لو تميزت وعلمت أو قام طريق إليها صارت فعلية ومنجزة، فلا يجب
التعرض لامتثالها مع الاشتباه أصلا، فلا تثبت بذلك حجية الظن.
اللهم الا ان يقال: بأنا نعلم بان بعض هذه التكاليف بلغ مرتبة البعث والزجر وعلم بان المولى لا يرضى بتركه وإن كان بعضها الاخر
غير بالغ هذه المرتبة، ولكن لا يخفى ان مقتضى ذلك حجية الظن كشفا لا حكومة إذ الظن حينئذ يصير طريقا مجعولا لاحراز هذا
البعض وسيأتي فيما بعد تفصيل هذا المعنى
. [1]
[1]
أقول: ربما يختلج بالبال إشكال وهو ان يقال، مع قطع النظر عما يأتي من كون أطراف العلم الاجمالي خصوص المظنونات وما قام
عليه الطريق، ان العلم تعلق بوجود تكاليف دائرة بين المحتملات المظنونة والمشكوكة والموهومة بحيث يحتمل كون الجميع في
المظنونة ويحتمل كونها في المشكوكة ويحتمل كونها في الموهومة، وإن كان يحتمل التبعيض أيضا، لا ان العلم تعلق بتكاليف يعلم
بكون بعضها في المظنونات و
546

الثاني: عدم الاحتياج إلى العلم الاجمالي بل لو احتمل وجود تكاليف واقعية في ضمن المحتملات وعلم بأنها على فرض تحققها، تكاليف
فعلية يهتم بها الشارع بحيث لا يرضى بمخالفتها، صار نفس هذا الاحتمال منجزا لها ووجب الاحتياط كما ذكروه في باب الفروج و
الدماء والأموال، إذ العقل لا يرى العقاب مع هذا الاحتمال المنضم إلى العلم بالاهتمام عقابا بلا بيان بل هذا السنخ من الاحتمال بنفسه
بيان.
الفائدة الثانية: وظيفة المكلف في قبال التكاليف الإلهية
قد مر منا في مبحث القطع انه إذا علم العبد بوجود تكليف فعلى وأصل مرتبة البعث والزجر من قبل المولى بحيث أراد انبعاثه و
انزجاره من قبله وتردد متعلقه بين أمرين أو أمور، فان تمكن من الاحتياط التام وجب عليه عقلا، ولو لم يحتط واتفق مخالفة التكليف
الواقعي عوقب على مخالفة نفس الواقع، وان لم يتمكن منه وجب عليه التصدي لامتثاله بمقدار التمكن ولزمت عليه رعاية ما هو الأقرب
إلى الواقع، فلو كان بعض الأطراف مظنونا وبعضها غير مظنون وجبت عليه عقلا رعاية المظنون، بمعنى انه لو راعى جانبه واتفق
مخالفة الواقع بسبب كونه في غير المظنون لم يستحق العقوبة وكان معذورا عقلا فإنه بذل غاية جهده في تحصيل مراد المولى.
ولو راعى جانب غيره واتفق كون الواقع في المظنون، استحق العقوبة على ترك نفس الواقع فإنه لم يبذل جهده في طريق الموافقة.
وفي حكم العذر العقلي، العذر الشرعي، كما إذا قال المولى مثلا: اجتهد في تحصيل مراداتي بمقدار لا يستعقب العسر والحرج فطريقة
الامتثال عند العقل في هذه الصورة أيضا التبعيض في الاحتياط ورعاية جانب المظنونات.
فإن كان مراد الشيخ وغيره من قبح ترجيح المرجوح، هو ما ذكرنا من حكم العقل بلزوم رعاية الأقرب إلى الواقع احتمالا ومحتملا،
فهو صحيح، وإن كان مرادهم ان قبح ترجيح المرجوح من الأحكام العقلية التي له ملاك عنده كقبح الظلم ونحوه ويستعقب الحكم
الشرعي لا محالة أيضا، فليس بصحيح فان لزوم الاخذ بالمظنون من شعب حكمه بوجوب الامتثال مهما أمكن وليس له ملاك وراء ملاك
الواقع فلو لم يراع جانبه واتفق مخالفة الواقع يعاقب على نفس الواقع كما مر.
بعضها في الموهومات وبعضها في المشكوكات، وعلى هذا فلو علمنا بان واحدا من هذه التكاليف الكثيرة قد بلغ مرتبة البعث والزجر
بحيث لا يرضى المولى بتركه كان الواجب علينا هو الاحتياط التام في المظنونات والمشكوكات والموهومات، فافهم ح - ع - م.
547

وبالجملة، فظاهر كلام الشيخ في المقدمة كون ترجيح المرجوح من القبائح العقلية المستقلة بحيث يكون حكمه فيه بالقبح في قبال حكمه
بوجوب الإطاعة والامتثال فيكون نظير حكمه بقبح الظلم، ولكنه كما ترى.
الفائدة الثالثة: نقد كلام الشيخ وصاحب الكفاية
قد ظهر بما ذكرنا، الاشكال على المقدمة الأخيرة وكذا على ما أضافها في الكفاية.
وهنا إشكال اخر أيضا، وهو: ان ضم المشكوكات والموهومات إلى الوقائع المظنونة من قبيل وضع الحجر بجنب الانسان فان أطراف
العلم من أول الأمر خصوص الوقائع المظنونة مما قام عليه الخبر أو الشهرة أو غيرهما من الامارات فلو فرض عدم دليل على حجيتها
بالخصوص. كما هو المفروض كان اللازم رعاية الاحتياط فيها من أول الأمر، وليس الاخذ بالمظنونات من باب تبعيض الاحتياط بل هو
احتياط تام بالنسبة إلى ما علم به إجمالا.
وبالجملة، فوجود الوقائع المشكوكة والموهومة وعدمها سيان في تحقق العلم فان أطرافه خصوص المظنونات فالشك في غيرها شك
بدوي يرجع فيه إلى البراءة.
وان شئت قلت: ان العلم الاجمالي الكبير بوجود التكاليف بين المظنونات وغيرها ينحل بالعلم الاجمالي الصغير بوجود التكاليف في
الوقائع المظنونة أعني ما قامت الامارات على طبقها إذ قبل المراجعة إلى الأدلة يمكن ان يحصل علم إجمالي كبير عمياء، ولكنه بعد
المراجعة إليها خصوصا إلى الأخبار الكثيرة يحصل علم إجمالي بوجود تكاليف واقعية في خصوص المظنونات وليس المعلوم بالعلم
الأول أكثر من الثاني فينحل الأول.
وبهذا البيان، يظهر ورود الاشكال على المقدمة التي ذكرها الشيخ أعني انسداد باب العلم والعلمي، فإنه وان سلم انسداد بابهما لعدم
حجية الامارات بالخصوص ولكنه لا يفيد في إثبات الاحتياط التام حتى في المشكوكات والموهومات فلا تصل النوبة إلى المقدمات التي
بعدها حتى تنتج حجية الظن.
والحاصل، ان تخريب بنيان دليل الانسداد لا يتوقف على إثبات الانفتاح بإثبات حجية الامارات بل ينهدم أساسه ولو لم تثبت حجيتها
بالخصوص.
الفائدة الرابعة: نقد كلام الشيخ
قد عرفت إبطال الشيخ للمقدمة الثانية بوجوه:
548

الأول: الاجماع.
الثاني: لزوم الخروج من الدين.
الثالث: عدم جواز التمسك بالبراءة في أطراف العلم الاجمالي.
أقول: قد تمسك بالاجماع في إبطال الرجوع إلى البراءة وكذا في إبطال الاحتياط التام وسموه بالاجماع التقديري بمعنى ان المسألة
وان لم تكن معنونة ولكنه يعلم بالضرورة بأنه لو سئل العلماء عن جواز الرجوع إلى البراءة أو وجوب الاحتياط على تقدير الانسداد
لأجابوا بعدم الجواز في الأول وعدم الوجوب في الثاني، ولكن الظاهر بطلان الاجماع التقديري، فان الاجماع عبارة عن اتفاق جماعة
يستكشف بسببه حكم الامام، فاللازم ان يتحقق الاتفاق خارجا حتى يصير وسيلة لاستكشاف المطلوب.
وبعبارة أخرى: يجب ان يكون الاجماع سببا لصيرورة المسألة مبينة وفيما نحن فيه تكون المسألة ضرورية ومن بداهتها يستكشف
ما يسمى بالاجماع فهذا أشبه شي بالدور، فان ادعاء ان القوم لو سئلوا عن ذلك أجابوا بذلك، انما هو من جهة كون المطلب ضروريا
عند المدعى فالاجماع يستكشف من ضرورة المطلب، فلو جعل دليلا له وموجبا لكشفه، لدار.
واما لزوم الخروج من الدين، فيرد عليه، ان الظاهر منهم بدوا كونه عنوانا مستقلا في قبال سائر العناوين المحرمة فيكون محرما من
المحرمات الشرعية ولكنه ليس كذلك، بل هو عبارة أخرى عن مخالفات كثيرة لاحكام كثيرة واقعية، فالعقاب ليس على هذا العنوان بل
على نفس مخالفة الواقع.
نعم، يمكن ان يكون العبد معذورا في مخالفة الواقع ما لم تصل حد الكثرة واما إذا لزمت مخالفات كثيرة فلا يكون معذورا للعلم بكونها
مرغوبا عنها ولو في حال الجهل.
ثم إنه هل هو يتفرع على العلم الاجمالي، بان يكون المراد بالخروج من الدين، مخالفة تكاليف كثيرة علم بها إجمالا فيكون الفرق بين
الوجه الثاني والثالث، ان الثالث عبارة عن مطلق مخالفة العلم الاجمالي والاستدلال به مبنى على القول بحرمة مخالفته مطلقا والثاني
عبارة عن خصوص المخالفات الكثيرة، ومن الممكن ان يقال بحرمتها وان لم نقل بحرمة مطلق مخالفة العلم الاجمالي، أو لا يتفرع
عليه، فيكون المراد به مخالفة تكاليف كثيرة علم بها إجمالا أو احتمل وجودها ولكنه علم بأنها على فرض وجودها، فعلية بالغة مرتبة
البعث والزجر بحيث لا يرضى المولى بتركها ولو في حال الجهل؟ كلاهما محتمل، وقد عرفت ان إثبات حجية الظن بدليل الانسداد لا
يتفرع على تحقق العلم الاجمالي.
549

الفائدة الخامسة: ما هو المرفوع في أدلة نفي الضرر
قال الشيخ (قده) ما حاصله:
ان المرفوع في (لا ضرر) وفي (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وإن كان نفسهما ظاهرا ولكن المراد نفى الحكم الذي يأتي من قبله
الضرر والعسر، فالحكم الذي يأتي من قبل وجوده ضرر وحرج قد رفع وجوده وليس بمجعول وما يلزم من عدمه الضرر قد رفع
عدمه فصار وجوده مجعولا، فأدلة رفعهما حاكمة على أدلة الأحكام الواقعية.
وقال المحقق الخراساني ما حاصله: ان القاعدتين لا تكونان حاكمتين على قاعدة الاحتياط فان التحقيق في مثل (لا حرج) و (لا ضرر)
تحقق نفى الحكم بلسان نفى الموضوع فلا حكومة لهما على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل لعدم العسر في متعلق التكليف الشرعي.
نعم لو كان مفاده نفى الحكم الذي ينشأ من قبله العسر كما قيل لكانت قاعدة نفيه محكمة على الاحتياط العسر أيضا. انتهى.
أقول: ما ذكره (قده) من كون المراد فيهما نفى الحكم بلسان نفى الموضوع فاسد جدا، فان الموضوع في مثل (لا ضرر) هو عنوان
الضرر وليس المراد ب (لا ضرر)، رفع الحكم الثابت لهذا العنوان، بل المراد به رفع الأحكام الثابتة لعناوين أخرى بسبب طريان الضرر
مثل الحرمة الثابتة لعنوان شرب الخمر والوجوب الثابت لعنوان الوضوء.
نعم كلامه (قده) صحيح في مثل (رفع ما لا يعلمون) و (ما استكرهوا عليه) و (ما اضطروا إليه) فان الرفع فيها لم يتعلق بعنوان عدم العلم
والاستكراه والاضطرار، بل بالعناوين الواقعية التي طرأت عليها هذه العناوين أعني بها موضوعات الأحكام الواقعية، فيصدق فيها
ادعاء كون رفع الحكم بلسان نفى الموضوع.
والسر في ذلك، هو ما حققناه في الأصول في معنى الموصول من كونه قسما من أسماء الإشارة وانه وضع للإشارة به إلى ما يثبت له
عنوان الصلة، فان كانت ثابتة عند المتكلم والمخاطب لشئ خاص معهود بينهما كان الموصول إشارة إلى هذا الشئ، وان لم تكن في
البين معهودية يشير إلى كل ماله صلاحية لانطباق عنوان الصلة عليه، فان الصلة قد أتى بها معرفة ومميزة للمشار إليه بالموصول، فإذا
لم يكن ثبوتها لشخص خاص معهودا بينهما فلا محالة يكون المراد بالموصول كل من ثبتت له الصلة ولذلك يعد الموصول في عداد
ألفاظ العموم، فالرفع في الحديث
550

تعلق بكل موضوع اضطر إليه مثلا ويكون المراد برفعه رفع حكمه المجعول له شرعا فلو اضطر إلى شرب الخمر مثلا كان حكمه أعني
الحرمة مرفوعا بلسان نفى موضوعه. واما في مثل (لا ضرر) فلا يتمشى هذا البيان ولا يكون الرفع فيه بلسان رفع الموضوع.
الفائدة السادسة: إشكال الشيخ على دليل الانسداد ونقده
مما استشكل به الشيخ (قده) على دليل الانسداد، هو ان مقتضاه ليست حجية الظن حتى تعامل معه معاملة دليل شرعي تخصص به
العمومات وتقيد به المطلقات بل النتيجة، هو التبعيض في الاحتياط، فان الضرورات تتقدر بقدرها، فإذا لم يمكن الاحتياط في
المظنونات والمشكوكات والموهومات بأجمعها لزمت بحكم العقل رعاية الاحتياط مهما أمكن ولازم ذلك أنه لو ارتفع العسر بتركه في
خصوص الموهومات وجبت رعايته في المشكوكات والمظنونات دون المظنونات فقط، نعم لو لم يرتفع الا بتركه في الموهومات و
المشكوكات معا، لم يجب الاخذ الا بالمظنونات. انتهى.
أقول: المتراءى من كلامه (قده) انه ينحصر الاشكال بالتبعيض في الاحتياط فيما إذا ارتفع العسر بتركه في خصوص الموهومات واما
إذا لم يرتفع الا بتركه في جميع الموهومات والمشكوكات فلا تكون النتيجة الا حجية الظن بما هو ظن.
وهو فاسد إذ لو فرض تعسر الاحتياط في جميع الوقائع الموهومة والمشكوكة كانت رعاية المظنونات أيضا من جهة رعاية الاحتياط
مهما أمكن، لما عرفت من حكم العقل بوجوب رعاية الواقع مهما أمكن وانه يجب الاخذ بما هو أقرب إليه احتمالا ومحتملا، فإذا أمكن
الاحتياط التام فهو والا ففيما إمكان فإذا فرض دوران الامر بين الاخذ بالموهومات فقط أو المشكوكات أو المظنونات، وجبت بحكم
العقل رعاية الاحتياط في خصوص الأخيرة وليس ذلك مرتبطا بحجية المظنة أصلا كما أن ارتكاب المشكوكات والموهومات أيضا ليس
مستندا إلى أصل البراءة بل إلى دليل العسر والحرج. فافهم وتدبر.
الفائدة السابعة: مراتب الامتثال
قال الشيخ (قده) لتقريب ترتب حجية الظن على المقدمات الأربع ما حاصله: ان مراتب الامتثال أربع:
551

الأولى: العلمي التفصيلي.
الثانية: العلمي الاجمالي.
الثالثة: الظني.
الرابعة: الاحتمالي.
أقول: الظاهر عدم ارتباط مراتب الامتثال بما نحن فيه لوجهين:
الوجه الأول: ان مراتب الامتثال انما هي فيما إذا كان التكليف ثابتا معلوما منجزا لا إجمال فيه فتصدى الانسان لامتثاله، فيتصور فيه
المراتب المذكورة وفيما نحن فيه يكون البحث في أصل تنجز التكليف وان المتنجز ما أدى الظن إلى ثبوته.
وبعبارة أخرى: البحث في العلم الاجمالي وكذا الظن في جهتين:
1 - في مقام إثبات التكليف به وتنجزه بسببه.
2 - في مقام إسقاط التكليف المنجز وامتثاله بعد الفراغ عن تنجزه قبلا. والبحث في دليل الانسداد انما هو في الجهة الأولى، إذ البحث
في إثبات تنجز ما أدى إليه الظن من المعلوم بالاجمال بسبب قيام الظن ومراتب الامتثال مربوطة بالجهة الثانية.
الوجه الثاني: ان مراتب الامتثال تتمشى فيما إذا كان هنا تكليف في واقعة فتردد امره بين ان يمتثل بالعلم التفصيلي أو الاجمالي أو
الظن أو الاحتمال فيحكم العقل بالترتب في مقام الامتثال، وليست فيما نحن فيه واقعة واحدة تردد امرها بينها بل هنا وقائع متعددة
بعضها مظنونة وبعضها مشكوكة وبعضها موهومة فيتردد الامر بين الاخذ بالوقائع المظنونة وترك الوقائع الموهومة والمشكوكة و
بين الاخذ بالمشكوكة أو الموهومة وترك غيرها فإذا أخذ بالوقائع المظنونة لا يكون الاخذ بها امتثالا ظنيا بالنسبة إلى الوقائع
المشكوكة والموهومة كما أنه إذا أخذ بالمشكوكة مثلا لا يكون الاخذ بها امتثالا احتماليا للوقائع المظنونة، وبالجملة، فمراتب الامتثال
لا ترتبط بباب الانسداد أصلا
. [1]
[1]
لم يظهر مراد الأستاذ هنا كاملا وما هو المتراءى من ظاهر كلامه لا يخلو من نظر بكلا وجهيه، فإنه بعد العلم إجمالا بثبوت
التكاليف أو العلم بفعليتها وتنجزها مع ما عليه من الجهل على فرض ثبوتها وتحققها يكون البحث في دليل الانسداد عما هو مقتضى
القاعدة في مقام امتثالها، ولا تختص مراتب الامتثال بصورة ثبوت التكليف بالعلم التفصيلي، ولا بما إذا كان المعلوم واقعة واحدة و
المفروض فيما نحن فيه هو العلم بوقائع متعددة يحتمل كون جميعها في المظنونات أو في المشكوكات أو في الموهومات كما يحتمل
التبعيض. و
552

ثم إن في المقام كلاما اخر وهو ان المعلوم إجمالا في المقام هل هو ثبوت تكاليف فعلية لا يرضى المولى بتركها سواء كانت هذه
التكاليف بحسب الواقع في ضمن المظنونات أو المشكوكات أو الموهومات.
وبعبارة أخرى: يكون التكليف على فرض تحققه في ضمن المشكوكات أو الموهومات مثل ما إذا كان في ضمن المظنونات في كونه
فعليا ومنجزا أو لا تكون كذلك بل يعلم بثبوت تكاليف تكون فعلية ومنجزة إذا كانت بحسب الواقع في المظنونات دون ما إذا كانت
في ضمن غيرها؟ كلام القوم مجمل من هذه الجهة. فتدبر.
الفائدة الثامنة: عدم انحصار الاحكام في العبادية فقط
لا يخفى ان الأحكام الشرعية في الديانة الاسلامية لا تنحصر في العبادات بل هي دين سياسي اجتماعي وكثير من أحكامها مربوط
بالجهات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كأحكام المعاملات وقوانين الموارثة والقضاء والشهادة ونحوها. وامر الناس بتعلم هذه الأحكام
والنفر لتحصيلها والاطلاع عليها وامر العلماء بتعليمها وحرم عليهم كتمانها ولعنهم على ذلك ومن جملة أركان هذا الدين
لزوم سائس للجمعية وقيم للاجتماع تكون على ذمته وظائف خطيرة من جملتها تعيين القضاة لفصل الخصومات والمنازعات وان
كانت ناشئة من الشبهات الحكمية. وكثير من الأحكام الشرعية مربوطة بفصل الخصومات و المنازعات وإدارة سياسة المدن.
وبالجملة، فالاحكام المتمحضة في العبادية في الشرعية الاسلامية بالنسبة إلى الأحكام المجعولة لحفظ النظام قليلة جدا. واما الأحكام المجعولة
لحفظ النظام وهي أكثرها فلا مجال فيها لهذا التقريب إذ ليست مربوطة بجهة الامتثال والعبودية وإسقاط الوظيفة فقط حتى
يقال بجريان مراتب الامتثال فيها وتعين الاحتياط التام ثم المبعض.
كيف ولا يمكن الاحتياط في أكثر وقائعها ولا يعقل فصل الخصومات والمنازعات الواقعة في الأموال وغيرها بمثل الاحتياط ونحوه
مع العلم باهتمام الشارع بها وعدم رضاه بالتبعيض فيها، مضافا إلى العلم بكون الاحتياط في الفتاوى والاعمال مرغوبا عنه شرعا،
حيث ورد (ان
الاخذ بالظن ليس الا لكون الاخذ به موجبا لتحقق الامتثال الظني بالنسبة إلى جميع الوقائع الواقعية والتكاليف المعلومة ح - ع - م.
553

الله يحب ان يؤخذ برخصه كما يحب ان يؤخذ بعزائمه).
فالواجب ان يقرر دليل الانسداد بنحو يجري في جميع الأحكام حتى أحكام المعاملات والقضائيات التي لا مجال للاحتياط فيها وبهذا
النحو أيضا كان مقررا في السنة القدماء.
وتقريبه ان يقال: - بعد العلم إجمالا بما ذكرنا من وفاء أحكام الاسلام لجميع الوقائع وكون أكثر أحكامه مربوطة بسياسة المدن و
باب المعاملات والقضائيات والعلم بكونها فعلية واهتمام الشارع بها وإرادته لاعمالها في جميع الأمصار في تمام الاعصار إلى يوم
القيامة لتحصل للبشر سعادة الدارين، ولذا امر بالنفر لتفقهها وتعليمها ونشرها. - ان مشرعها اما ان يكون قد أراد إعمالها بصرف
احتمالها بان يجب على كل من احتمل حكما وان لم يقم عليه طريق، ان يعتنى باحتماله ويعمل على طبقه، واما ان يكون قد أراد
تحصيلها والاطلاع عليها بخصوص العلم أو ما بحكمه من الطريق المقطوع الحجية وإعمالها بعد ذلك، واما ان يكون قد أراد تحصيلها
والاطلاع عليها بالطرق المتعارفة المتداولة بين الناس أعم من القطع وما ثبتت حجيته بدليل قطعي خاص وما لم تثبت حجيته كذلك
من الطرق الظنية المتداولة.
لا سبيل إلى أحد الأولين، فيتعين الثالث.
اما بطلان الأول فواضح لما عرفت من كثرة الاحكام في الشعب المختلفة خصوصا في أبواب المعاملات والسياسات والقضائيات، ولا
يعقل ان يصير صرف الاحتمال موجبا لفصل الخصومة الواقعة بين الاثنين في مال مثلا مع كثرة الاحتمالات واختلافها باختلاف
الاشخاص.
وبالجملة، فلا يعقل ان يكون صرف الاحتمال مناطا لاعمال الاحكام الكثيرة الواردة في الأبواب المختلفة مع دوران الامر في أكثرها
بين المتخالفين والمحذورين كما في موارد القضائيات والاختلافات والمسائل الراجعة إلى أبواب المعاملات.
واما بطلان الثاني: فهو أيضا واضح لعدم إمكان تحصيل هذه الأحكام الكثيرة في جميع الأمصار وجميع الاعصار بطريق القطع وما
بحكمه.
فيكشف من ذلك تعين الثالث وان الشارع أراد تحصيل هذه الأحكام بالطرق المتعارفة الظنية فبذلك تنكشف حجية هذه الطرق و
اعتبارها في استنباط الأحكام الشرعية وكشفها.
فهذا هو التقريب المناسب لمثل الأحكام الشرعية الاسلامية الجارية في جميع شؤون الاجتماع.
554

فان قلت: فعلى هذا يكون الأنسب تقريره بهذا النحو في هذا السنخ من الاحكام وتقريره بطريقة المتأخرين في الاحكام العبادية
المحضة الجارية فيها مراتب الامتثال فيحكم فيها بالاحتياط التام ثم بالمبعض.
قلت: بعد إجراء الانسداد في غير العباديات المحضة بالتقرير الأول واستكشاف حجية الظن منه لا تتم مقدمات الانسداد بالتقرير الثاني
في الأمور العبادية إذ لا تصل النوبة فيها إلى التبعيض في الاحتياط فان الاحتياط التام في خصوص العبادات لا يستلزم العسر والحرج
فكيف باختلال النظام، إذ كثير من اجزائها وشرائطها يحصل بالقطع وما لا يحصل به ليس بمقدار يلزم من الاحتياط فيه ذلك. كيف و
ليس جميع العبادات الموظفة في الاسلام مما يبتلى به جميع الناس فان الحج وكذا الخمس والزكاة مما يبتلى به بعض الناس، فكل مكلف
يتمكن من الاحتياط في خصوص العبادات الثابتة عليه.
هذا مضافا إلى أنه، بعد ما ثبتت بالتقرير الأول حجية الطرق الظنية المتعارفة في أبواب المعاملات والقضائيات ونحوها، يحصل العلم
بحجيتها في العباديات أيضا إذ نعلم أن الشارع لم يرد تحصيل الاحكام العبادية بطريق مخالف لما أراد تحصيل غيرها به. فافهم.
وملخص ما ذكرناه: انا نعلم إجمالا بثبوت أحكام كثيرة في الديانة الاسلامية ولها شعب مختلفة فبعضها راجع إلى المعاملات وبعضها
إلى السياسات كأحكام الحدود والقصاص والديات ونحوها وبعضها إلى القضائيات وفصل الخصومات وبعضها إلى العباديات
المربوطة بوظيفة العبد بينه وبين خالقه، والامر في أكثر الوقائع يدور بين المحذورين، والشارع أراد إعمال هذه الأحكام بالنفر
لتحصيلها ثم نشرها ثم العمل بها بشعبها المختلفة، وحينئذ فاما ان يقال: بان الواجب إعمالها سواء قام عليها طريق قطعي أو ظني أو لم
يقم فهي أحكام فعلية على الاطلاق أو يقال بان الواجب إعمالها إذا قام عليها طريق علمي فقط أو يقال بان الواجب إعمالها إذا قام عليها
طريق قطعي أو ظني.
لا سبيل إلى اختيار أحد الشقين الأولين لاستلزام الأول فعلية الاحكام في متن الواقع وثبوت العقاب على ترك إعمالها وان لم يقم عليها
طريق أصلا وهو واضح البطلان، واستلزام الثاني تفويت أغلب الاحكام، فان تحصيل العلم القطعي في هذه الأحكام الكثيرة في الأبواب
المختلفة متعذر حتى في زمن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، بل الظاهر أن باب العلم في أعصارنا أفتح من أعصارهم
فان الاخبار المتشتتة قد جمعها مؤلفو الجوامع في عصر الرضا عليه السلام ثم جمع هذه
555

الجوامع مؤلفو الجوامع الثانوية أعني بها الكتب الأربعة، فنحن بحمد الله متمكنون من العثور على جميع الأخبار الواردة في الأبواب
المختلفة وهذا بخلاف عصر الأئمة عليهم السلام إذ لم يكن جميع الناس متمكنين من السفر إلى المدينة والسؤال من الأئمة عليهم السلام
ولم تكن الاخبار مجموعة لهم.
وبذلك يظهر ضعف ما يتراءى من بعض كلمات الشيخ وغيره من ادعاء الانسداد في أعصارنا دون أعصارهم ومن احتمال وجود طرق
في أعصارهم قد خفيت في أعصارنا.
وبالجملة، فكل من الشقين الأولين واضح البطلان فيتعين الثالث ويستنتج من هذا التقرير إرادة الشارع لتعلم الاحكام واستفادتها من
هذه الطرق المتعارفة المتداولة وان لم يحصل منها قطع ولم يقم على حجيتها دليل بالخصوص.
تنبيهات دليل الانسداد
ينبغي التنبيه على أمور:
التنبيه الأول: تقرير دليل الانسداد مربوط بمقام إثبات التكاليف لا مقام امتثالها
قد مر ان الاحكام الكثيرة المتشعبة التي تشتمل عليها الديانة الاسلامية اما أن تكون فعلية وواجبة العمل مطلقا أو في خصوص ما إذا قام
عليها طريق قطعي فقط أو فيما إذا قام عليها طريق قطعي أو ظني متعارف في مقام إثباتها، وحيث لا سبيل إلى أحد الأولين فيتعين
الثالث.
فالظن على هذا يقع طريقا لاثبات الأحكام الواقعية ويصير قيامه على التكليف موجبا لفعليته، بحيث لولا طريق مثبت له لم يكن فعليا، و
اما على طريقة المتأخرين وتقريرهم فيكون الكلام مربوطا بمقام الامتثال ويجري فيه ما ذكروه، من أنه كما لا يتطرق جعل شرعي
في أصل الإطاعة ولزومها كذلك لا يتطرق في كيفيتها ومراتبها وتقدم بعضها على بعض، فيتقدم العلمي على الظني والظني على
الاحتمالي بحكم العقل الذي هو الحاكم في أصل الإطاعة وليس للشرع فيها حكم الا إرشادا.
ويرشد إلى هذا أمور:
1 - ان الحكم الشرعي المولوي انما يصح فيما إذا اشتمل المتعلق لملاك موجب لبعث الشارع
556

نحوه أو زجره وليس لمفهوم الإطاعة بما هي إطاعة مصلحة موجبة للبعث نحوها وانما الذي يشتمل على المصلحة ويكون محبوبا
للمولى هو مصداقها، أعني ما يصدق عليه بلحاظ إتيانه بقصد امره عنوان الإطاعة مثل الصلاة ونحوها، والامر بالطاعة لا يقع بلحاظ
تحصيل هذا المفهوم بل بلحاظ إيجاد ما هو المحبوب ذاتا كالصلاة بداعي امره وليس هذا الامر الا إرشادا إلى ما يحكم به العقل، ولا
تجري في هذا القبيل من الاحكام قاعدة الملازمة وانما تجري فيما إذا كان حكم العقل بلحاظ نفس المتعلق بان أدرك في نفسه ملاكا
موجبا لحسنه أو قبحه.
2 - ان الامر الشرعي المولوي يكون لايجاد الداعي في نفس المكلف، والامر المتعلق بالإطاعة لا يعقل ان يصير داعيا. لمخالفة ذلك
لمفهوم الإطاعة فإنها عبارة عن إتيان ما وجب بالامر الأول المولوي بداعي امره، فأخذت في مفهومها داعوية الأمر الأول فلا تعقل
داعوية امر الإطاعة.
وبعبارة أخصر: الامر بالإطاعة قوله (صل) مثلا امر بإتيان الصلاة بداعي امرها فلا يعقل ان يصير هو أيضا داعيا، فيكون إرشاديا
محضا.
3 - ان حكم العقل بوجوب الإطاعة لو استعقب حكم الشرع على طبقه لزم ترتب أحكام شرعية غير متناهية يقع امتثال الجميع بامتثال
الأمر الأول وعصيانها بعصيانه والالتزام بذلك يوجب الالتزام باستحقاق ثوابات أو عقابات غير متناهية.
وبالجملة، فوجوب الإطاعة ليس وجوبا شرعيا مولويا، وكما لا يتطرق إلى نفسها وجوب شرعي فكذلك إلى مراتبها كما لا يخفى
وجهه.
التنبيه الثاني: هل النتيجة على التقرير الذي ذكرناه حجية الطريق الظني كشفا أو حكومة؟
التحقيق ان يقال: ان أريد بالكشف الكشف عن جعل الشارع إياه حجة بنحو التأسيس بان قال: جعلت هذا الظن حجة، فهو باطل قطعا
للعلم بعدمه، بل الحق هو الحكومة، بمعنى حكم العقل بفعلية الاحكام إذا قام عليها هذا الطريق الظني وانه يصح للمولى الاحتجاج بسببه. و
ان أريد بالكشف، الكشف عن فعلية الاحكام وثبوتها على فرض قيام هذا الطريق عليها فهو حق.
ويظهر بذلك قناعة الشارع بالعمل بهذا الطريق ورضايته به.
التنبيه الثالث: نتيجة التقرير هي حجية الطرق العادية
قد كان ملخص تقرير ذكرناه هو ان الاحكام في الديانة الاسلامية واردة في جميع الأبواب
557

وقد أتى بها الرسول صلى الله عليه وآله من قبل الله ليتكفل سعادة الدارين لجميع البشر في جميع الأمصار والاعصار إلى يوم القيامة
وقد قال صلى الله عليه وآله: (بعثت انا والساعة كهاتين) وأشار بإصبعيه. والامر يدور بين فعليتها ووجوب العمل بها مطلقا وان لم
يقم عليها طريق أصلا، وبين فعليتها في خصوص صورة تحصيلها من طريق القطع، وبين فعليتها فيما إذا قام عليها طريق قطعي أو
ظني.
والأولان باطلان فيثبت الثالث وتستنتج منه حجية الظن كالقطع بمعنى كفايته في تحصيل الاحكام وتشخيصها. وحينئذ فيقع الكلام
في أنه هل تثبت بهذا التقرير حجية كل ظن من أي وجه حصل ولو بالنوم مثلا، بان حول الشارع فعلية أحكامه الكثيرة المتشعبة على
ظنونات المكلفين المختلفة باختلاف أسبابها واختلاف حالاتهم؟ أو انه تثبت به حجية ظن خاص وطريق مخصوص؟ وعلى الثاني فهل
يكون الاعتبار في هذا الطريق بالظن الشخصي بان تكون حجيته موقوفة على حصول الظن الفعلي بسببه لمن قام عنده، أو تثبت به
حجية هذا الطريق الخاص مطلقا بسبب إفادة نوعه لنوع الظن، فليس المدار على الظن الشخصي؟ والحق هو الشق الثالث: إذ بعد العلم
ببطلان كون الاحكام فعلية مطلقا وبطلان كون فعليته مقصورة بحال القطع فقط، يحصل لنا العلم بفعليتها وإرادة الشارع للعمل بها
بعد تحصيلها بنحو القطع أو بما يكون طريقا متعارفا عاديا لها، لا بكل ظن من أي وجه حصل ولو من الأسباب غير العادية، ولا بهذا
الطريق في صورة تحقق الظن به شخصا فقط، بداهة ان العبد العالم بتحقق تكاليف ووظائف تعبدية من قبل مولاه مريدا العمل بها
يحصل له القطع بفعليتها وإرادته للعمل بها إذا حصلت له بطريق القطع أو بأعم منه ومما هو طريق متعارف لها وان لم يوجب الظن
فعلا، ولا ينقدح في نفسه أصلا ان يكون الاعتبار بظنه الشخصي بأي سبب حصل ولو من النوم ونحوه، إذ لا يصدق على مثل النوم كونه
طريقا لاثبات الاحكام التعبدية التي لا مجال للعقل فيه.
إذا عرفت هذا فنقول: ان الطريق العادي لتحصيل أحكام المولى هو النقل من قبله بان يرويها الثقات عنه وليس وراء النقل والرواية
طريق لها، فان الحكم والوظيفة التعبدية انما يكون بنظر المولى ويعلم من قبله وليس من الأمور العقلية حتى يعمل فيه العبد نظره و
يحصله بالاجتهادات والاستحسانات العقلية، وما لا يعلم الا من قبل المولى ينحصر طريقه في السماع منه بلا واسطة أو بالواسطة بان
ينقل منه.
558

وعلى هذا، فتستنتج من التقرير الذي ذكرناه للانسداد ونسبناه إلى قدماء الأصحاب، حجية الخبر الواحد سندا وظهورا إذا كان رواية
ثقة ضابطا، فإنه الطريق العادي المتعارف لاثبات ما يجب ان يعلم من قبل المولى الذي لا سبيل إلى السماع منه بلا واسطة ولذا استدل
به (صاحب المعالم) لاثبات حجية الخبر سندا، وبعض اخر لاثبات حجية الظواهر، واما الاجتهادات والاستحسانات الظنية فليست طرقا
متعارفة عادية لتشخيص ما لا يعلم الا من قبل الغير وإن كان بناء المخالفين على تشخيصها وإثباتها بمثلها، حيث جرت سيرة علمائهم
على إعمال الاجتهاد في تحصيل ملاكات الاحكام المنصوصة ثم قياس الوقائع المشابهة، وعلى حدس الاحكام وتخمينها حسب ما
يظنونها من المصلحة والمفسدة في الوقائع التي لا يجدون لها مشابها تقاس عليه، وكان يسمى الأول بالقياس والثاني بالاستحسان و
عمدة ما ألجأتهم إلى ذلك قلة الاخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وآله في الاحكام فإنها بين ثلاثمائة وأربعمائة وعدم تمسكهم
بأذيال آل الرسول حتى يرتووا من مناهلهم، وقد عرفت عدم كون هذه الأمور طرقا عادية عقلائية لتشخيص ما لا يعلم الا من قبل الغير
بل ينحصر طريقه في السماع منه بلا واسطة أو النقل عنه، ومن هذا القبيل، الأحكام الشرعية.
وبهذا البيان، يظهر ان الظن القياسي ونحوه خارج من أول الأمر عما تثبت حجيته بدليل الانسداد ولا نحتاج لاخراجه إلى مخصص
حتى يجري الاشكال في إخراجه على الحكومة، حيث عرفت ان ما تثبت حجيته بدليل الانسداد على تقريب ذكرناه هو حجية الاخبار
الآحاد فقط وان لم يحصل منها ظن شخصي.
بل يمكن ان يقال: ان جريان السيرة عند العقلا على العمل بالظواهر والاعتماد على الاخبار من حيث السند أيضا يبتنى على هذا الأساس
الذي شيدناه في تقريب الانسداد، فالانسداد النوعي حكمة لجريان بنائهم على العمل بالظواهر والاخبار حيث لا طريق نوعا لتشخيص
أحكام الموالي الا الاعتماد على ظواهر ألفاظه والاخبار المنقولة عنه بالطرق الموثوق بها، ولو انسد هذا الباب لانسد باب إطاعة الأوامر
والنواهي والقوانين المجعولة، خصوصا في مثل شريعة الاسلام الذي كثرت أحكامه وتشعبت غصونه كما عرفت، وأراد الشارع بقاء
أحكامه إلى يوم القيامة معمولا بها في جميع الأمصار لتحصل للناس سعادة الدارين وترتفع المنازعات والمخاصمات ويطلعوا على
أحكام المعاملات وتجري بينهم السياسات الموضوعة لحفظ نظامهم كأحكام الحدود والقصاص والديات ونحو ذلك فإنه لا طريق
لاثبات هذه الأحكام الكثيرة الا الاخبار الآحاد كما عرفت.
559

وقد مر منا في باب حجية الظواهر مبنى جريان السيرة على العمل بها، وقلنا إن السيرة ليست وسطا لاثبات الحجية بان يكون كل منا
في مقام إثبات حجية الظواهر أو الاخبار محتاجا إلى مراجعة بناء العقلا والاستمداد من عقولهم، بل المراد بها حكمهم بالحجية بما هم
عقلا، ومرجع ذلك إلى حكم العقل، فكل أحد يستقل عقله بوجوب متابعة ظواهر كلام المولى وما نقل منه بالطريق الموثوق به من جهة
انه لا طريق لتحصيل مرادات المولى الا ذلك لعدم وفاء القطع.
فتحصل مما ذكرنا، ان مرجع السيرة التي هي عمدة أدلة حجية الظواهر والاخبار أيضا إلى دليل الانسداد بتقريب ذكرناه فراجع إلى ما
حررناه في مبحث الظواهر حتى يتضح لك ما بيناه.
التنبيه الرابع:
وقد ظهر بما ذكرناه من تقرير الانسداد، انه لا مجال للنزاع في أن الثابت بالانسداد حجية الظن بالواقع أو بالطريق أو بهما، فان
الثابت به كما قررناه ليست حجية مطلق الظن، بل حجية طريق خاص وان لم يفد ظنا وهذا الطريق، طريق إلى الواقع ولم نكلف الا
بإحراز الواقعيات والعمل بها وليست لنا طرق مجعولة تأسيسا حتى يجب علينا العمل بها وتصير نتيجة الانسداد حجية الظن بها، كيف
ولو صدر من الشارع جعل تأسيسي لطريق، لتوفرت الدواعي على ضبطه لشدة الاحتياج إليه وتواتر نقله لنا، فتدبر.
التنبيه الخامس: حجية الاخبار إجمالا ولو عند التعارض بدليل الانسداد
لا يخفى ان مبنى شريعة الاسلام وما هو الموجب لاثبات أحكامه وبقائها في جميع الأمصار إلى يوم القيامة اخبار الثقات العدول لا غير،
فان الاجماع المنقول والشهرة الفتوائية أيضا راجعان إلى الخبر لكشفهما عن وجود نقل معتبر عند المجمعين والمفتين، وان لم يضبط
في الجوامع، بل القياس أيضا على فرض حجيته راجع إليه لابتنائه على استنباط العلة والمناط لحكم ثبت بالنقل، وقد عرفت ان المستفاد
بسيرة العقلا وبدليل الانسداد أيضا هو حجية الاخبار، فهي امر مسلم ولولاها انهدم أساس الشريعة، فحجيتها من الضروريات بعد
العلم بعناية الشارع ببقاء أحكامه إلى يوم القيامة من غير فرق بين ما كان بواسطة أو بلا واسطة.
إذا عرفت هذا فنقول: كما أنه يثبت بتقرير ذكرناه لدليل الانسداد أصل حجية الاخبار، فكذلك تثبت به حجيتها إجمالا حين التعارض إذ
قلما تتفق في الفقه مسألة لم يرد فيها خبران متعارضان ولو بدوا، فلو كانت حجية الخبر مقصورة على صورة عدم التعارض لم يبق لنا
طريق لاثبات الأحكام الشرعية المجعولة في الأبواب المتفرقة للدواعي والاغراض المتشتتة، وانهدم أساس الشريعة، فحجيتها إجمالا
حتى عند التعارض ضرورية.
560

المقصد الثامن في الشك ويبحث فيه عن الأصول العملية
561

البراءة
تحرير محل البحث:
قال في الكفاية ما حاصله: المقصد السابع في الأصول العملية وهي التي ينتهى إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الدليل، والمهم منها
أربعة فإن قاعدة الطهارة وان كانت تجري في الشبهات الحكمية إلا أنها لا تحتاج إلى بحث مضافا إلى اختصاصها ببعض الأبواب.
انتهى.
أقول: حيث إنه (قده) جعل تمايز العلوم بتمايز الاغراض جعل امتياز مسائل الأصول عن غيرها بكونها واقعة في طريق استنباط الأحكام الشرعية
، أو مما ينتهى إليها المجتهد في مقام العمل، وقد حققنا في محله، ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ونقحنا موضوع علم
الأصول فراجع. واما ما ذكره بالنسبة إلى قاعدة الطهارة فكنا نحن نستشكل عليه بان الطهارة ليست من الأحكام الشرعية المحضة بل
هي امر واقعي كشف عنها الشارع فلا يستنبط من قاعدة الطهارة حكم شرعي كلي وكان (قده) يجيب بأنها وان فرضت من الأمور
الواقعية ولكن طريق كشفها ينحصر في بيان الشارع فأشبهت بذلك الأحكام الشرعية.
ثم قال في الكفاية في تنقيح مجرى البراءة وتعيين مورد البحث فيها ما هذا لفظه: (لو شك في وجوب شي أو حرمته ولم تنهض عليه
حجة جاز شرعا وعقلا ترك الأول وفعل الثاني، وكان مأمونا من عقوبة مخالفته - كان عدم نهوض الحجة لأجل فقدان النص أو
إجماله واحتماله الكراهة أو الاستحباب أو تعارضه -) إلخ. انتهى.
أقول: قوله: (جاز شرعا وعقلا) يحتمل فيه أمور:
الأول: ان يكون المراد به ثبوت حكم ظاهري بالجواز والإباحة في مورد الشك، بالشرع والعقل بان يحكم كل منهما بثبوت الرخصة
ظاهرا، أو بان تدل على ثبوته شرعا الأدلة الشرعية والعقلية فيكون مفاده مغايرا لمفاد قوله: (وكان مأمونا) إلخ.
563

الثاني: ان لا يكون المراد به ثبوت حكم ظاهري، بل يراد به ما أريد بقوله: (وكان مأمونا) فيكون النظر إلى نفس الواقع ويكون
المقصود من الجواز الشرعي رفع فعلية الواقع المستتبع لعدم التنجز، ومن الجواز العقلي رفع تنجزه فإن إثبات الفعلية ورفعها من
وظائف الشارع والحكم بالتنجز وعدمه من وظائف العقل.
الثالث: ان يراد بكل من الجواز الشرعي والعقلي، التصرف في مرتبة التنجز، فإن للشارع ان يوجب الاحتياط في مورد الشك تحفظا
على الواقعيات فيصير حكمه بوجوب الاحتياط موجبا لتنجز الواقعيات في مورد الشك أيضا، فالمراد بالجواز العقلي حكم العقل بعدم
تنجز الواقع بصرف الاحتمال، وبالجواز الشرعي عدم جعل حكم طريقي - كإيجاب الاحتياط - موجب لتنجز الواقع في ظرف الشك. و
عليه فيصير المدعى امرا مركبا يثبت أحد جزئيه بالعقل والاخر بالشرع، وحاصله انه إذا شك في التكليف ولم تنهض عليه ما يثبته
فنفس الاحتمال لا يكفي لتنجزه بحكم العقل ولم يتحقق من الشارع أيضا ما يوجب التنجز مثل إيجاب الاحتياط.
والظاهر، تعين الاحتمال الثاني على ما هو ظاهر عبارته وبطلان الآخرين، فإن جعل الإباحة في مرحلة الظاهر مضافا إلى كونه لغوا، لا
دليل له فإن المستفاد من حديث الرفع وأمثاله كون النظر إلى نفس الواقع، والظاهر من قوله شرعا وعقلا كون كل منهما دليلا مستقلا
على البراءة.
الجهات المبحوث عنها في البراءة:
وبهذا البيان ظهر تحرير محل البحث في المسألة وان المبحوث عنه أحد أمور ثلاثة:
1 - أن تكون الحيثية المبحوث عنها، هي ان صرف احتمال التكليف هل يكفي لتنجزه أم لا بمعنى انه لو فرض الشك في حكم شرعي ولم
يكن في البين سوى الاحتمال فهل يحكم العقل بتنجز الواقع به على فرض ثبوته أو لا يكفي صرف الاحتمال في تنجيزه،؟ والبراءة بهذا
النحو كانت مبحوثا عنها في كلام القدماء، وربما كانوا يعبرون عنها باستصحاب حال العقل.
والمراد بتنجز الواقع هو صيرورته بحيث يخرج العبد بمخالفته عن زي الرقية ورسم العبودية ويصير بها طاغيا على مولاه ويترتب
على ذلك كونه مذموما عند العقلا ومستحقا لعقوبة المولى بمعنى عدم تقبيحهم للمولى على عقوبة هذا العبد.
564

وربما يرى في بعض الكلمات، عدم قابلية الاحتمال لتنجيز الواقع أصلا.
وفيه: ان العقل يحكم بتنجز الواقع بصرف الاحتمال ما لم يتفحص العبد عن الدليل، فالاحتمال قبل الفحص من المنجزات ولذا يحكم
العقل باستحقاق العبد للعقوبة فيما إذا لم يتفحص عن صدق مدعى النبوة ولم ينظر في آثاره ومعجزاته.
وبالجملة، فالحيثية المبحوث عنها على هذا الفرض، هو انه لو خلى العبد واحتماله ولم يظفر بعد الفحص والتتبع على شي يكون حجة
لاثبات الواقع، فهل يكفي صرف الاحتمال لحكم العقل بتنجز الواقع وصيرورة العبد بمخالفته على فرض ثبوته خارجا عن رسم
العبودية وطاغيا على مولاه أو لا يكفي ذلك؟.
2 - أن تكون الحيثية المبحوث عنها، هي انه هل تحقق من قبل الشارع في مورد الشك ما يوجب تنجز الواقعيات على فرض ثبوتها
كإيجاب الاحتياط أم لا؟ بعد تسليم الطرفين عدم كفاية صرف الاحتمال للتنجيز، فالبحث في الحقيقة بحث عن ثبوت إيجاب الاحتياط و
عدمه في موارد الشك. فالاخباري يدعى ثبوته والأصولي ينكره، والبحث عن البراءة والاحتياط بهذا النحو مستحدث بخلاف النحو
السابق كما عرفت، كما أنه يكون على هذا النحو صغرويا وعلى السابق كبرويا، فإن وجوب الاحتياط على فرض ثبوته يكفي للتنجيز
بلا خلاف ولا إشكال وانما وقع البحث بين الاخباري والأصولي في أصل تحققه وثبوته، واما على الفرض السابق فيكون البحث في
كفاية الاحتمال للتنجيز وعدم كفايته، ولا يخفى انه على فرض تحرير محل البحث بالنحو الثاني يكون نزاع الأصولي والاخباري في
خصوص الشبهات التحريمية إذ لم يدع أحد، إيجاب الاحتياط في الشبهات الوجوبية أيضا، فاللازم عليه تفكيك المسألتين كما في
(الرسائل) لا جمعها في ضابطة واحدة كما في (الكفاية).
3 - أن تكون الحيثية المبحوث عنها ملتئمة من الحيثيتين فيقع البحث في أنه هل يجب على العبد، الاحتياط في موارد الشكوك بان يكون
صرف الاحتمال منجزا أو بإيجاب الشارع للاحتياط أو لا يجب؟ فعلى القائل بالبراءة نفى كليهما ويكفى للقائل بالاحتياط إثبات
أحدهما وهذا هو الاحتمال الأخير الذي ذكرناه لعبارة الكفاية.
ثم لا يخفى، ان البحث لو كان على النحو الأول فلا مجال فيه الا لدليل العقل
[1]
ولا مجال فيه
[1]
لا يخفى ان الحكم بكفاية نفس الاحتمال في التنجيز وعدمها وإن كان من وظائف العقل ولكن للقائل
565

للاستدلال بالأدلة الشرعية، فإن الحاكم في باب التنجيز هو العقل فيجب ان يرجع إليه لتحقيق ان صرف احتمال التكليف يكفي
لصيرورة العبد خارجا عن رسم العبودية على فرض مخالفته له أم لا يكفي؟ ولذا استدلوا عليه بقبح العقاب بلا بيان، كما أنه لو كان
البحث على النحو الثاني كان الواجب هو الاستدلال بدليل الشرع فقط ولا مجال فيه لدليل العقل. واما على النحو الثالث فعلى القائل
بالبراءة، الاستدلال بكلا الدليلين حتى يثبت بأحدهما جز من المدعى وبالاخر جزئه الاخر فلا يصير كل من دليلي العقل والشرع دليلا
مستقلا للبراءة بل يصير كلاهما دليلا واحدا لاثبات المطلوب، فتدبر.
ثم اعلم أن ظاهر عبارة (الكفاية) هو كونها قضية بشرط المحمول إذ الحجة عبارة عما يتنجز بسببها الواقع وتصير موجبا لاستحقاق
العقوبة عليه، فيصير معنى قوله: إذا شك في التكليف ولم تنهض حجة عليه جاز الترك والفعل وكان مأمونا من العقوبة، انه إذا لم ينهض
ما يوجب استحقاق العقوبة على الواقع لم تستحق العقوبة على الواقع فهي قضية بشرط المحمول وهي ضرورية لا مجال للبحث عنها.
ولكن مراده (قده) من الحجة ما سوى نفس الاحتمال المبحوث عن قابليته للتنجيز، فمعنى العبارة، انه إذا شك المكلف في التكليف ولم
تكن معه حجة عليه وراء نفس الاحتمال فلا يكون مستحقا للعقوبة لعدم كفاية نفس الاحتمال في استحقاقه، وعلى هذا فلا يرد عليه (قده)
الاشكال.
الاستدلال للبراءة بحكم العقل:
وكيف كان فحيث اتضحت لك الحيثيات التي يمكن أن تكون مبحوثا عنها فنقول:
اما إذا كان الحيثية المبحوث عنها، هو ان نفس الاحتمال يكفي في تنجيز الواقع أم لا، فالظاهر عدم الخلاف في عدم كفايته وجريان
البراءة بهذا المعنى، والدليل عليه هو العقل المحكم في باب الإطاعة والعصيان، فإنه يحكم بالضرورة ان العبد إذا تفحص عن أوامر
المولى ونواهيه في مظان وجودها وأنهى قدرته في ذلك ولم يظفر بشئ فبقي هو وصرف احتماله للوجوب أو الحرمة فترك محتمل
الوجوب أو أتى بمحتمل الحرمة لم يكن بذلك خارجا عن رسم
بالبراءة ان يستدل بالدليل الشرعي لرفع موضوع هذا الاحتمال بان يستدل بحديث الرفع مثلا على رفع فعلية الاحكام في مورد الشك
فيرتفع احتمال التكليف ح - ع - م.
566

العبودية ومضيعا لحقوق المولوية ولم يعد طاغيا على المولى وليس للمولى عتابه وعقابه محتجا عليه بأنك ضيعت حقوقي عليك وهذا
من غير فرق بين صورة عدم البيان واقعا وبين صورة وجوده مع عدم ظفر العبد به بعد إعمال قدرته في الفحص عنه، فإن البيان
بوجوده الواقعي لا يصلح للاحتجاج به فوجوده حينئذ كعدمه، فلو فرضنا عبدين احتمل كل منهما تكليفا فأنهيا قدرتهما في الفحص عنه و
لم يعثرا عليه واتفق عدمه واقعا بالنسبة إلى أحدهما وثبوته بالنسبة إلى الاخر، فهل يحسن للمولى عقاب الثاني محتجا بالبيان الواقعي
غير الواصل أو لا يحسن له ذلك؟ بل يكون العبدان بنظر العقل والعقلاء متساويين لتساويهما في العمل بما تقتضيه وظيفتهما من البحث
والفحص ولم يظهر من أحدهما قصور وصرف تحقق البيان الواقعي بالنسبة إلى أحدهما وعدمه بالنسبة إلى الاخر، لا يصلح
لافتراقهما بعد تساويهما فيما هو من قبلهما.
وبالجملة، فصرف الاحتمال، لا يصلح للتنجيز بضرورة من العقل فإنه يحصل له الجزم بقبح العقوبة بعد تصور الموضوع أعني عدم
وصول حجة من المولى أصلا وعدم كون شي في البين سوى الاحتمال بعد الفحص واليأس وهذا معنى قولهم: بقبح العقاب من دون
بيان، فقبح العقاب بلا بيان هو عين المدعى وهو امر ضروري لا يحتاج إثباته إلى توسيط واسطة ولا يحسن ذكره بصورة الدليل والا
لكان مصادرة والظاهر أن من ذكره بصورة الدليل أيضا لا يريد به الا دعوى الضرورة على المدعى والا فإشكال المصادرة وارد عليه.
استدلال بعض الأعاظم على قاعدة القبح في المقام:
ويظهر من بعض أعاظم العصر الاستدلال على القبح في المقام بما مر منا مفصلا من عدم تحقق الحكم الواقعي بحقيقته وروحه بالنسبة
إلى الجاهل.
وتوضيحه: ان أوامر المولى ونواهيه انما تصدر عنه بداعي انبعاث العبيد وانزجارهم، وهي بوجودها الواقعي لا تصلح للباعثية و
الزاجرية بل الباعثية والزاجرية مقصورة بصورة العلم بها، فالمولى ينشئ البعث والزجر ليعلم به العبد فينبعث أو ينزجر.
وبعبارة أخرى: الانبعاث أو الانزجار يتحقق بالعلم ببعث المولى وزجره فيوجد المولى البعث أو الزجر حتى يترتب عليهما علم العبد
فيحصل الانبعاث والانزجار، فإرادة الانبعاث أو الانزجار التي هي روح الحكم وحقيقته مقصورة بصورة العلم بالخطاب ولا تحقق لها
في صورة
567

الجهل الا ان يوصلها المولى إلى العبد بخطاب اخر طريقي. وعلى هذا ففي ما نحن فيه بعد ما فرض عدم وصول الخطاب الواقعي وعدم
خطاب طريقي أيضا وكون المتحقق للعبد صرف الاحتمال، لا يكون التكليف الواقعي على فرض ثبوته فعليا ولا يكون المولى مريدا
لانبعاث العبد وانزجاره فلا يخرج العبد بمخالفته عن رسوم العبودية ولا تستحق العقوبة إذ الفرض عدم تحقق التكليف بحقيقته و
روحه قطعا وعدم إمكان تحققه في هذه الصورة.
ولا يتوهم إمكان باعثية التكليف وزاجريته بنفس وجوده الواقعي تمسكا بوقوع ذلك في موارد الاحتياط حيث إنه لا علم به ومع ذلك
ينبعث العبد وينزجر.
فإنه يقال: ان الانبعاث والانزجار في موارد الاحتياط بصرف الاحتمال لا بالتكليف المحتمل فإن الاحتمال غير ملازم لتحققه واقعا ولا
يتوقف تحققه وباعثيته على تحقق التكليف في متن الواقع.
والحاصل ان بعض الأعاظم، قد استدل لقبح العقاب بلا بيان وحجة، بما عرفت من عدم إمكان فعلية التكليف وتحققه بروحه في حق
الجاهل الذي لم يعثر على الخطاب الواقعي ولا على خطاب طريقي ولكنك عرفت ان ذلك ضروري لا يحتاج إلى الاستدلال وعرفت
أيضا ان الحكم بذلك من وظائف العقل فقط، فلا مجال للاستدلال عليه بدليل شرعي.
نعم ورد من الشرع أمور تؤكد هذا المعنى، منها: قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فإن مفاده، انا لا نصدر منا هذا
المعنى القبيح بضرورة العقل، فتدبر ثم انك قد عرفت ان البراءة عند القدماء كانت مبحوثا عنها بهذا النحو فكان الموضوع عندهم هو
الشخص المخلى واحتماله بعد الفحص وعدم الظفر بشئ.
الأمور التي ادعى أنها واردة على قاعدة القبح:
ذكر في المقام أمور ادعى كونها واردة على قاعدة القبح أكثرها يختص بالشبهات التحريمية وواحدة منها وهي قاعدة وجوب دفع
الضرر المحتمل يجري بأحد تقريبه في جميع الشبهات وبالاخر في خصوص التحريمية، فقاعدة القبح بكليتها مسلمة حتى عند هؤلاء
الاشخاص أيضا ولكنهم ادعوا ارتفاع موضوعها بأحد هذه الأمور، إذ بعد جريان واحد منها، تتحقق حجة قطعية
568

على الواقع وراء نفس الاحتمال.
1 - فمنها: القاعدة المشار إليها فإن العقل يحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل
فيصير هذا بيانا وتقريبه بوجهين:
الأول: وهو الذي يجري في جميع الشبهات، ان يقال: ان في ترك الواجب وفعل المحرم ضرر أخروي وهو العقوبة فاحتمال الوجوب أو
الحرمة يلازم احتمال العقاب وهو ضرر والعقل يحكم بلزوم دفع الضرر المحتمل، وبقاعدة الملازمة يثبت وجوب دفعه شرعا أيضا
فيتحقق العلم بتكليف المولى. وعلى هذا فلا يكون نفس الاحتمال منجزا حتى يدعى الضرورة على عدم قابليته للتنجيز وقبح العقوبة
بسببه، بل المنجز هو العلم بالتكليف المستكشف بقاعدة الملازمة.
ويرد عليه: ان جريان القاعدة يتوقف على تحقق موضوعه وهو احتمال الضرر والمفروض ان المراد به في المقام هو العقوبة فجريانها
يتوقف على احتمال العقوبة في الرتبة السابقة على جريانها والمفروض عدم حجة على التكليف في هذه الرتبة وراء الاحتمال وقد
سلمتم عدم قابليته بنفسه للتنجيز وحسن العقوبة، فلا مجال لاحتمال العقوبة في هذه الرتبة حتى تجري القاعدة.
وبعبارة أخرى: احتمال التكليف مع عدم حجة أخرى وراء الاحتمال لا يلازم احتمال العقوبة بل نقطع معه بعدمها.
الثاني: وهو الذي يجري في خصوص الشبهات التحريمية ان يقال: ان تحريم شي انما هو للمفسدة والمضرة الكامنة فيه فاحتمال
الحرمة يلازم احتمال الضرر الدنيوي الملزم والعقل يحكم بقبح الاتيان بما يحتمل فيه الضرر ويشمئز منه اشمئزازه من مقطوع الضرر
فبقاعدة الملازمة تستكشف حرمة محتمل الضرر شرعا فيصير معلوم الحرمة.
والجواب عن ذلك باحتمال كون النهي لمصلحة في نفس النهي أو المفسدة نوعية دون الشخصية المسماة بالضرر، لا يغنى عن جوع،
فإن هذا الاحتمال لا يوجب القطع بعدم الضرر الشخصي إذ كما يحتمل أحد هذين الامرين كذلك يحتمل كونه للضرر الشخصي فبقي
ملاك الاستدلال أعني كون احتمال التكليف ملازما لاحتمال الضرر.
فالجواب الصحيح عن ذلك ان يقال:
أولا: ان العقل لا يشمئز من ارتكاب كل ما يحتمل فيه الضرر، بل لو لم يكن عقلائيا يشمئز من تجنبه.
569

وثانيا: ان اشمئزاز العقل من محتمل الضرر ليس من جهة دركه فيه بما هو محتمل، ملاكا ملزما وراء نفس الضرر المحتمل على فرض
ثبوته، بل غاية ما يحكم به هو انه لو ارتكبه أمكن ان يصادف الضرر الواقعي من دون ان تترتب على ارتكاب المحتمل بما هو محتمل
مفسدة أخرى، وليس كل ضرر مما يحرم شرعا ارتكابه ولو في صورة القطع به.
نعم غاية ما تستفاد من الأدلة الشرعية، حرمة ارتكابه إذا أوجب نقصا في الأعضاء أو إهلاكا للنفس وقاعدة الملازمة على فرض ثبوتها
انما تجري في المستقبحات التي تشمئز منها جميع العقول وتستقل بقبحها من قبيل الظلم ونحوه لا مثل الاضرار بالنفس إذا كان يسيرا.
وثالثا: على فرض حرمة مطلق الضرر شرعا يكون احتماله من قبيل الشبهات الموضوعية فيخرج عما نحن فيه وسيأتي بيان حكمها.
2 - ومما توهم ورودها على قاعدة قبح العقاب بلا حجة، أصالة الحظر.
فربما يقال: انا نسلم ان صرف الاحتمال لا يكفي لتنجيز الواقع ولكن حكم العقل بالحظر في الافعال يكفي بيانا ومسألة الحظر و
الإباحة كانت مبحوثا عنها بين القدماء من الفريقين وموضوعها تصرف العبيد في الأعيان الخارجية أو مطلق أفعالهم مع قطع النظر عن
ورود الشرع، فكان بعضهم يقول: بالحظر في الافعال المتعلقة بالأعيان الخارجية، وبعضهم بالحظر في مطلق الافعال سوى الافعال
الضرورية كالتنفس ونحوه والباقون بالإباحة وملخص مدعى القائل بالحظر، هو ان العبد بشراشر وجوده وكذا الأعيان الخارجية
ملك لله تعالى ومما يستقل به العقل، عدم جواز تصرف أحد في ملك غيره وحدود سلطنته الا بإذنه لكونه من شعب الظلم عليه فلا يجوز
للعبد ان يتصرف في حدود سلطان الله تعالى حتى مع القطع بعدم صدور تحريم منه تعالى الا ان يثبت الاذن والترخيص من قبله و
نفس هذا المعنى يكفي بيانا وحجة على الواقع فيما احتمل حرمته فيصلح للمولى العقاب عليه.
ولا يخفى ان موضوع البحث في البراءة والاحتياط هو الشك في الحكم الواقعي، وفي مسألة الحظر والإباحة، افعال المكلفين مع قطع
النظر عن الشرع حتى مع العلم بعدم نهى فيها من قبل الشارع ولكن إثبات الحظر في هذه المسألة يكفي للقول بالاحتياط في تلك
المسألة إذ جواز الارتكاب على هذا الفرض يتوقف على العلم بالترخيص ففي صورة الشك أيضا يكون الحكم هو عدم جواز الارتكاب.
ولكن مبنى القول بالحظر فاسد، فإن عنوان التصرف في ملك الغير بما هو هو ليس
570

لحكم العقل بالقبح، وانما يستقل بقبحه إذا انطبق عليه ما يقبح ذاتا من العناوين كالاضرار بالغير والظلم عليه وهذا المعنى لا يتحقق
بالنسبة إلى ملك الله تعالى فان الناس ينتفعون بأملاكهم ويصرفونها في حوائجهم فمزاحمتهم في ذلك إضرار بهم وظلم عليهم واما
هو تعالى فملكه وسيع لاحد له ولا ينتفع به ولا يتضرر بالتصرف فيه ولا يرد به نقص فيه ولا نسل كون مطلق التصرف في ملك الغير
ظلما عليه ما لم يتضرر به ولم يكن بحيث يوجب ضيقا عليه وهل يحتمل أحد في الله تعالى - الذي خلق الناس وهم فقرأ محتاجون في
إمرار الحياة من الاستفادة من الأعيان الخارجية وخلق عالما وسيعا يوجد فيه جميع ما يحتاجون إليه ويناسب طباعهم وهو تعالى غنى
عن جميعها لا ينتفع بشئ منها ولا يتضرر بالتصرف فيها - ان يكون التصرف في أمواله وأملاكه محرما عند العقل وظلما عليه تعالى؟
لا، بل لا يحتمل ذلك في الموالي المجازية أيضا إذا جمع أحدهم عبيده في مكان وهيأ فيه جميع وسائل الحياة.
اللهم الا ان يقال: بان ذلك بنفسه مما يستكشف منه الاذن والرضاية فلا يكفي هذا البيان لصورة الشك والاحتمال وكيف كان فلا يحكم
العقل بالحظر في أملاك مثله تعالى ويشهد لذلك قوله تعالى في مقام الرد على من يجعل نفسه محروما من الاستفادة عن مزايا الطبيعة:
(قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق) الآية. فتدبر فإنه يعلم منها ان جعل الانسان نفسه محروما منها قبيح
عند العقل إذا لم يحرمها الله تعالى.
3 - ومما توهم أيضا ورودها على حكم العقل
المزبور أيضا ما ادعاه الأخباريون من جعل الشارع حكما طريقيا في خصوص الشبهات الحكمية التحريمية وهو وجوب الاحتياط فيها
بحكم الشارع تحفظا على الواقعيات، وهذا هو الحيثية الثانية من الحيثيات الثلاث التي أشرنا إمكان البحث عنها.
أدلة الأخباريين على وجوب الاحتياط:
ما استدلوا به على الاحتياط في الشبهات التحريمية ثلاثة:
الكتاب والسنة والعقل.
اما الكتاب: فبآيات تنقسم إلى طوائف:
571

الطائفة الأولى:
ما دلت على حرمة نسبة القول إلى الله تعالى بغير علم وهي كثيرة جدا:
منها: قوله تعالى: (قل انما حرم ربي الفواحش) إلى قوله (وان تقولوا على الله ما لا تعلمون).
ومنها: قوله (الله اذن لكم أم على الله تفترون).
بل يظهر من الآيات ان حرمته ليست حرمة شرعية تأسيسية بل المراد بها إرجاع الناس إلى ما هو المركوز في أذهانهم من قبح نسبة
شي إلى شخص مع عدم ثبوته وقد مر بيانه في أوائل الظن.
وتقريب الاستدلال بها ان القول بالإباحة في المقام قول بغير علم.
والجواب عن ذلك واضح، إذ يرد عليه أولا: بالنقض فان القول بوجوب الاحتياط أيضا قول بغير دليل.
وثانيا: بأنا لا نقول بجعل الشارع إباحة في مرحلة الظاهر فإنه غير محتاج إليه ولا دليل عليه أيضا كما مر، بل نقول إن الحكم بالحرمة
أعني الزجر بوجوده الواقعي لا يعقل ان يصير زاجرا كما مر فمع الشك في الزجر يقبح العقاب على الواقع ويكون العبد مأمونا من
العقوبة عليه.
الطائفة الثانية:
ما دلت على وجوب الاتقاء أو المجاهدة.
ويرد على الاستدلال بها، ان معنى الاتقاء هو التحرز عن المحرمات لا عن كل شي فلا ربط له بما لم تثبت حرمته وهكذا الجواب عن
آية المجاهدة.
الطائفة الثالثة:
ما دلت على حرمة إلقاء النفس في التهلكة.
وفيه انه، ان أريد بالهلكة، العقوبة الأخروية فهي مقطوعة العدم بعد استقلال العقل بقبحها مع عدم البيان وان أريد به الضرر الدنيوي
ففيه ما عرفت في بيان قاعدة دفع الضرر، والظاهر أن النهي في الآية إرشادي وموضوعه ما أحرز كونه هلكة مع قطع النظر عن هذه
الآية وليس نهيا مولويا.
واما الاخبار: فطوائف أيضا،
وقد جعلها الشيخ (قده) أربع طوائف:
الأولى: ما دلت على حرمة القول بغير علم.
572

الثانية: ما دلت على وجوب التوقف عند الشبهة.
الثالثة: ما دلت على وجوب الاحتياط.
الرابعة: اخبار التثليث.
أقول: لا يخفى رجوع الرابعة إلى الثالثة غاية الأمر تضمنها لتثليث الوقائع.
والجواب عن الطائفة الأولى أيضا قد اتضح بما ذكرناه في الجواب عن الطائفة الأولى من الآيات، فهنا طائفتان: اخبار التوقف واخبار
الاحتياط. وقد جمع صاحب الوسائل لهذه المسألة 61 حديثا في باب 12 من أبواب صفات القاضي، منها ما واقع فيها لفظ الشبهة، ومنها
ما وقع فيها لفظ الاحتياط، ومنها غير ذلك والتدبر في هذه الأخبار يرشد إلى عدم دلالة واحد منها على مقصود الاخباري، فان كثيرا
منها تدل على أن الانسان إذا لم يعلم شيئا ولم يحط به لم يجز له نقله للغير ولا الافتاء على طبقه، ولا يخفى ان حرمة ذلك ضرورية
لكونه من مصاديق الافتراء والافتاء بغير علم.
وكثير منها ذكر فيها لفظ الشبهة وبالقرائن المذكورة فيها يعلم أن المراد بها ترك الأمور المشتبهة المشابهة للحق التي يتخذ بها
أصحاب الآراء والبدع لترويج مبتدعاتهم. وبالجملة، فالمراد بالشبهات فيها ما هو في قبال المحكمات.
وجملة منها ذكر فيها لفظ الاحتياط فتوهم الاخباري ان المراد به هو الاحتياط في مصطلح الأصوليين مع أنه بمعنى الاحتفاظ، فقوله
لكميل: (أخوك دينك فاحتط لدينك) يراد به وجوب حفظ الدين وجعل حائطة له تمنع عن ورود ما يخل به وكذلك في الرواية الدالة
على عدم الافطار إلى أن يعلم زوال الحمرة فان الامساك إلى زوال الحمرة واجب قطعا، فالمراد بالحائطة فيها الامر الحافظ للدين لا
الاحتياط في مصطلح الأصوليين.
وكثير منها، مربوطة بالشبهات قبل الفحص والتمكن منه كما في زمان الحضور فأمر فيها بالرجوع إليهم عليهم السلام ونحن أيضا
نقول بوجوب الفحص.
وكثير منها، تدل على لزوم الاجتناب عن الشبهة المحتمل فيها الهلكة مع قطع النظر عن هذا الخبر الذي توهم دلالتها على وجوب
الاحتياط وجعله، فيجب ان يكون المراد بها الشبهة قبل الفحص أو في أطراف العلم الاجمالي، إذ في غيرهما لا يحتمل العقوبة مع قطع
النظر عن إيجاب الاحتياط المتوهم.
وكثير منها وان أمكن تقريبها بنحو تدل على إيجاب الاحتياط ولكنها عامة لجميع
573

الشبهات من الوجوبية والتحريمية، الحكمية والموضوعية ولا يقول بمفادها الاخباري أيضا.
وكثير منها في مقام الارشاد استحبابا بالتجنب عن المشتبهات لئلا يتجري النفس فيهون له ارتكاب المحرمات أيضا.
وبالجملة، فلا تجد رواية تدل على ما يدعيه الاخباري من وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية الحكمية التحريمية بعد الفحص، فراجع
الاخبار حتى تطلع على صحة ما قلناه، ولنذكر بعضها:
الاخبار التي استدل بها للاحتياط والجواب عنها:
فمنها: رواية زرارة
قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: (ما حق الله على خلقه، قال: حق الله على خلقه ان يقولوا بما يعلمون ويكفوا عما لا يعلمون فإذا فعلوا
ذلك فقد - والله - أدوا إليه حقه) ونحوها رواية هشام بن سالم عنه عليه السلام.
وعدم ارتباطهما بالمقام واضح فان المراد ان الانسان إذا اتفقت له معضلة فعليه ان يكف وليس له ان ينسج على طبق أوهامه وخيالاته
بل عليه ان يرجع فيها إلى أهلها ليستفسرها منه فلا يرتبط بما نحن فيه.
ومنها: رواية المسمعي
الواردة في اختلاف الحديثين قال في ذيلها: (وما لم تجدوه في شي من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا فيه
ب آرائكم وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان) وهي أيضا غير مرتبطة بالمقام إذ هي
بصدد ان الانسان إذا عثر على روايتين متعارضتين ولم يعلم الحق منها فليس له الافتاء على طبق ظنونه واجتهاداته وتشخيص الحكم
الواقعي برأيه بل عليه الفحص حتى يعثر على البيان.
ومنها: رواية حمزة بن الطيار
حيث عرض على أبي عبد الله عليه السلام بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها قال له: (كف واسكت ثم قال: انه لا يسعكم فيما ينزل
بكم مما لا تعلمون الا
574

الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى)، الحديث.
والضمير في أبيه يمكن ان يرجع إلى الامام ويمكن ان يرجع إلى نفس الراوي، ويظهر من الحديث انه لم يكن حافظا للخطبة كما هو
حقها فكان ينسج على طبق ظنه فتشمل على امر خلاف الواقع وفي مثل ذلك يكون النقل مصداقا للافتراء مع التمكن من الفحص أيضا.
ومنها: رواية (أبي شيبة)
وفي نسخة (أبي سعيد) وأحدهما مصحف الاخر عن أبي جعفر عليه السلام قال: (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة و
تركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه).
ومفادها ان نقل الحديث لا يجوز الا مع الإحاطة بحدوده وأطرافه والا فيدخل في عنوان الافتراء والمتبادر من صدرها لزوم الوقوف
على فرض تحقق الهلكة واحتمالها مع قطع النظر عن هذا الحديث الدال على لزوم الوقوف. ومع قطع النظر عن وجوب الاحتياط و
الوقوف لا يحتمل الهلكة في الشبهات البدوية بعد الفحص لقاعدة القبح.
نعم، لو كان مفاد الحديث ان الوقوف عند الشبهة التحريمية البدوية بعد الفحص خير من الاقتحام في الهلكة لكانت دالة على مقصود
الاخباري إذ يستفاد منها حينئذ، إيجاب الاحتياط، فان الهلكة لا يعقل تحققها في المورد الا بعد إيجاب الاحتياط ولكن متن الحديث ليس
كذلك، بل يدل على أن في موارد احتمال الهلكة يلزم الوقوف، فيظهر منه كون الموضوع احتمال الهلكة مع قطع النظر عن هذا الحكم فلا
يرتبط بما نحن فيه.
ومنها اخبار الاحتياط التي منها: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج
قال سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزأ؟ قال: (لا، بل عليهما
ان يجزى كل واحد منهما الصيد)، قلت: ان بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه فقال: (إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم
بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا) وفيه أولا: انها في الشبهة الوجوبية ولا يقول بالاحتياط فيها الاخباري أيضا.
وثانيا: ان الظاهر، كون المراد بقوله (مثل هذا) مورد السؤال وعدم العلم ومن المعلوم ان
575

الانسان إذا لم يعلم شيئا سئل عنه ليس له ان يجيب من عنده كما مر. ولو فرض كون المراد بالإشارة، أصل مسألة الجزاء، فنقول: ان
المورد، مورد إمكان الفحص والرجوع إليه عليه السلام فلا يرتبط بما نحن فيه أيضا.
ومنها: موثقة ابن وضاح،
فيمن شك في حصول المغرب فقال عليه السلام: (أرى لك ان تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك).
والجواب عنها أولا: بان الظاهر كون الشبهة مفهومية حيث تردد امره بين كون الملاك استتار القرص أو زوال الحمرة فتكون وجوبية
حيث يشك في وجوب الصوم بعد الاستتار ولا يقول بالاحتياط فيها الاخباري أيضا.
وثانيا: ان وجوب الامساك في المورد، مقتضى استصحاب اليوم أو الوجوب ولا مجال في هذه الصورة للبحث عن البراءة والاحتياط. و
الحائطة في الرواية بمعنى الاحتفاظ كما عرفت، لا الاحتياط في مصطلح الأصوليين. هذا كله على فرض كون الشبهة مفهومية وان كانت
موضوعية فوجوب الامساك فيها أيضا مقتضى الاستصحاب ولولاه لم يجب الاحتياط حتى عند الاخباري أيضا.
ومنها: رواية كميل: (أخوك دينك فاحتط لدينك).
والجواب عنها قد ظهر، فان الاحتياط فيها بمعنى الاحتفاظ فالمراد ان الدين امر مهم يكون بمنزلة الأخ فيجب تحفظه، وأنى ذلك من
وجوب الاحتياط في الشبهات على ما يدعيه الاخباري.
وكذلك قوله: (ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط) بل ربما يطمئن النفس بعدم كون هذه، رواية كما يدل على ذلك
تسجيعه المناسب لكلمات العلماء.
ومنها: رواية (عنوان) البصري عن أبي عبد الله عليه السلام وفيها: (سل العلماء ما جهلت وإياك ان تسألهم تعنتا وتجربة وإياك ان
تعمل برأيك شيئا وخذ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا واهرب من الفتيا هربك من الأسد ولا تجعل رقبتك عتبة
للناس).
وكان (عنوان) من العامة من أهل البصرة هاجر إلى المدينة لتحصيل العلم وكان يتلمذ على مالك بن أنس وكان لا يرى للصادق عليه
السلام مرتبة الإمامة. نعم كان رجلا عابدا زاهدا فسمع امر الصادق عليه السلام واشتقاق إلى لقائه فلم يأذن له أولا فتوسل إلى قبر النبي
صلى الله عليه وآله ليلين قلبه عليه السلام فيأذن له
576

فاذن له. فمثل هذا الرجل العامي المتزهد المعرض نفسه لتحصيل العلم المستعقب للفتيا لا يناسب لحاله الا نحو ما ذكره الصادق عليه
السلام من الوعظ والتخويف من العمل بالرأي والفتيا التي كانت لا تصدر من مثله الا عن رأي أيضا ولا يرتبط الحديث بما نحن فيه
أيضا ولفظ الاحتياط فيه أيضا بمعنى الاحتفاظ وجعل الحائطة للدين.
ومنها: قوله عليه السلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).
وفيه مضافا إلى إرساله، عدم الدلالة أيضا على وجوب الاحتياط في خصوص الشبهة الحكمية التحريمية.
ومنها اخبار التثليث التي منها: رواية عمر بن حنظلة
الواردة في علاج المتعارضين قال بعد الامر بأخذ المجمع عليه وترك الشاذ: (وانما الأمور ثلاثة: امر بين رشده فيتبع وامر بين غيه
فيجتنب وامر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن
ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم). وفي ذيلها أيضا: (فان الوقوف عند
الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات).
أقول: يرد على الاستدلال بها أولا: انها تعم الشبهة الحكمية والموضوعية ولا يقول بالاحتياط في الثانية، الاخباري أيضا وتخصيصها
بالأولى بلا وجه. اللهم الا ان يقال: بان المقسم في الأقسام الثلاثة العناوين الكلية.
وثانيا: ان المورد في الرواية هو ورود خبرين متعارضين أحدهما مشهور والاخر شاذ سواء كان مفاد أحدهما الوجوب والاخر
التحريم أو الإباحة أو غير ذلك وتخصيصه بخصوص ما إذا تضمن الشاذ حكما ترخيصيا والمشهور حكما تحريميا بلا وجه. وعلى هذا،
فيلزم الاحتياط في الشبهة الوجوبية أيضا.
وثالثا: ان مورد الخبرين المتعارضين مورد التمكن من الفحص لكونه في عصر الإمام عليه السلام ونحن نقول فيه أيضا بالاحتياط. و
الذي يسهل الخطب، هو عدم وجود أثر من وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية في عصر الأئمة عليهم السلام وكذا من بعدهم من
الأصوليين والمحدثين مثل
577

الكليني والصدوق وغيرهما، مع أنه لو كان واجبا لصار من الضروريات في جميع الأعصار لكثرة الابتلاء بها إذ كل فرد من افراد
الانسان يحتمل في جميع أيام عمره حرمة أشياء كثيرة، فلو كان يجب من الشرع، الاحتياط في جميع ما احتمل حرمته لصار ذلك من
الضروريات في جميع الأعصار، وهل يمكن ان يختفي مثل هذا الحكم الذي يبتلى به كل أحد في كل يوم مرات عديدة إلى زمن
الأخباريين المتأخرين في القرن الحادي عشر وما يقرب به.
فهذا بنفسه من أقوى الأدلة على عدم وجوب الاحتياط في مورد الكلام، ويجب التصرف في هذه الأخبار لو فرض دلالتها، وعمدة ما
ألجأ الأخباريين المتأخرين إلى القول بلزوم الاحتياط في الشبهات التحريمية، ما رواه من شيوع الدخانيات بين الناس وكونها بنظرهم
امرا عجيبا فشاعت بينهم زمزمة حرمتها ثم تفحصوا فوجدوا روايات يمكن بنظرهم استفادة وجوب الاحتياط فيها ولم يقولوا بالحرمة
في الشبهات الوجوبية لما رأوا من أن القول بوجوب كل ما احتمل به وجوبه، يوجب اختلاف النظام واشتغال الناس بسبب إتيانها عن
إمرار المعاش وهذا بخلاف موارد الشبهة التحريمية.
وبالجملة، فالقول بالاحتياط في الشبهات التحريمية قول مستحدث في الأعصار المتأخرة ومنشأه حدوث مثل التنباك ونحوه وقد
حكى ان أحدا من علماء قزوين حرر رسالة في حرمة الغليان وأرسلها إلى المجلسي عليه الرحمة فأرسل المجلسي له سفرة مملوة من
التنباك لكونه خير عوض للرسالة بنظره.
وقد عرفت ان الاحتياط لو كان واجبا لما خفي إلى الأعصار المتأخرة، وليست في الرواية أيضا دلالة على مقصودهم مع أنها عمدة
أدلتهم، إذ غاية ما يستفاد منها، ان في زمان إمكان الرجوع إليهم عليهم السلام يجب ان يرجع إليهم أو الاحتياط مع عدم الرجوع.
ورابعا: لو فرض كون كلام الرسول صلى الله عليه وآله مستقلا ولم يكن مذكورا في ذيل كلام الإمام عليه السلام حتى يقال: بان كلام
عليه السلام الامام عام لجميع الشبهات، فلا بد ان يحمل كلام الرسول صلى الله عليه وآله أيضا على معنى ينطبق على كلام الإمام عليه السلام.
ذكر معنيين لكلام الرسول صلى الله عليه وآله:
ان قوله صلى الله عليه وآله يحتمل معنيين:
الأول:
ان يكون المراد بالمحرمات في قوله: (فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ
578

بالشبهات ارتكب المحرمات) المحرمات التي تكون في مورد الشبهات لو فرض كونها محرمات في الواقع، فيكون معنى قوله: ارتكب
المحرمات، انه يمكن ان يرتكب المحرمات الواقعية بان يكون في خلال الشبهات، محرمات فهي وراء الحرام البين المذكور في قبال
الشبهات وعلى هذا الفرض فترتيب الهلاكة عليها بقوله: (وهلك من حيث لا يعلم) يدل على كون المحرمات على فرض تحققها في ضمن
الشبهات فعلية منجزة إذ الظاهر من الهلاكة هي العقوبة والعقوبة على التكليف الفعلي وحيث لا تعقل الفعلية مع عدم وصول التكليف
بنفسه أو بطريقه إلى العبد فبدلالة الاقتضاء يعلم كون الحديث بصدد بيان إيجاب الاحتياط، فيدل الحديث على مقصود الاخباري.
الثاني:
ان يكون المراد من المحرمات في قوله: (ارتكب المحرمات) المحرمات البينة المذكورة في قبال الشبهات فيكون المقصود ان ارتكاب
الشبهات، يوجب جرأة للانسان توقعه تدريجا في ارتكاب المحرمات البينة، واما إذا اجتنبها فتعتاد النفس على الارتياض فلا تقرب
حول المحرمات البينة حيث إن المكروهات والشبهات حريم المحرمات ومن لم يرتع غنمه حول الحمى لم يقع فيه، فيكون مفاد الحديث
على هذا، مفاد قوله: (ومن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له اترك). وبهذا المضمون، روايات كثيرة في الباب 12 من
أبواب صفات القاضي والمراد بقوله: (هلك من حيث لا يعلم) وقوعه غفلة في المحرمات البينة فان ارتكاب الشبهات ليس علة تامة
لوقوعه في المحرمات، بل ربما يترتب عليه الوقوع فيه باعتبار تساهله وعدم اهتمامه وجرأة نفسه مع الغفلة عن أن هذه الأمور أثر
ارتكاب الشبهات والدخول في الحريم. وعلى هذا الفرض فلا تدل الرواية على مقصود الاخباري كما هو واضح.
بل التحقيق: انه على الفرض الأول أيضا لا تدل على مقصوده إذ الظاهر من المحرمات في قوله: (نجا من المحرمات) وفي قوله: (ارتكب
المحرمات) هي المحرمات الفعلية، فالمراد تقسيم الأمور إلى ثلاثة أقسام: محللات فعلية بينة ومحرمات فعلية ومشتبهات فعلية أي
محتملة للحلية الفعلية وللحرمة الفعلية، وظاهر الحديث كون الانقسام إلى الثلاثة مع قطع النظر عن هذا الحديث، فكما ان المحرمات
البينة محرمات فعلية مع قطع النظر عن هذا الحديث وكذلك المحلات، فكذلك المشتبهات، فالمراد بها ما احتملت حرمته الفعلية مع قطع
النظر عن هذا الحديث الذي يتوهم الاخباري دلالته على إيجاب الاحتياط، وحملها على ما لا يكون فعلية في الرتبة السابقة ويكون فعلية
بهذا الحديث خلاف الظاهر.
579

وعلى هذا فيجب حمل المشتبهات في الحديث، على المشتبهات التي لا يتوقف كونها بالفعل مشتبهات أي محتملات للحرمة الفعلية، على
إيجاب الاحتياط بهذا الحديث، فتنحصر في الشبهات قبل الفحص وفي أطراف العلم الاجمالي إذ في غيرهما لا تعقل الفعلية مع قطع
النظر عن إيجاب الاحتياط حتى عند الاخباري لقاعدة القبح السابقة.
وبالجملة، فظاهر الحديث، كون الأمور ثلاثة مع قطع النظر عن هذا الحديث: الحرمة الفعلية والحلية الفعلية والشبهة الفعلية، أي محتملة
للحلية الفعلية وللحرمة الفعلية، وعلى قول الاخباري يكون احتمال الحرمة الفعلية في المشتبهات بنفس هذا الحديث.
هذا مضافا إلى ما عرفت، ان الإمام عليه السلام استشهد بالحديث للخبرين المتعارضين، وهذا المورد أعم من أن يكون مفاد الخبرين
الوجوب أو الحرمة أو غيرهما مع أن الاخباري لا يقول بالاحتياط في الأعم، فيجب حمل الحديث على صورة تنجز الواقع مطلقا ولو كانت
الشبهة وجوبية وينحصر ذلك في الشبهة قبل الفحص وفي أطراف العلم الاجمالي.
وكيف كان، فعمدة الدليل على عدم وجوب الاحتياط هو ما ذكرناه، من أنه لو وجب لما خفي إلى القرن الحادي عشر لعموم البلوى
بمورده وقد عرفت ان القول بوجوبه مستحدث بحدوث الدخانيات.
ثم، ان كون مسألة الدخانيات أيضا من الشبهات الحكمية، قابل للخدشة إذ الدخانيات من الأمور المستحدثة التي لم تكن في عصر النبي
صلى الله عليه وآله فنقطع بعدم تحريم النبي صلى الله عليه وآله إياها بعناوينها، بل لو فرضت حرمتها فإنما هي بانطباق عناوين
محرمة عليها، فالشبهة فيها شبهة موضوعية.
4 - ومما توهم أيضا وروده على قاعدة القبح، العلم الاجمالي بوجود محرمات في ضمن الوقائع المشكوكة فيجب الاحتياط في أطرافه.
وفيه، أولا: النقض بالشبهات الوجوبية إذ لاحد ان يدعى العلم إجمالا بوجود واجبات في ضمنها ولا يقول بالاحتياط فيها الاخباري
أيضا.
وثانيا: انحلال العلم الاجمالي، وتقريبه بوجهين ذكرهما في الكفاية:
الأول: انه كما علم بوجود تكاليف كذلك علم إجمالا بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد.
الثاني: انه ينحل بما علم من ثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار
580

بالاجمال. والوجه الثاني أبعد عن الاشكال ولا يبعد دعواه إذ نعلم قطعا بوجود تكاليف واقعية كثيرة في ضمن الامارات والأصول
المثبتة وليس الانحلال بسببها حكميا بخلاف التقريب الأول.
بيان ضابطة لانحلال العلم الاجمالي:
والأنسب هنا، ذكر ضابطة لانحلال العلم الاجمالي والإشارة إلى صور الانحلال وصور لا يمكن فيها القول به، وقبل ذلك نشير إلى
نكتتين:
1 - انه كلما صار حدوث علم تفصيلي أو إجمالي صغير، موجبا لانحلال الاجمالي الكبير المتحقق قبلا ومانعا عن بقائه، فلا محالة يكون
حدوث هذا العلم التفصيلي أو الاجمالي الصغير قبل تحقق سبب الكبير مانعا عن حدوثه وعن تأثير سببه في إيجاده.
2 - لا يخفى ان إجمالية العلم انما هي بتردد متعلقه بين أمرين أو أمور، فالاجمال ليس في نفس العلم بل في متعلقه ولكن تردد المتعلق و
الشك فيه من مقومات كون العلم إجماليا بحيث لولاه لم يعقل كون العلم إجماليا وهذا واضح. وحينئذ فلو فرض عدم وجود شك وتردد
في الأطراف وراء التردد الذي هو من مقومات إجمالية العلم، فلا محالة يكون حدوث العلم التفصيلي بكون المعلوم في هذا الطرف
ملازما لعلم التفصيلي بعدم وجود سنخه في الطرف الآخر. مثلا لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين فكل منهما مشكوك النجاسة لأنه
معنى إجمالية العلم، وحينئذ فلو فرض عدم شك في النجاسة وراء الشك الذي تتقوم به إجمالية العلم فحدوث العلم التفصيلي بكون
النجس هذا الفرد يوجب العلم التفصيلي بطهارة الاخر لا الشك في طهارته، فقولهم: ان العلم الاجمالي ينحل إلى علم تفصيلي وشك بدوي
غير صادق في هذا الصورة.
نعم لو كان مع العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما شك أيضا في النجاسة وراء الشك الذي تستلزمه إجمالية العلم فحدوث العلم التفصيلي
بنجاسة الاحد المعين وإن كان يوجب زوال العلم الاجمالي والشك الذي يستلزمه العلم ولكنه يبقى مع ذلك الفرد الآخر مشكوكا بالشك
الذي كان مقارنا مع العلم، ففي مثل هذه الصورة يصدق ما ذكروه من انحلال العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي، فليس
المراد بالشك البدوي شكا حادثا بعد الانحلال، بل المراد به، الشك الذي كان مع العلم وراء الشك الذي كان من مقوماته.
581

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: ان العلم التفصيلي الحادث اما ان يتعلق بنفس العنوان الذي تعلق به العلم الاجمالي أو بأعم منه أو بأخص أو
بعنوان اخر يباينه في عالم المفهومية.
فالأول: كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثم علم تفصيلا بنجاسة الاحد المعين أو علم إجمالا بموطوئية أحد الغنمين ثم علم تفصيلا
بموطوئية الاحد المعين.
والثاني: كما إذا علم إجمالا بموطوئية أحدهما ثم علم تفصيلا بحرمة الاحد المعين.
والثالث: كما إذا علم إجمالا بحرمة أحدهما ثم علم تفصيلا بموطوئية المعين.
والرابع: كما إذا علم إجمالا بموطوئية أحدهما ثم علم تفصيلا بمغصوبية الاحد المعين.
وأوضح صور الانحلال، الأول، ثم الثاني والثالث.
واما الرابع: فيشكل فيه القول بالانحلال إذ المغصوبية تستعقب حرمة أخرى وعقابا آخر وراء الحرمة والعقاب المترتبين على حيثية
الموطوئية، فكل منهما يستعقب تكليفا مستقلا وقد علم بكل منهما فيتنجزان ومقتضى تنجزهما وجوب الاجتناب عن كلا الطرفين، ولو
فرض ارتكابه لكليهما ترتب عليه عقوبتان وإن كان العنوانان مجتمعين في أحد الطرفين، فتدبر جيدا بل لاحد ان يشكك في الانحلال
حتى في الصورة الأولى فضلا عن الثانية والثالثة، الا إذا كان العلم التفصيلي في الصورة الأولى ناظرا إلى ما تعلق به العلم الاجمالي بان
يعلم تفصيلا ان هذا الاناء مثلا هو الذي علم نجاسته أولا، ففي غير صورة النظر يمكن منع الانحلال ولا سيما في الصورة الثالثة إذ العلم
إجمالا بحرمة أحد الغنمين صار منجزا للتكليف بحيث تستحق العقوبة على ارتكاب ما هو المحرم منهما واقعا أيا ما كان، والعلم
التفصيلي بموطوئية أحدهما تفصيلا لا يكفي في الانحلال إذ المنهي عنه وما هو المبغوض ليس هو عنوان المحرم بما هو محرم بل
العناوين التي تعلق بها النهي كالموطوئية والمغصوبية ونحوهما، فالعلم إجمالا بحرمة أحدهما أوجب تنجز التكليف بالنسبة إلى ما هو
المتعلق واقعا من المغصوبية والموطوئية ونحوهما، فلو فرض كون الحرمة المعلومة من جهة المغصوبية فالتكليف ثابت بالنسبة إليها و
العلم تفصيلا بموطوئية المعين لا يكفي في رفع التنجيز الثابت بعنوان المغصوبية على فرض تحققها واقعا وصرف احتمال كون الحرمة
المعلومة إجمالا ثابتة بسبب الموطوئية لا يكفي في رفع تأثير العلم الاجمالي. فتدبر.
هذا كله فيما إذا كان في قبال العلم الاجمالي علم تفصيلي، واما إذا كان في قباله أمارة تفصيلية فيجري فيه أيضا جميع الصور الأربع، و
القدر المسلم من الانحلال فيها هو الصورة
582

الأولى، مع كون الامارة ناظرة إلى تعيين ما تعلق به العلم الاجمالي، ويشكل جدا القول بالانحلال إذا قلنا في الامارات بالسببية وحدوث
تكليف نفسي بقيامها كما يظهر وجهه بالتأمل.
الاستدلال بالبراءة بحديث الرفع:
انك قد عرفت، ان البراءة بمعنى عدم كفاية صرف الاحتمال لتنجز الواقعيات مما يستقل به العقل ولا يحتاج فيها إلى الاستدلال بالآيات
والروايات، بل لا مجال لها فيه، ولكنه قد استدل القوم مع ذلك ب آيات وروايات، وعمدتها حديث الرفع وحيث انه تستفاد من الحديث
الشريف أمور مهمة فالواجب تشريح مفاده، فنقول: قد نقل الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله بطرقنا وطرق العامة فما روى
بطرقهم يشتمل على الفقرات الثلاث: (ما أكرهوا عليه) و (ما لا يطيقون) و (ما أخطئوا). وقد جمع ما بطرقهم، الشهيد (قده) في قواعده
في القاعدة النيفة والخمسين فراجع. وما روى بطرقنا يشتمل في بعضها على فقرات ثلث كما في المحاسن، وفي بعضها على أربع
فقرات بزيادة النسيان كما في (الكافي) في أواخر كتاب الايمان والكفر، وفي بعضها على تسع فقرات كما في هذا الباب من (الكافي)
أيضا مرفوعا، وفي (توحيد) الصدوق و (خصاله) مسندا إلى أبي عبد الله عليه السلام بسند معتمد قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يطيقون وما لا يعلمون وما
اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة).
ذكر أمور لبيان مفاد الحديث:
وبيان مفاد الحديث الشريف بنحو الاجمال في ضمن أمور:
الأمر الأول: ما هو المرفوع في الحديث؟
قال الشيخ (قده): (ان المرفوع اما ان يكون خصوص المؤاخذة في الجميع، أو جميع الآثار، أو الأثر الظاهر في كل واحد منها؟) أقول:
الظاهر من قوله: (رفع عن أمتي)، كون المرفوع مما يرتبط بشأن النبوة فيكون من الأمور
583

التشريعية التي امر وضعها ورفعها بيد الشارع بما هو شارع، ونفس المؤاخذة ليست كذلك لكونها من الأمور التكوينية فلا يمكن ان
يراد رفعها الا إذا أريد الاخبار، وهو خلاف ظاهر الحديث، اللهم الا ان يراد برفع المؤاخذة رفعها برفع منشئها أعني به الحكم المجعول
شرعا، وعليه فلا يكون المرفوع أولا وبالذات نفس المؤاخذة بل الحكم الشرعي.
واما ما ذكره، من كون المرفوع في كل واحد من التسعة، (الأثر الظاهر فيه) فيرد عليه، ان كلمة (ما) الموصولة في مثل (ما لا يعلمون) و
نحوه مما اشتمل على هذه الكلمة، إشارة إلى العناوين الأولية التي طرأت عليها عناوين الصلات وقد تقدم منا في محله كون الموصولات
والضمائر أيضا من أسماء الإشارة. وعليه فالمرفوع انما هو آثار العناوين الأولية، غاية الأمر كون طرو عناوين الصلات، أسبابا للرفع
والعناوين الأولية في كل من الأربعة المشتملة على الموصول أمور متشتتة متكثرة مختلفة الآثار جدا يكون لكل منها أثر ظاهر غير ما
للغير، فما لا يعلم مثلا يكون في كل وقت بالنسبة إلى كل شخص عنوان وشي من الأشياء فتارة يكون عبارة عن شرب المائع مثلا و
أخرى عبارة عن الوضوء وثالثة السورة ورابعة وجوب الزكاة مثلا وهكذا ولكل منها أثر ظاهر.
وكذلك ما يستكره عليه وما لا يطاق وما اضطر إليه، يكون في كل وقت عنوان من العناوين الأولية المحكومة بالأحكام الشرعية، ولا
جامع ولا ضابط بين العناوين التي لا تعلم مثلا الا كونها لا تعلم، وهذا العنوان سبب للرفع لا موضوع للأثر المرفوع فان الموضوع له
العنوان الأولى من الوضوء والصلاة والزكاة ونحوها ولا يشترك جميع هذه العناوين التي يطرأ عليها الجهل في أثر ظاهر بالنسبة إلى
الجميع، بل لكل منها أثر ظاهر، ولا يمكن ان يقال إن المقصود في كل واحد من العناوين الأولية المتشتتة التي لا ضابطة لها، رفع الأثر
الظاهر فيه حتى يكون المرفوع أمورا غير محصورة لا جامع بينها. فتأمل.
وكيف كان فالقول بان المرفوع في كل من التسعة، الأثر الظاهر بالنسبة إليه لا يصح بعد ما لم يكن الأثر، أثرا لنفس العنوان الثانوي و
مثل هذا البيان يجري في الخطأ والنسيان أيضا بعد ما لم يكن المراد رفع آثار أنفسهما.
نعم، يصح ما ذكره (قده) في مثل الحسد وأخويه فان المرفوع في هذه الثلاثة أثرا أنفسها كما سيأتي.
584

الأمر الثاني: اختلاف وزان الحسد وأخويه مع الستة الأخرى
لا يخفى ان وزان الثلاثة الأخيرة أعني الحسد وأخويه غير وزان الستة الأخرى فان الستة عناوين ثانوية وليس المراد رفع الآثار
المترتبة على أنفسها، بل هي أسباب لرفع الآثار المترتبة على العناوين الأولية التي طرأت هي عليها، غاية الأمر انه قد أشير في أربعة
منها إلى العنوان الأولى بكلمة (ما) واما الثلاثة الأخيرة فهي بأنفسها عناوين أولية ويكون المرفوع آثار أنفسها، ففي الستة يكون
المنظور التخصيص أو التقييد ولو ظاهرا بالنسبة إلى الأحكام الثابتة للعناوين الأولية بسبب طرو هذه الطواري الستة، وفي الثلاثة
يكون المنظور رفع أصل الحكم عنها بعد ثبوت اقتضائه فيها فان الحسد وكذا الطيرة والوسوسة كان كل منها مقتضيا لتشريع
التحريم بالنسبة إليه فرفع ذلك منة من دون ان يكون هنا عنوان ثانوي يوجب طروه، الرفع.
الأمر الثالث: اختلاف وزان (ما لا يطيقون) و (ما أكرهوا) و (ما اضطروا) مع سائر الفقرات
الظاهر، مخالفة وزان (ما لا يطيقون) للخمسة الأخرى أيضا لاختصاصه بباب الواجبات واختصاص (ما أكرهوا) و (ما اضطروا) بباب
المحرمات بخلاف الثلاثة الأخرى: من الخطأ والنسيان وما لا يعلمون، لجريانها في كل البابين.
والسر في ذلك ان متعلق الطاقة والقدرة هي ماهية الفعل باعتبار إيجاده وما لا يطاق ليس هو الفعل بعد وجوده بل هو عبارة عما لا
يقدر على إيجاده، فيكون المراد من رفع (ما لا يطيقون) رفع الوجوب أو المؤاخذة على ترك ما وجب بسبب عدم القدرة والطاقة على
إيجاده.
وبعبارة أوضح، يختص قوله: (ما لا يطيقون) برفع الوجوب عما لا يقدر المكلف على إيجاده فان التحقيق عندنا كما نقحناه في محله، ان
كلا من الأمر والنهي يتعلق بإيجاد الفعل، والفرق بينهما ان الامر يدل على البعث والنهي على الزجر، فالمتعلق في كليهما وجود الفعل، و
هو يقع في الامر مصداقا للامتثال وفي النهي مصداقا للعصيان، ولا يخفى ان الاضطرار والاستكراه يتعلقان بالفعل ويوجبان تحققه و
عدم الطاقة يتعلق بماهيته ويوجب تركه وعدم تحققه. فالمراد برفع الاضطرار والاستكراه رفع الأثر عما تحقق بسببهما ولا محالة
يكون هو الحرمة والمبغوضية، والمراد برفع ما لا يطيقون رفع الأثر عن الفعل المتروك بسببه، ولا محالة يكون هو الوجوب و
المحبوبية، ف (ما أكرهوا وما اضطروا) يختصان بباب المحرمات الصادرة بسببهما، و
585

(ما لا يطيقون) يختص بالواجبات المتروكة بسبب عدم الطاقة، والأولان يرفعان حرمة الفعل الموجود والثالث يرفع وجوب الفعل
المتروك، فافهم وتدبر.
ثم لا يخفى، انهم مثلوا في باب المعاملات للمعاملة المكره عليها بما إذا أكره على بيع داره مثلا وللمعاملة المضطر إليها بما إذا اضطر إلى
ثمن داره فتولد منه الاضطرار إلى بيعها وقالوا: ان حديث الرفع لا يقتضى بطلان الثاني لكون البطلان فيه مخالفا للامتنان.
أقول: كان الأنسب ان يمثل للاضطرار أيضا بصورة تعلق الاضطرار أولا وبالذات بنفس العمل أعني البيع بان كان نفس البيع وإنشاء
المبادلة بما هو فعل صادر عنه، مضطرا إليه وإن كان فرضه نادرا، واما ما ذكروه من المثال فليس الاضطرار متعلقا بالمعاملة وانما
يضطر إلى مال نقد، فتتولد من إرادته إرادة إيجاد سببه المنحصر في حقه ببيع الدار، وتفصيل فروع الاكراه والاضطرار موكول إلى
المباحث الفقهية.
الأمر الرابع: شمول رفع الخطأ والنسيان للواجب والمحرم
قد أشرنا إلى أن الخطأ والنسيان يجريان في الواجبات والمحرمات، فتارة يخطئ أو ينسى فيترك واجبا، وأخرى يخطئ أو ينسى
فيأتي بمحرم. نعم بين النسيان في باب الواجبات وبينه في المحرمات فرق من جهة، وهو ان نسيان الفعل يمكن ان يصير سببا لتركه و
لا يمكن ان يصير سببا لايجاده، وانما يكون السبب في الايجاد نسيان نهى المولى، أو نسيان العنوان المنهي عنه، أو نسيان انطباقه على
الفعل.
بيان ذلك: ان تحقق الفعل خارجا مسبوق بتصوره والتصديق بفائدته والعزم والجزم والشوق والإرادة، على ما تقرر في محله.
فالالتفات إلى الفعل وتصوره من مبادئ وجوده فلو فرض النسيان والذهول عنه ترتب على ذلك تركه وعدم تحققه خارجا، فمبدئية
نسيان الفعل لتركه امر معقول، واما إذا وجد الفعل في الخارج فلا يعقل كون النسيان عن ذاته والذهول عنه موجبا لتحققه بل المبادي
الوجودية حتى الالتفات إليه قد تحققت وبسببها تحقق الفعل، فلو قلنا إنه صدر نسيانا فلا نريد بذلك ان نسيان الفعل والغفلة عنه صار
علة لصدوره وانما يراد بذلك غفلة الشخص عن امر لو كان ملتفتا إليه لصار رادعا له عن إيجاد الفعل بان نسي وغفل عن نهى المولى
وزجره، أو عن العنوان الذي تعلق النهي به أو عن انطباقه على الفعل الذي أتى به.
فان قلت: كما أن نسيان الفعل في الواجبات يوجب تركه كذلك نسيان تركه في المحرمات
586

يوجب فعله.
قلت: قد عرفت ان كلا من الأمر والنهي يتعلق بالفعل ولا أثر للترك أصلا وتفسير النهي بطلب الترك مسامحة، إذ حقيقته، الزجر عن
الفعل، فالاعتبار في كلا البابين بنفس الفعل ونسيان نفس الفعل يمكن ان يصير مبدأ التركة ولا يمكن ان يصير مبدأ لايجاده، فمعنى
ترك الواجب عن نسيان، صيرورة نفسه منسيا واما صدور الحرام وإيجاده عن نسيان فلا يراد به صيرورة نفس الفعل منسيا بل يراد
به نسيان امر اخر كما عرفت.
ثم إن الظاهر من قوله: (رفع النسيان)، هو كون النسيان في عالم التشريع كالعدم وان المنة على العباد أوجبت فرض نسيانهم ك (لا
نسيان)، وعلى هذا فيشمل كلا البابين ومقتضى ذلك كون نسيان الفعل سببا لرفع الفعل باعتبار حكمه وهو الوجوب ونسيان الترك
أيضا سببا لرفع الفعل باعتبار حكمه وهو الحرمة، فالفعل الموجد بسبب نسيان نهى المولى مثلا مرفوع في عالم التشريع ويكون
وجوده شرعا منزلا منزلة العدم فلا حرمة له ولا مانعية ولا قاطعية، والفعل المنسي أي المتروك بسبب النسيان مرفوع بحكمه من
الوجوب وما ينتزع منه من الجزئية ونحوها.
اما دلالة الحديث
على فرض الموجود، بسبب النسيان معدوما في عالم التشريع، فواضحة سواء كان النهي المتعلق به نفسيا أو غيريا.
واما دلالته على رفع أثر الفعل المنسي، فالظاهر عدم الاشكال فيها أيضا لما عرفت من أن سوق الحديث الوارد في مقام الامتنان على
الأمة هو فرض نسيانهم ك (لا نسيان) مطلقا، غاية الأمر بالنسبة إلى خصوص الأحكام الشرعية وما يترتب عليها من المؤاخذة، فيكون
المرفوع أولا وبالذات مثل الحرمة والوجوب وما ينتزع منهما ولازم رفعها عدم استحقاق العقوبة قهرا.
المنسي اما واجب نفسي أو ضمني؟:
ثم إن الفعل المنسي اما ان يكون واجبا نفسيا واما ان يكون واجبا ضمنيا كالجز والشرط
فهنا مقامان:
المقام الأول:
فيما إذا نسي الاتيان بالواجب النفسي كما إذا ترك الصلاة في تمام الوقت نسيانا أو ترك الصوم الواجب كذلك فمقتضى الحديث رفع
الوجوب ويترتب عليه عدم استحقاق المؤاخذة ويرتفع في مثل الصوم حكم الكفارة مثلا، واما القضاء في باب الصلاة فالظاهر عدم
رفع وجوبه لا لما ذكره الشيخ من أن موضوع القضاء وهو الفوت امر وجودي فرفع الترك لا يثبت
587

رفعه، بل لان موضوع القضاء ولو فرض كونه نفس الترك، متحقق بالوجدان والرفع لا يتعلق بالترك حتى يجعله معدوما في عالم
التشريع وانما يتعلق بالمنسي وهو الفعل ومقتضى ذلك ليس الا رفع حكم الفعل وهو الوجوب في الوقت ونحن نلتزم بارتفاعه و
ارتفاع المؤاخذة على مخالفته ولكن لا يضر ذلك بتوجه امر القضاء المترتب على الفوت أو على ترك الفعل المتحقق بالوجدان.
هذا مضافا إلى أن أدلة القضاء قد تعرضت لخصوص صورة النسيان فراجع.
المقام الثاني:
فيما إذا نسي الاتيان بجز الواجب أو شرطه كنسيان السورة من الصلاة مثلا.
والوجوه المحتملة هنا ثلاثة:
الأول
ان يقال إن الامر الوحداني تعلق بطبيعة الصلاة مثلا، وترك الجز عين ترك الكل فنسيان السورة في الصلاة من مصاديق ترك الصلاة
عن نسيان، ومقتضى حديث الرفع رفع وجوبها في الوقت ورفع المؤاخذة على تركها فيه، ولكن القضاء يجب على نحو ما مر في المقام
الأول، هذا في النسيان المستوعب للوقت، واما غير المستوعب فيجب عليه إتيان الصلاة إذ الامر لم يتعلق بهذا الفرد المأتي بلا سورة بل
تعلق بطبيعة الصلاة المقيدة بوقوعها بين الحدين، فيجب إيجاد هذه الطبيعة المقيدة لأنه يقدر على إيجادها والفرد الذي أتى به لا
يجتزئ به لعدم صيرورته فردا للطبيعة.
الوجه الثاني:
ان يقال: كما قال به شيخنا الأستاذ صاحب الكفاية (قده): (ان الامر المتعلق بالصلاة مثلا وإن كان امرا واحدا ولكنه يتبعض بتبعض
متعلقه إذ المتعلق كثير حقيقة وان توحد بنحو من الاعتبار، فهنا وجوب واحد متبعض وقد تعلق بكل من الاجزاء وجوب ضمني تنتزع
منه الجزئية، فالسورة بنفسها متعلق لوجوب ضمني، فنسيانها يوجب ارتفاعها تشريعا بمعنى ارتفاع حكمها، ولا يوجب ارتفاع الوجوب
عنها ارتفاع وجوبات البقية حتى نحتاج في إثبات وجوبها إلى امر اخر يتعلق بالصلاة بلا سورة إذ الوجوب المستفاد من الامر بالكل
قد انبسط على الاجزاء بالأسر، وحديث الرفع لم يقتض الا ارتفاع حكم خصوص المنسي، فلا محالة يصير مقتضى الجمع بين الدليلين
انطباق عنوان الصلاة على البقية حال النسيان.
والقول بان تبعض الوجوب امر غير متصور مما لا ينبغي ان يصغى إليه إذ الفرض ان المتعلق له وإن كان واحدا في الاعتبار ولكنه
يكون كثيرا بحسب الحقيقة، والامر بوحدته بعث وتحريك نحو هذه المتكثرات، فهو منبسط عليها ويصير كل منها مبعوثا إليها ضمنا،
وهذا معنى
588

تبعض الوجوب، وان شئت تصور ذلك فقسه بالعوارض العارضة على واحد حقيقي يتكثر في الاعتبار فماء الحوض مع وحدته - لكونه
متصلا واحدا والاتصال يساوق التشخص - يكون متبعضا ذا أجزأ بحسب الاعتبار، وبحسب ذلك يتبعض العرض العارض له كاللون، و
بالجملة فوزان الواحد الاعتباري المتكثر حقيقة وزان الواحد الحقيقي المتكثر اعتبار أو وزان العرض العارض لذاك وزان العرض
العارض لذلك وكما يتبعض هذا يتبعض ذاك).
كلام المحقق النائيني (قده) ونقده:
واستشكل عليه بعض أعاظم العصر (النائيني) في المقام بما حاصله: ان الكلام ليس في نسيان الجزئية حتى يقال: بارتفاعها برفع منشأ
انتزاعها أعني الوجوب الضمني، وانما الكلام في نسيان ذات الجز أعني السورة، والامر الضمني لم يتعلق بخصوص السورة المنسية
حتى يرتفع بنسيانها وانما تعلق بطبيعة السورة، والأثر المترتب على السورة الخاصة هو الاجزاء وصحة العبادة بسببها، وليس ذلك
أثرا شرعيا، مضافا إلى أن رفعه يوجب بطلان العبادة وهو خلاف المقصود، هذا في النسيان المستوعب للوقت واما في غيره فالامر
أوضح لتمكن المكلف من الاتيان بالمأمور به بتمام اجزائه وشرائطه والامر لم يتعلق بخصوص المأتي به بل بالطبيعة. انتهى.
أقول: قد عرفت ان الامر المتعلق بطبيعة الصلاة ينبسط بوحدته على الاجزاء بالأسر، فكل منها متعلق لامر ضمني انبساطي فالسورة
متعلقة لامر ضمني ومنه تنتزع الجزئية، والرفع لا يتوجه أولا إلى نفس الجزئية حتى يقال: بعدم كونها منسية وانما يتوجه إلى الجز
المنسي باعتبار اثره الشرعي، فالسورة المنسية مرفوعة ومعنى رفعها رفع وجوبها الضمني المستلزم لرفع جزئيتها ولازم ذلك
انطباق عنوان الصلاة على بقية الأجزاء، فلا يبقى وجه للإعادة والقضاء بعد حصول الامتثال ومراد شيخنا الأستاذ (قده)
[1]
من رفع أثر
السورة رفع وجوبها الضمني المستتبع لرفع جزئيتها لا رفع الاجزاء وصحة العبادة حتى يستشكل عليه بما ذكره هذا المعاصر.
[1]
الظاهر أن مراد المحقق الخراساني هو التمسك في الجز المنسي بقوله (رفع ما لا يعلمون) لا بقوله (رفع النسيان) إذ بعد العلم
بجزئية السورة إجمالا نشك في جزئيتها في حال النسيان فالشبهة شبهة حكمية والمجهول جزئية السورة في حالة خاصة فيشملها قوله
(رفع ما لا يعلمون)، فلا يرد إشكال النائيني (قده) عليه ولا يحتاج إلى توجيه الأستاذ مد ظله وليس في كلام الخراساني (قده) التمسك
بقوله (رفع النسيان) في باب الجز المنسي، فتدبر ح - ع - م.
589

الوجه الثالث:
ان يفصل بين النسيان المستوعب للوقت وغيره فيقال بالصحة في الأول دون الثاني، اما الصحة في الأول فلما ذكر في الوجه الثاني و
اما عدم الصحة في الثاني فلان الامر لم يتعلق بخصوص المأتي به بل بالطبيعة الكلية المحدودة بوقوعها بين الحدين وهي بعد، متمكن
منها لبقاء الوقت فلا يسقط الامر الا بإتيان ما ينطبق عليه عنوان المأمور به، فافهم. التي هنا قد تم ما أفاده سماحة السيد الأستاذ الأكبر
المرحوم آية الله العظمى البروجردي - أعلى الله مقامه الشريف - وحرره المقرر المعظم آية الله العظمى المنتظري - مد ظله - من
المباحث العقلية في علم الأصول، قبل قريب من ستة وأربعين سنة.
والحمد لله رب العالمين رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم.
590