الكتاب: المحكم في أصول الفقه
المؤلف: السيد محمد سعيد الحكيم
الجزء: ٢
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٤ - ١٩٩٤ م
المطبعة: جاويد
الناشر: مؤسسة المنار
ردمك:
ملاحظات:

المحكم
في
أصول الفقه
1

المحكم
في
أصول الفقه
تأليف
السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم
الجزء الثاني
مؤسسة المنار
3

الطبعة الأولى
1414 / 1994
حقوق الطبع محفوظة
اسم الكتاب: المحكم في أصول الفقه / ج 2
اسم المؤلف: السيد محمد سعيد الحكيم
الفلم والألواح الحساسة: حميد / قم
المطبعة: جاويد
الكمية: 1000 نسخة
السعر: 4500 ريال
الطبعة: الأولى
4

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين
الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم
أجمعين، إلى يوم الدين.
5

المقصد الرابع
في العام والخاص
7

المقصد الرابع
في العام والخاص
جرى الأصحاب المتأخرون على فصل مباحث العام والخاص عن
مباحث المطلق والمقيد.
وكأن مبنى الفرق بينهما عندهم على أن العام ما يفيد الشمول والسريان
في الافراد وضعا، والمطلق ما يستفاد فيه ذلك من مقدمات الحكمة.
كما قد يظهر من بعض كلمات متقدميهم اطلاق العام على ما يكون
حكمه شموليا، والمطلق على ما يكون حكمه بدليا.
لكن الظاهر تداخل جملة من مباحثهما على كلا وجهي الفرق، كمباحث
الجمع بين العام والخاص، والعمل بالعام قبل الفحص عن المخصص، وتعقب
الاستثناء لجمل متعددة وغيرها، حيث يكون البحث فيها عن العام من حيثية
ظهوره في تساوى الافراد أو الأحوال من حيثية الحكم، الذي لا يفرق فيه بين
القسمين.
ولذا كان المناسب تعميم هذا المقصد لكلا القسمين، بجعل موضوعه
العموم والخصوص من الحيثية المذكورة، وعقد فصل فيه لبيان منشأ ظهور
المطلق في الاطلاق، فإنه أولى مما جروا عليه من البحث في مقصدين مع
تداخل جملة من مباحثهما، ولا سيما مع أن استناد دلالة المطلق على السريان
9

لمقدمات الحكمة دون الوضع ليس اتفاقيا، وكذا دلالة بعض ما عد من ألفاظ
العموم على ذلك بالوضع، كالنكرة في سياق النفي والنهى، على ما يظهر عند
الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
بل لا اشكال في عموم المباحث المذكورة لما إذا استندت الدلالة على
العموم لقرائن خارجية خاصة، دون الوضع ومقدمات الحكمة، من دون أن
يجعل له عنوان يخصه، بل يطلق عليه عنوان العام عندهم في مقام البحث
والاستدلال.
ومن هنا كان المناسب تعريف العام في محل الكلام بأنه: (ما دل على
سريان الحكم في أفراد متعلقه أو أحواله، بحيث تتساوى فيه) مهما كان منشأ
الدلالة.
وكثيرا ما جروا على ذلك في مقام الاستدلال والنظر في النسبة بين الأدلة
وبيان حالها، حيث يغفلون منشأ الدلالة على العموم عند اطلاق عنوان العام على
الدليل.
نعم، يخرج عن ذلك ما إذا كان الاستيعاب مأخوذا في مفهوم المتعلق،
كالعشرة والشهر في قولنا: أضف عشرة رجال شهرا، لوضوح أن نسبة الاجزاء له
حينئذ ليست نسبة الفرد أو الحال للمتعلق، بل نسبة الجزء للكل الذي به قوامه.
ومجرد امكان قصره عن بعضها بالاستثناء - كالعام بالإضافة للافراد - لا يوجب
عموم مفهوم العام له اصطلاحا بعد عدم شمول المهم من مباحث العموم
والخصوص له.
أما الخاص فلا يراد به الا (ما دل على حكم موافق أو مناف لحكم عام
أوسع منه شمولا) سواء كان الموضوع فيه جزئيا أم كليا، كقولنا: لا تكرم زيدا،
أو: لا تكرم النحويين، بالإضافة لقولنا: أكرم العالم، أو: كل عالم، أو: أكرم عالما، فهو عنوان إضافي، حيث لا يصدق على الدليل عنوان الخاص في محل الكلام
10

مع قطع النظر عن عام أوسع منه شمولا، وبلحاظه يصدق عليه وان كان هو عاما
في نفسه. وذلك هو المراد بالمقيد، وان افترقا عندهم بأن الخاص في مقابل
العام، والمقيد في مقابل المقيد.
وحيث عرفت عموم العام للمطلق في محل الكلام يتعين عموم الخاص
للمقيد. وعلى ذلك جرى كثير من اطلاقاتهم في مقام الاستدلال وملاحظة
النسبة بين الأدلة، نظير ما ذكرناه في العام.
هذا، وينبغي الكلام في مباحث العام والخاص في ضمن فصول..
11

الفصل الأول
في أقسام العموم
لا يخفى أن تعلق الحكم بالطبيعة بنحو يشمل جميع أفرادها، اما أن
يكون بنحو الانحلال، بأن يرجع إلى أحكام متعددة بعدد أفرادها، لكل منها أثره
من إطاعة ومعصية وغيرهما. واما أن لا يكون كذلك، بل يكون حكما واحدا
متعلقا بالطبيعة ذات الافراد.
وهو تارة: يقتضى الجمع بين الافراد فعلا أو تركا.
وأخرى: يقتضى فردا واحدا منها بدلا بنحو يستلزم التخيير بينها عقلا.
والأول هو العموم الاستغراقي، والثاني المجموعي، والثالث البدلي.
وحيث كان صدق العموم على الجميع وانقسامه لها مبنيا على تعريفه
بنحو يشملها كان مبنيا على محض الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه.
فلا وقع مع ذلك لما ذكره بعض الأعاظم من أن في عد العموم البدلي من
أقسام العموم مسامحة، لمنافاة البدلية للعموم بلحاظ أن متعلق الحكم في
العموم البدلي ليس الا فردا واحدا، وان كانت البدلية عامة. فتأمل.
هذا، وان علم أحد الأقسام بعينه فلا اشكال، والا لزم النظر فيما هو
مقتضى الظهور النوعي.
والظاهر عدم الاشتباه أو ندرته بين العموم البدلي وقسيميه، بل الوضع
والقرائن العامة والخاصة وافية بتمييز موارده عن مواردهما. ولو فرض الاشتباه
بينهما فلا يظهر لنا فعلا طريق لتعيين أحدهما.
13

وانما الكلام في الاشتباه والتردد بين العموم الاستغراقي والمجموعي.
وقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن الأصل في العموم أن يكون استغراقيا،
لاحتياج العموم المجموعي إلى مؤنة زائدة، وهي مؤنة اعتبار الأمور الكثيرة أمرا
واحدا، ليحكم عليها بحكم واحد، وهو خلاف الأصل.
ويشكل بعدم وضوح لزوم ملاحظة الأمور المتكثرة أمرا واحدا في
العموم المجموعي، بل يكفي لحاظها في أنفسها وجعل حكم واحد لها، بنحو
يكون واردا عليها بتمامها، لا بنحو يكون واردا على أمر واحد منتزع منها، ليرجع
إلى لحاظ الوحدة بينها ويكون خلاف الأصل، في قبال ما إذا جعل لكل منها
حكم مستقل به، الذي يكون العموم معه استغراقيا انحلاليا.
وذلك جار في تعاطف المفردات، كما لو قيل: أكرم زيدا وعمرا وبكرا،
حيث لا ملزم بلحاظ الوحدة بينها لو كان ورود الحكم عليها بنحو المجموعية
والارتباطية.
بل الظاهر أن العموم الاستغراقي هو المبنى على نحو من العناية، وهي
ملاحظة الحكم الذي تضمنته القضية منحلا إلى أحكام متعددة بعدد الافراد، فان
ذلك أن لم يكن خلاف الظهور الأولى فلا أقل من كونه خلاف الأصل.
هذا، وقد يقرب أصالة الانحلال في العموم بأن العموم المجموعي
مستلزم لتقييد حكم كل فرد بإطاعة أحكام بقية الافراد، وهو خلاف الاطلاق.
لكنه يندفع: بأن اطلاق حكم الفرد بالنحو المقتضى لعدم دخل إطاعة
أحكام بقية الافراد فيه فرع كونه استقلاليا وكون العموم انحلاليا، أما إذا كان
ضمنيا لكون العموم مجموعيا فلا اطلاق فيه، ليمنع من البناء على التقييد
المذكور، فلا مجال للاستدلال بالاطلاق على الانحلالية. وكذا الحال في تعاطف
المفردات.
نعم، يتجه الاطلاق في حكم الفرد مع تعدد الجمل، كما في قولنا أكرم
14

زيدا، وأكرم عمرا، وأكرم بكرا.
فالعمدة في وجه البناء على الانحلال دون المجموعية هو انصراف
العرف إليه من الاطلاق تبعا للمرتكزات الاستعمالية، حيث تبتنى المجموعية
على الارتباطية التي تحتاج عندهم إلى مؤنة بيان.
وقد سبق في آخر الفصل الخامس من المقصد الثاني عند الكلام في
حكم النهى لو خولف ما ينفع في المقام. فراجع.
15

الفصل الثاني
في ما يدل على العموم
اختلفت كلمات أهل الفن من قدماء ومتأخرين في تحديد ما وضعت له
أسماء الأجناس ونحوها مما يدل على المفاهيم الكلية الذاتية والعرضية، وأنه
هل هو المطلق الساري في تمام الافراد بنحو يكون الاستعمال مع التقييد مجازا،
أو ما يعمه والمقيد.
وقد أطال المتأخرون تبعا لذلك في أقسام الماهية واعتباراتها، واختلفوا
في تعداد الأقسام وتحديدها ونسبة بعضها إلى بعض.
والظاهر أن الكلام في ذلك راجع إلى تحديد المصطلحات وتشخيصها،
هو أمر لا يترتب عليه كثير فائدة، بل لا أثر له فيما هو محل الكلام في المقام،
ليحسن إطالة الكلام فيه ومحاكمة آرائهم، ولا سيما مع كثرة كلامهم وشدة
الخلاف بينهم، كما يظهر بالنظر في كلماتهم في المقام.
ولعل الأولى أن يقال: لحاظ الماهية في مقام الحكم عليها..
تارة: يرجع إلى لحاظها بنفسها بما لها من حدود مفهومية مقومة لها من
دون أن يسرى إلى ما في الخارج من أفرادها، فيكون الحكم مقصورا عليها بما
هي كلي ذهني لا يسرى إلى ما في الخارج كما في قولنا: الانسان نوع، وكما في
موارد الحمل الأولى الذاتي الذي يقصد به شرح المفهوم وتحديده، ولعل ذلك
هو المراد بالماهية الذهنية.
وأخرى: يرجع إلى لحاظها عبرة إلى ما في الخارج من أفرادها، بحيث
17

يكون الحكم منصبا على الافراد الخارجية وجاريا عليها حقيقة. ولعل ذلك هو
المراد بالماهية الخارجية في كلماتهم.
وهي تارة: تلحظ بنفسها مع قطع النظر عما هو خارج عنها، فيعبر عنها
بالماهية لا بشرط، كما في قولنا: أكرم العالم.
وأخرى: تلحظ مع ما هو خارج عنها مقيدة بوجوده، كما في قولنا: أكرم
العالم العادل، ويعبر عنها بالماهية بشرط شئ، أو بعدمه، كما في قولنا: أكرم
العالم غير الفاسق، ويعبر عنها بالماهية بشرط لا.
وبهذا يظهر أن انقسام الماهية إلى الأقسام المذكورة من الذهنية
والخارجية المطلقة والمقيدة ليس كسائر الانقسامات راجعا إلى تباين الأقسام
بخصوصياتها مع رجوع اشتراكها في المقسم إلى تماثل ما به الاشتراك بينها، بل
هو راجع إلى تبادل حالات الامر الواحد، وهو الماهية بحدودها المفهومية
المحكية باللفظ التي يختلف لحاظها باختلاف الوجوه المتقدمة، فهو نظير
انقسام زيد إلى القائم والقاعد، لا كانقسام الانسان إلى الرجل والمرأة.
وان كان قد يظهر من بعض كلماتهم أن التقسيم المذكور ونحوه حقيقي،
وأن الأقسام متباينة في أنفسها.
والامر سهل، إذا المهم معرفة الأقسام لا حال التقسيم.
هذا، ولا اشكال ظاهرا في أن استعمال الألفاظ الموضوعة للماهية في
القسم الأول - وهو الماهية الذهنية - حقيقة، لقضاء الوجدان بعدم ابتنائه على
العناية التي لابد منها في المجاز، وكذا القسم الثاني، وهو الماهية الخارجية
الملحوظة بنحو اللابشرط، لاشتراكه مع الأول في الحكاية عن الماهية بحدودها
المفهومية، وسوقها عبرة للافراد مقارن للاستعمال خارج عن المستعمل فيه.
وانما الاشكال في القسم الثالث، وهو الماهية الخارجية المقيدة بشرط
شئ أو بشرط لا، فقد حكى عن القدماء أن استعمالها فيه مجازي.
18

وعن السلطان ومن تأخر عنه أنه حقيقي، وهو الأظهر، لقضاء التأمل
بوضع اللفظ للمعنى الواحد المحفوظ في حالتي الاطلاق والتقييد، وهو الماهية
بحدودها المفهومية. ومجرد ملاحظته مقيدا أو الحكاية عن التقييد بدال آخر لا
يوجب خروج اللفظ الحاكي عن الماهية عما هو الموضوع له، نظير الاخبار
والتوصيف اللذين لا يوجبان خروج اللفظ الدل على الموضوع عن معناه
الحقيقي.
وتوهم: أخذ السريان والاطلاق فيها قيدا في الموضوع له، فيكون التقييد
مستلزما للتصرف في الموضوع له ويلزم المجاز.
مدفوع: بقضاء التأمل بأن السريان أمر زائد على المفهوم عرفا، حيث قد
يؤخذ بدال آخر، كأدوات العموم، فلو كان مأخوذا في مدلول اللفظ كانت
الأدوات المذكورة متمحضة في التأكيد، وهو بعيد عن المرتكزات الاستعمالية
جدا.
ودعوى: أن السريان وان لم يؤخذ في الموضوع له الا أن التقييد مستلزم
لاخذ أمر زائد على الموضوع له في مدلول اللفظ، وهو الخصوصية المتقومة
بالقيد الزائدة على الماهية، فيلزم المجاز.
مدفوعة: بأن خصوصية القيد ليست مأخوذة فيما يستعمل فيه اللفظ
الموضوع للماهية المقيدة، ليلزم أخذ أمر خارج عن الموضوع له في المستعمل
فيه، بل ليس المستعمل فيه الا الماهية بحدودها المفهومية، والخصوصية
مستفادة من دال آخر، وهو التقييد، الذي هو مطرد ولا يبتنى الاستعمال في
مورده على العناية، والذي هو نحو نسبة بين ذات المقيد - وهو الماهية
بحدودها المفهومية الموضوع لها اللفظ - والقيد تقتضي قصر الحكم على
خصوص ما قارن القيد من الذات.
ولو كان الاستعمال معه مبنيا على الخروج باللفظ عن مدلوله إلى المقيد
19

بما هو مقيد لم يبق لأدوات التقييد والقيد مدلول قائم بحيالها ومؤدى بها، بل
كانت ألفاظا مهملة لا غرض من الاتيان بها الا الإشارة والتنبيه إلى تبدل معنى
اللفظ، من دون أن تفيد معنى زائدا عليه، وهو غير معهود في الاستعمالات
العرفية.
ولا مجال لتنظيرها بقرينة المجاز والمشترك ونحوهما، لان تلك القرائن
ذات مدلول خاص مباين للمعنى المراد من اللفظ، وقرينتها انما هي بلحاظ
ملائمتها له، لا لتمحضها للإشارة لاستعمال اللفظ فيه.
ويتضح ما ذكرنا فيما لو أريد بيان شجاعة زيد تارة: بقولنا زيد رجل.
وأخرى: بقولنا: زيد رجل شجاع، حيث لا اشكال ظاهرا في وضوح الفرق في
معنى الرجل بين الوجهين، وابتناء الأول على الخروج به عن معناه، واستعماله
في خصوصية الشجاع زائدا عليه، نظير: يا أشباه الرجال ولا رجال، وعدم
الخروج به في الثاني عن معناه، وانما أفيدت الشجاعة بالتقييد زائدا عليه.
وبالجملة: ليس المستعمل فيه عند إرادة الماهية الذهنية والخارجية
المطلقة والمقيدة الا الماهية بحدودها المفهومية التي وضع لها اللفظ، وليس
مفاد التقييد الا نسبة زائدة على الماهية لا توجب تبدل معنى اللفظ، ليلزم
المجاز، غايته أن مفاد النسبة المذكورة قصر الحكم على خصوص واجد القيد
من أفراد الماهية، وهو لا يستلزم المجاز، كما هو الحال في سائر النسب، حيث
لا تستلزم تبدل المستعمل فيه في أطرافها والخروج بها عن معناها، بل إضافة
معنى زائد عليها خارج عن المستعمل فيه.
ثم إن هذا انما يقتضى عدم المجازية مع التقييد المتصل، ولا ينهض بدفع
المجاز مع ثبوت التقييد المنفصل الكاشف عن ثبوت الحكم للمقيد مع فرض
نسبة الحكم للماهية لا بشرط من دون أخذ نسبة التقييد زائدا عليها، ليجري ما
تقدم في وجه عدم المجاز.
20

وقد حاول غير واحد توجيه عدم المجاز في الاستعمال المذكور،
بدعوى: أن الموضوع له هو القدر المشترك بين الماهية الذهنية والخارجية
المطلقة والمقيدة، الذي قد يعبر عنه باللا بشرط المقسمي.
لكن لا يخفى أن القدر المشترك المذكور مما لا يمكن لحاظه في نفسه،
لانحصار الماهية الملحوظة بأحد الوجوه المتقدمة.
ومن ثم قيل: انه ليس اعتبارا للماهية في قبال الاعتبارات الاخر، بل هو
موجود في ضمنها، فهو جامع انتزاعي بينها، لا جامع حقيقي مفهومي يمكن
لحاظه بنفسه بنحو يشملها، فليس مرجع الوضع له إلى تصور الماهية بنحوه
حين الوضع وتعيين اللفظ بأزائه، بل إلى الوضع لأقسامه الثلاثة بنحو الترديد،
نظير الاشتراك وتعدد الوضع، وهو مما يقطع بعدمه، لما فيه من التكلف.
بل التحقيق ما سبق من كون الموضوع له هو الماهية بما لها من حدود
مفهومية قابلة للتحديد والتصور، التي عرفت أنها تقبل اللحاظ على أحد الوجوه
المذكورة.
وحينئذ يرجع الاشكال مع التقييد المنفصل، لفرض عدم تقييد الماهية
عند الحكم عليها، فان ابتنى ذلك على إرادة المقيد من اللفظ الموضوع للماهية
لزم المجاز، للخروج به عما وضع له، وهو الماهية بنفسها الشاملة له ولغيره.
فالظاهر أن الامر يبتنى على أمر آخر، وهو أنه هل يعتبر في الحكم على
الماهية الخارجية بحدودها المفهومية وبنحو اللابشرط ثبوت الحكم لتمام
أفرادها، بحيث لو كان مختصا ببعض أفرادها لم يصح نسبته إليها الا مع التقييد
المتصل بما يطابق تلك الافراد الذي سبق عدم لزوم المجازية أو استعمال
اللفظ في المقيد خروجا به عما وضع له المستلزم للمجاز أو لا؟ بل يكفي في
نسبة الحكم لها بما لها من المعنى ثبوته لبعض أفرادها من دون حاجة للتقييد.
إذا عرفت هذا، فالظاهر هو الثاني، ومرجعه إلى صحة الاستعمال بنحو
21

القضية المهملة الراجعة إلى ثبوت الحكم للماهية في الجملة بالنحو المردد بين
تمام الافراد وبعضها، من دون أن يبتنى الاستعمال مع ثبوت الحكم للبعض على
قصده بنحو التقييد المبتنى على أخذ الخصوصية المعينة له، ولا بنتيجته المبتنية
على ملاحظته بذاته، بل على ملاحظة الماهية بذاتها ونسبة الحكم إليها في
الجملة.
ويشهد بما ذكرنا عدم العناية في الاستعمال المذكور ارتكازا، الذي يبتنى
على كثير من القضايا الشايعة بين أهل اللسان، كقولنا: قد رأيت الأسد، وركبت
الفرس، وأكلت اللحم، وشربت اللبن، وغيرها، وكما في القضايا المتضمنة
للأحكام عند عدم كون المتكلم في مقام البيان من بعض الجهات، حيث لا
اشكال في عدم ذلك على العناية باستعمال اللفظ في المقيد.
كيف وقد لا يحيط المتكلم عند الاستعمال بالخصوصيات والقيود
الدخيلة في الحكم ليتسنى له الاستعمال في المقيد بها أو المقارن لها. فلولا
صحة الحكم على الماهية بحدودها المفهومية بمجرد ثبوته لبعض أفرادها لم
تصح الاستعمالات المذكورة.
والفرق بين ما ذكرنا وما سبق من المتأخرين من دعوى الوضع للجامع
بين المطلق والمقيد: أن التوسع - على ما ذكروه - في مفهوم اللفظ الدال على
الماهية، و - على ما ذكرنا - في مفاد الحمل والحكم على الماهية.
ولعل ارتكازية صحة الاستعمال المذكور وعدم مجازيته هو الذي أوهم
سعة ما وضع له لفظ الماهية بالنحو المتقدم، الذي ذكرنا عدم امكان الالتزام به،
وأنه يتعين توجيه هذا الاستعمال بما سبق.
نعم، لا يتعين ما ذكرنا في التقييد المنفصل، بل كما يمكن ذلك فيه،
يمكن أن يبتنى على قيام قرينة متصلة حالية أو مقالية على التقييد وان خفيت،
أو على استعمال المطلق في المقيد مجازا، كما سبق من القدماء. لأنه بعد أن
22

فرض انعقاد الظهور في العموم والاطلاق كما تكون جميع الوجوه المذكورة
مخالفة للأصل، فلابد في تعيين أحدها من معين.
ولعله يتضح بعض الكلام في ذلك عند الكلام في الجمع بين العام
والخاص.
كما أن ما ذكرنا من صحة إرادة المهملة انما يتجه في القضية الموجبة
ونحوها، أما السالبة ونحوها فلا اشكال في عدم صحتها مع الاهمال وتوقفها
على استيعاب السلب لتمام الافراد فلابد من أحد الوجهين الآخرين أو نحوهما
لو ثبت الخصوص.
وتمام الكلام في ذلك عند الكلام في مفاد النكرة في سياق النفي والنهى
إن شاء الله تعالى.
ثم إن ما ذكرنا من صحة الحمل على الماهية..
تارة: بنحو الاطلاق..
وأخرى: بنحو التقييد المتصل، وأن الأول يكفي فيه ثبوت الحكم
في الجملة بنحو الاهمال الذي يناسب التقييد المنفصل، يجرى نظيره في النسبة
التي إليها يرجع العموم الأحوالي، فنسبة الحكم للموضوع قد تبتنى على ثبوته
له في خصوص حال يستفاد من تقييده بشرط أو غاية أو غيرهما من القيود
المتصلة، كما تبتنى على ثبوته له في الجملة بنحو الاهمال الذي يجتمع مع ثبوته
له دائما، وثبوته له في خصوص حال، وعلى الثاني قد يبتنى التقييد المنفصل،
من دون أن يخرج في شئ منها عن مفاد النسبة وضعا.
وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن مفاد الوضع في المفردات والهيئات مع
عدم التقييد ليس الا ثبوت الحكم للماهية في الجملة بنحو القضية المهملة
بالإضافة إلى الافراد والأحوال.
ومن هنا لابد من الكلام في ما يدل على العموم وضعا أو عقلا أو بقرائن
23

عامة، ليترتب عليه الظهور النوعي الذي هو المهم في المقام، وله عقدنا هذا
الفصل. ويكون ذلك في ضمن مباحث..
24

المبحث الأول
لا اشكال في دلالة بعض الأدوات على العموم الافرادي أو الأحوالي
وضعا، مثل: (كل) و (جميع) و (أي) في مثل: أكرم كل رجل، أو جميع الرجال، أو
أي رجل، ودائما في مثل: الخمر نجسة دائما، ونحوها، لان ذلك هو المتبادر
منها.
ومعه لا مجال لما حاوله بعضهم من تقريب اشتراكها بين العموم
والخصوص، أو اختصاصها بالخصوص.
كما لا مجال لإطالة الكلام في حججهم بعد ظهور ضعفها بمراجعتها في
كتاب المعالم وغيره.
هذا، ويظهر من غير واحد أن مفاد أداة العموم ليس هو عموم الحكم
لتمام أفراد الماهية الداخلة عليها، حيث لا اشكال في عدم دلالتها على العموم
لها مع تقييدها، ففي مثل: أكرم كل عالم عادل لا يستفاد العموم لكل أفراد العالم،
بل لخصوص أفراد العادل منه، ومرجع ذلك إلى أن مفاد الأداة هو عموم الحكم
لافراد ما يراد من مدخولها مطلقا كان أو مقيدا، فلابد في استفادة العموم منه
لتمام افراد المدخول من احراز كون المراد به الماهية المطلقة المرسلة، وهو انما
يكون بضميمة مقدمات الحكمة، ومع عدم تماميتها لا مجال لاحراز العموم
لتمام أفرادها من الأداة.
لكنه يبتنى على كون اللفظ الدال على الماهية موضوعا للقدر المشترك
بين المطلقة المرسلة والمقيد، حيث يحتاج تعيين إرادة الأولى إلى قرينة
25

الحكمة.
وقد سبق ضعفه، وأنه موضوع للماهية بحدودها المفهومية، والتقييد
نسبة زائدة عليها، غاية الامر أن نسبة الحكم للماهية لا يقتضى بنفسه استيعاب
أفرادها به، بل يكفي ثبوته لها في الجملة بنحو القضية المهملة، فمع فرض دلالة
الأداة على عموم الحكم لتمام أفراد ما أريد من مدخولها وهو الماهية بحدودها
المفهومية - يتعين خروجها عن الاهمال، والبناء على العموم لتمام الافراد بلا
حاجة لمقدمات الحكمة.
ولا ينافي ذلك قصور العموم مع تقييد المدخول بقيد متصل، واختصاصه
بأفراد المقيد، لان نسبة التقييد كما تقتضي قصر الحكم على أفراد المقيد تقتضي
قصر العموم عليها، ومع عدمه لابد من سعة العموم.
نعم، لو احتمل التقييد المتصل بقرينة حالية أو مقالية قد اختفت علينا
فاستفادة العموم لتمام الافراد تبتنى على أصالة عدم القرينة، وهي مباينة
لمقدمات الحكمة مفادا وموردا، كما هو ظاهر.
أما لو لم يحتمل التقييد المتصل فأداة العموم بنفسها تقتضي سعته لتمام
أفراد المدخول وضعا، من دون ضميمة مقدمات الحكمة، والا خرجت أدوات
العموم في إفادته عن التأسيس، للتأكيد، إذ مع عدم تمامية المقدمات المذكورة لا
تصلح لإفادة العموم لافراد المدخول، بسبب احتمال إرادة المقيد منه، ومع
تماميتها تستند إفادة العموم لها، غاية الامر أنها قد تنفع في تبدل نحو العموم من
البدلية للاستغراقية أو المجموعية، كما لو كان مدخولها نكرة.
وهو كما ترى بعيد عن المرتكزات الاستعمالية، لقضاء التأمل فيها بإفادة
الأدوات أصل العموم تأسيسا، لا تأكيدا. ومعها لا تتم مقدمات الحكمة، لان منها
عدم البيان. فلاحظ.
26

المبحث الثاني
لا اشكال في دلالة النكرة في سياق النفي والنهى العموم، لان سعة وجود
الماهية بتعدد أفرادها كما يستلزم وجودها بوجود بعضها يستلزم عدم انتفائها
الذي هو مفاد النفي ومقتضى النهى الا بانتفاء تمام الافراد.
ومن ثم كانت الدلالة على العموم في ذلك عقلية متفرعة على دلالة اللفظ
على الماهية ذات الوجود الواسع بما لها من حدود مفهومية.
وبذلك ظهر عدم اختصاص ذلك بالنكرة، بل يجرى في كل ما يدل على
الماهية إذا وقع في سياق النفي والنهى.
وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في الفصل الخامس من مقصد الأوامر
والنواهي عند الكلام في الفرق بين الأمر والنهي في مقام الامتثال.
هذا، وقد استشكل في ذلك بعض المحققين رحمه الله، قال في أوائل مبحث
النهى: (لا يخفى عليك أن الطبيعة توجد بوجودات متعددة، ولكل وجود عدم
هو بديله ونقيضه، فقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة المهملة التي كان النظر
مقصورا على ذاتها وذاتياتها، فيقابله إضافة العدم إلى مثلها، ونتيجة المهملة
جزئية، فكما أن مثل هذه الطبيعة تتحقق بوجود واحد كذلك عدم مثلها. وقد
يلاحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة بنحو الكثرة، فلكل وجود منها عدم هو بديله،
فهناك وجودات وأعدام، وقد يلاحظ الوجود بنحو السعة، أي بنهج الوحدة
في الكثرة بحيث لا يشذ عنه وجود، فيقابله عدم مثله، وهو ملاحظة العدم بنهج
الوحدة في الاعدام المتكثرة، أي طبيعي العدم بحيث لا يشذ عنه عدم... فما
27

اشتهر من أن تحقق الطبيعة بتحقق فرد وانتفاءها بانتفاء جميع أفرادها لا أصل
له، حيث لا مقابلة بين الطبيعة الملحوظة على نحو تتحقق بتحقق فرد منها
والطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها).
لكنه كما ترى! لأنه إذا كان وجود الطبيعة المهملة بوجود بعض الافراد
وعدمها بعدم بعضها لزم اجتماع الوجود والعدم المضافين لها بوجود بعض
الافراد دون بعض، وإذا كان وجود الطبيعة بنحو الكثرة الراجعة إلى ملاحظة كل
فرد فرد بنحو العموم الانحلالي - أو بنحو السعة - الراجعة إلى ملاحظة مجموع
الافراد شيئا واحدا بنحو الارتباطية والمجموعية - بوجود تمام الافراد وعدمها
بأحد النحوين بعدم كل منها، لزم ارتفاع الوجود والعدم المضافين لها بأحد
النحوين المذكورين، بوجود بعض الافراد دون بعض.
ولازم ذلك عدم التناقض بين الوجود والعدم مع وحدة موضوعهما،
لامكان اجتماعهما في الأول، وارتفاعهما في الأخيرين، مع أن التناقض بينهما
من أول البديهيات.
ومن ثم كانت الطبيعة المهملة المفروض وجودها بوجود فرد واحد لا
تنعدم الا بعدم جميع الافراد، ولذا كان نقيض المهملة - التي هي في قوة الجزئية
- سالبة كلية. كما أن الطبيعة الملحوظة بنحو الكثرة والتي توجد بوجود تمام
أفرادها تنعدم بعدم بعض أفرادها. ولذا كان (ليس كل) سورا للسالبة الجزئية.
وكذا الملحوظة بنحو السعة في الوجود التي يتحد وجودها مع وجود
تمام أفرادها بنحو المجموعية والارتباطية، لوضوح أنه يكفي في صدق نقيض
الكل أو المقيد عدم جزئه أو قيده.
والذي ينبغي أن يقال: الوجود والعدم عارضان حقيقة على الفرد، دون
الماهية، بل هي أمر اعتباري انتزاعي لا يصح نسبة الوجود له الا اعتبارا بلحاظ
وجود أفراده، الا أن سعة مفهومها بنحو تنطبق على تمام الافراد - على ما هي
28

عليه من الاعتبار والانتزاع - مستلزم لصحة نسبة الوجود إليها بوجود فرد واحد،
وتوقف نسبة العدم إليها على عدم تمام الافراد، وتقابل وجود كل فرد انما يكون
مع عدمه إذا نسب الوجود والعدم للفرد، دون ما إذا نسب للماهية المنطبقة على
كل فرد فرد، لما ذكرنا.
هذا، وقد سبق أن الاهمال في القضية ليس لسعة مفهوم اللفظ الدال على
الماهية، بل ليس الموضوع له اللفظ الا الماهية بحدودها المفهومية، وليس
الاهمال الا من شؤون النسبة، حيث يكفي في صحة نسبة الحكم للماهية ثبوته
لبعض أفرادها، أما سلبه فيتوقف على عدم ثبوته لشئ من أفرادها، كما سبق.
ثم إن لازم ما ذكره عدم دلالة النكرة في سياق النفي والنهى على العموم
الا مع احراز كون المراد بها الماهية غير المهملة، بل المطلقة السارية في تمام
الافراد بأحد النحوين الأخيرين المذكورين في كلامه. ولذا التزم بتوقف دلالتها
على العموم على تمامية مقدمات الحكمة فيها.
وهو الذي ذكره غيره أيضا، لا لاحتمال صدق السلب على الماهية ببعض
أنحائها بعدم بعض أفرادها، كما سبق منه قدس سره، بل للبناء منهم على أن الموضوع
له هو القدر المشترك بين المطلق والمقيد، ووقوع المقيدة في سياق النفي
والنهى لا يقتضى العموم الا لافرادها، فاستفادة العموم لتمام أفراد المدخول
موقوف على كون المراد به المطلقة الذي يحرز بالمقدمات المذكورة.
وأما ما ذكره بعضهم من أن النفي قرينة عند العرف على إرادة الشياع بلا
حاجة إلى مقدمات الحكمة.
فغير ظاهر، إذ لم يتضح وجه خصوصية النفي في ذلك لأنه كسائر النسب
الطارئة على الموضوع لا تقتضي بيان المراد منه زائدا على مدلوله اللفظي، وأنه
قد لحظ بنحو السريان والشياع.
فالعمدة في وجه الاستغناء عن المقدمات المذكورة ما تقدم منا من عدم
29

الوضع للقدر المشترك بين المطلق والمقيد، بل ليس الموضوع له الا الماهية
بحدودها المفهومية، التي ذكرنا أن لازم سعة وجودها بتكثر أفرادها هو صدق
الوجود عليها بوجود بعضها، وتوقف عدمها على عدم تمام الافراد.
كما ذكرنا آنفا أنه يكفي في اثبات الحكم لها ثبوته لبعض أفرادها، ولا
يصح سلبه عنها الا بعدم ثبوته لشئ من أفرادها.
نعم، لو شك في العموم الأحوالي الراجع للشك في اطلاق النسبة نفسها
فالظاهر عدم جريان ما تقدم، لعدم الفرق بين النسبة الايجابية والسلبية في
الصلوح للاهمال، فمع عدم احراز اطلاقها من مقدمات الحكمة أو نحوها يتعين
التوقف، وعدم البناء على العموم الأحوالي. فتأمل جيدا.
تنبيه:
ذكر غير واحد أن مفاد النكرة الطبيعة المتشخصة بالفرد الواحد.
لكن الظاهر أنه يختلف مع قطع النظر عن خصوصية النسبة باختلاف
أقسامها، فهي..
تارة: تدل على الماهية بنفسها مع قطع النظر عن القلة والكثرة، فتنطبق
على الكثير بعين انطباقها على القليل، كالمصادر الأصلية. ومثلها في ذلك مواد
المشتقات. ولذا تقدم أن الامر لا يدل على المرة ولا التكرار. وكذا اسم الجنس
الافرادي، كماء وتراب وحنطة.
وأخرى: تدل على الماهية المتشخصة بواحد. كالمصدر الذي على وزن
فعلة، ومثل رجل وامرأة وثوب، وما يقترن بالتاء مما يفرق بينه وبين واحده بها،
كشجرة، وثمرة، وحبة وتمرة، وما يتجرد عنها من عكسه ككم ء.
وثالثة: تدل على الماهية المتكثرة، وهو اسم الجنس الجمعي، كالمجرد
عن التاء مما يفرق بينه وبين واحده بها، كشجر وثمر، وحب، وتمر، والمقترن
30

بها من عكسه، ككمأة، بناء على أنه ليس جمعا، بل اسم جنس.
هذا، وربما يجمع بين ما ذكرنا وما ذكروه من اطلاق دلالة النكرة على
الطبيعة المتشخصة بالفرد الواحد بأن مرادهم بما ذكروه دلالة النكرة على الفرد
المردد بالنحو المدلول للنكرة المأخوذ فيها من اطلاق أو تقييد بالوحدة أو
التكثر، فمثل شجر وان كان يدل على أشجار كثيرة، الا أنه يدل على فرد واحد
شايع في أفراد الشجر الكثير، كما يدل لفظ شجرة على فرد شايع في أفراد
الشجرة الواحدة ويدل لفظ حنطة على فرد شايع في أفراد الحنطة الصادقة على
القليل والكثير، فأخذ الكثرة في القسم الثالث لا تنافى دلالة النكرة على الفرد
الواحد، والذي تكون الكثرة مقومة لفرديته.
إذا عرفت هذا، فلا يخفى أن ما تقدم في وجه دلالة النكرة في سياق النفي
أو النهى على العموم من توقف انتفاء الطبيعة على انتفاء تمام أفرادها كما
يجرى في القسم الأول يجرى في القسم الثاني، لان انتفاء المتشخص بالواحد
لا يكون مع وجود الافراد المتكثرة، وكما ينافيه انحصار الوجود بالواحد ينافيه
وجود المتكثر.
نعم، لو كان مفاد نفيها انتفاء التشخص بالواحد وانتفاء وحدة التشخص
لم يناف التشخص بالمتكثر. لكن من المعلوم أن مفاد النكرة ليس هو التشخص
بالواحد ووحدة التشخص، الذي لا يصدق مع التكثر، بل المتشخص بالواحد
الذي يصدق معه، فلا يصح نفيه الا مع نفيه.
وأما مثل: لا رجل في الدار بل رجلان، فالظاهر ابتناؤه على تقييد الوجود
المنفى بالانفراد بقرينة الاستدراك، ولولاه يكون المفهوم نفى الرجل مطلقا ولو
مع الكثرة، فكأنه قيل: لا رجل فقط في الدار بل رجلان، نظير قولنا: ليس بعض
العلماء في الدار بل كلهم، وليس زيد في الدار، بل الزيدان معا.
واليه يرجع ما ذكره بعض النحويين من أن (لا) لنفى الوحدة، لا لنفى
31

الجنس، والا فالظاهر عدم اختلاف معنى (لا) وأنها دائما لنفى الجنس.
وأما الثالث فقد يشكل جريان ما تقدم فيه، لعدم توقف انتفاء الطبيعة
المتكثرة على انتفاء الفرد الواحد أو الفردين، فيلزم عدم دلالة وقوع هذا القسم
في سياق النفي والنهى على انتفاء الطبيعة رأسا، بل على انتفاء المتكثر منها.
لكن الرجوع للمرتكزات الاستعمالية يأبى ذلك، فمثل: لا شجر في
الدار، ولا ثمر في الشجرة، ولا بقر في المرعى، يدل على انتفاء الماهية رأسا، كما
عن بعض النحويين التنبيه على ذلك.
وليس هو كنفي الجمع أو المثنى، حيث لا يدل قولنا: ليس في الدار
شجرتان، أو أشجار، على انتفاء الشجرة الواحدة في الأول، والشجرتين
في الثاني.
ولعله ناشئ عن شيوع استعمال النكرة في سياق النفي والنهى في نفى
الطبيعة فأوجب الانصراف إلى ذلك وفهمه عرفا منه حتى في هذا القسم، وان لم
يقتضه الجمود على المعنى اللغوي له.
كما ربما يبتنى على أن استعمال هذا القسم في خصوص المتكثر ليس
لاخذ التكثر قيدا في مفهومه لغة، بل هو موضوع لغة للطبيعة بما هي كالقسم
الأول، وان كان ينصرف إلى المتكثر بسبب كثرة الاستعمال فيه عرفا، كما احتمله
أو جزم به بعض النحويين.
ولذا يتجرد عن قيد التكثر عند دخول لام الجنس عليه، ويراد به الطبيعة
من حيث هي، كما في مثل قولنا: الشجر نبت له ساق مرتفع وأغصان متكثرة،
وقولنا: رأيت الشجر، وأكلت التمر والثمر، فمع وقوعه في سياق النفي أو النهى
يستعمل في معناه ومدلوله اللغوي المذكور، الذي لا يكون انتفاؤه الا بانتفاء
تمام الافراد.
ولعل الأول أقرب ارتكازا.
32

هذا، ومن الظاهر اختلاف مفاد النكرة، حيث يراد بها..
تارة: الكلى القابل ثبوتا للانطباق على كل فرد فرد من دون تعيين، كما في
قولنا: أكرم رجلا. ولك على درهم.
وأخرى: الفرد المعين ثبوتا المردد اثباتا بين أفراد، كما في قولنا: أكرمت
رجلا، أو: يدخل الدار غدا رجل.
والظاهر أن الاختلاف ليس في مفاد النكرة وضعا، لبعد الاشتراك جدا، بل
هي موضوعة للأول: وهو الكلى القابل للانطباق على كل فرد من دون تعين له
ثبوتا، لان ذلك هو المتبادر منها مع قطع النظر عن خصوصيات النسب، ولبعد
الاشتراك جدا.
والتعيين ثبوتا في الثاني ناشئ عن خصوصية النسبة، لان النسبة الخبرية
قد يتعين مطابقها ثبوتا، وان كان قد لا يتعين، كما لو كان الحاصل في الخارج أكثر
من فرد واحد، حيث لا يتعين فرد بعينه لمطابقة النسبة الخبرية حتى ثبوتا، لعدم
المرجح.
أما النسبة الطلبية ونسبة التمليك الواردة على الكلى فهما لا يتعلقان الا
بالكلي على ما هو عليه من الشياع والسريان، وليس التشخص والتعين الا من
لوازم تحقيق مقتضاها في مقام الامتثال أو الوفاء المتأخرين عن مقام الخطاب
والجعل رتبة، ولذا لا تعين لو فرض عدم الوفاء أو الامتثال.
ثم إن الظاهر عدم الاشكال في أن شيوع مفاد النكرة في الطبيعة لا يقتضى
العموم المجموعي أو الاستغراقي لافراد الطبيعة في مثل الأوامر مما يقتضى
ايجاد المتعلق، بل غايته العموم البدلي، إذ بعد ما سبق من تحقق الطبيعة بتحقق
فرد واحد يتعين موافقة الحكم به.
نعم، استفادة سعته لتمام الافراد، بحيث يجزى أي منها تتوقف على
قرينة خارجية، ولو كانت هي مقدمات الحكمة، لامكان نسبة الحكم للطبيعة
33

بنحو الاهمال، نظير ما تقدم في مفاد أسماء الأجناس.
لكن القرينة المذكورة انما تقتضي السعة للطبيعة على النحو الذي تضمنه
الكلام من اطلاق أو تقييد، فمع تقييدها بمتصل لا تقتضي القرينة المفروضة
سعته لغير المقيد.
34

المبحث الثالث
لا اشكال في دلالة اللام على التعريف في الجملة، وانما الاشكال في
اختصاصها به أو دلالتها على غيره، وفى سنخ التعريف الذي تدل عليه.
وقد ذكر غير واحد أنها تدل..
تارة: على التعريف العهدي، الذي يراد به الإشارة لفرد معهود بسبب
تقدم ذكره، وهو العهد الذكرى، نحو قوله تعالى: (كما أرسلنا إلى فرعون
رسولا فعصى فرعون الرسول) (1)، أو انس الذهن به وهو العهد الذهني، نحو
قوله تعالى: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) (2).
وأخرى: على الاستغراق لتمام أفراد المدخول نحو قوله تعالى:
(والعصر * ان الانسان لفي خسر * الا الذين آمنوا) (3).
وثالثة: لتعريف الجنس نحو: الرجل خير من المرأة، و: أكلت الخبز،
وشربت الماء، ورأيت الأسد، حيث لا عهد.
ورابعة: للتزيين أو للمح المعنى الأصلي الذي نقل عنه اللفظ، كما في
الاعلام الشخصية (كالحسن) و (الحسين) و (الفضل).
هذا، والظاهر بعد الرجوع للمرتكزات الاستعمالية عدم خروج اللام في
الجميع عن التعريف، وحقيقته الإشارة لما أريد من المدخول بما أنه متعين ذهنا

(1) سورة المزمل: 15، 16.
(2) سورة القصص: 15.
(3) سورة العصر: 1، 2، 3.
35

وحاضر عند العقل. لكن لا على أن يكون الوجود الذهني هو تمام المراد من
المعرف، أو جزءا منه، كما قد توهمه بعض عبارات النحويين في بعض أقسام
التعريف، ليمتنع كون المعرف طرفا للنسبة ذات المطابق الخارجي، لعدم انطباق
الوجود الذهني على ما في الخارج، الا بالتجريد والعناية اللذين لا مجال للبناء
عليهما في الاستعمالات العرفية الشايعة.
بل على أن يكون مقارنا للاستعمال مع كون المراد نفس المفهوم في
التعريف الجنسي - أو الفرد - في التعريف العهدي - المفروض حضوره ذهنا.
فطرف النسبة هو المفهوم أو الفرد بنفسه من دون دخل لحضوره ذهنا
حتى بنحو التقييد، من دون أن يلزم التجريد أو العناية. وليس حضوره ذهنا
المستفاد من اللام الا مقارنا للاستعمال.
فالتعريف نظير الإشارة التي هي خارجة عن المشار إليه غير دخيلة في
طرفيته للنسبة بوجه.
ومنه يظهر اندفاع ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في وجه كون التعريف
الجنسي في علم الجنس ولامه لفظيا من استلزام كونه حقيقيا تعذر حمل
المعرف على الافراد، لعدم انطباق ما في الذهن على ما في الخارج، على ما
أوضحناه في تعقيب كلامه وشرحه. فراجع.
ثم إن تمحض اللام في إفادة التعريف بالمعنى المتقدم لا ينافي اختلاف
مفاد الكلام في ما سبق ذكره من الأقسام لاختلاف خصوصيات الموارد.
فحيث يكون هناك ما يقتضى تعين فرد بخصوصيته من تقدم ذكره أو
انس الذهن به ينصرف التعريف للماهية من حيثية تشخصها في الفرد المذكور،
فيشار بها إليه من حيثية تعينه ذهنا، دون بقية الافراد، ويكون التعريف عهديا.
ومع عدمه ينصرف التعريف للماهية والمفهوم بنفسه، لأنه هو مدلول
المدخول المتعين ذهنا، من دون صارف عنه، فيكون التعريف جنسيا، ويراد
36

بالمدخول مفهومه من حيثية تعينه ذهنا.
ودعوى: أن مفهومه مع العلم بالوضع متعين بنفسه ذهنا بلا حاجة إلى
اللام، ومع الجهل به لا تصلح اللام لتعيينه، فلابد من كون التعريف صوريا لفظيا،
لا حقيقيا معنويا، بخلاف التعريف العهدي، حيث تكون فائدة اللام رفع الشياع
في الفرد الحاصل لولا اللام، وتعينه بالفرد المعهود، فيكون تعريفا حقيقيا
معنويا.
مدفوعة: بأن فائدة اللام ليست هي التعيين ذهنا بل الإشارة للمتعين بما
هو متعين، مع استناد التعين الذهني لغيرها، فهي تقتضي التنبيه لتعين المراد
ذهنا، من دون فرق بين الفرد الذي يكون تعريفه عهديا، والمفهوم الذي يكون
تعريفه جنسيا، وانما يقتضى التعريف العهدي رفع الشياع وانحصار المراد
بالفرد المعهود لان المدخول بنفسه لا يصلح لتعيين الفرد، وانما يصلح لبيان
إرادة الفرد الشايع في الافراد المردد بينها، فمع اقتضاء اللام التنبيه على تعيين
المراد وفرض انحصار التعين في الذهن بالفرد الخاص يتعين انصراف المراد
إليه واختصاصه به، فيرتفع الشياع والتردد فيه.
أما مع عدم تعين فرد خاص في الذهن وتساوى الافراد فيه ولزوم كون
التعريف والتعيين المفروض من مفاد اللام للمفهوم نفسه، فحيث لا شياع في
المفهوم بنفسه يتعين عدم استفادة رفع الشياع، لعدم الموضوع له، من دون أن
ينافي إفادتها التعريف الذي هو عبارة عن الإشارة لتعين المراد ومعهوديته
في الذهن، ولا ملزم بكون التعريف حينئذ لفظيا صوريا.
ولذا كان دخول اللام في مثل ذلك موجبا لفهم عدم إرادة الفرد الشايع
بين الافراد، كما يكون هو المراد مع التجرد عنها، بل الماهية والمفهوم بنفسه،
لأنه هو المتعين دون الفرد المفروض عدم تعينه، ولو كانت اللام في ذلك
منسلخة عن التعيين والتعريف الحقيقي لم يكن وجه لاختلاف مفاد النكرة عن
37

مفاد اللام في مثل ذلك.
وأما ما ذكره بعضهم من أن المدخول في مثل قولنا: ادخل السوق، واشتر
اللحم، مع عدم العهد في معنى قولنا: ادخل سوقا واشتر لحما.
فهو مخالف للوجدان، لان المستفاد مع التنكير نسبة الحكم رأسا للفرد
الواحد الشايع في الافراد والمردد بينها، وان أمكن ثبوته لما زاد عليه، والمستفاد
مع التعريف باللام نسبته رأسا للجنس، وثبوته للفرد بتبعه، لعدم صحة نسبة
الحكم المذكور للماهية الا بلحاظ ثبوته لافرادها.
ولذا لا نظر فيه لكمية الافراد، لان ثبوت الحكم للماهية يصح بلحاظ
ثبوته لافرادها في الجملة.
وبالجملة: وضوح الفرق ارتكازا مع عدم العهد بين المعرف باللام
والمجرد عنها مانع من البناء على كون التعريف صوريا لفظيا.
ومجرد عدم إفادة اللام رفع الشياع والترديد لا يستلزم ذلك، لعدم تقوم
التعريف برفع الشياع، بل بالإشارة للمتعين ذهنا بما هو متعين، ورفع الشياع انما
يستلزمه في تعريف الفرد القابل له، دون المفهوم الكلى غير القابل له.
وبذلك يظهر أن مؤدى اللام العهدية والجنسية واحد، وأن خصوصية
العهد تابعة لخصوصية المورد، لا لاختلاف مؤدى اللام.
ثم إن اللام حيث تكون للجنس مع عدم العهد، ويكون طرف النسبة هو
الجنس والماهية، فان كان الحكم من شؤون الماهية بحدودها المفهومية
مقصورا على ذاتها وذاتياتها من دون نظر للخارج لم يقبل العموم ولا
الخصوص، كما في القضايا الذهنية، مثل: الانسان نوع، أو الواردة للتحديد، مثل:
الانسان حيوان ناطق.
وان كان من شؤون الماهية الخارجية، لكونه لاحقا للافراد، فهو يقبل
العموم والخصوص، وحيث تقدم أنه يكفي في نسبة الحكم للماهية ثبوته
38

لبعض أفرادها، فليس مفاده الا قضية مهملة، ولا يستفاد عمومها الا بقرينة عامة،
كمقدمات الحكمة، أو خاصة، كالاستثناء الذي هو فرع العموم. واليه ترجع اللام
الاستغراقية المتقدمة في كلماتهم.
وليس العموم معه مستفادا من نفس اللام، بحيث يكون مؤدى لها في
مقابل التعريف، وتكون في قبال الجنسية قسيمة لها، لاستبعاد الاشتراك
في الأدوات، وعدم الفرق في معنى اللام ارتكازا.
وقد يشهد بما ذكرنا من استناد استفادة العموم للاستثناء أنه لو تعذر
العموم الحقيقي في مورده يستفاد العموم الإضافي بالنحو المناسب له، ففي
مثل: أكلت اللحم الا لحم البقر أو: الا اللحم المشوي حيث يعلم بعدم إرادة
العموم الحقيقي بلحاظ تمام أفراد اللحم يتعين الحمل على العموم الإضافي
بلحاظ أنواعه في الأول، لتقوم المستثنى بالنوع، وبلحاظ حالاته في الثاني، لتقوم
المستثنى بالحال.
ولو كانت الدلالة على العموم مستندة للام لزم اما البناء على أن اللام
للاستغراق التام الا فيما علم بخروجه، أو أنها جنسية ليست للاستغراق مع
التسامح والتوسع في نسبة الاستثناء بجعل متعلقها القضية المهملة التي لا عموم
فيها. فلاحظ.
نعم، لا يبعد ظهور تعريف المبتدأ أو ما هو بمنزلته كاسم كان في عموم
الحكم لتمام الافراد، بخلاف تعريف غيره من أطراف النسب كالفاعل والمفعول
به ونحوهما.
ولذا نجد الفرق الواضح بين قولنا: أكلت اللحم، وقولنا: اللحم مأكول،
حيث يتعين حمل الثاني على العموم وإرادة القابلية للاكل، دون القضية المهملة
وإرادة فعلية الاكل، كما في الأول. ومنه مثل قولنا: الرجل خير من المرأة، والعالم
خير من الجاهل. حيث يراد به أن كل رجل خير من المرأة، وكل عالم خير من
39

الجاهل، لكن لا من جميع الجهات، بل من حيثية الرجولة والأنوثة، والعلم
والجهل، لا أن الرجل والعالم خير من المرأة والجاهل في الجملة لا بنحو
العموم.
ومن هنا كان على من يرى وجود لام الاستغراق عد اللام في ذلك منها، لا
جنسية. لكن ربما يكون ذلك لخصوصية في هيئة الجملة، لا لخصوصية في
اللام.
كما ربما يكون مستندا لمقدمات الحكمة على ما قد يتضح عند الكلام
فيها وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في تعريف المسند إليه من مفهوم الحصر.
وبالجملة: الظاهر بعد التأمل في المرتكزات الاستعمالية عدم دلالة اللام
بنفسها وضعا على الاستغراق، بل هي في مورده متمحضة في التعريف
الجنسي، والاستغراق مستفاد من خصوصيات الموارد المختلفة.
كما أن الظاهر رجوع لام التزيين في الاعلام الشخصية إلى لام العهد التي
هي لتعريف الفرد وتعيينه، لما هو المرتكز من خروج الاسم بها عن العلمية إلى
المعنى الأصلي الكلى القابل للانطباق على كثيرين، والذي يمكن أن يراد به
بضميمة اللام - خصوص الفرد المعهود.
ولذا تكون الإشارة بها للمسمى من حيثية ذلك المعنى، فتشعر بواجديته
له، وليست متمحضة في الدلالة على الذات، كما هو حال الاعلام الشخصية،
لتكون اللام لمحض التزيين اللفظي، بل هي لتزيين البيان، بلحاظ تضمنه معنى
زائدا على الذات، أو لتزيين المراد بها إذا كان المعنى الأصلي حسنا، ولو كان ذما
كانت للتهجين والذم.
ويناسب ما ذكرنا أنهم ذكروا أن اللام المذكورة للمح المعنى المنقول عنه
اللفظ، واعتبروا في جواز دخولها قابلية المعنى المذكور لها.
نعم، ربما يغفل عن ذلك في مقام الاستعمال في أعرافنا المتأخرة للبعد
40

عن اللغة والجهل بخصوصيات البيان.
وبهذا تم ما ذكرناه آنفا من تمحض اللام في التعريف، وأن الأقسام
المذكورة لها لا تخرج عنه. واختلافها انما يكون لاختلاف خصوصيات الموارد
من دون أن يرجع إلى تعدد مؤداها واختلافه.
كما ظهر أن إفادة المعرف باللام العموم يحتاج إلى قرينة عامة
كمقدمات الحكمة أو تعريف المبتدأ أو خاصة، كالاستثناء.
هذا كله في تعريف المفرد، وأما تعريف الجمع فالظاهر عدم الاشكال
في إفادته العموم مع عدم العهد لخصوص بعض الافراد. وانما الكلام في وجهه
بينهم.
والظاهر أن منشأه ظهور اللام في التعريف وفرض المراد بمدخولها
المتعين ذهنا. لكن لا بلحاظ تعريف الماهية بنفسها، على أن يكون التعريف
جنسيا، كما في تعريف المفرد، لما هو الظاهر من أن هيئة الجمع تقتضي كون
المراد بالمدخول الافراد، لأنها القابلة للتكثر، دون الطبيعة بنفسها.
ولا بلحاظ تعريف نفس مرتبة الجمع المدلولة لهيئته، لما هو المعلوم من
صلوح الهيئة لجميع المراتب من دون مرجح لاحدها في التعيين والحضور
الذهني.
ومجرد كون المرتبة العليا المستغرقة لتمام الافراد طرفا للمراتب ليس
فوقه طرف لا يقتضى ترجيحها، لان ذلك ليس بأولى من ترجح المرتبة السفلى
بكونها طرفا ليس دونه طرف، والوسطى بكونها وسطا بين الطرفين.
مضافا إلى أن الجمع بمراتبه مستفاد من الهيئة، فيكون معنى حرفيا غير
قابل للتعريف.
بل الظاهر بعد التأمل في المرتكزات الاستعمالية كون استفادة العموم
بسبب كون التعريف للأفراد المحكية بالجمع، فيكون التعريف عهديا. بتقريب:
41

أنه حيث لا مرجح لبعض الافراد على بعض - لفرض عدم ما يوجب العهد
لبعضها بخصوصه - يتعين إرادة جميعها - بعد فرض دلالة اللام على التعريف
والتعين الذهني - بلحاظ تعينها في الذهن من حيثية كونها فردا للماهية، فيراد
باللام الإشارة للأفراد المتميزة عن غيرها من الذوات بالحيثية المذكورة، فيلزمه
كون المراد بالجمع المرتبة العليا وان لم تكن هي موضوع التعريف. بخلاف ما
لو أريد بعض الافراد، لفرض عدم المميز لها عن غيرها من الافراد، ليمكن
فرض التعيين لها.
نعم، لو كانت هناك جهة تصلح لترجيح بعض الافراد ذهنا كانت هي
المتيقن من الجمع المعرف وتعين حمله عليها.
ومنه يظهر أنه لا ملزم بما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من ابتناء دلالة
الجمع المحلى باللام على العموم اما على وضعه بهيئته له ابتداء، أو على كون
اللام فيه للاستغراق.
على أن الوجه الأول يشكل..
تارة: بعدم معهودية اختصاص المركب بمجموعه بوضع لمعنى لا تؤديه
مفرداته بأنفسها.
وأخرى: بأن لازمه كون دلالة الجمع المعرف على الخصوص في موارد
العهد الذكرى أو الذهني لخصوص بعض الافراد مبنيا على الاشتراك أو المجاز
كما نبه له بعض مشايخنا وهو بعيد في نفسه مخالف للمرتكزات الاستعمالية
جدا.
كما يشكل الوجه الثاني..
تارة: بأن اللام إذا كانت مشتركة بين الاستغراقية وغيرها احتاج تعيين
الاستغراقية في الداخلة على الجمع للقرينة الخاصة كما يحتاج إليها في الداخلة
على المفرد، مع أنه لا اشكال عندهم في عدم توقف فهم العموم منه عليها.
42

وأخرى: بما تقدم من استبعاد الاشتراك في مفاد اللام، بل لا ينبغي التأمل
في عدمه بعد ملاحظة ما ذكرنا.
تنبيهان:
الأول: ما ذكرناه كما يجرى في المعرف باللام يجرى في المعرف
بالإضافة، نحو أكرم علماء بلدك، أو أكرم عالم بلدك، لما أشرنا إليه في ذيل
الكلام في تعريف المسند من أن الإضافة بمقتضى الأصل تقتضي العهد
والتعريف زائدا على الاختصاص، للفرق الواضح بين قولنا: غلام زيد، وغلام
لزيد.
فإذا كان المضاف جمعا كعلماء المدينة اقتضى الاستغراق والعموم
بالتقريب المتقدم، وإذا كان مفردا حمل غالبا على العهد الذهني، فيراد من مثل:
عالم المدينة، أظهر علمائها، وقد يراد به الجنس المقيد، كما لو أريد به ما يقابل
عالم القربة، كما في قولنا: عالم المدينة أعلم من عالم القرية، فيلحقه ما تقدم
في تعريف الجنس باللام.
نعم، أشرنا هناك إلى أن الإضافة للمعرفة قد تتمحض في الاختصاص من
دون تعريف وعهد. وهو الحال في الإضافة للنكرة لان شيوع المضاف إليه
مستلزم لشيوع المضاف، كعالم بلد، أو علماء بلد، وحينئذ يكون كسائر
المطلقات التي تحتاج استفادة العموم منها إلى قرينة خارجية. فلاحظ.
الثاني: كما اختلفوا في تعريف الجنس وأنه حقيقي معنوي أو صوري
لفظي، اختلفوا في علم الجنس، كأسامة للأسد، وثعالة للثعلب.
وحيث لا يتعارف استعماله في عصورنا فلا مجال للرجوع فيه للتبادر
والمرتكزات الاستعمالية.
نعم، الظاهر اطباقهم على كونه بمعنى المعرف بلام الجنس، ولذا كان
43

اختيارهم فيهما متفقا، ويناسبه صحة استعمال أحدهما في مورد الاخر، فكما
يقال: هذا الأسد مقبلا، والأسد أشجع من الثعلب، يقال: هذا أسامة مقبلا، وأسامة
أشجع من ثعالة. وحينئذ يجرى فيه ما تقدم في المعرف بلام الجنس من تقريب
كون تعريفه حقيقيا.
نعم، أشرنا آنفا إلى أن حمل مدخول اللام على الجنس ناشئ عن كون
تعريفها حقيقيا، إذ لو كان لفظيا لزم كون مفاده مفاد النكرة المجردة عبارة عن
الفرد الشايع بين الافراد، أما علم الجنس فالظاهر عدم الاشكال في أن مفاده
الجنس والطبيعة بنفسها لا الفرد الشايع بين الافراد وان كان تعريفه لفظيا.
وحينئذ يجرى على الحكم الوارد عليه ما يجرى على الحكم الوارد على الجنس
من احتمال العموم والخصوص، وأن المتيقن منه المهملة.
44

المبحث الرابع
بعد أن سبق أنه يكفي في صحة نسبة الحكم للماهية ثبوته لها في الجملة
بنحو القضية المهملة، وأن استفادة العموم الافرادي والأحوالي تحتاج إلى قرينة
خارجية خاصة أو عامة، فعدم انضباط القرائن الخاصة ملزم بايكال النظر فيها
للفقه عند الابتلاء بالأدلة والظهورات الشخصية وتشخيص مفاداتها، ولا مجال
للبحث عنها في الأصول، لان موضوع البحث فيها الظهورات النوعية.
وأما القرينة العامة فهي عبارة عن مقدمات الحكمة التي يبتنى عليها
استفادة الاطلاق الافرادي والأحوالي عندهم، وقد اختلفوا في عددها
وتحديدها.
ولابد من التعرض لجميع ما ذكروه على اختلافهم فيه، والنظر في توقف
الظهور في الاطلاق على كل مقدمة مقدمة بعد تحديدها.
الأولى: امكان التقييد. فلو امتنع، لاستحالة لحاظ القيد في مرتبة جعل
الحكم، لكونه متفرعا عليه، يمتنع انعقاد الظهور في الاطلاق، كما في تقييد
متعلق الامر بقصد امتثاله، وتقييد الحكم بالعلم به، على ما ذكره غير واحد
وأطالوا الكلام في وجهه، أولهم في ما عثرت عليه شيخنا الأعظم;، على ما
في التقريرات.
وقد تعرضنا لذلك في مبحث التعبدي والتوصلي في تقريب أصالة
التوصلية، وذكرنا هناك أنه..
تارة: يراد بذلك ما يظهر من بعض الأعاظم رحمه الله من أن امتناع التقييد
45

يسلتزم امتناع الاطلاق ويلزم الاهمال ثبوتا.
وأخرى: يراد به ما يظهر من جماعة أولهم شيخنا الأعظم على ما يظهر
من التقريرات - من أن امتناع التقييد بقيد ما مانع من انعقاد ظهور المطلق في
الاطلاق من حيثيته، فلا يكون بيانا عليه في مقام الاثبات، بل يكون مجملا، وان
كان دائرا بين الاطلاق والتقييد ثبوتا غير خارج عنهما، لامتناع الاهمال.
وذكرنا هناك أنه لا مجال للأول، بل يمتنع الاهمال ثبوتا مطلقا.
وأما الثاني فقد سبق توجيهه بأن ظهور المطلق في الاطلاق انما يتم
بمقدمات الحكمة التي منها كون عدم التقييد مع دخله في الفرض منافيا
للحكمة، وهو انما يتم مع امكان التقييد، إذ مع تعذره لا يكون الاخلال به منافيا
للحكمة.
كما سبق دفع ذلك بأن تعذر التقييد لا يستلزم تعذر بيان إرادة خصوص
واجد القيد بطريق آخر، فعدم بيانه مع امكانه يستلزم ظهور المطلق في الاطلاق،
كعدم التقييد مع امكانه. ولا أقل من قدرته على ترك بيانه بالوجه المنافى
لغرضه، أو على احاطته بما يوجب اجماله من حيثية القيد المذكور، فاقدامه
على بيان المطلق مع ذلك موجب لظهور كلامه في إرادة الاطلاق.
وقد أشرنا هناك إلى أن تعذر البيان والتقييد لا يمنع من ظهور المطلق في
الاطلاق، وأحلنا في توضيحه على ما نذكره هنا.
وحاصله: أن عدم منافاة الاخلال بالتقييد للحكمة مع التعذر لا يختص
بالتعذر الذاتي العقلي الناشئ من امتناع اللحاظ والذي هو محل الكلام بل
يجرى في التعذر بالعرض لخوف أو ضرر، أو غفلة عن القيد كما في الموالى
العرفيين بالإضافة إلى بعض القيود التي لا يقع منشأ انتزاعها موردا لابتلائهم
ليلتفتوا إليها، كما يجرى في سائر الجهات المصححة للاخلال بالبيان التام بنظر
العقلاء، ولو كانت أمرا غير التعذر، كعدم استيعاب السامع لتمام ما يلقى إليه مع
46

عدم ابتلائه بفاقد القيد، حيث لا يخل ترك التقييد في خطابه بالغرض، بل قد
يستوجب ذكر القيد فوته.
بل مقتضى ذلك التوقف عن الرجوع للاطلاق بمجرد احتمال وجود
الجهات المصححة لترك التقييد من تعذر أو غيره، لاحتمال استناد ترك التقييد
لها، فلا يكون منافيا للحكمة لو كان القيد دخيلا في الغرض، ولا أصل يدفع
الاحتمال المذكور.
ولازم ذلك عدم الرجوع للاطلاق الا مع العلم بانحصار سبب عدم التقييد
بعدم دخل القيد في الغرض، بحيث لو كان دخيلا كان ترك التقييد منافيا
للحكمة.
وحينئذ يكون الاطلاق موجبا للعلم بالمراد مع فرض حكمة المتكلم،
وهو خلاف المقطوع به من محل كلامهم تبعا لأهل اللسان في حجية
الاطلاق، لما هو المعلوم من أنه من صغريات حجية الظهور، الذي قد لا يوجب
الظن، فضلا عن العلم.
فلابد من البناء على أن وجود الجهات المصححة بنظر العقلاء لترك
التقييد مع دخله في الغرض انما يكون عذرا للمتكلم في ترك البيان والتقييد من
دون أن يمنع من انعقاد ظهور المطلق في الاطلاق، الذي هو حجة للمتكلم
وعليه، كما هو محل الكلام.
وان شئت قلت: اقتصار المتكلم في شرح مراده على بيان الماهية ونسبة
الحكم إليها ظاهر في وفائها بغرضه، من دون فرق بين الخصوصيات المقارنة
لافرادها وأحوالها، بنحو يصح أن يعتمد عليه وان لم تف بغرضه واقعا لاعتبار
بعض القيود فيه مما كان له عذر عقلائي في ترك بيانه.
ومن هنا يتعين على المتكلم الحكيم تجنب البيان بالنحو المذكور الظاهر
في الاطلاق، لئلا يكون مفوتا لغرضه، اما بتركه البيان رأسا، أو بإحاطته بما يمنع
47

من ظهوره في الاطلاق، أو بغير ذلك مما تقدم.
فلو فرض وجود الملزم العقلائي له بالبيان بالنحو الظاهر في الاطلاق،
على خلاف غرضه، كان عذرا له من دون أن يخل بظهور كلامه، ويكون الظهور
حجة ما لم يبتل بما يسقطه عن الحجية.
وأما ما ذكروه من أن منشأ ظهور المطلق في إرادة الاطلاق لزوم الاخلال
بالحكمة في ترك التقييد مع ارادته. فالجمود على ظاهره مستلزم لما تقدم مما
عرفت تعذر الالتزام به.
ولا يبعد أن يراد به أن تعلق الغرض بالمقيد لما كان مقتضيا لبيانه بأي
صورة - من الحكيم لولا المانع كان ذلك قرينة عامة بنظر العقلاء يصح الركون
إليها في معرفة مراد المتكلم موجبة لظهور اقتصاره على بيان الماهية ونسبة
الحكم إليها في عدم دخل أي قيد يحتمل، وإرادة الاطلاق، ولا يعتنى باحتمال
استناد عدم التقييد للجهات المانعة في ظهور كلامه المذكور وحجيته.
فمحذور الاخلال بالحكمة جهة ارتكازية لاحظها العقلاء وأهل اللسان
بلحاظ المقتضيات الأولية، فكانت عندهم قرينة عامة موجبة لظهور المطلق في
الاطلاق، وليست علة شخصية فعلية بلحاظ تمام الجهات يدور انعقاد الظهور
مدارها.
ولذا لا اشكال في انعقاد الظهور المذكور حتى مع احتمال عدم حكمة
المتكلم، وعدم تقيده باستيفاء مراده ببيانه، أو العلم بذلك، كما يصح الاحتجاج
له وعليه بظاهر الكلام المستند لقرينة الحكمة النوعية وان احتمل خروجه في
بيانه عليها، لعدم حكمته.
هذا كله بناء على ما هو الظاهر من أنه يكفي في الاطلاق عدم أخذ القيد
في موضوع الحكم أو متعلقه، فهو أمر عدمي مقارن للبيان، والتقابل بينه وبين
التقييد تقابل العدم والملكة، كما سبق في مبحث التعبدي والتوصلي الإشارة
48

إليه.
أما بناء على أنه عبارة عن رفض القيود، وأنه أمر وجودي مقابل للتقييد
تقابل الضدين، فقد يدعى توقفه على امكان لحاظ القيد في مرتبة جعل الحكم،
لان رفضه فرع لحاظه، كما قد ينزل عليه ما في التقريرات.
لكنه يندفع.. أولا: بضعف المبنى المذكور، لوضوح أنه يكفي في
الاطلاق ثبوتا ادراك الحاكم وفاء الماهية بالغرض المقتضى لجعل الحكم أو
اناطته بها بلا حاجة إلى مؤنة رفض القيود، ومع عدم توقف الاطلاق في مقام
الثبوت على رفضها لا موجب لتوقف الاطلاق في مقام الاثبات عليه، فضلا عن
توقفه على احرازه.
وثانيا: بأن المراد من رفض القيود ليس الا رفضها اجمالا، الراجع إلى
لحاظ تجرد الماهية في موضوعيتها للحكم ووفائها بالغرض وحدها من دون
حاجة إلى انضمام أمر آخر إليها بلا ملاحظة للقيود بمشخصاتها وخصوصياتها
تفصيلا، لما هو المعلوم من عدم إحاطة الموالى العرفيين بتمام القيود الفرضية،
لعدم تناهيها، بل قد يعلم بغفلتهم عن بعض القيود تفصيلا لعدم الابتلاء به أو
لعدم مناسبته للحكم، أو لغير ذلك، ومع ذلك يبنى على انعقاد الظهور
لاطلاقاتهم بلحاظ كل قيد يفرض، وان علم غفلتهم عنه حين الخطاب اجمالا
أو تفصيلا، وحينئذ لا يخل بالاطلاق تعذر لحاظ القيد بخصوصيته، لتأخره عن
الحكم رتبة وتفرعه عليه، لكفاية رفضه في جملة القيود الملحوظة اجمالا.
والمتحصل من جميع ما تقدم عدم توقف الاطلاق ثبوتا ولا اثباتا الذي
هو محل الكلام هنا - على امكان التقييد ذاتا، فضلا عن امكانه بلحاظ الجهات
العرضية أيضا. فلا مجال لعد ذلك من مقدمات الحكمة التي يتوقف عليها
انعقاد الظهور في الاطلاق.
ويتضح ما ذكرنا بأدنى ملاحظة لسيرة أهل اللسان ومرتكزاتهم، حيث
49

يستفيدون بطبعهم العموم بلحاظ القيود المذكورة من الاطلاق من دون التفات
لهذه الخصوصيات.
ولذا بنى من منع من الاطلاق في الفرض على نتيجته، فأصر في
التقريرات على ظهور الامر في التوصلية، كما أصر بعض الأعاظم; على
استفادتها بمتمم الجعل، وغيره على وفاء الاطلاق المقامي بها، من دون أن
يتضح وجه تقريبها في كلماتهم بعد فرض عدم انعقاد الاطلاق اللفظي.
بل الظاهر عدم الاشكال في عدم تماميتها لو صرح في الخطاب بثبوت
الحكم بنحو القضية المهملة الصالحة للاطلاق والتقييد، مع أن مرجع انكار
الاطلاق اللفظي إلى ذلك. وقد تعرضنا لذلك في الجملة في مبحث التعبدي
والتوصلي فراجع.
الثانية: عدم وجود البيان على التقييد، سواء كان بلسان الحصر وثبوت
نقيض الحكم لفاقد القيد، كالقيود ذات المفهوم، مثل الشرط والاستثناء، أم
بلسان اخر لا يقتضى الا قصور شخص الحكم عن الفاقد للقيد، كالوصف
والظرف.
ولا اشكال في اعتبار هذه المقدمة ومانعية البيان من الظهور في الاطلاق،
وانما الاشكال في أنها تعم البيان المنفصل بحيث يكون وروده رافعا لموضوع
الاطلاق ومانعا من تمامية مقتضى الظهور فيه، أو تختص بالمتصل، فلا يكون
العثور على المنفصل مانعا من تمامية مقتضى الظهور الاطلاقي، بل يكون منافيا
له، كسائر الظهورات المتنافية التي يعالج تنافيها بالجمع العرفي المبتنى على
تنزيل أضعف الظهورين على أقواهما.
صرح في التقريرات بالأول، قال في بيان ما يتوقف عليه الاطلاق: (انه
موقوف على أمرين أحدهما: انتفاء ما يوجب التقييد داخلا وخارجا... فلو دل
دليل على التقييد لا وجه للاخذ بالاطلاق، لارتفاع مقتضى الاطلاق، لا لوجود
50

المانع عنه، وان كان الدليل الدال على التقييد أيضا مما يحتمل فيه التصرف
بحمل الوارد فيه على الاستحباب، الا أن أصالة الحقيقة يكفي في رفع ذلك
الاحتمال، ولا تعارض بأصالة الحقيقة في المطلق، لعدم لزوم مجاز فيه، وانما
حمل على الاطلاق والإشاعة بواسطة عدم الدليل. فالاطلاق حينئذ بمنزلة
الأصول العملية في قبال الدليل، وان كان معدودا في عداد الأدلة دون الأصول،
فكأنه برزخ بينهما). ويظهر من بعض الأعاظم; في مبحث التعارض الجري
على ذلك.
لكن التأمل في المرتكزات الاستعمالية قاض بعدم تمامية ما ذكره، وأن
مقتضى الظهور في الاطلاق لا يرتفع بورود البيان المنفصل، بل هو من سنخ
المعارض للاطلاق مع تمامية مقتضى ظهوره بمجرد عدم البيان المتصل، وأن
الاطلاق كسائر الظهورات الكلامية التابعة لفراغ المتكلم عن كلامه، لابتناء
طريقة أهل اللسان على أن للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء، وظهور كلامه تابع
لفراغه منه ومتحصل من مجموعه، وبهذا يفترق البيان المتصل عن المنفصل في
مانعية الأول من الظهور الاطلاقي، دون الثاني، بل هو مناف له.
ولذا كان احتفاف الكلام بما يصلح للبيان والقرينية على التقييد من دون
أن يكون ظاهرا فيه مانعا من انعقاد ظهوره في - الاطلاق على ما يأتي في المقدمة
الثالثة إن شاء الله تعالى - مع عدم الاشكال في عدم مانعية البيان المنفصل بالنحو
المذكور من حجية الظهور في الاطلاق، فضلا عن انعقاده.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم; من خروج الشارع الأقدس عن طريقة
العقلاء وأهل اللسان في البيان لاعتماده على القرائن المنفصلة فهو مع عدم
اختصاص الاطلاق به، بل يجرى في الظهورات الوضعية أيضا غير تام في
نفسه، على ما يأتي في مبحث التعارض عند الكلام في الجمع العرفي.
وعلى ذلك يلزم النظر في وجوه الترجيح بين الظهور الاطلاقي والبيان
51

المنفصل من دون أن يكون الثاني رافعا لموضوع الأول، كما هو الحال في سائر
موارد تعارض الظهورين.
ومجرد عدم لزوم المجاز من التصرف في المطلق ولزومه من التصرف
في البيان المنفصل - مع عدم تماميته في التصرف بالحمل على الاستحباب
المفروض في كلامه المتقدم، على ما تقدم في بحث الأوامر لا يصلح لترجيح
ظهور البيان المنفصل، فضلا عن كونه رافعا لموضوع الظهور الاطلاقي، لان
الرجوع لأصالة الحقيقة بملاك الرجوع لأصالة الظهور، ولذا يختص بما إذا كان
المعنى الحقيقي هو الظاهر، فمع فرض تمامية ظهور الاطلاق وعدم ارتفاع
موضوعه يشتركان في تحقق ملاك الحجية، ويبقى الترجيح منوطا بأقوائية أحد
الظهورين، الذي هو المعيار في الجمع العرفي بين الظهورات المتنافية، على ما
ذكرناه في مبحث التعارض.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم; هنا من أن البيان المنفصل وان لم يمنع من
الدلالة التصديقية للكلام، بمعنى انعقاد الظهور في ما قاله المتكلم، بحيث يكون
قابلا للنقل بالمعنى، كما يمنع منه البيان المتصل، الا أنه يمنع من الدلالة
التصديقية على مراد المتكلم الواقعي.
فهو مسلم في الجملة، الا أنه لا يصلح وجها لعد عدم البيان المنفصل من
مقدمات الحكمة التي يبتنى عليها الاطلاق، لما هو المعلوم من أن الظهور
الاطلاقي الذي هو محل الكلام هو الدلالة التصديقية الأولى، التي هي الموضوع
للدلالة التصديقية الثانية الراجعة إلى الحكم بحجية الظهور على مراد المتكلم.
وانما ينهض البيان المنفصل بالمنع من حجيته إذا كان قرينة عرفا على
شرح المراد من الاطلاق لأقوائيته منه ظهورا، كما هو الحال في رافعيته لحجية
سائر الظهورات المستقرة التابعة للوضع أو القرائن العامة أو الخاصة.
فلو كان ذلك كافيا في عد عدم البيان المنفصل من مقدمات الاطلاق لزم
52

عده مقدمة لسائر الظهورات، حتى الوضعية، ولم يعهد ذلك منهم.
ومن ثم كان كلامه قدس سره مضطربا، بل لا يتناسب مع ما ذكره في مبحث
التعارض، وان كان الظاهر منه هناك التحويل على ما ذكره هنا.
الثالثة: عدم وجود القدر المتيقن في مقام المتخاطب، فلو وجد لا مجال
للبناء على الاطلاق، بل يقتصر على القدر المتيقن، كما ذكره المحقق
الخراساني قدس سره.
وتوضيح الكلام في ذلك: أن أفراد المطلق أو أحواله..
تارة: تتساوى في احتمال شمول الحكم لها، من دون مرجح لبعضها على
الاخر، لا بلحاظ مقام الخطاب، ولا بلحاظ مقام آخر.
وأخرى: لا تتساوى فيه، بل يكون شمول الحكم لبعضها أظهر من شموله
للاخر.
اما بلحاظ أمر خارج عن الخطاب لا يكون من القرائن المحيطة به عرفا،
كما لو كان الحكم تعبديا لا مناسبة ارتكازية بينه وبين الموضوع، ثم علم من
الخارج وجه المناسبة بينهما، وكان ذلك الوجه في بعض الأحوال أو الافراد
أظهر منه في غيرها، أو ثبت بدليل آخر ورود الحكم على بعض الافراد أو
الأحوال، ولم يثبت في غيرها، أو نحو ذلك.
واما بلحاظ مقام الخطاب وما يحيط به من قرائن عرفية حالية، كما لو
كانت المناسبة ارتكازية ينسبق إليها الذهن من الخطاب بالحكم، وكانت في
بعض الافراد أو الأحوال أظهر منها في الاخر، أو مقالية، كما لو كان بعض الافراد
أو الأحوال موردا للاطلاق، أو وقع التمثيل به من المتكلم، أو نحوهما. والجمود
على عبارة المحقق الخراساني قدس سره يناسب إرادة هذا القسم.
ومرجع استدلاله عليه إلى أن المفروض من حال المتكلم بمقتضى
المقدمة الآتية - أنه في مقام بيان تمام مراده، فمع عدم وجود المتيقن مطلقا لو لم
53

يكن في مقام بيان إرادة تمام الافراد أو الأحوال بالاطلاق بلحاظ صلوحه لإرادة
كل منها، بل كان مريدا بعضها، كان مخلا بغرضه، لعدم صلوح الاطلاق لبيان
إرادة خصوص ذلك البعض بعد فرض تساوى الافراد بالإضافة إليها وحيثية
صلوحه لها مشتركة بينها.
وكذا لو كان هناك متيقن لا بلحاظ مقام التخاطب، لفرض أن المتكلم في
مقام بيان تمام مراده بخطابه، لا مطلقا ولو بطريق آخر، والمفروض عدم صلوح
الخطاب لإرادة خصوص ذلك المتيقن.
بخلاف ما لو كان هناك متيقن في مقام التخاطب، حيث يكون الاطلاق
صالحا لبيانه بخصوصه بعد فرض ترجحه على بقية الافراد، فلا يكون مخلا
بغرضه لو أراده بخصوصه، ولا مجال مع ذلك لاحراز إرادة غيره بالاطلاق.
وهذا الوجه انما يتجه لو كان المراد بكون المتكلم في مقام بيان تمام
مراده - الذي يأتي في المقدمة الرابعة كونه في مقام بيان تمام الافراد والأحوال
التي يشملها حكمه، بحيث لو قصر بيانه عن بعضها كان مخلا بغرضه، إذ عليه
يكون وجود المتيقن في مقام التخاطب مستلزما لصلوح الاطلاق لان يكون بيانا
لتمام المراد لو كان المراد مختصا به.
لكن الظاهر عدم ارادتهم به ذلك..
أولا: لعدم الطريق لاحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده بالمعنى
المذكور في غالب الاطلاقات، إذ غاية ما يقتضيه الأصل في حال المتكلم أنه
بصدد كون ما بين مرادا له، لا أنه تمام مراده، بل هو محتاج لعناية خاصة،
كوروده في مقام التحديد ونحوه.
وثانيا: لان لازمه ثبوت المفهوم للاطلاق، فمثلا، إذ أحرز أن المتكلم في
مقام بيان تمام الافراد التي ثبت لها الحكم في قوله: أكرم العالم، لزم كون أفراد
العالم تمام من يجب اكرامه، ولا يثبت وجوب الاكرام لغيرها، مع أنه ليس
54

بناؤهم على ذلك في الاطلاقات.
ومنه يظهر أنه لو كان الوجه في استفادة العموم ما ذكره كفى في تصوير
المقدمة الآتية بكون المتكلم في مقام بيان مراد له وان لم يكن تمامه، مع أنهم
مطبقون على أخذ التمامية فيها.
وثالثا: لأنه بعد فرض عدم صلوح الاطلاق في نفسه لبيان العموم،
وصلوحه لإرادة كل فرد وحده، لعدم ظهوره في نفسه الا في الاهمال، فمجرد
كونه في مقام البيان بالنحو المذكور لا يتضح عرفا كونه مصححا على قرينية
الصلوح المذكورة في بيان إرادة تمام الافراد بالاطلاق.
ومن هنا يتعين حمل مرادهم من كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد
على ما تقتضيه أكثر كلماتهم، وهو كونه في مقام بيان تمام ما هو الدخيل
في الغرض وما يؤخذ في موضع الحكم، الذي كلما زاد كان موضوع الحكم
أضيق وافراده أقل، لا الاقتصار على بيان بعض ما يؤخذ فيه، فإذا كان موضوع
الحكم هو العالم العادل يكون بيان تمام المراد ببيان دخل العدالة زائدا على
العلم، ولا يكتفى ببيان دخل العلم الذي هو جزء الموضوع، إذ بناء عليه يكون
اقتصار المتكلم على بيان الماهية ظاهرا في كونها تمام الموضوع الذي يفي
بالغرض، المستلزم لثبوت الحكم لتمام أفرادها من دون فرق بين خصوصياتها،
لان اختصاص الحكم ببعضها مستلزم لدخل خصوصيتها في الموضوع
والغرض زائدا على الماهية.
وهذا المعنى قد يتيسر احرازه من المتكلم في جملة من الموارد على ما
يأتي في المقدمة الرابعة إن شاء الله تعالى.
كما أنه لا يستلزم ثبوت المفهوم للاطلاق، لان كون الماهية تمام
الموضوع للحكم بحيث لا يحتاج إلى انضمام شئ آخر إليها في ثبوته لا ينافي
كون ماهية أخرى موضوعا له أيضا، بأن يثبت الحكم لهما معا.
55

وحينئذ فوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يكفي في كون الكلام
بيانا لتمام المراد لو اختص المراد بالمتيقن المذكور، لان كون الكلام بيانا
لشمول الحكم للمتيقن المذكور لا يستلزم كونه بيانا لدخل خصوصيته في
الحكم، بل هو موقوف على ذكر ما يدل على التقييد بها، والمفروض عدمه، وأن
التقييد محتمل واقعا، لا مدلول للكلام.
ومن ثم لا يتم ما ذكره في وجه توقف الاطلاق على عدم وجود القدر
المتيقن في مقام التخاطب بالمعنى المتقدم.
بل لا مجال للبناء عليه بعد ملاحظة سيرة أهل الاستدلال للمرتكزات
الاستعمالية، ولذا اشتهر أن المورد لا يخصص الوارد، بل الظاهر المفروغية عن
عدم اختصاص الاطلاق بموارد التمثيل ولا بأظهر الافراد ونحوها مما يكون
متيقنا بلحاظ مقام التخاطب.
نعم، يتجه اعتبار عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لو أريد منه
ما يمنع من انعقاد ظهور المطلق في الاطلاق مما لا يبلغ مرتبة الظهور في
التقييد، كما في مورد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية عرفا من دون أن يتعين
لها، لما تقدم في المقدمة الثانية من أن للمتكلم ما دام مشغولا بكلامه أن يلحق به
ما شاء، وأن انعقاد ظهور كلامه تابع لتمام ما يشتمل عليه ويحيط به من قرائن
حالية ومقالية.
فوجود ما يصلح للقرينية بالوجه المذكور يمنع من انعقاد الظهور في
الاطلاق، كما يمنع من انعقاد سائر الظهورات الوضعية وغيرها.
ومرجعه إلى عدم بيان تمام المراد بالكلام، لعدم صلوحه له بسبب وجود
المتيقن بالمعنى المذكور، لا إلى بيانه به لو كان المراد خصوص المتيقن، كما
تقدم من المحقق الخراساني قدس سره.
ولذا يتعذر حمل كلامه عليه، ويتعين حمله على ما تقدم مما عرفت عدم
56

تماميته.
الرابعة: كون المتكلم في مقام البيان. من الظاهر أن الغرض من الكلام هو
البيان والإفادة للمقاصد، وعدم كون المتكلم في مقام البيان أصلا اما أن يكون
لخروجه عن مقتضى طبيعة الكلام، الذي هو خلاف الأصل فيه، أو لغفلته عن
صدور الكلام منه، التي يدفعها أصالة عدم الغفلة، المعول عليها في جميع
تصرفات الانسان وأفعاله. ومن هنا كان بناء العقلاء على كاشفية الكلام عن
مقاصد المتكلم وأغراضه.
الا أن ذلك بمجرده لا ينفع في محل الكلام، لوضوح أنه انما يقتضى كونه
بصدد إفادته لمؤداه الذي يصلح لبيانه ويكون قالبا له، دون غيره مما يخالفه أو
يزيد عليه، وحيث فرض في محل الكلام أن مفاد المطلق وضعا ليس الا
القضية المهملة فاستفادة العموم منها يحتاج إلى مزيد عناية، ولا يكفي فيها
احراز كون المتكلم في مقام البيان بالوجه المتقدم.
ومنه يظهر ضعف ما ذكره بعض المعاصرين رحمة الله في أصوله في تقريب
أصالة كون المتكلم في مقام البيان بالنحو الذي ينفع في التمسك بالاطلاق ورفع
احتمال كون القضية مهملة، قال: (ولو شك في أن المتكلم في مقام البيان أو
الاهمال فان الأصل العقلائي يقتضى بأن يكون في مقام البيان، فان العقلاء كما
يحملون المتكلم على أنه ملتفت غير غافل، وجاد غير هازل، عند الشك في
ذلك، كذلك يحملونه على أنه في مقام البيان والتفهيم، لا في مقام الاهمال
والايهام).
إذ فيه: أن الاهمال إذا لم يكن منافيا لمفاد الكلام، بل الكلام صالح له
بمقتضى وضعه وطبعه، فلا وجه لجعله في سياق الايهام الذي هو خلاف طبع
الكلام بالتقريب المتقدم. الا أن يريد بالاهمال ما يساوق الايهام، لا مفاد القضية
المهملة. لكن نفيه لا يستلزم إرادة العموم بوجه.
57

وبالجملة: لا مجال لارجاع البيان في المقام إلى البيان الذي يقتضيه طبع
الكلام، والذي لا اشكال في أنه مقتضى الأصل عند العقلاء، كما يظهر من الكلام
المتقدم وقد تشعر به بعض كلماتهم الاخر.
ومن هنا كان مرادهم من هذه المقدمة أن يكون المتكلم في مقام بيان تمام
ما يكون دخيلا في موضوع الحكم وترتب الغرض، لا بمعنى ما ينحصر
الموضوع به ويتوقف الغرض عليه، ليستلزم المفهوم، بل بمعنى ما يتم به
الموضوع ويتحصل به الغرض - في مقابل ما يحتاج تمامية الموضوع وتحقق
الغرض به إلى انضمام غيره إليه - وان أمكن تحقق الموضوع بغيره، كما ذكرناه
في المقدمة الثالثة.
وحينئذ فاقتصار المتكلم على بيان الماهية لا يرجع إلى مجرد دخلها
في الموضوع والغرض وحصولهما معها في الجملة ولو بانضمام غيرها من
القيود إليها، كما هو لازم القضية المهملة، بل إلى بيان كونها تمام ما هو الدخيل
فيه المستلزم لعموم الحكم وثبوته لتمام أفرادها وفى جميع أحوالها.
وحيث كان ذلك زائدا على مفاد الاطلاق وضعا - بناء على من سبق - فقد
وقع الكلام في وجه البناء عليه.
وقد ذكر أو يذكر لذلك وجوه..
الأول: ما في التقريرات، قال: (وهل هناك أصل يرجع إليه عند الشك في
ورود المطلق في مقام البيان؟ قد يقال: ان أغلب موارد استعمال المطلقات انما
هو ذلك، فعند الشك يحمل عليه. وليس بذلك البعيد. فتأمل).
وفيه: أن الغلبة مع عدم الدليل على حجيتها - غير ظاهرة، إذ لا قرينة في
أكثر المطلقات على ذلك، وغاية ما ثبت ببناء العرف جواز التمسك بها والرجوع
إليها في استفادة العموم كما سيأتي فلو كان التمسك بها عندهم
مبنيا على هذه المقدمة كشف عن بنائهم على هذه المقدمة بمقتضى الأصل، لا
58

عن غلبة وجودها.
الثاني: بناء العقلاء على أصالة كون المتكلم في مقام البيان بالنحو
المذكور، لما ذكره بعض المحققين قدس سره من أن العقلاء كما يحكمون بمطابقة مراد
المولى الجدي لاستعماله، وعدم ارادته خلافه، كذلك يحكمون بأنه إذا كان له
مراد جدي يكون بصدد بيانه، وكونه بصدد اظهار أمر آخر يحتاج إلى التنبيه،
وحيث كان المراد له غير مهمل بل اما مطلق أو مقيد، فمع فرض عدم التقييد
يتعين كونه هو المطلق، ولا يبنى على الاهمال.
وفيه: أن مخالفة المراد الجدي للاستعمال لما كانت على خلاف مقتضى
الطبع حسب ما أودعه الله سبحانه من غريزة البيان وجعله يدركه من وظيفة
الكلام، توجه دعوى بناء العقلاء على أصالة عدمها.
أما القضية المهملة فليست مخالفة للمراد الجدي، سواء كان هو الاطلاق
أم التقييد، بل مفادها جزؤه الأعم المشترك بين الامرين، فالحمل عليها بعد
كونها المفاد الوضعي للكلام - لا يخالف مقتضى طبع الاستعمال. غاية ما يلزم
منه كون المبين بعض المراد، وليس هو مخالفا للأصل، إذ كما كان للمتكلم أن لا
يبين شيئا من مراده له أن يقتصر على بيان بعضه، ولم يتضح بناء العقلاء على أنه
لو تصدى لبيان مراده في الجملة لزمه استيعابه بالبيان.
ولذا لو سيق غير الاطلاق لبيان دخل شئ في الحكم واحتمل دخل غيره
معه فلا يظن من أحد البناء على عدم دخل غيره للأصل المدعى، فلو قيل:
يتوقف وجوب الحج على ملك الزاد والراحلة، لا يستفاد منه عدم توقفه على
غيره، ولو قيل: لا صلاة الا بطهور، لم يستفد عدم دخل غير الطهارة في الصلاة
وخصوصية الاطلاق في الأصل المذكور عين المدعى.
الثالث: بناء العقلاء على أن الأصل في الكلام أن يترتب عليه العمل، لان
الغرض من الكلام هو بيان المقاصد مقدمة لاستيفائها بالعمل، ومن الظاهر أن
59

القضية المهملة غير صالحة لان يترتب عليها العمل، وكذا بيان جزء الموضوع
الدخيل في الغرض، وانما يترتب العمل مع بيان تمام الموضوع وتمام ما هو
الدخيل في الغرض، وهو لا يكون الا بحمل القضية على الكلية الذي هو
المدعى.
وفيه.. أولا: أنه لو كان ذلك هو الوجه في بالبناء على كون المتكلم في
مقام البيان لزم عدم حمل الاطلاق على العموم في القضايا التي لا يترتب عليها
العمل أو يعلم بعدم كون المقصود من بيانها ترتبه، بل مجرد الاعلام بمضمونها،
كالاخبار التاريخية والقضايا العملية والواقعية الصرفة، كقولنا: أسلم من في
المدينة المنورة قبل الفتح، ويتبخر الماء إذا كانت حرارته بدرجة كذا، وتكثر
الأمطار في الشتاء، ونحوها، مع أن الظاهر عدم الفرق في ظهور المطلق في
العموم بين أقسام القضايا.
كما يلزم عدم حمل الاطلاق على العموم في القضايا التي يقصد من
بيانها العمل مع وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب - بالمعنى الذي تقدم
ظهور كلام المحقق الخراساني قدس سره فيه كالمورد والتمثيل ونحوهما من القرائن
المتصلة الكاشفة عن إرادة بعض أفراد المطلق أو أحواله، لان عدم حمل المطلق
معه على السريان في تمام الافراد والأحوال لا يستلزم عدم صلوحه لترتب
العمل عليه، إذ يكفي ترتبه في مورد القدر المتيقن، وإرادة ما زاد عليه تحتاج إلى
قرينة أخرى.
وقد سبق أنه لا مجال لذلك، حيث لم يعهد منهم التوقف عن حمل
المطلق على العموم لوجود القدر المتيقن المذكور.
وثانيا: أن كون الغرض من الكلام هو بيان المقاصد مقدمة لاستيفائها
بالعمل ليس بنحو يمنع عرفا من الحمل على القضية المهملة - المتكلفة ببيان
دخل شئ في الموضوع في الجملة - إذا كان هو مقتضى الكلام وضعا، إذ كثيرا
60

ما يكون غرض المتكلم مقصورا على ذلك، اما لعدم كون غرضه من البيان
ترتب العمل عليه، بل مجرد الاعلام بالمضمون اكتفاء ببيان آخر يكفي في
ترتب العمل، أو لعدم احاطته حين الخطاب بخصوصيات ما هو الدخيل في
الغرض - كما في الموالى العرفيين الذين يمكن في حقهم الجهل أو لتعلق
الغرض بتأخير بيان الخصوصيات لوقت آخر، أو لغير ذلك مما لا يكون الغرض
معه من البيان استقلاله بترتب العمل عليه، ولم يتضح بناء العرف وأهل اللسان
على عدم الاعتناء بالاحتمالات المذكورة، بنحو يكون الأصل عندهم كون
المتكلم في مقام البيان الذي يستقل بترتب العمل عليه، المستلزم لكونه في مقام
بيان تمام ما هو الدخيل في الغرض والموضوع، فيلزمه حمل الاطلاق على
القضية الكلية.
ولذا لا اشكال في عدم بنائهم على ذلك في غير الاطلاق مما يتضمن
دخل شئ في موضوع الحكم والغرض في الجملة، كما لو قيل: يتوقف
وجوب الحج على ملك الزاد والراحلة، نظير ما تقدم في رد الوجه السابق.
نعم قد يحتف بالكلام ما يدل على سوقه للبيان الذي يترتب عليه العمل
فعلا، فيتعين وروده لبيان تمام ما هو الدخيل في الموضوع والغرض، وحمله
على القضية الكلية دون المهملة. كما لو ورد الخطاب بالاطلاق أو غيره مما يدل
على دخل شئ في موضوع الحكم عند طلب المكلف من المولى بيان ما يعمل
عليه حال فراقه له وعدم توقعه بيانا آخر منه، أو نحو ذلك. لكن من الظاهر أن
حمل الاطلاق على العموم لا يختص بالمورد المذكور.
الرابع: بناء العقلاء على أصالة كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد في
خصوص الاطلاق.
وقد استشهد له غير واحد ببناء العرف في محاوراتهم على التمسك
بالاطلاقات ما لم يفهم من مساق الكلام صدوره في مقام بيان أصل التشريع من
61

دون نظر لبيان ما هو المشروع نظير قول الطبيب للمريض: لابد لك من استعمال
الدواء، أو في مقام البيان من خصوص بعض الجهات، كقوله تعالى: (فكلوا مما
أمسكن عليكم) (1)، حيث ينصرف إلى بيان تحقق الذكاة بالصيد وحلية الاكل
من حيثيتها، لا من جميع الجهات بحيث لا يجب تطهير محل الامساك، ولا
يفرق بين أقسام الحيوان المصيد، وغير ذلك مما لا يرجع للتذكية.
وفيه: أن السيرة المذكورة لا تكشف عن أن الأصل عندهم كون المتكلم
في مقام البيان الا إذا ثبت توقف التمسك بالاطلاق عندهم على احراز كون
المتكلم في ذلك المقام، نظير توقفه على عدم التقييد المتصل، حيث يكشف
بناؤهم على التمسك بالاطلاق مع الشك في القرينة على التقييد عن بنائهم على
أصالة عدم القرينة. لكن بناءهم على توقف التمسك بالاطلاق عندهم على
احراز كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد غير ثابت، بل قد يكون مبنيا على
وجه آخر، ومجرد صحة التمسك به مع احراز كون المتكلم في المقام المذكور
أعم منه، لامكان صحته مع عدم احرازه أيضا للوجه الاخر.
ومن هنا لا يبعد عدم ابتناء التمسك بالاطلاق على المقدمة المذكورة، بل
هو مبتن على أن الاهمال كالتقييد خلاف الأصل لا يحمل عليه المطلق عرفا الا
بدليل.
فان ما تقدم من صحة إرادة المهملة من الاطلاق وان كان تاما، الا أن
مصححه لما كان هو الرجوع لطريقة أهل اللسان وسيرة أهل المحاورة، فاللازم
النظر في كيفية سيرتهم، وحيث تقدم أن بناءهم على التمسك بالاطلاق وحمله
على العموم، لظهوره فيه، ما لم يحتف بما يقتضى صدوره لبيان أصل التشريع
من دون نظر لخصوصياته أو في مقام البيان من خصوص بعض الجهات، تعين

(1) سورة المائدة: 4.
62

متابعتهم في ذلك من دون حاجة إلى دعوى ابتنائه على احراز كونه في مقام
البيان من جميع الجهات وبيان تمام المراد، ثم النظر في وجه احراز ذلك
والتشبث له بما لا ينهض به.
بل التأمل في المرتكزات العرفية الاستعمالية قاض بأن ورود المطلق في
مقام البيان بالنحو المذكور مقتضى ظهوره في العموم والسريان وتابع له، كالعام
الوضعي، لا من مقدمات الظهور في العموم التي يلزم احرازها في رتبة سابقة
على الظهور فيه من دون أن تستفاد منه، نظير عدم وجود القيد المتصل الذي هو
مقتضى أصالة عدم القرينة من دون أن يستفاد من نفس الكلام.
ولذا لو ثبت من الخارج عدم كون المتكلم في مقام البيان من دون قرينة
على ذلك محتف بها الكلام لم ينكشف عدم ظهور المطلق في السريان، بل
الظهور باق وان سقط عن الحجية.
بخلاف ما لو ثبت احتفافه بقرينة متصلة حالية أو مقالية دالة على التقييد،
حيث ينكشف بذلك عدم الظهور في السريان، وكذب أصالة عدم القرينة، لا أن
الظهور باق وان سقط عن الحجية.
والذي تحصل من جميع ما تقدم: أن حمل الاطلاق على العموم وظهوره
فيه لا يتوقف الا على مقدمات ثلاث..
الأولى: عدم اشتماله على التقييد المتصل.
الثانية: عدم احتفافه بما يصلح للقرينة على التقييد، وان لم يكن ظاهرا
فيه عرفا، بل يكون موجبا لاجماله. ويكفي في احرازهما في فرض الشك
أصالة عدم القرينة المعول عليها عند أهل اللسان في جميع الموارد من دون
خصوصية للاطلاق.
الثالثة: عدم احتفافه بما يناسب وروده في مقام البيان من خصوص
بعض الجهات غير الجهة التي يراد التمسك بالاطلاق من حيثيتها، والا تعين
63

الاهمال من تلك الجهة.
وأما ما عدا ذلك مما عد من مقدمات الاطلاق فليس دخيلا فيه.
كما ظهر مما سبق في المقدمة الأولى أن ما ذكروه من ابتناء اقتضاء
مقدمات الاطلاق العموم على قرينة الحكمة حتى سميت بمقدمات الحكمة
ليس بلحاظ منافاة عدم إرادة العموم معها للحكمة فعلا، بل بلحاظ خصوص
المقتضيات الأولية بحسب طبع الكلام.
ومما ذكرنا يظهر حال الانصراف إلى خصوص بعض الافراد الذي كثيرا
ما يذكرون مانعيته من التمسك بالاطلاق، فإنه انما يمنع منه إذا كان مانعا من
تمامية إحدى المقدمتين الأوليين، اما لكونه عرفا بمنزلة القرينة الحالية الظاهرة
في التقييد، أو لكونه صالحا للقرينية عليه وان لم يكن ظاهرا فيه، بل يكون
موجبا للاجمال. سواء كان ناشئا من كثرة الاستعمال أم غيرها، كمناسبة الحكم
والموضوع.
أما لو لم يكن بأحد النحوين المذكورين فهو بدوي لا يعتد به في رفع
اليد عن الاطلاق، كالناشئ من كثرة الابتلاء بالفرد أو من كونه أظهر الافراد أو
نحوهما.
وأما كثرة الاستعمال في بعض الافراد الموجبة للاشتراك أو ما يقاربه
بنحو يكون كالمجاز المشهور فهي موجبة لاجمال لفظ المطلق وتردده بين
الماهية الواسعة والضيقة، فيلزم الاقتصار على المتيقن.
وليس ذلك من الانصراف في شئ، لأنه عبارة عن قصور ظهور دليل
الحكم عن بعض أفراد الموضوع، والمفروض في محل الكلام عدم احراز
عموم مفهوم الموضوع بما هو معنى افرادي مع قطع النظر عن الحكم، كسائر
موارد اجمال مفردات الكلام.
64

الفصل الثالث
في العام المخصص
ذكرنا في مباحث التعارض أنه مع تنافى الدليلين بدوا لو كان أحدهما
أظهر من الاخر تعين العمل بالأظهر وتنزيل الاخر عليه من باب الجمع العرفي.
وعلى هذا يبتنى تقديم الخاص على العام مع التنافي بينهما، لان الخاص
أظهر في مورده من العام، على كلام تعرضنا له هناك.
ومحل الكلام في المقام العام والخاص المتنافيان بعد الفراغ عما ذكرنا
من تقديم الخاص في مورده على العام بنحو يمنع من البناء على عمومه له،
ولذا كان عنوان البحث العام المخصص.
نعم، محل كلامهم يعم ما إذا كان المخصص متصلا، كالوصف
والاستثناء، ولا يختص بما إذا كان منفصلا ليكون من موارد الجمع العرفي الذي
أشرنا إليه بسبب تنافى الدليلين.
إذا عرفت هذا، فالمعروف عدم سقوط العام عن الحجية رأسا
بالتخصيص، بل يبقى حجة في الباقي غير مورد التخصيص قال في الفصول:
(كما عزى إلى أصحابنا، وعليه المحققون من مخالفينا)،
وفى المعالم: (ولا أعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا. نعم، يوجد في
كلام بعض المتأخرين ما يشعر بالرغبة عنه).
وعن بعضهم أنه أنكر حجيته مطلقا، أو مع تفصيلات لا مجال
لاستقصائها، والمهم منها التفصيل بين ما إذا كان المخصص متصلا وما إذا كان
65

منفصلا، فالعام في الأول حجة في الباقي، دون الثاني.
وقد احتج منكر الحجية في الباقي مطلقا أو مع التفصيل..
تارة: بأن اللفظ حقيقة في العموم، وهو غير مراد منه بقرينة التخصيص،
وما دونه من المراتب مجازات، واللفظ صالح لكل منها، ولا قرينة على تعيين
اللفظ المستعمل فيه، فيبقى اللفظ مجملا.
وأخرى: بأن العام بعد التخصيص غير ظاهر في الباقي، وما لا يكون
الكلام ظاهرا فيه لا يكون حجة فيه.
هذا، وقد تقدم في أول الفصل السابق أن التخصيص المتصل نحو نسبة
تقتضي قصور الحكم عن مورد التخصيص، من دون أن تستلزم استعمال العام
الوضعي أو الاطلاقي في غير المعنى الموضوع له، ليلزم المجاز فيه.
على أنه لو فرض لزوم المجاز فلا اشكال في ظهور العام في إرادة تمام
الباقي بعد التخصيص، وهو كاف في الحجية، بل المدار عليه لا على الحقيقة.
ولذا لم يقع الكلام في دلالة القضايا ذات القيود الخاصة كالاستثناء
والتوصيف وغيرهما على المنطوق، ولا في حجيتها فيه، وانما وقع الكلام في
دلالتها على المفهوم. فتأمل.
وبالجملة: لا اشكال في أن ثبوت الحكم لتمام ما عدا مورد التخصيص
مقتضى الظهور الحجة، وضعيا كان أو اطلاقيا أو عرفيا.
هذا، والظاهر عموم ذلك لما إذا كان التخصيص بقرينة حالية غير لفظية،
قد احتف بها الكلام بسب ظهورها حين صدوره، بنحو يصلح للمتكلم الاعتماد
عليها في البيان، فان العام معها ظاهر في إرادة الباقي بلا اشكال.
غاية الامر أن الاستعمال معها..
تارة: يبتنى على حذف التخصيص وتقديره اعتمادا على القرينة، الذي
هو كسائر موارد الحذف والتقدير ليس من المجاز في شئ.
66

وأخرى: يبتنى على التوسع في استعمال الكلام الدال في نفسه على
العموم، لتنزيل التخصيص منزلة العدم، فيلزم المجاز.
ولا أهمية لتشخيص موارد كل من القسمين بعد اشتراكهما فيما هو
المهم، وهو ظهور العام في إرادة الباقي، وحجية الظهور المذكور ومن هنا يلزم
صرف الكلام لما إذا كان المخصص منفصلا، فنقول:
العمدة في تقريب الاشكال فيه: أن العام في نفسه ظاهر في إرادة العموم،
وحيث كان الخاص منافيا لذلك، وفرض تقديمه على العام، فلابد من رفع اليد
به عن ظهور العام في إرادة العموم. ولا مجال مع ذلك لاحراز إرادة تمام الباقي
لا من العام بنفسه، لعدم ظهوره في نفسه الا في إرادة العموم بتمامه، دون تمام ما
عدا مورد التخصيص، ولا بضميمة دليل التخصيص، لأنه انما يتضمن عدم إرادة
مورده من العام، من دون أن يتضمن شرح المراد من العام.
نعم، لو فرض نظره للعام وشرحه للمراد منه تعين البناء على مفاده، كما
لو أمر المولى باكرام جيرانه، ونبه بعد ذلك على أنه أراد من عدا زيد منهم.
لكن الخاص يكون حاكما على العام حكومة بيانية، وهو خارج عن محل
الكلام.
ثم انه لا يهم مع ذلك تحقيق أن استعمال العام في مورد التخصيص
المنفصل حقيقي أو مجازي، إذ لو كان ظاهرا بنفسه أو بضميمة المخصص في
إرادة الباقي كان حجة وان كان مجازا، وان لم يكن ظاهرا فيه لم يكن حجة وان
كان حقيقة، لامكان إرادة ما دونه الذي هو حقيقة أيضا. وان كان ربما يتضح
الحال فيه من هذه الجهة تبعا للكلام في وجه الحجية الذي هو المهم في المقام.
هذا، وقد حاول غير واحد دفع الاشكال في حجية العام في الباقي، وما
ذكر في كلماتهم أو يمكن أن يذكر وجوه:
الأول: أن الاستعمال في ما دون العموم من المراتب وان كان مجازا الا أن
67

الترجيح لتمام الباقي بعد التخصيص، لأنه أقرب للعام مما دونه، فيتعين الحمل
عليه بعد تعذر الحمل على المعنى الحقيقي، وهو العموم.
وفيه: أنه لا اعتبار في الترجيح لبعض المجازات بالأقربية بحسب
المقدار، بل المعيار فيه الأقربية الذهنية عرفا، اما لتعارف الاستعمال فيه وكثرته
عند عدم إرادة الحقيقة، أو لقوة المناسبة بينه وبين المعنى الحقيقي، بحيث ينتقل
الذهن منه إليه، فمثلا إرادة خصوص المنافع من عموم العالم بلحاظ مناسبة
العلم للنفع أقرب عرفا من إرادة كل من عدا زيد منه، وان كان الثاني أكثر أفرادا
أو أقرب مقدارا للعام.
الثاني: ما في التقريرات من دعوى ظهور العام في تمام الباقي بعد
التخصيص، لان دلالة العام على أفراده انحلالية، فدلالته على كل فرد غير منوطة
بدلالته على بقية الافراد. وحينئذ فصرف دليل التخصيص للعام عن دلالته على
مورده لا ينافي ظهوره في غيره من افراده ودلالته عليه، فيلزم العمل به فيه بعد
فرض عدم الصارف عنه.
وفيه: أن دلالة العموم على حكم الافراد ليست انحلالية، بل ارتباطية، لان
العموم ان كان وضعيا فأداة العموم لها مدلول واحد، وهو العموم، وان كان
اطلاقيا فمقتضى مقدمات الحكمة كون الماهية تمام الموضوع، المستلزم لعموم
الحكم لتمام أفرادها. وتحليله في القسمين إلى حكم كل فرد فرد عقلي لا عرفي
يبتنى على استقلال كل منها في كونه مدلولا للكلام، بنحو يكون للكلام دلالات
متعددة، نظير تعدد المضامين تبعا لتعدد الكلام.
الا أن يرجع إلى ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من التفكيك بين الدلالات
الضمنية في الحجية.
بتقريب: أن العام وان كان له دلالة واحدة على حكم جميع الافراد بنحو
الارتباطية، الا أنها لا ترتفع بالمخصص بعد فرض كونه منفصلا.
68

غايته أن المخصص ينافي دلالة العام الضمنية على حكم مورد
التخصيص، فيلزم رفع اليد عنها بعد فرض تقديمه، ولا ملزم معه برفع اليد عن
بقية دلالاته الضمنية على حكم بقية الافراد، لان دلالات الكلام الواحد الضمنية
وان كانت ارتباطية حدوثا وارتفاعا، الا أنه لا ارتباطية بينها في الحجية.
بل هي أولى بعدم الارتباطية في الحجية من الدلالة الالتزامية بالإضافة
إلى الدلالة المطابقية، حيث تقرر عدم سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجية
بسقوط الدلالة المطابقية عنها، وان كانت تابعة لها ومتفرعة عليها ثبوتا، وليست
كالدلالات التضمنية التي ليس بينها الا مجرد التلازم من دون تفرع لبعضها على
بعض.
لكن الظاهر عدم تمامية ما ذكره قدس سره من عدم الارتباطية في الحجية بين
الدلالة الالتزامية والمطابقية، على ما ذكرناه في مبحث التعارض عند الكلام في
دلالة المتعارضين على نفى الثالث، بل سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية
بالمعارضة مستلزم لسقوط الدلالة الالتزامية عنها.
ونظيره المقام، الراجع إلى الارتباطية في الحجية بين الدلالة المطابقية
والتضمنية، لا بين الدلالات التضمنية فقط، لوضوح أن الخاص كما ينافي دلالة
العام التضمنية على ثبوت حكمه في مورد التخصيص ينافي دلالته المطابقية
على العموم، فلو بنى على بقائه حجة في دلالاته التضمنية على ثبوت حكمه في
بقية الافراد لزم التفكيك في الحجية بين الدلالة المطابقية والتضمنية، الذي هو
كالتفكيك بين الدلالة المطابقية والالتزامية، لا أهون منه.
ومنه يظهر عدم نهوض ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره بدفع الاشكال، فإنه ذكر
أن تخصيص العام بالمنفصل لا يستلزم مجازيته، لأنه انما يكشف عن أن المراد
بمدخول أداة العموم هو المقيد لا المطلق، وذلك لا يوجب المجاز، لا في الأداة،
ولا في المدخول.
69

أما الأداة فلأنها موضوعة لعموم ما يراد من المدخول، فإذا أريد منه
المقيد لم تقتض وضعا الا عموم أفراده.
وأما المدخول فلانه موضوع للماهية المهملة الصادقة مع الاطلاق
والتقييد، وانما تحمل على المطلقة بمقدمات الحكمة، وغاية ما يلزم من
التخصيص هو انكشاف عدم مطابقة مقتضى مقدمات الحكمة لمراد المتكلم،
وأن مراده الماهية المقيدة، وان أخل بذكر القيد غفلة أو لمصلحة في اهماله.
للاشكال فيه: بأنه لما كان مقتضى مقدمات الحكمة كون المطلق تمام
المراد من دون دخل أي قيد فيه، فمع قيام الدليل المنفصل على دخل قيد
خاص يكون منافيا لمقتضى المقدمات المذكورة، واثبات كون تمام الموضوع
هو خصوص واجد القيد الخاص بلا حاجة إلى انضمام قيد آخر مما لا ينهض
به الخاص، ولا العام الا بناء على التفكيك في الحجية بين الدلالة المطابقية
وهي الدلالة على كون المطلق تمام المراد والدلالة الالتزامية وهي الدلالة على
عدم دخل بقية القيود غير القيد الخاص فتبقى الثانية حجة مع سقوط الأولى،
لمنافاتها للخاص، وقد سبق المنع منه.
على أن ما ذكره من الوجه يبتنى على أن استفادة العموم لتمام أفراد
المدخول من الأدوات الموضوعة له يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في
المدخول، وقد سبق في المبحث الأول من الفصل السابق المنع منه
كما سبق هنا أن المهم تحقيق الظهور في إرادة الباقي، ولا يهم تحقيق أن
استعمال العام في مورد التخصيص حقيقي أو مجازي.
الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن العام في مورد التخصيص لا
يلزم استعماله في الخصوص، ليكون مجازا مرددا بين مراتب الخصوص، بل
يمكن استعماله في العموم من باب ضرب القاعدة مع كون الخاص مانعا من
حجية ظهوره تحكيما للنص أو الأظهر على الظاهر، لا مصادما لأصل ظهوره في
70

العموم، فيقتصر في الخروج عنه على مورد المزاحمة، وهو مورد التخصيص،
ويرجع إلى ظهوره في الباقي.
ودعوى: أن ذلك مجرد احتمال لا يرتفع به اجمال العام، لاحتمال عدم
استعماله في العموم بقرينة الخاص، بل في بعض مراتب الخصوص التي يلزم
بسبب عدم تعيينها الاجمال.
مدفوعة: بأن مجرد احتمال الخروج بالعام عما وضع له من العموم لا
يمنع من الرجوع لأصالة الحقيقة فيه بعد فرض استقرار ظهوره في العموم
المطابق لها، بل يتعين البناء عليه والاقتصار في الخروج عنه على مورد مزاحمته
بالخاص، هذا حاصل ما يستفاد من كلامه قدس سره.
ولا يخلو المراد به عن اجمال، لان القاعدة إذا كانت مجعولة حقيقة بنحو
العموم لبيان الحكم الواقعي امتنع مخالفتها بالتخصيص، الا أن يرجع إلى النسخ
الذي هو خلاف الفرض.
ومن هنا فقد يوجه ما ذكره بوجهين..
أحدهما: أن العام لم يرد لبيان الحكم الواقعي، بل الظاهري الذي يكون
قاعدة يرجع إليها عند الشك، فإنه كثيرا ما لا يتسنى بيان الحكم الواقعي بوجه
تفصيلي اما لكثرة الخصوصيات المأخوذة فيه بنحو لا مجال معه للمتكلم
لاستيعابها بالبيان ولو لخوف ضياعها على المخاطب، أو لمحذور خارجي في
بيان الخصوصيات المأخوذة فيه، فيبين الحكم الظاهري بوجه عام ثم يبين
خلافه في مورد الحاجة.
مثلا: لو علم المولى أن أكثر الواردين عليه يستحق الاكرام، وأن من لا
يستحقه منهم قليل يعسر ضبطه أو لا يحسن بيانه بعنوان جامع له، فقد يوجه
الخطاب لوكيله بدوا بأن عليه ظاهرا أن يكرم كل من يرد عليه، منبها له على أنه
إذا رآى أحدا منهم لا يستحق ذلك أعمله به.
71

غايته أن القرينة على ورود العام بالنحو المذكور قد لا تضيع، وقد تضيع
فيحمل العام بدوا على بيان الحكم الواقعي، وبورود الخاص ينكشف حال العام
ويحمل على بيان الحكم الظاهري من باب الجمع العرفي.
ويشكل: بأن ذلك وان كان وجها للجمع يرفع به التعارض بين الدليلين،
كما أنه يفي بحجية العام في الباقي، لوجوب الرجوع للحكم الظاهري عند
الشك في الحكم الواقعي.
الا أنه خلاف الظاهر جدا، لما فيه من التصرف في موضوع حكم العام
بتقييده بالشك في حكمه الواقعي، وفى نفس حكمه بحمله على التعبد بالحكم
ظاهرا في مقام العمل، لا على جعل نفس الحكم، كما أن لازمه عدم التنافي بين
حكمي العام والخاص وتحكيم الثاني عملا بأقوى الدليلين، بل شرح الخاص
للمراد من العام مع التباين بين حكيميهما سنخا، على وجه يكون ورود الخاص
رافعا لموضوع العام.
وكل ذلك مما تأباه المرتكزات العرفية في الجمع بين الأدلة.
ومنه يظهر أن هذا الوجه لا يرجع إلى استعمال العام في العموم، ليكون
مقتضى أصالة الظهور والحقيقة، لان تقييد الموضوع بالجهل نحو من
التخصيص، كاستعمال العام في الخاص، ويزيد عليه بأن حمل القضية على
إرادة التعبد بالحكم ظاهرا، لا على جعله واقعا نحو من الخروج بها عما هي
موضوعة له وظاهرة فيه.
ومن هنا كان هذا الوجه خلاف المقطوع به من مرتكزات أهل اللسان،
ولا سيما أهل الاستدلال، حيث لا اشكال عندهم في أن العام المخصص من
الأدلة الواقعية، دون الأصول الظاهرية العملية.
ثانيهما: أن العام وان تضمن بيان الحكم الواقعي التابع لواقع العنوان
المأخوذ في العام مع قطع النظر عن الجهل به، الا أنه لم يرد لبيان المراد الجدي
72

الذي يجب العمل عليه، كما هو مقتضى الأصل العقلائي في كلام المتكلم
المعبر عنه بأصالة الجهة، بل لضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخرج
عنها، ويخرج عنها في مورد دليل أقوى منها، تسهيلا لبيان المراد الجدي فيما لو
لم يتسن للمتكلم استيعابه بتمام خصوصياته ببيان واحد، لما تقدم في الوجه
السابق، إذ كما يكون للمتكلم مخالفة بيانه مراده الجدي لتقية أو لمصلحة
الامتحان، كذلك يكون له مخالفته لمصلحة يتعلق بالبيان نفسه.
وبذلك يظهر الفرق بين هذا الوجه وما قبله، لابتناء الوجه السابق على
ورود العام لبيان المراد الجدي، وان كان هو الحكم الظاهري عند الشك، وابتناء
هذا الوجه على تضمن العام الحكم الواقعي من دون أن يكون مرادا جديا، بل
لضرب القاعدة.
كما أن الرجوع لحكم العام ظاهرا عند احتمال التخصيص على الأول
مقتضى نفس الحكم المؤدى بالعام، أما على الثاني فليس هو مقتضى نفس
الحكم المؤدى، لفرض أن المؤدى هو الحكم الواقعي، بل مقتضى الغرض من
بيان القضية، وهو ضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخصص.
ودعوى: أنه مع عدم ورود العام لبيان المراد الجدي لا مجال لحجيته في
الباقي، لان الخاص وان لم يصلح لبيان عدم إرادة غير مورده بالإرادة الجدية، الا
أنه لا طريق لاحراز إرادة الباقي بإرادة جدية بعد فرض عدم صدور العام لذلك.
والتفكيك في أصالة الجهة بالإضافة لافراد العام مما لا مجال له مع وحدة
الاستعمال والبيان. نظير: ما لو علم بصدور العام تقية واحتمل إرادة بعض أفراده
بإرادة جدية ومطابقة مضمونة فيه للحكم الواقعي.
مدفوعة بأن مبنى ضرب القاعدة الذي فرض في هذا الوجه على ذلك،
والا لم يصلح العام لان يكون قاعدة يرجع إليها في مقام العمل عند فقد
المعارض.
73

هذا حاصل ما قد يوجه به كلام المحقق الخراساني قدس سره. ولعله أقرب إلى
كلامه من الوجه السابق، لظهور كلامه في أن تقديم الخاص لأنه أقوى الدليلين،
لا لأنه رافع لموضوع حكم العام. كما شيد هذا الوجه غير واحد من مشايخنا
على اختلاف منهم في بيانه.
لكنه يشكل..
أولا: بأن مرجع ذلك إلى رفع اليد عن أصالة الجهة في العام، وليس هو
بأولى من رفع اليد عن أصالة الظهور والحقيقة فيه بحمله على الاستعمال في
الخصوص.
بل لعل العكس هو الأولى، وأن أصالة الجهة مقدمة على أصالة الظهور،
ولذا كان بناء أهل الاستدلال على عدم حمل أحد الدليلين على التقية الا مع
تعذر الجمع عرفا بينهما بالتصرف في ظهور أحدهما أو ظهورهما معا ولو بنحو
يلزم المجاز.
على أن رفع اليد عن أصالة الجهة في العام ليس بأولى من رفع اليد عنها
في الخاص، بحمله على التقية أو نحوها، لان أقوائية الخاص ليست من حيثية
جهة، بل من حيثية ظهوره، وذلك انما يقتضى تقديمه على العام من حيثية
الظهور مع المحافظة على أصالة الجهة فيهما معا، لا تقديمه على العام من حيثية
الجهة مع المحافظة على أصالة الظهور فيهما معا، كما هو مقتضى هذا الوجه.
وثانيا: بأن هذا الوجه لا يصلح لتوجيه الرجوع للعام المخصص عند
الشك في زيادة التخصيص بعد فرض منافاة الخاص له، لأنه قد اخذ فيه مفروغا
عنه، حيث كان غرضا من العام لم ينظر في وجه ترتبه عليه، لما تقدم من أن
ترتبه عليه بعد البناء على هذا الوجه مقتضى فرض كون الغرض من العام ضرب
القاعدة. فهو أشبه بالقضية بشرط المحمول لا تتكفل ببيان وجه ترتب
المحمول.
74

وهذا بخلاف الوجه السابق، لان ابتناءه على حمل العام على الحكم
الظاهري مستلزم لعدم التنافي بين العام والخاص الوارد لبيان الحكم الواقعي،
فيكون الرجوع للعام مع الشك في وجود الخاص الاخر مقتضى عموم العام غير
المخصص في الحقيقة والذي لا منافي له، الذي هو حجه بلا اشكال.
وبالجملة: لا يصح كون الغرض من العام المفروض تضمنه الحكم
الواقعي - ضرب القاعدة التي يرجع إليها عند الشك في زيادة التخصيص الا بعد
الفراغ عن حجية العام المخصص، فلا يصلح لان يكون توجيها لحجية العام
المذكور الذي هو محل الكلام.
بل لا أثر للبناء عليه مع ذلك بعد عدم وقف الأثر العملي عليه.
نعم، لو ابتنى هذا الوجه على مجرد رفع اليد عن أصالة الجهة في العام
بالإضافة إلى مورد التخصيص من دون أن يبتنى على كون الغرض منه ضرب
القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخرج عنها كما قد يظهر من بعض تقريباته
في كلماتهم - كان بنفسه صالحا لبيان وجه الرجوع للعام المخصص بعد فرض
الاستعمال في العموم وجريان أصالة الجهة فيه بالإضافة إلى بقية الافراد.
لكن يتوجه عليه حينئذ ما سبق من أنه لا مجال للتفكيك في أصالة الجهة
في العام بالإضافة إلى أفراده مع وحدة الاستعمال والبيان.
وربما يظهر من بعض كلماتهم تقريب هذا الوجه بأن الخاص لا يقتضى
رفع اليد عن ظهور العام في الاستعمال في العموم، ولا عن أصالة الجهة فيه، بل
عن حجيته في الفرد بارجاع أصالة الجهة إلى الحجية، وحيث كان منشأ رفع اليد
بالخاص عن حجية العام معارضته له وأقوائيته منه لزم الاقتصار على مورد
المعارضة، دون غيره.
ويشكل: بأن حجية الكلام متفرعة عن كاشفيته عرفا بمقتضى سيرة أهل
اللسان - عن مراد المتكلم الجدي التابع للملاك والمستتبع للعمل، وحيث يمتنع
إرادة المتنافيين بالوجه المذكور كان الخاص منافيا للعام لو كان مستعملا في
75

العموم بداعي المراد الجدي.
فان كان المدعى كاشفيته عن عدم استعمال العام في العموم امتنع العمل
بالعام مع عدم تعيين ما استعمل فيه - كما قرر في أصل الاشكال -
وان كان المدعى كاشفيته عن عدم صدور العام بداعي بيان المراد الجدي
رجع لهذا الوجه الذي عرفت الكلام فيه.
وأما رافعيته لحجيته في الفرد من دون أن يكشف عن أحد الامرين فلا
نتعقله.
الرابع: ما أشار إليه بعض الأعاظم قدس سره في توجيه حجية العام المخصص من
أن تخصيص العام لا يستلزم عدم إرادة العموم منه، لامكان أن يراد العموم منه
إرادة تمهيدية، ليكون ذكر العام توطئة لبيان مخصصه.
وفيه: أن المراد ان كان هو التمهيد بضرب القاعدة التي يرجع إليها تسهيلا
للبيان رجع للوجه السابق، وجرى فيه ما تقدم.
وان كان هو التمهيد البياني، نظير التمهيد بذكر عموم الحكم للمستثنى منه
أو الموصوف لذكر التقييد بالمستثنى أو الوصف.
فهو انما يتم في التخصيص المتصل بهيات خاصة ويكون المحصل معه
من مجموع الكلام مضمونا واحدا عرفا، وهو إرادة تمام أفراد الباقي، ولا مجال
لذلك في التخصيص المنفصل الذي يكون المحصل منه مضمونا مباينا
لمضمون العام عرفا ومنافيا له بنحو لابد من الجمع بينهما.
وصحة اتكال المتكلم أو خصوص الشارع على القرائن المنفصلة
كالمتصلة لا يصحح التمهيد لها بالنحو المذكور بعد خروجه عن طريقه أهل
المحاورة في الاستعمال.
غاية الامر أنها تكون صالحة لرفع اليد بها عن مقتضى الظهور المنعقد
للكلام الاخر، ومن الظاهر أنها كما قد تكون قرينة عرفا على تعيين المراد به
على خلاف مقتضاه الأول، كذلك قد تكون موجبة للتوقف في مفاده وصيرورته
76

بحكم المجمل، فلابد في بيان وجه عدم اجمال العام في المقام بعد النظر في
حجة القائلين به.
ولعل الأولى أن يقال: الوجه في حجية العام المخصص في الباقي بناء أ
هل المحاورة على ذلك وسيرتهم القطيعة الارتكازية التي جرت على طبقها
سيرة العلماء في مقام الاستدلال من صدر الاسلام إلى يومنا هذا بمقتضى
طبعهم من غير نكير منهم ولا توقف.
ولا يعتنى بخلاف من تقدم لشبهة حصلت له بعد شذوذه وخروجه عن
سيرتهم وسيرة أهل المحاورة، التي لولاها لاختل نظام الاستدلال واستنباط
الاحكام، لكثرة التخصيص في العمومات، حتى قيل: ما من عام الا وقد خص.
وكفى بسيرة أهل المحاورة وارتكازياتهم حجة في المقام، لأنها الدليل
على حجية الظواهر الكلامية في جميع الموارد.
والظاهر ابتناء حجية العام في الباقي عندهم على صرف العام للباقي بعد
تعذر ابقائه على عمومه بسبب الخاص، لا لكون الخاص ناظرا له وشارحا
للمراد منه، ولا لكون الباقي أقرب المجازات، ولا لكون دلالة العام على أفراده
انحلالية، ولا لبقية الوجوه المتقدمة، لما سبق من الاشكال فيها.
بل لكون العام بنظر العرف من سنخ المقتضى للكشف عن إرادة المتكلم
لافراده وأحواله، فلا يرفع اليد عنه فيها الا في مورد المزاحمة بالخاص، عملا
بالمقتضى ما لم يثبت المانع، بناء منهم على التفكيك بين الافراد والأحوال في
استكشاف مراد المتكلم من العام، لخصوصية في العام، لا لعموم التفكيك في
الحجية بين الدلالات التضمنية.
نعم، لابد من كون الباقي صالحا لان يحمل العام عليه عرفا، ولا يكون
سوقه لأجله مستنكرا عند أهل المحاورة ومستهجنا لديهم، والا امتنع حمل
العام عليه، ولزم الجمع بوجه آخر ان أمكن، والا كان التعارض بين العام
والخاص مستحكما، كما لو لزم تخصيص الأكثر أو أظهر الافراد أو المورد أو
77

غيرها. كما لابد من تعيين الخاص للتقديم عرفا في مقام الجمع بينهما، فلو كان
هناك وجه آخر صالح لان يبنى عليه في مقام الجمع تعين اختياره ان كان أقرب
عرفا، ولزم التوقف مع عدم المرجح لأحدهما.
وحيث لا ضابط لذلك تعين ايكاله لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة
ومحاولة الجمع بينها. الا أن المفروض في محل الكلام تقديم الخاص ورفع
اليد به عن عموم العام، كما سبق في أول الفصل.
هذا، وبعد الفراغ عن تقديم الخاص على العام، وحجية العام في الباقي
معه، فالعام المخصص يبتنى صدوره ثبوتا..
تارة: على التسامح والتوسع في العموم بتنزيل الافراد الخارجة
بالتخصيص منزلة العدم لقلتها أو عدم الاعتداد بها، أو في اللفظ الدال على
الماهية بإرادة المقيد منها مجازا، لقرينة اختفت علينا.
وأخرى: على وجود قرينة على التخصيص المتصل، الذي تقدم أنه لا
يبتنى على المجاز، وقد اختفت تلك القرينة أيضا، وعلى الوجهين لا يكون
العام ظاهرا في العموم حين صدوره، وان ظهر فيه بعد ذلك بسبب اختفاء
القرينة والتعويل على أصالة عدمها.
وثالثة: على كون الداعي من بيان العام الظاهر في العموم حين صدوره
ضرب القاعدة التي يرجع إليها في مقام العمل اعتمادا على البيان المنفصل وقت
الحاجة، وان لم يكن العموم مرادا جديا... إلى غير ذلك مما يمكن ثبوتا، وان لم
يدركه العرف في مقام الجمع بين العام والخاص، بل لا يدركون الا مجرد صرف
الخاص للعام عن مورده إلى الباقي، وحجيته فيه لأجل ذلك، لان ذلك هو المهم
الذي يناط به العمل، فيقتصر نظر العرف عليه، وما سواه أمور واقعية لا دخل لها
في العمل قد تدرك بدليل خارج وقد لا تدرك.
78

الفصل الرابع
في اجمال الخاص واشتباهه
لا اشكال في أن التمسك بالدليل في مورد فرع احراز موضوعه فيه، فلا
يتمسك به مع عدم احرازه للشبهة الموضوعية أو لاجمال الدليل بنحو الشبهة
المفهومية أو غيرها.
ومن هنا لا اشكال في عدم حجية كل من العام والخاص مع عدم احراز
عنوانه. وانما الاشكال والكلام بينهم في حجية العام بعد احراز عنوانه في مورد
اجمال الخاص والشك في تحقق عنوانه.
هذا، وحيث سبق أن المخصص المتصل مانع من انعقاد ظهور العام في
العموم تعين عدم حجية العام في مورد اشتباه الخاص المتصل واجماله مطلقا
لسريان اجمال الخاص المذكور للعام، ويكون العام مجملا بالإضافة إليه حقيقة،
كما لو كان الاجمال والاشتباه في عنوان العام بنفسه.
ومن هنا ينبغي جعل موضوع الكلام اشتباه الخاص المنفصل الذي لا
يسرى اجماله إلى العام حقيقة، ولا يمنع من انعقاد ظهوره في العموم الذي
عرفت أنه المقتضى للحجية.
إذا عرفت هذا، فاجمال الخاص واشتباهه في بعض الموارد..
تارة: يكون للشبهة المفهومية.
وأخرى: للشبهة المصداقية، بسبب اشتباه الأمور الخارجية مع وضوح
المفهوم وعدم اجمال معنى الخاص.
79

فيقع الكلام في مقامين..
المقام الأول
في الشبهة المفهومية.
والمعيار فيها خفاء المراد بالخاص، اما لاجمال مفهوم عنوانه لغة أو
شرعا أو عرفا، أو لاحتفافه بما يمنع من انعقاد ظهوره ويوجب اجماله.
بل يكفي اجماله حكما مع انعقاد ظهوره بدوا، بسبب القرائن المنفصلة
الكاشفة عن عدم إرادة ظاهره به، وأن المراد به أمر آخر مورد للاجمال.
ولا يخفى أن الاجمال بأحد الأنحاء المذكورة..
تارة: يكون للتردد بين الأقل والأكثر، حيث يكون الأقل متيقنا والزائد
مشكوكا، كما لو تردد الفاسق بين مطلق العاصي وخصوص مرتكب الكبيرة،
حيث يكون مرتكب الصغيرة فقط موردا للاشتباه، وكما لو تردد المسافر بين
مطلق من خرج عن بلده وخصوص قاطع المسافة بنحو يوجب التقصير شرعا.
وأخرى: يكون للتردد بين المتباينين، لاشتراك أو غيره، كما لو تردد زيد
بين رجلين.
ومنه - إذا تردد بين مفهومين بينهما عموم من وجه، كما لو تردد الشريف
بين العلوي وذي الشأن والمقام الاجتماعي، لان مورد الاجتماع وان كان متيقنا
من الخاص - نظير صورة التردد بين الأقل والأكثر - الا أن تباين موردي افتراق
كل منهما، والعلم بإرادة أحدهما اجمالا كاف في جريان حكم المتباينين، إذ لا
أثر لوجود المتيقن في محل الكلام، حيث لا اشكال في حجية الخاص دون
العام فيه، وانما الاشكال في حجية العام في مورد الشك، الذي قد يختلف حاله
مع العلم الاجمالي.
80

أما في الصورة الأولى - وهي التردد بين الأقل والأكثر فالظاهر - تبعا لما
صرح به جماعة - هو حجية العام في مورد الاجمال والاشتباه.
لما تقدم من أن سقوط العام عن الحجية في مورد الخاص المنفصل ليس
لارتفاع ظهوره فيه، ولا لكشفه عن عدم استعماله في العموم، بل لمزاحمة
ظهوره فيه بما هو أقوى منه، وما يكون عرفا من سنخ الرافع لمقتضى حجيته.
وذلك لا يتم بالإضافة إلى مورد اجمال الخاص، لان الخاص لا يكون
حجة الا فيما هو ظاهر فيه، وهو الأقل المتيقن، دون مورد الاجمال والاشتباه،
فلا يصلح لمزاحمة العام، الذي تقدم أنه المقتضى للحجية، بل يتعين العمل فيه
بالعام، لعدم جواز رفع اليد عن المقتضى في المقام، الا مع ثبوت المانع. فمورد
الاجمال في المقام كسائر موارد الشك في التخصيص الزائد، الذي تقدم حجية
العام المخصص فيها. ومجرد احتمال شمول التخصيص المعلوم له لا يصلح
فارقا بينه وبينها بعد فرض عدم حجية الخاص فيها.
ودعوى: أن الخاص وان كان مجملا يكشف عن عدم إرادة أفراده من
العام - وان كان العام ظاهرا في ارادتها - فمع فرض اجماله لا يعلم بإرادة مورد
الاجمال من العام، فلا وجه لحجيته فيه.
مدفوعة: بأن كشف الخاص عن عدم إرادة أفراده من العام بنحو يلزم
برفع اليد عن ظهور العام فيها لما كان بملاك تقديم أقوى الحجتين كان متفرعا
على حجيته في أفراده، فمع فرض عدم حجيته في مورد الاجمال لا يصلح
للكشف عن عدم ارادته من العام، ليرفع به اليد عن مقتضى الحجية فيها.
نعم، لو كان الجمع بين العام والخاص مبتنيا على كون الخاص قرينة على
استعمال العام في ما عداه، خروجا به عن معناه الموضوع له فقد تتجه الدعوى
المذكورة، حيث يلزم اجمال المعنى المستعمل فيه العام وعدم وضوح شموله
لمورد الاشتباه بعد فرض عدم استعماله في ما هو ظاهر فيه في نفسه، فلا أثر
81

لشموله للمورد المذكور، نظير: ما لو وجب اكرام العالم، ثم قامت القرينة
الخارجية على عدم استعمال العالم في معناه الحقيقي، بل أريد منه مجازا معنى
مرددا بين خصوص العامل به في نفسه النافع به لغيره، ومطلق العامل به وان لم
ينفع به غيره.
لكن سبق عدم ابتناء الجمع بينهما على ذلك، بل على تقديم الخاص
بملاك تقديم أقوى الحجتين، فيقصر عن مورد الاجمال، كما تقدم، وينفرد به
العام.
بل قد يدعى أن العام يكون بيانا للخاص وشارحا له، لان العام حيث
يكون حجة في مورد الاجمال وصالحا للكشف عن كونه مرادا جديا منه
فاللازم عدم ارادته من الخاص وقصوره عنه.
لكن الظاهر عدم تمامية ذلك، لعدم نظر العام للخاص، ليكون بيانا شارحا
للمراد منه ورافعا لاجماله.
وأصالة العموم وان اقتضت حجية العام في الفرد المشكوك، الا أنها لا
تنهض بشرح المراد من الخاص وتعيين مفهومه، وان كان لازما له، لعدم وضوح
بناء العقلاء على ذلك الذين هم المرجع في تحديد مقتضى أصالة العموم، وقد
تقرر في محله أن حجية الامارة في لازم مؤداها سعة وضيقا تابع لبناء العقلاء
الذي هو المعيار في حجيتها.
وان شئت قلت: المتيقن من بناء العقلاء على أصالة العموم هو الرجوع
إليها في اجراء حكم العام في مورد الشك في التخصيص، دون ترتيب جميع
لوازم ذلك بما فيها شرح مفاد الأدلة الاخر ورفع اجمالها، وبيان مفاهيم العناوين
المأخوذة فيها.
كيف ولازم ذلك ارتفاع الاجمال في عنوان الخاص بلحاظ جميع
أحكامه، حتى غير حكم الخاص! ولا يظن من أحد البناء عليه.
82

ولعله يأتي نظير ذلك في بعض المباحث المتعلقة بالمقام.
وأما في الصورة الثانية وهي الدوران بين المتباينين فالظاهر سقوط
العام عن الحجية في كل طرفي الترديد بخصوصه، للعلم الاجمالي بإرادته من
الخاص، فيكون الخاص حجة فيه اجمالا، بنحو يمنع من جريان أصالة العموم
في كل منهما بخصوصه، للعلم الاجمالي بكذبها معه، مع عدم المرجح لأحدهما
بعد كون نسبتهما لكل من العام والخاص بنحو واحد.
ولا مجال لقياسه بالعلم الاجمالي بكذب الأصل العملي في أحد
الموردين اجمالا، حيث تقرر في محله جريان كل منهما وترتب الأثر عليه ما لم
يلزم مخالفة عملية لعلم اجمالي منجز.
للفرق بينهما بأن لأدلة الأصول العملية اطلاقا يشمل أطراف العلم
الاجمالي من دون محذور في التعبد الظاهري على خلاف العلم الاجمالي إذا لم
يكن منجزا، لعدم التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي.
بل لا يلزم التكاذب بين التطبيقين حقيقة بلحاظ ذلك.
أما أصالة العموم فليس الدليل عليها الا بناء العقلاء، وهو يقصر عن
صورة العلم الاجمالي بالكذب بعد كون مفاد العام حكما واقعيا، وثبوته في أحد
طرفي الترديد بمقتضى عموم العام مستلزم لانتفائه في الاخر، فيلزم التكاذب
بين تطبيقي العام في كلا طرفي الترديد بلحاظ المدلول الالتزامي المذكور.
ولا أقل من الشك في بناء العقلاء على الرجوع لأصالة العموم حينئذ،
حيث يلزم التوقف عنها بعد انحصار الدليل عليها به.
نعم، الظاهر أنها انما تقصر عن كل منهما بخصوصيته، لا عن أحدهما
اجمالا، لان الخاص انما يكون حجة في أحدهما اجمالا، لا في كليهما،
والتوقف في كل منهما بخصوصه انما هو لعدم المرجح، لا بنحو يمنع من
حجية العام في أحدهما اجمالا، لأصالة العموم.
83

فيلزم البناء على ثبوت حكم العام كذلك وترتيب أثره من وجوب
الاحتياط - لو كان تكليفا وغيره.
وعلى ذلك يلزم الرجوع إلى قواعد العلم الاجمالي في طرفي الترديد،
فان كان حكم الخاص الزاميا دون العام، أو بالعكس، أو كلاهما الزاميا من دون
تناف عملي بينهما - كما لو تضمن أحدهما وجوب الاكرام بدينار والاخر
وجوب الاكرام بثوب - لزم الاحتياط في الفردين على طبق الحكم الإلزامي
المفروض، وان كان كلاهما الزاميا مع التنافي بينهما عملا - كما لو تضمن
أحدهما وجوب الاكرام والاخر حرمته - امتنع الاحتياط، وكان كلا الطرفين
موردا للدوران بين محذورين، الذي تحقق في محله أن حكمه التخيير.
الا أن يكون هناك دليل أو أصل آخر مانع من منجزية العلم الاجمالي،
وشارح للوظيفة في كل من الفردين بنحو لا ينافي العلم الاجمالي المذكور. على
ما يذكر في محله من مباحث العلم الاجمالي.
ونظير ذلك ما لو علم اجمالا بالتخصيص في أحد فردين من عام واحد
أو عمومين، لا لاجمال المخصص الواحد - كما هو محل الكلام - بل للعلم
الاجمالي بصدور أحد الخاصين أو حجيته، لعين الوجه المتقدم.
بل الظاهر جريانه أيضا فيما لو دار الامر بين التخصيص في أحدهما
المردد والتخصيص في كليهما، فان التخصيص المعلوم اجمالا واحد، وهو وان
لم يحرز تعينه واقعا، لاحتمال ثبوت التخصيصين معا، ولا مرجح لأحدهما في
انطباق التخصيص المعلوم عليه، الا أن الظاهر من بناء العقلاء حجية العام في
تمام الباقي بعد التخصيص المعلوم اجمالا وان لم يكن له تعين واقعي.
ولازمه البناء على ثبوت حكم العام في أحد طرفي الترديد، فيجرى فيه ما
سبق من مقتضى العلم الاجمالي. فلاحظ.
84

تنبيه:
قد يكون الدليل المجمل مرددا بين معنيين يلزم تخصيص العام من
أحدهما دون الاخر، كما لو ورد: يجب اكرام كل فقيه، وورد: لا يجب اكرام زيد،
وتردد زيد بين شخصين أحدهما فقيه والاخر نحوي، أو ورد: لا يجب اكرام
أولاد عمرو، وورد: يجب اكرام زيد، وتردد زيد بين أحد أولاد عمرو وغيره.
وحينئذ لا اشكال في أن الدليل المجمل المذكور لا ينهض بتخصيص
العام، بل مقتضى أصالة العموم في العام إرادة فرده الذي هو طرف الترديد.
نعم، ان كان ثبوت الحكم للفرد الاخر منافيا لعموم آخر، كما لو ورد
المثال الأول عموم وجوب اكرام النحوي أيضا، لزم العلم الاجمالي بتخصيص
أحد العمومين الذي تقدم الكلام فيه.
وأما ان كان منافيا لأصل عملي، كما في المثال الثاني المتقدم، لان مقتضى
أصالة البراءة عدم وجوب اكرام الشخص المذكور، فلا يبعد لزوم رفع اليد عن
الأصل المذكور، لان الدليل المذكور وان لم ينهض بنفسه لرفع اليد عن الأصل
بسبب اجماله، كما أن العام لا يصلح لشرح المراد منه بنحو يرفع اجماله، لما
سبق من قصور العموم عن ذلك، الا أن الخاص لما كان بنفسه حجة على ثبوت
حكمه لمورده على اجماله، والعام حجة على ثبوت حكمه لفرده الذي هو
طرف الترديد، وكان لازم ثبوت حكمه لفرده المذكور ثبوت حكم الدليل
المجمل للفرد الاخر، كان العام حجة بمدلوله الالتزامي على ذلك، لان الظاهر
من بناء العقلاء حجية العام في مثل هذا من لوازم مؤداه، فيكون حاكما على
الأصل الجاري في الفرد المذكور.
ومن هنا لا مجال للبناء على التوقف عن عموم العام في فرده المذكور
وعن الأصل العملي في الفرد الاخر، لدعوى: مخالفة مؤداهما للعلم الاجمالي
بثبوت التكليف في أحد الفردين من دون مرجح لأحدهما. فتأمل جيدا.
85

المقام الثاني
في الشبهة الموضوعية.
وقد اختلفت كلماتهم في حجية العام في مورد الاشتباه بين القول
بحجيته مطلقا، وبعدمها كذلك، وبالتفصيل بوجوه مختلفة يأتي الكلام فيها.
ومحل كلامهم - حسبما يظهر من حججهم - هو صورة الشبهة البدوية.
أما مع العلم الاجمالي بفردية أحد فردين للخاص فالظاهر عدم الاشكال
بينهم في جريان حكم العلم الاجمالي بالتخصيص الذي تقدم الكلام فيه في
المقام الأول، لعدم الفرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية فيه، وانما لم
يتعرضوا لذلك لوضوحه، وليس الاشكال الا من حيثية الشك بنفسه مع قطع
النظر عن الخصوصيات الزائدة عليه، لاختلاف الشبهة الحكمية والموضوعية
فيه.
نعم لو دار الامر بين فردية فرد واحد للخاص وفردية فردين فالشك في
فردية الثاني من صغريات الشبهة البدوية التي هي محل الكلام، ولا مجال
للجزم فيها بحجية العام، كما تقدم في المقام الأول، لابتنائه هناك على المفروغية
عن حجية العام مع الشك في التخصيص بنحو الشبهة الحكمية.
إذا عرفت هذا، فالظاهر عدم حجية العام في الشبهة المذكورة مطلقا، وأن
ما قيل بحجيته فيها من الموارد اما غير تام أو خارج عنها حقيقة.
والوجه في ذلك: أن التمسك بالعام بل بكل دليل في مورد انما هو بعد
الفراغ عن تعيين المراد الجدي به، بحيث ينقح به موضوع الحكم المستلزم له
ثبوتا، ثم احراز تحقق ذلك الموضوع في ذلك المورد بالوجدان أو بدليل آخر.
فالتمسك بالعام يبتنى على قياس اقتراني مؤلف من كبرى حملية تتضمن
موضوع الحكم الملازم له ثبوتا يستفاد من الدليل كون مضمونها مرادا بالإرادة
86

الجدية، وصغرى حملية تتضمن ثبوت الموضوع المذكور في المورد الذي يراد
الرجوع للدليل فيه.
فإذا ورد: أكرم كل عالم، فلابد في التمسك به لوجوب اكرام زيد أن
يحرز..
أولا: المراد الجدي منه، لينقح به موضوع الحكم الواقعي.
وثانيا: تحقق الموضوع المستفاد من ذلك في زيد. ولا يكفي احراز أن
زيدا عالم في وجوب اكرامه إذا لم يحرز تعلق الإرادة الجدية بالعموم، فضلا
عما إذا أحرز عدم تعلقها به. ولذا لو كان العموم مخصصا وأحرز دخول زيد في
الخاص لم ينهض العموم باثبات وجوب اكرامه بلا اشكال.
وحينئذ حيث كان مقتضى العام والخاص عدم تعلق الإرادة الجدية
بالعموم، بل بما عدا مورد الخاص منه، لا وجه للاكتفاء باحراز عنوان العام في
مورد الشك في تحقق عنوان الخاص، لعدم احراز موضوع الحكم الواقعي
المستلزم له ثبوتا بذلك.
ولا أثر لاحراز عنوان العام بعد ثبوت عدم كونه تمام الموضوع، إذ لا
يكفي في ترتب الحكم احراز جزء الموضوع قطعا.
وبعبارة أخرى: التوقف عن حكم العام في الفرد ليس لحجية الخاص فيه،
بل لحجيته بعد فرض عدم الاجمال فيه في شرح المراد من العام وتحديد
موضوع حكمه وتخصيصه بما عدا أفراد الخاص الواقعية، فمع فرض عدم
ظهور حال الفرد من هذه الجهة يتعين التوقف فيه عن حكم كل من العام
والخاص بعد عدم احراز موضوعه الواقعي المتحصل بعد الجمع بين الأدلة.
نعم، لو كان الخارج عن العام واقعا خصوص ما علم كونه من أفراد
الخاص اتجه حجية العام في مورد الشك وخرج عن محل الكلام، لرجوعه إلى
اليقين بعدم فردية مورد الشك من الخاص.
87

لكن ذلك أن ابتنى على ظهور الخاص في نفسه في الاختصاص، فهو
مخالف لاطلاق دليله.
وان ابتنى على تنزيل الخاص على ذلك في مقام الجمع بينه ويبن العام،
فلا وجه له بعد فرض اطلاق الخاص وكون الفرد المذكور كسائر أفراد الخاص
موردا للتنافي بينه وبين العام المفروض تقديمه عليه.
كما أنه لو أحرز خروج الفرد عن الخاص بدليل آخر أو بأصل فالمتجه
البناء على ثبوت حكم العام على ما يأتي الكلام فيه في ذيل الكلام في المسألة.
لكنه خارج عن محل الكلام.
وربما يوجه المدعى بوجه آخر يرجع لما تقدم، حاصله: أن العام كسائر
الأدلة انما يكون حجة على مضمونه المراد منه جدا، المستكشف به باستقلاله
أو بضميمة القرائن الخارجية، ومنها الخاص، وهو في المقام الحكم التابع
للموضوع بما له من حدود مفهومية، ولا يكون بنفسه حجة على ثبوت الحكم
للفرد، لعدم تعرضه له بوجه، وانما يبنى على ثبوت حكمه في الفرد لان ذلك
مقتضى طبيعة نفس الحكم المستفاد منه والمضمون المؤدى به، الذي هو حجة
فيه، فان ثبوت الحكم للموضوع بضميمة تحقق الموضوع في الفرد يقتضى
ثبوت الحكم للفرد.
وحينئذ بعد فرض كون مقتضى الجمع بين العام والخاص قصور
موضوع حكم العام عن بعض أفراد عنوانه وهو الداخل في الخاص واقعا
واختصاصه بما عداه، فملازمة الحكم للموضوع انما تنفع في اثبات الحكم
للفرد بعد احراز الموضوع الحقيقي فيه، وهو المتحصل بعد التخصيص، ولا
يكفي فيه احراز عنوان العام الذي ثبت عدم كونه تمام الموضوع.
ولا مجال لقياسه بصورة اجمال مفهوم الخاص، لان كلا من العام
والخاص لما كان متعرضا للحكم، وكانا متنافيين في تحديد موضوعه، فمع
88

فرض عدم حجية الخاص في مورد الاجمال يتعين حجية العام في احراز عموم
موضوع الحكم له، لظهوره فيه من دون معارض، فمع احراز تحققه في الفرد
يتعين ثبوت الحكم له.
هذا، ويظهر من التقريرات الاستدلال لعدم حجية العام في المقام بأن العام
لا يصلح لرفع الشك في المصداق المشتبه، ولا يكون بيانا على خروجه عن
أفراد الخاص، لعدم سوق الكلام له، وعدم كون بيانه وظيفة للمتكلم.
ولا يخفى أن الاستدلال بذلك انما يتجه بعد الفراغ عن توقف الرجوع
للعام في الفرد المشتبه على رفع الشك المذكور فيه.
وبعد تسليم ذلك لا يظن من أحد التوقف في عدم حجية العام ليحتاج
للاستدلال المذكور، وان كان قد يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره نهوض
العام برفع الاشتباه، كما يأتي.
والظاهر أن عمدة أدلة القائلين بحجية العام ترجع إلى حجيته مع بقاء
الاشتباه في الفرد، نظير حجيته مع اجمال المخصص مفهوما، حيث تقدم أن
العام حجة وان لم ينهض بشرح حال الخاص، وأنه شامل لمورد الشك أولا.
ومن ثم كان الأنسب في الاحتجاج على المدعى ما ذكرنا. فلاحظ.
لكن يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره العكس، فقد ذكر أن العمدة
في المنع عن التمسك بالعام ما سبق من التقريرات، وأنه لولاه تعين حجية العام
في مورد الاشتباه، لان دليل التخصيص لا يوجب رفع اليد عن ظهور العام في
كون عنوانه تمام الموضوع للحكم، بل يبقى عنوان العام على ما هو عليه من
الموضوعية والتخصيص لا يكشف الا عن خروج مورده عن حكم العام، دون
أن يقتضى إضافة جزء آخر متمم للموضوع، وذكر أن هذا هو الفرق بين
التخصيص والتقييد، فان تقييد الاطلاق يوجب رفع اليد عن ظهور المطلق في
كون عنوانه تمام الموضوع، ويكشف عن كون عنوان القيد متمما لموضوع
89

حكم المطلق، بخلاف التخصيص، فإنه لا يقتضى الا رفع اليد عن عموم الحكم
مع بقاء عنوان العام تمام الموضوع لحكمه.
وحينئذ لا مانع من التمسك بالعام في الفرد المشتبه بعد فرض احراز
عنوان العام فيه الذي هو تمام الموضوع لحكمه، وعدم احراز خروجه
بالتخصيص، لعدم احراز عنوانه. وانما يتجه ذلك في المطلق إذا ثبت تقييده
وشك في دخول أفراده تحت المقيد، لما تقدم من عدم كون المطلق حينئذ تمام
الموضوع.
وكأن مبنى الفرق الذي ذكره بين التخصيص والتقييد على ما قد يدعى من
أن أداة العموم تكشف عن كون مدخولها الماهية المطلقة، وحيث كان
التخصيص منافيا لسريان الحكم في أفرادها تعين حمل الخاص على الاخراج
من دون أن يكشف عن إرادة الماهية المقيدة من الدخول، لمنافاته للأداة. أما
في المطلق فاستفادة إرادة الماهية المطلقة لما كان بسبب مقدمات الحكمة، وكان
ورود المقيد مانعا من التعويل على المقدمات المذكورة، تعين كشف المقيد عن
إرادة الماهية المقيدة من المطلق المستلزم لدخل القيد في موضوع الحكم.
هذا، ولا يهم الكلام في تمامية الفرق المذكور، وانما المهم تحقيق حال
ما ذكره في التخصيص، فإنه لا يخلو عن غموض.
إذ المراد بالموضوع في كلامهم ما يكون بمنزلة العلة التامة للحكم،
بحيث يستلزمه ولا يحتاج ثبوت الحكم معه إلى امر آخر. وحينئذ يكون الجمع
بين كون عنوان العام تمام الموضوع للحكم وعدم ثبوت الحكم لافراد الخاص
كالجمع بين النقيضين.
الا أن يريد بكون العام تمام الموضوع أنه تمام الموضوع العنواني بمعنى
أن دليل التخصيص لا يقتضى إضافة عنوان لموضوع الحكم غير عنوان العام
يكون قيدا فيه، بل مجرد خروج مورده المستلزم لعدم ثبوت الحكم لتمام أفراد
90

الموضوع العنواني، وعدم كونه تمام الموضوع بالمعنى الأول المتقدم منهم.
وهو حينئذ أمر معقول في نفسه يأتي الكلام فيه في ذيل المسألة، الا أنه لا
ينفع في حجية العام في ما نحن فيه، لان احراز الموضوع العنواني في الفرد انما
يقتضى ثبوت الحكم له إذا أحرز كونه موضوعا بالمعنى الأول المتقدم، بحيث
يثبت الحكم لجميع أفراده - ليترتب معه شكل قياسي بالنحو المتقدم لا في
مثل المقام مما فرض فيه خروج بعض الافراد منه، واحتمل كون الفرد من القسم
الخارج.
ثم انه قدس سره قد أشار في مقالاته إلى دفع الاشكال الذي ذكرناه بقوله: (كما أن
مجرد كون المخصص موجبا لتضييق دائرة حجية العام بغير ما انطبق عليه
مفهومه - ومع الشك في مصداق المخصص يشك في انطباق الحجة من العام
عليه أيضا - لا يوجب رفع اليد عن العام بالمرة، إذ العام انما خرج عن الحجية
من جهة الشبهة الحكمية. وأما بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية فلا قصور للعام
بعد صدقه على هذا الفرد أن يشمله، وبالملازمة يستكشف بأن المشكوك
خارج عن مصداق الخاص...).
وهو كما ترى! لوضوح أن الملازمة لو كانت كافية في مثل ذلك وغض
النظر عما تقدم في نظير المقام فمن الظاهر أن الخروج عن مصاديق الخاص
ليس ملازما لعنوان العام المفروض احرازه في الفرد المشتبه، بل لحكمه
المفروض الشك فيه، وقد سبق أن العام انما يكون حجة على اثبات حكمه في
الفرد بعد حجيته على تحديد الموضوع الواقعي للحكم، واحراز ذلك
الموضوع في الفرد، وحيث كان العام قاصرا عن أفراد الخاص الواقعية
بمقتضى فرض التخصيص واعترف به في الاشكال لم يكن حجة في اثبات
حكمه للفرد المشتبه، ليتعدى منه للازمه، وهو خروجه عن مصاديق الخاص.
وبعبارة أخرى: حجية العام في الشبهة الموضوعية فرع حجيته في الشبهة
91

الحكمية، لما تقدم من أن التمسك به في الفرد انما هو بعد احراز كونه من
مصاديق موضوع الحكم الذي يكون العام حجة فيه، وحيث فرض قصور
موضوع الحكم المتحصل بعد التخصيص وعدم احرازه في الفرد لا وجه
لحجيته العام فيه على اثبات حكمه، ليتعدى من ذلك إلى احراز خروجه عن
الخاص بضميمة الملازمة المذكورة.
على أنه إذا كانت حجية العام في حكم الفرد المشتبه موقوفة على احراز
خروجه عن الخاص لزم احرازه في مرتبة سابقة على حجيته فيه، واحرازه في
مرتبة لاحقة بضميمة الملازمة دوري، وان لم تكن موقوفة عليه فلا أهمية
لاثبات نهوض العام باحرازه بضميمتها، لان المهم انما هو اثبات الحكم في
الفرد المشتبه.
وبالجملة: الظاهر عدم الاشكال في عدم نهوض العام باثبات خروج
الفرد عن عنوان الخاص، لعدم تعرض العام الا لثبوت حكمه في فرض ثبوت
موضوعه، من دون نظر لتنقيح موضوعه، فضلا عن تنقيح عنوان الخاص ونفيه.
وعليه يبتنى ما سبق من التقريرات، وسبق أنه قدس سره قد عول عليه. ومن ثم كان
كلامه في غاية الاضطراب والاشكال.
بقى الكلام في وجه القول بحجية العام في مورد اشتباه الخاص في
المقام، فاعلم أنه قد يستدل عليه بوجهين:
الأول: أن الخاص انما يزاحم العام في ما هو حجة فيه، وحيث لا يكون
حجة في مورد الاشتباه لا وجه لرفع اليد عن العام فيه، إذ لا ترفع اليد عن الحجة
الا بالحجة.
ويظهر اندفاعه مما سبق، إذ الخاص بعد أن لم يكن مجملا كان حجة في
تمام أفراده حتى ما كان منها موردا للاشتباه، وصالحا لمزاحمة العام فيها، بنحو
يكشف حكمه عنها بتمامها، وحيث كان العمل بالدليل في الفرد متفرعا على
92

احراز تحقق موضوع حكمه فيه، لا يكفي في العمل بالعام في مورد الاشتباه
احراز عنوانه بعد أن كان مقتضى الجمع عدم كونه تمام الموضوع للحكم، بل
لابد من احراز تمام الموضوع المتحصل منه بعد الجمع، وبعد فرض عدم
احرازه فيه لا مجال للبناء على ثبوت حكمه فيه، وان لم يكن الخاص حجة فيه
أيضا.
الثاني: أن عنوان العام مقتض لثبوت حكمه، وعنوان الخاص من سنخ
المانع منه، فمع احراز المقتضى في الفرد المشتبه والشك في المانع يتعين البناء
على عدم المانع والعمل على طبق المقتضى، ومرجع ذلك إلى عدم تعويل
العقلاء على احتمال المانع وهو الخاص بعد احراز المقتضى وهو العام في
المقام، بل يبنون معه على ثبوت المعلول، وهو حكم العام.
ويندفع بما ذكره غير واحد من منع الكبرى والصغرى. حيث لم يتضح
من بناء العقلاء عموم الرجوع لقاعدة المقتضى، سواء أريد بها مجرد عدم
الاعتناء باحتمال المانع في مقام العمل، أم التعبد ظاهرا بعدمه عند احتماله،
وانما ثبت في خصوص بعض الموارد وليس منها المقام.
كما أنه لا يطرد كون عنوان العام من سنخ المقتضى للحكم وعنوان
الخاص من سنخ المانع منه، بل قد يكون عنوان العام جزء المقتضى أو من سنخ
ارتفاع المانع، والتخصيص متضمنا بيان المقتضى أو متممه أو شرطه.
وهو لا ينافي ما سبق منا في وجه حجية العام في الباقي من أن العام من
سنخ المقتضى للحجية والخاص من سنخ المانع، فان كون دليل العام من سنخ
المقتضى للحجية لا يستلزم كون عنوانه من سنخ المقتضى للحكم، كما لا يلزم
من كون دليل الخاص من سنخ المانع من حجية العام كون عنوانه من سنخ
المانع من حكمه، لعدم السنخية بين مقامي الاثبات والثبوت.
وحيث اتضح وجه الاستدلال للقول بحجية العام في الشبهة المصداقية
93

وبعدمها يقع الكلام في الأقوال المفصلة، وقد أشرنا آنفا إلى أن ما قيل فيه
بحجية العام من موارد الشبهة المصداقية اما غير تام أو خارج عنه حقيقة.
ومن ثم يتعين النظر في الأقوال المفصلة وفى أدلتها.
فاعلم أن النظر في كلماتهم يشهد بعد التأمل بتداخل التفصيلات في
كلماتهم، حيث قد يظهر منهم الاستدلال والتمثيل لكل منها بما يناسب الاخر.
ولعل الأولى ارجاعها إلى وجوه أربعة..
الأول: ما يظهر من التقريرات في عنوان كلامه وان لم يناسبه تمامه
بلحاظ الأمثلة ووجه الاستدلال من أن الخاص إذا كان عنوانيا لم يكن العام
حجة في الفرد المشتبه، وان لم يكن عنوانيا كان العام حجة فيه.
وتوضيح ذلك أن الخاص..
تارة: يكون مسوقا لبيان دخل عنوانه في الحكم، بحيث يكون ثبوته
للأفراد من حيثيته. كما هو الظاهر في العنوان الذي له منشأ انتزاع في الخارج
كالعالم والجار ونحوهما، دون مثل (هؤلاء) مما يحكى عن الافراد رأسا.
وأخرى: يكون مسوقا لمحض الحكاية عن الافراد والإشارة إليها مع
كونها بخصوصياتها المتباينة موضوعا للحكم، سواء كانت الافراد جزئيات
خارجية، كما لو سبق من المتكلم ذكر مجموعة أشخاص للمخاطب، ثم قال: لا
تكرم من سبق ذكره، لوضوح أن سبق الذكر لا دخل له في الحكم، أم عناوين
كلية، كما في قوله تعالى: (أحلت لكم بهيمة الأنعام الا ما يتلى عليكم) (1)،
لوضوح أن موضوع التحريم هو العناوين الخاصة من الخنزير والميتة وغيرهما
بخصوصياتها المتباينة، لا بعنوان كونها مما يتلى.
أما الأول فمقتضاه ثبوت الحكم لعنوانه المستلزم لقصور حكم العام عن
94

مورده تبعا لقصور موضوعه عنه، من دون فرق بين أن يكون العام عنوانيا وأن
يكون غير عنواني.
ولازم ذلك امتناع الرجوع للعام في مورد الشك في الخاص، لعدم احراز
موضوع حكمه، كما تقدم. من دون فرق في ذلك بين أن يكون العنوان دخيلا
في الملاك ثبوتا، وأن يكون ملازما لعنوان آخر هو الدخيل فيه لا يتيسر
تشخيصه من غير طريقه، لان الفرق المذكور لا يوجب الفرق في إناطة الحكم
بالعنوان في مقام الاحتجاج والالزام، إذا إناطة الحاكم حكمه بالعنوان انما هو
لتحديد مورد الملاك، وهو حاصل في المقام.
نعم، لو صرح بأن ذكر العنوان انما هو لملازمته لعنوان أو عناوين اخر لم
يبعد ظهور حاله في إناطة الحكم بذلك العنوان أو العناوين الاخر على اجمالها.
لكن حيث كان الشك في العنوان المذكور ملازما للشك الذي هو
موضوع الحكم جرى فيه ما سبق من لزوم التوقف عن العام في مورد الشك في
عنوان الخاص، لعدم الفرق بينهما في الجهة المتقدمة.
نعم، قد يظهر الفرق بينهما عند الرجوع للأصول الموضوعية، حيث يلزم
هناك تنقيح الأصل للعنوان المذكور في دليل التخصيص، وهنا تنقيحه للعنوان
الاخر على اجماله، وهو خارج عن محل الكلام. فتأمل.
وأما الثاني فهو حجة على ثبوت الحكم للافراد المتعددة بخصوصياتها
المستلزم لتخصيصات متعددة بعدد الافراد تبعا لتعدد الخصوصيات التي لا
يثبت حكم العام معها. ولازم ذلك أن يرجع الشك في انطباق عنوان الخاص
على بعض الافراد إلى الشك في تخصيص العام بذلك الفرد بخصوصيته
استقلالا زائدا على التخصيص بالافراد المعلومة، من دون فرق بين أن يكون
العام بنفسه عنوانيا وكونه غير عنواني، فيتعين حجية العام فيه بعد فرض عدم
حجية الخاص فيه، لأصالة العموم مع الشك في زيادة التخصيص بلا اشكال.
95

وبعبارة أخرى: وضوح العنوان مفهوما لا أثر له بعد فرض عدم كونه
بنفسه موردا للتخصيص، وانما المهم وضوح أفراده التي هي مورد التخصيص،
والتي سبق لمحض الحكاية عنها، ومع فرض الاشتباه في بعضها وعدم المنجز
للفرد المشتبه من غير طريق العنوان يتعين الرجوع فيه لأصالة العموم.
فهو في الحقيقة خارج عن محل الكلام من الشك في مصداق الخاص
إلى الشك في مقدار التخصيص.
ودعوى: أن ظاهر حال الحاكم أنه أوكل تشخيص موضوع حكمه إلى
المكلف، فمع فرض تقييده بقيد لم يحرزه المكلف في مورد الاشتباه لا مجال
لاحرازه الحكم.
مدفوعة: بأنه بعد فرض دوران القيد بين الأقل والأكثر، وكون نفى الزائد
مقتضى أصالة العموم يحرز موضوع الحكم في مورد الاشتباه، فيحرز الحكم
بتبعه.
ومن هنا كان الظاهر تمامية التفصيل المذكور. لكنه ليس تفصيلا في محل
الكلام حقيقة وان أوهمه.
هذا، وقد احتج عليه في التقريرات بما يناسب التفصيل الثاني الذي يأتي
الكلام في وجهه.
الثاني: أنه إذا كان العام ظاهرا في احراز عنوان المشتبه المفروض إناطة
الحكم به زائدا على عنوان العام في تمام أفراده تبعا لتحقق الحكم فيها كان
حجة في الفرد المشتبه وتعين البناء على ثبوت حكمه فيه، وان لم يكن ظاهرا
في ذلك تعين عدم حجيته في الفرد المشتبه والتوقف عن ثبوت حكمه فيه.
وتوضيح ذلك: أنه لما كان ظاهر العام بدوا ثبوت حكمه في تمام أفراده،
كان مقتضاه بدوا ثبوت تمام ما يتوقف عليه الحكم من الملاك وما يستلزمه فيها،
فإذا قال المولى: أكرم كل من يدخل بيتي، وعلم من الخارج توقف وجوب
96

الاكرام بنظره على العلم والعدالة كان ظاهر العموم المتقدم كون كل من يدخل
بيته عالما عادلا، كما يكون مقتضاه تمامية ملاك وجوب الاكرام في جميعهم،
ومقتضاه عدم التنافي بينه وبين ما دل على اعتبار العلم والعدالة في من يجب
اكرامه.
لكن البناء على ذلك مما لا يمكن في أكثر عمومات الأحكام الشرعية
وغيرها من الاحكام العامة في القوانين ونحوها مع أدلة اعتبار بعض الأمور في
موضوعاتها، لوضوح غلبة عدم التلازم خارجا بين العناوين المأخوذة في
العمومات والعناوين المأخوذة في تلك الأدلة، بنحو لا مجال عرفا معه لحمل
العام على تحقق تلك الأمور والعناوين في أفراده، بل يتعين البناء على التنافي
بين الدليلين.
ومن ثم يبنى على أن أدلة اعتبار تلك الأمور في حكم العام مخصصة
للعام وكاشفة عن أن المراد الجدي بالعام اثبات حكمه في بعض أفراد موضوعه
أو أحواله، وهو مورد تحقق ما دلت تلك الأدلة على اعتباره في الحكم. ومرجعه
إلى اختصاص موضوع حكم العام بصورة تحقق ذلك الشئ.
ولذا تقدم منا في الاستدلال للمدعى أن احراز عنوان العام في الفرد لا
يكفي في جريان حكمه فيه، بل لابد من احراز موضوعه الحقيقي المتحصل منه
بعد الجمع بينه وبين الخاص.
لكن كثيرا ما يكون ظاهر العام في القضايا الشرعية وغيرها تحقق ذلك
الامر المعتبر في الحكم في تمام أفراد، وأنه ملازم لعنوان العام كحكمه، لعدم
المانع من ذلك بسبب عدم وضوح الانفكاك بينهما عند العرف. بل لا اشكال في
دلالته على ذلك لو كان ذلك الامر ظاهر الملازمة للحكم عقلا، كالملاك، أو
عرفا، كالطهارة اللازمة عرفا وارتكازا للمطهرية، حيث يكون وضوح لزومها
فيها مستلزما لدلالة عموم مطهرية الشئ على عموم طهارته، فيما لو لم يتضح
97

عدم التلازم بينهما، على ما فصلنا الكلام فيه في مباحث المياه من الفقه.
وفى مثل ذلك لا مجال لدعوى تقييد موضوع حكم العام بصورة وجود
ذلك الشئ، إذ لا معنى للتقييد به مع الحكم بوجوده تبعا لعموم الحكم الملزوم
له، بل يكون مقتضى عمومه ثبوته في تمام أفراده، حتى أنه لو فرض عدم ثبوته
في فرد كان منافيا للعموم المذكور وكاشفا عن تخصيص موضوع حكم العام
بالإضافة إلى ذلك الفرد بخصوصيته.
ومثل ذلك ما لو كان المستفاد من العام بنفسه أو بقرائن خارجية - أنه
وارد لتحديد مفهوم ذلك الامر المعتبر في الحكم أو مصداقه أو بيان مورده، وأن
ما تضمنه من جعل الحكم مترتب على ذلك ومتفرع عليه.
فالأول: مثل ما لو دل الدليل على جريان حكم التوارث بالشهادتين، ودل
آخر على اعتبار الاسلام فيه، حيث يفهم من الأول أن مفاد الشهادتين مطابق
لمفهوم الاسلام، وأن الدليل الأول شارح لموضوع الثاني.
والثاني: ما دل على ترك المرأة الصلاة إذا رأت الدم ثلاثة أيام مع ما دل
على اعتبار الحيض في جواز ترك الصلاة، حيث يفهم من الأول تحديد
مصاديق الحيض، وأنها تتحقق بالدم المذكور.
والثالث: مثل ما لو دل الدليل على الامر بلعن بنى أمية قاطبة مع ما دل
على حرمة لعن المؤمن، حيث يستفاد من الأول أنهم مستحقون للعن، لأنهم
غير مؤمنين.
وفى جميع ذلك لا ينبغي التأمل في عدم التنافي بين الدليلين، ليكون
أحدهما مخصصا للاخر، بل يكون العام واردا على الاخر ومنقحا لموضوعه.
ولو فرض ثبوت عدم تحقق ذلك الامر - المعتبر في الحكم - في بعض
أفراد العام المستلزم لعدم ترتب حكمه - كما لو ثبت كفر منكر الضروري، وان
شهد الشهادتين، وعدم حيضية الدم المستمر ثلاثة أيام إذا لم يفصل بينه وبين
98

الحيض السابق عشرة، أو ايمان بعض بنى أمية المعين لم يرجع إلى تخصيص
عموم العام بصورة وجوده بأن يبنى في الأمثلة المتقدمة على تخصيص عموم
جريان حكم التوراث بالشهادتين بما إذا كان قائلهما مسلما، وعموم ترك الصلاة
مع استمرار الدم ثلاثة أيام بما إذا كان حيضا، وعموم الامر بلعن بنى أمية بما إذا
لم يكونوا مؤمنين - لان ذلك خلاف فرض سوق العموم لبيان وجوده.
بل لابد من البناء على تخصيص العموم المذكور بذلك الفرد
بخصوصيته، فيبنى مثلا على تخصيص عموم اسلام من أقر بالشهادتين
المستفاد من عموم جريان حكم التوراث معهما بغير منكر الضروري،
وتخصيص عموم حيضية الدم المستمر ثلاثة أيام المستفاد من عموم ترك
الصلاة معه، بما إذا فصل بينه وبين الحيض السابق عشرة أيام، وتخصيص عموم
عدم ايمان بنى أمية المستفاد من الامر بلعنهم بغير الشخص الخاص الذي ثبت
ايمانه.
ومنه يظهر أن المرجع مع الشك في حال بعض أفراد العام المذكور وأنه
واجد للامر المفروض اعتباره في الحكم أو فاقد له هو عموم ذلك العام،
لصلوحه لان يكون بيانا على ثبوته فيه اقتصارا في تخصيصه على الفرد المتيقن
عدم ثبوته فيه، لما ذكرناه من كون التخصيص به بخصوصيته لا بعنوانه
المشكوك ثبوته في الفرد الاخر. ومن هنا يتم التفصيل المذكور.
لكنه ليس تفصيلا في محل الكلام، لعدم الشك في دخول الفرد تحت
عنوان يعلم بتخصيص العام بالإضافة إليه - كما هو محل الكلام بل في
التخصيص بالفرد بخصوصيته زائدا على التخصيص المتيقن الذي لا اشكال في
حجية العام معه، وصلوحه لان يكون بيانا لجهة الشك واحراز ما يعتبر في
الحكم.
وكأن بعض الأعاظم قدس سره نظر إلى ما ذكرنا حين ذكر أن الشك إذا كان في
99

الملاك كان العام صالحا لبيان ثبوته في تمام أفراده، فلا يعتنى بالشك في ثبوته
في بعضها، بل يتمسك فيه بعموم الحكم، وأن ذلك ليس من صغريات محل
الكلام، لعدم كون الملاك قيدا في موضوع الحكم، ليكون الشك فيه شكا في
المخصص.
ولعله لذا مثل له بمثال اللعن المتقدم، مع وضوح أن ذلك ليس من الشك
في الملاك، فان عدم الايمان ليس ملاكا لجواز اللعن، بل موضوع له كما ذكره
بعض مشايخنا. غايته أنه الموضوع الذي يستفاد من العام بيان مورده، أو مما
يستفاد من العام ثبوته للملازمة الذهنية بينه وبين حكمه نظير ملازمة المطهرية
للطهارة.
الثالث: ما ذكره غير واحد من أن المخصص ان كان لفظيا لم يكن العام
حجة في الفرد المشتبه، وان كان لبيا كان العام حجة فيه.
وربما نسب ذلك للتقريرات. لكن ما في التقريرات ظاهر في إرادة
التفصيل الأول. غاية الامر أنه ذكر أن أغلب ما يكون المخصص عنوانيا إذا كان
لفظيا، وأغلب ما يكون غير عنواني إذا كان لبيا. وهو أمر آخر غير التفصيل في
حجية العام بين المخصص اللفظي واللبي، الذي نحن بصدده.
على أنه غير ظاهر، وانما الذي يكثر في المخصص اللبي اجمال مورد
التخصيص وتردده مفهوما بين الأقل والأكثر أو نحوهما.
وكيف كان، فقد استدل عليه بوجوه..
أحدهما: ما ذكره المحقق الخراساني من أن المخصص إذا كان لفظيا فقد
ألقى المولى حجتين يجب اتباع كل منهما، وحيث كان مقتضى الجمع بينهما
تقديم الخاص بنحو يكشف عن عدم إرادة مورده من العام وقصور موضوع
حكم العام عنه لزم التوقف في مورد الشك، لعدم العلم بدخوله في ما أريد من
العام.
100

أما إذا كان المخصص لبيا فالملقى من المولى ليس الا العام الظاهر في
إرادة العموم بتمامه، فلابد من اتباعه الا فيما يعلم بعدم ارادته منه، لان على
الحكيم القاء كلامه على وفق غرضه ومرامه.
واليقين بعدم إرادة الخاص انما يكون حجة فيما يعلم بإضافة عليه
وخروجه عن العام.
ويشكل: بأن مجرد الفرق بين المخصصين بالقاء اللفظي من قبل المولى
دون اللبي لا يصلح فارقا بعد اشتراكهما في صحة احتجاج المولى بهما على
العبد، وفى الكشف عن مراده من العام، وأنه يقصر عن موردهما وعن تمام
أفرادهما الواقعية التي يحتمل كون الفرد المشتبه منها، حيث سبق منا ومنه أن
ذلك هو المعيار في عدم حجية العام في الفرد المذكور، وان كان الخاص غير
حجة فيه أيضا، لعدم احراز موضوعه.
وما ذكره في وجه التمسك بالعام في الفرد المذكور مع المخصص اللبي
من أن على الحكيم القاء كلامه على وفق غرضه ومرامه انما ينفع لو لم ينكشف
بالخاص مخالفة ظهور العام لمراده، وقصوره عن أفراد الخاص الواقعية، كما
ذكرنا.
الا أن يرجع إلى ما ذكرناه في التفصيل الثاني من أن ظاهر العام بدوا لما
كان هو ثبوت حكمه في تمام أفراده كان مقتضاه ثبوت تمام ما يعتبر في الحكم
فيها، من دون أن يكون موضوعه مقيدا بها، فإذا شك في ثبوت بعض ما يعتبر
في الحكم في بعض الافراد لزم البناء على ثبوته وترتب الحكم عليه، عملا
بعموم العام، واقتصارا في الخروج عنه على ما علم بفقده لشئ مما يعتبر في
الحكم.
وقد يناسبه قوله قدس سره بعد ذلك: (بل يمكن أن يقال: ان قضية عمومه
للمشكوك أنه ليس فردا لما علم بخروجه عن حكمه، فيقال في مثل: لعن الله
101

بنى أمية قاطبة: ان فلانا وان شك في ايمانه يجوز لعنه، لمكان العموم، وكل من
جاز لعنه لا يكون مؤمنا، فينتج: انه ليس بمؤمن).
وبما تقدم يظهر حال ذلك، وأنه لو تم يجرى في المخصص اللفظي،
كالأمثلة المتقدمة، ومنها المثال الذي ذكره، لوضوح أن عدم جواز لعن المؤمن
يستفاد بالمطابقة والالتزام من الأدلة اللفظية المتضمنة تحريم لعن
غير المستحق (1)، وسب المؤمن (2)، وتعييره وتأنيبه (3)، وايذائه (4)، واهانته (5)،
واذلاله واحتقاره (6)، والطعن عليه (7) وغير ذلك، مما يتضمن حرمة نفسه
وعرضه.
كما أن لعن المعصوم أو أمره باللعن في حق شخص يفيد بالملازمة عدم
ايمانه، كإفادة دليل المطهرية الطهارة أو نحو ذلك مما تقدم.
وحينئذ يتعين أن لا يكون عدم الايمان قيدا لموضوع العموم المذكور
ليكون مما نحن فيه بل العموم منقح له، فلو ثبت ايمان بعضهم كان التخصيص
به بخصوصيته، ورجع احتمال ايمان غيره إلى احتمال زيادة التخصيص
المدفوع بأصالة العموم، وخرج عن محل الكلام، وهو الشك في مصداق
الخاص المحدد المفهوم.
ولولا ذلك لم يتجه التمسك بعموم اللعن حتى لو كان دليل حرمة لعن
المؤمن لبيا، وتم التفصيل المذكور، لان حرمة لعن المؤمن من الوضوح في

(1) راجع الوسائل ج 8 باب: 160 من أبواب أحكام العشرة.
(2) راجع الوسائل ج 8 باب: 158 من أبواب أحكام العشرة.
(3) راجع الوسائل ج 8 باب: 150 من أبواب أحكام العشرة.
(4) راجع الوسائل ج 8 باب: 145 من أبواب أحكام العشرة.
(5) راجع الوسائل ج 8 باب: 146 من أبواب أحكام العشرة.
(6) راجع الوسائل ج 8 باب: 147 من أبواب أحكام العشرة.
(7) راجع الوسائل ج 8 باب: 159 من أبواب أحكام العشرة.
102

ارتكازيات المتشرعة بنحو تلحق بالتخصيص المتصل المانع من انعقاد ظهور
العام في العموم، فلا يصح التمسك معه بالعموم في مورد الشك مطلقا، وان كان
المخصص لبيا، كما اعترف به قدس سره وأشرنا إليه في أول هذا الفصل.
ثانيها: ما حكاه بعضهم عن التقريرات من أن القاء المولى للخاص
اللفظي كاشف عن أنه أحال معرفة أفراده وتمييزها عن بقية أفراد العام على
المخاطب، فلا يكون دخول المشكوك في الباقي تحت العام بأولى من دخوله
في الخاص الخارج عنه، وأما إذا كان الخاص لبيا فالمتكلم لم يلق لبيان حكمه
الا حجة واحدة، وهي العام، وظاهره أنه بصدد بيان مصاديق حكمه بنفس
عنوان العام وأنه كلما يصدق عليه فهو محكوم بحكمه، وأنه ليس في أفراده
عنوان مناف لحكمه، فيكون حجة في كل ما لم يعلم بخروجه من الافراد.
وفيه: أنه ان استفيد من العام بعد الجمع بينه وبين الدليل الدال على اعتبار
شئ ما في موضوع حكمه كون أفراد العام واجدة لذلك الشئ، فلا تنافى بين
العام وذلك الدليل، ليكون مخصصا له، بل يكون العام واردا عليه ومنقحا
لموضوعه.
وحينئذ يتجه التمسك بالعام في الفرد المشكوك واجديته للامر المعتبر
في الحكم وان كان الدال على اعتبار ذلك الشئ لفظيا، لان ظاهر حال المتكلم
في الدليل اللفظي وان كان هو الإحالة على المخاطب في معرفة أفراده
وتمييزها، الا أنه يكفي المخاطب الرجوع للعام المذكور في التمييز بعد فرض
نهوضه به.
على أن الإحالة على المخاطب في تشخيص موضوع الخاص انما هو لترتيب حكمه، لا
لترتيب حكم العام، فلا ينهض برفع اليد عن ظهور العام
المفروض قطعا.
وان لم يستفد من العام بعد الجمع ذلك، بل لا ظهور للعام الا في كون
103

عنوانه تمام موضوع الحكم، كان الدليلان متنافيين، وبعد فرض تخصيص العام
بذلك الدليل يقصر عن أفراد الخاص الواقعية، فلا يصح التمسك به فيما احتمل
كونه منها وان كان ذلك الدليل لبيا، لما تقدم من أنه يكشف أيضا عن قصور
موضوع حكم العام وتقييده بغير أفراده.
فليس معيار الفرق بين الامرين كون الخاص لفظيا وكونه لبيا، بل ما تقدم
في التفصيل السابق.
ويأتي في الوجه الثالث تقريب عدم نهوض العام بنفي المنافى لحكمه
في أفراده، كما يأتي أن لازم ذلك عدم التمسك بالأصل الموضوعي المنقح
لعنوان الخاص.
ثالثها: ما ذكره بعض المحققين قدس سره من أن العام لما كان دالا على ثبوت
حكمه الفعلي لافراده، دون الاقتضائي، كان دالا بالملازمة على عدم منافاة أي
عنوان تتصف به أفراده لحكمه، وعلى عدم وجود العناوين المنافية له فيها.
وحينئذ يكون الخاص اللفظي منافيا له في الامرين معا، فهو يدل بالأصل
على كون عنوانه منافيا لحكم العام، ويدل تبعا على كون العنوان المذكور
موجودا أو متوقعا بين الافراد والا كان بيانه عبثا، لعدم الفائدة، وحيث فرض
تقديم الخاص لزم رفع اليد به عن دلالة العام على كلا الامرين، فلا رافع للشك
في الفرد المشتبه، أما الخاص اللبي فهو ينافي العام في الامر الأول، لمشاركته
للفظي في الدلالة على عدم ثبوت حكم العام مع عنوانه، دون الثاني، لعدم كونه
ملقى من المولى، ليكون القاؤه مع عدم وجوده أو توقعه عبثا منه، بل هو حاصل
بسبب ادراك المنافاة بين حكم العام وعنوان الخاص وان لم يكن موجودا في
أفراد العام. فيبقى العام حجة في الدلالة على عدم وجود المنافى لحكمه في
أفراده، فيرتفع به الشك في الفرد المشتبه ويحرز به خروجه عن الخاص،
المستلزم لثبوت حكم العام له.
104

ويشكل: بأن العام في الشرعيات حيث كان غالبا أو دائما بنحو القضية
الحقيقية كان مفاده نفى منافاة كل عنوان يمكن طروؤه على أفراده لحكمه وان
لم يوجد ولا يتوقع فيها، لان موضوع القضية الحقيقية لما كان هو العنوان بما له
من أفراد موجودة أو فرضية فمقتضى عموم العام ثبوت الحكم لأي فرد يفرض
وان اتصف بالعنوان غير المتوقع، المستلزم لعدم منافاة العنوان المذكور لحكم
العام. ولا مجال مع ذلك لدلالته على نفى العنوان المنافى لافراده، حيث لا منافى
حتى يدل على انتفائه فيها. وانما يثبت المنافى بالخاص الكاشف عن عدم
مطابقة ظهور العام للواقع، وأن موضوع حكمه ليس مطلق عنوانه، بل خصوص
الحصة الفاقدة لعنوان الخاص منه، وحينئذ لا مجال للرجوع إليه في الفرد
المشتبه، لعدم احراز موضوع حكمه فيه وعدم الرافع لاشتباهه بعد ما ذكرناه من
عدم نهوض العام بنفي المنافى لحكمه عن أفراده.
وأما القضية الخارجية فهي لا تدل على عدم منافاة كل عنوان لحكم العام،
بل عدم منافاة خصوص العناوين الموجودة في الافراد، فإذا فرض العلم بوجود
العنوان الخاص ولو في فرد واحد لم يكن للعام ظهور في نفسه عن بقية الافراد،
لا بنفسه مع قطع النظر عن الخاص، ولا بعد الجمع بينه وبين الخاص، لان
مقتضاه في نفسه عدم منافاة العنوان المذكور لحكمه لان مقتضاه ثبوت حكمه
للفرد الواجد له - فلا ينهض بنفيه عن بقية الافراد، ومقتضاه بعد الجمع قصور
موضوعه عن الحصة الواجدة للعنوان من دون نظر لتعيينها.
وان فرض عدم العلم بوجود العنوان في فرد فقد يكون مقتضى العموم
عدم وجود العنوان على تقدير منافاته المفروض ثبوتها بالدليل الاخر. وحينئذ
يخرج ذلك الدليل عن كونه مخصصا ويخرج عن محل الكلام على ما يتضح
في التفصيل الرابع إن شاء الله تعالى.
وهو غير مهم في محل الكلام، لما ذكرناه من أن العمومات الشرعية بنحو
105

القضية الحقيقية التي ذكرنا عدم دلالة العموم معها على نفى العنوان المنافى، بل
على عدم منافاة أي عنوان يفرض.
هذا، ولو غض النظر عن ذلك، وسلم ما ذكره من دلالة العام على عدم
وجود المنافى في أفراده، ومنافاة الخاص اللفظي له دون اللبي، لاشكل
الاستدلال بذلك على التفصيل المذكور..
تارة: بأن ظهور الخاص اللفظي في وجود المنافى بين أفراد العام حيث
كان لدفع محذور العبث واللغوية فهو مختص بما إذا كان الخاص أخص مطلقا،
دون ما لو كان أخص من وجه وفرض تقديمه على العام إذ يكفي في رفع
اللغوية حينئذ وجوده في الافراد الاخر الخارجة عن العام، فلا يعارض العام في
الدلالة على عدم وجوده في أفراده، مع عدم الفرق عندهم ظاهرا بين نوعي
الخاص المذكورين في محل الكلام.
وأخرى: بأن دلالة الخاص المطلق على وجود المنافى بين أفراده لما كان
بمعنى وجوده فيها في الجملة، لا في تمامها، تعين الاقتصار فيه على المتيقن،
ولم يرفع به اليد عن حجية العام في الدلالة على عدم وجود المنافى بالإضافة
إلى الفرد المشتبه لو زاد على المتيقن. ولو فرض عدم التفكيك في حجية العام
بين الافراد، لابتنائها على الارتباطية فلا وجه لتقديم الخاص على العام في
الدلالة على وجود المنافى بين أفراده، لاستحكام التعارض بينهما حينئذ بعد
امتناع الجمع العرفي بالتخصيص.
على أنه لو سلم تقديم الخاص حينئذ وسقوط الخاص رأسا عن الحجية
لزم رفع اليد عن العام في الدلالة على عدم وجود المنافى بين أفراده لو علم
بوجود المنافى فيها في الجملة، ولو كان المخصص لبيا، واختص هذا الوجه بما
إذا لم يعلم بوجود عنوان الخاص اللبي أصلا في أفراد العام.
وثالثة: بأن لازم ذلك عدم الرجوع في المخصص اللبي للأصل
106

الموضوعي المنقح لكون المشتبه واجدا لعنوان الخاص ومحكوما بحكمه،
لكون الأصل المذكور محكوما للعام المفروض نهوضه بنفي عنوان الخاص في
أفراده، ولا يظن منهم البناء عليه.
رابعها: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من أنه إذا كان المخصص لفظيا فحيث
كان موضوع الحجية فيه مدلوله بماله من مفهوم محدود فالفرد المشتبه يحتمل
كونه موضوعا للحجة على خلاف العام بسبب احتمال انطباق مفهوم الخاص
وعنوانه عليه.
أما إذا كان لبيا فحيث كان المخصص فيه هو العلم امتنع حصوله في الفرد
المشتبه، للتضاد بين العلم والشك، وبذلك يكون الفرد المشتبه معلوم الخروج
عن الحجة المخالفة للعام، فتتعين حجية العام فيه، لانفراده فيه.
وفيه.. أولا: أنه حيث كان المفروض في محل الكلام ورود التخصيص
على العنوان، لا على الفرد ابتداء فاحتمال دخول الفرد المشتبه في موضوع
الحجية في المخصص اللفظي ليس لاحتمال حجية المخصص فيه ابتداء، بل
لكون المخصص بيانا وحجة على العنوان المحتمل انطباقه على الفرد المذكور،
ومثل هذا جار في المخصص اللبي إذا كان عنوانيا.
وثانيا: أن منشأ سقوط العام عن الحجية في الفرد المشتبه ليس هو
احتمال دخوله في موضوع الحجة، إذ لا يتجه رفع اليد عن الحجة في مورد
لاحتمال دخوله في حجة أخرى معارضة لها، بل يتعين العمل بالحجة ما لم
يثبت المعارض، وانما المنشأ له هو صلوح الخاص لبيان المراد من العام عرفا،
بحيث يكشف عن قصوره عن الافراد الواقعية للخاص، فلا يحرز دخول الفرد
المذكور في المراد الواقعي منه.
وان شئت قلت: العام والخاص ليسا متعارضين في الافراد ابتداء، والا
تعين تقديم العام في الفرد المشتبه، بل هما متعارضان في تعيين مراد المتكلم
107

من العموم، وحيث كان مقتضى الجمع بينهما حمل العام على ما عدا الخاص لا
يحرز تحقق موضوع الحجية في الفرد المشتبه، وذلك كما يجرى في المخصص
اللفظي يجرى في المخصص العنواني اللبي.
وقد تحصل من جميع ما تقدم عدم تمامية التفصيل بين المخصص
اللفظي واللبي.
ولعل نظر المفصلين إلى ما إذا كان العام بيانا لحال أفراده، وأنها خارجة
عما دل الدليل اللبي على منافاته لحكم العام من دون أن يكون انتفاؤه قيدا في
موضوعه، كما يناسبه بعض أمثلتهم والوجهان الثاني والثالث للاستدلال على
التفصيل المذكور. مع الغفلة عن أن ذلك خارج عن محل الكلام، حيث لا يكون
الدليل اللبي مخصصا بالإضافة إلى العنوان المحتمل انطباقه على الفرد، بل لو
كان هناك تخصيص كان موضوعه الفرد بخصوصيته، وليس العنوان الا مرآه
للافراد، أو جهة تعليلية للتخصيص بالإضافة إليها، ويكون مرجع الشك في
انطباقه على الفرد إلى الشك في زيادة التخصيص بالإضافة إليه، الذي لا اشكال
معه في حجية العام. كما يتضح بملاحظة ما تقدم.
الرابع: من التفصيلات في المقام: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره.
وبيانه، أنه تارة: يكون العام والخاص بنحو القضية الحقيقية.
وأخرى: يكونان بنحو القضية الخارجية.
وثالثة: يكون العام بنحو القضية الحقيقية والخاص بنحو القضية
الخارجية.
ورابعة: بالعكس.
فلا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في الصور الثلاث الأول،
للتكاذب بين العام والخاص، بسبب العلم بكون أفراد الخاص أفرادا للعام،
فيلزم الجمع بينهما، وحيث فرض أن الجمع بتقديم الخاص والبناء على
108

اختصاص موضوع العلم بما عدا مورده امتنع التمسك بالعام في الفرد المشتبه،
لعدم احراز دخوله في موضوع حكم العام وان كان واجدا لعنوانه، على ما تقدم
مكررا.
أما في الصورة الرابعة فلا يعلم بالتكاذب بينهما لامكان كون تمام أفراد
العام الخارجية غير متصفة بعنوان الخاص، فلا ملزم بالخروج عن ظاهر العام،
بل يجعل دليلا على عدم انطباق الخاص على أفراده.
لكن ما ذكره من عدم التكاذب في الصورة الرابعة انما يتم مع عدم العلم
باتصاف بعض أفراد العام بعنوان الخاص، أما مع العلم باتصاف بعضها به
وتردده بين الأقل والأكثر فلابد من التكاذب بين الدليلين، فيجرى فيه ما يجرى
في بقية الصور.
كما أن ما ذكره من التكاذب في الصور الثلاث الأول انما يتم في الخاص
المطلق مفهوما، كما لو ورد: أكرم العلماء، و: لا تكرم النحويين. أما في الخاص
من وجه المفروض التقديم في مورد الاجتماع كما لو ورد: أكرم العلماء، و: لا
تكرم الفساق، وفرض تقديم الثاني في مورد الاجتماع وتخصيصه الأول فقد
لا يعلم بالتكاذب بين الدليلين، لامكان مباينة أفراد العام الخارجية لافراد
الخاص لو كانا معا بنحو القضية الخارجية، وملازمة عنوان أحدهما لعدم الاخر
في الخارج - ولو اتفاقا - لو كانا بنحو القضية الحقيقية، وعدم اتصاف شئ من
أفراد الخاص الخارجية بعنوان العام لو كان العام بنحو القضية الحقيقية والخاص
بنحو القضية الخارجية.
ومن الظاهر عدم الفرق في محل الكلام بين الخاص المطلق والخاص
من وجه المفروض التقديم على العام. وعليه يبتنى دخول الصورة الرابعة في
محل الكلام، لوضوح أن الخاص فيها لما كان بنحو القضية الحقيقية الشاملة
لافراد عنوانه الفرضية يكون أعم من وجه من العام المختص بأفراد عنوانه
109

الخارجية.
ودعوى: أن ذلك خارج عن فرض العموم والخصوص حتى من وجه،
لرجوع الاحتمال المذكور إلى احتمال التباين الموردي، الذي لا تنافى معه بين
الدليلين.
مدفوعة: بأن فرض العموم والخصوص في المقام انما هو بلحاظ مفهوم
كل من العنوانين، لا بلحاظ الخارج، والا لم يتجه فرضه في الصورة الرابعة، لان
احتمال عدم اتصاف شئ من أفراد العام الخارجية بعنوان الخاص فيها مساوق
لاحتمال التباين الموردي بين الدليلين وعدم التنافي بينهما أيضا.
وبالجملة: مجرد كون القضية حقيقية أو خارجية لا يصلح بنفسه معيارا
في التكاذب بين الدليلين وعدمه اللذين يبتنى عليهما التفصيل المذكور.
نعم، ذكرنا في أول التفصيل الثاني أن العام لما كان ظاهرا بدوا في ثبوت
حكمه لتمام أفراده فمقتضاه ثبوت تمام ما يعتبر في الحكم في جميعها،
المستلزم لعدم التنافي بينه وبين دليل اعتبار ذلك الشئ في الحكم، بل يكون
واردا على ذلك الدليل ومحرزا لثبوت موضوعه في أفراد العام، فإذا قال: أكرم
كل من يدخل بيتي، وقال: لا يكرم الفاسق، يكون مقتضى الأول أن كل من
يدخل بيته غير فاسق، فلا ينافي الثاني، بل يكون واردا عليه.
كما ذكرنا هناك أنه لا مجال للبناء على ذلك في غالب عمومات الأحكام الشرعية
ونحوها من الاحكام العامة، لوضوح غلبة عدم التلازم خارجا بين
العناوين المأخوذة في عمومات الأحكام المذكورة والأمور المستفاد من الأدلة
الاخر دخلها في تلك الأحكام، بل لابد من البناء على التنافي بين الدليلين
والجمع بينهما بالتخصيص أو غيره، الا في بعض الموارد التي ذكرنا بعض
الضوابط لها في ما تقدم فراجع.
أما عمومات الاحكام غير العامة فقد يمكن فيها ذلك، من دون فرق بين
110

أن تكون بنحو القضية الخارجية، كما لو قال: أكرم من في الدار، أم الحقيقية، كما
لو قال: أكرم من أجالسه، حيث لا مجال للبناء على تخصيصهما بمثل: لا يكرم
الفاسق، مع احتمال أن كل من في الدار ليس بفاسق، وأنه لا يجالس الفاسق، بل
حيث لا يحرز التنافي بين العمومين المذكورين وذلك الدليل يتعين العمل
بالعمومين في تمام أفرادهما، ويكونان دليلا على عدم اتصاف شئ منها
بالفسق.
غاية الامر أن الحكم في القضية الخارجية لما لم يكن عاما بسبب
انحصار موضوعه بالافراد الموجودة فكثيرا ما يتجه فيه ما سبق، بخلاف الحكم
في القضية الحقيقية، فإنه كثيرا ما يكون عاما فلا يتجه فيه ما سبق.
كما أنهما يفترقان فيما لو علم باتصاف بعض أفراد العام بعنوان الخاص،
الذي يعلم معه بتخصيص العام في الجملة وعدم بقائه على عمومه، حيث لا
مجال غالبا لاحتمال تخصيص العام لو كان بنحو القضية الحقيقية بالإضافة
لخصوصيات الافراد المتصفة بعنوان الخاص، لعدم انحصارها، بل يكون
التخصيص بالإضافة لعنوان الخاص الجامع لها على ما هي عليه من الكثرة
وعدم الانحصار، فيمتنع التمسك بالعام في الفرد المشتبه، لما تقدم.
نعم، لو كانت الافراد المذكورة قليلة منضبطة فالامر كما لو كان العام بنحو
القضية الخارجية المنحصرة الافراد، التي كثيرا ما يتجه فيها احتمال التخصيص
بالإضافة لخصوصيات الافراد، ويكون عنوانها المنافى للحكم تعليليا، فيتجه
التمسك بالعموم في الفرد المشتبه، لرجوع الشك فيه للشك في زيادة
التخصيص.
كما أنه لو تردد الامر بين الوجهين تعين البناء على الثاني اقتصار على
المتيقن من التخصيص.
لكن كثيرا ما يستفاد التخصيص بالنحو الأول حتى مع كون العام بنحو
111

القضية الخارجية أو الحقيقية غير العامة، كما لو ورد التخصيص في المثالين
السابقين بلسان: لا يكرم منهم من كان فاسقا، أو: انما يكرم منهم العادل.
وبالجملة: لا مجال لجعل الضابط في الفرق كون العام بنحو القضية
الخارجية وكونه بنحو القضية الحقيقية، بل الضابط فيه ما تقدم في التفصيل
الثاني من صلوح العام لبيان عدم ثبوت المنافى للحكم في أفراده، المستلزم
لعدم التنافي بين الدليلين، وعدم العلم بتخصيص العام، أو العلم بتخصيصه في
الجملة ولو بخصوصيات الافراد، من دون أن يحرز تخصيصه بالعنوان المنافى
للحكم، فيرجع الشك في اتصاف الفرد بالعنوان المنافى للشك في أصل
التخصيص أو في زيادته بالإضافة إلى الفرد بخصوصيته، الذي يصح فيه
التمسك بالعام بلا كلام، ويخرج عن الشك في مصداق الخاص الذي هو محل
الكلام في المقام.
غاية الامر أن العام إذا كان بنحو القضية الخارجية فكثيرا ما يحرز فيه
ذلك. ولعل هذا هو الذي أو هم التفصيل المذكور.
وقد تحصل من جميع ما تقدم: أنه لا يتجه التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية مطلقا، وأنه لا يصح من التفصيلات المتقدمة الا الأولان اللذان لا
يرجعان حقيقة إلى التفصيل في ذلك، بل إلى لزوم التمسك بالعام مع الشك في
أصل التخصيص أو زيادته، الذي هو خارج عن محل الكلام. وأن التفصيلين
الأخيرين لا يتجهان الا إذا رجعا إلى أحد الأولين. فلاحظ وتأمل جيدا. ومنه
سبحانه نستمد العون والتوفيق.
112

وينبغي التنبيه على أمور..
الامر الأول: حيث ظهر مما تقدم أن المتجه من التفاصيل المتقدمة هو
الأول والثاني فمن الظاهر اشتراكهما في أمر واحد، وهو كون التخصيص
المعلوم أو المحتمل ليس بالإضافة للعنوان الذي يشك في ثبوته للفرد، بل
بالإضافة إلى خصوصيات الافراد، بحيث يرجع الشك في حال الفرد للشك في
التخصيص بالإضافة إليه بخصوصيته، الذي يكون نفيه مقتضى أصالة العموم، لا
إلى الشك في انطباق عنوان الخاص عليه.
ومن هنا كان تشخيص موضوع التخصيص وأنه العنوان أو الفرد مهما
جدا، إذ كثيرا ما يغفل عن رجوع التخصيص للفرد ويتخيل رجوعه للعنوان
بسبب اطراده في أفراده.
ولا مجال لاعطاء الضوابط العامة التامة له، إذ كثيرا ما يخضع للقرائن
الخاصة غير المنضبطة، والتي يختلف تشخيصها باختلاف الموارد والانظار،
وكثيرا ما يلتبس الحال في موردين..
أحدهما: ما إذا كان العنوان تعليليا، بأن يكون هو المنشأ للتخصيص
بالإضافة إلى الفرد من دون أن يكون بنفسه موردا للتخصيص.
فان الدخيل في موضوع الحكم وان كان هو العنوان، تبعا لدخل منشأ
انتزاعه في الملاك، وأخذ الفرد ليس الا لاتصافه بالعنوان، الا أن المتكلم قد
يأخذ الفرد موردا للتخصيص دون العنوان، لأنه ليس بصدد بيان موضوع الحكم
مع ايكال تشخيصه للمخاطب، بل بصدد تشخيص الموضوع بنفسه اما لأنه
مما يرجع إليه فيه، أو لتيسر تشخيصه عليه أو لغير ذلك فلابد له من بيان مورد
العنوان الدخيل في الحكم، وهو الفرد وجعله بنفسه طرفا للتخصيص، ولا معنى
مع ذلك لاخذ العنوان، بكون العنوان تعليليا، كما ذكرنا.
113

ومن هنا التبس الامر على غير واحد فادعى تخصيص عموم لعن بنى أمية
بغير المؤمن، وعموم اكرام الجيران بغير الأعداء، ونحو ذلك، مع الغفلة عن أن
مورد التخصيص في ذلك هو الافراد، دون العناوين، على ما تقدم توضيحه في
التفصيل الثاني.
ثانيهما: ما إذا كان العنوان انتزاعيا متفرعا على ثبوت الحكم لموضوعه،
على ما أطال الكلام فيه في التقريرات، حيث لا مجال مع ذلك لان يكون بنفسه
دخيلا في متعلق الحكم المذكور، كعنوان الصحيح والفاسد المجزى والمشروع
وغيرها مما ينتزع من مطابقة الفعل للتشريع وعدمها، وان غفل عن ذلك غير
واحد. فقد تقدم في أوائل مبحث الصحيح والأعم التعرض لتوهم بعضهم تقييد
اطلاقات التشريع بناء على الأعم بالصحيح، وأنه يمتنع لأجل ذلك التمسك بها
مع الشك في الصحة، وتكرر نظيره من صاحب الحدائق.
وقد سبق دفعه بما ذكرناه هنا من امتناع التقييد بالصحيح، بل مقتضى
الاطلاق صحة كل ما يحتمل فساده ما لم يدل الدليل على عدم مشروعيته
يخصوصيته تقييدا لاطلاق دليل المشروعية.
نعم، يمكن أخذها قيدا في غير أدلة التشريع مما يتضمن ترتيب الآثار
على المسميات، كتقييد ما تضمن أن تزويج البنت محرم لأمها بالتزويج
الصحيح - لو قلنا بأن المسمى هو الأعم - لعدم لزوم محذور أخذ المتأخر في
المتقدم منه، لان العنوان المذكور متأخر رتبة عن تشريع العقد وتنفيذه ومنتزع
منه، لا عن ترتب الآثار الاخر عليه، كما لعله ظاهر.
ثم انه يترتب على عدم أخذ العنوان طرفا للتخصيص أنه لا مجال لاحراز
دخول الفرد في التخصيص أو خروجه عنه بالأصل المحرز للعنوان أو لعدمه،
بل لابد من احرازه بطريق آخر، ولو كان هو العموم نفسه لو كان صالحا لاثباته،
على ما تقدم تقريبه في بعض الموارد أو كان هو الأصل المحرز المنشأ انتزاعه
114

لو كان انتزاعيا. فلاحظ.
الامر الثاني: لا يخفى أن المخصص متصلا كان أم منفصلا..
تارة: يتضمن تحديد موضوع حكم العام بحدود مفهومية. فالمتصل
كالتخصيص بالوصف في مثل قولنا: أكرم العالم العادل. والمنفصل كتخصيص
قولنا: أكرم العلماء بقولنا: انما يكرم العالم العادل.
وأخرى: لا يتعرض لحكم العام ولا لتحديد موضوعه، بل لتحديد ما
يخرج عنه ويكون موضوعا لحكم الخاص.
فالمتصل كالتخصيص بالاستثناء في مثل قولنا: أكرم العلماء الا النحويين،
حيث لا يتضمن تحديد الباقي المحكوم بحكم العام، بل تحديد الخارج عنه،
وهو المستثنى المحكوم بحكم الخاص.
والمنفصل كتخصيص عموم قولنا: أكرم العلماء بقولنا: لا يكرم النحوي،
ولا اشكال في أن هذا القسم يوجب تعنون موضوع حكم العام بالعنوان الخاص
بنحو يمنع من ظهور العام في تعنونه بعنوانه لو كان متصلا ويوجب رفع اليد
عن ظهوره في ذلك لو كان منفصلا.
لكن يظهر من استدلال بعض المحققين قدس سره لعدم نهوض المخصص
المنفصل ببيان تعنون موضوع حكم العام على خلاف مقتضى العام عموم ذلك
لهذا القسم من المنفصل - وان ذكره في القسم الثاني قال: (لما أشرنا إليه سابقا
من أن الواقع لا ينقلب عما هو عليه، فما هو الموضوع لحكم العام بحسب
الظهور المنعقد له يستحيل أن ينقلب عما هو عليه بسبب ورود كاشف أقوى،
بل يسقط عن الحجية في القدر المزاحم. لا يقال: يكشف المخصص عن أن
الموضوع الحقيقي للحكم ما عدا الخاص، لا أنه يوجب انقلاب الظهور، ليقال:
انه محال.
لأنا نقول: ليس للموضوعية للبعث الحقيقي الموجود بوجود منشأ
115

انتزاعه مقام الا مقام تعلق البعث الانشائي بشئ، وجعل الداعي إلى غير ما تعلق
به البعث الانشائي محال، لأنه مصداق جعل الداعي، والمفروض تعلقه بهذا
العنوان، فصيرورته داعيا إلى غير ما تعلق به خلف محال، فليس شأن
المخصص الا اخراج بعض أفراد العام وقصر الحكم على باقي الافراد من دون
أن يجعل الباقي معنونا بعنوان وجودي أو عدمي).
وكأنه يريد بذلك - على غموض في كلامه - أن البعث الحقيقي لما كان
تابعا للبعث الانشائي فموضوعه هو موضوع البعث الانشائي المستفاد من
الكلام، وحيث كان المفروض تعلق البعث الانشائي بعنوان العام وكان الغرض
من تعلقه به داعويته له فلا مجال معه لفرض كونه داعيا إلى غيره، لأنه خلف
محال فيتعين البناء على بقائه على ما هو عليه من داعويته إلى نفس عنوان العام،
كما هو مقتضى ظهوره، فيكون عنوان العام هو الموضوع للبعث الحقيقي، وان
لم يكن حجة في المقدار الخارج بالتخصيص، عملا بأقوى الحجتين.
ومنه يتضح عدم الفرق بين أدلة التخصيص المنفصل وعدم اختصاص
ذلك بالقسم الثاني منه بعد اشتراك القسمين في انعقاد ظهور العام في كون
عنوانه تمام الموضوع.
وفيه: أن البعث الحقيقي وان كان تابعا للبعث الانشائي، وكان الغرض من
البعث الانشائي جعل الداعي على طبقه، الا أن تبعية البعث الانشائي لظهور
العامم متفرع على حجية العام في الكشف عن مراد المتكلم، فمع فرض
معارضة ظهور الخاص له في ذلك وتقديمه عليه يتعين رفع اليد عن ظهور العام
في تحديد موضوع البعث الانشائي، فان كان الخاص وافيا به كان هو الحجة في
تعيينه، ولا مجال معه للرجوع فيه للعام.
بل كيف يمكن الجمع بين فرض موضوعية عنوان العام لحكمه مع
خروج بعض أفراده عنه، إذ من المعلوم أن مرادهم بالموضوع ما هو كالعلة التامة
116

للحكم بحيث لا ينفك عنه، وقد تقدم منا نظير ذلك في رد نظيره الذي تقدم من
بعض الأعيان المحققين قدس سره عند الاستدلال لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية.
نعم، لو لم يكن مقتضى الجمع بين العام والخاص عدم مطابقة العام
لمراد المتكلم، بل يبقى ظهوره حجة عليه، غايته أنه يحمل مراد المتكلم به على
ضرب القاعدة الظاهرية عند عدم الدليل المخرج، فيكون حكم العام ظاهريا لا
واقعيا، يتجه حينئذ البناء على كون عنوان العام تمام الموضوع لحكمه الظاهري
المذكور، فيطابق ظاهره من كونه صادرا بداعي جعل الداعي، ولا ينافيه الحكم
الثابت في مورد الخاص، لعدم التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي.
لكن مرادهم بتعنون موضوع حكم العام هو موضوع حكمه الواقعي المستفاد بعد التخصيص، الظاهري المذكور.
ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من صلوح الخاص في هذا القسم لبيان
تعنون موضوع حكم العام بعنوانه بما له من حدود مفهومية.
وأما القسم الثاني فقد اختلفوا في مقتضى الجمع بينه وبين العام على
أقوال واحتمالات..
الأول: أنه يوجب تعنون موضوع حكم العام بعنوان وجودي مضاد
لعنوان الخاص. ولعله المترائي من بعض عبارات التقريرات، كما ذكره سيدنا
الأعظم قدس سره.
الثاني: أنه يوجب تعنونه بكل عنوان مناف لعنوان الخاص، كما يظهر من
المحقق الخراساني قدس سره. وأما حمل كلامه على أن كل عنوان مباين لعنوان
الخاص لا ينافي حكم العام. فهو بعيد عن ظاهر كلامه غير مناسب للثمرة التي
رتبها عليه.
الثالث: أنه يوجب تعنونه بعنوان عدمي نقيض لعنوان الخاص. وبه
117

صرح بعض الأعاظم قدس سره.
الرابع: أنه لا يقتضى تعنون موضوع الحكم بعنوان آخر غير عنوان العام،
بل يوجب خروج مورده عن عموم الحكم. واليه ذهب بعض الأعيان المحققين
وسيدنا الأعظم قدس سرهما ويناسبه ما تقدم من بعض المحققين من المحشين في القسم
الأول.
لكن لا ينبغي التأمل في بطلان الأول، لمخالفته للمرتكزات في فهم
الأدلة، لوضوح أن المدلول المطابقي للتخصيص في هذا القسم ليس الا اخراج
مورده عن حكم العام، وهو لا يستلزم أخذ العنوان المضاد للخاص في موضوع
حكم العام بنحو يكون دخيلا في ثبوته واقعا وفى التعبد به ظاهرا.
ولا سيما وأن العناوين المضادة للخاص قد تتعدد مع تلازمها، والترجيح
بينها في الموضوعية بلا مرجح، والجمع بينها بلا فائدة، فيمتنع للزوم اللغوية.
ومنه يظهر ضعف الثاني، ومجرد ثبوت حكم العام مع أي عنوان يفرض
لا يستلزم دخلها فيه، كما هو الحال في جميع العناوين الملازمة لموضوع
الحكم.
وأما الثالث فقد استدل عليه بعض الأعاظم قدس سره بأنه حيث كان الاهمال في
موضوع الحكم ممتنعا فموضوع حكم العام بالإضافة إلى عنوان الخاص ان كان
ملحوظا بشرط شئ أو لا بشرط لزم التناقض والتهافت بين حكم العام وحكم
الخاص، فتعين لحاظه بشرط لا، وهو المدعى، لرجوعه إلى تقييد موضوعه
بعدم عنوان الخاص.
وقد يجاب عن ذلك: بامكان اشتمال ذات المطلق المحفوظة في أفراد
عنوان العام على ملاك مقتض لحكمه، مع اشتمال الواجد منها لعنوان الخاص
على ملاك مقتض لحكم الخاص أيضا، ومع أقوائية الثاني يثبت حكم الخاص
للمقيد بما هو مقيد، وان كانت الذات المحفوظة فيه بما هي هي مشتملة على
118

الملاك المقتضى لحكم العام. ومن هنا لا مانع من كون تمام موضوع حكم العام
هو عنوانه مع ثبوت حكم الخاص لمورده.
لكنه كما ترى! فان ذلك انما يتم في العناوين الثانوية التي لا يكون
موضوع الحكم وملاكه قاصرا عن موردها، بل يكون طروؤها مانعا من فعلية
الحكم مع تمامية مقتضبة، وموردها خارج عن المتيقن من باب التخصيص
وداخل في التزاحم الملاكي.
على أنه انما يقتضى اطلاق موضوع حكم العام الاقتضائي، لا الفعلي
الذي هو محل الكلام، والا فعموم موضوع الحكم الفعلي لا يجتمع مع
التخصيص. بل لابد في مثل ذلك من الالتزام بأخذ عدم عنوان الخاص في
موضوع حكم العام، لان عنوان الخاص لما كان من سنخ الرافع أو المانع كان
عدمه متمما لموضوع الحكم، كما يكون عدم المانع متمما للعلة في
التكوينيات، كما لا يخفى.
ويختص الاشكال بما إذا كان عنوان العام قاصرا عن الاقتضاء في مورد
الخاص، الذي هو المتيقن من باب التخصيص.
والذي ينبغي أن يقال: أنه لا اشكال في أن التخصيص يكشف عن عدم
اطلاق موضوع حكم العام واختصاصه بفاقد القيد، الا أنه لا يستلزم أخذ عنوان
نقيض الخاص قيدا في موضوع الحكم، بحيث يكون سورا له ودخيلا فيه، بل
يمكن كون قصر الحكم عنه بنتيجة التقييد. فما هو الدخيل في موضوع حكم
العام في مورد فقد عنوان الخاص ليس الا عنوان العام وان لم يكن صالحا للتأثير
في مورد عنوان الخاص. وليس ذلك لاخذ عنوان عدم الخاص متمما لموضوع
حكم العام، بل هو محض لازم مقارن مع كون تمام الموضوع في مورده
المأخوذ من الشارع هو عنوان العام لا غير.
وحينئذ لا ملزم باستفادة تقييد موضوع حكم العام بعدم عنوان الخاص
119

بعد أن لم يكن مفاد التخصيص المطابقي ولا الالتزامي الا خروج مورد الخاص
عن حكم العام وقصور، عنوان العام عن تأثير حكمه في مورده، بل يتعين
اختصاص الموضوع العنواني بعنوان العام، وان لم يكن تمام الموضوع الحقيقي
الذي هو بمنزلة العلة التامة يدور الحكم مداره وجودا وعدما، لفرض قصوره
في مورد الخاص. ولا يبعد رجوع ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره لذلك.
بقى الكلام في ثمرة الأقوال في المقام، وهي تظهر في التمسك بالأصول
الموضوعية لاحراز حكم العام في الفرد المشتبه، لوضوح أنه لابد في ترتب
الحكم الذي تضمنه الدليل عملا من احراز موضوع حكمه، ولا ينفع فيه احراز
غيره من العناوين، وان كان لازما للموضوع الا بناء على الأصل المثبت.
وحينئذ يلزم في ترتيب حكم العام في المقام على الأول احراز العنوان
الوجودي المضاد للخاص، وعلى الثالث احراز العنوان العدمي، وعلى الثالث
يكفي احراز أي عنوان مناف له وجوديا كان أو عدميا.
وهذا كله واضح، انما الاشكال على القول الرابع، فقد صرح بعض الأعيان
المحققين وسيدنا الأعظم قدس سرهما بامتناع التمسك بالأصل الموضوعي وجوديا كان
أو عدميا، وأن الأصل العدمي وان كان ينفع في نفى حكم الخاص الا أنه لا
يقتضى اثبات حكم.
نعم، لو لم يتضمن العام حكما، بل مجرد نفى حكم الخاص - كما لو قيل:
لا يجب اكرام العالم الا العادل - لزم ترتبه، كما نبه له سيدنا الأعظم قدس سره.
لكن يصعب البناء على ذلك بالنظر للمرتكزات الاستدلالية، فإذا قيل:
يجب صلة كل فقير، ثم ورد: يستحب صلة الفقير المكفي المؤنة. فالتوقف عن
وجوب صلة زيد مع استصحاب عدم كونه مكفي المؤنة بعيد جدا، ولا يظن
منهما ولا من غيرهما البناء على ذلك في نظائره من الفقه.
بل قد جرى سيدنا الأعظم قدس سره في مستمسكه على خلاف ذلك في جملة
120

من الفروع، فقوى وجوب تغسيل من شك في شهادته، لأصالة عدم شهادته
المحرزة لدخوله في عموم وجوب تغسيل الميت، والعفو عن قليل الدم
المشكوك كونه دم الحيض أو نحوه، لأصالة عدم كونه منهما المحرزة لدخوله
في عموم العفو عما دون الدرهم، وعدم العفو عن الدم المشكوك كونه من القرح أو
القرح، لأصالة عدم كونه منهما المحرزة لدخوله في عموم مانعية
النجاسة من الصلاة.
بل قال عند الكلام في الأخير: (بناء على ما هو الظاهر من أن نفى عنوان
الخاص بالأصل يكفي في ثبوت حكم العام له). وهو صريح في مخالفته لما
ذكره هنا من عدم الاكتفاء بالأصل المذكور.
نعم، قال في وجه ذلك عند الكلام في الثاني: (وقد عرفت أن الجمع بين
الخاص والعام يقتضى عرفا كون موضوع حكم العام عنوان العام الذي ليس
بخاص).
وهو صريح في عدوله عن أصل مبنى المنع من التمسك بالأصل، وبنائه
على الوجه الثالث دون الرابع.
لكن لم يتضح بناء العرف على ذلك في غير ما إذا كان عنوان المخصص
ثانويا بعد ما ذكرنا. كما لم يتسن لي عاجلا العثور على توضيح ذلك منه لينظر
فيه.
ولا يبعد كون استيضاحه له ناشئا عما أشرنا إليه من قضاء المرتكزات
الاستدلالية بالاكتفاء في ثبوت حكم العام للفرد بالأصل المحرز لعدم دخوله في
عنوان الخاص، لدعوى التلازم بينهما.
لكن الظاهر عدم التلازم بينهما، بل يكفي الأصل المذكور حتى بناء على
ما ذكرنا من عدم تعنون موضوع حكم العام بالعنوان العدمي النقيض للخاص.
لان العنوان العدمي وان لم يكن مأخوذا في موضوع حكم العام ولا دخيلا
121

في ترتبه، الا أن احرازه يقتضى احراز عدم خروج مورده عن عموم حكم العام،
بل احراز بقائه تحته محكوما بحكمه.
ان قلت: كون المورد محكوما بحكم العام ليس مفادا للأصل المذكور، ولا
أثر لمفاده بعد فرض عدم أخذ القيد العدمي في موضوع حكمه، بل هو لازم له،
فالتمسك به فيه لا يخرج عن الأصل المثبت.
قلت: التخصيص وان لم يقتض تعنون موضوع العام بعنوان عدم
الخاص، الا أنه يقتضى تحديد موضوعه بما يطابقه، لما أشرنا إليه من أنه
يكشف عن عدم كون عنوان العام تمام الموضوع الحقيقي، بل هو مقيد
بخصوصية ما، وهذه الخصوصية وان لم تحدد من قبل الشارع الأقدس مفهوما
بعنوان صالح لان يكون سورا للموضوع، الا أنها قد حددت من قبله مصداقا
ببيان عدم خروج غير موارد عنوان الخاص عنه، فمع احراز أن الفرد من القسم
الباقي لا الخارج بالأصل الموضوعي يحرز واجديته لحد الموضوع المأخوذ
من قبل الشارع.
وذلك كاف في الخروج عن الأصل المثبت، لان المعيار فيه ليس على
احراز عنوان موضوع الحكم الدخيل فيه، بل على احراز مورده، تبعا للحد
المستفاد من الشارع الأقدس الإناطة في مقام العمل وبيان الحكم وان كان من
طريق اللازم، كما ذكرناه في بحث الأصل المثبت.
والا فأخذ العنوان في الأدلة اللفظية لا ظهور له الا في ترتب الحكم عند
ترتب العنوان وتحديد مورده، لا في دخل العنوان في الحكم، لامكان أن يكون
العنوان ملازما لما هو الدخيل فيه، غايته أنه قد يشعر بدخله فيما لو كان مناسبا
للحكم ارتكازا. فلو لا الاكتفاء باحراز ذلك في التعبد بالحكم والخروج عن
الأصل المثبت لم يكن وجه للاكتفاء باحراز العنوان الا مع العلم بدخله في
الحكم بمعنى دخل منشأ انتزاعه، ومن المعلوم من المرتكزات الاستدلالية
122

خلافه.
ويظهر وجه ذلك بملاحظة ما ذكرناه في مبحث الأصل المثبت من أن
منشأ عدم الرجوع إليه هو انصراف أدلة التعبد الظاهري إلى التعبد بالكبريات
الشرعية موضوعا أو حكما، ولا تشمل الملازمات الخارجية. وهو مختص عرفا
بما إذا لم تكن الملازمة مستفادة من الشارع الأقدس في مقام تحديد الحكم
وبيان مورده من دوم خصوصية للعنوان في ذلك.
وقد يتضح ما ذكرنا بملاحظة ما إذا نسخ حكم العام في مورد عنوان
الخاص، فان استفادة تعنون الباقي بعنوان عدم الخاص بعيد جدا، وعدم الاكتفاء
بأصالة عدم الخاص لاحراز حكم العام أبعد.
وأما عدم الاكتفاء باحراز العنوان الانتزاعي وان كان مذكورا في كلام
الشارع الأقدس - فليس هو لعدم دخل العنوان المذكور في الحكم، بل لسوقه
في كلام الشارع لمحض الحكاية عما هو الحد للحكم من دون أن يراد به
تحديد الحكم وبيان موارده.
وبما ذكرنا يتضح أنه لا فرق بين القول الثالث والرابع في مقام العمل.
ومن ثم لا يهم تحقيق الحق منهما مع وضوح بطلان القولين الأولين، وكون
الثمرة المشتركة بين القولين الأخيرين ارتكازية. فلاحظ.
الامر الثالث: قال المحقق الخراساني قدس سره: (ربما يظهر من بعضهم
التمسك بالعمومات فيما إذا شك في فرد لا من جهة احتمال التخصيص، بل من
جهة أخرى، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمايع مضاف، فيستكشف
صحته بعموم مثل أوفوا بالنذور فيما إذا وقع متعلقا للنذر، بأن يقال: وجب
الاتيان بهذا الوضوء وفاء بالنذر للعموم، وكل ما يجب الوفاء به لا محالة يكون
صحيحا، للقطع بأنه لولا صحته لما وجب الوفاء به. وربما يؤيد ذلك بما ورد
من صحة الاحرام والصيام قبل الميقات وفى السفر إذا تعلق بهما النذر كذلك).
123

ثم تعرض لرد ذلك. وسبقه إلى ذلك في التقريرات.
وحاصل ما ينبغي أن يقال في وجه رده: أن الاستدلال بعموم الحكم
الثانوي - كوجوب الوفاء بالنذر وبالشرط، وإطاعة المولى والزوج والوالدين -
فرع احراز موضوعه، وحيث فرض تقييده بالحكم الأولى كالرجحان في الوفاء
بالنذر، وعدم مخالفة الكتاب في الوفاء بالشرط وعدم معصية الله سبحانه في
إطاعة المخلوق - فان كان التقييد به مستفادا من قرينة متصلة كان التمسك
بالعموم مع الشك في القيد تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام
الذي لا يصح بلا كلام. وان كان تقييده به مستفادا من قرينة منفصلة كان التمسك
به مع الشك المذكور تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص
الذي سبق أن التحقيق عدم جوازه. وإذا لم يصح التمسك بعموم الحكم الثانوي:
لا مجال للانتقال للازمه، وهو الحكم الأولى المذكور.
على أنه لو صح التمسك بالعموم المذكور لم يصح اثبات اللازم المذكور
الا إذا كان لزومه عقليا، أما إذا كان شرعيا - تبعا لعموم الدليل - مع امكان التخلف
خارجا - تخصيصا للعموم - فالتمسك به مبنى على ما يأتي في الامر الرابع من
الكلام في حجية العام في عكس نقيضه، وهكذا الحال لو دل الدليل
بالخصوص على ثبوت الحكم الثانوي المذكور في مورد.
نعم، لو كان ذلك الدليل مسوقا لبيان اللازم المذكور والكناية عنه من باب
بيان اللازم ببيان الملزوم، أو كان مستفادا منه بسبب ملازمة عرفية بينهما فلا
اشكال.
هذا، وأما ما تضمن صحة الاحرام قبل الميقات والصيام في السفر مع
نذرهما كذلك فهو أجنبي عما نحن فيه، لان مقتضاه سببية النذر لرجحان
المنذور في الفرض وان لم يكن راجحا في نفسه، لا كشف وجوب الوفاء بنذره
عن رجحان الفعل في نفسه مع الشك في رجحانه كذلك، كما هو المدعى في
124

المقام.
هذا، وقد تعرض المحقق الخراساني قدس سره وغيره لبيان وجه صحة نذر
الصوم في السفر والاحرام قبل الميقات بما لا مجال لإطالة الكلام فيه لخروجه
عن محل الكلام.
الامر الرابع: لا اشكال في جواز التمسك بالعام لاثبات حكمه بعد احراز
موضوعه، وانما الاشكال في جواز التمسك به لاثبات حال الموضوع بعد احراز
الحكم.
وقد ذكر في التقريرات لذلك موردين:
الأول: ما لو علم بعدم جريان حكم العام في مورد معين وشك في كون
خروجه عنه تخصيصا مع واجديته لعنوانه، أو تخصصا مع عدم واجديته
لعنوانه، كما لو ورد عموم وجوب اكرام العلماء، وعلم بعدم وجوب اكرام زيد
واحتمل كونه عالما.
الثاني: ما لو علم بعدم جريان حكم العام في مورد مردد بين ما هو من
أفراد العام ليلزم التخصيص، وما هو خارج عنه فيلزم التخصص، كما لو ورد
عموم وجوب اكرام العلماء، وورد عدم وجوب اكرام زيد، وكان زيد مشتركا
بين شخصين أحدهما عالم دون الاخر. وظاهر شيخنا الأعظم قدس سره المفروغية عن
حجية العام فيهما، كما صرح به في التقريرات، ويقتضيه ما ذكره في الرسائل،
وحكى عنه في بعض الموارد. فيبنى في الأول على أن زيدا ليس بعالم، وفى
الثاني على أن المراد بزيد هو زيد غير العالم.
بل قال في التقريرات: (وعلى ذلك جرى ديدنهم في الاستدلالات
الفقهية، كاستدلالهم على طهارة الغسالة على أنها (بأنها. ظ) لا تنجس المحل،
فان كان نجسا غير منجس يلزم تخصيص قولنا: كل نجس منجس).
هذا، ولا اشكال ظاهرا في أنه لا نظر للعام في نفسه إلى حال
125

الموضوعات، بل هو متكفل باثبات الحكم بعد الفراغ عن حال الموضوع.
وغاية ما يقال في وجه ما في التقريرات: ان ثبوت الحكم لتمام أفراد العام
الذي هو مقتضى أصالة العموم - لشرح حال الموضوع لزم البناء عليه، لان العام
من سنخ الامارة التي هي حجة في لازم مؤداها، وليس كالأصل يقصر عن ذلك.
فمثلا قضية: كل عالم يجب اكرامه، تستلزم أن كل من لا يجب اكرامه ليس بعالم،
لأنه عكس نقيضها الملازم لها في الصدق، فيترتب عليه ما تقدم في المثالين.
لكنه يندفع بما ذكره غير واحد: من أن الدليل على حجية العموم لما كان
هو سيرة أهل اللسان الارتكازية لزم الاقتصار في حجيته على مقتضاها،
والمتيقن منها الرجوع للعام في تسرية حكمه لافراده، لا في شرح حال
الموضوع من غير هذه الجهة.
وما اشتهر من أن الامارة حجة في لازم مؤداها ليس على اطلاقه على ما
ذكرناه عند الكلام في الأصل المثبت من مباحث الاستصحاب. ولذا لا يظن
منه قدس سره البناء على رفع اجمال الخاص بالعام وان كان العام حجة في مورد اجماله،
كما نبهنا عليه في أوائل هذا الفصل.
نعم، لو كان بيان الحكم المخالف للعام في مورد مسوقا لبيان عدم ثبوت
حكم العام فيه أو مستفادا منه بسبب الملازمة العرفية الذهنية بينهما من باب
بيان الموضوع ببيان الحكم فلا اشكال في البناء على عدم التخصيص.
لكنه ليس لأصالة العموم في العام، بل لظهور الدليل المفروض في نفى
عنوان العام، كما في ما تضمن عدم وجوب غسل ملاقي بعض الأمور، كالجاف
والمذي، أو عدم وجوب الوضوء أو الغسل من بعض الأمور كالقبلة وخروج
المذي والاحتلام من دون خروج شئ وغيرها، فإنه ظاهر في عدم تنجس
الملاقى وعدم سببية الأمور المذكورة للحدث، ولا مجال معه لاحتمال التنجس
وتحقق الحدث من دون أن يجب التطهير من الخبث أو التطهر من الحدث
126

تخصيصا لعموم مانعيتهما.
ولعل هذا هو الذي أوهم صحة الاستدلال بأصالة العموم في المقام، كما
نسبه في التقريرات للأصحاب في استدلالاتهم.
ثم انه لا اشكال في البناء في المثال الثاني المتقدم على ثبوت حكم العام
في الفرد الواجد لعنوانه من طرفي التردد، فيجب اكرام زيد العالم في الفرض
لأصالة العموم بعد فرض الشك في التخصيص بالإضافة إليه بسبب اجمال
الدليل. بل لا يبعد - بعد التأمل في مرتكزات أهل اللسان البناء على انتفاء على
حكم العام في الطرف الآخر، للعلم الاجمالي بانتفائه في أحد الطرفين الراجع
لاستلزام ثبوته في أحدهما لانتفائه في الاخر، فإذا دل العام على ثبوته في
الطرف الواجد لعنوانه دل على انتفائه في الطرف الآخر، للملازمة بين الامرين،
وان لم يكن دالا على أنه هو المراد من الدليل المفروض الاجمال، الذي هو
ملازم أيضا لثبوت حكم العام في الطرف الواجد لعنوانه، إذ لا مانع من حجية
العام في اثبات أحد اللازمين دون الاخر، تبعا للمرتكزات التي عرفت دوران
حجية العام سعة وضيفا مدارها. وبذلك ينحل العلم الاجمالي المسبب عن
اجمال الدليل المذكور، فلا يهم النظر في مقتضاه الذي يختلف باختلاف نحو
الحكم الذي تضمنه من حيثية كونه الزاميا أو غيره. فلاحظ.
127

الفصل الخامس
في عموم الحكم لغير المخاطبين
لا اشكال في عموم الاحكام التي تتضمنها الخطابات الشرعية لمن لم
يوجد حين الخطاب، فضلا عمن لم يحضر مجلسه من الموجودين حينه، لما
هو المعلوم من عموم الشريعة الاسلامية واستمرار أحكامها إلى يوم القيامة.
وانما الاشكال في أن ذلك مقتضى ظهور الكلام نفسه اما لعموم
الخطاب به أو بدونه - أو مستفاد من أدلة أخرى تقتضي اشتراك الكل في
الأحكام المذكورة، كما يظهر من جملة من عباراتهم، فقد تكرر في كلماتهم
الاستدلال على العموم بالاجماع على الاشتراك.
ومن الظاهر أن محل الكلام هو الاحكام المستفادة من الأدلة اللفظية.
وأما ما يستفاد من الأدلة اللبية، فعمومه تابع لعموم الموضوعات
المأخوذة في تلك الأدلة، إذ لا محذور في نهوض الدليل اللبي باثبات الحكم
لمن لم يوجد حين تحقق الدليل على نحو يكون حجة عليه بعد وجوده
وصلوحه للتكليف، لتمحض الدليل اللبي في الكشف، ولا مانع من انكشاف
الحكم المذكور بهذا النحو وان لم يوجد صاحبه بعد.
إذا عرفت هذا فنقول: لا اشكال في ظهور الكلام في عموم الحكم لغير
الموجودين إذا تضمن جعله على موضوعه بنحو القضية الحقيقية التي هي في
قوة الشرطية من دون أن يتضمن جعل الموضوع طرفا للخطاب، كما في قوله
129

تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (1)، وقوله صلى الله عليه وآله:
(رفع عن أمتي تسعة...) (2) وغيرهما، ومثله في ذلك ما كان بنحو القضية
الشرطية صريحا نحو قوله تعالى: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه
سلطانا) (3).
وامتناع ثبوت الحكم لغير الموجود انما هو بمعنى امتناع فعلية الحكم في
حقه، والدليل المذكور غير متضمن للحكم الفعلي، بل لمجرد جعل الحكم على
موضوعه وانشائه، بحيث لا يكون فعليا الا بفعليته، فكما يشمل الموجودين
غير المتصفين بعنوان الموضوع إذا اتصفوا به بعد ذلك، كذلك يشمل غير
الموجودين إذا وجدوا واتصفوا به بعد ذلك.
ولا يخل بذلك توجيه الخطاب بالقضية لجماعة خاصة أو لشخص واحد
كالنبي صلى الله عليه وآله، لان خطابهم لمجرد الاعلام أو لطلب التبليغ، لا لاختصاص الحكم
بهم، ولذا قد لا يكونون واجدين لموضوع الحكم.
وأما ما ورد بلسان خطاب الموضوع، كما في كثير من آيات الاحكام
والنصوص المتضمنة لخطاب السائلين أو الحاضرين بأحكامهم، فقد يمنع
العموم فيه لمن لم يحضر مجلس الخطاب من الموجودين فضلا عن غيرهم،
لامتناع الخطاب الحقيقي مع غير المواجه به.
وقد حاول المحقق الخراساني قدس سره دفع ذلك بأن أدوات الخطاب كضمائره
وأدوات النداء ونحوها ليست موضوعة للخطاب الحقيقي، بل الايقاعي
الانشائي، وان كان بداع آخر غير التفهيم من التحسر والتأسف وغيرهما، كما
في خطاب العجماوات والجمادات وغيرها مما لا يصلح للخطاب الحقيقي.

(1) سورة آل عمران: 97.
(2) راجع الوسائل ج 5 باب: 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 2 وكذا الجزء 11.
باب: 56 من أبواب جهاد النفس.
(3) سورة الإسراء: 33.
130

وكذا الحال في الخطاب بتوجيه الكلام وان لم يكن بأدواته الخاصة. غاية الامر
أن المنصرف من الجميع إرادة الخطاب الحقيقي، نظير ما ذكره في أدوات
وصيغ المعاني الانشائية من الاستفهام والطلب والتمني وغيرها. ولا مجال لذلك
في خطابات الشارع الأقدس، للمفروغية عن عدم اختصاص مضمونها بمن
حضر مجلس الخطاب.
ويشكل: بأن الخطاب يفترق عن غيره من المعاني
الانشائية، فان للمعاني الانشائية واقعا نفسيا حقيقيا مباينا لمقام الانشاء، فتتجه دعوى وضع الأدوات
والصيغ لمحض الانشاء والايقاع، اما بداعي بيان ذلك الواقع النفسي أو بداع
آخر.
أما الخطاب فهو قائم بنفس الكلام ونحوه من أدوات البيان، كالكتابة
والإشارة وغيرها، وليس له واقع وراء ذلك، يكون هو المراد بالخطاب
الحقيقي لتتجه دعوى وضع الأدوات للخطاب الايقاعي، وأنه تارة يكون بداعي
الخطاب الحقيقي، وأخرى بداع آخر. بل ليس في المقام الا أمر واحد، وهو
الخطاب الحقيقي الذي هو مقتضى الكلام.
ولذا قد يدعى تجريد الكلام عن معناه في مورد خطاب من لا يقبل
الخطاب، ويكون مجازا. لكنه بعيد جدا عن المرتكزات الاستعمالية والبيانية،
كما يظهر بأدنى ملاحظة لها.
ومن هنا فالظاهر أنه أريد بخطاب من لا يقبل الخطاب خطابه حال عدم
قابليته، كخطاب الأموات والرسوم والاطلال وغيرها، فهو مبنى على ادعاء أنه
صالح للخطاب باعمال قوة التخييل.
ولذا قد ينسب إليه ما يناسب الخطاب مما هو من شأن ذي الاحساس
والشعور، كالجواب والعتاب والبكاء والضحك والفرح والحزن وغيرها.
وان أريد به خطابه بعد قابليته للخطاب وتفهيمه حينئذ، كخطاب الغائب
131

أو غير الموجود بالكتابة والتسجيل في مقام الوصية أو نحوها، كان مبنيا على
ملاحظة الحال الذي يصلح معه للخطاب كأنه حال حاضر، ولذا لا يترتب على
الخطاب في القسم الأول أي أثر ويتمحض في التخييل، أما في هذا القسم
فيترتب الأثر في وقته، لقصد التفهيم حينه بالخطاب، كما يقصد بخطاب
الحاضر القابل للخطاب.
لكن من الظاهر أن جميع ما تقدم في توجيه الخطاب في حق من هو غير
قابل له مبنى على عناية تحتاج إلى قرينة.
وما سبق من المحقق الخراساني قدس سره من أن عموم الحكم واستمراره
يصلح قرينة على ذلك. في غير محله، لامكان قصر الخطاب بالحكم العام على
بعض المكلفين وتبليغ غيرهم به من غير طريق الخطاب المذكور، كخطاب
آخر أو الاجماع على الاشتراك في المقام أو غيرهما. بل هو المقطوع به
في البيانات الخاصة الواردة في النصوص المتضمنة لخطاب الحاضرين أو
السائلين بأحكامهم. ولذا قد تشتمل تبعا على بعض الخصوصيات الزائدة على
الحكم مختصة بهم دون غيرهم، حيث لا مجال مع ذلك لعموم الخطاب
لغيرهم. ومن ثم لا يكون دالا بالمطابقة الا على حكم المخاطب.
غاية الامر أنه قد يستفاد عموم الحكم من الكلام بضميمة الغاء
خصوصية مورده عرفا ولو للمفروغية عن عموم أحكام الشريعة واستمرارها
التي هي من سنخ القرينة الحالية المحيطة بالكلام. ولذا قد يتعدى في غير مورد
الخطاب أيضا لو تضمن الكلام بيان حكم شخص خاص غير مخاطب.
وحينئذ لابد في تحديد الموضوع من الاقتصار في الخصوصيات الملغية
على المقدار المتيقن الغاؤه عند العرف، بلحاظ القرائن المقالية والحالية، ومنها
المناسبات الارتكازية، دون ما لم يستظهر الغاؤه، ولا ضابط لذلك.
لكن ذلك غير عموم الخطاب لغير من يحضر مجلسه أو يوجه له بأحد
132

الوجوه المتقدمة التي عرفت احتياجها للقرينة.
نعم، قد يتجه ذلك في الخطابات القرآنية الموجهة للعناوين كالناس
والمؤمنين والعباد، وذلك لما هو المعلوم من عدم خطابه تعالى لهم في مجلس
خاص وبنحو المشافهة، ليمكن حمله على ظاهره من دون تنزيل ولا عناية،
وانما هو منزل على النبي صلى الله عليه وآله للتبليغ به، فلابد أن يكون المخاطب به كل من
أريد تبليغه سواء كان موجودا أو صالحا للتبليغ حين التنزيل أم لا، لأنه صلى الله عليه وآله
مرسل للكل، كل في وقته.
ويتعين حمله على ما سبق منا من تنزيل حال الصلوح للتبليغ والخطاب
منزلة الحال الحاضر.
ومثله في ذلك ما يوجه في الكتب ونحوها للعامة، نظير كتب
الأئمة صلى الله عليه وآله إلى شيعتهم، وكتب الامراء لرعاياهم، من طريق الولاة أو الرسل.
وأما ما تضمن في القرآن المجيد خطاب النبي صلى الله عليه وآله بضمير الجمع نحو
قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا
العدة) (1)، فالخطاب فيه وان اختص به صلى الله عليه وآله، الا أن موضوع الحكم المبين
بالدليل يعم جميع المسلمين حتى غير الموجودين حين الخطاب، لوضع
أدوات الخطاب بالجمع لما يعم خطاب الواحد وإرادة غيره معه في الحكم،
وحيث لا معين لمقدار الجمع، وكان خطابه صلى الله عليه وآله بلحاظ كونه مبلغا لغيره،
ينصرف لعموم من وظيفته صلى الله عليه وآله تبليغه بالأحكام وان لم يكن موجودا.
نعم، ما تضمن خطابه صلى الله عليه وآله بشخصه بضمير المفرد نحو قوله تعالى:
(وأما اليتيم فلا تقهر) (2)، يجرى فيه ما سبق في الخطابات التي تضمنتها
النصوص من أن مدلولها المطابقي خصوص حكم المخاطب، ويكون التعميم

(1) سورة الطلاق: 1.
(2) سورة الضحى: 9.
133

لغيره بالغاء خصوصية المورد، أو بقرينة حالية أو مقالية تقضى بأن مبنى خطابه
على إرادة تفهيم غيره، من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة).
134

الفصل السادس
في تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده
قد وقع الكلام بينهم في أن تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده
يمنع من البناء على عموم حكمه فيقتصر فيه على خصوص الافراد المرادة
بالضمير، أو لا، بل يبقى العام على عمومه.
والظاهر أن محل الكلام ما إذا كان حكم العام مباينا لحكم الضمير، ليتجه
احتمال التفكيك بينهما في العموم والخصوص، دون ما لو كان الحكم واحدا،
كما في قولنا: أثم أعداء زيد بشتمهم له، حيث لا اشكال ظاهرا في اختصاص
حكم العام، وهو الاثم بمن شتم زيدا، دون غيرهم من أعدائه، وان أمكن اثمهم
أيضا لا من جهة الشتم الذي هو حكم آخر لم يتضمنه العام.
إذا عرفت هذا، فالظاهر التفصيل بين أن يكون اختصاص حكم الضمير
ببعض الافراد مقتضى قرينة متصلة، وأن يكون مقتضى دليل منفصل.
فالأول: نحو قوله تعالى: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة
أشهر، فان فاؤوا فان الله غفور رحيم * وان عزموا الطلاق فان الله سميع
عليم) لا، فان الايلاء وان كان هو الحلف على ترك الوطئ، فلا يمنع من عموم
النساء للمتمتع بها، الا أن قوله: (وان عزموا الطلاق) مختص بمن يشرع
طلاقهن، وهن الدائمات.
وفى مثل ذلك يتعين التوقف عن عموم حكم العام، فلا يبنى على عموم
135

حكم الايلاء في الآية للمتمتع بها، لان ذلك من القرائن المحيطة بالكلام المانعة
من انعقاد الظهور في عمومه. وجميع ما ذكر في كلماتهم في وجه عدم رفع اليد
عن العموم ولزوم التصرف في الضمير لو تم انما يتوجه مع انعقاد الظهور
في العموم وبلوغه مرتبة الحجية.
والثاني: نحو قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء...
وبعولتهن أحق بردهن في ذلك...)، فان ظاهر الصدر عموم العد ة
للمطلقات، وظاهر الذيل المشتمل الضمير جواز الرجوع بكل مطلقة ذات عدة.
وتخصيصه ببعض الأقسام انما استفيد من أدلة أخرى خارجة عن الكلام.
والفرق بينه وبين الآية الأولى أنه وارد لتشريع الرجعة، فيكون ظاهرا في
عموم تشريعها للمطلقات بمقتضى اسناده لضميرهن. أما الآية الأولى فهي غير
واردة لتشريع، لتكون ظاهرة في عموم تشريعها للمؤالي منهن، بل لبيان أن
الطلاق يحل مشكلة الايلاء عملا بعد الفراغ عن تشريعه، فلا يكون لها ظهور
في عموم تشريعه.
وكيف كان، ففي هذا القسم حيث لا اشكال في انعقاد الظهور في عموم
حكم العام كثبوت العد ة للمطلقة في الآية الذي هو حجة في نفسه، لا ملزم
برفع اليد عنه بالدليل الخارج المتضمن تخصيص حكم الضمير، لعدم التلازم
بينهما، فلا مجال للبناء عليه والخروج عن أصالة العموم.
ان قلت: لما كان ظاهر الكلام التطابق بين الضمير ومرجعه فبعد قيام
الدليل الخارج على اختصاص حكم الضمير ببعض أفراد العام يدور الامر بين
التصرف في العام بحمله على خصوص الافراد الباقية المحكومة بحكم الضمير، والتصرف في
الضمير بالبناء على عدم التطابق بينه وبين مرجعه من
باب الاستخدام، أو على التوسع في اسناد الحكم عليه على عمومه مع ثبوت
136

حكمه لبعض أفراده، وليس التصرف في الضمير بأحد الوجهين بأولى من
التصرف في العام بالتخصيص، بل لعل الثاني أولى. ولا أقل من التوقف عن
عموم العام بعد عدم المرجح.
ودعوى: أن التصرف في عموم المرجع تصرف في الضمير أيضا،
والتصرف في الضمير لا يستلزم التصرف في عموم المرجع، فالتصرف في
الضمير معلوم على كل حال، ولا تجرى فيه أصالة الضمير، والتصرف في العام
مشكوك، فتجري فيه أصالة الظهور.
مدفوعة: بأن مقتضى الظهور في الضمير ليس هو حمله على ما يظهر من
مرجعه مطلقا، بل حمله على ما يراد من مرجعه، فإذا فرض كون المراد بمرجعه
بعض الافراد، فأراد ة خصوصها بالضمير لا تنافى ظهوره، بل هي على طبق
أصالة الظهور فيه، وانما يكون إرادة خصوصها منافية لظهوره إذا أريد من
مرجعه العموم الذي هو على طبق ظهوره. ومن ثم لا يكون في المقام الا تصرف
واحد في الضمير أو في المرجع.
وأما ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من عدم نهوض أصالة الظهور في
الضمير بمعارضة أصالة الظهور في العموم، لان أصالة الظهور انما تكون حجة
في تعيين المراد، لا في تعيين كيفية الاستعمال مع العلم بالمراد، والمفروض في
المقام العلم بالمراد من الضمير وهو الخصوص، والشك في المراد بالمرجع، فلا
تجرى أصالة الظهور في الضمير لتعيين كيفية الاستعمال لتعارض أصالة الظهور
في المرجع لتعيين المراد به وحمله على العموم.
فيشكل: بأن ذلك انما يتم مع تعدد الكلام، وأما مع وحدته ولزوم
التصرف فيه تبعا للقرينة الخارجية وهي في المقام القرينة الدالة على
تخصيص حكم الضمير فلابد من ملاحظة جميع خصوصيات الكلام في مقام
التصرف فيه، وتنزيله على مقتضى القرينة.
137

وبعبارة أخرى: ليس التعارض في المقام بين أصالة الظهور في المرجع
وأصالة الظهور في العام، ليتجه ما تقدم من حجية أصالة الظهور في تعيين المراد
دون كيفية الاستعمال، بل بين الكلام الظاهر في عموم حكمي الضمير ومرجعه
معا والقرينة الخارجية الدالة على تخصيص حكم الضمير، وبعد فرض تقديم
القرينة يتعين التصرف في الكلام وتنزيله بمجموعه على ما يناسبها، وليس
التصرف فيه بتخصيص حكم الضمير وحده مع استلزامه التصرف فيه بأحد
الوجهين المتقدمين بأولى من التصرف فيه بتخصيص كلا الحكمين وحمل
المرجع على خلاف ظاهره الذي لا يستلزم التصرف في الضمير. بل لعل الثاني
أولى، كما تقدم.
قلت: انما يتم ذلك لو كان مرجع الجمع بين العام والخاص بالتخصيص
إلى حمل العام على كونه مستعملا في بعض أفراده، حيث يلزم مع تخصيص
حكم الضمير دون حكم مرجعه التصرف في الضمير بالوجه المتقدم، وقد سبق
أن الجمع بينهما لا يبتنى على ذلك، بل على مجرد رفع اليد عن ظهور العام في
إرادة العموم لمورد الخاص تقديما لأقوى الحجتين في الكشف عن مراد
المتكلم، وان أمكن أن يكون العام مستعملا في العموم لضرب القاعدة التي
يرجع إليها عند عدم المخرج عنها، أو مع قرينة متصلة على الخصوص قد
خفيت علينا.
ومن الظاهر أن ذلك يقتضى الاقتصار في المقام على مورد المزاحمة،
وهو حكم الضمير دون حكم مرجعه. بل لا مخرج فيه عن ظهور العام في
العموم المفروض انعقاده وحجيته في نفسه.
وأما ما يظهر من التقريرات من الاشكال في ذلك: بأن الضمير ليس من
صيغ العموم ليدعى أنه هو المعارض لدليل التخصيص، ويلزم الاقتصار
في التخصيص عليه، بل هو من سنخ الكنايات، فتارة يكون كناية عن جماعة
138

محصورة وأخرى عن غيرها، والمعارض للتخصيص هو المرجع.
فيندفع: بأن الضمير وان لم يكن من صيغ العموم اصطلاحا الا أنه كالعام
في امكان الحكم عليه وأراد ة الخاص منه بقرينة متصلة حالية أو مقالية
كالاستثناء والشرط أو منفصلة مع وروده لضرب القاعدة أو غير ذلك مما تقدم
عند الجمع بين العام والخاص. ومن ثم لا مانع من معارضة دليل التخصيص له
وتحكيمه عليه وحده.
تنبيه:
ما ذكرناه في معيار التفصيل يجرى في جميع موارد اشتمال الكلام على
عمومات متعددة ثبت التخصيص في بعضها بقرينة متصلة أو منفصلة واحتمل
سريانه لجميعها. ومنه الجمل أو المفردات المتعدد ة المتعقبة باستثناء واحد،
كما في قولنا: أكرم العلماء وأكرم الاشراف الا الفساق منهم، وقولنا: أكرم العلماء
والاشراف الا الفساق، وقولنا: أكرم العلماء وأضفهم الا الفساق، وقولنا: أكرم
العلماء وجالس الاشراف الا الفساق، ونحوها.
فيتوقف عن العموم في الأمثلة المذكورة بالإضافة إلى غير الأخير المتيقن التخصيص، لان
التخصيص المذكور من سنخ القرائن المتصلة المانعة من انعقاد
الظهور في العموم في بقية المتعلقات والجمل.
نعم، لا يبعد أقربية الرجوع للأخير وحده مع اتحاد متعلق الحكم
وتكراره لفظا، كما في المثال الأول، ليكون فائدة التكرار اللفظي وعدم الاكتفاء
بعطف المفرد استقلال الجملة الأخيرة بمتعلقها وهو الاستثناء وانفرادها به.
كما لا يبعد أقربية الرجوع للكل مع تعاطف المفردات كما في المثال
الثاني أو الجمل المتضمنة لتكرار الموضوع بوجه تبعي وهو الضمير كما
في المثال الثالث لاحتياج الاستثناء من المفرد والجملة المذكورة لعناية وكلفة.
139

لكن في بلوغ ذلك حد الظهور النوعي الحجة اشكال، بل قد يكون من
سنخ النكت البلاغية التي لا توجب الا الاشعار.
وقد أطالوا الكلام في ذلك بما لا مجال لمتابعتهم فيه بعد ما ذكرناه من
المعيار للظهور النوعي المتبع لولا القرائن الخاصة التي لا تنضبط، بل توكل لنظر
الفقيه عند النظر في الأدلة.
140

الفصل السابع
في الجمع بين المطلق والمقيد
لقد جرى أهل الفن على تحرير هذه المسألة في مبحث المطلق
والمقيد الذي هو بحسب تبويبهم مباين لمبحث العام والخاص.
وحيث سبق ما في أول مبحث العام والخاص أن موضوعه يعم المطلق
والمقيد تعين الحاق هذه المسألة بالمبحث المذكور، كما جرينا عليه هنا.
هذا، وقد سبق في أول فصل العام المخصص أن الكلام فيه بعد فرض
تقديم الخاص على العام من باب الجمع العرفي الذي ذكرنا في مبحث
التعارض ضوابطه ولزوم الجري عليه، وهو مبنى على فرض التنافي بين العام
والخاص بحسب ظهورهما البدوي، وعلى كون ظهور الخاص أقوى بحيث
يصلح قرينة عرفا على تنزيل العام على غير مورده، والأول مما يسهل تشخيصه
بعد الإحاطة بالضوابط العامة للظهورات النوعية وملاحظة القرائن الخاصة
المحيطة بالكلام، والثاني مقتضى العام والخاص بطبعهما، لان الخاص في
مورده كالنص بالإضافة إلى العام، وان أمكن أقوائية العام بلحاظ جهات أخر،
بحيث يكون التصرف في الخاص وتنزيله على ما لا ينافي العام أقرب من
تخصيص العام به، ولا ضابط لذلك، بل يوكل لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة.
وذلك كما يجرى فيما لو كانت الدلالة على الشمول بالوضع ليكون من
صغريات العموم يجرى فيما لو كانت بمقدمات الحكمة، ليكون من صغريات
الاطلاق باصطلاحهم.
141

غير أنه وقع الكلام بينهم في الجمع بين المطلق والمقيد بلحاظ بعض
الجهات التي أوجبت تنبههم لتحرير الكلام في ذلك، دون الكلام في الجمع بين
العام والخاص.
ونحن نتابعهم في ذلك ونذكر بعض الضوابط التي قد تنفع في غير
المطلق والمقيد. ومن هنا فحيث كان الجمع بين المطلق والمقيد فرع التنافي
بدوا بينهما فالتنافي بينهما يتوقف على أمرين.
أحدهما: وحدة الحكم الكبروي الذي يردا لتحديده، فلو كان ظاهر كل
منهما بيان حكم خاص به فلا تنافى بينهما، لان الاطلاق والتقييد من سنخ
الضدين اللذين يتوقف التنافي بينهما على وحدة الموضوع، وذلك ظاهر مع
اختلاف موضوعيهما، كما لو ورد: ان ظاهرت فأعتق رقبة، و: إن أفطرت فأعتق
رقبة مؤمنة، أو: ان أفطرت فلا تعتق رقبة غير مؤمنة.
ومنه ما لو أطلق أحدهما وعلق الاخر على موضوع خاص. وأما في غير
ذلك فلا اشكال فيما لو صرح فيهما بوحدة الحكم أو كانت مقتضى مساقهما.
بل لا يبعد البناء على الوحدة بمجرد كونهما مطلقين غير معلقين على
شئ أو معلقين على أمر واحد، حيث لا يبعد انسباق وحدة الحكم منهما، لبعد
اقتصار المتكلم في كل دليل على بيان أحد التكليفين، واهمال الاخر مع وحدة
الموضوع.
نعم، الظاهر عدم الفرق بين الاحتمالين في لزوم الاتيان بالمقيد، بناء على
ما يأتي من حمل المطلق على المقيد مع وحدة التكليف، وفى جواز الاقتصار
على فرد منه، بناء على ما سبق في مسألة التداخل من أن مقتضى القاعد ة تداخل
التكليفين في الامتثال مع اختلاف متعلقهما بالاطلاق والتقييد.
وانما يختلفان في أنه بناء على وحد ة التكليف لا يكون الاتيان بالفاقد
للقيد مع القدرة على المقيد مشروعا، لعدم التكليف به بعد فرض حمل المطلق
142

على المقيد، بل وكذا مع تعذر القيد الا بدليل خارجي يقتضى الاكتفاء بالميسور.
وأما بناء على تعدده فيكون الاتيان بالفاقد مشروعا امتثالا لأمر المطلق، كما
يجب عند تعذر القيد، لان تعذر امتثال أحد التكليفين لا يسقط الاخر، كما هو
ظاهر.
ثانيهما: أن يتنافيا بحسب ظهورهما في تحديد الحكم الكبروي الواحد،
كما لو كان المطلق بدليا، ظاهرا في الاكتفاء بأصل الماهية وكان المقيد ظاهرا في
مطلوبية خصوصية منها، أو عدم الاكتفاء بخصوصية منها، كما في قولنا: أعتق
رقبة، مع قولنا: أعتق
رقبة مؤمنة، أو: لا تعتق رقبة كافرة.
وأما لو كان المطلق شموليا، وكان المقيد متضمنا ثبوت الحكم لبعض
الافراد أو في بعض الأحوال. فان كان المقيد ظاهرا في الحصر فلا اشكال في
التنافي بينهما. من دون فرق بين أن تكون دلالته نوعية وضعية أو سياقية، كما في
المفاهيم المتقدمة، كقولنا: أكرم العالم، مع قولنا: انما يكرم العالم العادل، أو: أكرم
العالم ان نفع، وأن تكون شخصية لخصوصية خاصة في الكلام، كما لو ورد
مورد التحديد. والظاهر وضوح لزوم تنزيل المطلق على المقيد عندهم، لان
ظهور المقيد في الحصر أقوى من ظهور المطلق في الاطلاق، بل كثيرا ما يكون
أقوى من ظهور العام الوضعي في العموم، كما يأتي إن شاء الله تعالى في الفصل
الآتي.
وأظهر من ذلك ما لو دل المقيد على نفى الحكم عن بعض الافراد أو
الأحوال صريحا أو ظاهرا، كما في قولنا: أكرم العالم، مع قولنا: لا يكرم العالم
الفاسق، أو: لا يكرم العالم ان لم ينفع.
وان لم يكن المقيد ظاهرا في الحصر فلا تنافى بين الدليلين، لان ثبوت
الحكم لبعض الافراد لا ينافي ثبوته لجميعها.
ومن ثم يختص الكلام في المقام بالقسم الأول. بل مقتضى فرضهم
143

الكلام الاثباتيين كون محل كلامهم بعض أقسامه، وأن تحكيم المقيد مع كونه
نافيا ليس موردا للاشكال، كما صرح به بعضهم.
إذا عرفت هذا، فالمعروف بينهم حمل المطلق على المقيد. والوجه فيه ما
أشار إليه المحقق الخراساني قدس سره من أن ظهور المقيد في الامر التعييني الإلزامي
أقوى من ظهور المطلق في الاطلاق والاجتزاء بالفرد الفاقد للقيد، فيتعين
تحكيم المقيد ورفع اليد عن الاطلاق. دون العكس وتحكيم المطلق وحمل المقيد على الوجوب التخييري، بأن يراد به في المقام بيان أحد أفراد الواجب، أو
على الاستحباب التعييني ببيان أفضل الافراد. لان حمل الامر بالشئ على كونه
تخييريا لبيان أحد افراد الواجب بعيد عن ظاهره جدا ومحتاج إلى عناية خاصة.
وحمله على بيان أفضل الافراد وان لم يكن كذلك، الا أنه أبعد من حمل
المطلق على المقيد، ولذا لا اشكال عندهم في تقديم المقيد المنفى مع أنه
يمكن أيضا حمله على الكراهة ببيان الفرد المرجوح وان كان مجزيا تحكيما
للمطلق.
نعم، قد يحتف المطلق أو المقيد بخصوصية أو قرينة داخلية أو خارجية
تقتضي أقوائية المطلق، فيلزم تحكيمه وحمل المقيد عليه بأحد الوجهين
المتقدمين، ولا سيما الثاني منهما، كما لا يبعد ذلك في العموم البدلي الوضعي
لقوة دلالته على العموم، بنحو قد لا يسهل تنزيله على المقيد.
لكن الظاهر خروج ذلك عن محل الكلام، وأن مورد البحث المطلق
المستفاد عمومه من مقدمات الحكمة مع المقيد في نفسيهما، مع قطع النظر عن
الخصوصيات المكتنفة لهما. ولذا قد يجرى ذلك في بقية الأقسام، التي عرفت
عدم الاشكال بينهم في تقديم المقيد فيها، كما لو كان المقيد منفيا أو مثبتا دالا
على الحصر، فيحكم المطلق للقرينة المذكورة، ويحمل المقيد المنفى على بيان
الفرد المرجوح، والمثبت على أفضل الافراد.
144

هذا، وقد استدل في كلماتهم على تقديم المقيد في محل الكلام..
تارة: بأنه جمع بين الدليلين، وهو أولى من الطرح كما عن المشهور.
وأخرى: بأن المقيد يكشف عن عدم صدور المطلق في مقام البيان الذي
هو شرط في انعقاد الاطلاق، فلا اطلاق معه كي يرفع به اليد عن ظهور المقيد في
الوجوب كما يظهر من التقريرات.
وثالثة: بأنه مقتضى مفهوم الوصف، كما عن البهائي، ولذا أورد على
المشهور بالتناقض، لعدم بنائهم على ثبوت مفهوم الوصف.
ورابعة: بالاحتياط، كما يظهر مما عن المحقق القمي.
والكل كما ترى! لاندفاع الأول: بعدم انحصار الجمع بالوجه المذكور،
كما يظهر مما سبق.
والثاني: بأنه يكفي في انعقاد الاطلاق عدم البيان المتصل، كما سبق عند
الكلام في مقدمات الحكمة.
والثالث: بأن موضوع المقيد قد لا يكون وصفا، فلا مفهوم له اجماعا، ولو
كان له مفهوم خرج عن محل كلامهم من فرض الدليلين مثبتين، كما نبه له في
التقريرات.
والرابع: بأن الكلام في مفاد الجمع بين الدليلين عرفا، لا في مقتضى
الأصل العملي الذي هو مورد للكلام في مسألة الدوران بين المطلق والمقيد.
فالعمد ة ما سبق.
نعم، قد يستشكل فيه بعدم بنائهم عليه في المستحبات، بل يغلب بناؤهم
فيها على حمل المقيد على أفضل الافراد مع مشروعية فاقد القيد واستحبابه
تحكيما للاطلاق. ولعل ذلك هو الموجب لتحرير المسألة في كلماتهم والمنبه
لخصوصيتها من بين فروض العام والخاص، حتى أفردت بالبحث والكلام.
وقد حاول في التقريرات تقريب الفرق بين الواجبات والمستحبات..
145

تارة: بغلبة العلم بورود المطلقات في المستحبات في مقام البيان، فلا
يصلح المقيد للكشف عن عدم ورودها في المقام المذكور، ليمنع من انعقاد
الاطلاق على مسلكه المتقدم. ويحمل مورد الشك على الأعم الأغلب.
وأخرى: بغلبة العلم باختلاف مراتب المحبوبية في المستحبات، ويحمل
مورد الشك على الأعم الأغلب.
وزاد عليه المحقق الخراساني قدس سره بأن مقتضى قاعدة التسامح في أدلة
السنن استحباب المطلق على اطلاقه.
ويشكل الكل: بعدم المنشأ للعلم بورود المطلقات في المستحبات في
مقام البيان، وعدم صلوح المقيد المنفصل للمنع من انعقاد الاطلاق حتى في
الواجبات كما سبق. كما أن غلبة اختلاف مراتب المحبوبية مع قرب استناد
احرازها ولو ببعض مراتبها لبنائهم على الجمع المذكور، فلا تكون مستندا له
لا تختص بالمستحبات، لما هو المعلوم من كثرة اختلاف أفراد الواجبات في
الفضيلة. مضافا إلى الاشكال فيه وفى ما قبله بعدم وضوح كون الغلبة من القرائن
الموجبة لتبدل مقتضى الجمع العرفي.
وأما قاعدة التسامح في أدلة السنن فهي على التحقيق انما تنهض
بحسن الاتيان بالفعل بالرجاء المطلوبية، لا بالاستحباب الشرعي، كما هو مبناهم
في المستحبات في المقام.
على أنه لما كان موضوعها بلوغ الثواب على العمل فالمطلق وان كان في
نفسه دليلا على استحباب ما عدا أفراد المقيد فيصدق به بلوغ الثواب عليه، الا
أنه إذا كان مقتضى الجمع العرفي حمله بقرينة المقيد على ما عدا فاقد القيد
خرج عن كونه دليلا على ذلك ولم يتحقق به موضوع القاعدة. فتأمل.
مضافا إلى أنه لو تم كون مقتضى القاعدة استحباب فاقد القيد فلا يتضح
وجه البناء على كون فاقد القيد أفضل الافراد. وقد أشار إلى بعض ما ذكرنا
146

المحقق الخراساني قدس سره.
فالذي ينبغي أن يقال أنه: ان كان اطلاق دليل المستحب شموليا، كدليل
استحباب قرأ ة القرآن، وزيارة المعصومين عليهم السلام، والدعاء، والصدقة،
والاحسان، وغيرها مما هو كثير، فلا اشكال بلحاظ ما سبق من عدم التنافي بين
المطلق الشمولي والمقيد، ليلزم رفعه بالتقييد، لان ثبوت الحكم لبعض أفراد
الماهية لا ينافي ثبوته لتمامها.
نعم، لا ينهض دليل المقيد حينئذ باثبات كون واجد القيد أفضل الافراد،
بل لابد في البناء على ذلك من التشبث باشعار أخذ العنوان في المتعلق في كونه
علة للحكم، حيث يكون مقتضى ذلك عليه كل من عنوان المطلق والمقيد
للحكم المستلزم لتأكد الحكم في أفراد المقيد بتعدد مقتضيه، أو الاستعانة
بالمناسبات الارتكازية أو القرائن الخارجية المقتضية لأفضلية المقيد لو تمت،
وبدونها لا يبنى على ذلك.
وأما ان كان بدليا فالمقيد وان كان ظاهرا في التعيين وعدم امتثال أمره بغير
واجد القيد، الا أن أمره كما يمكن أن يكون هو عين الامر بالمطلق المستلزم
للتنافي بين الدليلين لامتناع اختلاف متعلق متعلق الامر الواحد بالاطلاق
والتقييد فيلزم الجمع بتنزيل المطلق على المقيد، والالتزام بعدم إرادة فاقد
القيد من المطلق وعدم تحقق الامتثال به، كذلك يمكن أن يكون أمرا آخر متعلقا
بالخصوصية زائدا على الماهية المطلوبة بأمر المطلق، من دون أن ينافي المطلق
ليلزم حمله عليه، بل يبقى المطلق على اطلاقه متعلقا أمره بأصل الماهية دون
الخصوصية، فيصلح فاقد القيد لامتثاله، ومرجعه إلى أن المقيد أفضل الافراد.
ولا مجال للبناء على الأول بعد منافاته لمقتضى الاطلاق الا بقرينة خاصة.
وأما ما سبق عند الكلام في الشرط الأول للتنافي بين الدليلين، من
استبعاد تعدد الحكم مع اطلاقه في الدليلين أو تعليقه على شرط واحد، فهو
147

مختص بالحكم الإلزامي، الذي يهتم ببيانه والقيام بمقتضاه، حيث يبعد اهتمام
الحاكم ببيان أحد الحكمين الالزاميين دون الاخر مع وحدة موضوعهما واتحاد
سنخهما لمجرد اختلاف متعلقهما بالاطلاق والتقييد، بخلاف الحكمين غير
الالزاميين، حيث قد يهتم الحاكم ببيان
بعض المطلوب لاحداث الداعي له، دون بعض، لعدم كونه الزاميا وعدم مناسبة المقام لبيانه.
على أن الأثر المهم في الواجبات هو الاجتزاء بفاقد القيد، وفى
المستحبات هو مشروعية فاقد القيد.
وقد سبق أن الأول كما لا يترتب مع وحدة الحكم لا يترتب مع تعدده،
ولا ينفع الاطلاق في الواجبات في ترتبه اما لتقييده مع كون الحكم واحدا، أو
للزوم امتثال أمر المقيد مع كون الحكم متعددا، ومن هنا لا يهم اثبات وحد ة
الحكم هناك.
وأما الثاني فيترتب مع تعدد الحكم لا مع وحدته، وحيث كان مقتضى
الاطلاق ترتبه المستلزم لتعدد الحكم، فلابد في الخروج عنه من قرينة ملزمة
بوحدة الحكم.
وبعبارة أخرى: حمل المقيد على بيان أفضل الافراد في الواجبات
مستلزم لرفع اليد عن ظهوره في الالزام وهو أقوى من ظهور المطلق في
الاطلاق غالبا، فيلزم رفع اليد به عن الاطلاق، أما في المستحبات فحيث فرض
عدم أراد ة الالزام منه لا ينافي المطلق، فلابد في الخروج فيها عن مقتضى
الاطلاق من قرينة خاصة تقضى بوحدة الحكم، كما ذكرنا.
نعم، ذلك انما يتم إذا كان المقيد بلسان محض الامر بعنوانه، أما إذا كان
الامر فيه واردا لشرح الماهية المستحبة، كما ورد السؤال عن زيارة الحسين عليه السلام
فأجيب بالامر باستقبال القبلة فيها فمقتضاه وحدة الحكم وانحصار الماهية
المذكورة بالمقيد، فيلزم تنزيل المطلق عليه ورفع اليد عن الاطلاق به. وحمله
148

حينئذ على أفضل الافراد مخالف للظاهر ومحتاج للقرينة. هذا وقد أشار في
التقريرات لبعض ما ذكرنا في توجيه مبنى المشهور على مسلكهم من عدم
مانعية البيان المنفصل من انعقاد الاطلاق. فراجع.
هذا كله إذا كان المقيد بلسان الامر، وأما إذا كان بلسان النهى عن بعض
الافراد، فان أمكن ابقاؤه على ظاهره من كونه مولويا تحريميا أو تنزيهيا فلا
اشكال في كونه أقوى من ظهور المطلق في الاطلاق، فيقيد به المطلق لو كان
شموليا، بل لو كان بدليا أيضا على ما يأتي عند الكلام في تضاد الاحكام من
مبحث اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.
وان كان للارشاد لبيان كيفية الامتثال كان ظاهره امتناع امتثال المستحب
بمورده الا بقرينة تقضى بحمله على بيان الفرد المرجوح والأقل فضيلة. وكذا لو
كان بلسان تحديد الموضوع اثباتا، نحو قولنا: انما النافلة بعد الفريضة، أو نفيا،
نحو قلنا: لا نافلة لمن لا يؤدى الفريضة، حيث يكون حاكما على اطلاق
الاستحباب حكومة عرفية.
هذا ما تيسر لنا في ضبط مقتضيات الجمع العرفي بحسب طبيعة الأدلة
المفروضة، وكثيرا ما تتحكم القرائن الخاصة بما فيها مناسبات الحكم
والموضوع في كيفية الجمع بين الأدلة بنحو تؤكد ما ذكرنا أو تلزم بالخروج عنه،
ولا ضابط لذلك.
149

الفصل الثامن
في تخصيص العام بالمفهوم
لما كان المعيار في التخصيص على قوة الخاص ظهورا من العام كما
سبق فقد وقع الكلام في تخصيص العام بالمفهوم بلحاظ أن دلالة الكلام على
المفهوم ليست كدلالته على المنطوق، وحيث كانت دلالة العام على العموم
بالمنطوق كان أقوى من الخاص من هذه الجهة وان كان أضعف منه من حيثية
العموم والخصوص.
ومن ثم اختلفوا في تخصيص العام بالمفهوم.
لكن لا يبعد غلبة أقوائية المفهوم من العموم وتخصيصه له، وان كان
اللازم ملاحظة الخصوصيات المحيطة بالكلامين والقرائن الصالحة للتحكم في
كيفية الجمع العرفي بينهما، والتي لا ضابط لها، بل توكل لنظر الفقيه.
هذا في مفهوم المخالفة، وأما مفهوم الموافقة فلا اشكال بينهم في
تخصيص العام به، لان وضوح ملازمته للمنطوق تمنع من التفكيك بينهما عرفا،
فعدم تخصيص العام لا ترجع إلى رفع اليد عن المفهوم وحده، بل عن المنطوق
أيضا، فلا يجرى فيه الوجه السابق للتوقف.
ثم إن أهل الفن قد حرروا في مبحث العام والخاص بعض المسائل
الأخرى، كمسألة تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، ومسألة الدوران بين
التخصيص والنسخ، ومسألة العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص.
ويظهر الحال في المسألة الأولى مما يأتي في استدلال المانعين من
151

حجية خبر الواحد بمخالفته بكثرة مخالفته لظواهر الكتاب.
وفى الثانية مما يأتي في مبحث الجمع العرفي من مباحث التعارض عند
الكلام في الدوران بين النسخ والجمع العرفي بين الدليلين.
وفى الثالثة مما يأتي في خاتمة علم الأصول من الكلام في وجوب
الفحص عن الأدلة.
ولا مجال مع ذلك لتحرير الكلام هنا في هذه المسائل، لان البحث في
تلك المواضع أوسع وأشمل.
كما أنهم عقدوا بحثا للمجمل والمبين وأطالوا الكلام في تعريفهما، وفى
بعض صغرياتهما بما لا مجال لصرف الوقت فيه، بعد كون مفهومهما بالمقدار
الذي يحتاج إليه في مقام العمل من المفاهيم العرفية الجلية، وعدم انضباط
صغرياتهما، لأنها كما تتبع الظهورات النوعية المنضبطة تتبع القرائن الشخصية
غير المنضبطة، لو تعارضت، كما تتبع تحديد مفاهيم المفردات وعدمه. ومن هنا
كان الأنسب ايكال تشخيصها لنظر الفقيه عند ممارسة النظر في الأدلة.
152

خاتمة مباحث الألفاظ
ما ذكرناه من الكبريات في هذه المباحث مبتن على ملاحظة الظهورات
النوعية المنضبطة التي تكون مرجعا لولا القرائن الخاصة. وعلى الفقيه أن لا
يتسرع في استنباط الاحكام تبعا لها، بل يلزمه التأمل في خصوصيات الموارد
وفى ما يكتنف بالكلام من القرائن، ولا سيما الحالية منها التي كثيرا ما يغفل
عنها.
كما عليه أن يتحفظ ويتروى كي لا يخرج في فهم الكلام اعتمادا على ما
عنده من مقدمات الاستظهار عما تقتضيه السليقة العرفية والذوق السليم في
خصوصيات الاستعمالات، فان مؤدى الكلام هو المفهوم هو المفهوم العرفي
منه، وليست الكبريات المتقدمة ونحوها مما يذكر في علوم اللغة الا لتسهيل
فهمه وادراكه من دون أن تستقل به وحدها، فلا ينبغي أن يكتفى بها، بل ينبغي
عرض نتائجها على المفهوم العرفي وتحكيم الذوق والسليقة فيها، فان خالفتها
كشف ذلك عن قرينة مغفول عنها يلزم التأمل لتحديد مفادها، أو خطأ بعض
الكبريات التي اعتمدها فلابد من النظر في حالها.
ومن ثم كان الفقه من أشق العمليات العلمية، لعدم انضباط مقدماته،
وعدم تحديد نتائجه ومحصلاته، بخلاف غالب العلوم الأخرى. ومنه سبحانه
نستمد العون والتوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
انتهى الكلام في مباحث الألفاظ ضحى الجمعة السادس والعشرين من
شهر ربيع الأول، من السنة الثانية بعد الألف والأربعمائة، للهجرة النبوية على
صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى التحية. في النجف الأشرف ببركة الحرم
153

المشرف على مشرفه الصلاة والسلام، بقلم العبد الفقير (محمد سعيد)، عفى
عنه، نجل العلامة الجليل حجة الاسلام والمسلمين السيد (محمد على)
الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.
والحمد لله في البدء والختام، وبه الاعتصام، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا
محمد وآله الكرام أعلام الهدى ومصابيح الظلام.
وانتهى تبييضه بعد تدريسه ضحى الاثنين، التاسع والعشرين من الشهر
المذكور، بقلم مؤلفه الفقير حامدا مصليا مسلما.
154

الباب الثاني
في الملازمات العقلية الباب الثاني في الملازمات العقلية
155

أشرنا في المقدمة إلى أن الأصول النظرية التي يكون مضمونها أمرا واقعيا
مدركا لا يتضمن العمل بنفسه، بل بخصوصية متعلقة لكونه حكما شرعيا
عمليا أو ملازما له تنحصر في مباحث الألفاظ المتضمنة تشخيص الظهورات
الكلامية - والتي تقدم الكلام فيها ومباحث الملازمات العقلية المتضمنة
للكلام في ادراك العقل أمرين لينتقل من أحدهما للاخر. وهي التي عقد البحث
في هذا المقام لها.
ويفترقان في أن الظهورات اللفظية، حيث لا تستلزم العلم بمضمونها،
توقف العمل بها على ثبوت كبرى حجية الظهور التي هي من مسائل الأصول،
فهي ترجع إلى تنقيح صغريات الكبرى المذكور ة.
أما الملازمات العقلية فحيث كانت وجدانية قطعية فترتب العمل عليها لا
يتوقف على حجية شئ غير العلم الذي لا يكون البحث عن حجية من مسائل
الأصول، بل يكون البحث في مسائل الأصول بعد الفراغ عن لزوم العمل به،
حيث لا يترتب العمل عليها لولاه.
وأما ما جرى عليه بعض المعاصرين في أصوله من جعل مسائل
الملازمات صغريات لكبري مسألة أصولية، وهي مسألة حجية الدليل العقلي.
فهو خروج عما يقتضيه نظم البحث في المسائل الأصولية. وربما جره
اضطراب كلماتهم في المقام.
157

ثم إن الملازمات العقلية المبحوث عنها في علم الأصول في نتائجها
وكيفية الاستدلال بها، فغالبها يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي، بخلاف
مسألة الاجزاء فإنها تقع في طريق تشخيص الوظيفة العملية العقلية.
كما أن غالبها ينتج بواسطة صغرى شرعية، فمسألة مقدمة الواجب التي
يبحث فيها عن ملازمة وجوب الشئ لوجوب مقدمته لو بنى عليها لا تكون
نتيجتها وجوب كل مقدمة لشئ الا بعد فرض وجوبه شرعا، ومثلها غيرها،
بخلاف مسألة ملازمة حكم الشرع لحكم العقل، فإنها لو تمت لا تنتج حكم
الشارع في مورد الا بعد فرض حكم العقل في ذلك المورد، بلا حاجة إلى فرض
حكم الشارع.
ومن هنا يكون الدليل على الحكم الشرعي المبتنى عليها عقليا محضا،
بخلاف ما قبلها. ولذا قسم بعض المعاصرين بحث الملازمات العقلية إلى قسم
المستقلات العقلية، وقسم غير المستقلات العقلية. والا فالملازمات التي هي
موضوع هذا الباب بنفسها عقلية محضة في الجميع، فهو أشبه بالتقسيم بلحاظ
حال المتعلق، ومن ثم لا نرى داعيا لهذا التقسيم.
إذا عرفت هذا، فالكلام في هذا الباب يقع في ضمن فصول..
158

الفصل الأول
في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل
159

الفصل الأول
في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل
قد وقع الخلاف واضطربت كلماتهم من عصور الاسلام الأولى إلى
العصور المتأخرة في ثبوت حكم العقل الذي هو موضوع الملازمة، ثم في
حقيقته، ثم في ملازمة حكم الشارع له.
بل قد يظهر من بعض كلماتهم الكلام بعد ذلك في حجية الدليل العقلي
المبتنى على ذلك على الحكم الشرعي المنكشف به، ومرجعه إلى الكلام في
حجية القطع الحاصل من دليل العقل المذكور.
وقد أشرنا إلى خروجه عن علم الأصول، لان الكلام في مسائل الأصول
بعد الفراغ عن حجية القطع التي يأتي الكلام فيها في مقدمة بحث الأصول
المبتنية على العمل إن شاء الله تعالى.
ولطول مد ة البحث في ذلك وكثرة اضطرابهم فيه لا يسعنا متابعة كلماتهم
فيه، بل نحاول اختصار البحث والاقتصار على ما نصل إليه في تحقيقه وما
يتعلق بذلك من كلماتهم التي لابد من التعرض لها.
ونسأله أن يمدنا بالعون والتوفيق والتأييد والتسديد، انه ولى الأمور، وهو
حسبنا ونعم الوكيل.
هذا، وقد أشرنا إلى أن الملازمة المذكورة لا تنفع في استنباط الحكم
الشرعي في مورد الا بضميمة حكم العقل في ذلك المورد.
ومن هنا ينبغي البحث عن ذلك وان كان خارجا عن مسألة الملازمة، لان
161

الملازمة لا تتضح الا بعد اتضاح أطرافها، وحيث لا يكون البحث في حكم
العقل تحت متناول الناظر في علم الأصول، يتعين البحث عنه وبيان حقيقته هنا.
وهو وان كان من سنخ المقدمة للكلام في الملازمة الا أن أهميته تناسب
عقد بحث مستقل له. وعلى هذا يكون الكلام في هذا الفصل في مبحثين:
162

المبحث الأول
في ثبوت الحكم للعقل في الوقائع وعدمه
من الظاهر أن صدور الفعل الاختياري لابد له من داع في الفعل يدركه
الفاعل فينبعث عنه، كما لا اشكال في وجود الدواعي الفطرية كطلب النفع
ودفع الضرر والعاطفية كالحب والرحمة والبغض والقسوة والشهوة والغضب
والتأديبية الشرعية والخلقية والعاديات العرفية والشخصية.
وانما الاشكال في وجود الدواعي العقلية التي تصلح لداعوية العقل بما
هو عاقل مجرد عن كل داع خارج عن الفعل، وهي دواعي الحسن والقبح، فقد
اشتهر النزاع بين العدلية والأشاعرة في ذلك، فادعى العدلية وجود الحسن
والقبح في الأشياء في الجملة لا بمعنى أن كل شئ اما حسن أو قبيح، بل في
مقابل السلب الكلى بحيث لو أدركت جهاتهما كانت صالحة للداعوية العقلية.
وأنكر ذلك الأشاعرة مدعين أن الحسن ما حسنه الشارع، والقبيح ما قبحه،
وبدونه فالأشياء كلها على نحو واحد ليس فيها حسن ولا قبح.
والحق الأول، وقد استدل عليه بوجوه متعددة، ولعل الأولى الاقتصار
على وجهين:
أولهما: الرجوع للوجدان، فان الانسان بوجدانه المجرد عن شوائب
الشبهات والأوهام والمنزة عن الدواعي الخارجية الشهوية والغضبية وغيرها
يرى أن هناك أمورا حسنة ينبغي فعلها ويمدح فاعلها، كالصدق والوفاء
والاحسان والايثار، وأخرى قبيحة لا ينبغي فعلها ويذم فاعلها، كالكذب
والخيانة والايذاء والتعدي. وانكار ذلك مكابرة لا يصغى إليها قد تبتنى على
163

شبهات تخرج بالانسان عما يحسه ويدركه بضميره ووجد انه.
نعم، لا اشكال في أن جهات الحسن والقبح في هذه الأمور قد تزاحم
بجهات تضادها، فيكون المعيار في فعلية الداعوية على الأهمية، على ما هو
الحال في جميع موارد تزاحم الداعويتين من سنخ واحد أو داع واحد،
فالكذب الذي تندفع به مفسدة مهمة لا يخرج في الحقيقة عن قبحه، والصدق
الذي يترتب عليه مفسدة مهمة لا يخرج عن حسنه، بل تسقط داعوية قبح الأول
وحسن الثاني ويسبب أهمية داعوية الجهة المزاحمة المترتبة عليهما.
ولعل هذا هو مرادهم بأن الحسن والقبح في مثل هذه الأمور عرضيان غير
ذاتيين، وأنها مقتضية لهما لا علة تامة. وان كان ظاهرهم انقلابها عما هي عليه
من الحسن أو القبح الاقتضائي بطروء الجهة المزاحمة.
لكنه في غير محله، لأنه لو كان طروء الجهة المزاحمة رافعا للجهة الأولية
الاقتضائية لكان الكذب الذي تندفع به المفسد ة المهمة في مورد كغيره مما لا
قبح فيه إذا اندفعت به تلك المفسدة، مع أنه ليس كذلك ارتكازا.
ويأتي بعض الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام في حقيقة
الحسن والقبح المذكورين.
كما أن جهات الحسن والقبح العقلية قد تزاحم بدواع خارجية عاطفية أو
غيرها تمنع من تأثيرها في فعلية الاندفاع عنها، كما هو الحال في جميع
الدواعي.
بل الدواعي المذكورة المزاحمة قد تمنع من الاعتراف بالحسن والقبح،
حيث قد لا يهون على الانسان الاعتراف بجريمته، بل يفرض عليه كبرياؤه
164

الانكار والمباهتة.
لكن ذلك لا يغير الحق عما هو عليه ولا يقوم بعذر في مقابل المرتكزات
العقلية التي بها تقوم الحجة عند الله تعالى والناس.
ثانيا: أنه بعد صدور الممكنات منه تعالى من التكوينيات والتشريعيات،
فحيث يمتنع صدور الإرادة من غير داع، وامتنع في حقه عز شأنه الداعي
الفطري كطلب النفع ودفع الضرر، لاستلزامها الحاجة وغيره من الدواعي غير
العقلية المتقدمة لاستلزامها النقص فضلا عن الدواعي غير العقلائية
لاستلزامها العبث المنزه عنه تعالى يلزم البناء على ثبوت الداعي العقلي
الراجع لحسن النظام الأكمل التكويني والتشريعي المعلوم له جل شأنه في رتبة
سابقة على تعلق ارادته تعالى به، لا أن حسنه تابع لإرادته.
غاية الامر أنا لا نعلم تفاصيل النظامين المذكورين وجهات حسنهما،
وهو لا ينافي ثبوت الحسن المذكور واقعا والعلم به اجمالا بسبب العلم بجريان
الإرادة التكوينية والتشريعية على طبقه، خلافا لما عليه الأشاعرة.
هذا وقد احتج الأشاعرة على منع الحسن والقبح في الأشياء مع قطع
النظر عن حكم الشارع بوجوه..
أحدها: أن الأشياء المدعى لها الحسن والقبح تختلف بالوجوه
والاعتبارات، حيث قد يكون الصدق مثلا قبيحا، كما لو ترتبت عليه مفسد ة
مهمة، والكذب حسنا، كما لو اندفعت به مفسد ة مهمة، وكذا غيرهما.
ويظهر الجواب عنه مما تقدم من أن الاختلاف انما يكون في داعوية
الحسن والقبح بسبب المزاحمة وعدمها، لا في أصل ثبوتهما.
ولو سلم فهو انما يمنع من كون الأمور المذكورة عللا تامة للحسن
والقبح، لا من ثبوتهما لها في الجملة ولو عند عدم المزاحم، لأنها من سنخ
المقتضى لأحدهما بذاتها مع قطع النظر عن حكم الشارع الأقدس.
165

هذا، وأما ما تكرر في كلام جماعة من القائلين بالتحسين والتقبيح
العقليين من أن بعض الأمور علل تامة للحسن أو القبح، ولا تنفك عن أحدهما،
كما لا تقبل المزاحمة، كالعدل والاحسان والظلم والعدوان.
فيتضح الحال فيه مما يأتي إن شاء الله تعالى.
ثانيها: ما قيل إنه أهم أدلتهم، وهو أنه لو كانت قضية الحسن والقبح مما
يحكم به العقل لما كان فرق بين حكمه بها وحكمه بأن الكل أعظم من الجزء،
مع وضوح الفرق بنيهما، فان الحكم الثاني لا يختلف فيه اثنان مع وقوع
الاختلاف في الأول.
وفيه: أن الملازمة ممنوعة، إذ لا ملزم باتفاق المدركات العقلية بالوضوح
والخفاء، بل تختلف باختلاف القضايا، فقضية أن الكل أعظم من الجزء لما كانت لازمة لمفهوم طرفيها
كانت من الأوليات التي يكون التصديق بها لازما
لمفهوم طرفيها، بخلاف قضية التحسين والتقبيح، فإنها وان كانت قطعية، الا
أنها غير لازمة لمفهوم طرفيها، بل يحتاج التصديق بها إلى شئ من التروي
والرجوع للمرتكزات العقلية الكامنة في النفس والمحتاجة للتنبيه، والى التمييز
بين الداعوية العقلية التي هي محل الكلام وسائر الدعويات النفسية المتقدمة،
وذلك مما يوجب نحو خفاء لها قد يسهل معه توجيه الشبه فيها والاشكالات
عليها حتى قد يلتبس الامر على النفس ويضيع عليها مقتضى المرتكزات.
وأما ما يظهر من بعضهم فيما يأتي عند الكلام في حقيقة الحكم
المذكور من أن القضية المذكورة من القضايا التأديبية التي لو خلى الانسان
وعقله المجرد لم يذعن بها، بل لا بد في اذعانه من أن يؤدب بقبولها والاعتراف
بها تبعا لمشهوريتها عند العقلاء وتطابق آرائهم المحمودة عليها.
فهو غير ظاهر بعد الرجوع للمرتكزات، بل الظاهر ما ذكرنا من كفاية تنبيه
العقل إليها وتمييز الدواعي العقلية عن غيرها في اذعان النفس بها ما لم تمنع
166

الشبهات من ذلك.
ثالثها: أنه لو حسن الفعل أو قبح مع قطع النظر عن التشريع لزم عدم كون
الباري مختارا في تشريع الاحكام، لان قبح مخالفة مقتضى الحسن والقبح منه
تعالى يستلزم امتناع مخالفته، فلا يكون مختارا فيه.
وفيه: أن امتناع صدور القبيح منه تعالى ليس لعجزه عنه، كي ينافي
اختياره، بل لان كماله لا يناسب اختياره للقبيح، ويلزم باختياره للحسن، فهو
مبتن على الاختيار، وليس منافيا له.
وهناك بعض الوجوه الاخر لا مجال لإطالة الكلام فيها، لوضوح ضعفها،
أو لابتنائها على مبان ظهر بطلانها في محله المناسب.
ولا سيما مع أن ثبوت الحسن والقبح من الوضوح بنحو لا يحتاج معه
للنقض والابرام، بل الوجوه المستدل بها على عدمهما لو كانت متينة بحسب
الصورة فهي لا تخرج عن كونها شبهة في مقابل البديهة لا ملزم بالتطويل فيها
والتعريج عليها.
بقى الكلام في حقيقة الحكم بالحسن والقبح وكيفية ادراك العقل لهما.
والظاهر بعد التأمل في المرتكزات أن العقل يدرك أولا حسن الشئ أو
قبحه على أنه أمر واقعي كسائر المدركات الواقعية، ثم يدعو لفعل الحسن وترك
القبيح.
والداعوية المذكورة وان كانت نحوا من الحكم الا أنه لا يعتمد على قوة
وسلطان لتكون أمرا ونهيا، إذ لا حول للعقل ولا سلطان، بل محض ارشاد ونصح
مبتن على نحو من التشجيع والتأنيب نابع من صوت الحس والوجدان والضمير
الذي أودعه تعالى في الانسان واحتج به عليه.
واليه يرجع حكم العقلاء باستحقاق المدح أو الذم وأهلية الثواب أو
العقاب.
167

والحكمان المذكوران مختلفان سنخا ومترتبان في أنفسهما ترتب الحكم
والموضوع.
ونظير ذلك ادراك الانسان اللذات ثم دعوة النفس لتحصيلها، وغير ذلك
من الداعويات المختلفة.
وتحقيق أن الحاكم بهما العقل النظري أو العملي يرجع على الظاهر
يبتنى على محض اصطلاح لا مشاحة فيه. والمهم ما ذكرنا.
هذا، وقد ذكر بعض المعاصرين في أصوله أنه ليس للحسن والقبح
واقعية الا ادراك العقلاء، وتطابقهم على أن الشئ ينبغي أن يفعل أو يترك، وأن
ذلك من التأديبات الصلاحية الداخلة في القضايا المشهورة التي ليس لها واقع
وراء تطابق العقلاء. قال: (فمعنى حسن العدل أن العلم عندهم أو فاعله ممدوح
لدى العقلاء، ومعنى قبح الظلم والجهل أن فاعله مذموم لديهم. ويكفينا شاهدا
على ما نقول من دخول أمثال هذه القضايا في المشهورات الصرفة التي لا واقع
لها الا الشهرة، وأنها ليست من قسم الضروريات ما قاله الشيخ الرئيس في
منطق الإشارات، ومنها الآراء المسماة بالمحمود ة. وربما خصصناها باسم
الشهرة إذ لا عمد ة لها الا الشهرة، وهي آراء لو خلى الانسان وعقله المجرد
ووهمه وحسه ولم يؤدب بقبول قضاياها والاعتراف بها... لم يقض بها الانسان
طاعة لعقله أو وهمه أو حسه، مثل حكمنا بأن سلب مال الانسان قبيح، وأن
الكذب قبيح، لا ينبغي أن يقدم عليه. وهكذا وافقه شارحها العظيم الخواجة
نصير الدين الطوسي).
ومرجع ذلك إلى انكار الحكم الأول الذي ذكرناه آنفا، وأن الحسن والقبح
عبارة عن الحكم الثاني مما سبق.
ولا مجال للبناء عليه، لوضوح أن مدح العقلاء وذمهم على الفعل ليس
اعتباطيا، بل لادراكهم أمرا فيه يقتضى فعله أو تركه، تكون الداعوية العقلية
168

متفرعة عليه تفرع الحكم على الموضوع، وذلك الامر هو الحسن أو القبح.
فالحسن والقبح أمران واقعيان لا يتوقفان ثبوتا على ادراك العقلاء، ولا
على مدحهم وذمهم. ولذا يصح عرفا أن يقال: ينبغي للانسان أن يصدق ولا
ينبغي له أن يكذب، لان الصدق حسن والكذب قبيح. وعلى هذا يتفرع ما
ذكرناه انفا من أن طروء الجهات المزاحمة للحسن والقبح لا يخرج الحسن عن
حسنه والقبيح عن قبحه، بل يسقطهما عن الداعوية العقلية لو لم يكونا أهم من
المزاحم.
أما لو قيل بأن الحسن والقبح عبارة عن نفس الحكم بأن الشئ مما ينبغي فعله أولا
ينبغي، وأنه يستحق عليه المدح أو الذم الذي هو عبارة عن نفس الداعوية لزم البناء على تأثير المزاحم في
نفس الحسن والقبح ورفعه
لهما، بل يخرج عن كونه مزاحما بل يكون عدمه من قيود الموضوع، كما هو
ظاهر.
ولعل ما تقدم من الإشارات مسوق لبيان أن الشهرة هي العمدة في اثبات
الحسن والقبح وادراكهما لا في ثبوتهما، فلا ينافي ما ذكرناه هنا.
كما قد يناسبه أن المحقق الطوسي ذكر أنه مع طروء الجهات المزاحمة
يجوز ارتكاب أقل القبيحين، وهو يبتنى على ما ذكرناه من عدم خروج القبيح
المرجوح عن قبحه بالمزاحمة. فلاحظ.
على أنه لو سلم أن مدح العقلاء وذمهم لا يستند إلى ادراكهم حسن
الشئ أو قبحه، بل ليس الحسن والقبح الا استحقاق المدح والذم وكون الشئ أ
مما ينبغي فعله أو تركه، الا أن الظاهر أن كون الشئ مما ينبغي فعله أو تركه
مستند للداعوية العقلية التي يستقل كل أحد بها بنفسه، لا بسبب تطابق آراء
العقلاء، بحيث لو فرض عدم وجود غير عاقل واحد لحكم عقله بذلك، وليس
169

تطابق آراء العقلاء الا لاشتراكهم في العقل الداعي لذلك.
وبالجملة: لا دخل لتطابق آراء العقلاء في ثبوت الحسن والقبح، ولا في
الداعوية لفعل الحسن وترك القبيح، كما تقدم أنه غير دخيل في اثبات التحسين
والتقبيح واقرار الانسان بهما.
هذا، ولبعض المعاصرين قدس سره في منطقه عند شرح حقيقة الخلقيات من
المشهورات كلام يقارب ما ذكرنا لو لم يطابقه، قال: (والصحيح في هذا الباب
أن يقال: ان الله تعالى خلق في قلب الانسان حسا وجعله حجة عليه يدرك به
محاسن الافعال ومقابحها، وذلك الحس هو الضمير بمصطلح علم الأخلاق
الحديث، وقد يسمى بالقلب أو العقل العملي أو العقل المستقيم أو الحس
السليم عند قدماء علماء الأخلاق وتشير إليه كتب الأخلاق عندهم. فهذا الحس
في القلب أو الضمير هو صوت الله المدوي في دخيلة نفوسنا يخاطبها به
ويحاسبها عليه. ونحن نجده كيف يؤنب مرتكب الرذيلة، ويقر عين فاعل
الفضيلة، وهو موجود في قلب كل انسان، وجميع الضمائر تتحد في الجواب
عند استجوابها عن الافعال، فهي تشترك جميعا في التمييز بين الفضيلة
والرذيلة، وان اختلفت في قو ة هذا التمييز وضعفه، كسائر قوى النفس، إذ
تتفاوت في الافراد قوة وضعفا. ولأجل هذا كانت الخلقيات من المشهورات
وان كانت الأخلاق الفاضلة ليست عامة بين البشر، بل هي من خاصة الخاصة.
نعم الاصغاء إلى صوت الضمير والخضوع له لا يسهل على كل انسان الا
بالانقطاع إلى دخيلة نفسه والتحول عن شهواته وأهوائه...).
وهو كما ترى صريح في أن اقرار عين فاعل الفضيلة وتأنيب مرتكب
الرذيلة متفرع على ادراك حسن الأشياء وقبحها، وأن قوة الادراك مودعة في
الانسان غير مكتسبة من تطابق العقلاء، بل تطابقهم هو المسبب عن واجديتهم
للقوة المذكورة.
170

وهو وان ذكر ذلك في الخلقيات، دون التأديبات الصلاحية، التي خصها
بما تطابق عليه العقلاء من أجل قضاء الصالح العام لان بها انحفاظ النظام وبقاء
النوع، الا أن الظاهر أن حسن الحفاظ على النظام والسعي لبقاء النوع يختص بما
يبتنى على الفضيلة واجتناب الرذيلة كما يناسبه تمثيله له بحسن العدل وقبح
الظلم، والا فلا يدعو العقل إليه ولا يراه حسنا. غاية الامر أن تدعو إليه الفطر ة لو
لازم دفع الضرر، أو جلب النفع للنفس، أو تدعو إليه العاطفة وغير ذلك من
الدواعي غير العقلية.
على أنه لا اشكال في كون الخلقيات من صغريات التحسين والتقبيح
العقلين، فما ذكره فيها لا يناسب ما ذكره في حقيقتهما في كلامه المتقدم وغيره
من أصوله.
ومن الغريب أنه في أصوله قد حول على ما ذكره في منطقه بنحو قد يظهر
منه جريه فيهما على نهج واحد.
171

المبحث الثاني
في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل
لعل المعروف بين أصحابنا ثبوت الملازمة المذكورة ولذا تكرر في
كلماتهم الاستدلال على حرمة بعض الأمور شرعا بالأدلة الأربعة، لابتناء
الاستدلال بحكم العقل عليها على ادراك قبحها، وهو انما يقتضى حكم الشارع
بحرمتها بضميمة الملازمة المذكورة.
وربما ابتنى عليها عدهم للأدلة أربعة، وأرادوا برابعها حكم العقل، وان
اختلفوا في تعيينه.
وكيف كان، فقد استدل عليها بوجوه تعرض لجملة منها في الفصول
وأطال الكلام فيها، ولعل أمتنها ما جعله ثالث الوجوه، واليه يرجع ما اعتمده
بعض المعاصرين في أصوله، وذكره بقوله: (فان العقل إذا حكم بحسن شئ أو
قبحه أي أنه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعا بما هم عقلاء على حسن شئ، لما
فيه من حفظ النظام وبقاء النوع، أو على قبحه، لما فيه من الاخلال بذلك فان
الحكم هذا يكون بادي رأى الجميع، فلابد أن يحكم الشارع بحكمهم، لأنه
منهم، بل رئيسهم، فهو بما هو عاقل بل خالق العقل كسائر العقلاء لابد أن
يحكم بما يحكمون، ولو فرضنا أنه لم يشاركهم في حكمهم لما كان ذلك
الحكم بادي رأى الجميع، وهذا خلاف الفرض).
ومقتضاه كون الملازمة في المقام من صغريات الملازمة بين الكل
والجزء، نظير الملازمة بين الاجماع المصطلح بين الأصحاب وقول الإمام عليه السلام.
وفيه: أن محل الكلام ليس هو ادراك الشارع حسن الشئ أو قبحه
173

وداعوية العقل على طبقهما، واستحقاق المدح والذم بمتابعة الداعوية المذكورة
ومخالفتها، فان ذلك حكم العقل نفسه وليس ادراك الشارع له الا كادراك غيره
من العقلاء لا يصحح نسبة الحكم إليه بنحو تكون موافقته ومخالفته طاعة له
مستتبعة لاستحقاق ثوابه ومعصية له مستتبعة لاستحقاق عقابه.
وأما ما ذكره بعض المعاصرين من أن المراد باستحقاق المدح والذم
المفروض في حكم العقل بالتحسين والتقبيح المجازاة بالخير الشامل للثواب
والمكافأة بالشر الشامل للعقاب.
فهو كما ترى! لوضوح أن الموافق للداعي العقلي لا يستحق على سائر
العقلاء الثواب، كما لا يستحق المخالف له العقاب منهم، مع أنهم يشاركون
الشارع في ادراك حكم العقل المذكور، بل لا يصح منهم الا المدح والذم
المساوقات لمفاد (نعم) و (بئس).
وانما يصح من الشارع العقاب لتميزه عنهم بكونه المنعم المالك الذي له
حق الطاعة على عبده، ويترتب على ثبوت الحق المذكور مقتضاه من استحقاق
حسن الجزاء على أدائه وسوء العقاب على التفريط فيه.
ومن الظاهر أن حق الطاعة فرع نسبة الحكم للمولى زائدا على حكم
العقل به، وهو لا يكون الا بجعل الحكم المولوي منه زائدا على ادراكه مقتضى
حكم العقل.
ودعوى: أنه يكفي في نسبة الحكم إليه حكمه به بما هو عاقل كسائر
العقلاء، وانما يفترق عنهم بأنه يستحق الطاعة على العبيد، فينبغي منه ثوابه
عليها، ويستحق عقابه بالتفريط فيها، بخلافهم، وإذا لم يستحقوا الطاعة لم ينتظر
منهم الثواب عليها ولا يصح منهم العقاب على التفريط فيها، وان كان الحكم
منسوبا لهم بمجرد حكمهم به بما هم عقلاء، كما ينسب للشارع.
ممنوعة، والا لزم انقلاب الاحكام الارشادية إلى أحكام مولوية، لادراك
174

الشارع حكم العقل فيها، فيكون منسوبا إليه ومنشأ لاستحقاق الثواب والعقاب
منه.
وهو مما لا يمكن البناء عليه.
كما لا يصح عند العقلاء عقاب من له حق الطاعة من الناس شرعا
كالمولى المالك أو عرفا كالرئيس الصالح المعترف برئاسته أو ادعاء
كالسلطان القاهر بمخالفة مقتضى الداعوية العقلية، بل لابد من صدور الحكم
المولوي منه على طبقها، بحيث يعلم منه الالزام بمقتضاها زائدا على الزام
العقل.
بل لو حكم على خلاف مقتضى الداعوية العقلية كما لو أمر بالكذب
نسب إليه الحكم المذكور وكان موضوعا للطاعة والمعصية دون مقتضى
الداعوية العقلية وان كان مدركا له كالشارع.
على أن عدم استحقاق العقلاء الطاعة انما يمنع من استحقاق العقاب
منهم بمعصيتهم، لا من استحقاق الثواب عليهم بإطاعتهم، فلو كان الحكم
العقلي منسوبا لكل منهم بمجرد ادراكهم له لزم استحقاق الثواب عليهم
بموافقته.
وبالجملة: محل الكلام هو حكم الشارع المولوي المجعول منه زائدا
على حكم العقل المدرك له، ولابد في دعوى ملازمته لحكم العقل المذكور من
الدليل.
ولم يتضح لنا عاجلا ما ينهض بذلك على كثرة الوجوه التي ذكرها في
الفصول.
والتحقيق: أن لزوم حكم الشارع الأقدس على طبق مقتضى حكم العقل
يبتني على وجوب اللطف منه تعالى عقلا بحفظ مقتضى حكم العقل تشريعا،
وذلك لعدم كفاية الداعوية العقلية غالبا في الجري على مقتضى حكم العقل،
175

لمزاحمتها بالدواعي الأخرى التي هي أقوى منها في حق أكثر الناس، فيجب
على الشارع لحفظ مقتضيات الاحكام العقلية جعل الحكم على طبقها، للتأكد
الداعوية العقلية بالداعوية الشرعية، حيث يتسنى بجعل الحكم الشرعي الجري
على مقتضاه لأجله تعالى والعمل لحسابه، لكونه المنعم المالك الكامل القادر،
اما لأنه اللازم الشكر لانعامه، أو الذي هو أهل لان يعبد بالطاعة لكماله، فيتأكد
الداعي العقلي بمثله، أو لأنه المحبوب لانعامه وكماله، فيتأكد الداعي العقلي
بالداعي العاطفي، أو لأنه المرجو المرهوب، لمالكيته وقدرته، المستلزمين
لاستحقاق الثواب ورجائه، واستحقاق العقاب ورهبته، فيتأكد الداعي العقلي
بالداعي الفطري الراجع لتحصيل النفع ودفع الضرر، الذي هو أقوى الدواعي
عند العامة.
لكن ذلك لا يكون لمجرد حكم العقل بحسن الحسن وقبح القبيح،
وداعويته لفعل الأول وترك الثاني، بل هو تابع لحكم عقلي آخر متفرع على
الحكم المذكور، وهو وجوب حفظ مقتضى حكم العقل المذكور بالتشريع على
طبقه، نظير تشريع وجوب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر المتفرع ثبوت
المعروف والمنكر تشريعا.
وذلك الحكم مختص بالشارع الأقدس، لاختصاص القدرة على مقتضاه
به، بلحاظ علمه المطلق التام بمقتضيات الحسن والقبح بخصوصياتها وبموارد
تزاحمها، وقدرته على حفظها بالدواعي المذكورة آنفا بسبب التشريع،
لواجديته لجهاتها، وقدرته على الثواب والعقاب بأتم وجه، وكل ذلك مما ينفرد
به جل شأنه وعز اسمه وعظمت آلاؤه ونعماؤه.
هذا، ولكن وجوب حفظ مقتضيات الدواعي العقلية بالتشريع لابد فيه
من أمرين..
أحدهما: عدم المزاحم للمقتضيات المذكورة بما يمنع من فعلية تأثيرها
176

في الداعوية العقلية
. ثانيهما: عدم المانع من التشريع على طبقها وان كانت فعلية التأثير في
الداعوية العقلية، حيث قد يكون في جعل الشارع للحكم وانتسابه له مفاسد
أهم من مصلحة حفظ مقتضيات الدواعي العقلية، وتلزم بجعل الحكم منه على
نحو آخر. نظير رفع القلم عن الصبي المميز، فان الداعي العقلي في حقه وان
كان فعليا فيحسن منه ويقبح ما يحسن من البالغ ويقبح عقلا الا أن الشارع
الأقدس حيث أدرك المفسدة في الزامه بمقتضاه شرعا تعين رفع القلم عنه من
قبله الراجع في ترخيصه بمخالفته.
ولعل كثيرا من المستحبات والمكروهات انما لم يكن حكمها الزاميا
للمانع من الزام الشارع فيها، لا لقصور مقتضى الداعوية العقلية فيها عن الالزام،
كما فيما لو كان المانع من الالزام مصلحة التسهيل والامتنان، لوضوح عدم كون
المنة والتسهيل من المصالح المترتبة على الفعل أو الترك والصالحة لمزاحمة
مقتضى الداعي العقلي بنحو تمنع من كون داعويته الزامية، بل من الجهات
المانعة من نفس الالزام والتكليف، مع بقاء الفعل على ما هو عليه من الداعوية
العقلية، نظير مصلحة رفع الالزام عن الصبي المميز.
وأما ما تضمن اهتمام شريعة الاسلام بالفضائل ومحاسن الأخلاق
كالنبوي المشهور: (بعثت لا تتم مكارم الأخلاق). فهو محمول على كون
الاهتمام بها مقتضى طبع التشريع والأصل الأولى فيه، في مقابل الشرايع الباطلة
المهملة لذلك، أو المبنية على انتهاك الحرمات وترويج الرذائل والتشجيع، فلا
ينافي ملاحظة المزاحمات والموانع في مقام التشريع المذكور والوقوف عندها.
ومن هنا يمتنع البناء على ملازمة حكم الشرع لحكم العقل بحسن الشئ
أو قبحه، بنحو ينتقل من الثاني للأول، وينفع في الاستنباط، لما هو المعلوم من
عدم إحاطة العقل بكثير من المزاحمات لمقتضيات الداعوية العقلية التي لو
177

اطلع عليها لم تكن الداعوية فعلية.
والداعوية مع الجهل المذكور وان كانت فعلية، لعدم الخروج عن
المقتضى المعلوم باحتمال المزاحمة، الا أن الاحتمال المذكور يمنع من العلم
بالجعل الشرعي على طبق المقتضى المذكور، لاحتمال اطلاع الشارع الأقدس
على ما لم يطلع عليه من المزاحمات.
كما أن العقل لا يحيط أيضا بكثير من موانع التشريع غير المانعة من
الداعوية العقلية، فلا يتسنى له العلم بالتشريع على طبقها أيضا، كي ينفع ذلك
في الاستنباط الذي هو محل الكلام.
وأما ما تكرر في كلماتهم من أن بعض العناوين علل تامة للحسن والقبح
وللداعوية العقلية، ولا تقبل المزاحمة بما يمنع من فعلية تأثيرها فيها، وأنه لابد
من حكم الشارع على طبق الداعوية العقلية المذكورة فيها، كعنوان العدل
والاحسان والظلم والعدوان. فهو وان كان مسلما في الجملة الا أنه لا ينفع في
المقام، لان تشخيص مصاديق العناوين المذكورة تابع للتشريع، لما هو المعلوم
من أن العدل الذي هو محل الكلام هو وضع الشئ في موضعه، والاحسان هو
فعل ما هو حسن، وأن الظلم والعدوان عبار - ة عن هضم حق الغير والتصرف على
خلاف مقتضى حقه، ولا يكفي في الدخول تحت العناوين المذكورة التي هي
موضوع الحسن والقبح العقليين التشخيص العرفي لافرادهما، بل ليس
موضوعها الا الفرد الحقيقي المتحصل بتشخيص الشارع، ولذا لا يكون قتل
المؤمن بالكافر عدلا، ولا إعانة المرتد احسانا، ولا ذبح الحيوان ولا قتل الحربي
ولا أكل المار ة من ثمر الشجر الذي في الطريق المملوك للغير ظلما وعدوانا إلى
غير ذلك.
وبعد فرض أخذ التشخيص من الشارع يكون الحكم معلوما في رتبة
سابقة على احراز كون الفرد حسنا أو قبيحا، فلا ينفع العلم بالحسن والقبح في
178

الاستنباط.
بل مرجع ذلك إلى ملازمة حكم العقل لحكم الشرع باعتبار أن الشارع
الأقدس هو المالك المطلق والمنعم المفضل الذي يجب عقلا متابعته والجري
على مقتضى حكمه، وان لزم كون حكمه أيضا على طبق الموازين العقلية التي
يحيط بها أكمل إحاطة، لان كماله يمنع من اختياره ما يخالفها.
ولأجل ذلك قد يحمل الأمر والنهي الواردان على العناوين المذكورة
على الارشاد، كقوله تعالى: (ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى
وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) (1)، وقوله سبحانه: (يأمرهم بالمعروف
وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) (2)، وقوله
عز اسمه: (قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم) (3)،
ونحو ذلك. لان فرض كون الشئ عدلا واحسانا عند الشارع متفرع على أمره به،
وفرض كونه فاحشة ومنكرا وبغيا واثما متفرع على نهيه عنه، فلا معنى للامر
بالأول والنهى عن الثاني مولويا، بل لابد من حمل الأمر والنهي على الارشاد،
نظير الامر بالطاعة والنهى عن المعصية.
لكنه مخالف للظاهر، لاستلزامه عدم ترتب العمل على الأوامر والنواهي
المذكورة، فيتعين ابقاؤها على ظهورها في المولوية، غاية الامر الرجوع في
تشخيص أفراد العناوين المذكورة للعرف، كما هو مقتضى الاطلاقات المقامية،
ما لم يثبت من الشارع الأقدس خلافه.
وهذا لا ينافي ما ذكرنا من أن المرجع في تشخيص موضوع القضية
العقلية هو الشارع دون العرف.
179

لان المعيار في البيانات الشرعية على الظهور العرفي المستند للوضع
والقرائن الخاصة والعامة، ومنها الاطلاق المقامي، أما في القضايا العقلية
فالمعيار على ما يعلم من العقل، ولا دخل للظهور العرفي.
ومن جميع ما سبق يتضح أن الملازمة في الحقيقة ليست بين حكم العقل
بحسن الشئ أو قبحه وحكم الشرع على طبقه، بل بين حكم العقل بحسن
الحكم نفسه المسبب عن حسن متعلقه أو قبحه مع عدم المزاحم والموانع
ونفس الحكم.
بل يكفي حسن الحكم لمصلحة فيه، لا في المتعلق، كمصلحة الامتحان
أو التأديب والعقاب، حيث يمكن ترتبهما على نفس الحكم دون المتعلق، كما
لا يبعد في مثل تكليف إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، وفى تحريم بعض الأمور على
اليهود، كما قد يظهر من قوله تعالى: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر
ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما الا ما حملت أو الحوايا
أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وانا لصادقون) (1) وغيره.
وعلى ذلك جرى في الفصول بعد التعرض لجملة ما ذكرنا وغيره مما لا
مجال لإطالة الكلام فيه.
واليه يرجع ما ذكرناه في الوجه الثاني للاستدلال على التحسين والتقبيح
العقليين من أن ما صدر من الشارع الأقدس هو النظام التشريعي الأكمل الذي
هو مقتضى الداعي العقلي الذي ينحصر في حقه.
ومن الظاهر أن الملازمة المذكورة لا تنفع في استنباط الأحكام الشرعية،
لعدم إحاطة العقل بالملزوم بجميع خصوصياته، ليتسنى تشخيص موارده، بل
هو مما ينفرد به الشارع الأقدس، وان أمكن أن يعلم ببعض ذلك من قبله.
ولعله عليه يحمل ما تضمن أن دين الله لا يصاب بالعقول.
180

نعم، قد يدرك العقل بنفسه في بعض الموارد قبح التكليف، وأنه ظلم
ينزه عنه تعالى، كالتكليف واقعا بما لا يطاق، وظاهرا مع الجهل المطلق لا عن
تقصير حتى بوجوب الاحتياط، الذي هو مرجع البراءة العقلية.
وذلك ينفع في معرفة حدود التكليف الشرعي الواقعية، ومعرفة الوظيفة
الظاهرية العملية.
الا أن ذلك خارج عن محل كلامنا، للتسالم على عدم التكليف بما لا
يطاق، بنحو لا يهتم باثباته من طريق الملازمة، ولعدم نهوض البراءة العقلية
بمعرفة الحكم الواقعي، لتكون من الأدلة التي هي مورد البحث، وانما هي أصل
عملي يبحث عنه في محل آخر.
نعم، يتجه دخولها في محل الكلام لو كان المراد من الأدلة ما يعم دليل
الوظيفة الظاهرية العملية. ولعله لذا خص بعضهم دليل العقل بالبراءة الأصلية.
بقى شئ، وهو أن صاحب الفصول وان نفى الملازمة الواقعية بين حكم
العقلي بحسن الشئ أو قبحه وحكم الشرع على طبقه، كما تقدم، الا أنه ذهب
إلى الملازمة بينهما ظاهرا، بمعنى أنه يبنى ظاهرا على حكم الشرع بما حكم به
العقل ما لم يثبت خلافه من قبل الشارع الأقدس.
مستدلا على ذلك بوجهين:
أولهما: اطلاق الآيات المتقدمة.
ثانيهما: أن العقل بعد أن يدرك مقتضى الحكم لا يعتد باحتمال المانع.
لكن الوجه الأول حيث لا يرجع لحكم العقل، بل لظهور الأدلة النقلية
فهو خارج عن مورد البحث، ولا يسعنا إطالة الكلام في ذلك، لان نتيجته أحكاما
فرعية لا قاعدة أصولية، ولعدم اختصاص الأدلة المناسبة بالآيات المذكورة،
واستقصاء الكلام في جميعها وفى مقتضى الجمع بينها في أنفسها وبينها وبين
غيرها يحتاج إلى جهد كثير ووقت طويل.
181

فالأولى ايكاله إلى مورد الحاجة إليه من الفقه، وبحثه بالمقدار الذي
يقتضيه المورد.
وأما الثاني فهو يبتنى على قاعدة المقتضى التي لم تثبت كلية، كما لم
يتضح التعويل عليها في خصوص المورد، وانما ثبت الرجوع إليها في بعض
الموارد لخصوصيتها.
ولا مجال لقياس المقام بما لو احتمل وجود المزاحم لحسن الحسن
وقبح القبيح، حيث لا يعتد به العقل في رفع اليد عن داعويته على طبق الحسن
أو القبح المعلوم، فلا ينبغي بنظره الكذب لاحتمال ترتب مصلحة مهمة عليه،
ولا ترك الصدق لاحتمال ترتب مفسدة مهمة عليه.
للفرق بأن الشك في المزاحم انما هو بعد احراز تمامية موضوع الداعوية
العقلية، نظير ما لو شك في وجود المزاحم للتكليف الشرعي المعلوم.
أما في المقام فالشك في تمامية موضوع الداعوية الشرعية، حيث لم
يحرز الا المقتضى للملاك، وهو الحسن أو القبح العقليين، مع احتمال وجود
المانع من تأثيره في لزوم الجعل الشرعي، فينحصر الامر فيه بقاعدة المقتضى
الذي ذكرنا عدم تماميتها.
وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن التحسين والتقبيح العقليين وان كانا
ثابتين، بمعنى ادراك العقل الحسن والقبح في بعض الموارد وداعويته على
طبقهما، الا أنهما لا يستلزمان حكم الشارع الأقدس على طبقهما، لامكان
اطلاعه على ما يزاحم مقتضياتهما، أو على ما يمنع من جعل الحكم من قبله
على طبقهما. كما لا يستتعبان لزوم البناء ظاهرا على جعل الحكم الشرعي، لينفع
ذلك في مقام الاستنباط.
نعم، لو حسن جعل التكليف من قبله اما لحسن متعلقه أو قبحه من دون
مزاحم يوجب قصور داعويتهما عقلا، ولا مانع من جعل الحكم الشرعي على
182

طبقهما أو لمصلحة في نفس الحكم لا دخل للمتعلق فيها، فلابد من جعله
الحكم، لكماله المانع من تخلفه عن الداعي العقلي.
الا أنه لا يتسنى للعقل غالبا ادراك حسن الجعل، لعدم احاطته بالجهات
الدخيلة في ذلك. فلا تنفع الملازمة المذكورة في الاستنباط.
غاية الامر أنه قد يتسنى له ادراك قبح التكليف الواقعي أو الظاهري في
بعض الموارد، كالتكليف بما لا يطاق، والتكليف مع الجهل المطلق حتى
بوجوب الاحتياط، الذي ترجع إليه البراءة العقلية التي يأتي الكلام فيها في محله
إن شاء الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين. ومنه نستمد العون والتوفيق.
183

الفصل الثاني
في الاجزاء
185

الفصل الثاني
في الاجزاء
اختلفوا في أن الاتيان بالمأمور به بالنحو الذي يقتضيه الامر ويدعو إليه
هل يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه؟
وقد وقع الكلام منهم في تحديد معنى الاجزاء الذي هو محل الكلام،
وأنه عبارة عن الامتثال واسقاط الامر أو اسقاط القضاء. والظاهر كما ذكره في
التقريرات في الجملة عدم خروج الاجزاء عن معناه اللغوي والعرفي، وهو
الكفاية، وحيث كان المعنى المذكور إضافيا يختلف باختلاف ما يكفي الشئ عنه
أو فيه فهو يختلف باختلاف الامر المهم الذي يراد البحث عنه، وأنه الامتثال أو
سقوط القضاء، ولا تخلو كلماتهم في تحديده عن اضطراب، قد يكون منشؤه
اختلاف الامر الذي هو موضوع كلامهم بين الواقعي الأولى والاضطراري
والظاهري.
ولا ينبغي إطالة الكلام في تحقيق ذلك بعد وفاء البحث الآتي إن شاء الله
تعالى بالجميع. وان لم يبعد رجوع الجميع لأمر واحد، وبسبب تلازمها.
وينبغي التمهيد لمحل الكلام ببيان أمر، وهو أن الفرق بين هذه المسألة
ومسألة المرة والتكرار المتقدمة، أن البحث في تلك المسألة عما يقتضيه ظهور
اطلاق الامر من تحديد المأمور به، وأنه مطلق الماهية، أو المقيد منها بالمرة، أو
بالتكرار. وهنا في تحقق الاجزاء بالفعل المطابق للمأمور به بعد فرض تحديده
باطلاق الامر أو غيره.
187

ومن ثم كان البحث في تلك المسألة اثباتيا موضوعه ظهور الامر، وهنا
ثبوتيا موضوعه فعل المأمور به، وكانت تلك المسألة من مسائل الظهورات
اللفظية، أما هذه المسألة فهي على بعض وجوهها عقلية، وعلى بعضها الاخر
تبتنى على مقتضى الظهور أو الأصل.
وبلحاظ الأول حررناها في مباحث الملازمات العقلية تغليبا.
ولا ينبغي إطالة الكلام هنا في تفصيل ذلك بعد ظهوره عند الدخول في
المسألة، ولا في وجه التغليب المذكور، بعد خلوه عن الفائدة، وكونه أشبه
بتوجيه الاصطلاح، إذ المهم نفس البحث، لا موضعه وبابه.
وقد تعرضوا في تمهيد المسألة لبعض الأمور الأخرى مما يرجع لتحديد
محل النزاع رأينا الاعراض عنها أحرى، لظهور حالها، فالبحث فيها أشبه
بالبحث اللفظي.
إذا عرفت هذا، فلا ينبغي التأمل في أن موافقة الامر بالنحو الذي يدعو إليه
تقتضي الاجزاء، بمعنى امتثاله وسقوط داعويته، لان الامر لا يدعو الا إلى
موافقته بتحقيق المأمور به، فمع موافقته لا يبقى موضوع للداعوية، وذلك عبارة
أخرى عن عدم لزوم الإعادة، التي هي عبارة أخرى عن تكرار الامتثال بتحقيق
المأمور به التام في الوقت، فضلا عن القضاء الذي هو عبار ة عن تدارك فوت
المأمور به في وقته بالاتيان به خارج الوقت محافظة على أصل الواجب دون
خصوصية الوقت.
إذ لا فوت مع موافقته ليتحقق موضوع القضاء. من دون فرق بين كون
القضاء بالامر الأول وكونه بأمر جديد، إذ على كلا المبنين لابد فيه من الفوت.
ومنه يظهر أن التعبير بسقوط الإعادة والقضاء لا يخلو عن تسامح، إذ
السقوط فرع المقتضى للثبوت.
ووضح ما ذكرنا يغنى عن إطالة الكلام فيه، وان حكى عن بعضهم
188

الخلاف فيه، قال في الفصول: (ذهب الأكثرون إلى أن موافقة الامر يستلزم
الاجزاء. وذهب أبو هاشم وعبد الجبار إلى أنه لا يستلزمه. قال عبد الجبار في ما
نقل عنه: لا يمتنع عندنا أن يأمر الحكيم ويقول: إذا فعلته أثبت عليه وأديت
الواجب، ويلزم القضاء مع ذلك. هذا كلامه...). وهو من الشذوذ ومخالفة
الضرورة بمكان ظاهر.
نعم، يمكن وجوب الاتيان بالفعل ثانيا في الوقت أو في خارجه من دون
أن يكون إعادة أو قضاء، بل على أن يكون مأمورا من أول الامر بالتعدد، فلا
يكون الاتيان بمرة واحد ة موافقة للامر ولا أداء للواجب. لكنه خارج عن
مفروض الكلام.
هذا، وقد ذكر غير واحد أنه يمكن تبديل الامتثال بامتثال آخر، وذكر
بعض الأعاظم قدس سره أن ذلك وان أمكن في مقام الثبوت الا أنه يحتاج إلى دليل في
مقام الاثبات، وجعل منه ما ورد في تبديل الصلاة فرادى أو جماعة بالصلاة
جماعة.
أما المحقق الخراساني قدس سره فقد خصه بما إذا لم يكن الامتثال علة تامة
لحصول الغرض وان كان يفي به بعد ذلك لو اكتفى به، قال: (كما إذا أتى بماء أمر
به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد، فان الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد، ولذا لو
أهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه اتيانه ثانيا، كما إذا لم يأت به أولا.
ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه، والا لما أوجب حدوثه،
فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر كما كان له قبل اتيانه الأول بدلا
عنه... ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب أعاد ة من صلى
فرادى جماعة، وان الله يختار أحبهما إليه).
وكأن ما ذكره يبتنى على ما سبق منه في مبحث التعبدي والتوصلي من
امكان عدم مطابقة المأمور به للغرض. وحيث سبق منا امتناعه في حق المولى
189

الملتفت لما يطابق الغرض تعين كون المأمور به في الفرض المذكور مقيدا لبا
بما يترتب عليه الغرض، ولازم ذلك عدم تحقق الامتثال بمجرد حصول الماهية
بصرف الوجود، بل يكون مراعى بترتبه عليه، فتبديله بفرد آخر قبل حصوله لا
يكون من تبديل الامتثال، بل من العدول عن الامتثال بفرد للامتثال بغيره، كما لو
عدل عن ذلك قبل الاتيان بالفرد.
وهذا هو الوجه في ما ذكره من أن الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد،
والا ففرض الامتثال بالفرد الأول لا يناسب عدم سقوط الامر.
نعم، لا اشكال في احتياج ذلك للدليل الخاص، والا فمقتضى الاطلاق
كون المأمور به الماهية بنفسها لا بشرط، بنحو تنطبق على الوجود الأول ولا
تنسلخ عنه، المستلزم لترتب الغرض على أول وجود منها، ولتحقق الامتثال به
وسقوط الامر، وعدم مشروعية العدول لغيره بعد حصوله. والتقييد اللبي
المذكور يحتاج للدليل على عدم مطابقة المأمور به للغرض.
وأما مسألة إعادة الصلاة جماعة التي دلت عليها جملة من النصوص (1)،
فهي لا تبتنى على تبديل الامتثال بالمعنى الذي هو محل الكلام، حيث لا اشكال
في تحقق الامتثال بالصلاة الأولى، وسقوط الامر، الذي لا موضوع معه للامتثال
الاخر، بل على مشروعية الإعادة أو استحبابها بملاك زائد على ملاك الامر
الممتثل، اما أن يقتضى استحباب الإعادة والتكرار زائدا على أصل الماهية، كما
يقتضيه ما تضمن أن له بذلك صلا ة أخرى (2)، وقد يستفاد من غيره (3)، أو
يقتضى التفاضل بين الافراد في مقام الامتثال، كملاك الجماعة ونحوها.
غاية الامر أن ظاهر دليل تشريع التفاضل المذكور بدوا اختصاص
190

موضوعه بامتثال أمر الماهية، فلا موضوع له مع امتثاله بفرد آخر، الا أن الأدلة
الخاصة دلت على امكان استيفائه معه بالاتيان بفرد آخر واجد للخصوصية،
فيترتب ملاك الفرد الأفضل عليه كما يترتب لو كان امتثال أمر الماهية به ابتداء.
وعليه يحمل ما تضمن من نصوص المسألة أن الله يختار أحبهما إليه (1)
ونحوه، بمعنى أنه يكتب في سجل الحسنات الصلاة الأفضل، وان كان الامتثال
بغيرها، واليه يستند سقوط أمر الواجب.
نعم، في صحيحي هشام بن سالم وحفص بن البختري: (يصلى معهم
ويجعلها الفريضة) (2)، وحيث لا يمكن الالتزام بظاهره، لسقوط الفرض بالفرد
الأول، فلابد من حمله على أن المأتى به من سنخ الفريضة ماهية فهو ظهر
أخرى مثلا، لا صلاة مباينة للصلاة المأتى بها ماهية، وان لم تكن فريضة بالفعل،
غاية الامر أنه يقصد أنها تحسب في مقام الثواب كما لو امتثل الفرض بها، نظير
ما ذكرناه فيما تضمن أن الله يختار أحبهما إليه.
وأما ما ذكره بعض مشايخنا من حمله على قصد القضاء بها، كما هو
صريح قوله عليه السلام في حديث إسحاق: (صل واجعلها لما فات) (3).
فهو بعيد جدا، لان ظاهر تعريف الفريضة معهوديتها، ولا معهود عرفا الا
الفريضة التي أداها.
ومجرد تضمن حديث إسحاق نية القضاء لا يلزم بذلك، نظير متضمن جعلها (4) نافلة بل الظاهر الجمع بجواز الكل.
وبالجملة: يمتنع تبديل الامتثال، لان الامتثال الأول مستلزم لسقوط الامر،
191

ومعه لا يبقى موضوع الثاني. وانما يمكن تقييد المأمور به بنحو ينطبق على
الفرد الثاني على تقدير وجوده دون الأول، نظير ما تقدم فيما لو لم يكن الامتثال
علة تامة لحصول الغرض، فيكون الاتيان بالثاني عدولا عن الامتثال بالأول، لا
تبديلا في الامتثال، كما تقدم في نظيره.
ثم إن ما ذكرنا من أن موافقة الامر تستلزم امتثاله وسقوطه الراجع لعدم
وجوب الإعادة فضلا عن القضاء، بل عدم مشروعيتهما كما يجرى في الامر
الواقعي الأولى يجرى في الامر الاضطراري الثانوي وفى الامر الظاهري، بمعنى
أن موافقة كل منهما تمنع من التعبدية به ثانيا بالإعادة أو القضاء على طبقه، لعين
الوجه المتقدم من أن الامر لا يدعو الا إلى متعلقه.
وقد وقع الكلام بينهم في أمرين..
أولهما: اجزاء الامر الاضطراري عن الامر الاختياري، بمعنى أن موافقة
الامر الاضطراري هل تقتضي الاجزاء بعد ارتفاع التعذر، فلا تجب الإعادة ولا
القضاء على طبق الامر الاختياري؟
ثانيهما: اجزاء الامر الظاهري عن الامر الواقعي، بمعنى أن موافقة الامر
الظاهري هل تقتضي الاجزاء عن الامر الواقعي، فلو انكشف الخطاء لا تجب
الإعادة على طبق الامر المذكور؟
وعمدة الكلام في مبحث الاجزاء في هذين الامرين، لما فيهما من
النقض والابرام الكلام فيهما على المباني المختلفة.
وأما اجزاء موافقة الامر عن امتثاله ثانيا فقد سبق أن وضوحه مغن عن إطالة الكلام فيه.
ومن هنا يقع الكلام في مقامين..
192

المقام الأول
في اجزاء الامر الاضطراري
والكلام في اجزائه عن الإعادة لو ارتفع التعذر في أثناء الوقت انما يكون
بعد الفراغ عن مشروعية الامر الاضطراري بمجرد تعذر المأمور به الاختياري
في أثناء الوقت وان لم يستوعبه.
والا فلو فرض اختصاص مشروعيته بالتعذر المستوعب للوقت يكون
ارتفاع التعذر في أثناء الوقت مستلزما لعدم مشروعيته من أول الامر، فيخرج
عن موضوع الكلام من اجزاء الامر الاضطراري.
غاية الامر أنه لو فرض القطع باستمرار التعذر أو التعبد به ظاهرا مع
احتماله فأتى بالمأمور به الاضطراري ثم ارتفع التعذر قبل خروج الوقت يكون
ارتفاعه كاشفا عن خطأ القطع أو التعبد الظاهري بمشروعية البدار، فيبتنى
اجزاؤه على اجزاء الفعل الخطائي أو الامر الظاهري، الذي يأتي الكلام فيه في
المقام الثاني إن شاء الله تعالى.
إذا عرفت هذا، فقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن مشروعية المأمور به
الاضطراري في الوقت مستلزمة لاجزائه وعدم وجوب القضاء لو ارتفع العذر
بعد الوقت، لان تعذر القيد في الوقت ان أوجب سقوط قيديته حال التعذر كان
فاقد القيد وافيا بالملاك، فلا يصدق مع الاتيان به الفوت هو موضوع القضاء،
وان لم يوجب سقوط قيديته لعدم حصول ملاك الواجب بدونه امتنع الامر
بفاقد القيد كما في فاقد الطهورين ففرض الامر بفاقد القيد حال التعذر
193

ووجوب القضاء متناقضان.
ولا مجال لوجوب القضاء بلحاظ تحصيل مصلحة القيد نفسه وان
حصلت مصلحة أصل الواجب بالمأمور به الاضطراري.
لان مصلحة القيد انما يمكن تحصيلها حال كونه قيدا في المأمور به، فمع
فرض عدم قيديته فيه، لحصول أصل المأمور به وسقوط أمره بفعل الاضطراري
في الوقت لا يبقى موضوع لاستيفاء مصلحة القيد وان كانت لازمة التحصيل في
نفسها.
وبالجملة: فرض مشروعية الاضطراري ووفائه بملاك أصل المطلوب
مانع من مشروعية القضاء، لا لتدارك ملاك أصل المطلوب، لفرض حصوله
بالاضطراري، ولا لتدارك مصلحة القيد، لتعذر تحصيلها بعد اختصاص
مشروعية القيد بما إذا كان قيدا في المطلوب المفروض سقوط أمره.
وأما ايجاب الفعل خارج الوقت بعنوان آخر غير عنوان القضاء فهو وان
كان ممكنا، الا أنه خارج عن محل الكلام في المقام.
وفيه.. أولا: أنه لا يلزم في المأمور به الاضطراري أن يكون وافيا بملاك
أصل الواجب دون قيده، بل قد يكون ملاكه تدارك أو تجنب بعض أو تمام
المفسدة الحاصلة من تأخير المأمور به الاختياري عن الوقت، من دون أن يؤدى
شيئا من مصلحته، كما لو وجب غسل المسجد يوم الجمعة أو دفع عشرة دنانير
لزيد، فان تعذر الغسل وجب سد باب المسجد، وان تعذر المال وجب الاعتذار
من زيد بالعجز، وكان مصلحة الغسل التطهير ومصلحة دفع المال وفاء دين في
الذمة، وكان ايجاب سد باب المسجد عند تعذر الغسل لتجنب صلا ة الناس في
موضع نجس، والاعتذار من زيد عند تعذر المال لتطييب خاطره، وفى مثل ذلك
يتعين تدارك المأمور به الاختياري بالقضاء عند ارتفاع العذر، لعدم وفاء المأمور
به الاضطراري بشئ من مصلحته.
194

ودعوى: خروج ذلك عن المأمور به الاضطراري اصطلاحا، كما قد يظهر
منه قدس سره.
ممنوعة، إذ ليس المراد به الا ما يجب بدلا عن الواجب المتعذر، ولا
طريق لتشخيصه الا ذلك، حيث لا يتيسر لنا تشخيص حال الملاكات وكيفية
ترتبها، وأنها بالنحو الذي فرضه قدس سره، بل يمكن أن تكون بالنحو الذي ذكرنا أو
غيره وان كان الاضطراري من سنخ فاقد القيد عرفا، لا من سنخ آخر كالمثالين
المتقدمين.
وثانيا: أنه لو سلم لزوم وفاء المأمور به الاضطراري بملاك المأمور به
الاختياري بذاته دون ملاك قيده كما فرضه هو قدس سره فلا ملزم بالبناء على تعذر
استيفاء ملاك القيد بالقضاء، بل يمكن وفاء القيد بملاكه إذا حصل في العمل
ثانيا وان كان ملاك أصل العمل قد استوفى سابقا، فلا يجب العمل لملاكه
الأصلي لغرض استيفائه بل لأجل استيفاء ملاك القيد لا غير، كما لو وجب
الغسل بالماء الحار لأجل التطهير والتدفئة، فتعذر الماء الحار فوجب أصل
الغسل لأجل التطهير، حيث يمكن وجوب الغسل بالماء الحار عند القدرة عليه
لأجل التدفئة، لا لأجل التطهير المفروض الحصول.
ودعوى: أن ذلك لا يناسب فرض الارتباطية بين القيد والمقيد.
ممنوعة، لان فرض الارتباطية انما كان في حال القدرة، لافى حال التعذر
الذي هل محل الكلام، إذ لا اشكال في عدم الارتباطية بينهما في الجملة، ولذا
شرع الفاقد للقيد حال التعذر.
هذا، ولا يخفى أن الوجه الذي ذكره لو تم كما يجرى في القضاء
يجرى في الإعادة في فرض ارتفاع العذر قبل خروج الوقت وكون موضوع
الامر الاضطراري مطلق التعذر وان لم يستوعبه لتوقف الإعادة على عدم
استيفاء الملاك وامكان استيفائه، الا أنه ذكر لنفى وجوب الإعادة وجها آخر
195

يرجع إلى أن مشروعية البدار للمأمور به الاضطراري في محل الكلام تستلزم،
بعد فرض الاجماع على عدم وجوب صلاتين على المكلف في اليوم الواحد،
وفاء الاضطراري بتمام ملاك الاختياري الملزم، إذ مع عدم وفائه بها يكون
تشريعه مفوتا لغرض المولى، وهو ممتنع، وإذا كان وافيا بتمام ملاك الاختياري
لم تشرع الإعادة.
لكنه يشكل: مضافا إلى اختصاصه بالصلاة التي قام الاجماع على عدم
وجوبها مرتين دون غيرها مما لا اجماع فيه بأن الاجماع انما يقتضى عدم
وجوب الجمع بين المبادرة للاضطراري حال التعذر والإعادة بعد ارتفاع
التعذر، وليس هو محل الكلام حتى على القول بعدم اجزاء الاضطراري عن
الإعادة، لان مشروعية الاضطراري مع عدم اجزائه عن الإعادة لا ترجع إلى
وجوب المبادرة إليه، بل إلى عدم لغويته لو أتى به لترتب بعض الملاك عليه وان
جاز عدم الاتيان به وانتظار ارتفاع العذر والاقتصار على الاختياري، فلا تنافى
الاجماع المذكور.
كما لا مانع منه ولا محذور في التخيير بين الاقتصار على الاختياري في
آخر الوقت والجمع بينه وبين الاضطراري في أوله، لعدم وفاء الاضطراري الا
ببعض الملاك الملزم، وامكان استيفاء الباقي منه بالاتيان بالاختياري، نظير ما
تقدم في مثال التطهير بالماء الحار.
وأما ما ذكره بعض مشايخنا من امتناع التخيير المذكور لرجوعه إلى
وجوب الاختياري في آخر الوقت على كل حال ولا مجال معه لوجوب
الاضطراري في أول الوقت تخييرا، لان لازمه أن يكون واجبا على تقدير
المبادرة إليه وغير واجب على تقدير عدم المبادرة إليه، وهو باطل.
فهو كما ترى! لان الوجوب التخييري للزائد ثابت قبل وقوعه، والتعييني
غير ثابت له حتى بعد وقوعه، وانما التابع لوقوعه هو تعينه خارجا للامتثال، كما
196

هو الحال في سائر موارد امتثال التكاليف الوجوبية والاستحبابية.
ولو تم ما ذكره لزم امتناع التخيير بين الأقل والأكثر مطلقا حتى لو كان
الزائد دخيلا في ترتب الملاك على تقدير وجوده، مع أنه قد اعترف بامكانه
حينئذ، وانما يمتنع التخيير المذكور لو كان الأقل مستقلا بالملاك ولم يكن
للزائد دخل فيه على تقدير وجوده، ولا مجال له في المقام، لأن المفروض
ترتب بعض الملاك على الاضطراري وكون الإعادة لاستيفاء الباقي منه
بالاختياري، لا لاستيفائه بتمامه.
وقد تحصل مما تقدم: أنه لا مجال للبناء على لزوم اجزاء المأمور به
الاضطراري عن الإعادة أو القضاء بعد ارتفاع التعذر على ما يطابق المأمور به
الاختياري، بل يمكن فرض عدم اجزائه عنهما، فلا مانع من الالتزام به لو اقتضته
الأدلة.
هذا كله في مقام الثبوت، وأما مقام الاثبات ومفاد الأدلة بعد فرض امكان
كل من الاجزاء وعدمه.
فالذي ينبغي أن يقال: المأمور به الاضطراري سواء كان فردا من الماهية
المأمور بها ووجدا لعنوانها، كالصلاة من جلوس والطهارة الترابية، أم بدلا عنها،
كما لو وجب الاستغفار على من لم يجد الكفارة لما كان تشريعه معلقا على
تعذر الاختياري فالمستفاد من دليله عرفا عدم وفائه بتمام الملاك الذي هو
مورد الغرض حال التعذر، وليس هو كسائر الافراد أو الابدال المشروعة في
حال خاص، فالصلاة من جلوس حال تعذر القيام مثلا ليست كالصلاة قصرا
حال السفر، بل هي نظير الميسور من المطلوب الذي لا يسقط بالمعسور منه،
ويجتزأ به للضرورة. ولذا لا يجوز ارتكازا تعجيز النفس عن المأمور به
الاختياري لتحقيق موضوع الاضطراري كما يجوز السفر لتحقيق موضوع
القصر. ولازم ذلك عدم الاكتفاء بها بالمأمور به الاضطراري مع عدم استيعاب
197

التعذر للوقت، لقبح الاجتزاء ببعض الملاك الذي هو مورد الغرض مع امكان
استيفائه بتمامه في الوقت بانتظار ارتفاع العذر.
وحينئذ ان دل الدليل على مشروعية المأمور به الاضطراري بمطلق
التعذر وان لم يستوعب الوقت، فان كان المراد به مجرد المشروعية في مقابل
لغويته وعدم ترتب شئ من الملاك عليه، لم يناف ما ذكرنا من عدم وفائه بتمام
الملاك المذكور. ويتعين حينئذ عدم الاجتزاء به عن الإعادة بعد ارتفاع التعذر، عملا
باطلاق دليل المأمور به الاختياري المقتضى لفعلية الامر به بالقدرة عليه في
بعض الوقت، من دون أن ينافيه دليل مشروعية الاضطراري بعد كون المراد به
المشروعية بالمعنى المذكور.
وان كان المراد به الاجتزاء به في أداء الخطاب المتوجه في الوقت كان
مسوقا لبيان اجزائه عن الإعادة الذي هو محل الكلام في المقام، وكشف عن
وفائه في حال التعذر بتمام الملاك الذي يفي به الاختياري في حال القدرة أو
ببعضه مع عدم فعلية الغرض بتحصيل الباقي، لمصلحة التسهيل أو غيرها، على
خلاف ما سبق أنه المستفاد عرفا من اطلاق دليل تشريع البدل الاضطراري،
ولزم جواز تعجيز النفس لتحقيق موضوعه.
هذا، ومن الظاهر أن المفهوم عرفا من تشريع البدل الاضطراري هو
المعنى الثاني، لأنه المهم لعامة المكلفين، فتنصرف إليه الأسئلة والأجوبة
والبيانات الشرعية، وإرادة المعنى الأول تحتاج إلى عناية لا مجال لحمل الكلام
عليها الا بقرينة. ومن ثم كان الأول هو المفهوم حتى من الدليل اللبي المتفرع
على مدلول الكلام وتشخيص المراد به، كالاجماع المستفاد من كلام أهل
الفتوى.
وعلى هذا يبتنى ما تكرر منا ومن غير واحد من أن قرينة الاضطرار
198

المناسبة لعدم وفاء الاضطراري بتمام ملاك الاختياري، كما تقدم تقتضي
اختصاص مشروعية المأمور به الاضطراري بالتعذر في تمام الوقت.
لوضوح أن القرينة المذكورة انما تقتضي ذلك لو استفيد من دليل
مشروعيته اجزاؤه، لقبح الاجتزاء ببعض الملاك ومورد الغرض مع امكان
استيفائه بتمامه في آخر الوقت عند ارتفاع العذر، أما لو استفيد منه مجرد
المشروعية في مقابل اللغوية فالقرينة المذكورة لا تمنع من مشروعيته بالتعذر
في بعض الوقت، لما عرفت من عدم ملازمة المشروعية بالمعنى المذكور
للاجتزاء عن الإعادة المستلزم لفوت بعض الملاك.
وقد ظهر مما ذكرنا أن استفادة الاجزاء من دليل مشروعية الاضطراري
بمطلق التعذر وان لم يكن مستوعبا للوقت انما هو لأجل أن الدليل المذكور
مسوق نوعا لبيان ذلك، لا لكون المشروعية مستلزمة للاجزاء عقلا، كما يظهر
مما سبق من بعض الأعاظم قدس سره.
هذا كله في الإعادة، وأما القضاء فعدم وجوبه في فرض كون موضوع
الاضطراري مجرد التعذر وان لم يستوعب الوقت مستفاد عرفا مما دل على
عدم وجوب الإعادة، لان عدم وجوب الإعادة حيث كان مستلزما لوفاء
الاضطراري بتمام الملاك أو ببعضه مع عدم فعلية تعلق الغرض بالباقي فهو
مستلزم لعدم تحقق موضوع القضا ء مع الاتيان بالاضطراري في وقته، لان
موضوع القضاء ان كان هو الفوت فهو لا يصدق عرفا بالإضافة للمطلوب بعد
حصول تمام ما هو مورد الغرض من ملاكه. وان كان هو عدم الاتيان بالواجب
فالمراد منه خصوص ما يلازم فوت غرضه، لفعلية تعلق الغرض به تعيينا حين
فوته ولو مع عدم فعلية الخطاب به لمانع من نوم أو نحوه، لا مطلق عدم الاتيان
به ولو مع حصول غرضه ببدله المجزى عنه.
وان شئت قلت: المأمور به الاضطراري ان كان واجدا لعنوان الماهية
199

المأمور بها حال الاختيار والتي يكون فوتها أو عدم الاتيان بها موضوعا للقضاء
كالصلاة من جلوس عند تعذر الصلاة من قيام كان دليل تشريعه واردا على
دليل القضاء، لأنه منقح لفرد المأمور به حال الاضطرار.
وان كان فاقدا لعنوانها كان مرجع تشريعه إلى بدليته عن الماهية
المذكورة، ومن الظاهر حكومة دليل للبدلية على دليل الواجب، حيث يكون
مفاده قيامه مقامه، فلا يترتب معه أثر فوته أو عدم الاتيان به وبذلك يكون حاكما
على دليل القضاء أيضا. مضافا إلى أن سقوط القضاء أولى عرفا من سقوط
الإعادة لو ارتفع العذر في أثناء الوقت. كما لا يخفى.
وأما إذا كان موضوع الامر الاضطراري التعذر في تمام الوقت فاجزاؤه
عن القضاء ليس بذلك الوضوح لعدم المخرج عما هو المرتكز بسبب أخذ
التعذر في موضوعه من عدم وفائه بتمام ملاك الاختياري الذي هو مورد
الغرض الفعلي، لامكان كون تشريعه لأهمية مصلحة الوقت الملزمة بتحصيل ما
يمكن تحصيله من ملاكه فيه، مع كون الباقي ممكن التحصيل بالقضاء عند
ارتفاع التعذر بعد الوقت، كما أنه لازم، فيتحقق موضوع القضاء.
الا أنه لا يبعد ظهور أدلة تشريعه في الاجتزاء به عن القضاء عند ارتفاع
العذر وورودها لبيان الخروج به عن الخطاب المتوجه في الوقت من أصله
بلحاظ تمام الملاك الذي هو مورد الغرض الفعلي، لا بلحاظ خصوصية الوقت
منه مع بقاء شئ منه يطالب به المكلف خارج الوقت، لان ذلك هو مقتضى ما
سبق في القسم الأول من ورود دليل الاضطراري أو حكومته على دليل القضاء.
ومجرد عدم وفاء الاضطراري بتمام ملاك الاختياري لا ينافي ذلك،
لامكان كون الاتيان بالمأمور به الاضطراري المشروع والمحصل لبعض
الملاك في الوقت مانعا من فعلية تعلق الغرض بالباقي من الملاك، اما لتعذر
تحصيله بالقضاء، أو لاقتضاء مصلحة التسهيل رفع اليد عنه.
200

ولا أقل من كون ذلك مقتضى الاطلاقات المقامية لأدلة تشريع
الاضطراري، للغفلة عن وجوب القضاء معه جدا.
ولعله لان مقتضى القاعدة الارتكازية في تعذر المطلوب الارتباطي في
الوقت ولو بتعذر قيده هو تعذر تحصيل شئ من الملاك المستلزم لسقوط
الامر رأسا وعدم وجوب الميسور الاضطراري، بل انتظار القضاء عند ارتفاع
التعذر لتحصيل الملاك بتمامه إذا كان العمل مما يقبل القضاء، فدليل تشريع
المأمور به الاضطراري كما يكون ردعا عن مقتضى القاعدة من سقوط الامر في
الوقت يكون عرفا ردعا عن وجوب القضاء لتحصيل الملاك بتمامه، لكونه
مترتبا على ذلك، ووجوب القضاء لتتميم الملاك الحاصل بالاضطراري وان كان
ممكنا الا أنه مغفول عنه، لعدم اقتضاء القاعدة له، فعدم التنبيه عليه في أدلة
تشريع الاضطراري موجب لظهورها في عدمه بمقتضى اطلاقاتها المقامية.
ومرجع ذلك إلى عدم تعلق الغرض الفعلي بعد الوقت بتحصيل الملاك
الفائت الذي لم يستوف بالاضطراري اما لتعذره، أو لرفع اليد عنه ولو لمصلحة
التسهيل، وان كان مهما في نفسه لازم التحصيل في ضمن الوقت، ولذا اختص
تشريع الاضطراري والاكتفاء به بالتعذر المستوعب لتمام الوقت، كما هو
مفروض الكلام.
على أنه لو فرض اجمال دليل تشريع المأمور به الاضطراري من هذه
الجهة، ولو لكونه لبيا لا ينهض المتيقن منه باثبات سقوط القضاء فلا أقل من
كون نفيه مقتضى الأصل، لاختصاص أدلة القضاء بفوت الفريضة أو عدم الاتيان
بها رأسا بالنحو المستلزم لفوت ملاكها رأسا، ولا يشمل فرض الاتيان بالفرد أو
البدل الاضطراري المحصل لبعض ملاك الفريضة. فوجوب القضاء في محل
الكلام يحتاج إلى دليل خاص.
نعم، لو كان لدليل الامر الاختياري بالعمل التام اطلاق يقتضى عدم
201

التوقيت، ولم يكن لدليل التوقيت ظهور في قيدية الوقت ودخله في مصلحة
الماهية المأمور بها، بل في مجرد مطلوبية ايقاع العمل فيه ولو بنحو وتعدد
المطلوب، يكون وجوب الاتيان به بعد ارتفاع التعذر خارج الوقت مقتضى
الاطلاق المذكور، الذي يخرج به عن الأصل المتقدم، واحتاج اجزاء المأمور به
الاضطراري عن القضاء للدليل، كالتشبث له بما سبق.
لكن في صدق القضاء حينئذ اشكال، لما سبق في مبحث الموقت من
اختصاصه بما إذا كان الوقت قيدا في المطلوب ودخيلا في مصلحته. فراجع
وتأمل جيدا.
تنبيه
حيث ذكرنا ظهور أدلة تشريع الاضطراري في بيان الاجتزاء به عن
الإعادة والقضاء، وكان ذلك بضميمة ارتكاز عدم وفائه بتمام الملاك منشأ
لانصراف اطلاقاته إلى التعذر المستوعب للوقت، فلا مجال لان يستفاد من
الاطلاقات المذكورة مشروعيته بمعنى عدم لغويته بالتعذر غير المستوعب
للوقت وان لم يكن مجزئا، بل لابد فيه من دليل خاص، هو مفقود غالبا.
202

المقام الثاني
في اجزاء الامر الظاهري.
ولا فرق فيه بين أن يكون أوليا اختياريا، وأن يكون ثانويا اضطراريا،
غايته أن اجزاء الثاني يراد به اجزاؤه عن الامر الاضطراري الواقعي، ويبتني
اجزاؤه عن الامر الاختياري الواقعي على ما سبق في المقام الأول.
ومحل الكلام في المقام هو مقتضى الحكم الظاهري بمقتضى ظاهر دليله
أو دليل خارج بعد الفراغ عن ظهور دليل الحكم الواقعي في نفسه في تبعية الامر
للواقع.
أما لو فرض ظهور دليل الحكم الواقعي في أن موضوعه الأعم من الواقع
والظاهر أو خصوص الظاهر فلا اشكال في الاجزاء، ويدخل في اجزاء موافقة
الامر الواقعي عن امتثاله والتعبد به ثانيا، الذي تقدم الكلام فيه في أول الفصل.
ومن هنا لزم البناء على الاجزاء بناء على التصويب المنسوب للأشاعرة،
الراجع إلى عدم جعل حكم واقعي غير مؤدى الطريق، والتصويب المنسوب
للمعتزلة المبنى على جعل الاحكام الواقعية في مرتبة سابقة على التعبد
الظاهري مع كون قيام الطرق المخالفة لها رافعا لها، لكونه سببا لحدوث
الملاكات المزاحمة لملاكاتها والمانعة من فعلية تعلق الغرض بها، بل يتعلق
الغرض الفعلي بالملاكات الناشئة من قيام الطرق بنحو يستتبع جعل الحكم على
طبقها ورفع اليد عن الحكم الواقعي.
أما على الأول فظاهر، لعدم وجود واقع تفرض مخالفته، بل ليس الواقع
203

الا ما أدى إليه الطريق الذي فرض العمل على طبقه.
غاية الامر أن قيام الطريق المخالف للطريق الذي عمل على طبقه يوجب
تبدل الواقع، وهو انما يقتضى تبدل الوظيفة في حق المكلف إذا لم يعمل على
طبق الطريق الأول، أما مع عمله على طبقه فقد سقط الامر، نظير ما لو سافر بعد
أن صلى تماما.
وأما على الثاني فلان الواقع لما لم يكن فعليا، لعدم فعلية تعلق الغرض
بملاكه فلا أثر لموافقته ومخالفته، بل الأثر للحكم الفعلي المفروض موافقته.
ومن هنا كان الاجزاء بناء على التصويب بكلا وجهيه خارجا في
الحقيقة عن محل الكلام من اجزاء الامر الظاهري عن الواقعي، حيث لا أمر
واقعي حين العمل وراء الظاهر، ليقع الكلام في اجزاء الظاهر عنه.
نعم، هذا مختص بما إذا اختلف الطريقان في كيفية العمل المطلوب، كما
لو أدى الأول إلى عدم اعتبار الطهارة في الصلاة على الميت، والثاني إلى
اعتبارها، أو أدى الأول إلى وجوب صلا ة الجمعة، والثاني إلى وجوب صلاة
الظهر.
أما لو اختلفا في ثبوت الوظيفة وعدمه، كما لو دل الأول على عدم
وجوب صلا ة الكسوف والثاني على وجوبها، فان كان قيام الثاني في الوقت فلا
اشكال في وجوب الأداء على طبقه، لتمامية موضوعه، وان كان خارج الوقت
فالظاهر عدم وجوب القضاء، لأنه فرع فعلية ملاك الأداء، كما سبق، والمفروض
عدم فعليته.
كما أن الظاهر اختصاص ذلك بما إذا كان موضوع التعبد الشرعي
الظاهري الكبريات الشرعية المتضمنة للأحكام الكلية، دون ما إذا كان موضوعه
الموضوعات الجزئية المستلزمة لاحكام جزئية، حيث ادعى الاجماع على عدم
التصويب فيها.
204

وان كان تحقيق مقتضى التصويب بوجهيه سعة وضيقا موقوفا على
الإحاطة بمباني القائلين بها وحججهم، وهو مما لا يسعه الوقت، كما أنه غير مهم
بعد ظهور بطلان التصويب، والمهم انما هو الكلام بناء على التخطئة التي ادعى
اتفاق أصحابنا عليها.
وقد ظهر مما سبق في محل الكلام أن مقتضى الأصل الأولى عدم
الاجزاء، لان مقتضى فرض ظهور دليل الحكم الواقعي في لزوم متابعته عدم
ترتب الأثر مع مخالفته، فلابد في دعوى الاجزاء من إقامة الدليل المخرج عن
ذلك، اما لاستفادته من نفس دليل الحكم الظاهري أو من دليل آخر.
إذا عرفت هذا، فقد ذكر المحقق الخراساني قدس سره في كفايته أن الحكم
الظاهري ان ابتنى على تعبد الشارع بالموضوع من جزء العمل أو شرطه وجعله
ظاهرا كما هو مفاد قاعدة الحل والطهارة، بل الاستصحاب، بناء على أنه
يتضمن تنزيل المشكوك منزلة المتيقن، لا تنزيل الشك منزلة اليقين اقتضى
الاجزاء، لحكومة دليله على دليل الامر الواقعي، حيث يكون موسعا للموضوع
ومبينا أنه أعم من الواقعي والظاهري، فيصح العمل ويجزى لواجديته لجزئه أو
شرطه، وانكشاف الخلاف فيه بعد العمل لا يوجب انكشاف فقدان العمل
لجزئه أو شرطه، بل ارتفاع أحدهما من حين ارتفاع الجهل.
بخلاف ما يبتنى منه على التعبد بوجود الشرط واقعا، كما في موارد
الامارات، فإنه حيث لا يبتنى على جعل الموضوع في قبال الواقع، بل على
إحراز ثبوت الموضوع في الواقع كما هو مقتضى لسان الامارة بضميمة دليل
حجيتها فبانكشاف الخطاء ينكشف عدم تحقق الموضوع واقعا، وفقد العمل
لجزئه أو شرطه، فلا يجزى.
أقول: الحكم بثبوت عنوان الموضوع في مورد..
تارة: يبتنى على التطبيق الحقيقي لاشتباه المصداق أو المفهوم، كما في
205

قوله عليه السلام في الفقاع: (هو خمر مجهول) (1) ونحو: كل دين جر نفعا فهو ربا.
وأخرى: يبتنى على الجعل الحقيقي فيما لو كان الموضوع أمرا جعليا،
مثل ما تضمن الحكم بالملكية مع الحيازة بالإضافة إلى أحكام الملك.
وثالثة: يبتنى على التطبيق الادعائي التنزيلي بلحاظ الاشتراك في
الاحكام، نحو: المطلقة رجعيا زوجة.
والأولان لا يبتنيان على توسيع موضوع الحكم، بل على بيان مفهومه أو مصداقه أو جعل
مصداقه، ويكون ثبوت الحكم في مورد التطبيق مقتضى اطلاق دليل الحكم وان كان بمعونة
دليل التطبيق في الجملة.
وأما الثالث فحيث كان مصحح الادعاء فيه هو الاشتراك في الاحكام كان
كناية عن عدم اختصاص موضوع الحكم بعنوانه الذي تضمنه دليله، وأنه يعم
مورد التطبيق، فهما يشتركان في الحكم الواحد، وهو راجع إلى توسيع موضوع
الحكم، ولذا يكون ثبوت الحكم في مورد التطبيق مقتضى دليل التطبيق، لا دليل
الحكم.
وحيث ظهر ذلك فان كان مبنى كلامه قدس سره أن مقتضى أدلة الجزئية
والشرطية ونحوهما في أنفسها كون الجزء أو الشرط هو الأعم من الامر الواقعي
والظاهري من الطهارة والحلية ونحوهما، فدليل الحكم الظاهري وان تضمن
جعل الحل والطهارة حقيقة لا يكون حاكما على دليل الجزئية والشرطية، ولا
موسعا لموضوعهما، بل يكون واردا عليه، ن لتضمنه جعل الموضوع حقيقة،
كما تقدم في الوجه الثاني. ويكون الاجزاء حينئذ مقتضى دليل الحكم الواقعي،
كالاجزاء مع الطهارة أو الحل الواقعيين.
وان كان مبنى كلامه أن مقتضى أدلة الجزئية والشرطية كون الجاء
206

والشرط خصوص الامر الواقعي من الطهارة أو الحلية أو نحوهما فدليل الحكم
الظاهري انما يكون حاكما عليه لو كان مفاده الحكم بالطهارة والحل ونحوهما
ادعاء وتنزيلا من دون أن يتضمن جعلا حقيقيا، على ما سبق في الوجه الثالث.
وهو خلاف مفروض كلامه.
أما لو كان مفاده الحكم بهما ظاهرا بنحو يتضمن الجعل الحقيقي كما
هو مقتضى كلامه. فان كان الحل والطهارة الظاهريان من أفراد الحل والطهارة
الواقعيين، وليس الفرق بينهما الا في الموضوع، حيث يكون موضوع الواقعيين
الذات بنفسها، وموضوع الظاهريين الذات بعنوان كونها مجهولة الحال، لم يكن
دليلهما حاكما على دليل الجزئية والشرطية، بل واردا عليه، نظير ما تقدم على
المبنى الأول.
وان كانا مباينين للحل والطهارة الواقعيين لم يكن الحكم بهما مقتضيا
لترتب حكم الحل والطهارة الواقعيين ظاهرا، فضلا عن ترتبه واقعا بنحو
يقتضى الاجزاء حتى لو انكشف الخطاء، لعدم كونهما حينئذ من أفراد الموضوع.
الا أن يثبت بدليل آخر تنزيلهما منزلة الحل والطهارة الواقعيين في
الاحكام. ولا تنهض به أدله جعلهما لان جعل الموضوع في مرتبة سابقة على
جعل حكمه، فلا يتكفل بهما معا دليل واحد متضمن لجعل واحد. ومن هنا لم
يكن كلامه خاليا من الاضطراب.
على أن لازمه تأسيس فقه جديد، فان مفاد أدلة الأصول المذكورة ومنها
الاستصحاب لو كان حاكما على أدله الاحكام الواقعية وموسعا لدائرة ألجأ
والشرط بنحو يقتضى الاجزاء واقعا في المأمور به الذي هو موضوع الصحة
والفساد والاجزاء لجرى في شروط وأجزاء غيره مما يكون مردا للآثار، كالعقود
والايقاعات وموضوعات الاحكام الاخر، فإذا تم التعبد الظاهري الذي تتضمنه
تلك الأصول بتلك الشروط صحت العقود والايقاعات وترتبت تلك الأحكام
207

واقعا ولو مع خطأ التعبد المذكور، فيصح بيع ووقف مستصحب الملكية،
وتستحق مستصحبة الزوجية النفقة، ويكون عقد الغير عليها محرما لها عليه
مؤبدا، وينجس الجسم بملاقاة مستصحب النجاسة، كما يطهر المتنجس بغسله
بماء مستصحب الطهارة، إلى غير ذلك، لان دليل التعبد الظاهري كما يكون
حاكما على دليل الشرطية في المأمور به يكون حاكما على سائر أدلة الشرطية،
لان نسبته للجميع على نحو واحد.
كما لا يختص ذلك بما إذا كان موضوع التعبد أمرا مجعولا شرعا
كالملكية والزوجية والطهارة والنجاسة وغيرهما بل يجرى فيما إذا كان موضوعة
أمرا خارجيا مأخوذا في موضوع أحكام شرعية، ككون المرأة في العدة
المستلزم لتحريمها مؤبدا بالعقد عليها، وكونها حائضا المستلزم لوجوب
الكفارة بوطئها، وكونها طاهرا المستلزم لصحة طلاقها، ونحو ذلك، اما للتعبد
بنفس الامر الخارجي أو بأحكامه على ما يذكر في محله. ووهن اللازم المذكور
غنى عن البيان. بل لا يظن الالتزام به حتى من القائلين بالتصويب.
ومنه يتضح أنه لا مجال للبناء على أن موضوع الشرطية والجزئية
للمأمور به وغيره من العقود والايقاعات وغيرهما من الاحكام الأعم من
الظاهر والواقع، ولا على كون موضوعها خصوص الواقع مع كون مؤدى التعبد
الظاهري من أفراد الواقع، لان المبنيين معا مستلزمان للمحذور المتقدم وهو
ترتب الأثر واقعا ولو مع خطأ التعبد.
كما أن البناء على أن الموضوع خصوص الواقع مع كون مؤدى التعبد
الظاهري مباينا له وليس من أفراده مستلزم لعدم ترتب الأثر على التعبد حتى
ظاهرا حال الجهل، لعدم كون مؤدى التعبد من أفراد موضوع الحكم الشرعي،
ليترتب عليه الحكم. وهو أوهن مما سبق، لاستلزامه لغوية جعل الحكم
الظاهري، كما لا يخفى.
208

فالتحقيق: أن مفاد التعبد الظاهري ليس هو جعل حكم نظير جعل الحكم
الواقعي، ليقع الكلام في أنه من سنخه وأفراده أو مباين له، بل ليس في المقام الا
أمر واحد حقيقي كالموضوعات الخارجية أو جعلي اعتباري كالأحكام الشرعية
يكون بنفسه موضوعا للأثر العملي الشرعي أو العقلي.
وتحققه في مقام الثبوت تابع لأسبابه التكوينية إذا كان خارجيا حقيقيا،
ولجعله من قبل الشارع إذا كان جعليا اعتباريا، وهو الذي تتضمنه أدلة الاحكام
الواقعية.
كما أن البناء عليه في مقام الاثبات والعمل تابع للقطع به، ومع عدمه
فللتعبد الظاهري، فالتعبد الظاهري لا يتضمن جعل الحكم في عرض الحكم
الواقعي، بل جواز البناء في مقام العمل عليه اثباتا وفى طوله. غايته أن البناء عليه
بمقتضى التعبد الشرعي..
تارة: يتفرع على قيام الحجة عليه، لصلوحها شرعا لاثباته.
وأخرى: لا يتفرع عليها، بل يكون التعبد به ابتدائيا لمحض الجهل به أو
مع سبق اليقين به أو لغير ذلك، على ما يأتي تفصيل الكلام فيه في مسألة قيام
الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي إن شاء الله تعالى.
ومنه يظهر أن ترتيب أثر الواقع في مورد التعبد مقتضى نفس دليل التعبد،
وان كان موضوع الأثر ثبوت هو الواقع بنفسه، لا ما يعمه والظاهر وأن عدم
الاجزاء بانكشاف الخلاف انما هو لانكشاف عدم تحقق الموضوع وفقدان
العمل لجزئه أو شرطه بعد سقوط دليل التعبد بسبب اختصاصه بحال الجهل
المفروض ارتفاعه.
ومن هنا لا مخرج عما يقتضيه الامر الواقعي من عدم الاجزاء بعد
انكشاف وقول العمل على خلاف ما أخذ فيه.
هذا، وقد يدعى أنه يلزم الاجزاء بناء على أن الطرق والأصول مجعولة
209

بنحو السببية الطريقية، بمعنى أن جعلها ناش عن مصلحة في متابعتها. إذ عليه
يتدارك الواقع الذي أخطأه بتلك المصلحة، ومع تداركه يتعين البناء على
الاجزاء.
ويشكل: بأن مصلحة جعل الطريق ان كانت في قبال الملاك الواقعي
بنحو تصلح لمزاحمته وتدارك فوته بنحو يستلزم الاجزاء لزم التصويب
المنسوب للمعتزلة الذي هو خارج عن الفرض.
بل يلزم التصويب الباطل حتى لو لم يلزم الاجزاء من التدارك، لكون
المتدارك، خصوص مفسدة تأخير الواجب عن وقته إذا استلزمه العمل بالطريق،
على ما يأتي في مبحث الجمع بين الاحكام الواقعية والظاهرية إن شاء الله تعالى.
كما ربما يأتي هناك وفى مبحث قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي ما
ينفع في المقام. فلاحظ.
بقى في المقام أمور..
الأول: لا ينبغي التأمل في عدم الاجزاء لو كان العمل مخالفا للامر الواقعي
من دون أمر ظاهري، بل لنسيان أو غفلة أو اعتقاد خاطئ في الموضوع أو
الحكم، لان مجرد العذر العقلي لا ينافي بطلان العمل المستلزم لوجوب التدارك
بمقتضى الأصل.
نعم، يمكن دلالة الدليل الخاص فيه على الاجزاء الواقعي خروجا عن
مقتضى الأصل، كما قد يدل على اجزاء الامر الظاهري كذلك، على ما يأتي في
التنبيه الثالث إن شاء الله تعالى.
الثاني: حيث ذكرنا أن مقتضى الأصل عدم الاجزاء مع مخالفة الامر
الواقعي فالمخالفة..
تارة: تثبت بالعلم الوجداني. ولا اشكال حينئذ في لزوم ترتيب أثرها
المذكور، وهو عدم الاجزاء. وهو المتيقن مما سبق.
210

وأخرى: تكون مقتضى التعبد الشرعي، لتبدل الاجتهاد في حق المجتهد
أو عدول المقلد عن فتواه السابقة أو تقليد غيره في حق المقلد، أو لابتناء العمل
على أصل قامت الامارة بعد العمل على خلاف مقتضاه، أو تبدل مفاد الامارة،
كما لو عدلت البينة عن الشهادة بوجه إلى غيره، وغير ذلك مما لا يبلغ العلم.
وقد وقع الكلام بينهم في الاجزاء في هذا القسم في الجملة وعدمه.
ولا يخفى أنه بلد فرض اختلاف مؤدى التعبد الشرعي حين العمل عنه
بعد العمل لا يعقل حجيهما معا في واقعة واحدة، لامتناع التعبد بالنقيضين.
وحينئذ حيث فرض حجية التعبد الثاني، فان اختص دليل حجيته
بالوقائع اللاحقة مع بقاء التعبد الأول حجة في الوقائع السابقة فلا اشكال في
اجزاء العمل السابق بمقتضى حجية التعبد الأول وعدم انكشاف مخالفته للامر
الواقعي بالتعبد الثاني.
نعم، قد يلزم من ذلك مخالفة علم اجمالي منجز، فيسقط كلا التعبدين
عن الحجية في الوقائع المختصة به، كما لو قلد من يقول بوجوب التقصير
بالسفر ثمانية فراسخ ملفقة، وعمل عليه مدة، ثم قلد من يقول بوجوب الاتمام
في ذلك، وأنه لابد في التقصير من السفر ثمانية فراسخ امتدادية. فلو فرض
حجية كل من التقليدين في الوقائع المقارنة له فحيث يعلم اتحاد جميع الوقائع
في الحكم الواقعي يعلم اجمالا اما بخطاء مقتضى التقليد الأول، فيجب قضاء ما
وقع على طبق التقليد الأول تماما، أو بخطاء الثاني، فيجب القصر في الوقائع
اللاحقة.
وان كان دليل حجيته يعم الوقائع السابقة بنحو ينهض باثبات وجوب
التدارك فيها بالإعادة والقضاء المستلزم لسقوط التعبد الأول عن الحجية فيها
واختصاصه بصورة عدم قيام التعبد الثاني تعين عدم الاجزاء ولزوم التدارك، كما
لو استندت فتوى المجتهد أو عمل المكلف للأصل الترخيصي الجاري في
211

الشبهة الموضوعية أو الحكمية، ثم عدل المجتهد عن فتواه لعثوره على خبر
معتبر، أو قامت بينة عند المكلف، على خلاف مقتضى الأصل المفروض الذي
وقع العمل على طبقه.
وان فرض الشك في حال التعبدين بنحو لا يحرز عموم الثاني للوقائع
السابقة وسقوط الأول عنها، ولا قصور عنها وبقاء الأول حجة فيها، لاجمال
دليلهما، كان العمل السابق غير محرز الصحة والاجزاء، لان الحكم بصحة العمل
واجزائه وترتيب أثرهما في كل زمان موقوف على حجية التعبد بهما في ذلك
الزمان، ولا يكفي حجيته عليهما في زمان صدور العمل، كما هو الحال في
القطع.
وحينئذ إن كانت الشبهة موضوعية كما لو شك في الطهارة الحديثة فيما
اعتبر فيه الطهارة فلا ينبغي التأمل في لزوم الإعادة، لأصالة الاشتغال بالتكليف
المتيقن المفروض الشك في امتثاله.
بل لا يبعد وجوب القضاء لأصالة الاشتغال أيضا بناء على ما هو الظاهر
من أن القضاء وان احتاج إلى دليل الا أنه بعد فرض ثبوته متحد مع الأداء، وأن
الوقت مأخوذ بنحو تعدد المطلوب، فسقوطه بالتعذر لا ينافي جريان قاعدة
الاشتغال في أصل المكلف به.
ولو فرض مباينته للأداء، بحيث يسقط التكليف بالأداء ويخلفه التكليف
بالقضاء كفت أصالة عدم الاتيان بالواجب في وقته في وجوب القضاء، بناء على
ما هو الظاهر من أن موضوعه ذلك، لا عنوان الفوت الذي لا يحرز بالأصل.
ويأتي بعض الكلام في ذلك في ذيل التنبيه الثاني من تنبيهات أصل
البراءة، كما ذكرناه في الفقه في المسألة الحادية والثمانين من مباحث الوضوء
من شرح منهاج الصالحين. فراجع.
نعم، لو كان هناك محرز آخر لصحة العمل غير التعبد الأول، كقاعدة
212

الفراغ، وقاعد ة عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت جاز التعويل عليه. ولا
مجال لإطالة الكلام في صغريات ذلك، بل يوكل لمورد الحاجة من الفقه،
لخروجه عن محل الكلام، إذ الكلام في الاجزاء من حيثية التعبد الأول لا غير.
وان كانت الشبهة حكمية فان كان مفاد التعبد الأول عدم التكليف أصلا
ومفاد الثاني ثبوته ووجوب القضاء بالتخلف عن مقتضاه، كما لو قلد من يفتى
بعدم وجوب صلا ة الكسوفين وعمل على ذلك مدة ثم قلد من يفتى بوجوبهما
ووجوب قضائهما، كان مقتضى أصالة البراءة عدم التكليف في الوقائع السابقة
بعد فرض كون المتيقن من حجية فتوى الثاني الوقائع اللاحقة.
وكذا لو اختلفا في اعتبار خصوصية مفقودة في العمل السابق، كما لو
صلى بدون سورة مقلدا لمن يقول بعدم وجوبها ثم قلد من يقول بوجوبها، بناء
على ما هو الظاهر من جريان البراء ة في الأقل والأكثر الارتباطيين فيبنى على
الاجزاء في الفرض.
إلا أن يلزم مخالفة علم اجمالي، كما لو صلى قصرا تبعا لتقليد من يفتى
به، ثم قلد من يفتى بالتمام، حيث يعلم اجمالا اما بوجوب قضاء ما صلاه قصرا
أو وجوب القصر في الصلوات اللاحقة.
وأما لو اختلفا في احراز المكلف به مع الاتفاق على تحديده فيجرى ما
سبق في الشبهة الموضوعية، كما في موارد الاختلاف في المحصل، مثل ما لو
قلد من يقول بكفاية المسح بماء جديد في الوضوء وترتب الطهارة المطلوبة
عليه، ثم قلد من يقول ببطلان الوضوء معه.
ومثلها موارد الاختلاف في التعبد الظاهري، كما لو عمل تبعا لتقليد من
يقول بجريان قاعدة الفراغ مع عدم الالتفات لمنشأ الشك حين العمل، أو من
يقول بأصالة العدالة في المسلم، ثم قلد من يخالف في ذلك.
وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن المدار في الاجزاء على بقاء التعبد
213

الأول حجة في الوقائع السابقة، ليحرز به مطابقه العمل فيها للامر الواقعي، لا
على مجرد عدم حجية التعبد الثاني فيها، كي لا يحرز به مخالفة العمل للامر
الواقعي، الا فيما إذا كانت الشبهة حكمية وكان الشك في أصل التكليف أو في
جزء المكلف به أو شرطه مع عدم لزوم مخالفة علم اجمالي منجز، فيكفي في
الاجزاء مجرد عدم حجية التعبد الثاني في الوقائع السابقة وان لم يثبت بقاء
حجية التعبد الأول فيها، لاجمال دليله.
إذا عرف هذا، فاعلم أنه لم يتضح منهم الخلاف في أصالة عدم الاجزاء
مع تبدل مقتضى التعبد الا في اختلاف مقتضى الاجتهاد، حيث يظهر من جملة
منهم أن الأصل فيه الاجزاء وعدم وجوب تدارك ما وقع من الأعمال على طبق
الاجتهاد الأول.
وقد استدل له في كلامهم بوجوه..
أولها: ما ذكره في الفصول من أن الواقعة الواحدة لا تحتمل اجتهادين، ولو
بحسب زمانين، لعدم الدليل على ذلك.
ومرجعه إلى أنه بعد فرض سبق حجية الاجتهاد الأول في الوقائع
السابقة، لا دليل على حجية الاجتهاد الثاني فيها بعد حدوثه، ليجب العمل على
مقتضاه بالبناء على عدم الاجزاء.
وفيه.. أولا: أنه ظهر مما تقدم أن مجرد عدم الدليل على حجية الاجتهاد
الثاني في الوقائع السابقة لا يكفي في الاجزاء في كثير من الموارد، بل لابد فيه من بقاء الاجتهاد الأول على الحجية في تلك الوقائع، وهو محتاج إلى الدليل.
وثانيا: أن حجية الاجتهاد الثاني في الوقائع السابقة مقتضى عموم أدلة
حجية الأدلة التي ابتنى عليها، لعدم الفرق في حجية الظواهر وخبر الواحد
والأصول وغيرها بين الوقائع.
ومجرد العمل على خلافها في بعضها اعتمادا على حجة أخرى قد ظهر
214

لزوم رفع اليد عنها لا يخرجها عن موضوع الحجية، بل هي كما لو لم يعمل فيها
بتلك الحجة السابقة بعد فرض تقديم الحجة اللاحقة عليها ورفع اليد بها عنها.
ثانيها: ما حكاه في التقريرات عن بعض الأجلة من أن تبدل الاجتهاد
وقيام حجة أخرى على خلاف الحجة الأولى ليس الا نظير النسخ، فإنه بوصول
الحجة الثانية ينقضي زمان الحجة الأولى، من دون أن ترتفع حجيتها في ما
كانت حجة فيه.
وفيه: أنه بعد فرض عدم تبدل الواقع باختلاف الحجج لا مجال لقياس
المقام بالنسخ، لا بالإضافة للواقع، كما هو ظاهر، ولا بالإضافة للحجة السابقة،
لأنه ان أريد بذلك بقاء حجيتها في الوقائع السابقة فهو موقوف على ثبوت
الاطلاق لها وقصور اطلاق دليل الحجة الثانية عن شمول تلك الوقائع، وقد
سبق أنه لا مجال لذلك في الأدلة التي يبتنى عليها الاجتهاد.
وان أريد به الاكتفاء في الاجزاء بمطابقة العمل للحجة السابقة حين
صدوره ولو بعد سقوطها عن الحجية، فهو أوهن; لوضوح أن البناء عملا على
الاجزاء في كل زمان موقوف على قيام الحجة عليه في ذلك الزمان، ولا يكفي
قيامها عليه سابقا بعد فرض سقوطها عن الحجية بعد ذلك، نظير القطع.
ثالثها: أن الاخذ بالامارة الثانية في الوقائع السابقة دون الأولى ترجيح
من غير مرجح بعد كونهما معا ظنيتين، فعن كاشف الغطاء بعد كلام له في
المقام: (على أنه لا رجحان للظن على الظن السابق حين ثبوته).
ويظهر ضعفه مما تقدم، فإنه بعد فرض سقوط الامارة الأولى عن الحجية
بمقتضى أدلة الامارتين يتعين التعويل على الثانية دون الأولى، وانما تكون
الأولى كالثانية بالثانية ما دامت حجة، كما هو الحال قبل قيام الثانية، لا مطلقا ولو
بعد سقوطها عن الحجية بها.
رابعها: أنه مقتضى الاستصحاب.
215

وفيه: أنه ان أريد به استصحاب الحكم الظاهري التابع للامارة الأولى فهو
معلوم الارتفاع بعد سقوطها عن الحجية، لما تقدم،
وان أريد به استصحاب الحكم الواقعي المحكى بالامارة الأولى، فهو
مع اختصاصه بما إذا كان التعبد بلسان الامارة أو الأصل التعبدي، على كلام في
الثاني غير متيقن الحدوث بعد سقوط الامارة الأولى عن الحجية، بل هو بمنزلة
متيقن العدم بعد حجية الثانية.
على أن الشك ليس في استمراره بعد حدوثه الذي هو مفاد الاستصحاب،
بل في أصل ثبوته وهو موضوع الأثر، وان كان استمراره على تقدير ثبوته
معلوما.
خامسها: أنه لو بنى على عدم الاجزاء يلزم الحرج ويرتفع الوثوق
بالاجتهاد، لكثر التعرض للاختلاف فيه، وهو خلاف الحكمة الداعية إليه.
وفيه: مع أن لزوم الحرج غير مطرد، وقاعدة نفيه لا تنهض بتشريع حجية
التعبد السابق ونحوه من الاحكام التي يتدارك بها الحرج، وأنه لا طريق لاحراز
أن الحكمة من الاجتهاد هو الوثوق بالنحو المذكور، كما يأتي في الامر الثالث
توضيحه أن ذلك أن رجع إلى كون الجهتين المذكورتين كاشفتين عن بقاء
الاجتهاد الأول على الحجية في الوقايع السابقة، واختصاص سقوطه وحجية
الاجتهاد الثاني بالوقايع اللاحقة.
فهو مخالف للمرتكزات جدا بعد النظر في أدلة حجية الأدلة التي يبتنى
عليها الاجتهاد، كما ذكرناه آنفا، ويبتنى على عناية خاصة لا مجال للبناء عليها
لأجل الجهتين المذكورتين.
نعم، قد يدعى كشف الجهتين المذكورتين عن كون موافقة العمل
للاجتهاد الأول موجبة للاجزاء ثبوتا ولو مع مخالفة الامر الواقعي، بحيث يبنى
على الاجزاء بالمخالفة، فضلا عما لو كانت مقتضى الاجتهاد الثاني غير قطعي،
216

وهو أمر آخر خارج عن مقتضى الأصل المتقدم، يأتي الكلام فيه في الامر الثالث
كما يأتي الكلام في حال الجهتين المذكورتين، ومحل الكلام هنا في ما يقتضيه
الأصل والقاعدة الظاهرية بعد الفراغ عما سبق من أن مقتضى الأصل عدم
الاجزاء مع مخالفه الحكم الواقعي. ولذا صرح بعضهم بعدم الاجزاء مع العلم
الوجداني بالمخالفة، وتقدم أنه المتيقن من محل الكلام.
هذا كله مع أن ما عدا الوجه الأول لو تم لا يختص بتبدل الاجتهاد، بل
يجرى في غيره من مورد تبدل مقتضى التعبد في الشبهة الموضوعية والحكمية.
بل لا يبعد ذلك في الوجه الأول أيضا، لعدم الفرق غالبا بين ألسنة أدلة
حجية الأدلة التي يبتنى عليها الاجتهاد وألسنة غيرها مما يبتنى عليه التعبد في
الموارد الأخرى. بل قد يرجع التعبد الذي يبتنى عليه الاجتهاد في الشبهة
الحكمية والتعبد في الشبهة الموضوعية إلى دليل واحد، كما هو الحال في
الأصول.
لكن من البعيد جدا بناؤهم على مقتضى الوجوه المتقدمة في غير تبدل
الاجتهاد، بل الظاهر مفروغيتهم فيه عن رفع اليد عن الاجزاء الذي هو مقتضى
التعبد السابق بالتعبد اللاحق المخالف له وان كانت بعض كلماتهم قد لا تناسبه.
ثم انهم ذكروا عدم الفرق في البناء على الاجزاء اعتمادا على الاجتهاد
السابق بين المجتهد نفسه والمقلد، لعموم الوجوه المتقدمة.
والظاهر أن ما سبق منا في وجه المنع عن ذلك كما يجرى في حق
المجتهد نفسه يجرى في حق المقلد، سواء عدل مقلده عن فتواه السابقة أم
اجتهد هو على خلاف مقتضى تقليده السابق، حيث لا اشكال في عموم حجية
الاجتهاد الثاني منه أو من مقلده للوقائع، تبعا لعموم حجية الأدلة التي يبتنى
عليها الاجتهاد، كما تقدم.
وأما لو عدل عن تقليد المجتهد إلى تقليد غيره ممن يخالفه في الاجتهاد
217

ويرى بطلان العمل السابق، فعموم حجية اجتهاد الثاني للوقائع السابقة موقوف
على عموم دليل العدول لها، وهو يختلف باختلاف موارد العدول، ولا يسع
الوقت استقصاء ذلك، بل يوكل لمباحث الاجتهاد والتقليد الآتية في محلها.
كما أنا قد استوفينا الكلام في هذا المقام في الفقه في المسألة السادسة
عشرة من مباحث الاجتهاد والتقليد من شرح منهاج الصالحين. ومنه سبحانه
نستمد العون والتوفيق.
الثالث: لا يخفى أن عدم الاجزاء بموافقة الامر الظاهري مع مخالفته
للواقعي وان كان مقتضى الأصل كما تقدم الا أنه لا اشكال في امكان حكم
الشارع بالاجزاء بنحو يرجع إلى أن موضوع الحكم الواقعي أعم من الوجود
الواقعي والظاهري، بل هو يخرج في الحقيقة عن موضوع الأصل المتقدم،
لرجوعه إلى موافقه الحكم الواقعي، الذي لابد معه من الاجزاء كما تقدم.
كما يمكن حكمه بالاجزاء مع تبعية الحكم الواقعي للواقع وفرض تحقق
المخالفة له بمتابعة الحكم الظاهري، على خلاف مقتضى الأصل المتقدم، من
باب الاكتفاء عن المأمور به بغيره، اما لوفائه بغرضه في ظرف الاتيان به خطأ، أو
لسقوط غرضه معه عن الفعلية، لمصلحة الامتنان والتسهيل أو لتعذر استيفاء
غرضه معه، أو لغير ذلك.
وقد ثبت ذلك في جملة من موارد الخطاء في الحكم الشرعي أو
الموضوع الخارجي، كموارد: (لا تعاد الصلاة...) وغيرها مما لا ضابط له، ولا
مجال لاستقصائه، فلا مجال للكلام فيه هنا، بل يوكل لمباحثه المناسبة في الفقه.
نعم، ينبغي الكلام هنا في ما وقع الكلام فيه بينهم من الاجزاء وعدمه مع
استناد العمل لاجتهاد أو تقليد سابق يلزم رفع اليد عن مؤداه، لأنه أمر عام
منضبط في الجملة، ومورد للابتلاء الكثير.
وهو وان كان من شؤون الاجتهاد والتقليد، ولذا حرره غير واحد في
218

مباحثهما، الا أنه لابتناء بعض الكلام فيه على مباني مسألة الاجزاء ومناسبته لها
يحسن التعرض له هنا.
فنقول: لا يخفى أن المراد بالاجزاء..
تارة: هو الاجزاء الظاهري، لاحتمال إصابة مقتضى الاجتهاد أو التقليد
السابق الواقع.
وأخرى: هو الاجزاء الواقعي حتى مع فرض المخالفة للواقع، لاجتزاء
الشارع بالعمل المذكور عن الواقع لإحدى الجهات المتقدمة.
ولازم الأول عدم الاجزاء مع العلم الوجداني بالمخالفة، بخلاف الثاني.
وقد يظهر من جملة كلماتهم إرادة الأول، ويظهر حاله مما تقدم في التنبيه
السابق.
والذي يناسب البحث المعقود له هذا التنبيه هو الثاني. وقد يستدل عليه
بوجوه..
الأول: أنه لولاه يلزم العسر والحرج، لعدم وقوف المجتهد غالبا على رأى
واحد بالإضافة لعمل نفسه، وتعرض المقلد لاختلاف الفتاوى عليه لأجل ذلك،
ولأجل العدول في التقليد أو حدوث الاجتهاد له بعد العمل على التقليد مدة
طويلة، ومقتضى قاعدة نفى العسر والحرج البناء على الاجزاء وسقوط التكليف
الواقعي حينئذ.
وفيه: أن لزوم الحرج من عدم الاجزاء في غير موارد (لا تعاد) ونحوها مما
دل الدليل على الاجزاء فيه بالخصوص لا يطرد في جميع الموارد، بل يختلف
باختلاف التكاليف ومدة العمل على الاجتهاد الخاطئ، وغاية ما يدعى لزوم
الحرج نوعا، وهو لا ينفع في جريان القاعدة، لان موضوعها الحرج الشخصي.
مع أن ذلك منتقض بما إذا تفرعت المخالفة على تعبد شرعي غير
الاجتهاد والتقليد في الشبهات الموضوعية كاستصحاب عدم البلوغ وأصالة
219

الطهارة والتذكية وغيرها. وكذا لو لم يتفرع على تعبد شرعي، بل على خطأ أو
نسيان، وكذا لو تعمد ترك الواجب مد - ة طويلة، مع أنه ليس البناء على سقوط
التكليف في ذلك، بل غايته رفع وجوب المبادرة لو كانت واجبة بالأصل
ونحوها.
الثاني: أن حكمة تشريع الاجتهاد والتقليد هو الوثوق بهما في العمل على
طبقهما والركون إليهما فيه، ومع عدم الاجزاء لا تترتب الحكمة المذكورة،
بسبب كثرة التعرض للاختلاف، كما أشير إليه في الوجه الأول، لان صعوبة
القضاء تمنع من الركون بالوجه المذكور وتحمل على الاحتياط مهما أمكن.
وفيه: مع عدم اختصاص الحكمة المذكورة بالاجتهاد، بل هي لو تمت
تجرى في غيرهما من موارد التعبد الظاهري التي لم يظهر منهم البناء فيها على
الاجزاء أنه لا دليل على كون الحكمة هو الوثوق بالنحو المذكور، بل لعلها رفع
التحير حال الجهل لا غير. فالوجه المذكور كسابقه استحساني لا ينهض
بالاستدلال. نعم، قد ينهضان بالتأييد على ما يأتي في تقريب الاستدلال بالسيرة.
الثالث: الاجماع المدعى في كلام بعض، ففي التقريرات عن بعض
الأفاضل في تعليقاته على المعالم: أنه ظاهر المذهب، وعن آخر: أنه مقتضى
الاجماع، بل الضرورة.
نعم، ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن المتيقن منه العبادات، بل ذكر بعض الأعيان
المحققين قدس سره أن المتيقن منه الصلاة، وأن عهدة دعوى الاجزاء مطلقا على
مدعيها.
وفيه: أنه لا مجال للاستدلال بالاجماع في مثل هذه المسألة المستحدثة
التحرير، ولا سيما مع انكار مثل شيخنا الأعظم قدس سره له، حتى نسب في التقريرات
دعوى الاجماع والضرورة إلى بعض من لا تحقيق له. مضافا إلى اطلاق جماعة
عدم الاجزاء في الامارات والطرق الظاهرية بعد انكشاف خطئها بنحو يشمل
220

المقام، قال في التقريرات: في بيان القول بعدم الاجزاء فيها (وفاقا للنهاية،
والتهذيب، والمختصر وشروحه، وشرح المنهاج، على ما حكاه سيد المفاتيح
عنهم، بل وفى محكى النهاية الاجماع عليه، بل وادعى العميدي قدس سره الاتفاق على
ذلك...).
الرابع: سيرة المتشرعة لابتلائهم بذلك كثيرا، خصوصا بناء على المشهور
من عدم جواز البقاء على تقليد الميت، فلو كان بناؤهم على عدم الاجزاء للزم
الهرج والمرج.
لكن أنكرها غير واحد، وذكر بعض مشايخنا أنها لو تمت مستندة في
أمثال عصرنا إلى فتاوى المجتهدين، ولا يحرز اتصالها بعصر المعصومين).
ثم إن هذه الوجوه قد سيقت في كلماتهم لبيان الاجزاء أو عدمه مع تبدل
التعبد بتعبد مثله غير علمي، لاختلاف الاجتهاد أو التقليد بنحو قد يظهر منهم
اختصاص الكلام بذلك، بل صرح غير واحد ممن بنى على الاجزاء بعدم
الاجزاء مع ظهور المخالفة بالعلم الوجداني، حتى حكى بعض الأعاظم قدس سره
دعوى جماعة الاجماع عليه.
ولازم ذلك كون الاجزاء ظاهريا مبتنيا على قصور الاجتهاد الثاني عن
شمول الوقائع السابقة وبقاء الاجتهاد الأول حجة فيها، وقد سبق في رد الوجه
الخامس للاستدلال على الاجزاء الظاهري في آخر التنبيه الثاني استبعاد ذلك
جدا. ولذا قد تساق الوجوه المذكورة للاستدلال على الاجزاء الواقعي الذي هو
محل الكلام في هذا التنبيه، كما جرينا عليه هنا.
وحيث ظهر ضعف تقريباتها المتقدمة فربما توجه بنحو آخر ترجع إلى
الاستدلال عليه بالسيرة.
وحاصله: أنه لا ريب في ابتناء معرفة الأحكام الشرعية في عصور
المعصومين عليهم السلام على الخطاء كثيرا، لان ظهور اختلافنا مع العامة في الفقه المنبه
221

للزوم أخذ أهل الحق أحكامهم من أئمتهم وأصحابهم الذين على نهجهم قد
بدأ في عصر الصادقين عليهما السلام أو قريبا منه، وقبل ذلك كان الامر مختلطا على
المسلمين بجميع فرقهم، فلا امتياز لفقه كل فرقة عن فقه غيرها.
ثم لما تنبه الشيعة للاختلاف ووسع الأئمة عليهم السلام الكلام وبدؤوا يرجعون
إليهم في فقههم ابتلوا بأسباب الاختفاء والالتباس، حيث كثر اختلاف الأحاديث
من جهة التقية والخطاء والكذب، حتى تضمنت بعض النصوص
أنهم عليهم السلام بصدد احداث الخلاف بين الشيعة محافظة عليهم حتى لا يتميزوا
بقول فيؤخذوا به.
وكان صدور الروايات منهم عليهم السلام تدريجيا تبعا لتنبه السائل أو حاجته
الشخصية غالبا، ولم يكن وصولها لجميع الشيعة متيسرا، بل كانت تصل
تدريجيا لأشخاصهم. وذلك بطبعه مستلزم لاطلاع أفراد الشيعة بوجه شايع
على خطأ ما وصل إليهم وجروا عليه في مقام العمل في الصدر الأول قبل
رجوعهم لأئمتهم عليهم السلام وبعده على اختلاف أسباب اطلاعهم على ذلك من
سؤالهم عليهم السلام مباشرة أو بسماع الأحاديث المروية عنهم أو بالاستفتاء ممن
يتصدى للفتوى من أصحابهم المنتشرين تدريجا في أقطار الأرض، كما تشير
إلى بعضه النصوص.
فلو كان البناء مع ذلك على عدم الاجزاء بعد ظهور الخطاء لزم الهرج
والمرج وكثر الوقوع في العسر والحرج، ولكان شيوع الابتلاء به مستلزما
لظهوره المانع لهم عاده من الركون إلى النصوص وفتاوى الأصحاب، بل فتاوى
الأئمة عليهم السلام أنفسهم بسبب احتمال التقية فيها أو عدم فهمها، لان لزوم مثل هذه
المشكلة ينبه للاحتمالات المغفول عنها بدوا، ويرفع الوثوق الطبيعي.
وبذلك يضطرب نظامهم ويرتبك أمر الفقه عليهم. ولو كان الامر على
ذلك لظهر وبان، وكثر السؤال عن حكم الأعمال الماضية ولزوم تداركها، وما
222

يترتب على ذلك من فروع متشعبة، فاهمال ذلك ظاهر في المفروغية عن
الاجزاء.
وهو المناسب لما هو المرتكز من سهولة الشريعة وعدم ابتنائها على
الحرج والضيق، وما تضمنته جملة من النصوص من أنهم عليهم السلام لا يوقعون
شيعتهم الا في ما يسعهم رأفة بهم ورحمة لهم تداركا للمشاكل التي أحاطت بهم
من جراء سلطان الظلمة واستضعافهم في الأرض حتى ضاقت عليهم الأرض
بما رحبت وعصفت بهم أعاصير الفتن والمحن. ولا حول ولا قوة الا بالله العلى
العظيم، وهو المعين على ما ناب من خطب.
بل لا يبعد كون ذلك موجبا لظهور بعض النصوص الدالة على اختلاف
الأحاديث وصدور بعضها للتقية في الاجزاء، ولو باطلاقاتها المقامية، حيث
يحتاج لزوم التدارك للتنبيه فعدمه ظاهر في عدمه.
بل لعل النظر في النصوص وسيرها بعد التنبيه لما ذكرنا يوجب القطع به.
ولا سيما مع تأيده بسيرة المتشرعة في العصور القريبة المعتضدة بما عرفت من
دعوى الاجماع على الاجزاء التي لا يبعد عدم استنادها لتصريحاتهم، لما أشرنا
إليه من استحداث تحرير المسألة، بل للسير ة المذكورة بعد احراز اتصالها
بعصور المعصومين عليهم السلام لما ذكرنا، الذي لا يبعد رجوع جميع الوجوه المتقدمة
إليه، كما يظهر بملاحظته وملاحظتها.
ودعوى: أن المتيقن من ذلك ما دلت الأدلة الخاصة على اغتفار الخطاء
فيه، كما في موارد: (لا تعاد الصلاة) ونحوها، ولم يعلم بناؤهم على الاجزاء في
غير ذلك.
مدفوعة.. أولا: بأن الاجزاء في الموارد المذكورة مع الخطاء في الحكم
الشرعي الكلى وان كان مقتضى اطلاق بعض هذه الأدلة وصريح بعضها، الا أن
الاجزاء في مواردها لما لم يكن ارتكازيا، لعدم خصوصيتها، ولم تكن الأدلة
223

عليه كثيرة مشايعة فهو لا يستغنى فيه عن السؤال عند ظهور الخطاء في الحكم،
فعدم السؤال شاهد بالمفروغية لخصوصية الجهل بالحكم الناشئ عن خطأ
الدليل الذي يعتمد عليه، التي لا يفرق فيها ارتكازا بين مورد وآخر.
وبعبارة أخرى: ليس الاستدلال بمجرد عدم البيان من الشارع الأقدس،
كي يدعى أنه يكفي في بيان الاجزاء في هذه الموارد الأدلة المشار إليها، وفى
بيان عدمه في غيرها أنه مقتضى القواعد العامة، وعدم وضوح غيرة على
خلافها، بل بعدم ورود السؤال عن حكمها من المتشرعة عند الالتفات للخطأ
الذي لا وجه له بعدما أشرنا إليه من استلزام عدم الاجزاء العسر والحرج،
والهرج والمرج الا المفروغية عن العفو والاجزاء مع استناد الخطاء والبطلان
للبيان الواصل، لا للمكلف نفسه، ولا خصوصية للموارد المذكورة ارتكازا في
المفروغية المذكورة، فالجهة الارتكازية التي عليها تبتنى السيرة لا تختص
بالموارد المذكورة وان اختص المتيقن من السيرة بها.
وثانيا: بأنه لا خصوصية للموارد المذكورة في وقوع الخطاء من المتشرعة
تبعا لاختلاف النصوص والفتاوى عليهم، بل هو جار في غيرها، كتحديد الكر،
وكيفية التطهير، والنجاسات، والوضوء والتيمم ونواقضهما، والقصر والتمام،
والتذكية وغيرها مما يوجب الخطاء فيه رأسا أو بالواسطة بطلان العمل وما
يترتب عليه من قضاء وضمان وغيرهما. فعدم الاهتمام بتمييز الموارد المذكورة
عن غيرها عند الالتفات للبطلان شاهد بالمفروغية عن الاجزاء في الكل للجهة
التي أشرنا إليها.
ومثلها دعوى: أن ذلك يكشف عن الاجزاء الواقعي، بل يكفي فيه
الاجزاء الظاهري المبتنى على عدم التعويل في الوقائع السابقة على احتمال
المخالفة للحكم الواقعي.
لاندفاعها.. أولا: بأن الاجزاء الظاهري لما كان مبنيا على قصور حجية
224

الحجة اللاحقة عن شمول الأعمال السابقة، وبقاء حجية الحجة السابقة فيها،
وقد سبق أنه بعيد عن المرتكزات جدا، فلا مجال لابتناء السيرة المتقدمة عليه،
لظهور حالها في أنها ارتكازية مبنية على المفروغية عن مقتضاها، بنحو يستغنى
معها عن السؤال، كما تقدم.
وثانيا: بأن عثورهم على الخطاء في عصور المعصومين عليهم السلام كثيرا ما
يكون بطرق تفيد العلم بطبعها، كسؤال الأئمة عليهم السلام بأنفسهم، أو الرجوع لخلص
أصحابهم في رواياتهم أو فتاواهم، فان الالتفات لاحتمال مخالفة ذلك للواقع
لتقية أو نحوها في تلك العصور يحتاج إلى منبه غالبا، وبدونه كثيرا ما يحصل
العلم، فلولا البناء على الاجزاء الواقعي لم تتم السيرة المذكورة. كيف ولازم
الاجزاء الظاهري للبناء على بقاء حجية الحجة السابقة حصول العلم الاجمالي
بالمخالفة في كثير من الموارد الملزم بالاحتياط بالجمع بين الوظيفتين! كما
تقدم، ومن المعلوم عدم ابتناء السيرة عليه.
نعم، لا يبعد اختصاص السيرة بالأوامر ونحوها مما يكون مقتضى
البطلان فيها عدم الاجزاء ووجوب الإعادة والقضاء ونحوهما مما هو من سنخ
التدارك أو الجزاء كالكفارة.
أما غيرها من موارد الخطاء كالمعاملات ونحوها فيشكل البناء على
الصحة فيها، لعدم شيوع الاطلاع على الخطاء فيها، لجرى ألم شرعة بطبعهم فيها
غالبا على ما يغلب جرى الشارع عليه، وهو الطرق العرفية، وليست هي كالأمور
المأخوذة من الشارع الأقدس التي يستند فيها لما ينسب للشارع من بيانات
يكثر فيها الخطاء، على ما تقدم.
مع أنه لو فرض الاطلاع على الخطاء فيها فلا يبعد بناؤهم معه على
البطلان ولو لاحتمال اختصاص الجهة الارتكازية بما يرجع للشارع الأقدس،
تنازلا منه عماله تسهيلا على المكلفين، دون ما يرجع إلى غيره كالضمانات
225

ونحوها.
وعدم ترتيبهم أثر البطلان قد يكون للضياع والاختلاط وعدم تيسر
المراجعة، والا فلم يتضح بناؤهم على عدم المراجعة مع تيسرها.
وأظهر من ذلك ما لا يكون من سنخ التدارك، بل من سنخ الجري على
مقتضى العمل السابق وترتيب آثار صحته، فمن ذكى بغير الحديد مثلا لم
يبعد توقفه عن أكل اللحم بعد انكشاف الخطاء له، وكذا من تزوج امرأة بوجه قام
الدليل بعد ذلك على عدم مشروعيته، لم يبعد توقفه عن مباشرتها وترتيب آثار
الزوجية عليها ونحو ذلك.
ولا أقل من خروجه عن المتيقن من السيرة، لان المتيقن منها عدم تدارك
بطلان العمل بالقضاء ونحوه، لا البناء على صحة العمل أو ترتيب جميع آثار
صحته.
ولعله إليه يرجع ما قيل من اختصاص الاجماع بالعبادات، والا فلم يظهر
وجه خصوصيتها. بل لا يبعد قصور السيرة عن اثبات عدم وجوب الإعادة في
الوقت، لعدم كونها بنظر المتشرعة من سنخ التدارك.
ولا أقل من خروجه عن المتيقن من السيرة لندرة الابتلاء بانكشاف الخطأ
بعد العمل قبل خروج الوقت، وعدم وضوح بنائهم على عدم وجوب الإعادة
معه بعد عدم أهميته، فلا حرج ولا ضيق في الإعادة ليلتفت إليها ويسأل عنها،
ليكشف عدم السؤال عن المفروغية عن الاجزاء.
كما أن المتيقن أيضا ولو بلحاظ الارتكاز الذي لا يبعد ابتناؤها عليه ما لو
كان خفاء الحكم مستندا لقصور البيان، اما لعدم وصوله أو لوصول خلاف
الواقع، لا لخطأ المكلف في الاستفادة من الأدلة الواصلة له أو نسيانه للدليل أو
نحوهما مما يعود للمكلف نفسه، وان كان معذورا، لعدم شيوع الابتلاء بذلك
في تلك العصور أيضا، لقربهم من زمان الخطاب بالحكم المناسب لإحاطتهم
226

بالقرائن المكتنفة له وتيسر فهمهم له غالبا وعدم ضياع مؤداه عليهم.
ولو فرض ابتلاؤهم به فلا يتضح بناؤهم على الاجزاء معه، لاحتمال كون
منشأ الاجزاء عند هم ارتكازا التخفيف تداركا لما يقع على المكلفين بسبب
محنتهم، دون ما يحصل بسبب المكلف نفسه.
ومنه يظهر عدم الاجزاء في حق المجاهد نفسه عند تبدل اجتهاده في
أمثال عصورنا، لابتناء تبدل رأيه غالبا على انكشاف الخطأ له في فهم الأدلة أو
غفلته عن بعضها أو عن كيفية الجمع بينها، لا لعدم تيسر الوصول إليها، بخلاف
العامي لو بقى على تقليد المجتهد بعد عدوله عن فتواه، أو عدل لغيره ممن
يخالفه في فتواه، أو اجتهد على خلاف رأيه، لعدم استناد خطئه في العمل لأمر
يعود له، بل الفتوى المجتهد التي هي الطريق الشرعي المتيسر في حقه مع تعذر
الوصول للواقع من طريق آخر.
نعم، لو كان ناشئا من خطئه في فهم كلام المجتهد أو في تشخيص
المجتهد الذي قامت الحجة على تعيينه، أو كان مقصرا في الرجوع للمجتهد
المذكور اتجه عدم الاجزاء في حقه، لاستناد الخطاء له كالمجتهد، لا لقصور
الأدلة.
هذا، وأما ما سبق من دعوى الاجماع على عدم الاجزاء، بل سبق عن غير
واحد دعواه مع ظهور الخطاء بالعلم الوجداني وأنه المتيقن من كلامهم. فلا يبعد
حمل ما أطلق فيه عدم الاجزاء على إرادة بيان مقتضى الأصل في الاحكام
الظاهرية في مقابل التصويب الذي عليه العامة، فهو راجع إلى الاجماع على
التخطئة، أو بيان عدم الاجزاء في حق المجتهد نفسه، أو في المعاملات
ونحوها، بنحو يرجع إلى عدم ترتيب أثر الصحة على العمل بعد ظهور بطلانه
بالاجتهاد الثاني كما هما مورد كلام العميدي حيث سبق عدم وضوح السيرة
على الاجزاء في الموردين.
227

وأما الاجماع على عدم الاجزاء مع العلم الوجداني بالخطأ، المستلزم
لعدم الاجزاء الواقعي، فلا مجال للتعويل عليه بعد ظهور ذهاب جماعة للاجزاء
في صورة اختلاف الاجتهاد. لما عرفت من أن حمله على الاجزاء الظاهري لا
يناسب المرتكزات جدا، مع استلزامه حدوث علم اجمالي منجز يقتضى
وجوب الاحتياط الذي ليس بناؤهم عليه، حيث يناسب ذلك ارادتهم الاجزاء الواقعي.
والا كانت مبانيهم مضطربة، ومع ذلك لا مجال للتعويل على دعوى
الاجماع المذكورة والتوقف لأجلها عن السيرة التي سبق تقريبها.
هذا، وبقى في المقام بعض الجهات تخص الاجتهاد لا مجال لإطالة
الكلام فيها هنا، بل توكل لمبحث الاجتهاد والتقليد من الأصول أو الفقه.
الرابع: الامر الظاهري كما لا يقتضى الاجزاء في حق المخاطب به ثبوتا مع
مخالفته للواقع، واثباتا مع ظهور خطئه له، كذلك لا يقتضى الاجزاء في حق غيره
ممن يترتب الأثر في حقه على عمل المخاطب بالحكم الظاهري، فلا يترتب
الأثر في حق ذلك الغير ثبوتا مع خطأ الحكم الظاهري الذي اعتمد عليه
المخاطب به، كما لا يجوز له ترتيب الأثر ظاهرا مع ظهور الخطاء له ولو بمقتضى
التعبد الظاهري الثابت في حق نفسه، فمن صلى متعبدا ظاهرا بالطهارة مثلا
لا يجوز الائتمام به لمن يرى خطأ التعبد المذكور وان لم يستند في البناء على
الخطاء للعلم الوجداني، بل لتعبد آخر ثابت في حقه، عملا بعموم حجية ذلك
التعبد، لان المدار في عمل كل شخص التعبد الثابت في حقه، لا الثابت في حق
غيره.
نعم، لو كان موضوع جواز الائتمام بالمصلى صحة صلاته ولو ظاهرا في
حقه ولو مع بطلانها في حق المؤتم به اتجه الائتمام به في الفرض، لثبوت
الموضوع له. وهو تابع لدليل الحكم المذكور، ولسنا بصدد تحقيق ذلك هنا.
228

لكن في التقريرات بعد أن ذكر ذلك قال: (والمسألة في غاية الاشكال،
نظرا إلى بعض اللوازم، إذ على تقديره يجوز العقد على المعقود بالفارسية لمن
لم يجوز ذلك، وأمثاله).
ولا يخفى أن ذلك ليس محذورا يوجب الاشكال في ما تقتضيه القاعد ة وجرى عليه الأصحاب، على ما نبه له بعد ذلك بذكر جملة من تصريحاتهم.
فلاحظ. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.
229

الفصل الثالث
في مقدمة الواجب
231

قد حررت هذه المسألة في كلام قدماء الأصوليين أهل الاستدلال
ومتأخريهم. ومورد الكلام فيها وجوب مقدمة الواجب تبعا لوجوبه وعدمه.
ويظهر من مطاوي كلماتهم في الفقه والأصول المفروغية عن عدم
خصوصية الواجب في موضوع الكلام، بل يعم المستحب، وأن مقدمته هل
تكون مستحبة تبعا لاستحبابه أولا؟. بل الظاهر عموم ملاك النزاع للحرام
والمكروه، على ما يتضح في محله إن شاء الله تعالى.
ومن هنا يكون موضوع الكلام في الحقيقة هو الملازمة بين ثبوت الحكم
الاقتضائي للشئ وثبوت مثله لمقدمته. وبهذا يكون البحث المذكور في قسم
الملازمات العقلية.
كما أنه قد تعرض المتأخرون بتبع الكلام المذكور لبعض ما يتعلق
بالمقدمة مما هو خارج عن الملازمة في ضمن مباحث عقدت تمهيدا لمحل
الكلام، أو من لواحقه التابعة له.
هذا، والظاهر أن موضوع كلامهم وهو الملازمة المذكورة ليس موردا
للأثر العملي، وأن جميع ما يترتب من الآثار العملية على تقدير الملازمة يترتب
على تقدير عدمها، كما سيتضح عند الكلام فيها.
كما أن الأمور التي بحثت في كلامهم تبعا هي المهمة في مقام العمل، ولا
يترتب الكلام فيها على ثبوت الملازمة، كما يتضح أيضا.
233

ومن هنا لا يحسن تخصيص موضوع البحث بالملازمة وجعل البحث في
الأمور المذكورة تابعا له، كما جروا عليه.
بل ينبغي بحث كل من الأمور المذكورة في ضمن بحث يخصه يستقل
عن بحث الملازمة.
وانما تبحث الملازمة مع ما عرفت من عدم الأثر لها في مقام العمل..
أولا: لمتابعتهم في ما جروا عليه من الاهتمام بالبحث فيها.
وثانيا: ليظهر من مطاوي البحث المذكور إلى ما ذكرناه من عدم الأثر
العملي للملازمة المذكورة.
وينبغي التمهيد للمباحث المذكورة بأمرين لهما تمام الدخل في تنقيح
محل الكلام، وتحديد موضوع الأبحاث المعقودة في هذا الفصل.
الامر الأول: لا اشكال ظاهرا في أن فعلية الداعي العقلي أو غيره من
الدواعي لفعل الشئ يستلزم حدوث الداعي المسانخ له لفعل مقدمته، على أن
يكون الدعي الثاني في طول الداعي الأول، تابعا له، فانيا فيه، مرتبطا به، غير
مستقل عنه، لوحدة الغرض الموجب لهما، فلا يكون الثاني صالحا للحركية
ما لم يصلح الأول لها، بل محركية الأول انما تكون بالجري على طبق الثاني، كما
أن الجري على الثاني شروع في الجري على الأول، ولا يكون متعلقه موضوعا
للداعوية الا من حيثية ذلك. ومن ثم كانت الداعوية نحو المقدمة
غيرية. ووضوح ما ذكرنا يمنع عادة من انكاره، ويغنى عن إطالة الكلام فيه. وانما
الكلام في ما يلحق ذلك..
تارة: في تحديد موضوع الداعوية المقدمة، وأنه مطلق المقدمة أو
خصوص قسم منها، وهي التي يترتب ذوها عليها، المعبر عنها بالمقدمة
الموصلة، أو التي يقصد بها التوصل إليه أو نحو ذلك.
وأخرى: في سعة الداعوية المذكورة، وأنها مطلقة أو مقيدة.
234

وثالثة: في أن المقدمة التي هي موضوع الداعوية بالنحو المذكور هل
يلزم مشاركتها لذيها في الحكم الشرعي المستتبع للداعوية العقلية نحو الفعل،
أو لا؟ فإذا وجب أو استحب شئ شرعا لزم وجوب أو استحباب مقدمته
كذلك، أو لا؟ بل ليست المقدمة الا موردا للداعوية للعقلية تبعا للداعوية الثابتة
لذيها بسبب الحكم الشرعي الثابت له، من دون أن تكون موردا لحكم شرعي
آخر.
واليه يرجع البحث في الملازمة التي هي موضوع البحث في مقدمة
الواجب في كلامهم، حتى جعلوا البحث في الامرين من لواحقه. ولا وجه له بعد
عدم تفرع البحث فيهما عليه، كما سبق.
نعم، قد يحسن لأجل ما ذكروه تقديم البحث فيه على البحث فيهما، لأنه
أقرب لاتساق الكلام فيهما مع كلامهم.
هذا، وبما ذكرنا من وضوح تبعية المقدمة لذيها في الداعوية يظهر حال
ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره - وأقره عليه غيره - من امكان عدم اقتضاء التكليف
بذى المقدمة تحصيل المقدمة، بل يكفي حصولها من باب الاتفاق، حيث ظهر
امتناع ذلك.
ولو كان هناك مقدمة لا يلزم تحصيلها لزم البناء على كونها شرطا لأصل
التكليف بذيها، فلا يكون التكليف به قبل حصولها فعليا ليقتضي الاتيان به وبها
تبعا له، على ما تقدم التعرض له في مبحث الواجب المشروط من فصل
تقسيمات الواجب من المقصد الثاني من مباحث الألفاظ. فراجع.
الامر الثاني: من الظاهر أن المراد بمقدمة الواجب ما يتوقف عليه وجود
الواجب ويكون له الدخل فيه، ولذا تكون الداعوية للواجب مستلزمة للداعوية
إليه.
وقد قسمت في كلماتهم بتقسيمات كثيرة، بعض الأقسام فيها خال عن
235

الأثر المصحح للتقسيم، وبعضها خارج عن محل الكلام. كمقدمة الوجوب،
وهي التي يتوقف عليها وجوب الشئ، بحيث لا يجب الا في رتبة متأخرة عن
وجودها، كالبلوغ بالإضافة إلى جميع الواجبات، وكالاستطاعة بالإضافة إلى
وجوب الحج، فإنه وان أمكن أن يتوقف عليها الواجب بذاته - كالاستطاعة في
الجملة بالإضافة للحج - الا أنه لا يتوقف عليها بما هو واجب وبعد فرض
وجوبه، ليدعو إليها وتدخل في محل الكلام، لفرض وجودها في رتبة سابقة
على وجوبه وثبوت الداعوية إليه. وكمقدمة العلم التي يراد بها ما يتوقف عليه
احراز امتثال الواجب، وان كان مباينا له غير دخيل في وجوده.
ولعل الأولى الاقتصار على تقسيمين لا يخلو التقسيم فيهما عن فائدة في
تحديد محل الكلام..
الأول: تقسيمها إلى داخلية وخارجية.
والداخلية: هي عبارة عن الاجزاء المقومة للواجب المتحدة بمجموعها
معه.
والخارجية: هي ما يتوقف عليه وجود الواجب مما يباينه ولا ينطبق عليه،
كالشروط الشرعية وأجزاء العلة التكوينية.
وقد وقع الكلام بينهم في دخول المقدمة الداخلية في محل الكلام، فمنع
بعضهم من دخولها، لعدم المقدمية بينها وبين الواجب، لفرض كونها عينه
ومتحدة معه حقيقة ولا أثنينية بينهما، فليس في المقام الا الداعوية النفسية نحو
المركب المنبثة على أجزائه بنحو ترجع إلى الداعوية لكل منها ضمنا بنحو
الارتباطية.
وقد حاول بعضهم دفع ذلك بدعوى التغاير بينهما بالاعتبار. وقد أطيل
الكلام في ذلك بما لا مجال لاستقصائه.
والعمدة في الاشكال فيه: أن التغاير الاعتباري لا ينفع في المقام، لان
236

الداعوية للمقدمة لما كانت في طول الداعوية لذيها ومرتبطة بها غير مستقلة
عنها، بحيث يكون الجري عليها شروعا في الجري عليها كما تقدم فهي
مختصة لبا بصورة تحقق تمام المقدمات، على ما يظهر مما يأتي في بحث
المقدمة الموصلة، فلو فرض ثبوت الداعوية الغيرية للاجزاء لكانت مختصة
بصورة تحقق تمامها، الذي هو عبارة عن تحقق نفس المركب الذي هو موضوع
الداعوية النفسية، ولا فرق بينهما، ليمكن تعدد الداعوية، بحيث تكون إحدى
الداعويتين في طول الأخرى.
ودعوى: أنه يمكن اجتماع الداعويتين النفسية والغيرية في الشئ
الواحد، كما لو كان مطلوبا في نفسه وشرطا في مطلوب آخر، كصلاة الظهر مع
صلاة العصر، غاية الامر أن تكون إحداهما مؤكدة للأخرى.
مدفوعة: بالفرق بأن الداعوية الغيرية في الفرض المذكور ليست في طول
الداعوية النفسية، بل هي مستقلة عنها وان كانت في طول داعوية نفسية أخرى،
وهي الداعوية الثابتة للمطلوب الاخر المشروط بذلك الشئ.
أما في المقام فهي - لو ثبت - في طول الداعوية النفسية ولأجل تحقيق
متعلقها، ومع اتحاد متعلقهما لا موضوع للغيرية، ولا أثر لها في مقام العمل. ولا
مجال لفرض التأكد بينهما لو فرض امكان تعددهما، لتعدد متعلقهما، إذ مع
فعلية تأثير الداعوية النفسية في مقام العمل لا يحتاج للداعوية الغيرية، ومع عدم
فعليته لا تصلح الداعوية الغيرية للتأثير، لأنها في طول الداعوية النفسية، كما
سبق.
ومن هنا لا تتأكد الداعوية الغيرية في المقدمة الواحدة لو تعددت جهة
دخلها وتوقف ذيها عليها، كما لو توقفت الطهارة الحديثة والخبثية للصلاة على
ايصال الماء المتنجس بالمادة ليطهر، فان الداعوية النفسية للصلاة وان اقتضت
داعوية غيرية للايصال المذكور; لتوقفها عليه من جهتين، الا أن داعويته الغيرية
237

المذكورة واحدة لا تأكد فيها، كالداعوية للمقدمة التي يتوقف عليها من جهة
واحدة، كالستر للصلاة، لوحدة الداعوية النفسية التي تنتهي إليها الداعوية
الغيرية وتناط بها وتكون في طولها. فلاحظ.
وبالجملة: لا ينبغي التأمل في خروج المقدمة الداخلية عن محل الكلام،
بل ليست هي مقدمة في الحقيقة. وربما يظهر أثر ذلك في مسألة دوران التكليف
بين الأقل والأكثر الارتباطيين، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
الثاني: تقسيمها إلى تكوينية وشرعية.
فان توقف الواجب على شئ..
تارة: يبتنى على علاقة تكوينية بينهما يدركها المكلف بحكم العقل أو
بعادة أو نحوهما، كتوقف الحج على قطع المسافة.
وأخرى: يبتنى على تقييد الواجب بذلك الشئ شرعا، كتوقف الصلاة
على الستر أو الطهارة أو نحوهما.
ولا اشكال في دخول الأولى في محل النزاع.
وأما الثانية فقد قال بعض المعاصرين رحمه الله في أصوله: (ولقد ذهب بعض
أعاظم مشايخنا - على ما يظهر من بعض تقريرات درسه - إلى أن الشرط
الشرعي كالجزء لا يكون واجبا بالوجوب الغيري - وسماه مقدمة داخلية
بالمعنى الأعم - باعتبار أن التقييد لما كان داخلا في المأمور به وجزءا له فهو
واجب بالوجوب النفسي، ولما كان انتزاع التقييد انما يكون من القيد أي منشأ
انتزاعه هو القيد - والامر بالعنوان المنتزع أمر بمنشأ انتزاعه، إذ لا وجود للعنوان
المنتزع الا بوجود منشأ انتزاعه، فيكون الامر النفسي المتعلق بالتقييد متعلقا
بالقيد، وإذا كان القيد واجبا نفسيا فكيف يكون مرة أخرى واجبا بالوجوب
الغيري؟!).
وكأن مراده بشيخه المذكور بعض الأعاظم قدس سره، لتعارف التعبير عنه بمثل
238

العبارة المذكورة، ولأنه صرح بأن الشروط الشرعية مقدمة داخلية بالمعنى
الأعم، بلحاظ دخول التقييد بها في المأمور به، وخارجية بالمعنى الأعم بلحاظ
خروج ذواتها عن المأمور به، وجعل الداخلية بالمعنى الأخص الاجزاء،
لدخولها في المأمور به بذواتها وبالتقييد بها، والخارجية بالمعنى الأخص
المقدمات التكوينية - التي عبروا عنها بالمقدمات العقلية - لعدم دخولها في
المأمور به، لا بذواتها ولا بالتقييد بها. لكنه قدس سره لم يشر - على ما في تقرير درسه
لبعض مشايخنا - إلى احتمال خروج الشروط الشرعية عن محل النزاع. بل
ظاهره اختصاص الكلام في ذلك بالمقدمة الداخلية بالمعنى الأخص - التي هي
الجزء - بل صرح بذلك وبدخول الشروط وعدم الموانع الشرعية في محل
الكلام على ما في تقرير درسه للكاظمي.
وكيف كان، فيشكل ما ذكر: بأن التقييد ليس من أفعال المكلف، ليدخل
في المأمور به، بل هو كالاطلاق من شؤون جعل التكليف الذي هو فعل المولى،
وليس مفاده الا اختصاص المأمور به بالحصة المقارنة للقيد، وذلك لا يقتضى
دخول شئ في المأمور به غير الاجزاء، وليس القيد الا ملازما للمأمور به، غاية
الامر ظهور التقييد في كون القيد دخيلا في ترتب الغرض على المأمور به، من
دون أن يكون بنفسه وافيا بالغرض في جملة الاجزاء، وهو لا يقتضى دخول
التقييد ولا القيد في المأمور به.
اللهم الا أن يراد بالتقييد حفظ القيد حال الاتيان بالمأمور به الذي هو فعل
المكلف، والذي هو عبارة أخرى عن نفس وجود القيد ومنتزع من القيام به
وفعله، كالتستر حال الصلاة.
لكن البناء على دخوله في المأمور به مستلزم لكونه مقدمة داخلية
بالمعنى الأخص، ودخل الشرط بذاته في المأمور به، وانقلاب الشروط أجزاء.
ولا يظن من أحد البناء على ذلك، لوضوح الفرق بينهما ثبوتا، بأن الجزء ما
239

يكون مقوما للمأمور به ويستند الغرض إليه، والشرط ما يخرج عن المأمور به
وان كان دخيلا في ترتب الغرض عليه، بحيث لا يكون المركب وافيا بالغرض
الا في ظرف واجديته له.
واثباتا باختلاف ألسنة أدلة الجعل، ولازم ذلك عدم دخول القيد في
المأمور به، لعدم وجوب حفظه لنفسه، بل لأجل تحقيق الحصة المقارنة له
والتي هي موضوع الامر النفسي، وبذلك يكون موضوعا للداعوية الغيرية،
ويدخل في محل الكلام.
بقى شئ، وهو أن المقدمة التكوينية لابد أن تكون متصلة بذيها، بحيث
لا يكون بينهما الا التقدم الرتبي، من دون فرق بين أجزاء العلة التامة من
المقتضى والشرط وعدم المانع، لامتناع تأثير المعدوم قبل وجوده وبعده.
وأما تقدم بعض أجزاء العلة في بعض الموارد، وهو ما يسمى بالمعد،
فليس لكون المؤثر بلا واسطة هو الوجود المتقدم، بل اما لكون المؤثر هو
الوجود المذكور بتوسط أثره الباقي بعد ارتفاعه، أو أثر أثره، الذي يستند إليه
المعلول مباشرة، كما في تأثير الحديد المحمى في النار في كي الجسم بعد
اخمادها ووضعه على الجسم، فان المؤثر للكي ليس هو النار السابقة عليه، بل
أثرها، وهو حرارة الحديد الباقية بعد اخماد النار، واما لكون المؤثر هو الوجود
الاستمراري المتصل بالمعلول، كما في تأثير النار في احراق الثوب المبتل
الملقى فيها بعد جفافه، فان الاحراق لا يستند للنار بحدوثها السابق على الجفاف
بل ليس أثرها الا تجفيف الثوب، وانما يستند الاحراق للنار بوجودها
الاستمراري بعد الجفاف ومرجع الامرين إلى اتصال العلة بالمعلول، وان
تقدمت عليه صورة.
ومنه يظهر امتناع تأخرها عنه حتى صورة، إذ قبل وجودها لا أثر لها ولا
استمرار.
240

لكن يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره - على طول في الكلام المنقول
عنه في تقرير درسه - اختصاص امتناع التقدم والتأخر عن المعلول بالمقتضى
الذي يستند إليه المعلول ويترشح منه، دون الشرط، بتقريب: أن الأثر لا يستند
للشرط، بل ليس المؤثر الا الحصة الخاصة من ماهية المقتضى، وهي المضافة
للشرط، وليس دخل الشرط الا بلحاظ كونه طرفا للإضافة مع الحصة المؤثر من
المقتضى، وكما يمكن كون الشئ طرفا للإضافة مع المقارن يمكن كونه طرفا
للإضافة مع المتقدم والمتأخر.
ويشكل: بأن اختصاص التأثير بالحصة الخاصة من المقتضى المضافة
للشرط ان كان من جهة دخل الشرط في فعلية تأثير المقتضى، بحيث يقتضى
تميز الحصة المضافة له عن غيرها بميزة تكوينية خارجية تستلزم فعلية
الأثر، كان اللازم مقارنة الشرط كالمقتضي للتأثير والأثر، إذ حيث كانت تلك
الخصوصية والميزة مستندة للشرط استحال انفكاكها عنه. الا أن تكون مستندة
إليه بتوسط أثره الباقي بعد ارتفاعه، فيمكن تقدم الشرط حينئذ ويكون معدا،
وان امتنع كونه متأخرا، كما تقدم.
وإن كان اختصاص التأثير بالحصة الخاصة من المقتضى لمحض الإضافة
للشرط من دون أن يستند للشرط بوجوده جهة دخيلة في فعلية التأثير،
فالإضافة المذكورة أمر انتزاعي صرف لا يعقل توقف التأثير عليه في العلل
التكوينية ذات الآثار الحقيقية الخارجية التي هي محل الكلام، لعدم السنخية،
كما لعله ظاهر.
ومنه يظهر ضعف دعوى: أن المتأخر يكون شرطا بوصف تأخره،
لا بذاته، وعنوان التأخر يصدق قبل وجود المتأخر بذاته، فالشرط في الحقيقة
مقارن لا متأخر.
إذ فيها: - مضافا إلى خروجها عن مفروض الكلام من تأخر الشرط، والى
241

عدم وضوح صدق عنوان التأخر قبل وجود المتأخر - أن التأخر بنفسه عنوان
انتزاعي متقوم بالإضافة التي هي أمر اعتباري محض، لا يستند إليه الأثر
التكويني، ولا يكون جزأ من علته، وليس الأثر الا للذات المفروض تأخرها
وعدم اتصالها بالمعلول، فلا يعقل تأثيرها فيه، لما تقدم.
وأضعف من ذلك ما قد يدعى: من أنه لا مانع عندهم من كون العدم
حافظا لقابلية المحل، بشهادة أن عدم المانع من أجزاء العلة، كالشرط، فإذا جاز
فيه جاز في الشرط.
إذ فيه: أن دخل العدم في المعلول وان كان ممكنا، الا أنه مختص بعدم
المانع الذي يكون بوجوده دخيلا في عدم المعلول، ولا يكون وجوده - المقارن
أو المتقدم أو المتأخر - دخيلا في وجود المعلول، ولا يجرى في عدم الشرط
المفروض كون وجوده دخيلا في وجود المعلول.
لوضوح أنه مع كون الشئ شرطا ووجوده دخيلا في وجود المعلول
فتحقق المعلول قبل وجوده أو بعد ارتفاعه. ان ابتنى على استناد المعلول
لوجوده المتقدم أو المتأخر، لزم تأثير الشئ حال عدمه الذي عرفت امتناعه.
وان ابتنى على استناد المعلول للعدم المقارن كما يناسبه قياسه بعدم
المانع - فهو - مع استلزامه عدم الحاجة للوجود المتقدم أو المتأخر، وخروجه
عن محل الكلام من فرض الشرط المتأخر أو المتقدم - ينافي فرض كون الشئ
شرطا، لرجوعه إلى كون الشرط هو الجامع بين الوجود والعدم وهو محال.
فالانصاف: أن بداهة امتناع الشرط المتقدم - في غير المعد بالتوجيه
المتقدم - والمتأخر تغنى عن إطالة الكلام فيه وفى الاستدلال عليه لولا ظهور
القول بامكانه أو احتماله ممن لا ينبغي تجاهل كلامه.
هذا كله في العلل التكوينية، وأما العلل والمقدمات الشرعية فحيث سبق
أن منشأ عليتها ومقدمتيها أخذها قيدا في المأمور به شرعا فمن الظاهر أن
242

التقييد - كسائر الإضافات الاعتبارية - كما يمكن أن يكون بالمقارن يمكن أن
يكون بالمتقدم والمتأخر.
نعم، لما كان الامر تابعا للفرض سعة وضيقا فتقييد المأمور به لابد أن
يكون لاختصاص الغرض بالمقيد.
وحينئذ قد يشكل: بأن المتأخر والمتقدم كيف يكون دخيلا في فعلية
ترتب الغرض على المأمور به مع عدم وجوده حينه، نظير ما تقدم في العلل
التكوينية، لان ترتب الغرض على المأمور به ليس تابعا للجعل الشرعي، بل
لخصوصيات تكوينية.
ولابد من توجيهه بأحد وجهين..
أولهما: أن القيد ملازم للحصة المؤثرة للغرض، فيكون كاشفا محضا
عنها من دون أن يكون دخيلا في فعلية الغرض.
ثانيهما: أن الشرط المتقدم يبتنى على ما تقدم في المعد في التكوينيات،
والمتأخر يبتنى على كون المأمور به غير مؤثر لفعلية الغرض الأقصى بل لقابلية
تحققه، وفعليته تابعة لوجود الشرط، نظير ما تقدم في المعد، فان ذلك ممكن
عقلا وواقع عرفا، نظير اكرام الضيف بالطعام القليل، الذي لا يترتب عليه
الغرض - وهو حسن الضيافة - الا بضميمة الاعتذار بعده بأنه تمام الميسور وان
لم يناسب حق الضيف ومقامه.
هذا، وقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره في توجيه الشرط المتأخر في المأمور به
أن الشرط لا يزيد في المعنى على الجزء الدخيل في المأمور به، فكما لا اشكال
في امكان تأخر أجزاء المأمور به بعضها عن بعض كذلك لا ينبغي الاشكال في
جواز تأخر شرط المأمور به عنه، لكون الشرط بنفسه موردا للتكليف كالجزء،
لما سبق منه من دخول التقييد بالشرط في المأمور به، وحيث كان التقييد منتزعا
من القيد، وكان التكليف بالامر الانتزاعي راجعا إلى التكليف بمنشأ انتزاعه، لزم
كون الشرط بنفسه داخلا في المأمور به، كالجزء، فيجرى فيه ما يجرى فيه من
243

جواز تأخره. لكن سبق أنه لا مجال للبناء على رجوع الشرط للجزء. بل الامر
بالعكس، لان أخذ الجزء في المركب راجع إلى أمرين..
أحدهما: وجوب الجزء في ضمن الكل.
ثانيهما: تقييد بعض الاجزاء ببعض - الذي هو مقتضى الارتباطية
بحيث لا يترتب الغرض من كل منهما ولا يدخل في حيز المأمور به الا بوجود
الباقي وانضمامه إليه. والتقييد المذكور كالتقييد بالشرط يرجع إلى اختصاص
مورد الغرض والامر بالحصة الخاصة من الماهية.
وحينئذ يشكل تأخر الاجزاء بعضها عن بعض بما سبق في الاشكال على
الشرط المتأخر، وينحصر الجواب عنه بما سبق. ولولاه لامتنع أخذ الاجزاء
التدريجية في المركب، ولزم كون التكليف به بنحو الانحلال، دون الارتباطية -
التي إليها يرجع التقييد - واختصت الارتباطية في المركب بما إذا كانت أجزاؤه
دفعية. ووضوح بطلانه كاشف عن تمامية ما ذكرنا.
تتميم:
كما وقع الكلام في الشرط المتقدم والمتأخر للمأمور به كذلك وقع في
الشرط المتقدم والمتأخر للحكم الشرعي التكليفي والوضعي.
والظاهر امكانه، لنظير ما سبق في وجه امكانه في المأمور به، لوضوح
تبعية شرطية شئ للحكم لاخذه فيه قيدا، وقد سبق أن التقييد كما يمكن
بالمقارن يمكن بالمتقدم والمتأخر.
غاية الامر أن أخذ الشئ قيدا في الحكم انما يحسن مع دخله في فعلية
تعلق الغرض الداعي لجعله، بحيث تتوقف فعليته على ثبوت الشرط في ظرفه،
بخلاف شرط المأمور به، فان أخذه موقوف على دخله في تحقق الغرض من
المأمور به وترتبه في الخارج، على ما تقدم توضيحه في مبحث الواجب
المشروط.
244

لكنه ليس فارقا في محل الكلام، إذ كما يمكن توقف تعلق الغرض على
أمر مقارن للحكم - كدخل المرض في حسن استعمال الدواء - كذلك يمكن
توقفه على أمر متقدم أو متأخر عنه، كما في توقف حسن اكرام زيد - بملاك
الشكر - على سبق حسن الصنيع منه، وتوقف حسن اعداد الطعام في يوم على
مجئ الضيف في غده، ولازم ذلك جعل الحكم منوطا بالشرط على نحو دخله
في الغرض، لتبعية الحكم للغرض سعة وضيقا.
لكن بعض الأعاظم قدس سره منع من كون شرط الحكم متأخرا، بتقريب: أن
شرطية شئ للحكم وان لم ترجع إلى عليته له حقيقة، لوضوح كون تمام علة
الحكم جعل الحاكم له، الا أنها راجعة إلى أخذه فيه مفروض الوجود، كما هو
مفاد القضية الشرطية والحملية الحقيقية الراجعة إليها، ومع أخذه فيه مفروض
الوجود تمتنع فعلية الحكم قبل وجوده، لأنه خلف.
ويشكل: بأنه لا يراد بأخذ الشرط مفروض الوجود تعليقه على وجوده
فعلا، بحيث لا يكون الحكم فعليا حتى يوجد، بل تعليقه على وجوده في ظرفه
المعتبر في الحكم مقارنا أو سابقا أو لاحقا، فلابد من فرض وجوده في الظرف
المذكور، وهو الظرف الذي تصدق بوجوده فيه النسبة التي تتضمنها جملة
الشرط في الشرطية أو تستفاد من عنوان الموضوع في القضية الحقيقية الحملية، فإذا كان مطابق النسبة هو وجود الشرط فعلا لزم مقارنة الشرط للحكم، كقولنا:
ان كنت مسافرا فقصر، أو: المسافر يقصر، وان كان مطابقها وجود الشرط سابقا
أو لاحقا لزم تقدم الشرط أو تأخره، كما لو قيل: ان سافرت أول الشهر، أو: ان تسافر آخر الشهر، وجب عليك في وسطه الصدقة، أو قيل: المسافر أو الشهر أو
آخره يجب عليه في وسطه الصدقة.
وحيث كان الكل ممكنا ثبوتا تبعا لنحو دخل الشرط في الغرض كما
سبق - فلا مجال للمنع من بعض ذلك لو ساعدت عليه الأدلة اثباتا.
ودعوى: أن مرجع ذلك إلى كون الشرط مقارنا مطلقا، لان الشرط على
245

ذلك هو النسبة المأخوذة في الحكم المفروض لزوم مقارنة صدقها له وان كان
ظرف مقتضاها متقدما أو متأخرا.
مدفوعة: بأن النسبة معنى حرفي انتزاعي لا تصلح لان تكون دخيلة في
الغرض ولا موضوعا للحكم بنفسها، بل بلحاظ مطابقها الخارجي الحقيقي الذي
يكون هو الدخيل في الغرض وفى موضوع الحكم، وهو القابل للوجود والعدم،
دون النسبة، فإنها انما تتصف بالصدق والكذب دون الوجود والعدم.
ولو بنى على كون الشرط مقارنا بلحاظ مقارنة صدق النسبة المأخوذة في
الحكم وان كان مطابقها متقدما أو متأخرا لم يبق في المقام شرط متقدم أو
متأخر ليقع الكلام في امكانه وامتناعه، وانقلب النزاع لفظيا.
ومما ذكرنا يظهر اندفاع دعوى: أن الشروط الشرعية للأحكام دخيلة في
موضوعاتها، ويستحيل انفكاك الحكم عن موضوعه بحيث يتقدم عليه.
إذ فيها: أن الممتنع هو انفكاك الحكم عن تحقق موضوعه في ظرفه
المعتبر في الحكم والذي يستفاد من النسبة التي يتضمنها دليله، لا عن تحقق
موضوعه في الخارج حينه.
ولولا ما ذكرنا لاشكل الشرط المتقدم أيضا، لوضوح أن استحالة انفكاك
الحكم عن موضوعه تقتضي تقارنهما. بل يجرى ذلك على ما تقدم من بعض
الأعاظم قدس سره أيضا، لوضوح أن مقتضى أخذ الشرط مفروض الوجود في فعلية
الحكم وجوده حينها، لاقبلها مع انعدامه حينها.
ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من امكان الشرط ألم قدم والمتأخر في
الاحكام كما يمكن في المأمور به.
وبذلك ينتهى الكلام في التمهيد لمباحث المقدمة، ويقع الكلام في
المباحث المقصودة بالأصل، وهي ثلاثة..
246

المبحث الأول
في الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته
قد اختلفت كلماتهم في تحرير مورد النزاع في المقام، فحرر في كلام
جماعة من المتأخرين بالوجه الذي ذكرناه، وهو البحث في الملازمة بين
الوجوبين، وبذلك لا تكون المسألة فرعية فقهية، لعدم البحث فيها عن نفس
الحكم الشرعي، بل أصولية لوقوعها في طريق استنباط الحكم المذكور في
الموارد المتفرقة التي يفرض فيها وجوب شئ ماله مقدمة.
وأما القدماء، فقد حررها جملة منهم بعنوان البحث في وجوب مقدمة
الواجب. وذلك قد يوهم كونها فرعية، للبحث فيها عن نفس الحكم الشرعي
الفرعي، وهو وجوب المقدمة. وقد منع جماعة من ذلك، لوجوه لا تخلو عن
اشكال أو كلام لا يسع المقام استقصاءه.
ولعل الأولى في تقريب عدم كونها فرعية أن يقال: وحدة المسألة الفرعية
موقوفة على وحدة الحكم الفرعي الذي يبحث عنه فيها، ووحدة الحكم تابعة
لوحدة الموضوع بعنوانه الذي اخذ فيه عند جعل الحكم، ومن الظاهر أنه لا
حكم للشارع بوجوب المقدمة بما هي مقدمة، لان العنوان المذكورة تعليلي لا
تقييدي، لعدم تضمن الأدلة الشرعية له، وانما استفيد الحكم - على تقدير ثبوت
وجوب المقدمة - من حكم العقل، والعقل لا يرى لهذا العنوان دخلا في الحكم
بنفسه، بل تمام الموضوع ذات المقدمة على اختلاف مواردها، لان الواجب
يتوقف عليها بذواتها وخصوصياتها، لا بالعنوان المذكور، فموضوع الحكم
الشرعي هو مصاديق المقدمة المختلفة بخصوصياتها، ولازم ذلك تعدد
الأحكام الشرعية بعددها.
247

فهذه المسألة تشير إلى تلك الأحكام، لا إلى حكم واحد، فلا تكون مسألة
فرعية واحدة، بل مشيرة إلى مسائل فرعية كثيرة.
وحيث كان البحث هنا عن الجهة الجامعة بين المسائل، وهي الملازمة
خرجت عن كونها مسألة فرعية، لعدم البحث فيها عن الحكم الشرعي، بل عن
أمر عقلي. وتعين كونها أصولية لو كان المعيار في كون المسألة أصولية وقوعها
في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلى مطلقا وان لم يكن للحكم المذكور أثر
عملي، أما إذا اختصت بما إذا كان للحكم المستنبط بها أثر عملي خرجت عن
كونها أصولية أيضا، بناء على ما أشرنا إليه آنفا، ويأتي توضيحه إن شاء الله تعالى
من أن الامر الغيري لا يترتب عليه أثر في مقام العمل، بل الأثر الثابت معه ثابت
بدونه - وحينئذ تكون المسألة علمية محضة. فلاحظ.
إذا عرفت هذا، فاعلم أنهم اختلفوا في ثبوت الملازمة المذكورة وعدمها
على أقوال، من الاثبات مطلقا، والنفي مطلقا، والتفصيل.
واللازم النظر في الوجوه التي استدل بها القائلون بثبوت الملازمة، ثم
النظر في حجة المفصلين.
وأقدم الوجوه فيما يظهر هو ما نسب لأبي الحسين البصري ومن تبعه من
أنها لو لم تجب لجاز تركها، فان بقى الواجب على وجوبه لزم التكليف
بالمحال، والا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا.
وقد أطالوا في بيان هذا الوجه ومناقشته، الا أن ظهور وهنه يغنى عن
ذلك، لوضوح أن عدم وجوب المقدمة شرعا لا ينافي وجوبها عقلا كما يأتي
فضلا عن أن يستلزم امتناعها، ليلزم سقوط التكليف بذيها أو كون التكليف به
تكليفا بما لا يطاق.
ومن هنا يلزم النظر فيه بقية الوجوه المذكورة في كلماتهم، وقد سطر في
الفصول والتقريرات وجوها كثيرة لعل أهمها وجهان، لان باقي الوجوه بين ما
248

هو ظاهر الضعف، وما هو راجع للوجهين المذكورين أو يظهر الحال فيه من
الكلام فيهما..
أحدهما: ما عن المحقق السبزواري من أنها لو لم تجب لم يستحق
العقاب مع ترك المقدمات المفوتة، وهي التي يكون التفريط فيها قبل وقت
الواجب مستلزما لتعذر الواجب في وقته، كقطع المسافة للحج، لان التفريط
حينئذ ليس الا بالمقدمة المفروض عدم وجوبها، دون نفس الواجب، لفرض
عدم حضور وقته، ومع عدم استحقاق العقاب بتركها لا مجال للعقاب على ترك
الواجب في وقته، لفرض تعذره.
لكنه ان بنى على داعوية التكليف عقلا قبل وقت المكلف به لحفظ
نفسه، بامتثاله كفت داعويته في العقاب عليه مع ترك المقدمة المؤدى في
الفرض لتركه وان بنى على عدم داعوية التكليف قبل وقت المكلف به لحفظ
نفسه في وقته فلا مجال للبناء على داعوية وجوب المقدمة بنحو يستحق
العقاب بتركها، لان داعويته في طول داعويه التكليف بذى المقدمة.
ومن هنا لا مجال لابتناء استحقاق العقاب في الفرض على وجوب
المقدمة غيريا تبعا لوجوب ذيها الذي هو محل الكلام في المقام، بنحو يستدل
به عليه.
ومن ثم يأتي في المبحث الثالث إن شاء الله تعالى توجيه العقاب في
الفرض بأن التكليف يدعو قبل وقته لحفظ نفسه في وقته بلا حاجة للبناء على
وجوب المقدمة. ولولا ذلك تعين البناء على وجوب المقدمة نفسيا. وتمام
الكلام هناك.
ثانيهما: ما ذكره جماعة من المتأخرين كصاحب الفصول وشيخنا
الأعظم وجماعة ممن تأخر عنهما وحكى عن المحقق السبزواري أيضا ما قد
يرجع إليه، وتقريبه: - بعد النظر في كلمات جملة منهم على اختلاف يسير بينها -
249

أن الوجدان السليم يقضى بتبعية إرادة المقدمة لإرادة ذيها وطلبها لطلبه، إذ ليس
المدعى في المقام هو الطلب الفعلي للمقدمة على نحو طلب ذيها، لوضوح أن
الطالب قد يغفل عن المقدمات، بل يعتقد عدم توقف على بعضها، بل هو طلبها
تبعا اجمالا بمقتضى الارتكازيات الكامنة في النفس، على نحو لو توجه إليها
تفصيلا لوجه الطلب بها كذلك، وذلك نحو من أنحاء الطلب الذي يترتب عليه
آثاره، بل حيث كان المهم في المقام هو وجوب المقدمة في التكاليف الشرعية،
فاستحالة الغفلة في حق الشارع الأقدس تستلزم الطلب الفعلي التفصيلي منه
بعد ثبوت هذا النحو من الملازمة بين التكليف بالمقدمة والتكليف بذيها.
أقول: الظاهر رجوع دعوى الوجدان المذكورة إلى ما تقدم في الامر الأول
من التمهيد لمباحث المقدمة من أن، حدوث الداعي العقلي أو غيره لفعل
الشئ يستلزم حدوث الداعي المسانخ له لفعل مقدمته، فان ذلك لا يختص
بالمكلف، بل يجرى في المولى أيضا، ففرض حصول الإرادة والداعي له لفعل
المكلف بنحو يطلبه منه ويكلفه به لابد أن يستلزم حدوث ذلك بالإضافة
لمقدمته.
لكن ذلك وحده لا يكفي في اثبات تعلق الطلب الغيري بالمقدمة
والتكليف بها، لامرين..
أولهما: أنه لما كان الغرض من الطلب والتكليف احداث الداعي لفعل
الشئ - وان لم يندفع عنه المكلف - فان كان التكليف بذى المقدمة كافيا في
احداث الداعي المذكور نحوه لزم - بمقتضى الملازمة المتقدمة - حدوث
الداعي المسانخ له نحو المقدمة نفسها أيضا بلا حاجة إلى تعلق الطلب
والتكليف المولوي الغيري بها، فيكون طلبها والتكليف بها لغوا لا فائدة فيه،
وان لم يكن التكليف بذى المقدمة كافيا في احداث الداعي نحوه لم يصلح
التكليف بالمقدمة لاحداث الداعي نحوها، وكذا الحال في التحرك عن الداعي
250

المسبب عن التكليف النفسي والتحرك عن الداعي المسبب عن التكليف
بالمقدمة، لما هو المعلوم من أن داعوية الامر الغيري في طول داعوية الامر
النفسي وبملاك امتثاله، على غرار ما سبق من تفرع الداعوية نحو المقدمة على
الداعوية نحو ذيها، فلا يصلح الامر الغيري حتى لتأكيد داعوية المقدمة المسببة
عن الامر النفسي، لما سبق عند الكلام في المقدمة الداخلية من امتناع التأكيد في
الداعويتين الطوليتين اللتين تكون إحداهما فانية في الأخرى.
هذا، وقد أجاب بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدس سره عن ذلك:
بأن الإرادة الغيرية إرادة قهرية ترشحية معلولة للإرادة النفسية، ومثلها لا يحتاج
إلى ملاحظة الغرض والثمرة.
ولا يخفى أنه تكرر في كلماتهم خروج الإرادة مطلقا عن الاختيار، وأنها
لازمة لادراك ترتب الغرض الفعلي على المراد من دون مزاحم، وليس الفرق
بين الإرادة النفسية والغيرية علية الأولى للثانية، بل أن الأولى ناشئة عن غرض
استقلالي قائم بالمراد، والثانية ناشئة عن غرض غير مستقل، بل فان في الغرض
الأول وفى طوله وفى طريق تحصيله، وملازم له.
وذلك وحده لا يكفي في كون الإرادة الغيرية منشأ للتكليف بمتعلقها بعد
كون المصحح للتكليف والغرض منه عقلا احداث الداعي نحو المكلف به مع
ما ذكرناه من كفاية التكليف بذى المقدمة في احداث الداعي له وللمقدمة في
طوله بلا حاجة لتكليف آخر بها.
فالمقام يشبه تعلق إرادة المولى بإطاعة أوامره المتفرعة على ارادته
لمتعلقاتها وفى الملازمة لها وفى طولها، حيث لا اشكال عندهم في عدم
صلوحها للتكليف بالإطاعة زائدا على التكليف بمتعلق الامر بعنوانه بعد أن لم
تكن ناشئة عن غرض آخر مستقل عن الغرض من المأمور به، لتصلح للداعوية
نحوه ولو بتأكيد داعوية أمره.
251

اللهم الا أن يدعى أن لزوم كون الغرض من التكليف والمصحح له هو
احداث الداعي للمكلف به مختص بالتكليف النفسي الناشئ عن إرادة
استقلالية مسببة عن ملاك استقلالي، أما التكليف الغيري فلا يعتبر فيه ذلك، بل
يكفي فيه ثبوت الإرادة الغيرية بالتبعية بالوجه المتقدم ولو لم تترتب عليه ثمرة.
لكن لا نتعقل اعتبار العقلاء للتكليف وانتزاعهم له مع عدم الثمرة. الا أن
يرجع النزاع لفظيا، لعدم الاشكال في ثبوت الإرادة الغيرية في فرض ثبوت
الإرادة النفسية، وفى عدم ترتب الثمرة العملية لها، وانما النزاع في الاكتفاء بذلك
في اطلاق التكليف. وليس هو بمهم.
ثانيهما: أن ذلك يبتنى على ما تكرر في كلام جملة منهم من انتزاع
التكليف من تعلق إرادة المولى بفعل المكلف على نحو ارادته لفعل نفسه، من
دون فرق بينهما الا في متعلق الإرادة. وعليه يبتنى ما قيل من أن الإرادة
التشريعية - التي هي منشأ انتزاع التكليف - من سنخ الإرادة التكوينية. إذ عليه لا
يتحقق التكليف النفسي الا بعد تعلق غرض المولى وارادته بذى المقدمة
المستلزم - بمقتضى الملازمة المتقدمة - لتعلق غرضه وارادته للمقدمة تبعا.
لكن سبق في مقدمة الأصول عند الكلام في حقيقة الحكم التكليفي المنع
من ذلك، وأن الحكم التكليفي منتزع من الخطاب بداعي جعل السبيل مبنيا على
ملاحظة الجهة المقتضية لمتابعة المكلف للحاكم من خوف أو رجاء أو
استحقاق أو غيرها.
وحينئذ لا مجال لاحتمال وجوب المقدمة، لوضوح أن الخطاب بذى
المقدمة لا يبتنى الا على جعل السبيل بالإضافة إليه، لكونه بنفسه موضوعا
للملاك والغرض الفعلي، وهو الذي يكون مقصودا بالإطاعة والمعصية وما
يستتبعهما من ثواب وعقاب وغيرهما، ولا ملازمة بين جعل السبيل بالإضافة
إليه وجعله بالإضافة للمقدمة، لان الملازمة المتقدمة انما هي بالإضافة إلى
252

الإرادة والداعوية، لا بالإضافة إلى جعل السبيل، بل هو تابع لموضوع الغرض.
كما أنه يلغو بالإضافة للمقدمة بعد فرض عدم ترتب آثاره بالإضافة إليها.
نعم، لما كان التكليف بذى المقدمة مستلزما لحدوث الداعي إليه في حق
المكلف فهو مستلزم لحدوثه بالإضافة إلى المقدمة في حقه أيضا تبعا للملازمة
المتقدمة. فالمقدمة تشارك الواجب في الداعوية المسببة عن التكليف، لا في
الداعوية السابقة عليه رتبة، وهي الداعوية لجعل السبيل، بل هي مختصة
بالواجب الذي هو موضوع الملاك والغرض.
هذا، وأما الأوامر الشرعية ببعض المقدمات فهي مسوقة اما لبيان
شرطيتها ومقدميتها للواجب أو لبيان مطلق اللزوم والثبوت ولو بلحاظ الداعي
العقلي، أو بلحاظ الكيفية الخارجية لايقاع الواجب أو غير ذلك مما يناسبه لسان
تلك الأدلة، ولا مجال لحمله على الوجوب الشرعي بعد ما ذكرنا.
بقى الكلام في التفصيلات المذكورة في المقام، وهي كثيرة قد يتضح
بعضها مما يأتي في المبحثين الآتيين، وبعضها ظاهر الضعف بملاحظة ما تقدم،
فالكلام فيه خال عن الفائدة.
ولعل الأولى الاقتصار هنا على التفصيل بين السبب وغيره، لعدم خلوه
عن الفائدة ولو تبعا.
وكأن مرادهم بالسبب هو السبب التوليدي الذي لا ينفك عنه الواجب،
ويكون نتيجة قهرية له من دون توسط اختيار الفاعل بينهما، كالقاء الثوب في
النار الموجب لاحتراقه وأفعال الوضوء الموجبة للطهارة.
وقد استدل على وجوبه بأنه لابد من صرف التكليف بالمسبب إليه، لأنه
هو فعل المكلف المقدور له، دون المسبب، بل هو نتيجة فعله، ممتنع عليه في
فرض عدم تحقق السبب وواجب في فرض تحققه، من دون أن يكون فعلا له
ولا مقدورا له بنفسه، ليصح تكليفه به.
253

لكنه - كما ترى - لا يصلح لان يكون دليلا على وجوب السبب غيريا
- كما هو محل الكلام - بل على اختصاص الوجوب النفسي بالسبب دون
المسبب.
وحينئذ يشكل: بأنه يكفي في نسبة المسبب للمكلف وقدرته عليه
المصححين لتكليفه به قدرته على فعل سببه المذكور الذي لا ينفك عنه، فلا
وجه لصرف التكليف للسبب في فرض ظهور الدليل في التكليف بالمسبب.
وتظهر الثمرة بينهما في فرض اجمال السبب وتردده بين الأقل والأكثر،
فان كان المكلف به هو السبب كان المورد من صغريات دوران المكلف به بين
الأقل والأكثر الذي هو مجرى البراءة، وان كان المكلف به هو المسبب كان
المورد من صغريات الشك في الامتثال الذي هو مجرى قاعدة الاشتغال، وهو
المتعين بعد ما عرفت.
بل لو فرض انطباق العنوان المكلف به على ما هو فعل المكلف
بالمباشرة بحيث يكون متحدا معه عرفا، لا مسببا عنه، الا أنه كان منتزعا من
جهة زائدة عليه مسببة عنه، فالمرجع قاعدة الاشتغال أيضا، كما لو وجب
استعمال الدواء، وتردد الفعل الذي ينطبق عليه العنوان المذكور بين الأقل
والأكثر، لان التكليف ينصب عرفا على منشأ انتزاع العنوان، كترتب الأثر
المطلوب الذي بلحاظه يصدق على الشئ أنه دواء، لا على فعل المكلف
بنفسه، وان كان عنوان المكلف به منطبقا عليه، كما تقدم التعرض لذلك في
تقريب الجامع الصحيحي من طريق الأثر. فراجع.
ولنقتصر على ما تقدم في ذكر الأقوال والاحتجاج لها، لكفايته في المهم
من محل الكلام ومورد الخلاف في المقام.
254

تنبيهان
التنبيه الأول: لا اشكال في استحقاق العقاب بمخالفة تكليف المولى
الأعظم المستحق للطاعة وعصيانه، وكذا في استحقاق الثواب بموافقته
وإطاعته، لا بمعنى ثبوت حق للمطيع على المولى، نظير استحقاق الأجير
أجرية، بل لعدم وضوح ذلك بعد كون الطاعة حقا للمولى، بل بمعنى صيرورته
أهلا للثواب بملاك الشكر والجزاء، لا بملاك التفضل الابتدائي.
والمتيقن من ذلك هو موافقة ومخالفة التكليف النفسي بذى المقدمة،
وأما التكليف الغيري بالمقدمة بناء على ثبوته فيظهر مما نقله في التقريرات
عن بعضهم مشاركته للتكليف النفسي في ذلك، حتى صرح في محكى
الإشارات بثبوت عقابين.
وهو مما يصعب البناء عليه بعد التأمل في المرتكزات العقلائية التي هي
المرجع في مثل ذلك، فان المعيار عندهم في الطاعة والمعصية والتقرب
والتمرد التي بها يناط الثواب والعقاب هو التكاليف النفسية المجعولة بالأصل
بلحاظ الملاكات والاغراض الأصلية المقتضية لها، دون الغيرية التي هي في
طولها في مقام الجعل ومقام الطاعة والعصيان.
وملازمة التكليف لاستحقاق العقاب والثواب ممنوعة جدا بعد كون
منشأ الملازمة حكم العقل.
بل لو فرض ثبوت الملازمة المذكورة كانت دليلا على عدم ثبوت
التكليف الغيري بالمقدمة، بضميمة ما ذكرنا من عدم استحقاق الثواب والعقاب
عليها بمقتضى المرتكزات العقلائية.
بل قد تكون كثرة المقدمات موجبة لتخفيف العقاب على مخالفة
255

التكليف النفسي، حيث قد تستلزم صعوبته، فتكون مخالفته أبعد عن التمرد من
مخالفة التكليف الذي تسهل موافقته لقلة المقدمات المتعلقة به.
نعم، حيث كان ترك المقدمة موجبا لمخالفة التكليف النفسي تعين كونه
سببا لاستحقاق العقاب عليه.
كما أنه لما كان المعيار في استحقاق الثواب هو الحسن الفاعلي بالانقياد
للمولى والخضوع لامره وتحمل المشقة في سبيله أمكن كون فعل المقدمة منشأ
لاستحقاق الثواب، لا لأجله، بل لكونه شروعا في امتثال التكليف النفسي الذي
يزيد ثوابه كلما زادت المشقة به وطال أمد الانقياد بمتابعته. وعلى هذا ينزل ما
ورد في كثير من النصوص من ثبوت الثواب على المقدمات في كثير من
الطاعات.
لكن لا يفرق في ذلك بين القول بوجوب المقدمة وعدمه.
التنبيه الثاني: حيث ظهر مما سبق أن الامر الغيري بالمقدمة لا يكون
بنفسه موردا للإطاعة والثواب والمعصية والعقاب الا في طول الامر النفسي
بلحاظ كون اطاعته شروعا في اطاعته ومعصيته موصلة لمعصيته، فمن الظاهر
أن ذلك ثابت للمقدمة في نفسها وان لم نقل بوجوبها غيريا، كما هو الحال في
الداعوية وكذا الحال في الداعوية العقلية لها تبعا للداعوية لذيها المسببة عن
الامر الشرعي به.
ومرجع ذلك إلى عدم الأثر العملي للامر الغيري بنفسه بالإضافة إلى
متعلقه، فلا يهتم الفقيه باثباته لتنفعه مسألة الملازمة في الاستنباط ويتحقق بها
الغرض من المسألة الأصولية.
لكن ذكر بعض الأعيان المحققين قدس سره أن الأثر العملي للامر الغيري هو
امكان التقرب بقصده، لان حقيقة الامتثال هو الاتيان بالمأمور به بداعي الامر
256

المولوي المتوجه إليه من دون نظر لخصوصيات الإرادة.
وفيه: أن التقرب بالامر انما هو يقصد متابعته على نحو داعويته، وحيث
كانت داعوية الامر الغيري في طول داعوية الامر النفسي فلابد في التقرب به من
قصد الامر النفسي في طول قصده، ومع قصد الامر النفسي يتحقق التقرب
بالمقدمة ولو مع عدم قصد الامر الغيري بها، بل ولو مع عدم ثبوته بل سبق منا
في مبحث التعبدي والتوصلي أن التقرب انما هو بقصد ملاك المحبوبية
المستكشف بالامر، ومن الظاهر أن الغرض من المقدمة الداعي للامر بها هو
الغرض من الامر النفسي، فلابد في مقربية المقدمة من قصده، سواء كانت
مأمورا بها غيريا أم لا.
فلا مخرج عما ذكرنا من عدم الأثر العملي للامر الغيري بنفسه بالإضافة
إلى متعلقه.
نعم، قد يدعى ثبوت الأثر له بلحاظ بعض اللوازم الخارجية، وبلحاظه
تكون المسألة ذات ثمرة عملية لا علمية محضة.
ومن الظاهر أن الأثر المذكور لا يكون ثمرة للمسألة الأصولية كما هو
المهم في المقام - الا إذا نفع في تشخيص حكم شرعي كلي أو وظيفة عملية
كلية في الشبهات الحكمية، دون ما لو كان منقحا للحكم الجزئي أو الوظيفة في
الشبهات الموضوعية، فمثل الاكتفاء بالوفاء بنذر فعل الواجب بفعل المقدمة لا
يكون أثرا مهما في المقام، لوضوح أن الشك في الوفاء بالنذر المذكور بفعل
المقدمة لا يرجع الشبهة الحكمية، بل الموضوعية التي يهتم بها الفقيه دون
الأصولي، فلا يهم البحث عن مثل ذلك في المقام، وان كثر التعرض له في
كلماتهم. فلتلحظ.
ومن هنا فقد تقرب الثمرة الأصولية للمسألة بوجهين:
أولهما: أن المقدمة إذا كانت محرمة في نفسها فان قلنا بوجوب مقدمة
257

الواجب يكون المورد من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي، وان لم نقل به
كانت المقدمة محرمة لاغير.
وفيه: أن كون المورد من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي وعدمه
انما يكون ثمرة بلحاظ اختلاف الأثر العملي بينهما، ولا اختلاف في المقام، إذ
الأثر العملي اما أن يكون هو امكان التوصل بالمقدمة، أو ثبوت الحرمة لها
المستلزم لاستحقاق العقاب عليها، أو امكان التقرب بها لو كانت عبادة.
أما الأول فهو ثابت مطلقا، سواء قيل بوجوب المقدمة وكون المورد من
صغريات مسألة الاجتماع أم لم نقل بذلك، لوضوح عدم دخل ذلك في
خصوصية المقدمة المقتضية لامكان التوصل بها.
وأما الثاني فمع انحصار المقدمة بالمحرمة يقع التزاحم بين التكليف
النفسي بذى المقدمة وحرمة المقدمة، فمع أهمية حرمتها تبقى هي الفعلية
ويسقط التكليف النفسي، فلا تكون مقدمة لواجب، ومع أهمية التكليف النفسي
أو تساويهما تسقط حرمة المقدمة، وعلى كليهما لا يكون المورد من صغريات
مسألة الاجتماع، من دون فرق بين القول بوجوب مقدمة الواجب وعدمه.
ومع عدم الانحصار بالمحرمة لا اشكال في فعلية حرمة المقدمة، أما بناء
على عدم وجوب مقدمة الواجب فواضح، وأما بناء عل وجوبها فكون المورد
من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي انما يستلزم عدم حرمتها بناء على
امتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب الامر، ولا مجال للثاني مع كون الامر
تخييريا، كما في المقام لفرض عدم الانحصار.
وأما الثالث - وهو التقرب بالمقدمة - فان قلنا بعدم كفاية تعدد الجهة في
تعدد موضوع المقربية والمبعدية تعين امتناع التقرب بالمقدمة في فرض فعلية
حرمتها - اما لعدم الانحصار بالمحرمة أو لأهمية حرمتها من التكليف النفسي
بذيها في فرض الانحصار وان قيل بوجوب مقدمة الواجب وكون المورد من
258

صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي.
كما يتعين امكان التقرب بها في فرض عدم فعلية حرمتها للانحصار بها
مع عدم أهمية حرمتها من التكليف النفسي بذيها وان قيل بعدم وجوب مقدمة
الواجب، لكفاية قصد امتثال الامر بذيها في التقرب بها من دون مانع.
وان قلنا بكفاية تعدد الجهة في تعدد موضوع المقربية والمبعدية تعين
امكان التقرب بها، حتى بناء على عدم وجوب مقدمة الواجب، حيث يكفي في
مقربيتها قصد امتثال الامر بذيها في ظرف فعليته، لأهميته من حرمة المقدمة
مع الانحصار بالمحرمة أو لعدم الانحصار بها - أو قصد التقرب بموافقة ملاكه -
في ظرف عدم فعلية الامر نفسه، لأهمية حرمة المقدمة، مع الانحصار بها وان
لم يقصد الامر الغيري.
ثانيهما: فساد العبادة إذا كان تركها مقدمة لواجب فعلى، حيث يكون
تركها واجبا بناء على الملازمة، فيكون فعلها محرما - بناء على أن الامر بالشئ
يقتضى النهى عن ضده العام - فيمتنع التقرب بها، فتفسد، أما بناء على عدم
الملازمة فلا يكون تركها واجبا لتحرم ويمتنع التقرب بها.
ويشكل: بأنه يكفي في امتناع التقرب بالعبادة حينئذ مقدمية تركها
للواجب الفعلي، وان لم يكن تركها حينئذ واجبا شرعا، لعدم البناء على
الملازمة، لان ذلك راجع إلى كونها مانعة من امتثال الواجب، وفعل المانع من
الامتثال مبعد وان لم نقل بحرمته شرعا، لما فيه من التمرد على المولى، نظير
التجري، فلا تترتب الثمرة المطلوبة.
وقد تعرض غير واحد لبعض الجهات الاخر للاشكال على هاتين
الثمرتين لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ما ذكرنا.
ومن هنا فالظاهر عدم الثمرة العملية لمسألة الملازمة. وربما يأتي في
المبحثين الآخرين ما ينفع في المقام. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.
259

المبحث الثاني
في تحديد المقدمة التي هي موضوع الداعوية
حيث سبق في أول الفصل أن فعلية الداعي العقلي أو غيره نحو الشئ
يستتبع فعلية الداعي المسانخ له نحو مقدمته فيقع الكلام هنا في تحديد
موضوع الداعوية التبعية المذكورة وأنه مطلق المقدمة أو خصوص قسم منها.
ومحل كلامهم وان كان هو تحديد موضوع الوجوب بناء على الملازمة،
الا أن الظاهر عدم اختصاص ملاك الكلام وثمرته بذلك، بل يجرى حتى بناء
على عدم الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته بلحاظ الداعوية
المذكورة.
لكن حيث كان موضوع كلامهم الوجوب فالمناسب لنا متابعتهم محافظة
على نسق الكلام في عرض الحجج والأقوال، ومنه يستفاد تحديد موضوع
الداعوية، لان الظاهر تبعية الوجوب - بناء على القول بالملازمة - للداعوية
المذكورة سعة وضيقا، كما يظهر مما سبق في تقريب الاستدلال بالوجدان على
الملازمة.
إذا عرفت هذا، فقد ذهب المحقق الخراساني قدس سره إلى وجوب مطلق
المقدمة.
بدعوى: أنه ليس الغرض منها الا سد العدم من جهتها بحصول ما لولاه
لما أمكن حصول ذي المقدمة، ولا يفرق في ذلك بين أفرادها.
وربما ينسب ذلك للمشهور، لعدم التنبيه على التفصيل الا في العصور
المتأخرة، وان كان في كفاية ذلك في نسبة الاطلاق إليهم اشكال، لعدم توجههم
261

لهذه النكات وقوة احتمال جريهم على الارتكازيات التي يدعى القائلون
بالتفصيل متابعتهم لها.
وكيف كان، فالمذكور في كلماتهم للتفصيل وجهان..
الأول: ما يظهر من التقريرات من أن الواجب من أفراد المقدمة خصوص
ما يؤتى به بقصد التوصل لذيها، وان كان الغرض - وهو التوصل لذي المقدمة -
يتحقق بغيره أيضا.
وربما يستفاد من بعض فقرات كلامه عدم إرادة ذلك، بل إرادة أن امتثال
أمر المقدمة ووقوعها على نحو العبادية موقوف على قصد التوصل بها لذيها.
وهو وان كان مناسبا لاستدلاله في التقريرات ولبعض فقرات كلام شيخنا
الأعظم قدس سره في طهارته، الا أن صدر كلامه وذيله صريح في إرادة ما نسب له من
اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب، حيث صرح بعدم
ظهور أثر النزاع في غير المقدمات العبادية بسبب اجزاء الفعل المأتى به لا
بقصد التوصل، لان الغرض منه التوصل الحاصل مطلقا، ثم قال: (نعم يظهر
الثمرة من جهة بقاء الفعل المقدمي على حكمه السابق، فلو قلنا بعدم اعتبار
قصد الغير في وقوع المقدمة على صفة الوجوب لا يحرم الدخول في ملك
الغير إذا كانت (كان. ظ) مقدمة لانقاذ غريق، بل يقع واجبا سواء ترتب عليه الغير
أو لا، وان قلنا باعتباره في وقوعها على صفة الوجوب فيحرم الدخول ما لم
يكن قاصدا لانقاذ الغريق).
وقد استدل على ما ذكره بالوجدان على عدم تحقق امتثال الامر الغيري الا
قصد التوصل بالمقدمة لذيها.
ويشكل: بأنه ان أراد بالامتثال موافقة الامر بتحقيق المأمور به فتحققه في
المقام تابع لسعة المأمور به وعدم دخل قصد التوصل فيه، ولابد من البناء على
ذلك، لان منشأ تبعية المقدمة لذيها في الداعوية هو توقفه عليها والغرض من
262

وجوبها غيريا بناء على الملازمة - هو التوصل بها إليه، ومعه لا وجه
لاختصاصهما بما يقصد به التوصل بعد عدم دخل القصد المذكور في ترتب
ذي المقدمة عليها. وإن أراد به ما يساوق العبادية - كما يناسبه الوجه الاخر لاستدلاله فلا
اشكال في عدم تحققه في المقام، لما تقدم من أن التقرب بالامر الغيري في
طول التقرب بالامر النفسي، فما لم يقصد بالمقدمة التوصل لامتثال الامر النفسي
لا تكون مقربة، إلا أنه لا يستلزم اختصاص ما يقصد به التوصل بالوجوب، نظير
توقف عبادية الواجب التوصلي على قصد أمره مع عموم الواجب نفسه لما لم
يقصد به الامر، تبعا لعموم ملاكه والغرض منه.
هذا، وتظهر الثمرة لذلك فيما تقدم منه التعرض له من اختصاص ارتفاع حكم المقدمة الأولى المزاحم بتكليف ذي المقدمة بما قصد به التوصل
وعمومه لغيره، لوضوح أن فعلية الداعوية العقلية في المقدمة على مقتضى
حكم ذيها - وما يستتبعها من التكليف الغيري بناء على الملازمة - لا يجتمع مع
حكم المقدمة الأولى المزاحم لها.
وحيث عرفت عدم اختصاص المقدمة الواجبة بما قصد به التوصل تعين
البناء على ارتفاع حكمها حتى عما لم يقصد به التوصل.
نعم، بناء على اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة يلزم بقاء الحرمة
في غير الموصلة واقعا، فان قصد بها التوصل كان مخطئا في اعتقاد وجوبها
لاعتقاده ايصالها ويكون معذورا، وان لم يقصد بها التوصل كان عاصيا بالاقدام
عليها. الا أن يترتب عليها ذو المقدمة فينكشف عدم حرمتها واقعا، وان كان
متجريا في الاقدام عليها، لاعتقاده حرمتها وعدم ايصالها. ولعل ما تقدم منه مبنى على اشتباه مقتضى اعتبار قصد التوصل بمقتضى اعتبار الايصال. فلاحظه.
263

لكن ذكر في التقريرات ثمرتين اخريين: إحداهما: ما إذا كان على المكلف فائتة فتوضأ قبل الوقت غير قاصد
لأدائها ولا لإحدى غايات الوضوء الاخر، فعلى القول باختصاص الوجوب بما
قصد به التوصل لا يجوز الدخول بذلك الوضوء في الفائتة ولا في الحاضرة التي
يدخل وقتها، وعلى القول بعمومه لما لم يقصد به التوصل يجوز الدخول به فيها.
ويشكل: بأن عدم جواز الدخول بالوضوء المذكور في الصلاة لا يبتنى
على اختصاص الوجوب بالمقدمة التي يقصد بها التوصل، بل على اختصاص
العبادية بها، لان الوضوء من العبادات، فمع عدم التقرب به يبطل فلا يجوز
الدخول به في إحدى غاياته، وان قلنا بأن الواجب مطلق المقدمة.
فما ذكره قدس سره يبتنى على الخلط بين الامرين كما يبتنى عليه كثير من فقرات كلامه.
ثانيتهما: ما إذا اشتبهت القبلة في جهات، وقلنا بوجوب الاحتياط، فلو
صلى إلى إحدى الجهات غير قاصد الاحتياط بالصلاة لباقيها، فعلى القول باختصاص الوجوب بالمقدمة التي يقصد بها التوصل لا تصح الصلاة المذكورة،
بل لابد في الاحتياط الواجب من إعادة الصلاة للجهة المذكورة مع الصلاة لبقية
الجهات، وعلى القول بالعموم تصح الصلاة المذكورة ويكتفى في الاحتياط
بضم الصلاة لبقية الجهات إليها.
وهو كما ترى! إذ ليست الصلاة المذكورة مقدمة وجودية للواجب،
لتكون موضوعا للداعوية التبعية والوجوب الغيري، ويجرى فيها ما تقدم من
الكلام في اعتبار قصد التوصل وعدمه، بل هي مقدمة علمية واجبة عقلا وجوبا ظاهريا، فهي أجنبية عن محل الكلام.
نعم، ذكر شيخنا الأعظم قدس سره في التنبيه الثاني من تنبيهات الشبهة الوجوبية
264

الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي، أنه لابد في أطراف العلم الاجمالي إذا كانت
عبادة أن ينوى بكل منها الاتيان به احتياطا لاحراز الواجب الواقعي، وذلك
موقوف على قصد الاتيان بجميع الأطراف، لعدم احراز الواجب الواقعي الا بذلك.
وهو - لو تم - يبتنى على خصوصية النية المعتبرة في العبادات، لا على
أخذ قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب الذي هو محل الكلام.
على أنه غير تام على ما ذكرناه في تعقيب كلامه قدس سره. ومن هنا فالظاهر
انحصار الثمرة العملية بما ذكرناه أولا. كما ظهر من جميع ما تقدم شدة
اضطراب ما في التقريرات. ومنه سبحانه نستمد العصمة والسداد.
الثاني: ما ذكره في الفصول - منبها إلى عدم الوقوف على من تفطن له -
من أن الواجب خصوص المقدمة الموصلة، وهي التي يترتب عليها الواجب،
فإذا حصلت المقدمة كانت مراعاة بترتب ذيها عليها، فان ترتب كشف عن
وقوعها على صفة الوجوب، وان لم يترتب عليها انكشف عدم وقوعها على
الصفة المذكورة.
وقد أنكر ذلك عليه أشد الانكار شيخنا الأعظم - على ما في التقريرات -
والمحقق الخراساني وبعض الأعاظم قدس سرهما. كما وافقه عليه جماعة من الأكابر
كالسيد الطباطبائي اليزدي - في ما حكى عنه - وبعض الأعيان المحققين وسيدنا
الأعظم قدس سرهما وغيرهم. وهو الحق، على ما سيتضح إن شاء الله تعالى.
وينبغي نقل كلام صاحب الفصول الذي هو الأصل في التفصيل المذكور
والنظر في حجته.
قال قدس سره: - في التنبيه الأول من تنبيهات مسألة مقدمة الواجب - (والذي
يدل على ذلك أن وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية فالعقل لا
يدل عليه زائدا على القدر المذكور.
265

وأيضا، لا يأبى العقل أن يقول الامر الحكيم أريد الحج وأريد المسير
الذي يتوصل به إلى فعل الحج له (كذا) دون ما لا يتوصل به إليه وان كان من
شأنه أن يتوصل به إليه، بل الضرورة قاضية بجواز التصريح بمثل ذلك، كما أنها
قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقا أو على تقدير عدم التوصل بها
إليه، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوب الفعل ووجوب مقدمته على تقدير
عدم التوصل بها إليه.
وأيضا، حيث إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب
وحصوله، فلا جرم يكون التوصل إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها، فلا تكون
مطلوبة إذا انفكت عنه، وصريح الوجدان قاض بأن من يريد شيئا لمجرد
حصول شئ آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه، ويلزم أن يكون وقوعه على
الوجه المطلوب منوطا بحصوله).
ولا يخفى أن مرجع الوجهين الأولين إلى دعوى الوجدان التي يسهل
على الخصم انكارها، كما أنكرها في المقام، فلا ينبغي إطالة الكلام فيها، وان
كان على حق فيهما.
فالعمدة الوجه الأخير المبنى على ما هو المعلوم من تبعية الواجب
للغرض سعة وضيقا.
وقد أجاب عنه المحقق الخراساني قدس سره: بأن الغرض من وجوب المقدمة
ليس هو التوصل لذي المقدمة، لما هو المعلوم من أن الغرض الداعي لايجاب
الشئ هو ما يكون معلولا بوجوده الخارجي للواجب ومترتبا عليه، ومن الظاهر
أن ذا المقدمة لا يترتب على المقدمة بنفسها، بل يتوقف على مقدماته الأخرى،
ومنها اختيار المكلف له.
الا أن تكون المقدمة تسبيبية توليدية، والمفروض عدم اختصاص
الوجوب الغيري - وكذا الداعوية التبعية - بها، فلابد من كون الغرض من وجوب
266

المقدمة أمرا آخر مشترك الترتب على جميع المقدمات، وهو حصول ما لولاه
لما أمكن حصول ذي المقدمة.
ويندفع: بأن مراد صاحب الفصول من كون الغرض الداعي لوجوب
المقدمة هو التوصل لذيها ليس هو ترتب ذيها عليها استقلالا، بحيث لا ينفك
عنها، ليختص بالمقدمة السببية التوليدية، بل فعلية استناد وجود الواجب
للمقدمة وترتبه عليها، ولو ضمنا باشتراك بقية المقدمات فيه، وذلك لا يختص
بالمقدمة السببية التوليدية، بل يعم كل مقدمة موصلة.
وأما ما ذكره من أن الغرض هو حصول ما لولاه لما أمكن حصول
الواجب فقد استشكل فيه غير واحد: بأن امكان الواجب لا يستند لوجود
المقدمة، بل لامكانها، فلا يعقل أن يكون هو الغرض من ايجابها والسبب في
الداعوية التبعية لها.
لكن هذا انما يتوجه عليه لو كان مراده ان الواجب يمتنع حين عدم
المقدمة، وهو بعيد عن ظاهر كلامه، بل ظاهره أن الواجب يمتنع بشرط عدم
المقدمة، لامتناع وجود المعلول بشرط عدم العلة وان أمكن حال عدمها،
فالغرض من وجوب المقدمة حصول ما يمتنع الواجب بشرط عدمه (1).
واليه يرجع ما في التقريرات من أن وجه وجوب المقدمة أن عدمها
يوجب عدم المطلوب، لرجوعه إلى وجوب عدم المعلول وامتناع وجوده
بشرط عدم المقدمة.
نعم، يشكل ذلك: بأن امتناع وجود الواجب في فرض عدم شئ
267

وبشرطه لا يقتضى وجوب ذلك الشئ - ولا الداعوية إليه - على اطلاقه بنحو
يسرى لجميع أفراده، كي يتعين عموم المقدمة الواجبة لغير الموصلة، بل
يقتضى وجوبه - كذا الداعوية إليه - في الجملة في مقابل السلب المطلق الذي
بشرطه يمتنع الواجب.
ولذا يصدق ذلك بالإضافة إلى الجامع بين المقدمة وغيرها، فكما يصح
أن يقال: لولا الغسل لم تمكن الصلاة، وعدمه موجب لعدمها، كذلك يصح أن
يقال: لولا غسل البدن لم تمكن الصلاة وعدمه موجب لعدمها.
وكما أن الثاني لا يصحح وجوب مطلق غسل البدن ولو لم يتحقق به
الغسل، كذلك لا يجب في الأول أن يصحح وجوب مطلق الغسل ولو لم يكن
موصلا للصلاة، كما هو المدعى.
هذا، وقد يدعى أن الغرض من وجوب المقدمة هو سد باب عدم ذيها
من جهتها، فان وجود ذي المقدمة لما كان موقوفا على وجود تمام مقدماته،
فعدم كل منها موجب لعدمه ووجوده يسد باب عدم ذي المقدمة من جهته وان
لم توجد بقيه المقدمات.
وحينئذ فالمدعى أن الغرض من وجوب كل مقدمة ليس هو حصول
ذيها، ليختص بالموصلة، بل سد باب عدمه من جهتها ولو مع عدم غيرها،
وذلك مشترك بين الموصلة وغيرها.
وربما يحمل على هذا ما تقدم من التقريرات والمحقق الخراساني، وان
كان الجمود على حاق عبارتهما لا يقتضيه.
وكيف كان، فبعد أن لم يكن مراد صاحب الفصول من التوصل بالمقدمة
لذيها هو ترتبه عليها باستقلالها ليندفع بما سبق من المحقق الخراساني، بل
فعلية استناد ذي المقدمة إليها ولو بانضمام بقية المقدمات إليها، يقع الكلام في
أن الغرض من وجوب المقدمة هو ذلك، ليختص الوجوب والداعوية المسببان
268

عن وجوب ذي المقدمة بالمقدمة الموصلة، أو مطلق سد باب العدم من جهتها
ولو لم يترتب عليها ذو المقدمة لعدم تحقق بقية المقدمات، فيعم الوجوب
والداعوية غير الموصلة أيضا.
ولا ينبغي التأمل في أن الغرض هو الأول، حيث لا اشكال ظاهرا في
جواز تبديل المقدمة قبل حصول ذيها، فإذا نصب المكلف السلم للصعود على
السطح جاز له قبل الصعود عليه تبديله بسلم آخر يصعد عليه.
كما لا اشكال في وجوب تكرارها لو تعذر ترتب ذيها عليها بعد التمكن
منه، كما لو انكسر السلم في الفرض، وقد سبق في مبحث الاجزاء أن تبديل
الفرد الذي يمتثل به انما يجوز أو يجب إذا لم يكن المأتى به علة تامة لحصول
الغرض، كما اعترف به المحقق الخراساني قدس سره وغيره، ومن الظاهر أن الغرض
من الامر بالمقدمة لو كان هو مجرد سد باب العدم من جهتها فالمأتي به منها علة
تامة له، وانما لا يكون علة تامة بالإضافة إلى نفس التوصل الموقوف على تحقق
بقية أجزاء علة ذي المقدمة، فجواز التبديل ووجوبه في الفرض قبل حصوله
شاهد بكونه هو الغرض، كما ذكره في الفصول.
وأما سد باب العدم من جهتها فهو لو كان غرضا لا يكون غرضا على
اطلاقه، بل يكون مقيدا بسد باب العدم من بقية الجهات، والا فسد باب العدم
من جهة خصوص مقدمة دون غيرها لا فائدة فيه بعد فرض عدم ترتب ذي
المقدمة عليه الذي هو الملحوظ بالأصل والمقدمة ملحوظة بتبعه، كما اعترف به
المحقق الخراساني قدس سره نفسه، ومع ذلك لا وجه لدخوله في موضوع الغرض، كما
لا يخفى.
وأشكل من ذلك ما يظهر منه ومن التقريرات في رد ما ذكره في الفصول
في تقريب لزوم تبعية الواجب للغرض سعة وضيقا بقوله المتقدم: (وصريح
الوجدان قاض بأن من يريد شيئا لمجرد حصول شئ آخر لا يريده إذا وقع
269

مجردا عنه...) - من أنه لو سلم كون الغرض من وجوب المقدمة هو حصول
ذيها، الا أن ذلك لا يقتضى قصور المقدمة المطلوبة عن صورة عدم حصوله، بل
تقع على ما هي عليه من المطلوبية وان لم يحصل.
بدعوى: أن حصول ذي المقدمة جهة تعليلية، وهي لا تقتضي قصور
المطلوب وتبعيته لها، وانما ذلك في الجهة التقييدية ولا مجال للبناء على أن
حصول ذي المقدمة جهة تقييدية في المقام، لما يأتي، حتى قال المحقق
الخراساني قدس سره: (ولعل منشأ توهمه خلطه بين الجهة التقييدية والتعليلية).
إذ فيه: أن الجهة التعليلية لما كانت هي الغرض الداعي للطلب فعدم تبعية
المطلوب لها سعة وضيقا خلف. غاية الامر أن تبعية الطلب للغرض - الذي هو
الجهة التعليلية - ليس بوجوده الواقعي، بل العلمي، فإذا اعتقد الطالب وفاء شئ -
به طلبه، وان لم يكن ذلك الشئ وافيا به واقعا. وبهذا تفارق الجهة التعليلية
الجهة التقييدية التي يتبعها المطلوب بوجودها الواقعي.
لكن تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي أن المعيار في الداعوية العقلية
ولزوم الإطاعة هو الغرض دون الامر إذا لم يكن مطابقا له.
كما تقدم أن عدم مطابقة الامر للغرض بوجوده الواقعي انما تمكن مع
غفلة المولى وجهله بعدم استيفاء غرضه بالامر، ولا يعقل في حق العالم
الملتفت، كالشارع الأقدس. بل لابد من التطابق لبا بين طلبه وموضوع غرضه
بماله من وجود واقعي، وان لم يطابقه لفظا، فلا يظهر الفرق بين الجهة التقييد
والتعليلية في أوامره من هذه الجهة.
هذا كله في الطلب الفعلي التفصيلي الأصلي، وأما الطلب الارتكازي -
ومنه الطلب الغيري المدعى للمقدمة، كما سبق في الاستدلال عليه - فهو تابع
للغرض واقعا سعة وضيقا حتى في حق من يمكن في حقه الجهل والغفلة،
لعدم توجه الطالب لموضوعه تفصيلا، كي يمكن خطؤه في تشخيص موضوع
270

الغرض، بل هو كامن في مرتكزاته التابعة لارتكازية الغرض، فلا يعقل انفكاكه
عن الغرض وعدم مطابقته له.
ولعله إلى هذا يرجع ما ذكره بعض المحققين قدس سره من رجوع الجهة التعليلية
للجهة التقييدية في الاحكام العقلية.
بل وضوح ارتكازية الغرض في المقام ووضوح اختصاصه ببعض أفراد
المقدمة صالحان عرفا للقرينية على تقييد المقدمة المطلوبة بالموصلة لو فرض
وقوعها موردا للطلب في دليل له اطلاق لفظي صادر ممن يمكن في حقه
الغفلة.
والمتحصل من جميع ما تقدم: أنه لا ينبغي التأمل في اختصاص الغرض
الذي هو المنشأ للداعوية التبعية والوجوب الغيري - لو قيل به - بالمقدمة
الموصلة، وفى لزوم اختصاص الداعوية والوجوب بها تبعا لاختصاص الغرض
بها.
وعلى ذلك يبتنى ما تقدم منا في مبحث الاجزاء من أن المأمور به إذا لم
يكن علة تامة لحصول الغرض كان مقيدا لبا بما يترتب عليه الغرض، وأن ما
قيل إنه من تبديل الامتثال ليس منه حقيقة، بل من العدول في الامتثال قبل
تحققه.، وذكرنا هناك أن كلام المحقق الخراساني قدس سره يناسبه ولا يأباه. وعلى هذا
ينبغي البناء في المقام.
ولعل الأولى في تقريبه أن يقال: ان الداعوية نحو الشئ انما تستتبع
الداعوية نحو جميع مقدماته بنحو الارتباطية لا بنحو الانحلال، وعلى هذا النحو
يبتنى الطلب الغيري المتفرع عليها كما تقدم فالمطلوب من كل منها ما يقارن
بقيتها، وليس موضوع الداعوية الاستقلالية الا المركب منها، وهو العلة التامة،
لأنه هو الذي يترتب عليه ذو المقدمة، دون كل جزء بحياله واستقلاله، فليس في
المقام الا داعوية غيرية واحدة تابعة للداعوية النفسية متعلقة بالعلة التامة
271

ومنحلة إلى داعويات ضمنية ارتباطية بعدد أجزائها.
وعلى هذا النحو تكون المقدمات موضوعا للوجوب الغيري، غايته أنه
إذا كان بعضها غير قابل للتكليف كما قد يدعى في مثل اختيار المكلف لذي
المقدمة وارادته - لا يكون بنفسه موضوعا للوجوب الغيري، بل قيدا للواجب
من سائر المقدمات، فالمطلوب من كل منها ما يقارنه، ليتحقق به ذو المقدمة
الذي هو موضوع الوجوب النفسي والداعوية الأصلية.
وعلى ذلك يبتنى ما تقدم منا في أول الفصل من أن الداعوية الغيرية في
طول الداعوية النفسية ومرتبطة بها، وأنها لا تصلح للحركية ما لم تصلح
الداعوية النفسية لها، وأن محركيتها ومقربيتها باعتبار كون الجري عليها شروعا
في الجري على طبق الداعوية النفسية، فان ذلك لا يتم مع فرض عموم موضوع
الداعوية الغيرية للمقدمة غير الموصلة، إذ مع ذلك يمكن الجري على طبق
الداعوية الغيرية مستقلا عن الجري على طبق الداعوية النفسية باختيار المقدمة
غير الموصلة.
ويزيد الامر وضوحا وجهان..
أحدهما: النظر في ثمرة النزاع في المقام التي تقدمت الإشارة إليها في
آخر الكلام في اعتبار قصد التوصل، وهي أن المقدمة لو كانت محرمه في نفسها
وزوحمت حرمتها بوجوب ذيها بنحو يرفع حرمتها، لأهميته، فان قيل
باختصاص وجوب المقدمة الغيري وداعويتها التبعية بالموصلة تعين بقاء غير
الموصل منها على حرمته، فيعاقب عليه مع الاتيان به لا بداعي التوصل للواجب،
بل كان التوصل بفرد آخر متأخر عنه، وان قيل بعموم الواجب لزم البناء على
عدم حرمة غير الموصل أيضا فلا يعاقب عليه كما لا يعاقب على الموصل.
ودعوى: أن عموم وجوب المقدمة لغير الموصل لا ينافي لزوم الاقتصار
عقلا على الموصل في الفرض، جمعا بين غرضي الشارع.
272

مدفوعة: بأن بعد فرض فعلية وجوب ذي المقدمة وتبعية الداعوية
العقلية للمقدمة له، وكذا وجوبها الغيري لو قيل به وفرض عموم موضوعهما
لغير الموصل لا معنى لمنع العقل من غير الموصل، ولا لفعلية تعلق غرض
المولى بتركه، بل هو خلف. فلزوم ترك غير الموصل في الفرض شاهد بقصور
الداعوية والوجوب الغيري عنه.
ثانيهما: أنه لو علم المكلف في سعة الوقت بعدم ترتب الواجب على
الفرد الأول من المقدمة، لا لقصور فيه، بل لأمر يرجع لاختياره، فالامر النفسي
بذى المقدمة ان كان يدعو غيريا لخصوص الفرد المذكور سقط به وجاز ترك
الفرد الاخر المستلزم لترك ذي المقدمة، ومن المعلوم عدم جوازه، وان كان
يدعو له ولما بعده من الافراد حتى يتحقق الفرد الموصل، فهو خلاف المعهود
من تعلق الامر بالطبيعة بنحو البدلية المستلزم للاجتزاء في امتثاله بصرف
الوجود المنطبق على الوجود الأول. وان كان يدعو لخصوص غيره مما يترتب
عليه الواجب فهو المطلوب.
هذا، مضافا إلى الوجهين الأولين المذكورين في كلام الفصول المتقدم
المبتنيين على ملاحظة الوجدان، وأن أنكرهما المحقق الخراساني قدس سره تبعا
للتقريرات. بل لا يبعد ظهور بعض الوجوه الوجدانية الأخرى بالتأمل.
ومن هنا كان اختصاص الوجوب والداعوية بالمقدمة الموصلة من
الوضوح بحد يغنى عن إطالة الكلام فيه، لولا انكار من عرفت من الأكابر له حتى
صار موردا للنقض والابرام بين الاعلام. وذلك يلزمنا بالنظر في وجوه الاشكال
التي أوردت عليه في كلماتهم استيفاء للكلام في المسألة، وهي جملة من
الوجوه..
الأول: ما في التقريرات والكفاية من قضاء صريح الوجدان بسقوط
التكليف الغيري بمجرد الاتيان بالمقدمة من دون انتظار ترتب الواجب عليها،
273

وذلك آية عدم اعتبار ترتب الواجب في وقوعها على صفة المطلوبية.
ويظهر اندفاعه مما سبق، حيث لابد من البناء على أن تحقق الامتثال به
مراعى بتحقق بقية المقدمات وترتب ذي المقدمة، فان ترتب كشف عن
وقوعها على صفة الوجوب الغيري، والا انكشف عدمه كما هو الحال في سائر
الواجبات الارتباطية والمنوطة بغرض متأخر عنها.
ولذا تقدم عدم الاشكال في جواز تبديلها بفرد آخر، بل وجوبه لو تعذر
ترتب ذي المقدمة عليها بعد امكانه، ويكون الامتثال بالثاني مع أنه لا معنى
لامتثال الامر ثانيا بعد سقوطه بالامتثال.
غايته أن الامر في المقام لا يدعو فعلا إلى الاتيان بفرد آخر، لان الفرد
المأتى به مشارك للفرد الاخر في صلوحه لان يكون امتثالا بترتب الواجب عليه
بعد ذلك، والامر لا يدعو الا إلى صرف الوجود الصالح للانطباق على كلا
الوجودين من غير مرجح، فكما يكون المكلف مخيرا بين الفردين قبل الاتيان
بالفرد الأول يكون مخيرا بعده بين الاتيان بالواجب بعده، ليكون الامتثال به،
والامتثال بغيره.
الا أن يسقط الفرد المأتى به عن قابلية ترتب الواجب عليه فيتعين غيره،
نظير الاتيان بجزء الواجب الارتباطي، حيث يكون الامتثال به مراعى باكمال
الواجب، من دون أن يدعو التكليف به إلى فرد آخر منه الا بعد طروء المانع من
تحقق الامتثال به بطروء المبطل.
الثاني: ما في التقريرات من أن وجوب خصوص المقدمة الموصلة
مستلزم لوجوب مطلق المقدمة في لحاظ الواقع، لان الامر بالمقيد بقيد منتزع
عن أمر مغاير له في الوجود يقتضى الامر بالمطلق، إذ لابد من ايجاد المطلق أولا
ثم الحاقه بالقيد، وفى المقام حيث كان الايصال منتزعا من ترتب الواجب
المغاير وجودا للمقدمة لزم الاتيان بمطلق المقدمة ثم الحاقها بالقيد.
274

وفيه: - مع أن ذلك يجرى في جميع موارد الامر بالمقيد - أن الامر بالمقيد
لا يستلزم الامر بالمطلق بما هو مطلق بحيث ينطبق على فاقد القيد، بل ينافيه،
وانما يستلزم الامر بالذات المحفوظة في حالتي الاطلاق والتقييد، ولازمه في
المقام وجوب ذات المقدمة في ضمن الموصلة، لا وجوب مطلق المقدمة ولو
لم تكن موصلة لينافي المدعى.
الثالث: أنه إذا كان الواجب من المقدمة خصوص الموصلة، كان الايصال
واجبا غيريا كسائر قيود المقدمة نظير الطهارة في الساتر - وحيث كان الايصال
منتزعا من ترتب الواجب النفسي بالوجوب تبعا لوجوب مقدمته غيريا.
وفيه: أن امتناع ذلك أن كان بلحاظ لزوم الدور بتقريب: أن وجوب
المقدمة انما نشاء من وجوب ذيها، فلو ترشح وجوب ذيها من وجوبها لزم
الدور، كما قرره بعض الأعاظم قدس سره.
أشكل: بظهور أن وجوب ذي المقدمة الناشئ من قبل وجوب المقدمة
الغيري ليس هو وجوبه النفسي الذي نشاء منه وجوب المقدمة، بل وجوب
غيري آخر، فلا دور.
وان كان بلحاظ لزوم التسلسل بتقريب أن وجود ذي المقدمة إذا كان قيدا
في الواجب من المقدمة كان مقدمة له، وحيث لا يجب من المقدمة الا الموصل
الموقوف على وجود ذيها كانت المقدمة من قيوده ومقدمة له فتجب، وهكذا
إلى مالا نهاية، لرجوع ذلك إلى أن كلا من المقدمة وذيها يكون مقدمة للواجب
من الاخر في المرتبة المتأخرة عن مقدميته له، فيتسلسل الوجوب لكل منهما،
كما قرره سيدنا الأعظم قدس سره.
أشكل: بما ذكره قدس سره من أنه في فرض ثبوت ذي المقدمة الذي به يتحقق
الايصال للمقدمة يلزم تحقق المقدمة، فلا موضوع لتقييده بالايصال إليها،
لتجب غيريا تبعا لوجوبه. ويلزم التسلسل.
275

وان كان بلحاظ ما سبق منا عند الكلام في المقدمة الداخلية من امتناع
اجتماع الوجوب النفسي والغيري في موضوع واحد مع وحدة الغرض
الموجب لهما، للزوم اللغوية.
أشكل: بأن ذلك لا يقتضى امتناع تقييد المقدمة الواجبة بالايصال المنتزع
من وجود ذيها، بل امتناع استتباع التقييد المذكور وجوب ذي المقدمة غيريا
بتبع وجوب المقدمة، لان المقدمية إنما تقتضي الداعوية التبعية والوجوب
الغيري - لو قيل به - مع عدم المانع، كلزوم اللغوية، نظير ما تقدم في المقدمة
الداخلية.
ومنه يظهر وجه آخر في الجواب عن التقريبين الأولين، لابتنائهما على
لزوم وجوب ذي المقدمة غيريا بتبع وجوب المقدمة، ولا موضوع لها بدون
ذلك.
الرابع: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الواجب لو كان هو خصوص
المقدمة الموصلة فبما أن ذات المقدمة مقومة لها، تكون مقدمة لتحققها في
الخارج، فان التزم الخصم بوجوبها مع عدم اعتبار قيد الايصال إلى جزئها الاخر
فقد اعترف بما أنكره، وان اعتبر قيد الايصال في اتصافها بالوجوب فقد لزمه
التسلسل، إذ كل ما هو مقيد بالايصال له ذات تكون مقدمة له.
وفيه: أن ذات المقيد في ظرف وجود قيده عين المقيد، لا مقدمة له، كي
تجب بوجوب غيري آخر مباين لوجوبه، ويلزم التسلسل بلحاظ أن المقدمة لما
كانت مقيدة بالايصال، فهي في كل مرتبة لها قيد وذات مقدمة له.
على أن التسلسل في مثل ذلك لما كان في الوجوبات الغيرية المترتبة فهو
من التسلسل في المعلولات الذي لا وجه لبطلانه الا الوجدان على عدم وجود
جعول غير متناهية، ولا مجال له في المقام، لما تقدم عند الاستدلال لوجوب
المقدمة من كون عدم الوجوب الغيري الثابت لها جعليا فعليا، بل ارتكازيا تبعيا
276

بسبب دخله في الغرض الارتكازي، بمعنى أن المولى لو سئل عن المقدمة
لطلبها، ولا محذور في الالتزام بالتسلسل في ذلك، بمعنى أن كل ما يفرض
مقدمة للغرض المقتضى للطلب، وان لم يطلب فعلا، لعدم الداعي لفعلية طلبه
بعد اقتضاء الخطاب النفسي الاتيان به عقلا. وهذا يجرى في الوجه الثالث لو
قرر بالتسلسل أيضا. فتأمل جيدا.
الخامس: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من لزوم الدور، حيث
يستلزم كون ذي المقدمة مقدمة لها.
وكأنه لان تحقق منشأ القيد - وهو في المقام الايصال المنوط بوجود ذي
المقدمة مما يتوقف عليه وجود المقيد - وهو في المقام المقدمة الموصلة - بما
هو مقيد.
ويندفع: بأنه ليس المدعى هو دخل الايصال في مقدمية المقدمة، لتبعية
مقدميتها لخصوصية ذاتها المشتركة بين الموصلة وغيرها من أفراد ماهية
المقدمة، بل في وقوعها على صفة الوجوب، فالواجب النفسي موقوف على
ذات المقدمة، وماهيتها، وهي غير موقوفة عليه، وانما الموقوف عليه وقوعها
على صفة الوجوب.
السادس: ما ذكره هو قدس سره أيضا من أن تقييد المقدمة الواجبة بترتب ذي
المقدمة عليها يرجع إلى تقييد الواجب بما لا يمكن انفكاك الواجب عنه على
تقدير تحققه، ومثل ذلك مستحيل، لأنه يؤول إلى اشتراط الواجب وتقييده
بوجود نفسه.
ولعله يريد أن المقدمة لما كانت قيدا في الواجب النفسي، فإذا كان هو
قيدا فيها لزم كونه قيدا لنفسه.
وفيه.. أولا: أن الايصال لا يستلزم وجود الواجب النفسي على اطلاقه، بل
خصوص ما يقارن القيد منه وليس هو ملازما لماهية الواجب النفسي، ليمتنع
277

رجوع تقييده بالمقدمة للتقييد به، بل هو أخص منه، ولا محذور في تقييده به.
وثانيا: أن تقييد المقدمة الواجبة بالايصال لا يستلزم تقييد الواجب
النفسي به، كيف ومقدمية المقدمة من أصلها قد لا تبتنى على تقييد الواجب
النفسي بها، لكونها تكوينية، مع وضوح عموم الكلام في الموصلة لها.
بل لزوم وجود المقدمة الموصلة مقتضى مقدمية المقدمة على اطلاقها،
ولذا لا اشكال في عدم كفاية المقدمة غير الموصلة، سواء قيل باختصاص
الوجوب بالموصلة أم لا.
غاية الامر أن القائل بعدم الاختصاص يقول بوقوع غير الموصل على
صفة الوجوب أيضا، وهذا الوجه لا ينهض باثبات ذلك.
وبعبارة أخرى: تقييد المقدمة الواجبة بالايصال لا يستلزم تقييد الواجب
النفسي به، لعدم تقييد الواجب النفسي بأصل المقدمة، فضلا عن ايصالها. غاية
الامر أنه قد يكون مقيدا بما يتوقف تحققه على فعل خارج عنه مباين له - كتقييد
الصلاة بالطهارة والستر - فيكون فعله مقدمة شرعية اصطلاحا، والقيد حينئذ هو
ذلك الامر بذاته على النحو الذي يقتضيه التقييد، غايته أن فعل ما يحققه..
تارة: لا يوصل التحقق المقيد، بل لمجرد سد باب عدمه من جهته.
وأخرى: يوصل إليه، والمدعى هو اختصاص الوجوب الغيري بالثاني،
وأنه لا يعم الأول، ولا دخل لذلك بالواجب النفسي بوجهه، بل هو تابع لتحديد
الغرض من الواجب الغيري، الذي تقدم الكلام فيه. فتأمل جيدا.
هذا، والوجوه الأربعة الأخيرة مبنية على أمرين:
الأول: أن ايصال المقدمة منتزع من ترتب ذي المقدمة عليها.
الثاني: أن اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة راجع إلى أخذ عنوان
الايصال قيدا في المقدمة الواجبة، كسائر القيود المأخوذة في بعض المقدمات،
نظير الطهارة في الساتر.
278

وقد أنكر بعض المحققين قدس سره الأول، مدعيا أن ايصال المقدمة منتزع من
بلوغها إلى حيث يمتنع انفكاكها عن ذيها، فهو ملازم لترتب الواجب، لا أنه
منتزع منه.
ولا يخفى أن عنوان الايصال لم يؤخذ بنفسه في موضوع دليل لفظي،
ليهتم بتحديد مفهومه ومنشأ انتزاعه، وانما وقع التعبير به في كلام الفصول في
مقام تحديد الواجب من المقدمة، فلو فرض تمامية المحاذير المتقدمة أمكن
التخلص منها بالمنع من أخذ الايصال بالمعنى المنتزع من ترتب ذي المقدمة
والالتزام بأن المأخوذ هو الايصال بالمعنى المنتزع مما ذكره قدس سره أو نحوه مما لا
يستلزم المحاذير المذكورة، عملا بما تقدم من الأدلة على عدم وجوب مطلق
المقدمة وان لم تكن موصلة.
بل يمكن انكار الامر الثاني رأسا وهو ابتناء اختصاص الوجوب
بالمقدمة الموصلة على أخذ عنوان الايصال قيدا في المقدمة الواجبة بالالتزام
بأن الواجب هو الفرد الموصل بذاته لا بقيده كما جرى عليه بعض الأعيان
المحققين قدس سره - وليس ذكر الايصال الا للإشارة إلى الفرد المذكور، الذي هو مورد
الغرض، فهو عنوان تعليلي كعنوان المقدمة، لا تقييدي.
وكلام الفصول لا يأبى الحمل على ذلك وان نسب إليه الالتزام بالتقييد،
لعدم ظهور كلامه في التوجه لهذه الجهة، والتقييد - لو فرض منه التعبير به أو بما
يرجع إليه - أعم من دخل القيد في موضوع الحكم، بل قد يراد به مجرد
اختصاص متعلق الوجوب بالموصل، الذي يظهر منه قدس سره أنه المهم في المقام.
وأما ما ذكره بعض السادة المعاصرين قدس سره من أن تحصص الطبيعة انما
يكون بواسطة تقييدها بقيد، فالحصة هي الطبيعة المقيدة بقيد، بحيث يكون
التقييد داخلا والقيد خارجا، ومع قطع النظر عن القيد والتقييد لا حصة في البين.
فهو لا يخلو عن غموض.
279

إذ لو أريد بتحصص الطبيعة تحصيصها خارجا، فهو لا يتوقف على
التقييد، لان كل حصة متميزة بنفسها وبخصوصياتها المقارنة لها خارجا، ولو مع
اطلاق الطبيعة في مقام جعل الحكم عليها.
ولو أريد به تحصصها ذهنا في مقام جعل الحكم عليها، ليقصر الحكم
عن باقي الحصص. فهو مسلم، الا أنه لا يستلزم دخل القيد في الحكم، بحيث
يقتضى وجوب منشأ انتزاعه، بل غاية ما يلزم هو أخذه أو أخذ ملازمه لمحض
الإشارة للحصة المقارنة له.
غاية الامر أن ظاهر التقييد بالعنوان في لسان الأدلة دخله في الحكم
وترتب الغرض. لكن لا يعول عليه في فرض لزوم محذور عقلي. بل لا موضوع
له فيما لو لم يكن دليل الحكم لفظيا، بل عقليا، كما في وجوب المقدمة.
وقد تقدم في تقسيم المقدمة إلى شرعية وتكوينية ما له نفع في المقام.
على أن تميز الحصة ذهنا انما يحتاج إليه إذا كان الحكم مجعولا جعلا
استقلاليا، إذا كان الحكم تبعيا ارتكازيا - كوجوب المقدمة غيريا، على ما سبق -
فلا يحتاج إلى لحاظ الموضوع وتحديده بالعنوان ليلزم التقييد لو كان مختصا
ببعض حصص الماهية، بل هو تابع للغرض الارتكازي سعة وضيقا، فإذا
اختص الغرض ببعض الحصص من الماهية - كالموصل في المقام، على ما ذكرنا -
لزم اختصاص الحكم تبعا له به، من دون حاجة لتحديده بالعنوان والقيد.
وقد يظهر من جميع ما تقدم أنه لا محذور في البناء على اختصاص
الداعوية التبعية والوجوب الغيري - لو قيل به - بالمقدمة الموصلة.
بل الانصاف: أن وضوح اختصاصهما بها يجعل الوجوه المذكورة من
سنخ الشبهة في مقابل البديهة، فلا ينبغي إطالة الكلام فيها لولا صدورها من
أعيان الفن وأعلام التحقيق ممن لا ينبغي تجاهل كلامهم والاعراض عن
مطالبهم، شكر الله تعالى سعيهم وقدس أسرارهم، ونفعنا ببركة تحقيقاتهم
280

وافاداتهم وجزاهم عنا خير الجزاء.
وقد أعرضنا عن بعض ما ذكروه في المقام، لعدم أهميته أو عدم دخله في
اثبات اختصاص الواجب من المقدمة بالموصلة أو عمومه لغيرها، الذي هو
المهم في المقام، فلا يسعنا إطالة الكلام فيه زائدا على ما سبق مما لم يسعنا
الاعراض عنه لما ذكرنا. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق. وهو حسبنا ونعم
الوكيل.
ثم إن الثمرة المهمة للنزاع في المقدمة الموصلة هو ما ذكرناه في الوجه
الأول للاستدلال عليها، وأشرنا إليه عند الكلام في ثمرة القول باعتبار قصد
التوصل، من أن المقدمة لو كانت محرمة في نفسها فعلى القول باختصاص
الوجوب بالمقدمة الموصلة يختص ارتفاع الحرمة بالفرد الموصل، وعلى القول
ترفع الحرمة حتى عن غير الموصل.
لكنهم لم يتعرضوا بوجه معتد به للثمرة المذكورة، وانما تعرضوا لغيرها
مما يتعلق بمسألة الضد لا يسعنا إطالة الكلام فيها، وربما يأتي في مسألة الضد ما
يتعلق بذلك.
281

المبحث الثالث
في تحديد داعوية المقدمة
حيث ذكرنا في أول الفصل أن فعلية الداعي العقلي أو نحوه نحو الشئ
يستتبع فعلية الداعي المسانخ له نحو مقدمته.
فلا ينبغي التأمل في أن مقتضى ذلك تبعية الداعي التبعي نحو المقدمة
للداعي الأصلي نحو ذيها سعة وضيقا، لأنه مقتضى تبعيته له في أصل وجوده،
وحيث كانت الداعوية الأصلية نحو ذي المقدمة ملازمة للتكليف النفسي به،
وكان وجوب المقدمة غيريا على القول به متفرعا على الداعي التبعي
المذكور لها وتابعا لها سعة وضيقا اتجه ما ذكروه من تبعية الوجوب الغيري
على القول به - للوجوب النفسي في الاطلاق والاشتراط، فلا يعقل اشتراط
أحدهما بشئ واطلاق الاخر من جهته.
ووضوح ذلك يغنى عن إطالة الكلام فيه.
وهم وان ذكروا ذلك في الوجوب الغيري الا أنه ناشئ عن كونه هو المهم
عندهم في البحث عن المقدمة، مع أنه في الحقيقة مبتن على التبعية في الاطلاق
والاشتراط بين الداعويتين، وأثر التحديد يظهر فيهما حتى بناء على المختار من
عدم ثبوت الوجوب الغيري للمقدمة.
ومن ثم عقدنا لذلك بحثا مستقلا عن بحث الملازمة، تابعا لأصل
المقدمة ومتفرعا على داعويتها المذكورة.
هذا، ويظهر من المعالم ما ينافي التبعية المذكورة، حيث ذكر أنه يمكن
تصحيح العبادة إذا كانت ضدا لواجب، حيث لا تقع محرمة حتى بناء على
283

وجوب مقدمة الواجب وأن من مقدماته ترك ضده الخاص.
وقال في تقريب ذلك: (وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة - على
تقدير تسليمها - انما تنهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلف مريدا
للفعل المتوقف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر. وحينئذ فاللازم
عدم وجوب ترك الضد الخاص في حال عدم إرادة الفعل المتوقف عليه من
حيث كونه مقدمة له...).
وظاهره اختصاص وجوب المقدمة بما إذا أريد ذوها، مع وضوح عدم
اختصاص وجوب ذيها بالحال المذكور، وهو ينافي ما سبق من تبعية وجوب
المقدمة لوجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط.
ولا مجال للبناء عليه بعد ما ذكرنا، بل لابد من البناء على فعلية الداعوية
نحو المقدمة ووجوبها الغيري - لو قيل به - تبعا لفعلية وجوب ذيها حتى في
حال عدم ارادته.
نعم، لو جئ بالمقدمة حال عدم إرادة ذيها لم تقع موردا للداعوية ولا
على صفة الوجوب بناء على ما تقدم في المبحث السابق من اختصاص
الداعوية والوجوب بالمقدمة الموصلة.
الا أن يترتب ذوها عليها، فينكشف وقوعها موردا للداعوية وعلى صفة
الوجوب، على خلاف ما قصد بها.
وكأن هذا منه قدس سره وما تقدم من شيخنا الأعظم قدس سره من اعتبار قصد التوصل
في وقوع المقدمة على صفة الوجوب، مبنيان على اختصاص الداعوية
والوجوب بالمقدمة الموصلة، غايته أن الاختلاف مسبب عن الاشتباه في
تحديد مورد الارتكاز واختلاف مؤداه.
ثم انه يتفرع على ما سبق من تبعية داعوية المقدمة ووجوبها - لو قيل به -
لوجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط الكلام المشهور في المقدمات المفوتة،
284

وهي التي لو لم يؤت بها قبل وقت الواجب تعذر الاتيان بها في وقته، فيفوت
الواجب، حيث يشكل البناء على وجوبها ولزوم تهيئتها قبل الوقت بعد فعلية
وجوب ذيها حينئذ، فكيف تجب مقدمته عقلا أو شرعا، لمنافاته لما سبق من
التبعية المذكورة.
ومن هنا تصدى الأصحاب لدفع الاشكال المذكور وتوجيه وجوب
المقدمة في الفرض شرعا أو عقلا بما لا ينافي ما سبق.
وقد ذكروا وجوها لابد من التعرض لها والنظر فيها..
الأول: ما تقدم من الفصول من الالتزام بالواجب المعلق برجوع قيد
الوقت للمكلف به لا للتكليف.
واليه يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من رجوع القيد للهيئة لا للمادة، كما
تقدم في تقسيمات الواجب. حيث يكون مقتضى ذلك فعلية الداعوية نحو
المكلف النفسي قبل الوقت - تبعا لفعلية التكليف به - فيلزم حفظ القدرة عليه
بفعل مقدمته المذكورة، فتكون فعلية داعويتها قبل الوقت تابعة لفعلية داعوية
ذيها.
بل لو تم ذلك اقتضى فعليه الداعوية للمقدمات غير المفوتة وهي التي
يمكن تحصيلها في الوقت - أيضا، لان فعلية الداعوية للمقدمة - تبعا لفعلية
الداعوية لذيها - تقتضي السعي لتحصيلها، غايته أنه مع تضيق وقتها تلزم
المبادرة، ومع عدمه لا تلزم، نظير الواجب الفعلي مع سعة وقته.
هذا، وقد سبق منا في مبحث الواجب المعلق أنه ممكن ثبوتا.
ولكنه يحتاج إلى اثبات، وأن ما ذكره في الفصول من ظهور الدليل في
رجوع التقييد بالوقت للمكلف به غير تام، وكذا ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من
لزوم رجوع جميع القيود له. فراجع.
الثاني: ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره على مسلكه في التكليف
285

المشروط من أنه فعلى قبل فعلية شرطه خارجا، وأن المنوط بفعلية الشرط هو
فعلية محركيته، حيث التزم في المقام في دفع اشكال المقدمات المفوتة بأن
المتوقف على فعلية الشرط هو محركية التكليف المشروط نحو نفس المكلف
به، وأما محركيته نحو مقدماته فهي غير موقوفة عليه، بل تابعة لفعلية التكليف
بذيها وان لم يكن محركا نحوه، ولازم ذلك وجوب التحرك قبل الشرط
للمقدمات المفوتة مضيقا ولغير المفوتة موسعا، نطير ما تقدم على الوجه الأول.
ويشكل.. أولا: بضعف المبنى المذكور، على ما أوضحناه بتفصيل في
مبحث استصحاب الحكم مع الشك في نسخه، حيث ذكرنا هناك أن فعلية
الحكم تابعة لفعلية شرطه على النحو الذي اخذ فيه.
وثانيا: بأن وجه تبعية الداعوية نحو المقدمة ووجوبها الغيري للداعوية
نحو ذيها ووجوبه النفسي كما يقتضى بتبعيتهما لهما في الفعلية يقتضى تبعيتهما
لهما في المحركية، كما يساعده الرجوع للارتكازيات التي هي الدليل على أصل
التبعية بينهما.
كيف وقد التزم قدس سره - بناء على المبنى المذكور - بفعلية التكليف المشروط
حتى مع عدم تحقق الشرط أصلا وان لم يكن محركا نحو متعلقه، فلو كانت
محركيته نحو مقدمته تابعة لفعليته لا لمحركيته نحو متعلقه لزم فعلية المحركية
نحو المقدمة مطلقا حتى مع العلم بعدم تحقق الشرط في حق المكلف أصلا،
وهو بديهي البطلان.
الثالث: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من الالتزام بوجوب المقدمة بمتمم
الجعل، بتقريب: أنه لما كان المفروض تمامية الملاك في ظرفه وفعلية تعلق
الغرض بالواجب حينئذ فالعقل يحكم بوجوب حفظ القدرة بفعل المقدمة التي
يكون تركها مفوتا للواجب في ظرفه، لوجوب حفظ الغرض، ولا يكون فوته
في وقته بتفويتها في وقتها عذرا، لان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، ولا
286

يمنع من العقاب.
وحينئذ يستكشف بقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع
وجوب المقدمة شرعا في ظرف القدرة عليها، ومثل هذا الوجوب يكون متمما
للجعل الأول - وهو جعل التكليف النفسي لذي المقدمة - لعدم وفاء الجعل
المذكور بغرضه الا به.
وفيه: أنه بعد فرض حكم العقل بوجوب حفظ الغرض وقبح تفويته
يكون الحكم المذكور كافيا في محركية المكلف نحو المقدمة المفروضة التي
يتوقف عليها حفظ الغرض، لرجوعه إلى استحقاق العقاب بتفويت الغرض
بتركها، ومع ذلك لا حاجة للجعل الشرعي على طبقه الذي يكون متمما للجعل
الأول، إذ ليس الغرض من الجعل المذكور الا احداث الداعي العقلي المفروض
حدوثه في رتبة سابقة على الحكم، فالحكم العقلي المذكور نظير حكمه
بوجوب الإطاعة وقبح المعصية الذي يلغو معه الجعل الشرعي على طبقه.
وهذا وان جرى في أصل وجوب المقدمة - كما سبق - الا أنه كان المدعى
تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها ارتكازا بلا حاجة لجعل استقلالي، حتى
قيل: انه وجوب قهري، كما سبق.
فان كان المدعى ذلك في المقام رجع إلى دعوى عموم وجوب المقدمة
التبعي الارتكازي للمقدمات المفوتة، وأنه لا مانع من فعلية وجوب المقدمة
وداعويتها قبل وجوب ذيها بلا حاجة إلى متمم الجعل.
وان كان المدعى وجوب المقدمات المفوتة بجعل استقلالي لا يقتضيه
وجوب ذيها أشكل بما ذكرنا من عدم الحاجة إليه مع حكم العقل المذكور،
لكفايته في المحركية.
وأما الحكم العقلي الذي يستتبع الحكم الشرعي بناء على تمامية قاعدة
الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وان سبق منا المنع منها في الفصل
287

الأول من مبحث الملازمات العقلية - فهو الحكم بمجرد الحسن والقبح من دون
أن يرجع إلى استحقاق العقاب والثواب، حيث لا يكفي ذلك في محركية
المكلف وجريه على طبقه ما لم يستتبع حكم الشارع وجعله المستتبع للعقاب
والثواب بنظر العقل، فيجب على الشارع الجعل حفظا لمقتضى حكم العقل.
اللهم الا أن لا يريد من وجوب حفظ الغرض عقلا وجوبه على المكلف،
بنحو يستتبع استحقاق العقاب والثواب، بل وجوبه على الشارع، بتقريب أنه
كما يجب على الشارع حفظ الملاك الفعلي بجعل التكليف على طبقه في وقته
يجب عليه حفظه بالتكليف قبل الوقت بالمقدمة التي يتوقف حفظ المكلف به
في وقته بالاتيان بها حينئذ.
لكنه مخالف لظاهر كلامه جدا - وان ناسب بعض فقراته - خصوصا مع
استدلاله بقاعدة أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، لوضوح رجوعها إلى أن
التفويت بالاختيار الذي هو فعل المكلف مورد للمسؤولية عقلا.
على أن من الظاهر أن وجوب حفظ الملاك على الشارع بالتكليف
بالمقدمة السابقة على الوقت فرع أهميته بالنحو المقتضى لذلك، لاختلاف
الملاكات في ذلك، ولا طريق لاحراز ذلك الا من طريق الشارع، ومرجع ذلك
إلى توقف وجوب المقدمة المفوتة على الدليل الخاص الذي هو خارج عن
محل الكلام، ولا يكفي فيه اطلاق دليل الواجب المقتضى لفعلية التكليف في
الوقت مع ما هو المعلوم من توقف فعلية التكليف على القدرة، وفرض أن
وجوب حفظ القدرة بفعل المقدمة المفوتة تابع لجعل خاص غير محرز.
وهذا بخلاف ما لو تم حكم العقل بالوجه الأول، لرجوعه إلى أن فعلية
التكليف في الوقت مع القدرة تبعا لفعلية ملاكه - المفروض احرازها باطلاق
دليله - كما يقتضى حكم العقل بوجوب امتثاله في وقته مع القدرة عليه، بنحو
يستتبع العقاب والثواب، كذلك يقتضى حكمه بالنحو المذكور بوجوب حفظ
288

القدرة عليه بفعل المقدمة المفوتة وقبح تفويته بتركها، بلا حاجه إلى جعل
شرعي، لأنه من شؤون إطاعة التكليف ولواحقها.
وأشكل من ذلك ما ذكره قدس سره من أن متمم الجعل المذكور يقتضى حفظ
الواجب في وقته ووجوب مقدمته المفوتة شرعا حتى لو كان وقت المقدمة
سابقا على البلوغ.
إذ فيه: أن ذلك مناف لاطلاق دليل رفع القلم عن الصبي.
وأما ما ذكره قدس سره من أن البلوغ انما يكون شرطا للتكاليف الشرعية التي لم
تستكشف بقاعدة يستقل العقل بها، دون ما استكشف من استقلال العقل
بحكم، حيث يستحيل اشتراط تلك التكاليف بالبلوغ وعدم تحققها قبله،
لمنافاته للحكم الذي استقل به العقل، كما في وجوب المعرفة في الأصول
الاعتقادية قبل البلوغ، فان العقل يستقل به لأجل أن يكون المكلف مؤمنا في
أول زمان بلوغه، ولا يتخلف عنه في أول أزمنته بالمقدار الذي يقتضيه الفحص.
فهو كما ترى! لوضوح أن حكم العقل المذكور. ان أريد به حكمه في حق
المكلف بوجوب حفظ غرض المولى في وقته، المستفاد من فعلية تكليفه
حينئذ، فهو متفرع على التكليف الشرعي المذكور وفى طوله، وراجع لاستحقاق
العقاب على مخالفته، فمع حكم الشارع نفسه برفع القلم عن الصبي لا مجال
لحكم العقل المذكور، إذ مع تفريط الصبي في المقدمة فالعقاب على فوت
الواجب في وقته ان كان بلحاظ تفريطه حال صباه فهو مخالف لرفع القلم عن
الصبي، وان كان بلحاظ تركه للواجب بعد البلوغ فالمفروض تعذره في حقه.
ومرجع ذلك إلى أن مقتضى الجمع بين اطلاق دليل الحكم المقتضى
لفعليته في الوقت واطلاق حديث رفع القلم توقف فعلية الحكم في الوقت على
قدرة المكلف بعد بلوغه على حفظه، بأن تتحقق المقدمة في الفرض قبل
البلوغ، لعدم تمامية ملاكه بنحو يقتضى الالزام الا حينئذ، لا عموم فعليته تبعا
289

لتمامية ملاكه الملزم بالنحو المقتضى لوجوب المقدمة قبل البلوغ.
وان أريد به حكمه في حق الشارع بوجوب حفظ الغرض والملاك
بتشريع وجوب المقدمة المفوتة، فهو متفرع على أهمية الملاك بالنحو
المذكور، ومقتضى اطلاق حديث رفع القلم عن الصبي عدم أهميته بهذا النحو.
وبعبارة أخرى: لما كان عموم رفع القلم عن الصبي حاكما على اطلاقات
التكاليف الأولية - ومنها وجوب المعرفة والايمان - فهو كما يقتضى عدم فعليتها
في حق الصبي واختصاصها بالبالغ كذلك يقتضى عدم فعليتها في حق البالغ
بالنحو الملزم للصبي بالمحافظة عليها بفعل المقدمات المفوتة، بل تختص
فعليتها في حقه بما إذا كان قادرا على حفظها بعد بلوغه، بأن تحققت منه
المقدمة المفوتة في الفرض حال الصبي، من دون ان يكون مكلفا بها أو مسؤولا
عنها حينئذ.
ونظير دليل رفع القلم عن الصبي سائر أدلة الرفع الثانوية، كرفع الحرج
والضرر والاكراه لو فرض انطباق عناوينها على المقدمات المفوتة دون الواجب
في وقته، حيث لا اشكال ظاهرا في أن مقتضى حكومتها على عمومات
التكاليف الأولية قصور التكاليف الأولية عن اقتضاء حفظ القدرة عليها بفعل
المقدمات المذكورة، بل اختصاص فعليتها بما إذا كانت مقدورة من دون أن
تستلزم الوقوع ولو من حيثية المقدمة المفوتة في ما ينافي دليل الرفع كالحرج
والضرر ونحوهما.
ولا يختص ذلك بالمقدمات المفوتة، بل يجرى في غيرها أيضا إذا كان
ارتفاع الصبا أو الاكراه أن نحوهما من عناوين الرفع في آخر الوقت، بنحو لو لم
يأت بالمقدمة في الوقت حال الصباء أو الاكراه مثلا لتعذر الواجب بعده، كل ذلك
لاطلاق أدله الرفع.
وأما ما اشتهر من امتناع رفع اليد عن حكم العقل بحكم الشرع أو غيره.
290

فهو مختص بالمستقلات العقلية، كحكم العقل بحسن بعض بعض الأمور أو
قبحها، وبمثل امتناع اجتماع النقيضين.
وأما أحكامه المتفرعة على أحكام الشارع والتابعة للملاكات المدركة له
فلابد من البناء على سلطان الشارع عليها تبعا لسلطانه على حكمه بتخصيصه،
بل تخصيصه لحكمه انما يستلزم قصورها موضوعا وتخصصا في مورد
التخصيص، لا تخصيصها، ليدفع بامتناع تخصيص الحكم العقلي، كما يظهر منه
قدس سره في المقام.
نعم، لما كان عموم رفع القلم ونحوه شرعيا أمكن تخصيصه في بعض
الموارد. الا أنه يحتاج إلى دليل خاص، وهو خارج عن محل الكلام.
ثم انه قد حكى في التقريرات عن المحقق التقى في حاشيته على المعالم
أن المقدمات المفوتة واجبة بوجوب أصلى وان كانت الحكمة الباعثة على
تعلق الطلب بها تحصيل ملاك الواجب في الوقت بلحاظ أنها توصل للواجب
المذكور، حيث يكون بسببها مقدورا عليه قابلا لان يكلف به.
ولا يخفى رجوع ذلك إلى الوجه الثاني الذي ذكرناه في تعقيب كلام
بعض الأعاظم قدس سره. غايته أنه لم يصرح باستكشافه بطريق العقل.
فان كان مراده ذلك بالتقريب المتقدم اتجه عليه ما سبق من توقفه على
أهمية ملاك التكليف الموقت، ولا بد في احرازها من دليل خاص.
وان كان مراده مجرد توجيهه في ظرف وقوعه لم ينفع في اثبات وقوعه
واحتاج للدليل الخاص.
على أنه ذكر أن التكليف المذكور يستتبع العقاب، وان عده غيريا محل
تأمل، بل لا يبعد كونه نفيسا. وظاهره أن مخالفته تقتضي العقاب عليها، لا على
فوت الواجب الموقت المسبب عنها. وهو مخالف للمرتكزات العقلائية التي
هي المرجع في العقاب والثواب، بل الظاهر أن ترك المقدمات المفوتة كترك
291

بقيه المقدمات لا يكون مردا للعقاب الا بلحاظ أدائه لترك ذي المقدمة الذي هو
مورد الملاك والغرض الأصلي.
ومن ثم يكون كلام بعض الأعاظم قدس سره من هذه الجهة أقرب للمرتكزات.
الرابع: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من أن تبعية وجوب المقدمة لوجوب
ذيها في الاطلاق والاشتراط وان كان مسلما لما سبق من تبعية وجوبها لوجوبه
وأنه في طوله - الا أن ذلك انما يقتضى إناطة وجوب المقدمة بما أنيط به وجوب
ذيها من دون أن يستلزم اتفاقهما في نحو الإناطة، بل يمكن أن يكون الشرط
الواحد دخيلا في وجوب ذي المقدمة بنحو الشرط المتقدم أو المقارن، وفى
وجوب نفس المقدمة بنحو الشرط المتأخر، ولا ملزم باتحاد نحو الإناطة في
الوجوبين.
ولا يخفى أن نحو النسبة بين الوجوب النفسي والغيري تابع لجهات
ارتكازية غير خاضعة للتصرف الشرعي، فإذا أمكن اختلاف نحو الإناطة فيهما
بالوجه المذكور فلا وجه لاختصاص ذلك بالمقدمات المفوتة، بل يجرى في
غيرها أيضا.
غايته أن الواجب خصوص ما يترتب عليه الغرض، وهو التوصل لذي
المقدمة، فان اختص بما قبل وقت الواجب اختص الوجوب به، وكانت المقدمة
مفوتة، وان عمه وغيره مما يكون بعد الوقت كان الواجب هو الأعم، ويكون
وجوبه من قبل الوقت موسعا، كما هو الحال في كثير من المقدمات، وان اختص
بما يكون في الوقت اختص الوجوب به، كما قد يختص بما يكون بعد الوقت،
كشروط الواجب المتأخرة عنه، كغسل المستحاضة الليلي الذي قيل بأنه شرط
في صحة الصوم الواقع منها في النهار.
هذا، وقد اقتصر قدس سره في مبحث شروط البراءة الشرعية من حقائقه وكتاب
292

الصوم من مستمسكه (1) في تقريب هذا الوجه على ما تقدم.
وحينئذ يشكل: بأن تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الاطلاق
والاشتراط تبتنى - كما تقدم - على تبعية الداعوية نحو المقدمة للداعوية نحو
ذيها، بلحاظ أن حدوث الداعي العقلي أو غيره نحو الشئ يستتبع حدوث
الداعي المسانخ له نحو مقدمته.
ومقتضى ذلك التقارن بين الداعويتين وعدم انفكاك إحداهما عن
الأخرى خارجا، وذلك كما يقتضى إناطة كل منهما بما يناط به الاخر يقتضى
اتفاقهما في نحو الإناطة.
ودعوى: أن كيفية إناطة التكليف بالشرط تابعة لنحو دخل الشرط في
فعلية غرضه، وحيث كان غرض التكليف بالمقدمة هو تحصيل ذيها وترتبه
عليها، فإذا كان ترتبه موقوفا على سبق المقدمة على الشرط تعين وجوبها قبله،
وان كان وجوب ذيها لاحقا له، لان دخله في غرضه وملاكه يقتضى ذلك.
مدفوعة: بأن ذلك انما يفي بتوجيه كون المقدمة الواجبة هي المقدمة
السابقة على الشرط، لأنها هي التي تفي بالغرض المقتضى لوجوبها، دون
غيرها، ولا ينهض بتوجيه سبق وجوبها عليه مع عدم فعلية وجوب ذيها.
لكنه قدس سره دفع الاشكال المذكور في أوائل فصل الوضوءات المستحبة من
مستمسكة، بأن الشرط للامر النفسي ليس هو الوجود الخارجي للامر المنوط
به، كي لا يكون فعليا قبله ويمتنع فعلية الامر الغيري، بل الوجود الذهني له،
فقبل تحقق الشرط خارجا يكون الامر النفسي حاصلا، لكنه منوط بالشرط، فلا
مانع من أن يكون مثل هذا الامر المنوط بالشرط مستتبعا لأمر غيري منوط أيضا
293

بذلك الشرط، لكن على نحو آخر من الإناطة.
وهو مبتن على ما تقدم من بعض الأعيان المحققين قدس سره من فعلية الواجب
المشروط ولو مع عدم فعلية شرطه، وأن المنوط بفعلية وجود الشرط خارجا
هو فعلية محركيته.
فيرجع ما ذكره قدس سره إلى أن كلا من الوجوب النفسي والغيري فعلى قبل
تحقق الشرط، والمنوط بوجود الشرط خارجا هو محركيتهما، غايته أن
اختلافهما في الإناطة بالوجه المتقدم منه قدس سره يقتضى كون محركية الوجوب
النفسي نحو ذي المقدمة مقارنة أو متأخرة عن وجود الشرط، لأنه بالإضافة إليها
شرط مقارن أو متقدم، ومحركية الوجوب الغيري نحو المقدمة سابقة على
وجود الشرط، لأنه بالإضافة إليها شرط متأخر.
ولا فرق بينه وبين ما تقدم من بعض الأعيان المحققين قدس سره في الوجه
الثاني، الا أن مقتضى هذا الوجه تبعية محركية الامر الغيري نحو المقدمة
لمحركية الامر النفسي نحو ذيها في الاشتراط والإناطة وان اختلف نحوهما،
بخلاف ذلك الوجه، حيث يظهر منه عدم إناطة المحركية نحو مقدمة الواجب
المشروط بالشرط أصلا.
ولذا تقدم الايراد عليه بأن لازمه فعليه محركية الواجب المشروط نحو
مقدمته حتى مع العلم بعدم وجود الشرط أصلا، ولا يرد ذلك على هذا الوجه.
نعم، يرد عليه - مضافا إلى ما تقدم من ضعف المبنى المذكور في الواجب
المشروط من فعليته ولو مع عدم تحقق الشرط - أن الجهة الارتكازية القاضية
بتبعية الداعوية نحو المقدمة ووجوبها الغيري للداعوية نحو ذيها ووجوبه
النفسي كما تقتضي التقارن بين الداعويتين والوجوبين المذكورين - على ما
تقدم - تقتضي التقارن بين محركيتيهما، حيث تكون محركية الداعوية
والوجوب الغيري في طول محركية الداعوية والوجوب النفسي، ولا نتعقل
294

انفكاكها عنها.
وأما ما قد يظهر منه قدس سره في مبحث شروط البراءة من حقائقه من تقريب
امكان انفكاكها عنها بأنه لا ريب في أن الوجوب المطلق إذا كان لمتعلقه
مقدمات لا يصلح للمحركية الا بعد فعل المقدمات، والوجوب الغيري له فعلية
المحركية إلى تلك المقدمات، فإذا جاز اختلافهما في هذا المقدار جاز
اختلافهما في غيره.
فهو كما ترى! لوضوح أن محركية الوجوب الغيري في الوقت للمقدمة
فرع محركية الوجوب النفسي لذيها وفى طولها، لان الاتيان به انما يكون من
طريقها، والآتيان بها جرى للاتيان به وشروع في امتثال أمره، الذي هو فرع
محركيته، فلا انفكاك بين محركيتيهما.
ولا وجه مع ذلك لقياسه بالمقام المفروض فيه فعلية المحركية نحو
المقدمة، مع عدم محركية ذيها، لكون المحركية لها سابقة على وجود الشرط
والمحركية لذيها لاحقة له، لاختلاف نحو إناطتهما به.
ومن هنا كان الظاهر عدم تمامية ما ذكره قدس سره في دفع الاشكال وان حاول
تتميمه في كلماته المتفرقة المشار إليها. فلاحظ.
الخامس: ما ذكره بعض المعاصرين في أصوله متمما به الوجه الذي
نسبه لشيخه بعض المحققين قدس سره الذي لا مجال لإطالة الكلام فيه، لعدم دخله في
دفع الاشكال، وانما يتكفل بحله المتمم المذكور.
وحاصله: أن الامر بالواجب قبل وقته وان لم يكن فعليا الا ان عدم فعليته
ليس لدخل الوقت في مصلحة الواجب وملاكه، بل للمانع، بلحاظ استلزام
البعث للانبعاث، فمع امتناع البعث نحو الواجب، لعدم حضور وقته يمتنع
البعث نحوه، وان تم ملاكه، وحيث كان المانع مفقودا في المقدمة، لفرض
حضور وقتها فيمكن الانبعاث نحوها تعين فعلية البعث نحوها وثبوت الامر
295

بها. من دون أن ينافي كبرى تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الاطلاق
والاشتراط، لان الكبرى المذكورة انما تمنع من فعلية وجوب المقدمة قبل
وجوب ذيها في ظرف عدم تمامية ملاك وجوب ذيها، لا مع تمامية ملاكه
ووجود المانع من فعلية البعث نحوه.
ومرجع ما ذكره قدس سره إلى أن وجوب المقدمة لا يتبع وجوب ذيها في
الاطلاق والاشتراط، وانما يتبع تمامية ملاك وجوبه فيهما وان لم يكن وجوبه
فعليا لمانع خارجي، كعدم حضور وقته.
لكنه - لو تم - لا يفي بدفع الاشكال، إذ هو مع ابتنائه على عدم دخل
الوقت في ملاك الواجب، وهو يحتاج للاثبات بعد فرض قصور اطلاق الامر
عن اثبات فعليته قبل الوقت، لامتناعها - انما يدفع الاشكال في المقدمات التي
يمكن الاتيان بها بعد تمامية ملاك الواجب النفسي قبل فعليه وجوبه، ولا يمكن
الاتيان بها بعد فعلية وجوبه، دون المقدمات التي لا يمكن الاتيان بها الا قبل
تمامية ملاك الواجب النفسي، لعدم تمامية موضوعه، كما لو علم بتعذر شراء
الدواء للمريض الا قبل مرضه أو تعذر شراء الطعام للضيف الا قبل مجيئه، مع
العلم بأنه سوف يتحقق المرض وسوف يأتي الضيف.
فلعل الأولى توجيه وجوب المقدمات المفوتة بما ذكره غير واحد.
وحاصله: أن العقل كما يحكم بوجوب امتثال التكليف الفعلي في وقته
يحكم بكونه منشأ للمسؤولية على المكلف قبل وقته بنحو يقبح منه تعجيز
نفسه عن امتثاله، لقبح تفويت غرض المولى الفعلي في وقته، والعجز انما يكون
عذرا عقلا إذا لم يستند للمكلف. فللتكليف والغرض قبل الوقت نحو من
الداعوية العقلية تقتضي حفظ القدرة عليه، كما يكونان في الوقت موضوعين
للداعوية العقلية للامتثال.
ويكفي في استيضاح ما ذكرنا الرجوع للمرتكزات العقلية والعقلائية في
296

التكاليف الشرعية العرفية.
وعليه تبتنى منجزية العلم الاجمالي في التدريجات فان طرف العلم
الاجمالي المتأخر لو لم يكن مستتبعا لنحو من الداعوية لم يصلح العلم
الاجمالي للتنجيز، بل يكون كما لو خرج بعض أطراف العلم الاجمالي عن
الابتلاء، على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
هذا، ولا مجال للاستشهاد بذلك على فعلية التكليف قبل الوقت، على
مسلك صاحب الفصول وشيخنا الأعظم قدس سرهما في الواجب المعلق والمشروط، أو
على مسلك بعض الأعيان المحققين وسيدنا الأعظم قدس سرهما المشار إليه آنفا في
الواجب المشروط. لعدم الملزم بانحصار الداعوية العقلية لحفظ المكلف به
ومورد الغرض بحال فعلية التكليف.
كيف والجهة المذكورة تجرى حتى مع العلم بعدم توجه صاحب
التكليف والغرض لحدوثهما في الوقت اللاحق، فلو علم زيد من حال صديقه
مثلا - أنه سوف يتعلق غرضه وطلبه بفعل شئ ما، لم يحسن منه بمقتضى
حقوق الصداقة بينهما تعجيز نفسه عن ذلك الشئ وان كان الصديق حال
التعجيز غافلا عن تعلق غرضه في المستقبل بذلك الشئ، بل كان معتقدا عدم
تعلق غرضه به فيما بعد جهلا بحدوث الحاجة له أو بتبدل نظره، من باب تبدل
الاجتهاد أو الذوق.
حيث لا مجال مع ذلك لتوهم سبق وجود تكليف معلق أو مشروط منه،
كي يدعى أن له نحوا من الفعلية وأن الداعوية العقلية لعدم التعجيز ناشئة منها.
ومنه يظهر أن الداعوية لفعل المقدمة قبل الوقت ليست أصلية نفسية
كما تقدم عن المحقق التقى ولا متفرعة على الداعوية لامتثال التكليف
النفسي، تبعا لفعليته قبل الوقت لتبتني على الواجب المعلق أو ما يرجع إليه
من دعوى رجوع القيد للمادة، أو على فعلية التكليف المشروط قبل الوجود
297

الخارجي لشرطه - أو مع البناء على فعليته بعد الوقت ليلزم عدم تقارن
الداعويتين - بل هي متفرعة على داعوية التكليف والغرض الفعلي المتأخر
لحفظه قبل وقته، وكونه منشأ للمسؤولية بالوجه المتقدم، فالداعويتان متقارنتان
مع تفرع داعوية المقدمة على الداعوية النفسية وعدم استقلالها عنها.
وبالجملة: لا ريب في ثبوت الداعوية العقلية بالوجه المذكور المستلزم
لمنع العقل من تعجيز العبد نفسه قبل وقته عن امتثاله بعده، واستتباع ذلك ثبوت
الداعي العقلي نحو المقدمة بنحو يقتضى حفظ التكليف والغرض بفعلها،
واستحقاق العقاب مع العجز عن الامتثال بتركها، وان كان العجز المذكور مانعا
من توجه التكليف في الوقت، لامتناع تكليف العاجز وتوجيه الخطاب إليه.
فليس العقاب في المقام على مخالفة التكليف بعد ثبوته، بل على التفريط
فيه وتفويت ملاكه، كما صرح بذلك في التقريرات - مدعيا أنه قد يظهر من
بعضهم - وعبر عنه بالمعصية الحكمية، في مقابل المعصية الحقيقية التي هي
عبارة عن مخالفة التكليف بعد ثبوته.
وان كان ذلك لا يناسب مبناه من رجوع الشرط للمادة والواجب، لا
للوجوب، وما صرح به في المقام من أن الوجوب فعلى قبل تحقق الشرط، لان
لازم ذلك كون التعجيز معصية حقيقية ومخالفة للتكليف بعد ثبوته، كالتعجيز
عن المقدمة بعد دخول الوقت.
وهو أمر راجع لاضطراب مبناه في الواجب المشروط، لا لعدم تمامية ما
ذكره وأوضحناه هنا.
نعم، في كفاية ذلك في ثبوت الوجوب الغيري للمقدمة لمحض ملازمة
وجوب الشئ لوجوب مقدمته - لو تمت - اشكال، بل منع، لان المسؤولية
بالواجب والداعوية لحفظه وعدم جواز التعجيز عنه قبل الوقت ليست شرعية
لتستتبع الداعوية الشرعية للمقدمة، بل عقلية محضة تابعة لثبوت التكليف
298

الشرعي وفعلية الغرض في وقته، فلا يتحقق معها موضوع الملازمة المدعاة بين
وجوب المقدمة ووجوب ذيها.
وأما دعوى: لزوم الجعل الشرعي على طبق الداعوية العقلية. فيظهر حالها
مما تقدم في دفع الوجه الثالث الذي سبق من بعض الأعاظم قدس سره.
نعم، قد يدعى أن الجهة الارتكازية المقتضية لوجوب المقدمة شرعا تبعا
لوجوب ذيها لو تمت تقتضي أيضا وجوب المقدمة شرعا في المقام قياسا على
الإرادة التكوينية.
لكن حيث تقدم ثبوت الداعوية، العقلية في المقام في مورد عدم توجه
صاحب الغرض والتكليف قبل الوقت لهما، بل اعتقاده بعدمهما المستلزم لعدم
طلبه للمقدمة المفوتة لو نبه إليها، فلا مجال لدعوى عموم وجوب المقدمات
المفوتة غيريا تبعا لعموم الداعوية العقلية المدعاة لها، غاية ما يدعى ثبوت
الوجوب الغيري في صورة توجه صاحب الغرض والتكليف لحدوثهما في
وقتهما.
وان كان تحقيق ذلك غير مهم، خصوصا بعدما سبق من عدم ثبوت
ملازمة وجوب المقدمة لوجوب ذيها رأسا، وعدم الأثر له عملا لو ثبت، وانما
المهم لزوم الاتيان بالمقدمات المفوتة مطلقا وعدم جواز التفريط بها عقلا،
بنحو يستتبع العقاب على فوت الواجب معه، وهو ما يتكفل به الوجه الذي
ذكرناه.
ثم إن ما ذكرنا لا يختص بالمقدمات المفوتة، بل يجرى في نظيرها، وهو
شرط الواجب المتأخر، كغسل المستحاضة الليلي الذي قيل بتوقف صحة صوم
اليوم السابق عليه، حيث لا معنى للتكليف بالواجب بعد فعله وخروج وقته،
لتجب مقدمته المذكورة تبعا لوجوبه، بل يجب عقلا الاتيان بها محافظة على
تمامية الواجب المأتى به في الوقت، ليكون به امتثال الامر السابق واستيفاء
299

غرضه الفعلي في وقته.
كما يجرى أيضا في المقدمة الموسعة القابلة للتحصيل في الوقت
وخارجه، كالوضوء للصلاة، فلا مانع من البناء على داعوية العقل لها قبل الوقت
بنحو السعة، فيتخير المكلف بين المبادرة إليها وتأخيرها بعد دخول الوقت، وان
لم يتسن الاتيان بها بداعي الوجوب الغيري لو فرض عدم ثبوته والظاهر كفاية
الداعوية المذكورة في مقربية المقدمة قبل الوقت لو قصد التوصل بها لامتثال
أمر ذيها في وقته واستيفاء غرضه، وان لم يقصد بها امتثال أمرها، لعدم توقف
المقربية على قصد الامر.
فإذا كانت المقدمة عبادة وكان المعتبر فيها مطلق التقرب دون المقيد
بحال فعلية أمر ذيها اتجه صحتها، ولأجله يتعين صحة الاتيان بالوضوء والغسل
قبل الوقت للتهيؤ لامتثال أمر الصلاة في وقتها، بلا حاجة إلى قصد أمر آخر بها،
كالأمر بالكون على الطهارة أو غيره، على ما أوضحناه في مباحث نية الوضوء
من شرح منهاج الصالحين، وتقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات مبحث التعبدي
والتوصلي ما ينفع في المقام. فلاحظ.
تنبيه
ما ذكرناه من عدم جواز التعجيز عن امتثال التكليف في وقته موقوف
على تمامية ملاكه وفعلية غرضه على تقدير التعجيز، لعدم أخذ القدرة عليه
جزاء من الموضوع، وان توقف عليها فعلية الخطاب، لقبح خطاب العاجز، كما
هو مقتضى اطلاق الخطاب بالتكليف معلقا على الشرط أو الوقت، على ما
أوضحناه في أوائل مبحث التعارض عند الكلام في الفرق بينه وبين التزاحم
وبيان حقيقة التزاحم.
أما لو كانت فعلية القدرة عليه في الوقت دخيلة في ملاكه ومأخوذة في
300

موضوعه فلا محذور في التعجيز قبل الوقت، حيث لا يتحقق معه موضوع
التكليف ويكون مانعا من تمامية ملاكه وغرضه، فلا يلزم من التعجيز عنه
تفويت ملاك فعلى.
بل قد يجوز التعجيز في الوقت، كما لو كان العجز فيه موجبا لارتفاع
الموضوع والملاك بعد ثبوتهما، حيث لا يقبح عقلا رفع موضوع التكليف
وملاكه، كما لو سافر الصائم فساغ له الافطار، وانما القبيح تفويت الملاك مع
فعليته وتمامية الموضوع، وهو غير لازم في الفرض.
ومن هنا يجوز تعجيز المكلف نفسه عن الحج قبل ملك الزاد والراحلة،
وعن التصرف بالمال الزكوي قبل حلول الحول.
وعليه يبتنى ما تضمن من النصوص جواز اجناب المكلف نفسه مع عدم
الماء على كلام لا يسعنا استقصاؤه، بل هو موكول للفقه. فلا مجال لتوهم منافاة
ذلك لما ذكرناه هنا في توجيه وجوب المقدمات المفوتة مطلقا.
خاتمة
ذكرنا في أول الفصل أن موضوع المسألة في تحرير الأصوليين لها هو
مقدمة الواجب، وأنه يظهر من مطاوي كلماتهم في الفقه والأصول المفروغية
عن عموم جهات الكلام فيها المقدمة المستحب.
وأما مقدمة الحرام والمكروه فالظاهر مشاركتها لمقدمة الواجب
والمستحب في بعض جهات الكلام المتقدمة.
وتوضيح ذلك: أن الظاهر مشاركة مقدمة الحرام والمكروه لمقدمة
الواجب والمستحب في حدوث الداعي للترك، فكما يكون حدوث الداعي
لفعل الشئ مستتبعا لحدوث الداعي المسانخ له لفعل مقدمته كذلك يكون
حدوث الداعي لترك الشئ مستتبعا لحدوث الداعي المسانخ له لترك مقدمته.
301

ويتفرع على ذلك الكلام في جهات ثلاث تقدم الكلام في نظيرها..
الأولى: الملازمة بين حرمة الشئ شرعا أو حرمة كراهته لحرمة مقدمة
أو كراهتها. والظاهر ابتناؤها على ما تقدم في مقدمة الواجب، فإذا كانت الداعوية
التبعية لفعل مقدمة الواجب والمستحب منشأ لمطلوبيتها شرعا تبعا لمطلوبية
ذيها فالداعوية التبعية لترك مقدمة الحرام مستلزمة للنهي عنها شرعا تبعا للنهي
عن ذيها، لعدم الفرق بينهما في الكلام المتقدم.
الثانية: تحديد المقدمة التي هي مورد الداعوية المذكورة. وقد تقدم في
مقدمة الواجب أنها خصوص العلة التامة، وأن مقتضى ذلك وجوب كل جزء
من أجزائها بوجوب ضمني ارتباطي، ومرجعه إلى اختصاص الوجوب
بالمقدمة الموصلة، اما بقيد الايصال أو بذاتها.
وأما هنا فحيث فرض أن الداعي الأصلي يقتضى ترك الشئ، وكان
وجوده مستندا للعلة التامة كان الدعي المذكور مستتبعا لحدوث الداعي لعدم
تمامية العلة. ومرجعه إلى اقتضاء الداعي ترك كل جزء من أجزاء العلة على
البدل، كما نبه له سيدنا الأعظم قدس سره في الجملة.
وبعبارة أخرى: تعلق الأمر والنهي بالمركب تابع لنحو تعلق الغرض به
وترتبه عليه، فحيث كان الغرض الداعي لمطلوبية العلة التامة للمطلوب موقوفا
على وجود تمام أجزائها تعين مطلوبية الاجزاء بنحو المجموع، وحيث كان
الغرض الداعي لمطلوبية العلة التامة للمطلوب موقوفا على عدم تماميتها بنحو
يكفي في ترتبه عدم وجود بعض أجزائها على البدل تعين مبغوضية أجزائها
بالنحو المذكور، لا بنحو المجموعية.
وحينئذ فمقتضى البدلية المذكورة عدم مخالفة الداعي التبعي المذكور الا
بفعل ما ينحصر بتركه عدم تمامية العلة، وهو آخر أجزائها لو كانت تدريجية أو
ما قبل الاخر إذا كان الاخر قهري الحصول، فلا يكون التمرد والمخالفة الا بفعل
302

الجزء المذكور.
نظير مخالفة الامر الموسع التي لا تتحقق الا بترك آخر الافراد الطولية
الممكنة، دون الافراد الأول، فلا يكون المكلف متمردا ومخالفا للتكليف بتركه
للواجب الموسع الا بمضي آخر زمان يمكن فيه فعل الواجب، من دون أن
يكون مخالفا له بتركه فيما سبق عليه، وان كان ناويا الترك من أول الامر.
غاية الامر أن القصد المذكور موجب للقبح الفاعلي في حقه، وهو أمر
آخر لا يرجع إلى فعلية المخالفة بالفعل أو الترك.
نعم، لو كان الاتيان بالجزء الأول لعلة الحرام بقصد التوصل للحرام
فالظاهر تحقق التمرد به بملاك التجري، لا بملاك المخالفة.
وأما لو أتى به لا بقصد التوصل للحرام فلا تمرد به ولا تجرى أيضا، ولو
مع العلم بترتب الحرام عليه بالاختيار للعزم على فعل الحرام بعد تمامية
مقدماته، وانما يكون العزم المذكور موجبا للقبح الفاعلي دون الفعلي، وهو أمر
آخر.
ومما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره في المقام
من حرمة المقدمة الموصلة في ظرف الايصال - لا بقيده - مطلقا ولو مع عدم
قصد التوصل بها للحرام، نظير ثبوت الوجوب لمقدمة الواجب.
فإنه يتبنى على حرمة تمام أجزاء العلة في ظرف تماميتها ولو تدريجا.
وهو في غير محله، لأنه حيث كان يكفي في عدم تحقق المبغوض عدم أي جاء
من أجزاء علته بدلا فلا وجه لمبغوضية تمامها في ظرف اجتماعها، كما تقدم
توضيحه.
نعم، لو فرض وجودها دفعة تعين استناد المخالفة والعصيان للكل، لعدم
المرجح بينها بعد صلوح كل منها لانطباق الوجود البدلي عليه، لا لمبغوضية
الكل بنحو المجموع، نظير ترك تمام الافراد العرضية للواجب البدلي، فإنه انما
303

يقتضى المخالفة بترك الكل لعدم المرجح بينها في استناد ترك الوجود البدلي
المطلوب إليه، لا لإرادة الكل بنحو المجموع.
وتظهر الثمرة لذلك (1) في مثل ما لو توضأ المكلف في حوض مباح ناويا
أو عالما بفتح طريق جريان الماء منه بعد اكمال الوضوء للأرض المغصوبة
فعلى القول بحرمة المقدمة الموصلة مطلقا يتعين بطلان الوضوء لكونه مقدمة
اعدادية موصلة للحرام المفروض تحقق بقية أجزاء علته فيما بعد، فيكون
تمردا ومخالفة للحرمة ويمتنع التقرب به، وعلى ما ذكرنا يصح الوضوء، لعدم
التمرد والمخالفة الا بفعل الجزء الأخير من علة الحرام، وهو فتح الطريق من
الحوض للأرض المغصوبة، وانما يبطل الوضوء إذا كان هو آخر أجزاء العلة،
لانفتاح الطريق من أول الامر.
والى ما ذكرنا يرجع ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في المقام، حيث خصا
الحرمة بالمقدمة التي يمتنع معها ترك الحرام.
الثالثة: تحديد الداعوية نحو المقدمة.
والظاهر أنه يجرى هنا ما تقدم في مقدمة الواجب من تبعية حكم المقدمة
لحكم ذيها في الاطلاق والاشتراط، وأن المنع قبل وقت الحرام من مقدمته التي
ينحصر تركه في وقته بتركها قبل وقته يبتنى على ما تقدم في المقدمات
المفوتة، من دون فرق بين المقامين، كما يظهر بالتأمل في الوجوه السابقة.
وبهذا ينتهى الكلام في مقدمة الواجب. والحمد لله رب العالمين، ومنه
نستمد العون والتوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
304

الفصل الرابع
في مسألة الضد
قد وقع الكلام بينهم في أن الامر بالشئ هل يقتضى النهى عن ضده أو
لا؟.
ومرادهم بالضد كل ما ينافي المأمور به، بحيث لا يمكن اقترانهما في
الخارج، سواء كان عدميا، وهو ترك المأمور به، الذي يعبر عنه في كلماتهم ب‍
(الضد العام)، أو وجوديا، وهو الذي يعبر عنه ب‍ (الضد الخاص)، كالصلاة الذي
يتعذر معه إزالة النجاسة عن المسجد، سواء أريد به كل واحد من الأضداد
الخاصة أم الجامع بينها، الذي قيل إنه قد يعبر عنه بالضد العام أيضا.
والمراد باقتضائه له مطلق لا بديته معه، سواء رجع إلى عينية الامر بالشئ
مع النهى عن ضده أم إلى جزئيته له - كما قد يدعى في الضد العام - أم إلى
ملازمته له لمقدمية ترك الضد لفعل المأمور به أو بدونها، كما يظهر بالنظر في
مجموع كلماتهم.
وبلحاظ الأخير صح لنا عقد المسألة في مباحث الملازمات العقلية، لأنه
هو المهم من جهات الكلام في المسألة.
وما يظهر من بعض كلماتهم من التعرض للدلالة اللفظية لا يوجب جعل
المسألة من مباحث الألفاظ، لما هو المعلوم من عدم اختصاص محل الكلام بما
إذا كان الامر مستفادا من اللفظ، بل ليس ذلك منهم الا لاستكمال البحث في
المسألة واستيفاء الاحتمالات فيها مع كون المهم هو الملازمة التي قد تكون هي
307

المنشأ للكلام في الدلالة اللفظية الالتزامية.
هذا، وينبغي التمهيد لمحل الكلام بأمرين..
الأول: أن محل الكلام في المقام الضد المستلزم لمعصية الامر، لكون
الامر مضيقا يقتضى صرف القدرة الفعلية لامتثاله وينافيه صرفها في ضده، دون
الموسع الذي لا يقتضى الا صرف القدرة في بعض الوقت إليه من دون أن ينافيه
صرف القدرة في بعضه الاخر إليه. ووضوح ذلك يغنى عن إطالة الكلام في
توجيهه.
الثاني: حيث كانت نتيجة المسألة متضمنة لحكم الضد شرعا صح منهم
عدها من مسائل الأصول بناء على المعيار المتقدم للمسألة الأصولية، الا أن من
الظاهر أن الحرمة المدعاة للضد ليست بنفسها موردا للأثر العقلي من العقاب
بالمخالفة والثواب بالموافقة. حيث لا اشكال ظاهرا في أنها في طول الامر
بالضد في الغرض والطاعة والمعصية.
ولذا لا يظن من أحد البناء على استحقاق فاعل المأمور به وتارك ضده
لثوابين ولا استحقاق تارك المأمور به وفاعل ضده لعقابين، ولذا لا تكون النتيجة
المذكورة مهمة في مقام العمل، نظير ما تقدم في مسألة مقدمة الواجب.
فالظاهر أن ثمرة المسألة العملية عندهم - كما صرح به بعضهم - هو امتناع
التعبد بالضد والتقرب به، فيبطل لو كان عبادة، بناء على ما يأتي في الفصل
السادس إن شاء الله تعالى من اقتضاء النهى في العبادة الفساد.
لكن الثمرة المذكورة لا تتوقف على حرمة الضد شرعا، بل يكفي فيها
كونه تمردا على المولى ولو لم يكن محرما شرعا، كما يتضح فرضه في ما يأتي.
ومن هنا لا يكون بحثهم في المسألة عن حرمة الضد مناسبا للثمرة التي
حررت لأجلها. ولعل لذلك دخلا في اضطراب بعض كلماتهم في المقام، فكان
نظر القدماء في اثبات اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده في بعض الموارد
308

إلى كون فعل الضد تمردا على المولى ومخالفة لامره، لاختلاط ذلك عليهم
بالنهي عن الضد، ونظر المتأخرين في نفى الاقتضاء في ذلك إلى تحقيق مفهوم
الأمر والنهي والتدقيق في مفادهما ومقتضاهما مع اغفال حال الثمرة التي
ذكرناها، وعمد التنبيه إلى أن نفى الاقتضاء لا ينافي ترتبها.
ومن هنا كان المناسب لنا في هذا البحث الجمع بين الامرين بالبحث عن
اقتضاء الامر بالشئ النهى عن ضده وعدمه لمتابعتهم في تحرير محل النزاع،
وعن ترتب الثمرة المذكورة، لكونه الغرض المهم من النزاع.
بقى في المقام شئ، وهو أنه لابد في ترتب الثمرة المذكورة من أمرين:
أحدهما: تمامية ملاك الامر بالعبادة مع الامر بالضد، ليمكن صحتها في
نفسها - لولا التمرد على المولى اللازم منها - بالتقرب بقصد أمرها الأصلي أو
الترتبي - على القول به - أو قصد الملاك المذكور - أما لو استلزم فقدها للملاك
وخروجها عن الطبيعة المأمور بها ذاتا فبطلانها لعدم المقتضى لا للمانع وهو
كونها ضدا للمأمور به.
وتمييز أحد الامرين يبتنى على ما يذكر في مبحث التزاحم ويأتي بعض
الكلام فيه في مسألة اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.
ثانيهما: التفات المكلف للجهة الموجبة لكون الفعل تمردا على المولى،
بل يكفي اعتقاده بذلك خطأ، أما مع الغفلة عنها فلا يمتنع التقرب بالعمل ولو مع
وجودها واقعا، كما هو ظاهر.
إذا عرفت هذا فالكلام في تحرير محل النزاع ومورد الثمرة المذكورة
يكون في ضمن أمور..
الامر الأول: سبق منا في مقدمة المقصد الثاني في الأوامر والنواهي من
مباحث الألفاظ أن الأمر والنهي متقابلان مفهوما واقتضاء، فالامر بالشئ نحو
إضافة تقتضي فعله، والنهى نحو إضافة تقتضي تركه، كما أنه تقدم في مقدمة
309

الأصول عند الكلام في الفرق بين الحكم الإلزامي والاقتضائي غير الإلزامي أن
كلا من الحكمين بسيط له منشأ انتزاع خاص به، ولا تركيب في أحدهما.
ومن هنا لا مجال لدعوى: أن الامر بالشئ - إذا كان الزاميا - مركب من
طلبه مع النهى عن تركه، بحيث يكون النهى المولوي عن ترك الشئ - الذي
سبق عنهم التعبير عنه بالضد العام - جزءا من الامر به، فضلا عن أن يكون عينه،
كما قد يدعى في المقام.
نعم، اقتضاء الامر بالشئ لفعله مستلزم لاقتضائه عدم تركه، للتلازم
بينهما، والمقتضى لاحد المتلازمين مقتض للاخر. ومرجع ذلك إلى أن عدم
الترك مما يقتضيه الامر في مقام الامتثال ويدعو إليه عقلا، لا أن الترك مورد لنهى
متحد مع الامر بالشئ أو جزء منه، ولذا لا يفرق في الاقتضاء المذكور بين الامر
الارشادي والمولوي الإلزامي وغيره. غايته أن نحو الاقتضاء من حيثية المولوية
والالزام يختلف باختلاف الامر في الجهة المذكورة.
كما ظهر مما ذكرنا أنه لا مجال لدعوى ملازمة الامر بالشئ للنهي عن
تركه، لان الغرض من النهى لما كان هو الداعوية لعدم الترك فالداعوية المذكورة
حاصلة بنفس الامر، كما سبق، فيكون النهى معه خاليا عن الأثر ولاغيا، لعدم
دخله في ترتب الغرض المطلوب، بل يترتب بدونه.
ومن هنا لا مجال لدعوى اقتضاء الامر بالشئ النهى عن ضده العام - وهو
الترك - بشئ من الوجوه المتقدمة، وان استوضحها جماعة.
نعم، حيث كان الامر بالشئ مقتضيا عملا لفعله وعدم تركه كما تقدم
يكون الترك مخالفة للامر، فإذا كان الامر مولويا الزاميا كان الترك معصية للمولى
وتمردا عليه، فلا يمكن التقرب به، بل يبطل إذا كان عبادة وان لم يكن منهيا عنه
شرعا، فإذا وجب الاكل في نهار شهر رمضان مثلا لخوف ظالم ونحوه فعصى
المكلف بتركه، امتنع منه التقرب بالصوم الذي هو عبارة عن ترك المفطرات
310

ومنها الاكل المذكور، ونظير ذلك ما لو أمر بترك الشئ، فان فعله يكون معصية
وتمردا وان لم يكن منهيا عنه، لعدم اقتضاء الامر بالشئ النهى عن نقيضه. فإذا
وجب ترك الارتماس، لأنه من المفطرات امتنع التقرب بفعله.
بل لا يبعد جريان ذلك في الضدين الوجوديين اللذين لا ثالث لهما،
كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق، فان الامر بأحدهما وان لم يقتض
النهى عن الاخر، الا أن فعل الاخر يكون عرفا بنفسه مخالفة للاخر وتمردا على
الامر، بحيث يمتنع معه التقرب به منه.
ومجرد التباين بين ترك المأمور به وفعل الضد المذكور حقيقة لا ينافي
ذلك. لان المعيار في التمرد والانقياد ونحوهما من الأمور الارتكازية على النظر
العرفي دون الدقى.
ومن هنا تترتب في جميع ما ذكرنا الثمرة المتقدمة لاقتضاء الامر بالشئ
النهى عن ضده وان لم يكن الاقتضاء تاما فيها، لما سبق.
الامر الثاني: ربما يدعى اقتضاء الامر بالشئ لمجرد ملازمة فعل الشئ
لترك ضده، لدعوى امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم، فإذا كان الشئ واجبا
كان ترك ضده واجبا أيضا، فيكون فعله منهيا عنه. لكنه يشكل: - مع ابتنائه على اقتضاء الامر بترك الشئ النهى عن فعله،
الذي تقدم في الامر الأول المنع منه - بأن امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم
لا يقتضى لزوم اتفاقهما فيه بل لما كان الغرض من جعل الحكم للشئ احداث
الداعي نحوه بلحاظ الملاك المقتضى له، فإذا كان الملاك مختصا بأحد
المتلازمين فلا وجه لجعل الحكم على الاخر وان كان موافقا لحكم ذي الملاك،
بل يكون عبثا.
نعم، إذا كان كل منهما موردا للملاك صح جعل الحكم لكل منهما، حيث
يكون أثره تعدد الداعوية وثبوتها من الجهتين، نظير تأكيدها بسبب تأكد الحكم
311

الواحد للموضوع الواحد الواجد لأكثر من ملاك واحد.
لكنه خارج عن محل الكلام من اقتضاء مجرد الملازمة بين الشيئين
اتفاقهما في الحكم مع قطع النظر عن اشتراكهما في الملاك.
الامر الثالث: ربما يدعى اقتضاء الامر بالشئ النهى عن ضده بلحاظ
توقف الشئ على عدم ضده ومقدمية عدم الضد له، فيستلزم الامر به الامر بعدم
الضد وتركه، الملازم لحرمة فعل الضد.
ومرجع ذلك إلى مقدمات ثلاث..
الأولى: مقدمية ترك الضد لفعل ضده.
الثانية: ملازمة وجوب المقدمة لوجوب ذيها.
الثالثة: اقتضاء وجوب ترك الشئ لحرمة فعله.
ويظهر بطلان الثالثة مما تقدم هنا في الامر الأول، وبطلان الثانية مما تقدم
في الفصل السابق، ويأتي الكلام في الأولى إن شاء الله تعالى.
لكن المقدمتين الأخيرتين انما يحتاج إليهما لاثبات النهى الشرعي عن
الضد أما بلحاظ الثمرة المتقدمة - وهي امتناع التقرب بالضد وبطلانه لو كان
عبادة - فلا حاجة للمقدمة الثالثة، لما سبق في الامر الأول من أن وجوب ترك
الشئ مانع من التقرب بفعله لكونه تمردا على المولى وان لم يكن منهيا عنه.
كما لا حاجة للمقدمة الثانية، لان مقدمة الواجب وان لم تجب شرعا الا
أن وجوب ذيها لما كان يدعو إليها في طول داعويته إليه فلا مجال بنظر العقلاء
للتقرب بمخالفة مقتضى الداعوية المذكورة، لرجوعه إلى مخالفة مقتضى
الوجوب النفسي المذكور، فيكون معصية للمولى وتمردا عليه، فكيف يتقرب
به إليه؟!، فإذا فرض كون ترك الضد مقدمة لفعل ضده كان الامر بالشئ داعيا
لترك ضده تبعا، فيكون فعله مخالفة لمقتضى داعويته المذكورة.
ويظهر من الفصول عدم تمامية ذلك بناء على ما تقدم منه ومنا في الفصل
312

السابق من اختصاص الوجوب المقدمي بالمقدمة الموصلة، بتقريب: أنه إذا كان
ترك الضد مقدمة للواجب، كان الواجب الغيري هو تركه الموصل لفعل
الواجب، لا مطلق تركه، فيكون الحرام ترك الترك الموصل، لا فعل الضد وان كان
فعله لازما للترك المذكور، لان الترك المذكور اما أن يكون بالترك غير الموصل
أو مع الفعل.
وقد أطال قدس سره هو ومن بعده الكلام في ذلك نقضا وإبراما بما لا يسع المقام
استقصاءه. الا أنه حيث ذكرنا أن المعيار في الثمرة ليس على النهى الشرعي،
ليهتم بتحديد موضوعه، بل على كون الفعل تمردا على المولى، فالمرتكزات
العرفية والعقلائية حاكمة بما سبق منا من أن داعوية الواجب النفسي للترك في
الفرض موجبة لكون الفعل مخالفة لمقتضى الداعوية المذكورة وتمردا على
المولى فلا يمكن التقرب بالفعل.
ولذا لا ينبغي التأمل في امتناع التقرب من المتطهر بفعل سبب الحدث -
كالجماع - مع تضيق وقت الصلاة، بحيث لا يسع الطهارة لها، وما ذلك الا
لتوقف الصلاة الواجبة على ترك سبب الحدث، فيكون مخالفة لمقتضى وجوبها
وتمردا على المولى، ووضوح ذلك يغنى عن إطالة الكلام فيه.
ومن هنا كان الظاهر عدم دخل المقدمتين الأوليين في ترتب الثمرة
المهمة لمسألة الضد، وهي امتناع التقرب بالضد وفساده لو كان عبادة، بل يكفي
فيها المقدمة الأولى وهي مقدمية ترك الضد لفعل ضده.
ولذا اهتم جماعة من الأعيان بالكلام فيها وجعلوه من أهم مباحث
المسألة، وهو ما يأتي إن شاء الله تعالى.
الامر الرابع: وقع الكلام بينهم في توقف وجود الشئ على عدم ضده
الراجع لمقدمية عدم الضد للواجب، وقد أطالوا الكلام في المقدمية المذكورة
وجودا وعدما، وأصر جماعة على امتناعها ولزوم المحاذير العقلية منها.
313

والظاهر أن مجرد التضاد بين الشيئين بنحو يمتنع اجتماعهما في الوجود
لا يقتضى الا ملازمة وجود أحدهما لعدم الاخر وتركه، دون توقفه عليه الذي
هو المعيار في المقدمية.
ويظهر من بعض المحققين قدس سره كفاية ذلك في التوقف والمقدمية،
بدعوى: أن عدم الضد متمم لقابلية الموضوع للاتصاف بالضد الاخر، وقابلية
الموضوع لعروض الشئ من أجزاء علة ذلك الشئ التي يتوقف عليها
وجوده.
ويدفعه: أن مجرد امتناع اجتماع الضدين في الموضوع الواحد لا يستلزم
توقف قابلية الموضوع لاحد الضدين على خلوه عن ضده الاخر في رتبة سابقة
عليه، ليكون عدم الضد من مقدمات ضده وأجزاء علته التي يفتقر وجوده إليها،
وانما يتم ذلك في المانع.
ومحصل الفرق بين المانع والضد: أن المانع ما يستند إليه عدم تأثير
المقتضى حين وجوده - بما له من خصوصية ذاتية وعرضية معتبرة في التأثير -
في المعلول، اما لخصوصيته التكوينية، كالرطوبة المانعة من تأثير النار للاحراق،
أو لاخذ عدمه في الموضوع شرعا كزوجية الام المانعة من زوجية بنتها.
من دون فرق بين ما إذا كان المانع غير ممكن الارتفاع اما لمانعيته مطلقا
بحدوثه، كزوجية البنت المانعة من زوجية أمها، أو بحدوثه وبقائه مع تعذر
ارتفاعه، كالسور الحصين المانع من اقتحام العدو للمدينة، وما إذا كان ممكن
الارتفاع، اما بتأثير المقتضى بأن يكون المقتضى بحدوثه مؤثرا فيه ورافعا له أولا
ثم يكون باستمراره مؤثرا في المعلول بعد رفعه للمانع، كالرطوبة المانعة من
تأثير النار في أطراف الجسم بمماسته الا بعد تجفيفها له مع استمرارها بعد
التجفيف أو برافع اخر كغلق الباب المانع من دخول الحيوان الدار الا بعد فتح
الانسان له، وزوجية الام قبل الدخول المانعة من زوجية بنتها الا بعد ارتفاعها
314

بطلاق أو نحوه.
والجامع بين الكل أن يكون وجود الشئ بنفسه مانعا من تأثير المقتضى
في المعلول، بحيث يستند إليه عدم تأثير المقتضى حين وجوده، فان مقتضى
ذلك توقف وجود المعلول على عدم المانع كتوقفه على وجود المقتضى
والشرط وكونه مثلهما من أجزاء علته التي يفتقر وجوده إليها في رتبة سابقة
عليه.
أما الضد فهو لا يصلح للمانعية من تأثير مقتضى ضده فيه، لعدم واجديته
للخصوصية المناسبة لذلك، فلا يكون وجود كل من الضدين مفتقرا لعدم
الاخر، بحيث لابد من عدم الضد في رتبة سابقة على وجود ضده، وان امتنع
اجتماعهما في الوجود، اما للتنافر بين مقتضييهما بنحو يلزم من وجود مقتضى
كل منهما عدم المقتضى للاخر، كالصلاة وإزالة النجاسة، حيث لا يعقل تعلق
الإرادة بكل منهما التي هي من سنخ المقتضى لهما بعد فرض قصور القدرة عن
الجميع بينهما، فيستند عدم كل منهما في ظرف وجود الاخر لعدم المقتضى له،
لا لمانعية وجود الاخر من تأثير مقتضيه فيه.
أو لمانعية مقتضى أحدهما من تأثير مقتضى الاخر كحركة الثوب
المستندة للهواء وسكونه المستند جاذبية الأرض، فمع حدوث الهواء المقتضى
للحركة لا يستند عدم السكون لعدم المقتضى، لبقاء قوة الجاذبية معه وان كانت
مغلوبة له، بل لوجود الهواء المقتضى للحركة، حيث يكون هو المانع من تأثير
الجاذبية في السكون، فيستند عدم السكون إليه لا لعدم المقتضى ولا للحركة،
كما أنه مع عدم الهواء يستند السكون للجاذبية من دون دخل لعدم الحركة،
فليس كل من الحركة والسكون مانعا من الاخر.
ومما ذكرنا يظهر أن قابلية الموضوع للعارض التي هي من أجزاء علته
انما تكون بخلوه عن الموانع التي يستند إليها عدم تأثير مقتضيه فيه، لا بخلوه
315

عن الأضداد حيث لا وجه لجعله من أجزائها بعد عدم دخله في تأثير المقتضى،
لعدم مانعية وجود الأضداد من تأثيره، وان كانت منافية للعارض، بحيث لا
تجتمع معه في الخارج ولا يسعهما الموضوع في وقت واحد.
هذا، وحيث تقدم أن المعيار في التضاد بين الشيئين مجرد عدم
اجتماعهما في الوجود، وأن ذلك بنفسه لا يقتضى توقف أحدهما على عدم
الاخر، ومقدمية عدمه له الذي هو محل الكلام، بل لابد فيه من مانعية أحد
الامرين من تأثير مقتضى الاخر فيه - الذي لابد في احرازه من الرجوع الصالحة
لاثباته - وهو خارج عن محل الكلام، تكون دعوى مانعية أحد الضدين للاخر
خلفا لا يحتاج في بطلانها للاستدلال.
لكن قد اهتم غير واحد في امتناع مانعية أحد الضدين للاخر وعدمه وقد
يقرب الامتناع بدعوى استلزام المانعية للدور.
ولعل الأولى في تقريبه أن يقال: كما يستند وجود الشئ لعدم المانع
بحيث يكون من مقدماته، كذلك يستند عدمه لوجود المانع بحيث يكون من
مقدماته، فإذا كان كل من الضدين مانعا من الاخر، فكما يلزم استناد وجود كل
من الضدين لعدم الاخر ومقدميته له، بملاك علية عدم المانع للمعلول ومقدميته
له، كذلك يلزم استناد عدم كل منهما لوجود الاخر ومقدميته له، بملاك عليه
وجود المانع لعدم المعلول ومقدميته له. فيكون عدم الصلاة - مثلا - مقدمة
لإزالة النجاسة، لمقدمية عدم المانع للمعلول، كما تكون الإزالة مقدمة لعدم
الصلاة، لمقدمية المانع لعدم المعلول، وهو دور واضح.
وقد حاول غير واحد دفع ذلك، والمستفاد منهم في دفعه وجوه..
أولها: ما ذكره بعض المحققين قدس سره في تتميم توجيه ما سبق منه في تقريب
التمانع بين الضدين، بأن قابلية المحل من أجزاء العلة، من أن العدم لا يحتاج
إلى فاعل وقابل، ليتصور شرطية شئ له، فلا منشأ للمقدمية من جانب العدم،
316

بل يختص التوقف بالوجود، فلا دور.
ويشكل: بأن عدم احتياج العدم إلى فاعل وان كان مسلما، الا أنه يحتاج
إلى قابل بالمعنى المتقدم، إذ لا اشكال في توقفه على عدم تمامية علة الوجود،
لان العلة المذكورة رافعة للعدم ومانعة منه بلا اشكال، فيكون عدمها متمما
لقابلية المحل له، نظير رافعية وجود المانع للوجود الموجبة لعلية عدمه له، فإذا
كان عدم المانع من أجزاء علة الوجود كان وجوده مؤثرا للعدم ومقدمة له.
ثم انه قدس سره قد أطال في تتميم مدعاه وتحقيقه والكلام في ترتب الثمرة عليه
بما لا يسع المقام استقصاءه ويضيق الصدر عن متابعته فيه وتعقيبه.
ثانيها: ما عن المحقق الخوانساري قدس سره من أن عدم الضد مستند إلى عدم
تمامية علته بعدم أي جزء منها، ولا يتوقف على وجود المانع الذي فرض أن
منه الضد.
نعم لو وجد تمام اجزاء العلة غير عدم المانع اتجه توقف عدم الضد
حينئذ. على وجود المانع المفروض أن منه الضد، لانحصار عدم تمامية العلة به
حينئذ، لكن فرض تمامية أجزاء العلة غير عدم الضد قد يكون محالا.
وما ذكره من احتمال محالية الغرض المذكور قد يرجع إلى ما يأتي في
الوجه الثالث.
وأما ما ذكره من عدم توقف وجود الضد على وجود المانع، بل يكفي فيه
عدم تمامية بقية أجزاء العلة فيشكل: بأنه لا يعتبر في توجه محذور الدور
التوقف من الطرفين، لانحصار علة كل منهما بالآخر، بل يكفي فعلية الاستناد
إليه لأنه أحد أفراد العلة، لأن علة الوجود إذا كانت مركبة والشرط وعدم المانع
كان ارتفاع كل منها علة للعدم، فمع ارتفاع الكل - بعدم المقتضى والشرط
ووجود المانع - يستند العدم للكل، ومنه وجود المانع، لعدم المرجح. الا أن
يدعى وجود المرجح لما يأتي الكلام فيه.
317

لكنه - لو تم - فعدم فعلية استناد العدم لوجود المانع لا ينافي كونه في
مرتبة علة العدم ومتقدما عليه، فإذا كان المانع هو الضد كان متقدما رتبة على
عدم ضده فيستحيل توقفه على العدم المذكور، لاستلزام تقدم المتأخر، وهو لا
يقصر عن محذور الدور. والى هذا أشار المحقق الخراساني قدس سره بامتناع توقف
الشئ على ما يصلح لان يتوقف عليه.
ثالثهما: أن عدم الشئ وان كان يكفي فيه عدم تمامية أجزاء علته ولو
بتخلف بعضها، الا أن استناده إلى كل جزء منها ليس في عرض واحد، كي يلزم
عدم الجميع الاستناد لعدم الكل، بل استناده لبعضها متقدم رتبة على استناده
للاخر، فهو في الرتبة الأولى يستند لعدم المقتضى، فان وجد المقتضى استند
لعدم الشرط الوجودي، فان وجد أيضا استند لوجود المانع، ولا يستند لوجود
المانع في ظرف عدم المقتضى أو الشرط. ولذا يستهجن عرفا تعليل عدم
الاحراق - مثلا - مع عدم النار، أو عدم قربها من الجسم برطوبة الجسم.
وحينئذ فكون كل من الضدين مانعا من الاخر انما يقتضى استناد وجود
الضد لعدم ضده، لأنه من أجزاء علته، ولا يقتضى استناد عدم الضد لوجود
ضده، بل في فرض عدم مقتضى الضد الاخر أو عدم شرطه يستند عدمه لهما،
في فرض وجودهما يمتنع وجود الضد الأول، لامتناع وجود مقتضيي الضدين
مع أقوائية كل منهما وسائر شروط تأثيرهما الوجودية - كالقدرة في الأفعال الاختيارية
- بل لابد من ارتفاع مقتضى أحدهما أو ارتفاع شرطه الملازم
لارتفاعه، فيوجد الضد الاخر، ولا يستند عدمه لوجود الضد في حال. وربما
يحمل على ذلك كلام الخونساري، وان كان ظاهره ما تقدم.
ويشكل.. أولا: بما عرفت في سابقه من أن عدم فعلية استناد عدم الضد
لوجود ضده لا ينافي تقدم وجود ضده عليه رتبة بعد فرض مانعيته وكون العدم
المذكور من أجزاء علة الوجود، فيلزم تقدم المتأخر.
318

ثانيا: بأن الترتب المذكور غير ظاهر بعد كون الخصوصية الذاتية في
المانع الموجبة لسد باب الوجود من جهته غير تابعة لوجود المقتضى والشرط.
ومجرد الترتب في نسبة العدم عرفا لا يكفي في مثل ذلك من الأمور الواقعية
المدركة للعقل. فتأمل.
ثالثا: أنه إذا فرض امتناع استناد عدم الضد إلى وجود ضده، فكيف
يمكن الجزم بمانعية الضد، لان مانعية الشئ في التكوينيات منتزعة من
خصوصيته الذاتية المقتضية لاستناد العدم إليه مطلقا، أو في ظرف وجود
المقتضى والشرط، على الكلام المتقدم، والخصوصية المذكورة انما تدرك
بطريق فعلية الاستناد، فإذا فرض عدم فعليته فلا طريق إلى ادراك الخصوصية
المذكورة.
بل فرض امتناع بقاء الضد حال وجود مقتضى ضده الاخر وشرطه لما
تقدم - مساوق لفرض عدم مانعيته، إذ لا معنى لمانعية الشئ للمقتضى الذي لا
يجتمع معه، لوضوح أن المانعية نحو من المزاحمة المتفرعة على اجتماع
المتزاحمين، وفرض عدم اجتماعهما بالضرورة مساوق لفرض عدم التزاحم
بينهما.
وقد أشار إلى ذلك في الجملة في التقريرات والكفاية، بل ساق بعض
الأعاظم قدس سره ذلك في الجملة دليلا على عدم التمانع بين الضدين. فراجع.
ورابعا: بأن مانعية الضد بالنحو المذكور - لو تمت - لا تصحح التكليف
الغيري بعدمه ولا الداعوية الغيرية له عقلا بنحو يكون فعله مخالفة لمقتضى
الامر وتمردا على الامر لتترتب الثمرة المهمة للمسألة، إذ المفروض أنه مع عدم
المقتضى والشرط يستند العدم إليه لا لوجود الضد، فلا منشأ للتكليف
والداعوية الغيريين بعدمه، ومع وجودهما لا وجود للضد، فلا يستند إليه عدم
ضده المأمور، كي يدعو الامر بالضد لعدمه.
319

رابعها: ما عن المحقق الخونساري قدس سره من الفرق بين الضد الموجود،
فيتوقف ضده على عدمه، والمعدوم، فلا يتوقف ضده على عدمه. وصريح
كلامه أن ذلك ليس لخصوصية في الضد، بل هو الحال في كل مانع، فالمعلول
انما يتوقف على عدم المانع إذا كان المانع موجودا، ولا يتوقف عليه إذا كان
معدوما.
قال في محكى كلامه - بعد أن دفع الدور بما سبق -: (وهنا كلام آخر،
وهو أنه يجوز أن يقال: ان المانع إذا كان موجودا فعدمه مما يتوقف عليه وجود
الشئ، أما إذا كان معدوما فلا... وعلى هذا لا يلزم على المجيب دور ان حمل
كلامه على ظاهره أيضا...).
قال في التقريرات: (وجه ارتفاع الدور بما ذكره من التفصيل: هو أنه إذا
فرضنا اشتغال المحل بوجود أحد الأضداد، كالسواد مثلا، كان وجود الاخر -
كالبياض - موقوفا على ارتفاع الموجود، لمكان التضاد. وأما وجود السواد في
ذلك المحل لم يكن موقوفا على عدم البياض، لان هذا العدم سابق على علة
السواد ومقارن لها، فلا توقف من الطرف الآخر، فلا دور).
أقول: ليس منشأ الدور هو لزوم توقف كل من الضدين على عدم الاخر،
كي يرتفع بالتفصيل بين الموجود والمعدوم، بدعوى: أن عدم المعدوم لا
يتوقف عليه الموجود، لحصوله، بل منشؤه لزوم علية وجود الضد لعدم ضده،
لما تقدم من استناد عدم الشئ لوجود مانعه، وهو لا يرتفع بالتفصيل المذكور،
فان عدم توقف السواد حال وجوده على عدم البياض وغيره من الأضداد
المفقودة لا ينافي علية البياض لعدم السواد الموجود، بملاك علية المانع لعدم
المعلول، فتوقف البياض على عدم السواد مستلزم للدور.
ودعوى: أن السواد الموجود إذا لم يتوقف على عدم البياض المعدوم لم
يكن وجود ذلك البياض علة لعدم السواد، لأن علة العدم انما هي نقيض علة
320

الوجود.
مدفوعة: بأنه لم يفرض في كلام المحقق المذكور خروج المانع المعدوم
عن كونه مانعا وعن كون عدمه من أجزاء العلة، بل مجرد عدم فعلية توقف
وجود المعلول الموجود على عدمه، لتحقق العدم المذكور. والا فالخصوصية
الذاتية بين المانع والممنوع لا تتوقف على وجود الممنوع قطعا.
وكيف كان، فلا ينبغي التأمل في بطلان التفصيل المذكور، فان عدم المانع
لما كان من أجزاء العلة فلا يفرق في افتقار المعلول إليه وتوقفه عليه بين تحققه
وعدمه. قال في التقريرات: (الفرق بين حالة وجود الضد وحالة عدمه والتزام
التوقف في الأول دون الثاني مما لا سبيل إليه، إذ غاية ما هناك أن يكون
الموقوف عليه حاصلا في الثاني، ولا معنى لمنع التوقف في المقدمات
الحاصلة).
نعم، قد يدعى أنه مع تحققه لا مجال للتكليف به غيريا تبعا لوجوب
المعلول نفسيا، لأنه طلب الحاصل.
لكنه - مع خروجه عن محل الكلام من التوقف والاستناد الذي هو منشأ
لزوم الدور - انما يتم مع تعذر ارتفاعه بعد حدوثه، أما مع عدم تعذره فيتعين
التكليف غيريا بالمحافظة عليه، كسائر المقدمات الموجودة.
هذا ما تيسر لنا الكلام فيه من الوجوه المذكورة في كلماتهم للتخلص من
محذور الدور الموجه على دعوى التمانع بين الضدين. وقد يظهر عدم تماميتها.
بقى في المقام شئ، وهو أنه ذكر سيدنا الأعظم قدس سره في توجيه امتناع
مانعية الضد أن عدم المانع لما كان سابقا رتبة على الممنوع لأنه من أجزاء علته
كان وجود المانع سابقا عليه أيضا، لان النقيضين في رتبة واحدة، فلو كان كل
منهما مانعا من الاخر لزم تقدم كل منهما رتبة على الاخر وهو محال، بل لابد
321

من البناء على أنهما في رتبة واحدة كنقيضهما، وقد حكى ذلك عن بعض الأعيان
المحققين قدس سره أيضا.
ويشكل: بأن الملاك في تقدم الشئ على الاخر رتبة خصوصية بينهما
مقتضية لذلك، كالعلية، ولا يكفي فيه كون أحدهما في رتبة ما هو متقدم على
الاخر، فالعم لا يكون متقدما على ابن أخيه رتبة، وان كان هو في رتبة أبيه
المتقدم عليه بملاك العلية.
وحينئذ فمجرد كون الضد في رتبة نقيضه المتقدم على ضده الاخر رتبة
بملاك العلية لا يقتضى تقدمه على الضد الاخر المذكور.
بل كون النقيضين في رتبة واحدة بمعنى عدم المنشأ لتقدم أحدهما على
الاخر مسلم، وأما بمعنى لزوم كونهما في رتبة واحدة، كالعنوانين المتضايفين
المنتزعين من منشأ انتزاع واحد، فهو مورد لكلام لا مجال لإطالة الكلام فيه.
فالعمدة في منع التمانع بين الضدين لزوم محذور الدور المتقدم، وان
تقدم أنا في غنى عنه بعد ما سبق منا من ذكر المعيار في المانعية، وأن مجرد
التضاد بين الشيئين والتنافر بينهما في الخارج بحيث يمتنع اجتماعهما لا يكفي
فيها.
الامر الخامس: أشرنا في الامر الثاني من التمهيد لهذه المسألة إلى أن
الثمرة المهمة لها هي فساد الضد لو كان عبادة، بناء على اقتضاء النهى عن العبادة
الفساد.
وقد يظهر من بعض الأعاظم قدس سره انكار الثمرة المذكورة، بدعوى: أن النهى
الغيري
لا ينافي ثبوت ملاك الامر المصحح للتقرب والعبادية على ما يأتي فلا
موجب للفساد معه.
وهو مبنى على أن منشأ اقتضاء النهى في العبادة الفساد هو كشفه عن عدم
ملاك الامر فيها - كما ذكره في تلك المسألة - وما ذكرناه يبتنى على أن منشأه
322

امتناع التقرب بما يكون معصية للمولى وتمردا عليه، على ما يأتي الكلام فيه في
محله إن شاء الله تعالى.
ولذا سبق اختصاص الثمرة المذكورة بما إذا التفت المكلف لجهة
المبعدية المذكورة، إذ مع الغفلة عنه لا يمتنع التقرب بالعبادة بخلاف ما لو كان
مبنى الثمرة القصور الملاكي، حيث يبطل العمل الخالي عن ملاك الامر مطلقا،
كصلاة الحائض.
ثم إن امتناع التقرب بالضد مع النهى الغيري المبتنى على مانعية الضد
ومقدمية عدمه لوجود ضده المأمور به مما لا اشكال فيه، بل تقدم في الامر
الثالث امتناعه مع فرض المانعية وان لم نقل باستلزامها النهى الغيري.
وأما امتناعه مع النهى التبعي المبتنى على محض الملازمة بين فعل
الشئ وترك ضده، الذي سبق الكلام فيه في الامر الثاني، فهو موكول إلى نظر
القائلين بثبوت هذا النهى، وأنه هل يقتضى مبعدية المنهى عنه وامتناع التقرب
به أو لا؟ ولا يتيسر لنا النظر فيه بعد ما سبق منا من المنع عن ثبوت النهى
المذكور، لعدم الموضوع.
هذا ويظهر مما عن البهائي انكار الثمرة المذكورة بدعوى: أن الامر بالضد
وان لم يقتض النهى عن ضده الا أنه يستلزم عدم الامر بضده، فيمتنع التقرب به،
لأنه فرع الامر به، فيبطل لو كان عبادة، فبطلان الضد لو كان عبادة لازم مطلقا
سواء قيل باقتضاء الامر بالشئ النهى عن ضده أم لا.
أقول: أما امتناع التقرب بالعبادة ولو مع عدم النهى، لاستلزام فعلية الامر
بضدها عدم الامر بها، فان ابتنى استلزام الامر بضدها عدم الامر بها على قصور
الامر عنها خطابا وملاكا، نظير الصلاة الفاقدة للطهارة، فلا مجال للبناء عليه، لان
قصور الامر المذكور انما هو من جهة التزاحم بين الامرين، وهو انما يوجب
فعلية الأهم وقصور المهم خطابا لا ملاكا، على ما تقدمت الإشارة إليه من بعض
323

الأعاظم قدس سره، وأوضحناه عند الكلام في معيار التزاحم من مقدمات مبحث
التعارض. فراجع.
وان ابتنى الاستلزام المذكور على قصور الامر بها خطابا مع بقاء الملاك،
مع البناء على توقف العبادية على قصد الامر الفعلي فيظهر ضعفه مما تقدم في
مبحث التعبدي والتوصلي من أن معيار العبادية التقرب بقصد ملاك المحبوبية،
وأن قصد الامر راجع إليه لكشف الامر عن الملاك، فمع فرض ثبوته في المقام
يكفي قصده في التقرب المعتبر في العبادية ما لم يمنع منه وقوع الفعل على
نحو التمرد على المولى، لكونه منهيا عنه، أو لكون تركه مقدمة لواجب نفسي
فعلى، وهو الذي يرجع إليه الكلام في هذه المسألة، ولازم ذلك ابتناء بطلان
العبادة على الكلام في هذه المسألة.
وأما ما ذكره من استلزام الامر بالضد عدم الامر بضده الاخر فهو يتم في
الجملة مع كون الامر بالضد الاخر مزاحما له لا يمكن الجمع بينهما في مقام
الامتثال، إذ مع فرض فعلية أحدهما لأهميته بتعين سقوط الاخر وعدم فعليته
في عرضه لامتناع التكليف بغير المقدور.
نعم، وقع الكلام في امكان الامر به في طول الامر الفعلي المفروض
بالأهم بنحو الترتب، ويأتي تحقيقه في الامر السادس إن شاء الله تعالى.
وانما الاشكال فيما لو لم يكن الامر بالضد الاخر مزاحما للامر الفعلي
المفروض، لامكان الجمع بينهما في مقام الامتثال بامتثال الامر بالضد الاخر
بفرد لا يزاحم الضد المأمور به فعلا، ما لكونه موسعا، كما لو وجبت المبادرة
لتطهير المسجد مع سعة وقت صلاة الواجبة، حيث يمكن الجمع بين الامتثالين
بتطهير المسجد ثم الصلاة، أو لكونه مضيقا ذا فردين فرد مضاد للواجب الفعلي
يتعذر جمعه معه واخر غير مضاد له كما لو وجبت المبادرة لتطهير المسجد
وضاق وقت الغسل للصلاة، الا أنه يمكن الغسل تارة: بنحو يتحقق معه تطهير
324

المسجد بتكثير ماء الغسل حتى يجرى على الموضع النجس منه فيطهره،
وأخرى: بنحو لا يتحقق معه التطهير بالغسل بالماء القليل.
فقد وقع الكلام بينهم في مثل ذلك في أن الامر بالضد الاخر هل يشمل
الفرد المزاحم للمأمور به الفعلي بحيث يمكن قصد امتثال الامر وان استلزم
عصيان ذلك الامر، أو يقصر عنه فلا يمكن قصد الامتثال به الا بناء على ثبوت
الامر الترتبي الطولى المشار إليه آنفا، ويأتي الكلام فيه.
ويظهر من غير واحد ابتناء الكلام في ذلك على الكلام في مسألة تعلق
الأمر والنهي بالطبايع والافراد، فعلى الأول الراجع عند بعضهم إلى تعلق الامر
التعييني بالطبيعة من دون دخل للخصوصيات الفردية لا مانع من قصد الامتثال
بالفرد المزاحم، لان قصد الامر به ليس لكونه بنفسه مأمورا به كي لا يجتمع مع
الامر الفعلي بضده المزاحم له، بل لتعلق الامر بالطبيعة المنطبقة عليه قهرا، فمع
عدم سقوط الامر بالطبيعة لعدم مزاحمته للامر الفعلي بالضد لامكان امتثاله
بفرد غير مزاحم بتعين امكان قصد الامتثال بالفرد المزاحم منها أيضا. أما بناء
على الثاني - الراجع عند بعضهم إلى تعلق الامر بالافراد تخييرا - فيتعين سقوط
الامر بالفرد المزاحم واختصاص الامر بغيره، فلا مجال لقصد الامتثال به. هذا ما
يظهر من بعض تقريرات درس شيخنا الأعظم قدس سره وحكاه بعض الأعاظم قدس سره عن
المحقق الثاني قدس سره، بل قد يظهر منه جريان غير واحد ممن تأخر عنه من
المحققين إليه.
وهو يرجع إلى دعويين..
الأولى: تحقق الامتثال بالفرد المزاحم بناء على تعلق الأوامر بالطبايع،
لعدم سقوط أمر الطبيعة بعد فرض عدم مزاحمته للتكليف الفعلي بالضد
وانطباقها على الفرد المزاحم قهرا.
وقد استشكل فيها بعض الأعاظم قدس سره بأنها انما تتم بناء على أن منشأ اعتبار
325

القدرة في التكليف هو قبح تكليف العاجز، حيث يكفي في رفع قبح التكليف
بالطبيعة القدرة على فرد منها.
لكن التحقيق اقتضاء التكليف بنفسه القدرة على متعلقه، لان الغرض منه
احداث الداعي للمكلف لتحريك عضلاته نحو متعلقه باختياره، وذلك يقتضى
لزوم القدرة على المتعلق، لامتناع جعل الداعي نحو الممتنع عقلا - لأمر تكويني
- أو شرعا - بسبب المزاحمة لتكليف فعلى، كما في المقام - ولازم ذلك تقييد
الطبيعة المأمور بها بالقدرة، وخروج غير المقدور عنها، وهو الفرد المزاحم في
المقام، فلا يقع امتثالا، لعدم انطباق الطبيعة المأمور بها عليه بعد فرض التقييد
المذكور.
ويندفع: بأن ذلك - كقبح تكليف العاجز - انما يقتضى اعتبار القدرة وصفا
للماهية المكلف بها شرطا للتكليف، لا قيدا للماهية المكلف بها، بحيث
يقتضى تحصيصها إلى حصتين مقدورة وغير مقدورة، ليختص التكليف
بالأولى ويقصر عن الثانية، كما هو الحال في سائر القيود المأخوذة في المادة،
وحينئذ حيث يكفي في القدرة على الطبيعة القدرة على بعض أفرادها كفى ذلك
في التكليف بها من دون حاجة لتقييدها بالافراد المقدورة، فتنطبق على الفرد
المزاحم قهرا أو يمكن قصد امتثال أمرها به بعد فرض فعليته.
نعم، انما يتم ذلك فيما إذا كان عدم التزاحم بين التكليفين مع تعدد أفراد
الضد العرضية واختصاص المزاحمة ببعضها، نظير ما تقدم في مثال الغسل
وتطهير المسجد، لفعلية القدرة على الطبيعة، أما إذا انحصر منشؤه بوجود أفراد
طولية، لكون أمره موسعا، نظير ما تقدم في مثال الصلاة والتطهير، فهو يبتنى
على امكان الواجب المعلق، أما بناء على امتناعه فالمتعين سقوط التكليف
بمزاحمة بعض الافراد الطولية للضد المكلف به فعلا، لعدم فعلية القدرة
المصححة للتكليف بها، لا بلحاظ الفرد المزاحم لتعذره شرعا، ولا بلحاظ
326

الافراد الأخرى، لأنها استقبالية، لا تكون القدرة عليها مصححة للتكليف على
المبنى المذكور المزاحم ومعه لا موضوع لقصد الامتثال بالفرد.
ومن ثم كان الأولى لبعض الأعاظم قدس سره سلوك ذلك في وجه منع الامتثال
به، لما سبق منه من منع الواجب المعلق قدس سره، كما نبه لذلك بعض مشايخنا دامت
بركاته.
لكن حيث تقدم منا في محله امكانه فلا مجال للتوقف من هذه الجهة في
فعلية التكليف بالطبيعة، وفى امكان قصد الامتثال بالفرد المزاحم.
الثانية: تعذر الامتثال بالفرد المزاحم بناء على تعلق الأوامر بالافراد
بالوجه المتقدم - حيث لابد من سقوط أمره التخييري بالمزاحمة واختصاص
الامر بغيره. والظاهر عدم تماميتها، لان الامر بالفرد المزاحم لما كان تخييريا
على المبنى المذكور لم يكن مزاحما للامر الفعلي بالضد، لأنه انما يقتضى
صرف القدرة للامتثال بأحد الافراد المفروض عدم مزاحمة بعضها، لا
بخصوص الفرد المزاحم منها، بل هو من حيثية الفرد المذكور لا اقتضائي، فلا
يزاحم الاقتضائي، وهو الامر الفعلي بالضد، فلا وجه لقصور الامر التخييري عن
الفرد المزاحم.
ان قلت: يلغو الامر التخييري بالفرد المزاحم، لان أثره العملي هو التخيير
عقلا بين فعل الفرد المذكور وتركه إلى البدل، ومع فرض التكليف الفعلي
بالضد المزاحم للضد المذكور لا مجال للتخيير المذكور، بل يتعين عقلا امتثال
الامر بالفرد غير المزاحم، فلابد من اختصاص التكليف به. نظير ما لو استلزم
الواجب مباحا بالأصل، حيث لا مجال معه لبقاء الإباحة وفعليتها، بدعوى: أنها
غير اقتضائية، فلا تزاحم الوجوب الاقتضائي، بل لابد من البناء على لغويتها،
لعدم بقاء اثر العملي، وهو التخيير العقلي بين الفعل والترك مع فرض الملازمة
المذكورة.
327

قلت: لا يختص الأثر العملي للامر التخييري بالتخيير عقلا بين الافراد،
ليلغو مع فرض ارتفاعه بالمزاحمة، نظير ما ذكر في ملازمة الواجب للمباح، بل
له أثر آخر، وهو امتثال التكليف التخييري بكل من أطراف التخيير وسقوطه به،
ومن الظاهر عدم منافاة هذا الأثر للامر الفعلي بالضد المزاحم بوجه، فلا وجه
لارتفاعه به، وبلحاظه يتعين بقاء الامر التخييري على سعته، ولا يلزم لغويته.
وبالجملة: الامر الفعلي بالضد لا ينافي الامر الموسع بالضد الاخر، لا من
جهة المزاحمة، لغرض امكان الجمع بينهما في مقام الامتثال، ولا من جهة لزوم
اللغوية، لان تحقق الامتثال بالفرد اثر مصحح للامر التخييري، فلا وجه لقصوره
عن الطرف المزاحم، ولازم ذلك امكان قصد الامتثال حتى لو قيل بتعلق الأوامر
بالافراد.
ولو فرض امتناع سعة الامر التخييري للفرد المزاحم للزوم اللغوية تعين
امتناع بقاء الطبيعة على سعتها له بناء على تعلق الامر بالطبايع أيضا، لان الأثر
العملي للامر بالطبيعة المطلقة ليس الا السعة العملية أيضا والتخيير العقلي في
امتثال الامر بها وصلوح كل فرد له، ومع المزاحمة لا تبقى السعة العملية بالوجه
المذكور، كما لا تبقى مع الامر التخييري بتمام أفرادها، بل يتعين تقييدها بالافراد
المقدورة وتعذر قصد الامتثال بالفرد المزاحم.
وكيف كان، فلا يتم ما سبق منهم من ابتناء امكان قصد الامتثال بالفرد
المزاحم على الخلاف في مسألة تعلق الأوامر والنواهي بالطبايع والافراد. بل
التحقيق امكانه مطلقا.
ونظير ذلك يجرى في الامر الشرعي التخييري، كالأمر بخصال الكفارة لو
كان بعض الأطراف مزاحما لتكليف فعلى، حيث يتعين عدم سقوطه، لعين ما
سبق.
وعلى ذلك يختص سقوط الامر بالضد مع فعلية الامر بضده بما إذا كان
328

مزاحما للامر الفعلي المذكور، لتعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال.
هذا كله بناء على عدم اقتضاء الامر بالشئ النهى عن ضده، بل مجرد
سقوط أمره. وأما بناء على اقتضائه له ففي منافاة النهى المذكور للامر بالضد
مطلقا أو في خصوص صورة المزاحمة، لانحصار الضد المأمور به بالفرد
المنهى عنه، أو عدم منافاته له مطلقا، كلام يأتي في مبحث اجتماع الأمر والنهي
إن شاء الله تعالى.
الامر السادس: حيث سبق سقوط الامر بالضد في فرض فعليه الامر
بضده مطلقا أو في فرض التزاحم بين الامر وتعذر الجمع بينهما في مقام
الامتثال فالمتيقن من ذلك سقوطه في الجملة، بمعنى عدم بقائه على النحو
الذي كان عليه بحسب أصل تشريعه من الاطلاق بنحو يقتضى ثبوته ولزوم
امتثاله ولو مع مخالفة الاخر، لأنه مناف لفرض فعلية الاخر ولزوم امتثاله.
أما سقوطه مطلقا فهو محل كلام بينهم، حيث اشتهر في العصور المتأخرة
الكلام في ثبوته بنحو لا يقتضى معصية الاخر، بل في طولها وبنحو الترتب
بينهما مع فعليته في ظرف فعلية الاخر، بحيث يمكن قصد الامتثال بمتعلقه
ويصح لو كان عبادة وان قيل بعدم كفاية قصد الملاك في التقريب المعتبر في
العبادة.
والكلام المذكور وان حرر في كلمات المتأخرين في مسألة الضد
المفروض فيها التزاحم بين الامرين تبعا للتضاد بين متعلقيهما، الا أن ملاكه لا
يختص بذلك، بل يجرى في النهيين المتزاحمين تبعا لامتناع ترك متعلقيهما
معا، وفى الأمر والنهي لو فرض التلازم بين متعلقيهما بحيث لا يمكن فعل
متعلق الامر وترك متعلق النهى. فهو من مباحث التزاحم بين التكليفين الذي لم
يختص في كلامهم بباب يبحث عنه وعن أحكامه بل صار البحث فيه وفى
أحكامه متفرقا في الأبواب المناسبة لكل منها.
329

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه قد تقرر في محله أنه مع تزاحم التكليفين في
مقام الامتثال فمع عدم المرجح لأحدهما يتخير في امتثال كل منهما، ومع
وجوده يتعين الراجح.
ومرجع ذلك إلى تصرف صاحب التكليف وجاعله مع التفاته في تكليفه
بنحو يقتضى ذلك. ويأتي الكلام في مرجع التخيير مع عدم المرجح.
وأما تعين الراجح مع وجوده فهو يبتنى على بقاء الراجح على اطلاقه
بنحو يقتضى صرف القدرة إلى امتثاله واهمال المرجوح، ولا اشكال معه في
امتناع بقاء المرجوح على اطلاقه بنحو يقتضى صرف القدرة لامتثاله ولو مع
اهمال الراجح، لتنافي مقتضاهما بعد فرض التزاحم بينهما، فيمتنع فعليتهما مع
فرض قصور القدرة عن الجمع بينهما.
وانما الكلام في امكان فعلية المرجوح في الجملة في ظرف فعلية
الراجح لكن بنحو لا يصلح لمزاحمته، بل بنحو الترتب عليه، كما قربه جماعة
من الأعيان أولهم - في ما قيل - المحقق الثاني قدس سره (1)، ثم تبعه كاشف الغطاء،
وتلميذه التقى في حاشية المعالم، وأخوه في فصوله وغيرهما، وشيد ذلك
السيد الشيرازي الكبير وأوضحه، وتبعه جماعة من أعاظم المتأخرين عنه إلى
عصرنا الحاضر، وصرح بعضهم بامتناعه، وأنه لابد من سقوطه مطلقا بحيث لا
يصير فعليا الا بعد سقوط الراجح بالامتثال أو العصيان، كما أصر عليه شيخنا
الأعظم قدس سره - على ما في التقريرات - وشدد النكير على القول بالترتب، وتبعه
330

المحقق الخراساني قدس سره.
وقد يوجه الامر الترتبي بالمرجوح في ظرف فعلية الامر بالراجح بما عن
التقى في حاشيته على المعالم، وهو: أن يكون مشروطا بعصيان الراجح
بنحو الشرط المتأخر، بحيث يكون عصيان الراجح في وقته مستلزما لفعلية
المرجوح من أول الامر، فيجتمع الأمران في مقام الفعلية، الراجح لاطلاقه،
والمرجوح لتحقق شرطه - وهو عصيان الراجح - في وقته.
أما لو كان مشروطا بعصيان الراجح بنحو الشرط المتقدم أو المقارن فلا
يجتمع الأمران، إذ لا يكون المرجوح فعليا الا في المرتبة المتأخرة عن عصيان
الراجح، وهي مرتبة سقوط الراجح عن الفعلية.
لكن أصر بعض الأعاظم قدس سره على كفاية أخذ عصيان الراجح شرطا في
فعلية المرجوح بنحو الشرط المقارن في اجتماع الامرين، بدعوى: أن العصيان
كالامتثال لا يكون الا في زمان ثبوت الحكم وفعليته، لأنه الموضوع لهما، كما أن
زمان فعلية الحكم هو زمان تحقق شرطه وتمامية موضوعه، لا متأخر عنه،
لاستحالة انفكاك الحكم عن موضوعه.
وحينئذ فحيث فرض كون عصيان الراجح مأخوذا موضوعا للمرجوح
وشرطا لفعليته كان زمانه وزمان فعلية الراجح وزمان فعلية المرجوح واحدا،
ويجتمع الأمران في الزمان المذكور، وهو كاف في الترتب.
وفيه: أن التكليف الراجح وان كان محفوظا في مرتبة عصيانه، الا أنه
يسقط في المرتبة المتأخرة عنه، والتكليف المرجوح لما كان شرطه المتمم
لموضوعه عصيان الراجح كان متأخرا عن العصيان رتبة. فلا يجتمع التكليفان
رتبة، حيث لا يكون المرجوح فعليا الا في المرتبة المتأخرة عن العصيان والتي
يسقط فيها الراجح. كما لا يجتمعان زمانا، لان زمان حدوث العصيان هو زمان
سقوط الراجح وفعلية المرجوح، فهما متصلان متعاقبان في الفعلية، لا مجتمعان
331

فيها، نظير وجوب الصوم المنتهى بالمغرب وجواز الافطار الحاصل به،
وانشغال الذمة بالدين الذي ينتهى بالابراء وفراغ الذمة منه الحاصل به.
ولولا ذلك لزم اجتماع النقيضين في زمان واحد، لان زمان حدوث الرافع
هو زمان وجود المرفوع، كما أن الرافع علة لعدم المرفوع وموضوع له، فيلزم
اجتماع وجود المرفوع وعدمه في زمان وجود الرافع.
وحينئذ فليس مثل ذلك منشأ لتوهم التزاحم، كي يحتاجه في تصحيحه
للترتب، إذ التزاحم بين التكليفين انما يكون مع اجتماع مقتضيي الداعوية لكل
منهما لتمامية شرط فعليته وتعذر الجمع بين مقتضاهما، لا مع تعاقب مقتضى
الداعوية لكل منهما، حيث يتعين تأثير كل مقتض في الداعوية، لعدم المزاحم له
حين وجوده.
وهو أيضا لا ينفع في ما نحن فيه الذي لأجله قيل بالترتب، إذ الهم وقوع
الضد امتثالا للامر المرجوح مع فعلية الامر الراجح بضده، اما مع كون الامر
الراجح مستمرا، كالأمر بتطهير المسجد المبنى على لزوم الاتيان به فورا ففورا،
فعصيانه في كل آن لا ينافي توجهه في الان الثاني، أو مع كون زمان الراجح
أوسع منه قليلا بنحو لا يكفي للمرجوح، كما لو شرع في الصلاة في زمان يمكن
انقاذ الغريق فيه قبل اكمالها، بحيث لا يتعذر بمجرد الشروع فيها ويتعذر بعد
اكمالها، حيث لا اشكال في فعلية الامر الراجح حين إرادة امتثال أمر المرجوح
وعدم سقوطه بالعصيان بعد، لفرض سعة وقته.
وأما ما ذكره فهو انما ينفع فيما إذا كان الشروع في امتثال المرجوح مقارنا
لسقوط الراجح بالعصيان وان كان لذلك صورتان:
إحداهما: ما إذا كان منشؤه سببية الشروع في المرجوح لعصيان التكليف
بالراجح، ومانعيته من امتثاله، كما لو كان مشغولا بصلاة يجب اتمامها ويحرم
قطعها، فبدأ مؤمنا بالسلام عليه الذي هو مأمور به ذاتا.
332

وهي خارجة عما نحن فيه من فرض التزاحم لمجرد التضاد، لان التزاحم
حينئذ لمانعية المأمور به المرجوح من المأمور به الراجح زائدا على التضاد
بينهما.
على أنه يتعذر وقوع المرجوح كالسلام على المؤمن امتثالا لامره، بناء
على ما ذكره قدس سره لان الامتثال متأخر رتبة عن حدوث الامر، وفى مرتبة الاقدام
على المرجوح لا أمر به، لعدم فعلية العصيان لأمر الراجح، بل هو في مرتبة
متأخرة عن فعل المرجوح.
ثانيتهما: ما إذا كان امتثال المرجوح مقارنا صرفا للعصيان من دون أن
يكون سببا له، كما لو وجب على المكلف أن يكون مسافرا حين طلوع الفجر،
فعصى وصام ذلك النهار.
وفى مثل ذلك كثيرا ما يتعذر الراجح كالسفر في المثال ان لم يؤت به
قبل الوقت آثما، فيسقط قبل فعلية أمر المرجوح، فلا يتعاقبان زمانا، فضلا عن
أن يجتمعا.
نعم، قد لا يتعذر، كالأمور القصدية غير المحتاجة إلى مقدمة خارجية،
كنية الإقامة للمسافر أو تركها، فينفع ما ذكره قدس سره في توجيه تحقق الامتثال مع
التعاقب.
لكن كلام الأصحاب الذي دعاهم لتحرير مسألة الترتب لو شمل ذلك
فليس هو المهم في المقام.
ومنه يظهر أنه ليس من الترتب المهم عند الأصحاب ما إذا وجب السفر
على الحاضر أو ترك الإقامة على المسافر، ثم وجب عليه الصوم على تقدير
عصيان الامر بالسفر أو بترك الإقامة. وان جعله قدس سره من الترتب بتقريب: أن الصوم
والسفر أو ترك الإقامة متضادان، مع أنه لا اشكال في وجوب الصوم في فرض
عصيان الامر بالسفر أو بترك الإقامة، كما جعل هذا من شواهد صحة الترتب.
333

وبما ذكرنا يتضح أن كلامه انما ينفع فيها، لان عصيان الامر بالسفر أو
بترك الإقامة في كل آن من النهار قبل الزوال شرط لوجوب الصوم في ذلك الان.
كما عرفت خروجها عن المهم من الترتب الذي هو محل الكلام، وانما
المهم ما إذا كان عصيان الراجح شرطا متأخرا لفعلية المرجوح.
نعم، من يرى امتناع الشرط المتأخر - كبعض الأعاظم قدس سره - يمكنه
التخلص بفرض كون الشرط المقارن هو تعقب العصيان المنتزع في الزمن
السابق من تحققه في الزمن اللاحق، حيث لا فرق عملا بينه وبين كون العصيان
بنفسه شرطا متأخرا. فلابد من النظر في توجيه الامر الترتبي معه مع استلزامه
التكليف بالضدين.
إذا عرفت هذا، فقد يوجه الامر المذكور بأنه وان استلزم التكليف
بالضدين المفروض تعذر الجمع بينهما، الا أن ذلك حيث كان باختيار المكلف
عصيان الراجح لم يكن محذورا، لقدرته على عدم عصيانه فلا يكلف
بالمرجوح، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
ويشكل بما ذكره غير واحد: بأن امتناع التكليف بالضدين وما لا يقدر
عليه المكلف لا يختص بما إذا كان موضوع التكليف خارجا عن اختيار
المكلف، بل يجرى حتى مع كونه باختياره، لما تقدم من أن الغرض من
التكليف احداث الداعي للمكلف نحو امتثاله، فمع تعذر امتثاله يكون التكليف
لغوا.
وقاعدة أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار انما تنفع في استحقاق
العقاب على ما يستند تعذره للاختيار، لا في تصحيح فعلية التكليف بما يستند
تعذره للاختيار، فضلا عن تصحيحه بمجرد استناد موضوعه له، كما في المقام.
فالعمدة في دفع المحذور المذكور ما ذكر في كلام غير واحد..
وحاصله: أن تعذر الجمع بين التكليفين في الامتثال انما يمنع من الجمع
334

بينهما في مقام الفعلية بلحاظ اقتضاء كل منهما صرف القدرة لامتثاله وترك
امتثال الاخر، فيتزاحمان، ولا يصلحان لاحداث الداعي لموافقة مقتضاهما.
وذلك غير لازم مع الجمع بينهما بنحو الترتب، لعدم منافاة المرجوح
للراجح، إذ حيث كان مشروطا بعصيان الراجح فهو لا يقتضى عصيانه، لان
التكليف لا يقتضى حفظ شرطه، وانما يقتضى امتثاله في فرض تحقق شرطه
وفعليته.
كما أن الراجح لا ينافي المرجوح أيضا، لان المرجوح حيث لا يقتضى
حفظ نفسه بحفظ شرطه فالراجح لما كان مقتضيا امتثال نفسه وعدم عصيانه
كان مقتضيا لرفع التكليف المرجوح برفع شرطه، لا لمخالفته في ظرف فعليته
وتحقق شرطه، كي ينافي مقتضاه.
وبعبارة أخرى: مجرد فعلية التكليفين مع تعذر امتثالهما لا يكفي في
التزاحم بينهما، بل لابد فيه من تنافى مقتضييهما بنحو لابد معه من مخالفة
أحدهما، فيتزاحمان، وذلك غير حاصل في المقام، لان المرجوح لا يقتضى
صرف القدرة لامتثاله بنحو يستلزم عصيان الراجح، لان التكليف لا يدعو لحفظ
شرطه، والراجح وان اقتضى صرف القدرة لامتثاله وعدم موافقة المرجوح، الا
أن عدم موافقة المرجوح حينئذ ليست مخالفة لمقتضاه، ولا عصيانا له، لارتفاعه
تبعا لارتفاع شرطه بامتثال الراجح وعدم عصيانه، فكل من التكليفين لا ينافي
مقتضى الاخر ولا يقتضى عصيانه.
ولو فرض تحقق العصيان للراجح وحده أو مع المرجوح فهو مستند
لسوء اختيار المكلف من دون أن يكون مقتضى أحد التكليفين ليلزم التزاحم
بينهما المانع من فعليتهما.
وما اشتهر من أن التكليف المشروط يصير مطلقا بتحقق شرطه، راجع
إلى أنه يصير كالمطلق في فعلية داعويته تبعا لفعليته بتحقق شرطه، لا أنه
335

كالمطلق في اطلاق داعويته بنحو يقتضى حفظه مطلقا ولو بحفظ شرطه.
ومما ذكرنا يتضح أن اجتماع التكليفين بالنحو المذكور لا يقتضى الجمع
بينهما في مقام الامتثال، ليمتنع مع تعذر الجمع المذكور، بل يقتضى امتثال
الراجح مطلقا وامتثال المرجوح عند عصيان الراجح، وكل منهما مقدور
للمكلف من دون تزاحم بينهما، فلا وجه لامتناع اجتماعهما.
ودعوى: أن اطلاق الراجح يوجب تعذر امتثال المرجوح، وسلب القدرة
عليه شرعا، فلا مجال لجعله ولو مقيدا.
مدفوعة: بأن سلب القدرة على امتثال المرجوح شرعا بسبب الراجح انما
هو لاقتضاء الراجح صرف القدرة إليه، فمع فرض عدم تأثيره بسبب مزاحمته
بالدواعي الموجبة للعصيان فلا وجه لمانعيته من التكليف المرجوح مع القدرة
التكوينية على امتثاله، بل يصح جعله حينئذ.
وانما امتنع جعلهما معا بنحو الاطلاق مع القدرة على امتثال كل منهما في
ظرف عصيان الاخر، لاقتضائهما الجمع في مقام الامتثال المتعذر تكوينا، فمع
فرض عدم اقتضائهما ذلك لتقييد المرجوح بعصيان الراجح لا وجه لامتناع
اجتماعها. بل يلزم جعلهما حينئذ بالنحو المذكور بعد فرض تمامية ملاك
المرجوح المقتضى لوجوب حفظه على المولى بجعل التكليف مهما أمكن.
وتعذر حفظه مع تحصيل ملاك الراجح بالامتثال لا يصحح التفريط فيه مع
فوته بالعصيان، بل يلزم حفظه بجعل الحكم على طبقه، كما يجب جعله على
الاطلاق مع عدم المزاحمة بالراجح.
هذا، وقد يستشكل في الترتب بوجهين..
الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن ملاك استحالة جعل
التكليفين اللذين يتعذر امتثالهما في عرض واحد آت في جعلهما بنحو الترتب،
لأنهما وان لم يجتمعا في مرتبة التكليف الراجح، لتأخر المرجوح عنه رتبة
336

بسبب أخذ عصيانه في موضوعه، الا أنهما يجتمعان في مرتبة المرجوح. قال
في حاشية الرسائل: (لعدم تقيد تنجز الأول بمرتبة، بل يعم المراتب ومنها هذه
المرتبة).
وفيه.. أولا: أن الوجود البقائي الاستمراري للشئ لا يكون الا بالإضافة
إلى الزمان تبعا لاستمرار العلة أو تجددها، أما بالإضافة إلى المرتبة فلا بقاء ولا
استمرار له، ليكون في مرتبة ما هو متأخر عنه، لان منشأ اختلاف الرتبة في
الشيئين والترتب بينهما خصوصية فيهما تقتضي ذلك، وهي لا ترتفع عنهما بعد
فرض وجودها فيهما، فلا يعقل ارتفاع الترتب بين المترتبين طبعا كالعلة
والمعلول، ومنه المقام لان منشأ الترتب بين التكليفين أخذ عصيان أحدهما في
موضوع الاخر، وقد سبق أن تحقق شرط التكليف لا يجعله مطلقا، بحيث ترتفع
اناطته بالشرط وتكون داعويته مطلقة.
وبعبارة أخرى: منشأ التأخر الرتبي خصوصية في المترتبين غير قابلة
للارتفاع، وهي في المقام أخذ عصيان الراجح في موضوع المرجوح غير
المرتفع بوجود الشرط، فلا يجتمعان في رتبة واحدة، بخلاف منشأ التقدم
الزماني، فإنه ليس الا وجود علة المتقدم وعدم وجود علة المتأخر، ويمكن
اختصاص الزمان الأول بذلك، واجتماع العلتين بعده في الوجود، فيجتمع
المعلولان زمانا.
وثانيا: أن محذور اجتماع التكليفين اللذين يتعذر امتثالهما ليس هو
وجودهما في رتبة واحدة، ويكون مراد القائل بالترتب التخلص من المحذور
المذكور، كي ينفع ما ذكره قدس سره لو تم في دفعه، بل هو تزاحم التكليفين وتنافي
مقتضاهما، الذي سبق عدم لزومه مع الترتب، ولذا لا اشكال في امتناع
اجتماعهما مع اختلافهما رتبة بوجه آخر لا يرفع التزاحم، كاشتراط أحدهما
بالعلم بالآخر أو اطاعته، فمع ارتفاع محذور التزاحم بالترتب بالوجه المتقدم
337

لا يهم ما ذكره قدس سره من لزوم اجتماعهما في مرتبة وجود المرجوح وفعليته وان تم.
ولعله لذا تدرج في الكفاية من الحديث المتقدم إلى الاصرار على عدم
ارتفاع التزاحم بالترتب بما يظهر اندفاعه مما تقدم. فراجع كلامه وتأمل فيه.
ومن ثم لا يختص الترتب الذي يندفع به المحذور بما إذا كان شرط
المرجوح هو عصيان الراجح بعنوانه، ليلزم تأخره عنه رتبة، بل يكفي فيه كون
الشرط عدم تحقق مقتضى الراجح بترك المأمور به وفعل المنهى عنه، وان لم
يلزم معه تأخر المرجوح عنه رتبة، فلا فرق في عدم مزاحمة الامر بالصلاة للامر
بانقاذ الغريق بين كون أمر الصلاة مشروطا بعصيان أمر الانقاذ بعنوانه، ليتأخر
رتبة عن الامر بالانقاذ، وكونه مشروطا بعدم الانقاذ بنفسه من دون أخذ
العصيان، فلا يتأخر عن الامر بالانقاذ.
بل لعل مرادهم بالاشتراط بالعصيان ذلك، لا أخذ العصيان بعنوانه،
ويكون هو الوجه في اطلاقهم الترتب عليه، لا اختلاف التكليفين رتبة لاخذ
أحدهما في موضوع الاخر، لعدم دخل ذلك للأثر المهم في المقام.
الثاني: ما ذكره هو قدس سره أيضامن أن لازمه استحقاق عقابين في صورة
مخالفة كلا التكليفين، ولا يظن التزامهم به، لضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر
عليه المكلف.
قال: (وكان سيدنا الأستاذ قدس سره لا يلتزم به على ما هو ببالي، وكنا نورد به
على الترتب وكان بصدد تصحيحه).
لكن أصر غير واحد ممن يلتزم بالترتب على تعدد العقاب في المقام تبعا
لتعدد التكليف وتعدد العصيان، وقد وجهه بعض الأعاظم قدس سره بوجهين..
أولهما: أن العقاب ليس ترك الجمع بين الامتثالين المفروض تعذره على
المكلف، بل على الجمع بين العصيانين، بمعنى أن يعاقب على ترك امتثال كل
منهما في حال ترك الاخر، ومن الظاهر أن ترك امتثال كل منهما في حال ترك
338

امتثال الاخر مقدور للمكلف، فيعاقب عليه.
وفيه: أن العقاب ان كان على الجمع بين العصيانين المقدور للمكلف لزم
وحدة العقاب، لان الجمع أمر واحد.
مضافا إلى أن الجمع لا دخل له في غرض المولى، ولا في تكليفه، وانما
هو عنوان انتزاعي لكل من العصيانين المتعلقين بتكليفي المولى.
وان كان على منشأ انتزاع الجمع المذكور، وكل من العصيانين بنفسه
المفروض اجتماعه مع الاخر، بأن يكون لكل عصيان عقاب يخصه. فالوجه
المذكور لا ينهض بدفع الاشكال، لوضوح أن العقاب لا يحسن بمجرد القدرة
على المعصية، بل لابد فيه من القدرة على الطاعة أيضا، ومن الظاهر عدم القدرة
على طاعة التكليفين معا.
ومجرد القدرة على كل منهما في ظرف عدم الاخر لا يكفي في صحة
العقاب، بل لابد من القدرة المطلقة على الشئ من تمام الجهات، فمع العجز
من بعض الجهات يتعين قصور العقاب من جهتها، والعقاب على قدر الطاقة،
والا جرى ذلك في التكليفين المتزاحمين أيضا، مع ارتكاز أن امتناع العقاب
عليهما معا ليس لمجرد امتناع فعليتهما ذاتا، لامتناع احداث الداعي لغير
المقدور، بل لكونه ظلما أيضا قبيحا بملاك قبح العقاب على ما لا يطاق.
على أن ذلك لو كفى فلا داعي لدعوى العقاب على الجمع بين
العصيانين، بل يمكن له دعوى أن العقاب على ترك كل من الامتثالين المفروض
كونه مقدورا في نفسه مع قطع النظر عن الاخر.
ثانيهما: أنه لا يلزم في جواز تعدد العقاب القدرة على الجمع بين
العصيانين، بل يكفي فيه القدرة على كل منهما في نفسه ومع قطع النظر عن
الاخر، فمع فرض تعدد التكليف وعدم الارتباطية بين التكليفين يكون لكل
منهما عصيانه المختص به المقدور في نفسه مع قطع النظر عن الاخر.
339

ويظهر اندفاعه مما تقدم من أن مجرد القدرة على كل منهما في ظرف
عدم الاخر لا يكفي في تعدد العقاب عليهما مع امتناع الجمع بينهما في مقام
الامتثال والعصيان.
اللهم الا أن يرجع ما ذكره إلى ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من عدم اعتبار
القدرة في العقاب الا لتصحيح التكليف.
قال: (بل ضرورة حسن العقاب على مخالفة التكليف الفعلي تقتضي
الالتزام بترتب عقابين بعدما عرفت من امكان التكليف بهما وفرض معصيتهما
معا. وقبح العقاب على مالا يقدر عليه لا أصل له ما لم يرجع إلى قبح العقاب
على مالا تكليف به، فلا يكون العقاب عليه عقابا على المعصية).
لكن يظهر مما سبق منا في رد الوجه الأول المنع من ذلك، وأن العقاب
انما يحسن على قدر الطاقة.
نعم، بعد أن كان القائلون بالترتب مختلفين في وحدة العقاب كما حكاه
المحقق الخراساني قدس سره عن السيد الشيرازي الكبير قدس سره - وتعدده - كما تقدم من
بعض الأعاظم وسيدنا الأعظم قدس سرهما ووافقهما غيرهما - يظهر أنه لا مجال
للاستدلال على بطلان الترتب باستلزامه تعدد العقاب، لان ذلك انما يصلح
للاستدلال إذا لم يلتزم به القائل بالترتب، كما لا يخفى.
ومن هنا فالكلام في ذلك لا يرجع لتتميم الاستدلال على الترتب، بل
لتحقيق حال التكليف والعقاب في المقام.
وحينئذ نقول: كبرى استلزام المعصية للعقاب تقضى بتعدد العقاب مع
ثبوت الامر الترتبي ووحدته مع عدمه. وحيث كان ثبوت الامر الترتبي مقتضى
كبرى لزوم حفظ الملاك والغرض تشريعا، كما تقدم، وتعدد العقاب مناف
لكبري قبح العقاب على مالا يطاق، لزم التدافع بين الكبريات الثلاث المذكورة
الكاشف عن قصور بعضها عن المقام، وحيث لم تكن الكبريات المذكورة
340

مأخوذة من أدلة لفظية قابلة للتخصيص، بل هي عقلية وجدانية كشف ذلك عن
قصور بعضها في نفسه، وأن صيغتها بنحو القضية الكلية الشاملة للمورد في غير
محله ناشئ عن اختلاط الامر على الوجدان، بل اللازم الرجوع للوجدان في
خصوصيات الموارد والتمييز بينها، ليتضح عموم هذه الكبريات لها أو قصورها
عنها، ولا ينبغي سوقها على أنها مسلمة الثبوت على عمومها. فضلا عن
الاحتجاج بها في المورد مع ثبوت الخلاف في عموم كل منها له، حيث أنكر
جماعة الترتب على خلاف عموم الكبرى الثانية، والتزم به بعضهم مع وحدة
العقاب على خلاف عموم الأولى، كما التزم آخرون به مع تعدد العقاب على
خلاف عموم الثالثة.
هذا، ولا ينبغي التأمل في امكان الترتب ولزومه بعد ملاحظة ما تقدم في
تقريبه وتوضيحه، ولا أقل من جعل مفروض الكلام ثبوته والتسليم به.
كما لا ينبغي التأمل في عدم تعدد العقاب معه، بحيث يكون عقاب
عاصي التكليفين معا في المقام كعقاب عاصيهما مع عدم المزاحمة وامكان
الجمع في الامتثال، فمثلا: لو تعرض للغرق مؤمن ومستضعف وأشرفا على
الخطر، وكان هناك شخصان أحدهما يستطيع انقاذ أحد الغريقين لا غير سباحة،
والاخر يستطيع انقاذهما معا بسفينة، فتركاهما حتى غرقا، فهل يمكن بعد
الرجوع للمرتكزات العقلائية والتأمل فيها دعوى: أن عقاب الشخصين بنحو
واحد، لاشتراكهما في مخالفة تكليفين، وان كان التكليفان ثابتين في حق الأول
بنحو الترتب وفى حق الثاني في عرض واحد.
وأيضا، فالامر الترتبي كما يجرى في التكلفين المختلفين في الأهمية
كذلك يجرى في التكليفين المتساويين، غايته أن كلا منهما مشروط بعدم امتثال
الاخر، وحينئذ لو تعرضت للغرق سفينة تحمل جماعة كثيرة يغرقون بغرقها،
وكان هنا جماعة مختلفو الطاقة على انقاذهم، فبعضهم يستطيع انقاذهم
341

بأجمعهم بسفينة كبيرة، وآخر يستطيع انقاذهم نصفهم بسفينة متوسطة، وثالث
يستطيع انقاذ ربعهم بسفينة صغيرة، ورابع يستطيع انقاذ جماعة قليلة بقارب
صغير، وخامس يستطيع انقاذ شخصين منهم بخشبة، وسادس يستطيع انقاذ
واحد منهم سباحة مثلا، فهل يمكن البناء على كون عقاب الكل واحدا لو
تكاسلوا وتركوهم حتى غرقوا، لأنهم تركوا انقاذ كل منهم مع تكليفهم بانقاذه
مطلقا أو بشرط ترك انقاذ غيره المفروض التحقق؟!.
وهكذا ما يشبه المثالين المذكورين من الأمثلة الكثيرة التي يزيد النظر
فيها والتأمل في حالها استيضاح ما ذكرنا من عدم تعدد العقاب في فرض العجز
عن الجمع بين الامتثالين وان تعددت المعصية لفعلية كل من التكليفين.
ومن هنا يتعين البناء على أن العقاب انما يكون بقدر طاعة المكلف، فإذا
كان التكليفان المتزاحمان متساويين كان العقاب المستحق بقدر العقاب على
واحد منهما، نظير الامر التخييري الذي لا يستحق مع ترك امتثاله بترك تمام
الأطراف الا عقاب واحد، وان افترقا بتعدد التكليف الفعلي والملاك في المقام
ووحدتهما في الامر التخييري على ما سبق في محله. غايته أن وحدة العقاب
هناك لوحدة الغرض، وهنا لعجز المكلف وقصوره عن استيفاء الغرضين.
وان كانا مختلفين في الأهمية فحيث كان المرجوح مشاركا للراجح في
مرتبة من الأهمية ويمتاز الراجح بمرتبة أخرى، فبلحاظ ما به الاشتراك يلحقهما
حكم المتساويين، فلا يوجب تركهما الا عقابا واحدا مناسبا لتلك المرتبة،
بلحاظ العجز عن استيفائهما معا، نظير التكليف التخييري، على ما تقدم،
وبلحاظ ما به الامتياز يكون الراجح كالواجب التعييني المستقل يستحق لأجله
العقاب، للقدرة على استيفائه بفعله.
ومرجع ذلك إلى أن ترك امتثال المرجوح لا يزيد في العقاب الحاصل
بترك امتثال الراجح غاية الامر أن امتثال المرجوح يوجب تخفيف العقاب
342

المستحق بعصيان الراجح، لما فيه من استيفاء ملاكه المشارك لملاك الراجح في
بعض مراتب الأهمية. والتي ذكرنا أن الحال بالإضافة إليها نظير الواجب
التخييري. فيكون عقاب من اقتصر على عصيان الراجح من دون أن يبتلى
بالمرجوح أو مع الابتلاء به وعصيانه أشد من عقاب من ابتلى بالمرجوح فامتثله
بدلا عن الراجح.
فالعقاب في المقام كالعقاب الحاصل بترك التكليفين غير المتزاحمين إذا
كان أحدهما وافيا ببعض ملاك الاخر، كالأمر باللبن بملاك كونه شرابا وغذاء،
والامر بالماء بملاك كونه شرابا، حيث لا اشكال في لزوم التكليف بهما بنحو
التكليف الترتبي بالضدين، في كون الراجح مطلقا والمرجوح مقيدا بعصيان
الراجح، مع خلوهما عن اشكال التكليف بالضدين.
كما لا اشكال في أنهما لو عصيا معا لم يستحق الا عقاب واحد بقدر
عقاب عصيان الراجح، ولو عصى الراجح وامتثل المرجوح لم يستحق الا بعض
ذلك العقاب بلحاظ ما لم يستوفه المرجوح من الملاك، ولا فرق بين ذلك
والمقام في كيفية الاستحقاق ارتكازا، وان افترقا في أن وحدة العقاب في ذلك
لقصور الملاك، وفى المقام لقصور المكلف وعجزه عن امتثال التكليفين، كما
يفترقان في كيفية الملاك للتداخل بين الملاكين في ذلك والتباين بينهما في
المقام، لان الفرقين المذكورين كالفرق بين التكليف التخييري الأصلي
والتكليفين المتزاحمين المتساويي الأهمية، الذي عرفت أنه لا يوجب فرقا في
كيفية استحقاق العقاب.
ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى كون الخطاب الترتبي المرجوح ارشاديا،
بلحاظ عدم استتباع مخالفته العقاب زائدا على عقاب مخالفة الراجح، إذ يكفي
في مولويته استتباع موافقته تخفيف العقاب الواحد اللازم من عصيانهما.
على أن المعيار في مولوية التكليف ليس هو استتباعه الثواب والعقاب،
343

بل صحة إضافة مؤداه للمولى، بحيث تكون موافقته لحسابه ولأجله، لصدوره
بداعي جعل السبيل منه، حيث لا يتوقف جعل السبيل على العقاب والثواب، بل
يكفي فيه لحاظ حق المولى، المستتبع لشكره أو نحوه من دواعي الموافقة،
وذلك لا يجرى في الخطابات الارشادية.
هذا كله حال العقاب بلحاظ طبيعة الامرين الترتبيين وبالنظر لملاكيهما.
وربما تبتنى الإطاعة والمعصية على خصوصيات اخر تقتضي نحوا آخر.
فقد يبتنى ترك الراجح وموافقة المرجوح على الاستهانة برجحان الراجح
وبأهميته شرعا، كما لو أنقذ المستضعف، لا لأنه أيسر عليه، بل لعدم بنائه على
أهمية المؤمن وعدم اهتمامه بعظيم حقه وحرمته، حيث قد يكون ذلك أشد من
تركهما معا تكاسلا عن تحمل مشقة الانقاذ واستصعابا له، مع الاذعان بأهمية
الايمان وحرمة الاسلام.
كما قد يبتنى تركهما معا على الاستهانة بتكليف المولى وعدم احترامه لا
على تجنب مشقة الامتثال والكسل عنه، حيث يكون البعد عن المولى والتمرد
عليه بتركهما معا أشد من البعد والتمرد بترك الراجح لصعوبته وتجنب مشقته
من دون أن يبتلى بالمرجوح. لكن هذا خارج عن محض الإطاعة والمعصية بما
هما الذي هو محل الكلام.
وقد يظهر من جميع ما تقدم أن الالتزام بوحدة العقاب لا ينافي البناء على
ثبوت الامر الترتبي بالمرجوح وكونه مولويا، وأنه لا وجه للمنع منه مع ذلك
وبعد عدم مزاحمته للامر بالراجح، ولا سيما مع عدم اباء المرتكزات العرفية
منه.
بل اعترف المحقق الخراساني قدس سره بوقوعه في العرفيات. قال سيدنا
الأعظم قدس سره: (كما يقول الأب لولده: اذهب اليوم إلى المعلم، فان عصيت فاكتب
في الدار ولا تلعب مع الصبيان. وببالي أنى سمعته رحمة الله يمثل بذلك في مجلس
344

درسه الشريف).
لكنه قدس سره مع اعترافه به قال في توجيهه: (لا يخلو اما أن يكون الامر بغير
الأهم بعد التجاوز عن الامر به وطلبه حقيقة، واما أن يكون الامر به ارشادا إلى
محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة، وأن
الاتيان به يوجب استحقاق المثوبة، فيذهب به بعض ما استحقه من العقوبة على
مخالفة الامر بالأهم، لا أنه أمر مولوي فعلى كالأمر به).
ويظهر حاله مما تقدم من توجيه كونه مولويا موجبا لتخفيف العقاب
بنفسه، لكونه محققا للملاك المشارك للفائت في بعض المرتبة من الأهمية، لا
من باب مقابلة الثواب للعقاب واحباط الأول للثاني.
مضافا إلى ما أشرنا إليه من ثبوت النظير له فيما لو كان أحد الواجبين وافيا
ببعض ملاك الاخر، وليس الفرق بينهما الا في أن تقييد المرجوح في النظير
مقتضى ملاكه بطبعه، وفى المقام مقتضى قصور قدرة المكلف عن الجمع بين
الامتثالين، وليس هو فارقا بعد كون مقتضى التقييد المذكور عدم الجمع بين
الامتثالين وارتفاع التزاحم بين التكليفين على ما سبق.
وينبغي تتميم الكلام في الترتب بتنبيهات..
التنبيه الأول: تقدم توجيه الامر الترتبي المرجوح بأن يكون مشروطا
بعصيان الراجح بنحو الشرط المتأخر. وقد يوجه أيضا بأن يكون مشروطا
بالعزم على عصيانه، لا بفعلية عصيانه وهو الذي اقتصر عليه كاشف
الغطاء قدس سره في محكى كلامه.
ولا يعتبر حينئذ كونه شرطا متأخرا، بل يمكن كونه شرطا متقدما أو
مقارنا، لعدم سقوط التكليف بالعزم على العصيان، فيجتمع التكليفان في زمان
واحد.
345

بل قد يظهر من المحقق الخراساني قدس سره لزوم كونه بأحد الوجهين وامتناع
كونه شرطا متأخرا. وان كان هو غير ظاهر الوجه.
وكيف كان، فالظاهر عدم تمامية الوجه المذكور في تقريب الترتب..
أولا: لان لازمه فعلية التكليف المرجوح في ظرف تحقق العزم المذكور
من المكلف حتى لو وافق التكليف الراجح غفلة وبلا قصد، ولا يمكن البناء
على فعلية المرجوح مع موافقة الراجح بعد فرض تعذر الجمع بين امتثاليهما.
وثانيا: لعدم ارتفاع محذور التزاحم بين التكليفين بذلك، إذ بعد فرض
تحقق العزم على عصيان الراجح وفعلية كلا التكليفين فكل منهما يدعو لامتثاله
وان استلزم عصيان الاخر، وحيث لم يكن امتثال الراجح رافعا لفعلية المرجوح،
لفرض عدم اشتراط المرجوح بالعصيان، بل بالعزم عليه كان كل منهما مقتضيا
لمخالفة مقتضى الاخر، الذي هو المعيار في التزاحم بينهما.
ومجرد استناد فعلية التكليفين معا لسوء اختيار المكلف لا يكفي في دفع
محذور التزاحم، كما تقدم.
ان قلت: لما كان الراجح يدعو لامتثاله فهو يدعو تبعا لقصد امتثاله وعدم
العزم على عصيانه، الذي هو شرط فعلية المرجوح ومتمم لموضوعه، فلا ينافي
مقتضى المرجوح، لما تقدم من أن التكليف لا يدعو لحفظ شرطه وتحصيل
موضوعه.
قلت: داعوية الراجح - كغيره من التكاليف - لامتثاله انما هي بمعنى
اقتضائه الموافقة ولو من دون قصد، بل ولو مع قصد العصيان والعزم عليه، لا
بمعنى داعويته لقصد الامتثال وعدم العزم على العصيان.
نعم، إذا كان الراجح تعبديا فحيث يكون مقيدا - ولو لبا - بقصد الامتثال
أو نحوه، تكون موافقته موقوفة على القصد المذكور، فالداعوية للموافقة ترجع
لداعويته - بالأصل، لا تبعا - للقصد المذكور المنافى لقصد العصيان والعزم عليه
346

الذي فرض كونه شرطا للمرجوح.
لكن هذا وحده لا يكفي في رفع التزاحم بين التكليفين، لأنه بعد تحقق
العزم على عصيان الراجح فالراجح وان اقتضى عدم العزم المذكور، الا أن
المرجوح بعد تمامية موضوعه بتحقق العزم المذكور يقتضى موافقته ولو مع
عصيان الراجح، وهو كاف في التزاحم.
فهو كما لو وجب بنحو الاطلاق إراقة الماء بعيدا عن المسجد، ووجب
غسل المسجد به مشروطا بكونه في المسجد، حيث يتزاحمان حين كونه في
المسجد وان كان الأول يقتضى رفع شرط الثاني لداعويته لاخراج الماء من
المسجد مقدمة لاراقته بعيدا عنه. فتأمل جيدا.
التنبيه الثاني: الكلام المتقدم في الترتب يختص بما إذا كان التزاحم بين
التكليفين لمجرد التضاد وتعذر الجمع بين الامتثالين، دون ما إذا كان منشؤه
مقدمية مخالفة أحد التكليفين لامتثال الاخر، كحرمة العبور في الأرض
المغصوبة ووجوب انقاذ الغريق لو توقف انقاذه على عبورها، وكوجوب تطهير
المسجد وحرمة قتل المؤمن لو توقف التطهير على قتله.
ومنه التزاحم في الضدين بناء على مقدمية ترك أحد الضدين لفعل
الاخر. حيث يشكل التكليف الترتبي المرجوح،
أما إذا كان ترك موافقة التكليف المرجوح مقدمة لموافقة التكليف
الراجح، كالمثال الأول، فلانه حيث تقدم اختصاص الداعوية الغيرية بالمقدمة
الموصلة، فالتكليف المرجوح بالإضافة لغير الموصل فعلى مطلقا، سواء امتثل
الراجح أم لم يمتثل، وبالإضافة للموصل غير فعلى مطلقا، لان فرض ايصاله
ملازم لفرض امتثال الراجح الذي لا موضوع معه للترتب.
ولو فرض عموم الداعوية الغيرية لغير الموصل ففرض فعلية الراجح
347

ملازم داعويته لمخالفة المرجوح، فيمتنع معها فعلية المرجوح مطلقا ولو بنحو
الترتب بملاك امتناع اجتماع الأمر والنهي في متعلق واحد، مع غض النظر عن
التزاحم.
وأما إذا كان ترك موافقة الراجح مقدمة لموافقة التكليف المرجوح
- كالمثال الثاني - فلان فعلية المرجوح ولو بنحو الترتب تستلزم داعويته
لمخالفة الراجح التي يمتنع فرضها مع فرض فعلية الراجح واطلاقه بملاك
امتناع اجتماع الأمر والنهي. وانما تتجه فعليته بعد سقوط الراجح بالعصيان،
لعدم المانع.
نعم، لو كان التكليفان متساويين فلا مانع من الترتب بالنحو الآتي في
المتساويين، الراجح لتقييد كل منهما بمخالفة الاخر، حيث لا يكون كل منهما
فعليا في ظرف موافقة الاخر ليدعو لترك موافقة الاخر، ويمتنع معه فعلية الاخر،
كما لعله ظاهر.
التنبيه الثالث: ما سبق في تقريب الامر الترتبي كما يجرى في التكليفين
المختلفي الأهمية كذلك يجرى في التكليفين المتساويين في الأهمية، غايته أن
كلا منهما يكون مشروطا بمخالفة الاخر، نظير ما سبق في الوجه الثالث في بيان
حقيقة الوجوب التخييري، وانما سبق هناك رده لارتكاز وحدة التكليف تبعا
لوحدة الغرض، ولا مانع من البناء عليه في المقام مع تعدد التكليف تبعا لتعدد
الغرض، وان امتنع اطلاق فعلية التكليفين معا بسبب التزاحم الاتفاقي بينهما،
كما يمتنع اطلاق أحدهما، لعدم المرجح.
ودعوى: أن الجمع لا ينحصر بالترتب بالنحو المذكور، بل يمكن انقلاب
التكليفين التعيينيين إلى تكليف تخييري واحد بكلا الطرفين.
مدفوعة: مضافا إلى ارتكاز تبعية التكليف للغرض في الوحدة والتعدد،
348

فمع فرض تعدد الغرض في المقام لا مجال للبناء على وحدة التكليف. فتأمل -
بأن التزاحم لا يختص بالامرين، ليمكن انقلابهما إلى أمر تخييري بالطرفين، بل
يجرى في تزاحم النهيين، وتزاحم الأمر والنهي، وفرض التخيير حينئذ يحتاج
إلى عناية أشد من عناية تقييد كل من التكليفين بالنحو الذي ذكرنا، فلا وجه
للخروج عنه بعد مطابقته للارتكاز.
لكن ذكر بعض الأعيان المحققين قدس سره أن الترتب بالوجه المتقدم في
التكليفين المختلفي الأهمية، الا أنه ممتنع في التكليفين المتساويين فيها، لان
تقييد كل منهما بمعصية الاخر مستلزم لتأخر كل منهما رتبة عن الاخر، لاخذه
في موضوعه، وهو ممتنع عقلا، فيتعين الجمع بينهما بوجه آخر مع ابقاء كل
منهما على اطلاقه.
وحاصله: أن الطلب ان كان ممكن الامتثال ولم يبتل بالمزاحم كان طلبا
تاما مقتضيا حصول المطلوب على كل حال ومن جميع الجهات، أما إذا ابتلى
بالمزاحم فهو طلب ناقص لا يقتضى حصول المطلوب من تمام الجهات، بل
من غير جهة المزاحم وبنحو لا يمنع منه، فكل من الطلبين في المقام وان كان
مطلقا لا تقييد فيه، الا أنه ناقص انما يقتضى وجود المطلوب من غير جهة
المزاحم.
وحينئذ يمكن جريان ذلك في مختلفي الأهمية، فيلتزم باطلاق كل منهما
مع كون طلب الراجح تاما لا نقص فيه، وطلب المرجوح ناقصا يقتضى وجوده
من غير جهة المهم وبنحو لا يمنع منه، لعدم الفرق عرفا بين المقامين، ولا
موجب لالتزام تقييد طلب المهم وان كان ممكنا.
ويندفع ما ذكره في وجه امتناع الترتب بين المتساويين في الأهمية بأنه لا
يلزم في الترتب كون شرط أحد التكليفين عصيان الاخر بعنوانه، ليلزم تأخره
عنه رتبة، بل يكفي كون الشرط ترك متعلقه ان كان أمرا وفعله ان كان نهيا الذي
349

يتحقق به العصيان، على ما تقدم توضيحه عند الكلام في الاختلاف الترتبي بين
الامرين الترتبيين في دفع الايراد الأول من ايرادي المحقق الخراساني قدس سره على
الترتب. فراجع.
كما أن ما ذكره من تقريب كون الطلب في كل منهما ناقصا مبنى على
تعقل نقص الطلب الذي تقدم منه قدس سره في مبحث الواجب التخييري تقريبه
بالإضافة إلى تمام أطراف التخيير. وتقدم منا المنع من ذلك.
والحمد لله رب العالمين.
350

الفصل الخامس
في اجتماع الأمر والنهي
351

الخامس في اجتماع الأمر والنهي
وقع الكلام بينهم في امكان اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد
وامتناعه.
والظاهر أن محل الكلام اجتماعهما مع تعدد الجهة في ما يكون مجمعا
للجهتين، مع المفروغية عن امتناع اجتماعهما في الواحد من جهة واحدة
وبعنوان واحد.
فمرجع النزاع إلى أن تعدد الجهة والعنوان لكل من الأمر والنهي هل
يكفي في تعدد متعلقهما ولو مع اجتماع الجهتين والعنوانين في وجود خارجي
واحد، فيكون الوجود المذكور مجمعا لهما تبعا لتعدد عنوانه، أو لابد معه من
تعدد الوجود الخارجي، ومع وحدته لا يكفي تعدد الجهة في امكان اجتماع
الأمر والنهي، بل لابد من قصور أحدهما أو كليهما عن المجمع.
كل ذلك بعد الفراغ عن دخل العنوان في الحكم وعدم سوقه لمحض
الحكاية عن الافراد بذواتها، اما لظهور الدليل في ذلك أو للعلم به من دليل
خارجي.
ومن هنا كانت المسألة عقلية يبحث فيها عن كيفية ورود الحكم على
العنوان وكيفية دخله فيه، الذي يستقل به العقل بعد استفادة أصل دخله من دليل
الحكم اللفظي أو غيره وربما يأتي لذلك مزيد توضيح.
كما لا ينبغي التأمل في كون المسألة أصولية بعد تحريرها لأجل استنباط
353

الاحكام الفرعية ووقوع نتيجتها في طريق استنباطها، وهي أحكام موارد
الاجتماع، وما يترتب عليها من امكان امتثال الامر بها وعدمه على ما يتضح بعد
ذلك إن شاء الله تعالى.
ولا ينافي في ذلك واجديتها لجهات اخر تقتضي عدها في غير مسائل
الأصول، لأنه لا يعتبر في المسألة الأصولية تمحضها في غرض الاستنباط وعدم
ترتب غرض آخر عليها، بل يكفي تحريرها لأجل الاستنباط وصلوحها لان
يترتب عليها.
هذا، وكلامهم في المسألة في غاية الاضطراب والتشويش، لاختلافهم
في تحديد موضوع النزاع والمعيار فيه ثبوتا، وعدم ايضاح جملة منهم لكيفية
تشخيصه اثباتا، كما اختلفوا في مباني المسألة ومقدمات الاستدلال فيها.
ومن هنا يضيق الوقت ولا ينشرح الصدر لاستيعاب كلماتهم والنظر فيها،
بل ينبغي الاقتصار على ما يخص الثمرة المهمة للمسألة، وهي حكم مورد
الاجتماع بنحو يمكن الامتثال به ويصح مع الالتفات للحرمة أو مع الغفلة عنها
أو الجهل بها.
وتحديد مباني الكلام في ترتبها يكون بذكر أمور مقدمة للكلام في
المطلوب.
الامر الأول: لا اشكال في تضاد الأحكام التكليفية الخمسة بمعنى امتناع
اجتماع أكثر من حكم واحد منها في موضوع واحد. الا أن الكلام وقع بينهم في
وجه التضاد. وينبغي التعرض لذلك، لابتناء تحديد مورد التضاد سعة وضيقا
عليه.
فنقول: من البديهي امتناع اجتماع البعث والزجر الحقيقيين بالإضافة إلى
شئ واحد، لتقومهما بالانبعاث والانزجار نحوه، وهما حركتان خارجيتان
متنافيتان
354

. لكن هذا وحده لا ينفع في ما نحن فيه، لعدم اقتضاء الوجوب أو الحرمة
والاستحباب والكراهة البعث والزجر الحقيقيين، بل يقتضيان الاعتباريين أو
الانشائيين، وحينئذ لابد من النظر في وجه التضاد بينهما مع ما هو المعلوم من أن
الاعتبار والانشاء خفيف المؤنة.
وقد يستدل لذلك بوجوه..
أولها: ما يظهر من الفصول وقد يستفاد من التقريرات من أن منشأ
تضادها وتنافيها هو تضاد منشأ انتزاعها، وهو المحبوبية والمبغوضية والإرادة
والكراهة.
ويندفع بما تقدم في مقدمة علم الأصول عند الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية
من عدم انتزاعها من المحبوبية والمبغوضية والإرادة والكراهة، وأن
الإرادة والكراهة التشريعتين اللتين اشتهر انتزاع الأحكام التكليفية منها مباينتان
للإرادة والكراهة والمحبوبية والمبغوضية سنخا. وتضاد الإرادة والكراهة
التشريعيتين محل الكلام ومحتاج لبيان آخر غير ما تقدم.
ثانيها: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من أن منشأ التضاد بين الاحكام هو تضاد
ملاكاتها، فملاك وجوب الشئ كونه ذا مصلحة بلا مزاحم وملاك حرمته كونه
ذا مفسدة بلا مزاحم.
قال قدس سره: (فلو فرض محالا كون الشئ الواحد ذا مصلحة بلا مزاحم وذا
مفسدة كذلك لابد أن تتعلق به الإرادة والكراهة معا، والامر والنهى كذلك... ومنه
يظهر حال بقية الأحكام التكليفية، فان التنافي بين الجميع لذلك، فنسبة التنافي
إليها انما هي بالعرض، أماما هو مورد التنافي أولا وبالذات فهو الملاكات لاغير.
ولذلك يظهر الفرق بين اجتماع الوجوب والحرمة في موضوع واحد وبين
التكليف بالمحال، فان الثاني لا قصور في ملاكه، فلو ثبت كان بملاك، وانما
القصور في القدرة عليه لا غير، والأول يمتنع، لعدم الملاك حتى لو فرض محالا
355

ثبوت القدرة على الامتثال...).
وفيه.. أولا: أن ذلك كما أشار إليه في آخر كلامه مبنى على تبعية
الاحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، ولا يتم بناء على عدم تبعيتها
للمصالح والمفاسد مطلقا، أو على تبعيتها للمصالح في أنفسها، لا في متعلقاتها،
مع أن الظاهر عدم ابتناء تضاد الاحكام على شئ من ذلك، بل هو ثابت مطلقا،
كما أنه مسلم عند الكل حتى من لم يقل بابتنائها على ذلك.
وثانيا: أن هذا مختص بالأحكام الصادرة من المولى الحكيم الذي تبتنى
أحكامه على ملاحظة الملاكات، دون أحكام غيره ممن لا يتقيد في أحكامه
بذلك، مع أن امتناع صدور الحكمين منه ظاهر، بحيث لو فرض خطابه
بالحكمين معا، لحمل على عدم القصد لأحدهما، أو العدول عنه ونسخه بالآخر،
أو لغوية خطابه، بحيث لا ينتزع منه الحكم، ولا ينتزع منه بنظر العقلاء
الحكمان معا
وثالثا: أن مقتضى الوجوب مثلا هو المصلحة الملزمة، والمفسدة
الملزمة من سنخ المانع من تأثير المقتضى، كما أن مقتضى الحرمة هو المفسد ة
الملزمة والمصلحة من سنخ المانع وحيث لا يراد بملاك الحكم المقتضى
وحده، بل مع عدم المانع لزم امتناع الاجتماع حتى مع تعدد الموضوع إذا فرض
امتناع امتثال الحكمين خارجا، لان ذلك يكفي في التمانع بين المقتضيين
المستلزم لعدم تمامية ملاكي الحكمين معا، بل يكفي في عدم تمامية ملاك
الحكم الواحد تعذر امتثاله، لان التعذر من سنخ المانع من فعلية تأثير المقتضى
في الحكم، فيكون عدم جعل الحكم لعدم الملاك أيضا.
وبعبارة أخرى: كما يكون اشتمال نفس موضوع المصلحة على المفسد ة
المزاحمة مانعا من تأثير المصلحة في الوجوب، كذلك يكون التلازم بين
موضوع المصلحة وموضوع المفسد ة، وتعذر موضوع المصلحة وحده مانعين
356

من تأثيرها فيه، ولا فرق بينهما في عدم تمامية العلة التامة التي هي المراد بملاك
الحكم، فلا وجه للفرق بين المقامين بأن الامتناع في الأول بملاك امتناع
الضدين لامتناع تمامية الملاكين وفى الثاني بملاك امتناع التكليف بغير المقدور
مع تمامية الملاك.
ورابعا: بأن ظاهره عدم التضاد بين الإرادة والكراهة ذاتا، بل بالعرض
بسبب التضاد بين الملاكين، وهو خلاف المرتكزات القطعية، ولذا لا اشكال في
امتناع اجتماعهما حتى في مثل الجنون لو تحقق منه الالتفات للموضوع مع عدم
ملاحظة للملاك قطعا.
بل الإرادة كيف نفساني خاص بالإضافة للمتعلق لا يجتمع مع الكراهة
التي هي كيف آخر بالإضافة له، والتنافر بينهما ذاتي ومن ثم اخذ مفروغا عنه في
الوجه الأول.
وما يظهر من بعض المحققين قدس سره من عدم التضاد بينهما اما مخالف
للبداهة أو أنه يريد من التضاد تنافرا خاصا لا مطلق التنافي المستلزم لامتناع
الاجتماع الذي هو محل الكلام في المقام. وقد أطلنا الكلام فيه في شرحنا
لكفاية الأصول، ولا مجال للتعرض له في المقام.
ومما ذكرنا يظهر أن البناء من سيدنا الأعظم قدس سره على عدم تضاد الأحكام التكليفية
ذاتا بل بالعرض تبعا للتضاد بين الملاكات لا يناسب مبناه في
حقيقة الأحكام التكليفية من انتزاعها من الإرادة والكراهة التشريعيتين اللتين
هما بنظره من سنخ الإرادة والكراهة التكوينيتين.
ثالثها: أن الأحكام التكليفية وان كانت من سنخ الأمور الاعتبارية بناء
على ما سبق منا في حقيقة الإرادة والكراهة التشريعيتين، لان جعل السبيل من
سنخ الاعتبار والأمور الاعتبارية قائمة بنفس المعتبر وتابعة لجعله الذي هو
خفيف المؤنة، الا أن مصحح اعتبارها بنظر العقلاء هو تميزها بآثارها، بحيث
357

يكون ترتبها عليها نوعا ملحوظا في مقام جعلها، كالزوجية المناسبة للاستمتاع،
والطهارة المناسبة للمباشرة، والنجاسة المناسبة للتوقى الاجتناب والحرية
المناسبة للاستقلال في التصرف، والرقبة المناسبة للتحجير فيه وتبعيته للمالك،
ونحو ذلك.
ولولا ملاحظة الآثار النوعية وترتبها على الامر المعتبر لكان الاعتبار لغوا
لا يكون بنظر العقلاء منشأ لتحقق الامر المعتبر، كاعتبار النجاسة للهواء
والزوجية للماء والحرية للتراب المفروض عدم قابليتها للآثار المناسبة لهذه
الأمور.
ولا ينافي ذلك اختلاف أفراد العنوان الاعتباري في الآثار المناسبة ورفع
بعضها في بعض الموارد، كحرمة وطئ الزوجة حال الحيض أو مع الظهار أو
الايلاء، وجواز شرب النجس للضرورة وعدم تنجس ماء الاستنجاء أو ملاقيه
مع ملاقاة أحدهما للنجس وعدم جواز التطهير بماء الاستنجاء بناء على
طهارته وعدم استقلال الصبي بالتصرف مع حريته وغير ذلك إذ ليس المدعى
كون ترتب تمام الآثار المناسبة فعلا مقوما للعناوين الاعتبارية، بحيث لو تخلف
بعضها أو تمامها في بعض الأحوال لا يصح الاعتبار المذكور، بل المدعى أن
شأنية ترتب الآثار المذكورة مصحح للاعتبار، وان لم تترتب لمانع أو ترتب
بعضها واختلفت أفرادها فيها. ولذا احتيج ترتب الآثار للجعل المستقل عن
جعل العناوين الاعتبارية، ولم يكف جعلها عن جعل الآثار، كما لا يكفي جعل
الآثار عن جعلها، الا بناء على انتزاع الأحكام الوضعية من الأحكام التكليفية،
الذي لا مجال للبناء عليه، على ما تقدم في مقدمة علم الأصول.
إذا عرفت هذا فتضاد الأمور الاعتبارية انما يكون بلحاظ تنافى آثارها
النوعية عرفا، بحيث يدرك العرف امتناع اجتماع السنخين، كما في تضاد
الطهارة والنجاسة والحرية والرقية ونحوها مما لا منشأ للتضاد عرفا الا تنافى
358

الآثار النوعية، حيث لا يصح بنظر العقلاء اعتبار كلا الامرين في الموضوع
الواحد، بل يكون بينهما بسبب ذلك كمال المعاند ة والمنافرة، وان كان الاعتبار
في نفسه خفيف المؤنة ولا يلزم من جعل الحكمين معا التكليف بغير المقدور،
لعدم ابتناء الأحكام الوضعية على العمل الا بضميمة أحكامها التكليفية التي
يمكن جعلها مع تضاد الحكمين الوضعيين بنحو لا يلزم منه التكليف بغير
المقدور باثبات بعض آثار كل من الحكمين.
وانما يصح اعتبار كلا الامرين في الموضوع الواحد مع عدم تنافى
آثارهما النوعية عرفا، كالنجاسة والملكية، وكزوجية المرأة وحريتها.
ومن هنا يتضح الوجه في تضاد الأحكام التكليفية، لان مصحح جعلها
اقتضاؤها بنظر العقل نحوا من العمل، وحيث كانت متنافية بطبعها في نحو
الاقتضاء، كانت متضادة عرفا بحيث لا يصح اعتبارها في الموضوع الواحد
بنظرهم.
بل حيث كانت متقومة بالاقتضاء المذكور بنحو تقتضي فعلية التأثير في
احداث الداعي للعمل كانت تابعة لفعلية الاقتضاء المذكور، لا لشأنيته كما
تقدم في بقية الاعتباريات بالإضافة إلى آثارها المناسبة فيمتنع اعتبارها مع
عدمه مطلقا حتى لو كان مسببا عن تعذر امتثال الحكم اتفاقا في الموضوع
الواحد أو أحد الموضوعين بسبب التزاحم، لا من جهة قبح التكليف بما لا يطاق
بملاك الظلم، بل من جهة اللغوية كما تقدم من بعض الأعاظم قدس سره عند الكلام في
ثمرة مسالة الضد.
غايته أن الامتناع المذكور لا يوجب التضاد الا بالإضافة إلى الحكمين في
الموضوع الواحد لاختصاص التضاد اصطلاحا بتنافي العارضين لذاتيهما في
الموضوع الواحد. ومن هنا صح دعوى التضاد بين الأحكام التكليفية.
ومن ذلك يظهر أن تنافى الحكمين ليس تابعا للتضاد بين أمرين حقيقيين
359

كالإرادة والكراهة أو الملاكين كما هو مبنى الوجهين السابقين بل للتنافي
بينهما بأنفسهما، اما على نحو التنافي بين سائر الأحكام الوضعية والأمور
الاعتبارية المتضاد ة، أو للتنافي بين أنحاء اقتضائها للعمل، الذي هو المقوم لها
والمصحح لجعلها.
وأما ما ذكره بعض المحققين قدس سره في وجه منع التضاد من امكان اجتماع
الحكمين في موضوع واحد ولو من موالي متعددين، حيث يكشف عن عدم
تضاد الحكمين بحسب حقيقتهما، وخصوصيات الموالى من المقومات الفردية
التي لا تكون دخيلة في التضاد، لأنه من شؤون الحقائق والطبايع، لا من شؤون
الافراد.
ففيه: أن خصوصية المولى وان كانت من المقومات الفردية الا أنه مانع
من دخل الخصوصيات الفردية في امتناع الاجتماع الناشئ عن التضاد بالمعنى
الراجع لامتناع الاجتماع الذي هو محل الكلام إذا كانت الخصوصيات الفردية
مقومة للموضوع، ولذا يمتنع اجتماع الضدين في الموضوع الواحد، لا مطلقا،
وفى المقام حيث كان الحكم التكليفي نحو إضافة قائمة بالمكلف والمكلف
والمكلف به فهو متقوم بالاطراف المذكورة، وهي الموضوع له،
فالتضاد بين الاحكام انما يقتضى امتناع اجتماعها مع وحدة الموضوع بانحفاظ
الأطراف الثلاثة، لا مع تعدده باختلاف بعضها، كما هو الحال في سائر الأمور
الإضافية كالأبوة والبنوة اللذين يمتنع اجتماعهما في الشخص الواحد بالإضافة
إلى شخص واحد، وان أمكن اجتماعهما فيه بالإضافة إلى شخصين. الا أن يريد
من التضاد تنافرا خاصا خارجا عن محل الكلام.
وبالجملة: التضاد بين الأحكام التكليفية بالمعنى الراجع لامتناع اجتماع
أكثر من حكم واحد في الموضوع الواحد لذاتيهما من البديهيات المستغنية عن
الاستدلال والاستدلال على منعه ملحق بالشبهة في مقابل البديهة، وانما الكلام
360

في منشأ التضاد، والظاهر تمامية ما تقدم في تقريبه.
هذا، وحيث كانت الأحكام التكليفية كلها مختلفة في نحو اقتضائها
للعمل بالإضافة لمتعلقاتها كان التضاد ثابتا بينها كلها ولا يختص ببعضها.
غايته أن تضاد الوجوب والتحريم تضاد تام بلحاظ تمام الحدود، لعدم
اشتراكهما في جهة من جهات الاقتضاء، فلا يمكن موافقة كل منهما الا بمخالفة
الاخر وعصيانه، بخلاف التضاد بين بقية الاحكام في أنفسها أو بينها وبين
الوجوب والتحريم، فإنه ليس تاما، بل من جهة خصوص ما به امتياز أحد
الحكمين عن الاخر من الحدود، فالوجوب والاستحباب يشتركان في اقتضاء
الفعل، ويختلفان في ابتناء الاستحباب على عدم الحرج في الترك، واقتضاء
الوجوب الحرج فيه، والوجوب والكراهة يشتركان في عدم الحرج في الفعل،
ويمتاز الوجوب باقتضائه الحرج في الترك والكراهة باقتضاء الترك ورجحانه،
كما أن الكراهة والاستحباب يشتركان في عدم الحرج في كل من الفعل والترك
مع امتياز كل منهما باقتضاء خصوص أحد الامرين، وهكذا.
ويظهر أثر ذلك في امكان تأكد أحد الحكمين بالآخر بالإضافة إلى الحد
المشترك إذا كان اقتضائيا، كتأكد الوجوب بالاستحباب بالإضافة إلى ما يشترك
بينهما، وهو اقتضاء الفعل ورجحانه. نظير التأكيد في الحكم الواحد الحاصل
باجتماع جهتين تقتضيانه.
كما يبتنى على ذلك عدم التضاد التام بين الوجوب أو الاستحباب البدلي
اما للتخيير العقلي أو الشرعي والتحريم فيما لو أمكن امتثال الأول بغير مورد
الثاني، لكون موضوعه أعم من موضوع الثاني مطلقا أو من وجه، كوجوب اكرام
العالم وحرمة اكرام الفاسق العالم أو مطلقا، وذلك لان الحكم البدلي يقتضى
عملا السعة بالإضافة إلى مورد الاجتماع والاجتزاء به في امتثاله، ومقتضى الثاني
بالإضافة إليه وان كان عدم السعة، فينافي حده الأول، الا أنه لا ينافي حده الثاني،
361

وهو الاجتزاء به في مقام امتثال الحكم البدلي، لامكان وفائه بغرضه وان كان
مستلزما للاخلال بالثاني وعصيانه. نظير ما تقدم في ثمرة مسألة الضد من عدم
التنافي بين التكليف الموسع والمضيق بنحو يمكن شمول الموسع للأفراد
الحاصلة في وقت المضيق
. فإذا كان مورد الاجتماع في المقام وافيا بملاك الحكم البدلي فمجرد كون
الاتيان به مخلا بغرض الحكم الاخر وموجبا لعصيانه لا ينافي أجزأه عن
الحكم البدلي، ليلزم تقييد متعلق الحكم البدلي بغيره، كما لا وجه للتزاحم بين
الملاكين بعد امكان استيفاء كل منهما بامتثال البدلي بغير مورد الاجتماع، بل
يتعين في مثل ذلك سعة متعلق الحكم البدلي لمورد الاجتماع وان كان متعلقا
للحكم الاخر، ولا يتضادان من هذه الجهة.
والفرق بينه وبين التقييد نظير الفرق بين التقييد بشئ زائد على الماهية
كتقييد الصلاة بالطهارة المستلزم لعدم اجزاء فاقد القيد، ومطلوبية شئ في
شئ بنحو تعدد المطلوب كالأمر بايقاع الصلاة في المسجد المستلزم لأجزأ
الفاقد عن أصل المطلوب وان لزم منه الاخلال بالآخر.
كما لا تضاد أصلا بين الوجوب أو الاستحباب المذكور والكراهة في
الفرض، لان الامر بالماهية انما يقتضى السعة في امتثاله بالإضافة إلى مورد
الاجتماع من دون أن ينافي مرجوحيته بنحو ينبغي اختيار غيره من الافراد، كما
نبه لذلك بعض الأعاظم قدس سره فمسألة اقتضاء النهى عن العبادة الفساد. فلاحظ.
ان قلت: لازم هذا عدم تعارض الدليلين في مثل ذلك أصلا والعمل على
اطلاق كل منهما، مع أن بناء العرف ظاهرا على التعارض بينهما بدوا ثم الجمع
بالتخصيص والتقييد، فإذا ورد: أكرم عالما، ثم ورد: يحرم اكرام العالم الفاسق،
لا مجرد حرمته مع اجزائه.
قلت: لا اشكال في ذلك لو أريد بالنهي الارشاد لعدم اجزاء مورده
362

وخروجه عن الماهية المطلوبة نظير النهى الوارد لشرح الماهيات الشرعية،
كالنهي عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه. لكنه أجنبي عن المقام من فرض
التنافي بين الوجوب البدلي والتحريم.
وأما لو أريد بالنهي مجرد التحريم لملاك أجنبي عن ملاك الامر فاطراد
التعارض والجمع بالنحو المذكور لا يخلو عن اشكال، بل لا يبعد اختلافه
باختلاف الموارد تبعا لخصوصيات المناسبات والقرائن المحيطة بالكلام. بل
الظاهر عدمه لو كان النهى للكراهة دون التحريم.
ولو سلم فهو مختص بالتحريم ولعله ناشئ عن أن اطلاق الامر كما
يقتضى اجزاء كل فرد كذلك يقتضى السعة وعدم الحرج بالإضافة إلى الافراد،
وحيث كان النهى منافيا للثاني فرفع اليد عن الاطلاق في متعلق الامر وحمله
على غير مورد النهى أقرب عرفا من التفكيك بين الاجزاء والسعة في مورد
النهى محافظة على الاطلاق فيه.
وذلك راجع إلى مقام الاثبات التابع للظهور، فلا ينافي ما ذكرنا من امكان
اجزاء مورد النهى، لعدم التضاد بين الامر المذكور والنهى من هذه الجهة الذي
هو راجع لمقام الثبوت، فلا ينهض ذلك لو تم بالخروج عما تقدم. فلاحظ.
الامر الثاني: من الظاهر أنه لا تعارض بين اطلاقي دليلي الأمر والنهي في
مسالة الاجتماع بناء على جواز الاجتماع، لعدم التنافي بين الدليلين.
كما أنه بناء على الامتناع فالمشهور أنه مع تقديم جانب النهى لا يخرج
مورد الاجتماع عن موضوع الامر تخصيصا وملاكا، بل للمانع، مع دخوله فيه
ذاتا وواجدتية لملاكه بتمامه، فان كان الامر توصليا أجزاء عنه مطلقا، وان كان
تعبديا أجزاء مع عدم مبعدية النهى للغفلة عنه أو الجهل به، فضلا عما لو لم يكن
فعليا بسبب الاضطرار لمخالفته.
كما لا ريب في كفاية العموم من وجه بين عنواني الأمر والنهي في
363

الدخول في هذه المسألة، مع الكلام في الاكتفاء في ذلك بما إذا كان بينهما عموم
مطلق، على كلام لا يهم التعرض له.
هذا ولا اشكال عندهم أيضا في التعارض البدوي بين الدليلين
المتضمنين لحكمين متضادين إذا كان بين موضوعيهما عموم وخصوص مطلق
أو من وجه، ولم يشر أحد منهم للتفصيل في ذلك بين القول بامتناع اجتماع
الأمر والنهي وعدمه.
كما لا اشكال عندهم ظاهرا في أنه مع عدم المرجح لاحد الدليلين
يسقطان معا عن الحجية في مورد الاجتماع، ومع المرجح لأحدهما يسقط
الاخر عنه، وفى الموردين لا مجال للبناء على ثبوت ملاك الحكم الذي يسقط
دليله عن الحجية في مورد الاجتماع، بل يتوقف في ذلك، فلا يجتزأ به في
امتثال الامر لو سقط دليله عن الحجية بسبب التعارض، أو تقديم الدليل الاخر.
وهذا كاشف عن أن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي بنظرهم مباين
لمورد التعارض، وان اشتركا في كون النسبة بين العنوانين العموم من وجه فقط
أو مع العموم المطلق أيضا.
وقد وقع الكلام بينهم في ضابط موضوع مسألة الاجتماع، وفى الفرق بينه
وبين موضوع التعارض المذكور. ويظهر منهم في ضابط الفرق بينهما وجهان..
أولهما: ما ذكره بعض المعاصرين 4 في أصوله وحاصله: أن العنوان
الذي يؤخذ موضوعا للحكم..
تارة: يلحظ فانيا في مصاديقه على نحو يسع جميع الافراد بما لها من
المميزات، فيكون شاملا بسعته للجمع بين العنوانين، فيعد في حكم المتعرض
له بالخصوص، ولو من جهة كونه متوقع الحدوث على وجه يكون من شأنه أن
ينبه عليه المتكلم، وحينئذ يكون دليل الحكم دالا التزاما على نفى الحكم الاخر
المضاد له في المجمع قال: (ولا نضايقك في أن تسمى مثل هذا العموم العموم
364

الاستغراقي، كما صنع بعضهم).
وأخرى: يلحظ فانيا في مطلق الوجود المضاف إلى طبيعة العنوان من
دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الافراد، فلم تلحظ كثرتها ومميزاتها
في مقام الأمر والنهي، فيكون المأمور به والمنهى عنه صرف وجود الطبيعة. قال:
(ولتسم مثل هذا العموم العموم البدلي، كما صنع بعضهم)
. ففي الصورة الأولى يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي في مقام الجعل
والتشريع، لتكاذبهما في مورد الاجتماع، لاقتضاء كل منهما ثبوت حكمه فيه
بالمطابقة ونفى حكم الاخر بالالتزام، للتنافي بين الحكمين. وحينئذ يتعين
التعارض بينهما، ومقتضى القاعدة تساقطهما معا في المورد المذكور، فلا يحرز
فيه الوجوب ولا الحرمة.
ومعه لا مجال لدخوله في موضوع مسألة الاجتماع، لاختصاصه بما إذا
فرض شمول الدليلين لمورد اجتماع العنوانين وحجيتهما بالإضافة إليه، وذلك
انما يكون مع عدم التعارض بينهما في مقام الجعل والتشريع.
أما في الصورة الثانية فيدخل المورد في موضوع مسالة الاجتماع، ولا
تعارض بين الدليلين، لعدم لحاظ الافراد بنحو يسع الافراد جميعها، وان كان
العنوان في ذاته شاملا لها، لان الحكم يتعلق بصرف الطبيعة المأمور بها
كالصلاة والمنهى عنها كالغصب فلا يكون دليل وجوب الصلاة مثلا دالا
على وجوبها حتى في مورد الغصب، بنحو يدل بالالتزام على انتفاء الحرمة فيه،
كما لا يكون دليل حرمة الغصب دالا على حرمته حتى في مورد الصلاة بنحو
يدل بالالتزام على انتفاء الوجوب فيه، فلا يقع التعارض بين الدليلين. وحينئذ لو
اختار المكلف الجمع بينهما في مقام الامتثال يقع الكلام في جواز الاجتماع
وعدمه، فعلى الجواز يكون مطيعا وعاصيا، وعلى الامتناع يكون مطيعا لا غير أن
رجح الامر، وعاصيا لا غير أن رجح النهى، لوقوع التزاحم بين التكليفين
365

الموجب للرجوع إلى أقوى الملاكين.
هذا حاصل ما ذكره في المقام. وقد أطال في تقريبه بنحو اضطرنا إلى
إطالة الكلام في شرحه تبعا له، لئلا يفوت شئ بسبب الاختصار يخل
بالمطلب، وان أعرضنا عن بعض التفصيلات، لعدم أهميتها في بيانه
وفيه.. أولا: أنه لم يتضح الفرق بين الصورتين.
إذا لو أريد بالأولى العموم الاستغراقي بالمعنى المعروف الراجع لسعة
الحكم لتمام الافراد بنحو الجمع الذي هو مفاد الواو وبالثانية العموم البدلي
بالمعنى المعروف الراجع لسعة الحكم لتمام الافراد بنحو التخيير الذي هو مفاد
أو فلا مجال لفرض الثانية في النهى، لعدم الاشكال في كون عمومه استغراقيا
بالمعنى المعروف.
وان أريد بالأولى العموم الوضعي وبالثانية العموم الاطلاقي فالفرق بينهما
بالإضافة إلى بيان حكم الافراد في غاية الاشكال، فان منشأ الدلالة على حكم
الافراد وان اختلف فيهما، الا أنهما مشتركان في أصل الدلالة عليه وعلى كيفية
تعلق الحكمين، ولذا لا اشكال في أن ما ذكروه من تحقق التعارض بين العامين
من وجه يجرى في المطلقين، فالمراد بالعام فيه وفى كثير من أحكام العام ما
يعم المطلق، كما ذكرناه في مبحث العموم والخصوص، ويشهد به أدنى سبر
لكلماتهم في الفقه والأصول.
وكيف كان فالدليل بعد فرض ظهوره في العموم يدل على سعة الحكم
للفرد بنفسه دون ما هو خارج عنه مما يقارنه وجودا ولا يتحد معه خارجا.
وحينئذ فان قيل بأن موضوع الحكم هو العنوان أو بأن تعدد العنوان
موجب لتعدد المعنون اللذين عليهما يبتنى القول بامكان اجتماع الأمر والنهي
عندهم كان موضوع أحد الدليلين مقارنا لموضوع الاخر في مورد الاجتماع، مع
خروجه عنه ومباينته له، فلا يكون عموم موضوع أحد الحكمين له منافيا لعموم
366

موضوع الاخر له، ليقع التعارض بين الدليلين.
وان قيل بأن موضوع الحكم هو المعنون مع عدم تعدده بتعدد العنوان
الذي عليه يبتنى القول بالامتناع عندهم كان موضوع حكم أحد الدليلين متحدا
مع موضوع الاخر في مورد الاجتماع، فيكون عموم موضوع أحد الحكمين له
منافيا لعموم موضوع الاخر له، ويقع التعارض بين الدليلين من دون فرق بين
الأدلة وأنحاء دلالتها بعد فرض عمومها لمورد الاجتماع.
ثانيا: أن كلا من الدليلين في الصورة الثانية ان كان في نفسه متكفلا ببيان
حكم مورد الاجتماع كانا متكاذبين متعارضين بناء على امتناع اجتماع الحكمين
في الوجود الواحد المجمع للعنوانين، لعين ما ذكره في الصورة الأولى، أما بناء
على امكان اجتماعهما فيه فلا تنافى بين مفادي الدليلين، ومعه لا تعارض حتى
في الصورة الأولى أيضا، لما سبق من أن العموم مطلقا انما يقتضى سعة حكمه
للفرد بنفسه دون ما يقارنه.
وان لم يكونا متكفلين ببيان حكمه، لتعرضهما لثبوت الحكم للماهية من
دون نظر للافراد، كان مرجعه إلى عدم الاطلاق لكل منهما ووروده بنحو القضية
المهملة، ومعه لا مجال لكون المجمع من مورد مسألة اجتماع الأمر والنهي،
لتوقفه على ثبوت كل منهما فيه بمقتضى دليله، لينظر في امكان اجتماعهما
ويعمل بكل من الدليلين فيه أو امتناعه ويتعين سقوط أحدهما أو كليهما فيه،
ويكون أبعد عن المسألة من صورة التعارض.
ومن ثم كان كلامه في غاية الغموض والاضطراب، ولم يتحصل منه ما
يمكن الركون إليه في بيان ضابط موضوع المسألة، والفارق بينه وبين مورد
التعارض.
ثانيهما: ما حكاه هو رحمة الله عن بعض الأعاظم قدس سره من أن الجهتين في العامين
من وجه ان كانتا تعليليتين كان العامان متعارضين، لاتحاد المأمور به مع المنهى
367

عنه، فيمتنع معه اجتماع الحكمين في مورد اجتماع الجهتين وان تعددت
علتهما، وان كانتا تقييديتين فلا تعارض بينهما، لتعدد الموضوع، ويدخلان
حينئذ في مسألة الاجتماع مع المندوحة، وفى باب التزاحم مع عدمها.
وفيه: أنه لا ضابط للفرق المذكور بين العناوين، كما لا تتعرض له أدلة
أحكامها، بل هي انما تتعرض لاثبات الحكم على العنوان الحاكي عن المعنون،
بنحو يظهر منه نوعا دخله في الحكم والغرض، فاما أن يبنى على كونه تعليليا
في الجميع أو تقييديا في الجميع.
نعم قد تدل القرينة الخاصة على سوق العنوان لمحض الحكاية عن
أفراده والإشارة إليها من دون دخل له في الحكم والغرض، وهو حينئذ لا يكون
تعليليا ولا تقييد يا.
مع أن كون العنوانين تقييديين من مباني القول بجواز الاجتماع في
موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي عندهم، لاستلزامه تعدد موضوع الحكمين
ولو مع اجتماع العنوانين في فرد واحد، لا ضابط لموضوع المسألة المذكورة،
بنحو يتنازع بعد البناء عليه في جواز الاجتماع فيه وامتناعه، كما لعله ظاهر
بالتأمل.
نعم، لم أعثر عاجلا على التفصيل المذكور في تقريري درس بعض
الأعاظم قدس سره المعروفين، لا هنا ولا في مسألة الضد، وان تعرض في المسألتين لما
هو الدخيل في المقام في الجملة، كما لم ينقله عنه غير بعض المعاصرين ممن
تسنى لي العثور على كلامه.
وانما ذكر هنا أن مرجع النزاع في هذه المسألة إلى النزاع في أن الجهتين

(1) يأتي التعرض للضابط المستفاد منه لكون الجهة تعليلية أو تقييدية في آخر الكلام في
مطلبه هذا
368

تعليليتان، ليلزم التعارض في موردها، أو تقييديتان كي لا يلزم التعارض، بل
يدخل المورد في التزاحم.
وليس هذا فرقا بين موضوع المسألة ومورد التعارض المشار إليه، الذي
هو محل الكلام، بل بيان لمبنى كون موضوع المسألة من صغريات التعارض،
وهو أمر آخر.
وبعبارة أخرى: محل الكلام هو الفرق بين الموارد التي يحكم فيها
بالتعارض ابتداء وعلى كل حال، وموضوع مسألة الاجتماع التي يبتنى دخولها
عنده في صغريات التعارض على ما ذكر، لا ضابط دخول موضوع هذه المسألة
في التعارض أو التزاحم، الذي تعرض له.
مع أن ما ذكره من لزوم التعارض في موضوع المسألة بناء على أن
الجهتين تعليليتان لا يناسب بناء المشهور على الامتناع وتقديم جانب النهى مع
اجزاء المجمع عن الامر في التوصليات مطلقا، وفى التعبديات مع الغفلة عن
النهى أو الجهل به أو الاضطرار لمخالفته، كما يظهر بالتأمل.
هذا، ويظهر منه قدس سره في ضابط كون الجهتين تعليليتين وكونهما تقييديتين
أن التركب بين الجهتين ان كان اتحاديا كانتا تعليليتين، وان كان انضماميا كانتا
تقييديتين.
لكنه في الحقيقة ليس ضابطا لتعيين حال الجهة وأنها تعليلية أو تقييدية،
بل لتمييز موارد تعدد المعنون بتعدد العنوان، وموارد وحدته مع تعدد العنوان،
وبينهما فرق ظاهر.
نعم، هو مثله في أنه مبنى جواز الاجتماع وامتناعه في موضوع المسألة،
دون ما هو محل الكلام من ضابط الفرق بين موضوعها ومورد التعارض.
ويأتي تمام الكلام في ما ذكره ان فاء الله تعالى.
والمتحصل: أنه لا يتضح من كلامهم ما ينهض بالفرق بين مورد
369

التعارض وموضوع المسألة في العامين من وجه.
نعم ذكر المحقق الخراساني قدس سره في ضابط موضوع المسألة أنه لابد من
اشتمال المجمع على ملاكي الحكمين معا، كي يمكن جريان النزاع حينئذ في
امكان ثبوت كلا الحكمين، تبعا لملاكه، وعدمه، لاستلزامه اجتماع الحكمين
المتضادين.
وقد تبعه في ذلك بعض الأكابر من تلامذته في درره، وجعله ضابطا
للفرق بين موارد التعارض وموضوع المسألة، وأنه لابد في التعارض من وحدة
الملاك واختصاصه بأحد الحكمين.
وهو في محله في الجملة، لمناسبته لما سبق من المشهور من البناء على
اجزاء المجمع عن الامر مع بنائهم على الامتناع وتقديم جانب النهى وما سبق
من عدم الاشكال في عدم الاجزاء في مورد التعارض البدوي.
الا أنه ضابط ثبوتي لا اثباتي، ليتجه الرجوع إليه في تمييز موضوع المسألة
عن مورد التعارض، لوضوح أن الأدلة لا تتعرض للملاكات ابتداء، ليمكن
دلالتها على ثبوت ملاكي الحكمين في مورد مجمع العنوانين وان امتنع اجتماع
الحكمين فيه، وانما تتعرض للأحكام واستفادة الملاكات منها بتبعها،
فلا بد من التمييز بين الموارد التي يحكم فيها ابتداء بتعارض الدليلين في
مجمع العنوانين بنحو يستلزم سقوط أحدهما أو سقوطهما معا عن الحجية
حتى بالإضافة إلى الملاك وموضوع هذه المسألة الذي يحرز فيه من الاطلاقين
ثبوت كلا الملاكين في المجمع، ويبتني احراز كلا الحكمين أو أحدهما فيه على
النزاع في امكان الاجتماع وامتناعه.
أما مع عدم التمييز المذكور وفرض الموارد بنحو واحد فاللازم بناء
التعارض بين الدليلين وعدمه على الخلاف في جواز الاجتماع وامتناعه. فان
قيل بالجواز فلا تعارض بين الدليلين مطلقا لا في الملاكين ولا في الحكمين،
370

وان قيل بالامتناع يلزم التعارض بينهما في مدلولهما المطابقي، وهو اثبات كلا
الحكمين في مجمه العنوانين.
وحينئذ فان قيل بأن تعارض الدليلين في مدلولهما المطابقي كما يسقطهما عن الحجية فيه
يسقطهما عن الحجية في مدلولهما الالتزامي كما هو
التحقيق على ما ذكرناه في مبحث التعارض تعين عدم احراز ملاك أحد
الحكمين أو كليهما من الاطلاقين في المجمع ى فلا يجزى عن الامر بناء على
تقديم جانب النهى.
وان قيل بأنه لا يسقطهما م ن الحجية في المدلول الالتزامي، تعين احراز
الملاكين في المجمع واجزائه عن الامر ولو مع تقديم جانب النهى في
التوصليات مطلقا وفى التعبديات مع عدم صلوح النهى للمبعدية.
لكن عرفت أن بناء المشهور ليس على ذلك، بل على التعارض في بعض
المواد مطلقا وان قيل بجواز الاجتماع المستلزم لعدم اجزاء المجمع عن الامر
مع عدم تقديم دليه، وعلى اجزاء المجمع عن الامر في خصوص موضوع
مسألة الاجتماع مع بنائهم على الامتناع وتقديم النهى فيه.
ومن ثم ذكر بعض مشايخنا (دامت بركاته) أن ذلك من المشهور ناش
عن الغفلة عن مقتضى التعارض اللازم بناء على الامتناع وتقديم جانب النهى،
وأن اللازم بطلان الامتثال بالمجمع مع الجهل بالنهي ونحوه مما لا يرتفع معه
النهى واقعا، لان فعلية النهى في المجمع تستلزم قصور متعلق الامر عنه، فلا
يحرز ملاكه فيه، ليكون مجزيا.
نعم، لم يلتزم بذلك مع الاضطرار لمخالفه النهى، كما يظهر من غيره
أيضا.
وقد يقرب بأنه بعد فرض قصور النهى عن مورد الاضطرار لا مانع من
عموم اطلاق الامر له، فيحرز الامر به تبعا لثبوت الملاك فيه، ويتعين اجزاؤه.
371

لكنه يشكل: بأن المنشأ للتعارض في العامين من وجه وان كان هو تنافى
الحكمين بنحو يمتنع فعليتهما معا، فيقصر عن فرض الاضطرار لمخالفة حكم
الراجح حيث يلزم سقوطه ولا يمتنع معه فعلية الاخر، الا بناء المعرف فيه على
كون مورد التعارض الموجب لقصور أحد الدليلين أو كليهما هو المجمع بذاته
وبعنوانه الأولى، لا بما هو محكوم فعلا بالحكم الاخر، فيؤخذ بذاته قيدا في
موضوع الدليل المرجوح ويستثنى منه ملاكا وخطابا مطلقا ولو مع سقوط حكم
الدليل الراجح بمثل الاضطرار والحرج مما لا يرتفع الملاك، كما يشهد بذلك
ملاحظة النظائر في سائر موارد العامين من وجه.
مثلا إذا ورد: أكرم العلماء، وورد: لا تكرم الفساق، ففرض تقديم الثاني في
العالم الفاسق راجع عرفا إلى تقييد الأول بغير الفساق من العلماء وقصوره عنهم
ذاتا وان ارتفعت حرمة اكرامهم بالاضطرار.
ولذا لا يظن من أحد الالتزام في فرض الاضطرار إلى اكرام فاسق من
العلماء أو غيرهم بلزوم اكرام الفاسق من العلماء تحكيما لعموم وجوب اكرام
العلماء بعد فرض قصور عموم حرمة اكرام الفساق بالاضطرار، نظير المقام.
بل لو تم ذلك جرى في العموم المطلق ن فيلتزم بأنه لو سقط حكم
الخاص للاضطرار يرجع في مورد ه لحكم العام، مع أنه لا يظن بأحد الالتزام
بذلك، وانما يجمع بينهما بخروج مورد الخاص عن حكم العام مطلقا على
النحو الذي ذكرناه في العامين من وجه.
ومن ذلك يظهر حال ما ذكره دامت بركاته من أن ملاك الحرمة لما لم يكن
مؤثرا في مبغوضية المجمع فعلا حال الاضطرار له لا يكون مانعا من ايجابه بعد
فرض اشتماله في نفسه على الملاك الملزم، فلا مانع من التمسك باطلاق دليل
الوجوب فيه، فيثبت صحة امتثال أمر الطبيعة به، ويكون مصداقا للطبيعة الواجبة
في الخارج.
372

لاندفاعه: بأنه لا اشكال في صحة الامتثال بالجمع في فرض احراز ملاك
الوجوب فيه، لعدم المانع من تأثير الملاك لحكمه، بلا حاجة للاطلاق، بل
يكفي التقرب بالملاك لو فرض عدم الامر بعد عدم فعلية النهى المانع من
التقرب.
الا أن الاشكال في احراز الملاك بعد فرض تعارض الدليلين وتقديم دليل الحرمة في المجمع المستلزم لقصور
دليل الوجوب عنه بذاته، كما تقدم.
ومن ثم كان الظاهر عدم تمامية ما ذكره من التفصيل بين الجهل بالنهي
والاضطرار لمخالفته، بل يلزم عدم صحة الامتثال في الجميع بناء على ما ذهب
إليه من كون المورد من صغريات التعارض.
فالعمد ة في المقام عدم تمامية المبنى المذكور، وأن مورد اجتماع الأمر والنهي
ملحق بالتزاحم دون التعارض، لاحراز كلا الملاكين فيه من الاطلاق، فان
الجمود في تحرير محل النزاع في مسأله الاجتماع على ما تقدم من امكان
اجتماع الحكمين بعنوانين قد يوهم عموم النزاع في كفاية تعدد العنوان في
امكان سعة الحكمين المتضادين للمجمع بين العنوانين لكل عنوان من دون
فرق بين العناوين وأنحاء اجتماعها في المورد الواحد، المستلزم لابتناء
التعارض بين دليلي الحكمين المختلفي العنوان في المجمع على النزاع في
مسألة الاجتماع مطلقا، فان قيل بامتناع الاجتماع لزم التعارض بين الدليلين
لتكاذبهما تبعا لتنافي مفاديهما في الجميع، وان قيل بجواز الاجتماع فلا
تعارض في الجميع.
لكن لا مجال لذلك بعد ملاحظة مفروغيتهم عن التعارض البدوي في
بعض العناوين من دون ابتناء على مسألة الاجتماع واجراء أحكام التعارض من
الجمع العرفي مع امكانه والترجيح أو التخيير أو التساقط مع تعذره، بنحو يبنى
على عدم احراز ملاك الحكم الذي تضمنه الدليل المرجوح أو الساقط
373

بالتعارض، مع ما أشرنا إليه آنفا من بناء المشهور على احراز ملاك الحكم في
موضوع مسألة الاجتماع، حيث يكشف ذلك عن الفرق عندهم بين العناوين،
بل عن ارتكازية الفرق المذكور، حيث جروا عليه بطبعهم من دون تنبيه له
وتحديد لمورده.
وتوضيح ذلك: أن امتثال التمسك بالاطلاقين معا لاثبات فعلية الحكمين
المتضمنين لهما كما يكون مع تضاد حكميهما ووحد ة متعلقهما، كذلك يكون
مع تعدد متعلق حكميهما وتعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال، اما للغوية جعل
الحكم مع تعذر الامتثال، أو لقبح التكليف بما لا يطاق كما تقدم في ثمرة مسألة
الضد.
الا أن بناء العرف في الأول على تكاذب الاطلاقين في مقام الاثبات بنحو
يسقط أحدهما أو كلاهما عن الحجية رأسا، فكما لا يثبت به الحكم الفعلي
لا يثبت ملاكه، وهو المراد بالتعارض الذي يكون معيار الترجيح فيه قوة الدليل
ولا أثر فيه لأهمية الحكم.
أما في الثاني فلا تكاذب بين الاطلاقين بنظر العرف، بل يحمل كل منهما
على بيان ثبوت حكمه في نفسه لولا العجز عن الامتثال الذي يسقط معه الحكم
عن الفعلية مع بقاء ملاكه، المستلزم لتزاحم الملاكين ثبوتا في تأثير الحكم،
وهو المراد بالتزاحم الذي يكون معيار الترجيح فيه أهمية الحكم تبعا لأهمية
ملاكه، ولا أثر فيه لقوة الدليل، على ما حقق في محله من مباحث التعارض. ولا
اشكال في شئ من ذلك.
كما لا اشكال في أن أظهر مصاديق الأول ما إذا اتحد موضوع الحكمين
بحسب العنوان والمعنون معا، كما لو دل أحد الدليلين على وجوب اكرام
العلماء والاخر على حرمته، وأن أظهر مصاديق الثاني ما إذا تعدد موضوعهما
بحسب العنوان والمعنون، كما في ما دل الدليلين على وجوب انقاذ المؤمن وما دل على
374

حرمة التصرف في المغصوب لو توقف الانقاذ على التصرف.
وإنما الاشكال فيما لو تعدد موضوعهما بحسب العنوان واتحد بحسب
المعنون، لاجتماع العنوانين في بعض الافراد، لاضطرابهم في ذلك جدا.
وعليه يبتنى اشتباه مورد تعارض العامين من وجه بموضوع مسأله
اجتماع الأمر والنهى اللذين نحن بصدد التمييز بينهما.
والظاهر أن الحال يتضح بملاحظة أقسام العناوين وكيفية انتزاعها
لمعنوناتها.
فإن العناوين الحاكية عن فعل المكلف الصالح لأن يكون موضوعا
للأحكام التكليفية ومعروضا لها..
تارة: تكون أولية حاكية عنه بذاته من دون نظر لشئ خارج عنه، كعنوان
المشي والنوم والتكلم والأكل والشرب والسب والمدح والغيبة وغيرها.
وأخرى: تكون ثانوية منتزعة من الفعل بلحاظ أمر خارج عنه، كالعناوين
التسبيبية المنتزعة من ترتب شئ عليه، كعنوان الاحراق والايذاء والاضرار
والتأديب والتكريم والانقاذ والتداوي وغيرها، والعناوين الإضافية المنتزعة من
نحو إضافة خاصة بينه وبين غيره، كالمقابلة والمعاندة والإطاعة والمعصية
والمتابعة والمشابهة والفوقية والتحثية وغيرها.
والظاهر أن مرجع التكليف بالعناوين بقسميها إلى التكليف بمنشأ
انتزاعها، لكونه موطن الغرض والملاك.
ففي القسم الأول يكون المكلف به هو الفعل بذاته، لأنها هي منشأ انتزاع
العنوان، من دون فرق بين التكليف بها على اطلاقها والتكليف بها مقيدة ببعض
القيود الخارجة عنها، كتقييد المشي بالسرعة والاكل بطعام خاص والنوم بوقت
خاص إلى غير ذلك، وليست فائدة التقييد الا تضييق مورد التكليف وقصره على
ما يقارن القيد من دون أن يكون القيد بنفسه موردا للتكليف وجزءا من متعلقه،
375

على ما سبق توضيحه في أوائل الكلام في تقسيم المقدمة إلى تكوينية وشرعية.
فراجع.
أما في القسم الثاني فليس المكلف به وموطن الغرض حقيقة الا منشأ
انتزاع العنوان الخارج م ن فعل المكلف وليس التكليف بفعله الا للتوصل إليه،
لكونه مسببا عنه، كما في العنوان التسبيبي، حيث يكون فعل المكلف سببا
لمنشأ انتزاع العنوان، أو لكونه قائما به، كما في العنوان الإضافي، حيث يكون
فعل المكلف طرفا للإضافة التي هي منشأ انتزاع العنوان، فتقوم به قيام العرض
بموضوعه.
ومن ثم ذكرنا أنه مع تردد فعل المكلف في هذا القسم بين الأقل والأكثر
يجب الاحتياط لإحراز منشأ انتزاع العنوان الذي هو المكلف به حقيقة من دون
أن يكون مجملا بخلاف القسم الأول، حيث يرجع اجمال فعل المكلف إلى
أجمال المكلف به، لغرض انتزاع عنوانه من نفس الذات، فيقتصر في التكليف
على المتيقن، ويقتصر ويرجع في الزائد البراءة.
نعم، لو رجع الاجمال في القسم الأول إلى إجمال منشأ الانتزاع الواجب
وتردده بين الأقل والأكثر تعين الرجوع للبراءة في الزائد المشكوك، كما لو تردد
الحطب الواجب الاحراق بين القليل والكثير.
ويترتب على ذلك أن اختلاف العنوانين مع وحدة فعل المكلف المعنون
بهما. ان كان لتعدد منشأ انتزاع العنوان، بأن يكون أحدهما أوليا منتزعا من
الذات والاخر ثانويا منتزعا من أمر خارج عنها كعنواني المشي والايذاء أو
كلاهما ثانويا مع اختلاف منشأ انتزاعهما كعنواني الإيذاء والإكرام كان راجعا
لتعدد الموضوع المعتبر في التزاحم، لان فعل المكلف وان كان واحدا، الا أنه
ليس متعلقا لأحد المتكلفين أو كليهما الا تبعا لتعلقه وتعلق الغرض والملاك
بمنشأ انتزاع العنوان المباين له.
376

ولذا كان المرتكز أن عمومات استحباب إيناس المؤمن وقضاء حاجته،
ووجوب إنقاذه من الهلكة، لا تعارض مثل عمومات حرمة الغناء والغيبة
والكذب، وان كانت نسبة كل واحد من تلك العمومات مع كل واحد من هذه
هي العموم من وجه، حيث قد يتحقق العنوانان في فعل واحد ويصدقان عليه،
بل يكون مجمع العنوانين موردا للتزاحم بسبب تحقق الملاكين الفعليين معا
كل في موضوعه، فيرجع فيه لمرجحات التزاحم، فيقدم الأهم على المهم،
والإلزامي على غيره، والتعييني أو المضيق على التخييري أو الموسع، إلى غير
ذلك مما يذكر في محله.
أما إذا كان منشأ اختلاف العنوانين اختلاف قيودهما التابعة
للخصوصيات الخارجية عن منشأ الانتزاع، كخصوصيات الزمان والمكان
والمتعلق وغيرها، مع اتحاد منشأ الانتزاع في الخارج، كان راجعا لوحدة
الموضوع الذي عرفت لزوم التعارض معه، سواء كان العنوانان أوليين كالسفر
في شهر رمضان والسفر إلى كربلاء، أم ثانويين كايذاء المؤمن وايذاء العاصي.
واليه نظروا في الحكم بالتعارض البدوي بين العام والخاص والمستحكم في
العامين من وجه.
نعم، لو كان القيد مقوما في الخارج لمنشأ الانتزاع دخل في تعدد
الموضوع، كإكرام زيد وإكرام عمرو لو حصلا بفعل واحد، وكذا اكرام العادل
وإكرام الفاسق، لوضوح تقوم إضافة الاكرام خارجا بالشخص المكرم، فتتعدد
مع تعدده، كما في المثالين، وتتحد مع وحدته وان اختلف عنوانه بأن كان عالما
وفاسقا. فلاحظ.
كما أنه لو كانت خصوصية كل من العنوانين دخيلة في ثبوت حكمه
ولو بمقتضى المناسبة الارتكازية بين الحكم والموضوع كان مورد الاجتماع
من موارد التزاحم الملاكي الراجع لتزاحم المقتضيات، دون الملاكات الفعلية،
377

ولذا يلتزم بالتأكد مع اتحاد سنخ الحكمين، كما لو وجب كل من اكرام العالم
واكرام العادل، حيث يكون وجوب اكرام العالم العادل مؤكدا، تبعا لتأكد ملاكه
بتعدد المقتضى فيه.
لكن تحقق في محله أن مورد التزاحم الملاكي من موارد التعارض،
فتجري أحكامه المتقدمة، وتختص أحكام التزاحم المتقدمة بالتزاحم الحكمي،
الذي لا يكون الا مع فعلية الملاكين واختلاف المتعلقين، ومنه ما ذكرنا من
اختلاف العنوانين إذا كان مختلفين في منشأ الانتزاع.
إذا عرفت هذا فالظاهر اختصاص موضوع مسألة الاجتماع عندهم بما إذا
كان اختلاف العنوانين بالوجه الأول، المبتنى على اختلاف منشأ انتزاعهما،
والذي تقدم أنه من صغريات التزاحم، دون الثاني المبتنى على اختلاف
قيودهما الخارجة عن منشأ الانتزاع، والذي تقدم أنه من صغريات التعارض.
وبه يجمع بين ما ذكروه من التعارض بين العامين من وجه وما ذكروه في
المقام مما تقدم ظهوره في المفروغية عن احراز ملاك الحكمين.
كما يناسبه مفروغيتهم في المقام عن تقديم جانب النهى، مع أنه لا يتجه
في المتعارضين، وانما يتجه في التزاحم بلحاظ أن النهى لما كان شموليا يكون
تعيينيا في المجمع، بخلاف الامر المفروض في أمثلتهم كونه بدليا تخييريا.
وكذا تمثيلهم لتعارض العامين من وجه بمثل: أكرم العلماء أو عالما، ولا
تكرم الفساق الذي تقدم أنه من القسم الثاني ولمسألة الاجتماع بمثل حرمة
الغصب ووجوب الوضوء أو الغسل أو الصلاة، لوضوح أن موضوع الامر في
الوضوء والغسل هو الغسل بذاته أو بعنوان كونه طهارة الذي هو من العناوين
التسبيبية المنتزعة من ترتب الطهارة عليه، وفى الصلاة هو الافعال بعناوينها
الأولية من القيام والركوع والسجود، أما موضوع النهى في الغصب فليس هو
الفعل بأحد العناوين المذكورة، بل بعنوان كونه تصرفا في ملك الغير بغير اذنه
378

الراجع للتعدي عليه ومخالفة مقتضى سلطنته وحقه، وهو من العناوين الإضافية
المباينة في منشأ الانتزاع للعناوين المذكورة، إلى غير ذلك مما يظهر بمزيد تتبع
في كلماتهم.
ومنه يظهر الاشكال في ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في التنبيه الثالث
من هذه المسألة من عدم الفرق بين العناوين وأنحاء اختلافها، وحمل كلماتهم
على ما يناسب ذلك فراجع.
ومثله ما تقدم من بعض مشايخنا (دامت بركاته) من الحكم بالتعارض
المستلزم لعدم احراز الملاك في موضوع مسألة الاجتماع ونسبة الغفلة
للمشهور في حكمهم بالاجزاء كما تقدم.
بل هو لا يناسب ما ذكره في وجه تقديم النهى في مثل الصلاة والغصب
من أن المفهوم عرفا أن الغصب من سنخ العنوان الثانوي الرافع للحكم الأولى،
إذ لو تم ذلك فالعنوان الثانوي وان اقتضى رفع الحكم الأولى الا أنه لا يقتضى
رفع ملاكه، فلا وجه لعدم اجزائه، الا أن يريد بالعنوان الثانوي كل عنوان زائد
على الذات موجب لتبدل حكمها. لكن الوضوء والغسل والصلاة أيضا عناوين
ثانوية بالمعنى المذكور، لاخذ خصوصيات فيها زائد ة على ذوات الافعال،
فيرجع السؤال عن وجه دليل تقديم الغصب على دليلها.
وبالجملة: الظاهر وفاء ما ذكرنا ببيان ضابط موضوع مسألة الاجتماع
والفرق بينه وبين مورد التعارض في العامين من وجه، وتوجيه مباني في
المشهور في المقام.
بقى الكلام في ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره في ضابط موضوع مسألة
اجتماع الأمر والنهى والفرق بينه وبين مورد التعارض مع اشتراكهما في العموم
من وجه بين العنوانين، من أن التركيب بين العنوانين في الخارج ان كان
انضماميا كان موضوعا لمسألة الاجتماع، وان كان اتحاديا خرج عنه ودخل في
379

التعارض. وقد أطال الكلام في بيان ذلك وفى المقدمات التي يبتنى عليها.
والذي يتحصل مما تضمنه تقرير درسه لبعض مشايخنا: أن موضوع
الأحكام التكليفية لما كان هو فعل المكلف، وهو المبدأ المصدري، كالقيام
والصلاة والسفر والغصب وغيرها، فان كان أحد المبدأين الصادرين من فاعل
واحد مبانيا للاخر وجودا وايجادا، بمعنى أن ايجاد أحدهما لا يستلزم ايجاد
الاخر، كالصلاة والنظر للأجنبية، خرجا عن محل الكلام من فرض اجتماع
العنوانين في موجود واحد، بلا اشكال.
وكذا ان كانا موجودين بتأثير واحد، بنحو لا يمكن التفكيك بينهما في
الخارج الا أن الإشارة الحسية لأحدهما لا تكون إشارة للاخر، كاستقبال المغرب
واستدبار المشرق.
وان كانا موجودين بتأثير واحد، وكانت الإشارة لأحدهما عين الإشارة
للاخر كالغصب والصلاة في الدار المغصوبة كان بينهما نحو من التركب،
لكن التركب المذكور ليس اتحاديا مبنيا على اتحادهما في الموجود الواحد، بل
هو انضمامي يبتنى على امتياز أحدهما عن الاخر حقيقة، بخلاف العنوانين
الاشتقاقيين منهما كالغاصب والمصلى فان التركيب بينهما يكون اتحاديا.
والسر في الفرق: أن مبدأ الاشتقاق ومنه فعل المكلف ماهية واحد ة
موجود ة في جميع الافراد، فالصلاة في المكان المغصوب متحدة مع الصلاة في
غيره ماهية، والغصب الموجود في ضمن الصلاة متحد مع الغصب الموجود في
غيرها، والبياض الموجود في اللبن متحد مع البياض الموجود في العاج، فمع
اجتماعهما في الموجود الواحد يمتنع اتحادهما في الخارج، لاستحالة صدق
الماهيتين المتباينتين في فرد واحد، لوضوح أنه ليس للفرد الا ماهية واحدة
وحينئذ يتعين أن يكون التركب بينهما في الخارج انضماميا مع التعدد
حقيقة، ويدخل في موضوع مسألة الاجتماع.
380

بخلاف معروض المبادئ المحكى عنه بالعنوان الاشتقاقي، إذ لا مانع من
توارد الاعراض المتباينة على المعروض الواحد وجودا وماهية، فتعدد عناوينه
الاشتقاقية تبعا لذلك، ويكون مجمعا لها. ومن هنا يكون التركيب بينها اتحاديا
لا انضماميا، فمع اختلاف متعلق الحكمين فيها لا غير، لاخذها على اختلافها
قيدا في فعل المكلف الواحد الذي هو متعلق الحكم كما في: أكرم العالم أو
العلماء، ولا تكرم الفساق، يكون التركيب بينها في المجمع اتحاديا، لا
انضماميا، ويدخل في التعارض.
لكنه يشكل.. أولا: بأنه إذا أمكن تعدد الموجود من مبدأ الاشتقاق مع
وحدة الإشارة الحسية له الراجع لخطأ الإشارة المذكورة أو ابتنائها على التسامح
أمكن ذلك في العناوين الاشتقاقية من المبادئ المتعددة.
وما تقدم من امكان اتحاد العناوين المذكور في الموجود الخارجي
الواحد، لعدم المانع من وحدة المعروض مع تعدد أعراضه. لا ينافي التعدد
المذكور، لان الامكان أعم من الوقوع.
وحينئذ لا وجه للبناء على التعارض المبنى على تكاذب الأدلة لان احراز
التكاذب فرع احراز تنافى مضموني الدليلين والمفروض عدم احرازه بسبب
إمكان التعدد، بل مقتضى اطلاق الدليلين عدمه.
الا أن يدعى أن وحدة الإشارة الحسية كافية في بناء العرف على التعارض
ورفعهم اليد عن اطلاق الدليل عرفا، وان لم يستلزم التنافي بين مفادي الاطلاقين عقلا.
لكنه كما يجرى في العناوين الاشتقاقية يجرى في مبادئ الاشتقاق، فلابد
في الفرق من وجه آخر.
وثانيا: بأن ما ذكره من امتناع اتحاد الماهيتين في الخارج الذي عليه يبتنى
امتناع اتحاد المبادئ الاشتقاقية ومنها فعل المكلف في الموجود الواحد، وان
381

كان من المسلمات التي لا اشكال فيها عندهم، الا أنه مختص بالماهيات
الحقيقية الراجعة إلى أحد الأجناس العالية والمقولات العشر، كالانسان والفرس
والقيام والكلام. بخلاف الماهيات الاعتبارية، كالغصب والصلاة، حيث لا مانع
من اتحادها في أنفسها أو اتحادها مع بعض الماهيات الحقيقية في الموجود
الخارجي، لعدم تقوم مفاهيمها بالذاتيات، بل بمحض الاعتبار والانتزاع، ومن
الظاهر امكان أن يكون الموجود الخارجي المتحد الماهية الحقيقية موضوعا
لأكثر من اعتبار أو انتزاع واحد، كالشخص الواحد الذي يكون زوجا ورقا،
والعمل الواحد الذي يكون مستحبا ومملوكا للغير، كما يمكن أن يكون الاعتبار
أو الانتزاع الواحد أمورا متعددة مختلفة في الماهية، الحقيقية، كالغصب المنتزع
من التصرف في ملك الغير أو المنافى لحقه الصادق على الكون في الدار
المغصوبة الذي هو من مقولة الأين ولبس الثوب المغصوب الذي هو من مقولة
الفعل وغيرهما.
ويترتب على ذلك امكان اجتماع المبادئ الاشتقاقية المتعددة ومنها
أفعال المكلف التي هي موضوع الأحكام التكليفية في موجود واحد إذا كانت
جميع عناوينها أو بعضها حاكية عن ماهية اعتبارية أو انتزاعية بنحو يكون
التركيب بينها اتحاديا بالمعنى الذي ذكره، كما هو الحال في مثل الصلاة
والغصب المتحدين في السجود الواحد على الأرض المغصوبة، لكونه جزءا
صلاتيا وتصرفا في ملك الغير بغير اذنه.
ولذا اعترف في جملة كلامه بأن التركيب اتحادي بين متعلق الأمر والنهي
في قولنا: اشرب الماء، ولا تغصب لو كان الماء مغصوبا، حيث يقع كل تصرف
فيه غصبا، ومنه الشرب وجعل ذلك خارجا عن موضوع مسألة الاجتماع الذي
تقدم منه اختصاصه بما إذا كان التركب بين المتعلقين انضماميا.
ومنه يظهر حال ما ذكره قدس سره من أن الحركة في ضمن الصلاة متحدة مع
382

الصلاة، والحركة في ضمن الغصب متحدة مع الغصب، ولا مجال للبناء على
اتحاد الحركتين في حركة واحدة، بل يتعين تباينهما، لتباين مقوليتهما.
لظهور ابتنائه على ما ذكره من تعدد ماهيتي الغصب والصلاة وامتناع
اتحادهما، وقد عرفت ضعفه. مضافا إلى الاشكال فيه..
أولا: بأن تعدد الحركة مستلزم لحرمة كلتا الحركتين، لكونهما تصرفا في
المغصوب، فيقع الاشكال في اتحاد متعلق الأمر والنهي في الحركة الصلاتية.
وثانيا: بأن الحركة بتمام أفرادها من مقولة واحدة، ولا اختلاف بين
الحركتين في المقولة، وغاية ما ينهض به كلامه انهما مختلفا الماهية.
وثالثا: بأن وحدة الحركة من الوضوح والبداهة بنحو لا يمكن معه
الاذعان للبرهان على التعدد.
ولو فرض تعددها فأي تركب انضمامي بين حركتين متباينتين، وكيف
تكون الإشارة الحسية إليهما واحدة، وهل هما الا كحركة الماشي وحركة
المنحني المتباينتين ذاتا وعلة وايجادا وخارجا.
نعم، ذكر قدس سره في جملة كلامه أن محل الكلام يختص بموردين..
أحدهما: ما إذا كان متعلق كل من الأمر والنهي من مقولة مباينة لمقولة
الآخر، كالقيام في الدار المغصوبة، فان القيام من مقولة الوضع، والهيئة الحاصلة
للقائم بالإضافة للدار من مقولة الأين، وهما مقولتان متغايرتان في الخارج.
ثانيهما: ما إذا كان متعلق أحدهما فردا من المقولات ومتعلق الاخر
خصوصية فيها زائدة عليها منتزعة من أمر خارج عنها، كالابتداء والانتهاء
بالإضافة إلى السير، فان السير الخارجي الذي هو فرد لمقولة حقيقية ينتزع منه
الابتداء بالإضافة إلى البصرة مثلا، فالابتداء موجود خارجي متمم لمقولة السير
باعتبار صدوره من البصرة.
ومنه الوضوء من الاناء المغصوب أو المتخذ من الذهب أو الفضة، إذ
383

الوضوء باعتبار نفسه الذي هو فرد من أفراد المقولة مأمور به، وباعتبار اضافته
إلى الاناء الذي يحرم التصرف فيه منهي عنه، وليس نفس استعمال الاناء داخلا
في إحدى المقولات، بل هو متمم لها ومنشأ لانتزاع عنوان تقييدي زائد عليها.
وهو لو تم لم يحتج لما سبق منه أولا من عموم امتناع اتحاد المبادئ
الاشتقاقية في الخارج، لامتناع اتحاد الماهيتين في الموجود الواحد المستلزم
لتعدد ماهية الموجود الخارجي الواحد. بداهة أن تباين المقولات وامتناع
اتحادها في أنفسها كامتناع اتحادها مع متمم المقولة بالمعنى المذكور من
الوضوح بحد لا يحتاج معه لإقامة البرهان.
ولا يرد عليه ما سبق من الوجهين، لابتناء أولهما على وحد ة الإشارة
الحسية للماهيتين في الخارج، ومن الظاهر تعددها في المقولتين، وفى المقولة
مع متممها الذي هو من سنخ الإضافة المباينة لطرفها، وابتناء ثانيهما على امكان
اتحاد الماهيتين في الجملة، لا مطلقا ولو مع تعدد المقولة أو في المقولة
ومتممها.
فالعمدة عدم تمامية ما ذكره. أما كون متعلقي الأمر والنهي من مقولتين،
وأن متعلق النهى في الغصب من مقولة الأين ومتعلق الامر في الصلاة من مقولة
مباينة لها، كالقيام الذي هو من مقولة الوضع.
فهو في غاية المنع، ولذا لا اشكال ظاهرا في خروج الصوم وقراءة القرآن
في الدار المغصوبة عن موضوع المسألة، ومجرد اجتماع المقولتين حينهما،
لأنهما من مقولة الفعل وكون المصلى والقارئ في الدار من مقولة الأين، لا يكفي
في دخوله في موضوعها، كما لا يكفي في دخول الصلاة في المكان الذي لا
يحرم التصرف فيه وان حرم الكون فيه ليمين أو نحوه.
بل ليس دخول الصلاة في الدار المغصوبة في موضوع المسألة الا بلحاظ
حرمة التصرف في المغصوب ومخالفة مقتضى حق المالك فيه بأي مقولة
فرض، فيتحد مع بعض الأفعال الصلاتية كالركوع والسجود والقيام، سواء كانت
384

الافعال الصلاتية خصوص الافعال المذكور بمفاهيمها المصدرية أو بما هي
أسماء مصادر أم مع مقدماتها من الهوى والنهوض ونحوهما.
وكذا الصلاة في الثوب المغصوب انما تكون من موضوع المسألة بلحاظ
كون الحركات الصلاتية بنفسها تصرفا في الثوب فتحرم، لا لمجرد حرمة لبسه،
ولذا لا تدخل فيه الصلاة في الثوب الذي يحرم لبسه ليمين ونحوه من دون أن
يحرم التصرف فيه، إلى غير ذلك..
وفرض كون موضوعي الأمر والنهي من مقولتين خروج عن محل
الكلام، بل لا يناسب ما سبق منه من وجود الصلاة والغصب بتأثير واحد ووحد ة
الإشارة الحسية لهما معا، لوضوح تباين المقولات ذاتا وعلة وايجادا وخارجا،
بنحو لابد من تعدد الإشارة إليها.
كما أن كون الغصب من مقولة الأين لا يناسب ما تقدم منه من فرض
الحركة الغصبية ومباينتها للحركة الصلاتية، لوضوح أن الحركة ليست من مقولة
الأين، بل من مقولة الفعل.
وأما كون متعلق أحدهما من إحدى المقولات ومتعلق الاخر متمما
للمقولة.
فهو مسلم في الجملة، الا أن من الواضح أن متمم المقولة لما لم يكن له ما
بإزاء في الخارج ممتاز عن المقولة صالح للايجاد بنفسه، بل هو من سنخ
الإضافة القائمة بأطرافها، فهو منتزع في المقام من إضافة فعل المكلف لأمر
خارج عنه، لزم رجوع التكليف به أمرا أو نهيا للتكليف بالفعل المحقق للإضافة
الذي هو من إحدى المقولات، فالمحرم في المثال حقيقة نفس الاكل أو
الوضوء الخاص المتعلق بالاناء، وحيث كان هو متعلق الامر فرضا لزم اتحاد
المتعلقين وكونهما من مقولة واحدة.
385

والحاصل: أن ما ذكره من فرض التركيب الانضمامي مما لا نتعقله ولا
نتحققه، بل متعلقاهما اما أن يتعددا خارجا بنحو تتعد الإشارة الحسية إليهما
من دون تركيب بينهما أصلا، فيخرج المورد عن موضوع المسألة، أو يتحدا في
الخارج حقيقة، لكون عنوان أحدهما أو كليهما انتزاعيا أو اعتباريا قابلا للاتحاد
مع الاخر. فلا مجال للتعويل على ما ذكره في ضابط موضوع المسألة
والفرق بينه وبين مورد التعارض، بل لا مخرج عما سبق منا في الضابط والفر ق
بينهما، فلاحظ.
الامر الثالث: يظهر من كلام غير واحد ابتناء الكلام في المسألة على أن
متعلق الاحكام هو العناوين أو المعنونات، وأنه على الأول لا مانع من اجتماع
الأمر والنهي في مجمع العنوانين، لتعدد الموضوع، بل يمكن التقرب به وامتثال
الامر بناء على ذلك أيضا، حيث يكون من ضم الطاعة للمعصية، وعلى الثاني
يمتنع اجتماعهما فيه، لوحدة الموضوع بناء على أن تعدد العنوان لا يستلزم
تعدد المعنون، فيلزم اجتماع الضدين، كما يمتنع التقرب به بعد فرض تعلق
النهى به لامتناع التقرب بما هو مبعد.
وينبغي الكلام هنا في المبنى المذكور وايكال الكلام في ابتناء النزاع في
هذه المسألة عليه إلى ما يأتي عند التعرض للمختار فيها.
وتوضيح المبنى المذكور: أن الاحكام ككثير من الأمور الاعتبارية
والذهنية تختلف في طبعها على أقسام ثلاثة..
أولها: ما يتعلق بكل من العناوين الكلية والمعنونات الجزئية، كالملكية
المتعلقة: تارة: بالعناوين، كالذميات ومنافع الأعيان في مثل الإجازة والشرط،
لفعلية ملكيتها وترتب الأثر عليها بلحاظ نفس الكلى قبل وجوده في الخارج.
وأخرى: بالمعنونات الجزئية الخارجية، كملكية الأعيان الموجودة.
ثانيها: ما يتعلق بالمعنونات الخارجية لا غير، كالزوجية، والرقية والطهارة
386

والنجاسة، وليس تعلقها بالعناوين في مقام الجعل أو الاخبار في مثل قولنا:
الميتة نجسة، وما أشرقت عليه الشمس فقد طهر الا بنحو القضية التعليقية
الراجعة لعدم فعلية الحكم الا تبعا لفعلية انطباق العنوان على الفرد في الخارج،
مع كون الموضوع له هو الفرد المذكور، وليس العنوان الا جهة تعليلية، من دون
أن يكون بنفسه بماله من حدود مفهومية كلية موضوعا للحكم.
ثالثها: ما يتعلق بالعناوين الكلية بما لها من حدود مفهومية دون
معنوناتها، وهو الأحكام التكليفية، إذ لا مجال للبناء على تعلقها بالفرد الخارجي
على نحو تعلق القسم الثاني به، لوضوح أن ظرف وجود الفرد ظرف سقوط
التكليف بالإطاعة أو العصيان، لا ظرف ثبوته وفعليته، وانما يثبت ويكون فعليا
في ظرف عدمه، ولا موضوع له حينئذ الا العنوان الكلى، نظير ملكية الأمور
الكلية من الذميات وغيرها.
نعم، لا ينبغي الاشكال في أن تعلق الأحكام التكليفية بالعناوين
والماهيات الكلية مبنى على النظر لمقام العمل، فكل حكم يقتضى نحوا خاصا
من العمل متعلقا بالماهية فالوجوب يقتضى ايجادها في الخارج بفعل فرد منها
والتحريم يقتضى عدمها بعدم تمام الافراد في الخارج، والإباحة تقتضي التخيير
بين الفعل والترك، فالفرد مطابق لموضوع التكليف ومتحد معه بنحو من أنحاء
الاتحاد في الخارج، ووجوده أو عدمه مطابقان لمقتضى التكليف أو مخالفان له،
لقيام الغرض والملاك المقتضي للفعل أو الترك بالوجود الخارجي الطارئ على
الفرد، لا بالماهية من حيث هي مع قطع النظر عنه. ومن ثم يكون به الإطاعة
والعصيان، نظير وفاء الذمي الكلى بالأعيان الشخصية.
وكأنه إلى هذا نظر من حكم بتعلق التكليف بالمعنون، والى ما ذكرناه أولا
نظر من حكم بتعلقه بالعنوان.
والمتعين ما ذكرنا حيث يكون به الجمع بين الامرين ويبتني على
387

ملاحظة كلتا الجهتين. وقد تقدم في مبحث تعلق الأوامر والنواهي بالطبايع أو
الأفراد ما قد ينفع في المقام
ولنقتصر في مقدمات الكلام في المسألة على هذه الأمور الثلاثة
المتقدمة، لكفايتها في توضيح محل النزاع.
إذا عرفت ذلك كله فاعلم: أنه حيث تقدم في الامر الثاني تحديد محل
الكلام، وأنه ملحق بالتزاحم بين الحكمين، وأن اطلاق كلا الدليلين فيه ينهض
باثبات ملاك كل من الحكمين في المجمع، فلا اشكال في اجزاء المجمع في
امتثال الامر، سواء قيل بامكان اجتماع الحكمين فيه أم بامتناعه ولزوم انفراده
بأحدهما، إذ مع وفائه بملاكه لابد من اجزائه عنه وان لم يكن مأمورا به فعلا
للمانع. وانما الكلام والاشكال..
أولا: في امكان اجتماع الحكمين فيه وفعليتهما معا، الذي هو موضوع
الكلام في موضوع المسألة.
وثانيا: في امكان التقرب به لو كان عبادة وفرض فعلية النهى عنه اما
لإمكان اجتماعه مع الامر أو لتقديمه عليه مع امتناع الاجتماع، الذي هو من أهم
الآثار العلمية.
فالكلام في مقامين..
388

المقام الأول
في امكان الاجتماع وامتناعه
ولا ينبغي الاشكال في امكانه مع فرض عدم اتحاد العنوانين في الوجود
الواحد، وأن ما يطابق أحدهما مباين لما يطابق الاخر وان اجتمعا في فرد واحد.
واليه يرجع ما قيل من أن تعدد العنوان يستلزم تعدد المعنون، وما سبق
من بعض الأعاظم قدس سره من أن التركيب بين العنوانين انضمامي اتحادي. لان
فرض تعدد الموضوع ملازم لفرض عدم اجتماع الحكمين في موضوع واحد.
كما أنه حيث فرض في محل كلامهم سعة متعلق الامر وعدم انحصاره
بالمجمع بين العنوانين وامكان امتثاله بغيره، فلا تزاحم بين التكليفين، بل يتعين
فعلية النهى الاستغراقي في المجمع ومزاحمته لبعض أفراد المأمور به.
فان قيل بأن ذلك يستلزم قصور النهى عن الافراد المذكورة كما هو
مختار بعض الأعاظم قدس سره لزم قصور متعلق الامر عن المجمع من جهة
المزاحمة، لا من جهة لزوم اجتماع الضدين.
وان لم نقل ذلك كما هو الحق تعين بقاء الامر على اطلاقه وشموله
للمجمع كالنهي. ويظهر الكلام في ذلك مما تقدم في ثمرة مسألة الضد. فراجع.
وأما بناء على اتحاد العنوانين في المجمع لاتحاد مطابق كل منهما فيه
على ما هو التحقيق، كما يظهر مما تقدم في مناقشة بعض الأعاظم قدس سره في دعوى
أن التركيب بين العنوانين انضمامي فبناء على ما هو المعروف بينهم من تضاد
الحكمين يتعين البناء على انفراد المجمع بأحدهما وعدم اجتماعهما فيه.
389

كما يتعين حينئذ تقدم النهى، لان ملاكه تعييني فلا يزاحم بملاك الامر
التخييري بالفرض، بلا حاجة إلى جهة أخرى تقتضي ترجيحه، لان ذلك انما
يحتاج إليه في موارد التعارض بين الدليلين، دون موارد التزاحم بين الحكمين
التي تقدم أن المقام منها.
لكن يظهر من جملة من كلماتهم أنه بناء على تعلق الاحكام بالعناوين
كما تقدم منا لا يلزم من عموم موضوع الحكمين معا للمجمع اجتماع الضدين.
أما في مقام البعث والزجر فلتعدد المتعلق، وهو العنوان، وأما في مقام الإطاعة
والعصيان بالفرد فلسقوط أحدهما بالإطاعة والاخر بالعصيان، من دون أن يلزم
اجتماعهما في واحد، على ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره.
ومن ثم ذهب إلى جواز الاجتماع بعض المحققين وتبعه بعض
المعاصرين.
حيث قال في أصوله: (وإذا جمع المكلف بينهما صدفة بسوء اختياره
فان ذلك لا يجعل الفعل الواحد... متعلقا للايجاب والتحريم الا بالعرض، وليس
ذلك بمحال، فان المحال انما هو أن يكون الشئ الواحد بذاته متعلقا للايجاب
والتحريم. وعليه فيصح أن يقع الفعل الواحد امتثالا للامر من جهة باعتبار
انطباق المأمور به عليه وعصيانا للنهي من جهة أخرى باعتبار انطباق عنوان
المنهى عنه.
وفيه: أن منشأ تضاد الاحكام كما سبق ليس الا اختلاف مقتضياتها في
مقام العمل، وحيث كان متعلق العمل هو الفرد لزم التضاد بينها بلحاظ اختلاف
نحو العمل المتعلق به من حيثية كل منها ولا أثر لتعدد العنوان في ذلك.
ومن ثم لا اشكال بعد ملاحظة المرتكزات العرفية في أن امتناع اجتماع
الحكمين مع التطابق بين العنوانين وكون النسخة بينهما التساوي ليس لخصوص
محذور التكليف بما لا يطاق، لعموم الامتناع لما إذا أمكن الجمع بين الحكمين
390

عملا، كالكراهة أو الاستحباب والوجوب، بل لمحذور اجتماع الضدين الراجع
للتنافي ارتكازا بين الحكمين.
بل الوجه المختار لنا ولهما لتعلق الاحكام بالعناوين دون المعنونات جار
في جميع العناوين من دون فرق بينها، مع أنه اعترف بعض المعاصرين; في
ما سبق بتنافي الاطلاقين في بعض موارد العموم من وجه والتزم لأجله
بالتعارض بينهما وخروجهما عن موضوع مسألة الاجتماع واختصاص
موضوعها بما إذا لحظ كل من العنوانين فانيا في مطلق الوجود المضاف للطبيعة
من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الافراد.
ولولا الاكتفاء بوحدة المعنون في التنافي بين الحكمين وامتناع
اجتماعهما لم يكن وجه لذلك كله، كما يظهر بأدنى تأمل.
ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من لزوم البناء على امتناع الاجتماع في
المقام بناء على تضاد الحكمين من دون أن يكون لتعلق الاحكام بالعناوين دون
المعنونات دخل في ذلك.
نعم، تقدم في الامر الأول أن التضاد بين الوجوب البدلي والتحريم إذا كان
موضوع الأول أعم مطلقا أو من وجه ليس تاما، لان الحكم البدلي كما يقتضى
السعة بالإضافة إلى تمام أطرافه يقتضى الاجتزاء بها في مقام امتثاله، والتحريم
ينافي السعة لمورده، ولا ينافي أجزأه في امتثال الامر، فيتعين امكان اجتماعهما
في ذلك.
غاية الامر أنه تقدم دعوى ظهور دليل النهى في مقام الاثبات في قصور
الامر عن متعلقه بنحو لا يجزى عنه وان أمكن اجزاؤه ثبوتا. لكنها لو تمت
تختص بموارد التعارض التي لا يحرز فيها من الاطلاقين ثبوت كلا الملاكين في
المجمع، دون موضوع مسألة الاجتماع الذي سبق نهوض الاطلاقين فيه باحراز
كلا الملاكين فيه.
391

إذ مع فرض احراز كلا الملاكين وامكان تأثيرهما معا لا وجه للبناء على
عدم ثبوت الامر من حيثية الاجزاء في المقام، كما لعله ظاهر.
ولعل ارتكاز ذلك وعدم وضوح حدوده هو الموجب لدعوى امكان
اجتماع الحكمين بعنوانين ممن تقدم، مع الغفلة عما ذكرنا.
هذا هو المهم من الكلام في المسألة.
وذكر في كلماتهم الاستدلال على امتناع الاجتماع وجوازه بوجوه أخرى
لا مجال لإطالة الكلام فيها، ولا سيما مع ظهور حال بعضها مما تقدم.
نعم، ربما احتج للجواز بالعبادات المكروهة. ويأتي الكلام فيها في
تنبيهات المسألة إن شاء الله تعالى.
392

المقام الثاني
في امكان قصد التقرب بالمجمع في فرض النهى عنه
والأثر لذلك اجزاؤه لو كان عبادة.
ولا ينبغي التأمل في امكان قصد التقرب به مع الغفلة عن النهى أو الجهل
به، لعدم صلوحه للمبعدية حينئذ لينافي القصد المذكور.
غايته أن التقرب به مع البناء على امكان الاجتماع لكونه من أفراد الطبيعة
المأمور بها، ومع البناء على امتناعه لمجرد واجديته للملاك المفروض في
المقام. كما أن الكلام في كفاية الجهل التقصيري في تحقق التقرب المعتبر في
العبادة تابع لدليل اعتبار التقرب، وهو يختلف باختلاف العبادات، فيوكل للفقه،
وليس الكلام هنا الا في امكان قصد التقرب الذي يكفي فيه الجهل بالنهي مطلقا،
كما ذكرنا.
وأما مع الالتفات للنهي فان قيل بامتناع
اجتماع الأمر والنهي بملاك اجتماع الضدين، لوحدة متعلق الحكمين، بناء على تعلق الاحكام بالمعنونات
دون العناوين، واتحاد العنوانين في المجمع، لاتحاد مطابق كل منهما فيه، فلا
إشكال في امتناع قصد التقرب في المقام، لامتناع فعليه التقرب والانقياد بما هو
مبعد وتمرد على المولى، وان كان واجدا لملاك المقربية، كما هو المفروض في
المقام.
وأما لو قيل بامكان الاجتماع، لتعلق الحكم بالعنوان المفروض تعدده،
دون المعنون، كما تقدم من بعض المحققين والمعاصرين وغض النظر عما
393

تقدم، أو لعدم التضاد التام بين العنوانين، كما تقدم منا، فقد ذكرا قدس سرهما أن اللازم
البناء على امكان التقرب، حيث يكون من ضم الطاعة للمعصية في مقام
الامتثال، لامن التقرب بما هو مبعد الممتنع، لغرض تعدد موضوعي الوجوب
والحرمة، وهما العنوانان.
لكنه يشكل بأن ذلك لا أثر له في امكان التقرب، لان الانقياد والتقرب
والبعد والتمرد لا تتبع مقام الجعل المفروض تعلقه بالعنوانين، بل مقام الامتثال
والعصيان اللذين يكونان بالمعنون المفروض في المقام وحدته ولو مع تعدد
العنوان، فيلزم التقرب بما هو مبعد.
ولذا يتعين امتناع تقرب المكلف بالفعل الموصل للحرام، بحيث لا يقدر
على منعه بعده، كما لو كانت الصلاة في السطح موجبة لتخلخله بحيث ينفذ فيه
المطر، ويسقط على من تحته من المؤمنين، أو كانت موجبة لتنفر الظالم وقتله
مؤمنا تحت يده، ونحو ذلك، كل ذلك لان موضوع الحرمة وان كان مباينا
لموضوع الوجوب في مقام الجعل، الا أن استناد الحرام في الفرض لفعل
المكلف موجب لصدق المعصية عليه وكونه تمردا على المولى ومبعدا منه، فلا
يناسب التقرب به منه، ليمكن قصده.
وقد حاول بعض المحققين قدس سره دفع ذلك، فقال: (وأما التقرب بالمبعد
فان أريد منه ما هو نظير القرب والبعد المكانيين، بحيث لا يعقل حصول القرب
إلى مكان مع حصول البعد عنه، ففيه: أن لازمه بطلان العمل حتى في الاجتماع
الموردي، نظرا إلى عدم حصول القرب والبعد معا في زمان واحد. وان أريد منه
سقوط الأمر والنهي وترتب الغرض وعدمه فلا منافاة بين أن يكون الواحد
مسقطا للامر حيث إنه مطابق ما تعلق به ومسقطا للنهي بالعصيان حيث أنه
خلاف ما تعلق به ونقيضه.
وكذا ترتب الثواب عليه، من حيث أنه موجب لسقوط الامر باتيان ما
394

يطابق متعلقه المحصل للغرض منه، فإنه لا ينافي ترتب العقاب عليه من حيث إنه
موجب لسقوط النهى باتيان ما يناقض متعلقه المنافى لغرضه منه.
بل هكذا حال القرب والبعد الناشئين من التخلق بالأخلاق الفاضلة أو
الرذيلة، فإنه بواسطة التخلق بالخلق الفاضل له التشبه بالمبدأ الكامل، فهو قريب
من هذا الوجه، وان كان بواسطة التخلق بخلق رذيل بعيد منه من ذلك الوجه).
ويشكل: بأن التقرب المعتبر في العبادة ليس بمعنى القرب المكاني
ليمتنع اجتماعه مع البعد في وقت واحد، ولو مع تعدد الفعل، ولا بمعنى موافقة
التكليف والغرض، ليمكن اجتماعه مع البعد ولو مع وحدة الفعل، بل بمعنى
وقوع الفعل في طريق المولى ولأجله في حسابه بحيث يكون مظهرا للخضوع
له ولعبادته والفناء فيه والانقياد له، وذلك لا يمكن مع وقوع الفعل ونفسه على
وجه العصيان للمولى والتمرد عليه والخروج عن مقتضى مولويته، وان أمكن
ذلك بالإضافة إلى فعل آخر مباين له ولو مع وحد ة الزمان.
ومنه يظهر الحال في استحقاق العقاب والثواب، فإنهما تابعان البعد
والقرب بالمعنى المذكور، لا لمجرد موافقة التكليف والغرض ومخالفتهما،
ليمكن اجتماعهما بالإضافة إلى الفعل الواحد.
وأما ما ذكره أخيرا من قياس القرب والبعد الحاصلين بالتخلق بالأخلاق
الفاضلة والرذيلة بما نحن فيه.
فهو كما ترى إذ ليس القرب والبعد فيهما الا بمعنى المشابهة والمباينة
اللذين هما من الأمور الإضافية المختلفة باختلاف جهتي الشبه والمباينة. على
أن الخلق الفاضل مباين للرذيلة ماهية ومظهرا في مقام العمل، فلا ينفع
الاستشهاد بهما في المقام.
وبالجملة: لا ينبغي التأمل في امتناع التقرب بالفعل الواحد إذا كان معصية
مبعدا. واختلاف العنوان أو تعدد الغرض لا ينفع مع وحدة الفعل.
395

ولولا ذلك لأمكن التقرب بالمجمع حتى بناء على الامتناع وتقديم
جانب النهى، لأنه وان لم يكن مأمورا به حينئذ الا أن المفروض واجديته لملاك
الامر ووفاؤه بغرضه، وأن المورد من صغريات التزاحم، ولذا كان المعروف
صحة الامتثال به مع الغفلة عن النهى.
وحينئذ يتقرب بقصد الملاك، مع أن ظاهره كصريح بعض المعاصرين
وغيره المفروغية عن عدم التقرب حينئذ، لامتناع التقرب بما هو مبعد.
وما أبعد بين ما ذكراه وما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من امتناع التقرب بناء
على مختاره من جواز الاجتماع لان التركيب بين العنوانين انضمامي.
بدعوى: أنهما وان لم يتحدا في الخارج الا ان امتزاجهما في الخارج
بحيث لا يمكن الإشارة لأحدهما دون الاخر يوجب اتحادهما في مقام الايجاد
والتأثير، فيكون موجدهما مرتكبا للقبيح في ايجاده، ومعه يستحيل مقربية
الفعل الصادر منه.
هذا ما ذكره، وان كان التصديق به فرع تعقل التركيب الانضمامي، ليرجع
للمرتكزات في امكان التقرب معه وامتناعه، وقد سبق عدم تعقله، فلا مجال
للجزم بحال ما ذكره.
وكيف كان، فلا مخرج عما ذكرنا من امتناع التقرب بناء على المختار من
اتحاد العنوانين في الخارج واتحاد مطابق كل منهما في الفرد، بحيث يوجدان
بفعل واحد من دون فرق بين القول بامكان الاجتماع والقول بامتناعه ن القول
بتعلق الاحكام بالمعنونات والقول وبتعلقها بالعناوين، لان المقربية والمبعدية
من شؤون مقام الامتثال والعصيان المفروض اتحادهما في الخارج. فلاحظ.
بقى في المقام تنبيهات..
396

التنبيه الأول: أشرنا في مطاوي الكلام السابق إلى اختصاص مورد
كلامهم بصورة وجود المندوحة وامكان امتثال الامر بغير المجمع، حيث لا
اشكال في بقاء الامر فعليا حينئذ مطلقا وان قيل بالامتناع، لعدم مزاحمته للنهي،
ولزوم تقديم النهى عملا في المجمع، لأنه تعييني، فلا يمكن استيفاؤه مع
استيفاء الامر التخييري بفرد آخر.
ومعه لا حاجة في تقديم النهى إلى وجه آخر اثباتي راجع للأدلة، أو ثبوتي
راجع للحكم نفسه بلحاظ أهميته، وان أطال غير واحد الكلام في ذلك.
أما في صورة عدم المندوحة وانحصار امتثال الامر بالمجمع فيلزم
التزاحم بين الحكمين، ويتعين تقديم الأقوى منهما تبعا لقوة ملاكه، عل ما هو
المقرر في التزاحم، ولا يكون الأضعف فعليا حتى بنحو الترتب، للغوية الخطاب
به معلقا على معصية الاخر المستلزمة لموافقته هو، لرجوعه لطلب الحاصل.
نعم، لو كان الأرجح هو النهى فربما يدعى الزام العقل في ظرف عصيانه
باختيار الفرد الواجد لملاك الامر وان لم يكن مأمورا به، وأن غيره من الافراد
أشد محذورا أو عقابا، لما فيه من تفويت كلا الملاكين، فلو انحصر تطهير
المسجد بالماء المغصوب، وفرض أهمية حرمة الغصب من وجوب التطهير،
فإذا عصى المكلف واستعمل الماء المذكور كان استعماله في غير التطهير أشد
محذورا وعقابا بنظر العقل من استعماله في التطهير.
لكن لا مجال للتقرب بالفرد المذكور، لما سبق من مانعية تحريم الفعل
من قصد التقرب به، فلا يصح لو كان الامر عباديا.
التنبيه الثاني: أشرنا في آخر المقام الأول إلى استدلال بعضهم على جواز
اجتماع الأمر والنهي بالعبادات المكروهة، كالصلاة في الحمام وصوم يوم
عاشوراء وغيرهما.
397

وتقريبه: أن وجه تضاد الاحكام الذي هو مبنى امتناع الاجتماع لا يختص
بالوجوب أو الاستحباب والحرمة، بل يجرى في الوجوب أو الاستحباب
والكراهة أيضا، فلو كان مانعا من اجتماع الحكمين في محل الكلام لامتنعت
كراهة العبادة، لتقوم العباد ة بالامر، فيلزم اجتماع الكراهة مع الوجوب أو
الاستحباب، مع أنه لا اشكال في امكانها، بل ثبوتها في الجملة.
لكن لا مجال للاستدلال المذكور بعد ملاحظة أن من العبادات المكروهة
عندهم ما ينحصر امتثال أمره بالفرد المكروه، كصوم التطوع يوم عاشوراء، مع
وضوح امتناع اجتماع الامر المذكور والنهى فيه لو كانا لزوميين.
بل كثير منها ما يتحد فيه منشأ انتزاع العنوانين المتعلقين للامر والنهى وان
اختلفا بالاطلاق والتقييد، وقد سبق بناؤهم فيه على التنافي بين الحكمين
والتعارض بين الدليلين مطلقا وخروجه عن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي
.
ومن هنا يلزم النظر في العبادات المكروهة وتطبيقها على ما سبق وغيره
مما تقتضيه القواعد العقلية.
فنقول: بعد الاتكال عليه تعالى وطلب العون والتسديد منه العبادات
المكروهة على قسمين:
القسم الأول: ما يختلف فيه منشأ انتزاع العنوانين المتعلقين للامر
والنهى، كالوضوء والغسل بالماء المشمس، حيث يظهر من أدلة الكراهة أن
موضوعها استعمال الماء المذكور في الغسل ونحوه بعنوانه الأولى، مع أن
موضوع الامر بالوضوء والغسل هو الغسل بلحاظ ترتب الطهارة عليه، فهو
عنوان ثانوي تسبيبي.
والكلام في هذا القسم هو الكلام المتقدم في مسألة الاجتماع من كون
المورد ملحقا بالتزاحم في واجديته لملاك كلا الحكمين.
398

فان أمكن امتثال الامر بفرد آخر غير المجمع أثر كل من الملاكين أثره،
لعدم التضاد بين الحكمين بعد عدم كون الكراهة حكما الزاميا وعدم كون الامر
اقتضائيا في مورد الاجتماع، فيلتزم ببقاء الامر على اطلاقه بالإضافة إليه، فيجز
عنه، مع فعلية الكراهة فيه.
وان انحصر امتثال الامر بالمجمع لزم التزاحم بين الحكمين، فيتعين
تقديم الامر ان كان الزاميا، والترجيح بالأهمية ان لم يكن الزاميا. لكن المرجوح
وان سقط بالمزاحمة يبقى ملاكه، ولذا يصح الامتثال به ان كان المرجوح هو
الامر.
كما أن الظاهر عدم الاشكال بينهم في امكان التقرب به لو كان عبادة، كما
يظهر بأدنى ملاحظة لكلماتهم في الفقه، حيث ذكروا في شروط العبادات
كالطهارات والصلاة والحج إباحة متعلقاتها في الجملة، كالماء والاناء
والمصب والساتر وغيرها على تفصيل يرجع إلى اعتبار عدم اتحاد فعل العبادة
مع الحرام أو ايصاله إليه، ولم يشيروا لذلك في الكراهة مع كثرة المكروهات في
الأمور المذكورة بنحو تتحد العبادة معها أو توصل إليها، وما ذلك الا
لمفروغيتهم عن عدم مانعيتها من التقرب.
وكأنه لما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من الفرق بين النهى التحريمي
والتنزيهي بأن التحريمي يقتضى كون الفعل معصية للمولى ومبعدا منه، فيمتنع
التقرب به، بخلاف التنزيهي، حيث لا تكون مخالفته معصية للمولى.
ولذا اتفقوا على صحة العبادة مع مزاحمتها لمستحب أهم، واختلفوا في
صحتها مع مزاحمتها لواجب، فذهب جماعة لبطلانها للنهي عنها، بناء منهم
على أن الامر بالشئ يقتضى النهى عن ضده.
لكن قال سيدنا الأعظم قدس سره: (النهى التحريمي والنهى التنزيهي وان اختلفا
في اقتضاء مخالفتهما البعد وعدمه... الا أنهما لا يختلفان في مانعيتهما من امكان
399

التقرب، حيث لا يتأتى قصد التقرب بما هو مبغوض للمولى ويزجر عنه. والاتفاق
على صحة العبادة إذا كانت ضدا للمستحب الأهم ينبغي أن يكون دليلا على
مختاره من عدم اقتضاء الامر بالشئ النهى عن ضده، لا على عدم قدح النهى
التنزيهي في امكان التقرب).
وفيه: أن بطلان القول باقتضاء الامر بالشئ النهى عن ضده وان كان
مسلما، الا أنه مبنى على عدم مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الاخر، فلا يكون
فعل الضد المهم مانعا من ضده الأهم ليكون منهيا عنه عرضا تبعا للامر به
ويمتنع التقرب ويبطل إذا كان عبادة.
أما لو فرض كون العبادة مانعة من فعل الواجب، بحيث يستند تركه إليها،
فلا اشكال في بطلانها عندهم، حيث يكون فعلها معصية لامره وتمردا على
المولى، فيمتنع التقرب بها منه، ولا يظن من أحد الالتزام بذلك فيما لو كانت
مانعة من مستحب مأمور به فعلا كالحج والزيارة. وما ذلك الا للفرق بين
التكليف الإلزامي وغيره بما سبق من المحقق الخراساني قدس سره.
وعليه يبتنى تفريقهم الذي ذكره بين ضد الواجب وضد المستحب في
الاتفاق على صحة الثاني إذا كان عبادة والخلاف في صحة الأول وابتنائه على
اقتضاء الامر بالشئ النهى عن ضده.
نعم، يظهر من المحقق الخراساني قدس سره اختصاص ذلك بما إذا كان النهى
عرضيا بسبب كون الفعل مفوتا لمصلحة غير ملزمة، أما لو كان أصليا بسبب
ترتب مفسدة غير ملزمة على الفعل كما هو المفروض في هذا القسم فيكون
مانعا من التقرب.
وقد يظهر من غير واحد المفروغية عنه.
وكأنه لدعوى أن المفسدة توجب مبغوضية الفعل وان لم يلزم بتركه،
فيمتنع مع ذلك التقرب به.
400

لكنه لا يناسب ما أشرنا إليه من ظهور عدم الاشكال بينهم في الفقه في
امكان التقرب في هذا القسم.
وكأنه يبتني على ما سبق منا في حقيقة الأحكام التكليفية الشرعية من
عدم انتزاعها من الإرادة والكراهة الحقيقيتين اللتين هما من سنخ المحبوبية
والمبغوضية، بل من الخطاب بداعي إضافة الفعل أو الترك للمولى الأعظم
وجعله في حسابه، بحيث يقوم به المكلف لأجله مع جلل المسؤولية في
الاحكام الالزامية، وبدونه في غيرها من الاحكام الاقتضائية.
وبعبارة أخرى: المانع من قصد التقرب للمولى بالفعل اما كونه معصية له
وتمردا عليه، أو كونه مبغوضا له بحيث يتنفر منه، والنهى التنزيهي لا يوجب
الأول فرضا، كما لا يستلزم الثاني على التحقيق، بل هو محال في حقه تعالى. فلا
وجه لما نعيته من التقرب بالفعل لو كان ذا ملاك صالح للمقربية.
ومنه يظهر أن ما سبق من سيدنا الأعظم قدس سره من امتناع التقرب بما هو
مبغوض للمولى ممنوع صغرويا، وان تم كبرويا.
وبالجملة: لا ينبغي التأمل في عدم مانعية الكراهة من التقرب، بعد ما
ذكرناه آنفا من ظهور مفروغية الأصحاب في الفقه عن ذلك، حيث يكشف
ذلك عن وضوح المدعى بنحو يلحقه بالبديهيات، ويلحق وجوه المنع
بالشبهات المقابلة لها التي لا تعويل عليها لو خفى وجه حلها، فضلا عما لو
اتضح، كما سبق.
القسم الثاني: ما يتحد فيه منشأ انتزاع عنواني متعلق الأمر والنهي مع
الاختلاف بالاطلاق والتقييد، كما في الصلاة في الحمام أو في السواد وصوم
يوم عاشوراء وغيرها.
ولا يخفى أن اجتماع الملاكين في المجمع كما يمكن ثبوتا مع اختلاف
منشأ انتزاع العنوانين، كذلك يمكن مع اتحاد منشأ انتزاعهما، وانما الفرق بينهما
401

في استفادة ذلك من الاطلاقين، حيث ينهض الاطلاقان باثبات الملاكين في
المجمع بنظر العرف مع اختلاف منشأ انتزاع العنوانين، ولا ينهضان بذلك مع
اتحاد منشأ انتزاعهما، بل يكونان متعارضين فيه عرفا، ومعه لا يحرز الملاكان،
كما تتقدم.
لكن لابد في المقام من احراز ملاك الامر، لان كراهة العبادة وعدم حرمتها
تستلزم مشروعيتها وصحتها التي هي فرع ثبوت ملاكها. ومن هنا يمكن حمل
الكراهة المستفادة من النهى ونحوه على أحد وجهين..
أولهما: الكراهة الحقيقية الراجعة إلى مرجوحية الفعل. وذلك بأن يكون
المجمع واجدا لملاكها مع ملاك الامر المفروض وحينئذ ان كان الامر بدليا
لا ينحصر امتثاله بمورد الكراهة كالصلاة في الحمام أو في السواد بالإضافة إلى
وجوب صلا ة الفريضة واستحباب صلاة النافلة المرتبة، وصوم يوم عاشوراء
بالإضافة إلى قضاء رمضان أو قضاء الصوم المطلق تعين م دم التزاحم بين
الحكمين، وعموم الحكم البدلي لمورد الكراهة بناء على ما سبق منا من عدم
التضاد التام بين الامر البدلي والنهى في مثل المقام.
وان كان الامر بدليا ينحصر امتثاله بمورد الكراهة كالصلاة المذكورة مع
ضيق الوقت، والنوافل المبتدأة في الأوقات المكروهة، وصوم يوم عاشوراء
بالإضافة إلى عموم استحاب الصوم الشمولي المقتضى لاستحباب صوم اليوم
المذكور تعيينا لزم التزاحم بين الحكمين، فيكون الامر فعليا إذا كان الزاميا، ولا
تكون الكراهة فعلية، فلا يتأتى توهم مانعيتها من التقرب الذي تقدم الكلام فيه.
ومع عدم كون الامر الزاميا يتعين الترجيح بالأهمية فلو كانت الكراهة أهم لم
يكن الامر فعليا. كما هو الظاهر في مثل صوم يوم عاشوراء، حيث يظهر من أدلة
402

النهى عنه مرجوحيته، بحيث يكون تركه أرجح من فعله، بل ظاهرها الحرمة
لولا المفروغية ظاهرا عن مشروعيته وان كان تحقيق ذلك موكولا للفقه، وهو
خارج عن محل الكلام.
ولا مجال في الفرض المذكور للبناء على ثبوت الامر الترتبي معلقا على
مخالفة الكراهة، لان مخالفتها انما تكون بموافقة الامر، فإناطة الامر بها راجع
لطلب الحاصل، نظير ما تقدم في التنبيه الأول.
ودعوى: أن ذلك يختص بما إذ كان ملاك الامر مترتبا على مطلق
الوجود، وأما إذا كان مترتبا على حصة خاصة من الفعل فلا محالة يكون المورد
داخلا في صغرى التزاحم الذي يمكن فيه الترتب، كما في المقام، حيث يكون
ملاك الامر مترتبا على الفعل بما هو عبادة مقصودا به الترتب، فلا تكون مخالفة
الكراهة بالفعل كافية في موافقة الامر، ليلزم من فعلية الامر حينه طلب الحاصل.
مدفوعة: بأن ذلك انما يتم لو لم يكف الفعل لا بقصد التقرب في ترتب
ملاك الكراهة، كما في مثل التزاحم بين استحباب الصوم واستحباب إجابة
المؤمن بالاكل عنده، حيث لا يكفي في موافقة الثاني الامساك لا بنية الصوم
التقربي، وحينئذ يمكن الامر بالصوم التقربي بنحو الترتب معلقا على من دم إجابة
المؤمن، وهو خلاف المفروض في المقام، لوضوح أن المنهى عنه تنزيها هو
العباد ة بما هي عبادة، كصوم يوم عاشوراء والصلاة في الحمام، فلا تكون
مخالفته الا بالفعل التقربي الذي يتحقق به موافقة الامر العبادي.
وبعبارة أخرى: الامر في المقام دائر بين النقيضين، الا أنهما ليسا مطلق
الفعل وتركه، بل خصوص الفعل العبادي وتركه، وهو كاف في امتناع أمر العبادة
بنحو الترتب.

(1) راجع الوسائل ج: 7 باب: 21 من أبواب الصوم المندوب
403

نعم، هذا لا ينافي مشروعية الفعل العبادي بلحاظ ملاكه وان امتنع الامر
به. ولا فرق بين المقام وسائر موارد التزاحم المعهودة، الا في أن التزاحم في
تلك الموارد اتفاقي، فيكون التكليف المرجوح في غير مورد المزاحمة فعليا، وفي المقام دائمي لا يكون المرجوح فيه فعليا دائما، مع اشتراكهما في امكان
تحصيل ملاك المرجوح، فيمكن التقرب به بلحاظ ذلك بعد ما سبق في القسم
الأول من عدم مانعية الكراهة من التقرب.
وأما الاشكال في ذلك بامتناع بلوغ الملاك المذكور مرتبة الفعلية التي
يصلح معها للمقربية، لأنه حيث يلزم من تحصيله فوت الملاك الأهم ينبغي
على المولى سد باب تحصيله برفع اليد عنه بنحو لا يصلح أن ينسب إليه
ويحصل لأجله، منعا من تفويت الملاك الأهم، ويبقى ملاكا اقتضائيا، كما في
سائر موارد التزاحم الملاكي.
فيندفع: بأن بلوغ الملاك المذكور مرتبة الفعلية وصلوحه للمقربية لا
يكون بنفسه مفوتا للملاك الأهم، وانما المفوت له هو موافقة العبد للملاك
المرجوح بفعل العبادة، غاية الامر أن بلوغه المرتبة المذكورة شرط في التفويت
المذكور، إذ لولاه لتعذر على العبد التقرب بالعبادة والآتيان بها، وكان تاركا لها
قهرا، ويتعذر عليه مخالفة ملاك الأهم، الا أنه لا يجب على المولى تعجيز العبد
عن مخالفة الاحكام وتفويت الملاكات.
ولا سيما مع أن فائدة ابقاء الملاك في مرتبة الفعلية وتشريع الفعل تبعا له
تحصيل العبد لثوابه لو اختاره أو ثواب امتثال الكراهة لو قصده بالترك، أما مع
رفع اليد عنه وسقوطه عن المرتبة المذكورة، فيلزم عجز العبد عن الفعل ووقوع
الترك منه قهرا بنحو لا يستتبع الثواب عليه، نظير ترك صوم يوم العيد.
وبالجملة: يتعين البناء على امكان مشروعية الفعل في المقام ووقوعها
تبعا للملاك المفروض بنحو يمكن التقرب به لأجله وان لم يكن الامر على
404

طبقه فعليا.
ثانيهما: يبتنى على كون الكراهة إضافية، راجعة إلى نقص الفرد
المرجوح بلحاظ ماهية المأمور به من حيث هي بطبعها وان كان راجحا في
نفسه.
وتوضيح ذلك: أن الماهية المأمور بها قد يكون لها بنفسها نحو من الأثر
والملاك مع قطع النظر عن المشخصات والمقارنات.
أما تشخصها في بعض الافراد والمقارنات..
فتارة: لا يكون له دخل في الأثر المذكور.
وأخرى: يكون له ميزة تقتضي نقصه.
وثالثة: يكون له ميزة تقتضي زيادته.
والأول هو الفرد العادي، والثاني هو الفرد المكروه والثالث هو الفرد
المستحب، وان كان الكل مؤديا للمقدار الداعي للتشريع الوجودي أو
الاستحبابي
. فالمكروه وان كان راجح الوجود بلحاظ ما يحصل به من ملاك الماهية
بطبعها، الا أنه حيث كان موجبا لنقص الملاك الذي هو مقتضى الماهية بنفسها
صدق عليه المكروه بلحاظ ذلك، وان كان مجزءا لفرض كفاية الباقي في غرض
التشريع الوجوبي أو الاستحبابي للماهية، فهو أنقص ملاكا بالإضافة إلى الماهية
بطبعها، بالإضافة إلى الماهية بما هي مشروعة بنحو الوجوب أو الاستحباب، بل
هو مؤد لتمام الملاك المقتضى للتشريع المذكور.
ومنه يظهر أن اختلاف افراد الماهية في الفضيلة لا يصحح اطلاق
المكروه على كل ما هو أنقص من غيره، ولا صدق المستحب على كل ما هو
أفضل من غيره، بل يختص المكروه بما ينقص معه الملاك الثابت للماهية
بطبعها، والمستحب بخصوص ما يزيد معه الملاك المذكور، كما نبه له المحقق
405

الخراساني قدس سره.
هذا، ومن الظاهر أن الكراهة بالمعنى المذكور لا تقتضي مرجوحية الفعل،
لتنافي وجوبه أو استحبابه، ويقع الكلام في وجه الجمع بينهما.
نعم، الكراهة المذكور ة انما تصحح النهى الشرعي مع وجود المندوحة
وامكان تحصيل ملاك الامر بالطبيعة في فرد لا نقص فيه، حيث يكون الغرض
منه التنبيه لاختيار الامتثال بالفرد المذكور.
أما مع عدم المندوحة وانحصار الامتثال بالفرد الناقص فلا يصح النهى
عنه، إذ ينحصر به حصول ما يمكن تحصيله من الملاك الراجح التحصيل.
ومن هنا لا مجال لتنزيل كراهة مثل صوم يوم عاشوراء على الوجه
المذكور، لعدم اختصاصها بمثل صوم القضاء مما يمكن امتثاله في غير اليوم
المذكور، بل يعم مثل صوم التطوع الاستغراقي الراجع لاستحباب صوم كل يوم،
لملاكه القائم به، ولا يفي به غيره. فتخص الكراهة في مثله بالوجه الأول.
بقى شئ، وهو أنه يظهر من جميع ما تقدم الحال في استحباب حقيقيا،
ومع اتحاد منشأ انتزاعهما والاختلاف في القيود قد يكون الاستحباب بعض
أفراد الماهية المشروعة وجوبا أو استحبابا وأنه مع اختلاف منشأ انتزاع
العنوانين يكون الاستحباب حقيقيا ناشئا عن ملاك مباين لملاك أصل الماهية،
أو عن ملاك مسانخ لملاكها، نظير ما تقدم في الكراهة الإضافية. وعلى جميع
التقادير يلزم تأكد تأكد الرجحان في المجمع لواجديته لكلا الملاكين.
وما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره من كونه موجبا لتأكد الوجوب لو
كان أمر الماهية وجوبيا. في غير محله، ضرورة أن تأكد الوجوب انما يكون
بتأكد الالزام الذي لا مجال له في المقام بعد فرض كون الجهة التي يمتاز بها
الجمع انما تقتضي استحبابه، لا وجوبه.
406

التنبيه الثالث: بعد فرض اجتماع ملاكي الأمر والنهي في المجمع فقد
تقدم لزوم تقديم النهى عملا، لان مفروض كلامهم وجود المندوحة في امتثال
الامر وامكان امتثاله بغير مورد الاجتماع، فلا يكون تعيينيا في مورد الاجتماع،
ليصلح لمزاحمة النهى التعييني.
كما تقدم في التنبيه الأول أنه مع عدم المندوحة وانحصار امتثال الامر
بمورد الاجتماع يلحق المورد بالتزاحم الذي يتعين فيه تقديم الأهم تبعا لأهمية
ملاكه.
وحينئذ لو فرض تقديم النهى في المجمع لوجود المندوحة، أو لأهميته
مع عدمها، الا أن المكلف اضطر لارتكاب أحدا أفراد الماهية المحرمة التي منها
المجمع، فلا اشكال في سقوط النهى عن الفعلية في تمام أفراد الماهية، ومنها
المجمع، بنحو البدلية، مطلقا ولو كان الاضطرار بسوء الاختيار، لما تقدم من
امتناع التكليف في فرض تعذر امتثاله، لانحصار الغرض منه باحداث الداعي
العقلي المشروط بالقدرة.
وحينئذ يلزم البناء على وجوب المجمع، أما في فرض وجود المندوحة
في امتثال الامر مع البناء على عدم التضاد بين الوجوب البدلي والتحريم كما
تقدم منا فظاهر، لفرض عموم الوجوب للمجمع قبل سقوط النهى، فبقاؤه بعد
ارتفاعه أولى.
وأما بناء على التضاد بينهما أو فرض عدم المندوحة المستلزم لسقوط
الامر حال فعلية النهى، فلانه بعد فرض عدم تأثير ملاك النهى بسبب الاضطرار
يتعين تأثير ملاك الامر وفعليته.
لكن استشكل في ذلك سيدنا الأعظم قدس سره قال: (لان الفعل يكون مرجوحا
حينئذ، ولا يجوز الامر بما هو مرجوح، والاضطرار لا يوجب رجحان الوجود
على العدم، كي يكون الفعل راجحا ولو بالعرض نعم يكون واجبا عقلا لا شرعا،
407

نظير ارتكاب أقل القبيحين).
وفيه: أنه بعد فرض الاضطرار لارتكاب المرجوح وعدم صلوح ملاكه
المرجح له للمنع فلا أثر له في مزاحمة ملاك الوجوب، وان كان هو أقوى منه
بدوا.
وبعبارة أخرى: في ظرف لزوم فوت ملاك النهى بسبب الاضطرار يكون
اختيار المجمع أرجح من عدمه لان تركه يستلزم فوت كلا الملاكين وفعله
يستلزم تحصيل أحدهما، وهو أرجح من فوتهما معا، فمرجوحيته في نفسه
لا ينافي رجحانه عرضا في حال الاضطرار المفروض، فيلزم الامر به شرعا في
الحال المذكور. ولولا ذلك لم يكن وجه للوجوب العقلي الذي ادعاه قدس سره، لعدم
الفرق بين حكمي العقل والشرع في لزوم مراعاة الرجحان المذكور.
ودعوى: كفاية الحكم العقلي المذكور عن حكم الشارع في حفظ الملاك، ومعه لا فائدة في حكم الشارع.
مدفوعة: بأن حفظ الملاك بالتشريع مختص بالشارع وليس للعقل الا
الحكم في مرتبة متأخرة عنه بلزوم متابعته وإطاعته، ولولا ذلك لزم اكتفاء
الشارع الأقدس ببيان الملاكات عن جعل الاحكام على طبقها.
واختصاص العقل بالحكم باختيار أقل القبيحين انما يكون مع قيام
الشارع بوظيفته في حفظ الملاك بالتشريع، كما لو أراد المكلف لداع شهوي أو
نحوه مخالفة أحد تكليفين للشارع مختلفي الأهمية، فان العقل يحكم بأولوية
موافقة الأهم فيهما.
هذا، ويظهر من المحقق الخراساني قدس سره امتناع الامر مع كون الاضطرار
بسوء الاختيار، لا لقصور في الملاك، بل لوجود المانع، وهو كون الفعل معصية
ومبغوضا ومستحقا عليه العقاب لدعوى منافاة ذلك للامر به، الذي هو فرع
محبوبيته ومستلزم لكونه طاعة مستحقا عليه الثواب، وهذا هو الفارق بين
408

الاضطرار المذكور والاضطرار لا بسوء الاختيار.
ويندفع: بأن مبغوضية الماهية من حيثية تفويت الملاك الأهم لا تنافى
محبوبية خصوص المجمع بعد لزوم فوت الملاك المذكور بسبب الاضطرار
لأجل تحصيل الملاك المهم، فهو بعد الاضطرار محبوب فعلا وان كان مبغوضا
اقتضاء. ولا فرق بين الاضطرارين بالإضافة للملاك الذي هو المعيار في المحبوبية والمبغوضية والامر والنهى.
بل تقدم أن التكاليف الشرعية لا تتقوم بالمحبوبية والمبغوضية بل
بالخطاب بداعي جعل السبيل التابع لحال الملاك الذي لا يفرق فيه بين
الاضطرارين، وانما الفرق بينهما في المؤاخذة على الحرام بسوء الاختيار،
وعدمها إذا لم يكن كذلك.
ولا دخل لذلك في امكان الامر، إذا لا تبتنى المؤاخذة على الحرام إذا كان
الاضطرار بسوء الاختيار على كون الفعل بنفسه حين وقوعه معصية فعلية،
لفرض سقوط النهى، بل على الاضطرار مصححا للعقاب عليه في وقته بلحاظ
تفويت ملاك الحرمة به، وهو لا ينافي الامر به تبعا للملاك الاخر بعد فرض لزوم فوت ملاك الحرمة على كل حال بسبب الاضطرار، فيقع امتثالا للامر بعد فعليته،
وان كان الاضطرار منشأ للعقاب عليه، لاستناد تفويت ملاك النهى إليه.
وأما كونه معصية للنهي فإنما هو بمعنى منجزية النهى عنه حين الاضطرار
بحيث يقتضى المنع عن الوقوع في الاضطرار ويعاقب بسببه بمقدار ما يقع من
الحرام، لا بمعنى كونه معصية وتمردا حين وقوعه بعد الاضطرار وبعد سقوط
النهى، ليمنع من الامر به ووقوعه طاعة للامر المذكور.
وبالجملة: ظرف القبح الفاعلي الذي هو مورد المنع العقلي ويمتنع معه
الامر هو ظرف القيام بسبب الاضطرار، لا ظرف الفعل بعده، وان كان مورد القبح
الفعلي هو ظرف الفعل بعد الوقوع في الاضطرار، وهو لا يمنع من الامر به بعد
409

كونه سببا لتحصيل ما يمكن تحصيله من الملاك، حيث يوجب حسنه فعلا من
دون أن يمنع منه قبحه الأولى، حيث لا يؤثر في المنع بعد لا بدية حصوله بسبب
الاضطرار. فلاحظ.
ونظير ذلك ما لو لاحظ المولى ملاكا فجعل التكليف لحفظه، فألجأه
المكلف لرفع اليد عنه مع بقاء ملاكه باحداث الملاك المزاحم الأهم، حيث
يكون احداث الملاك المذكور بمنزلة التعجيز عن التكليف الأول في استحقاق
عقاب مخالفته كالمعصية له، وان كان امتثال التكليف الحادث على طبق الملاك
الأهم لازما، لفعليته.
كما لو أوجب المولى حفظ الماء، فأراد المكلف ألجأه للتكليف بصرفه
بفعل ما يوجب عطش من يهتم المولى بحفظه، فأمره بصرف الماء في رفع
عطشه، فإنه يستحق بفعل ما يوجب العطش عقاب صرف الماء، وان وجب
عليه بعد حصول العطش.
ودعوى: أن العقاب في ذلك على احداث الملاك الأهم، كفعل ما يوجب
العطش، لا على صرف الماء المأمور به بعد العطش.
مدفوعة: بأن احداث الملاك الأهم كالاضطرار في المقام، وان كان هو
المنشأ في استحقاق العقاب، الا أن العقاب بلحاظ الملاك الفائدة، ولذا يكون
العقاب تابعا له كثرة وقلة، فكلما كان الماء المحتاج لصرفه أكثر كان العقاب
أكثر. وان أبيت فيه الا عن ذلك جرى مثله في المقام، لأنهما من باب واحد.
وبالجملة: المقامان من باب واحد والرجوع للمرتكزات العقلائية في
الملاكات وما يستتبعها من جعل الاحكام والطاعة والمعصية والانقياد والتمرد
والثواب والعقاب يشهد بامكان الامر بالمجمع، بل لزومه بلحاظ ملاكه، وان كان
المكلف مستحقا للعقاب بلحاظ فوت ملاك النهى عنه بسبب الاضطرار بسوء
الاختيار، وأن تبدل حكم الفعل والامر به حين القيام به انما ينافي العقاب عليه
410

إذا لم يستند للمكلف تفويت ملاك النهى السابق، والا لم ينافه، لعدم رجوع
استحقاق العقاب للوعيد المستتبع للداعي العقلي المنافى لمقتضى الامر، بل هو
أمر واقعي لا أثر له في مقام العمل.
نعم، متابعة الامر اللاحق في المقام توجب نحوا من الثواب أو تخفيف
العقاب السابق، نظير ما تقدم في الامر الترتبي بالضد، وان كان بين المقامين فرق
من جهات متعددة. فلاحظ.
ومما ذكرنا يتضح أنه يمكن التقرب في فرض الاضطرار للحرام، لان
المانع منه ليس الا فعلية الحرمة، فمع فرض عدم فعليتها وسقوطها بالاضطرار لا
مانع منه.
بل فرض فعلية الامر يستلزم امكان التقرب، إذ لا معنى لفعلية الامر مع
عدم التقرب بامتثاله. ومجرد واجديته لملاك الحرمة لا يصلح للمنع من التقرب
بعد فرض سقوط الملاك المذكور عن تأثير الحرمة، وعدم صلوحه لمزاحمة
ملاك الامر والمنع منه.
كما لا يمنع من ذلك كون الاضطرار بسوء الاختيار، لان التمرد الذي
يمتنع معه التقرب انما يكون بفعل سبب الاضطرار، لا بنفس فعل الحرام بعد
سقوط حرمته بتحقق سبب الاضطرار. والعقاب عليه ليس لكونه بنفسه تمردا،
بل بمعنى عدم معذرية الاضطرار في الاتيان به.
نعم، لابد مع ذلك من الالتفات إلى سقوط الحرمة بسبب الاضطرار،
بحيث يكون الارتكاب لأجله، لا لعدم الاهتمام بمخالفة المولى والتمرد عليه
مع قطع النظر عنه، لان سقوط الحرمة مع الاضطرار ليس لارتفاع موضوعها، بل
لكونه عرفا من سنخ العذر المانع من العقاب، كالحرج والجهل.
وصلوح الاعذار لرفع المسؤولية ارتكازا، بحيث لا تكون المخالفة
تمردا، فرع الاعتماد عليها في مخالفة التكليف للأولى بنحو لا يقدم المكلف
411

عليها لولاها، ولا يكفي تحققها واقعا مع عدم اهتمام المكلف بها وكونه بحيث
يخالف المولى على كل حال، لعدم اهتمامه بمخالفته والتمرد عليه، والا وقعت
تمردا وكانت مانعة من التقرب وان لم يكن التكليف بها فعليا، بل وان وقعت
موردا للامر، كما في المقام، لان التقرب بالامر فرع الانقياد للمولى، فلا يقع ممن
هو بفعله في مقام التمرد عليه والاستهانة به.
وبالجملة: إذا التفت المكلف إلى سقوط الحرمة عن المجمع بسبب
الاضطرار وفعلية الوجوب له، وكان داعيه إلى الفعل هو الوجوب المذكور،
والانقياد للمولى بموافقته، تم منه التقرب المعتبر في العبادة وصحت منه، وان
كان معاقبا بلحاظ حصول سبب الاضطرار بسوء اختياره على المولى بفعل
السبب المذكور.
وأظهر من ذلك ما لو حصلت التوبة الماحية للذنب، بأن ندم المكلف
على ما كان منه وأقلع عنه وعزم على عدم الرجوع إليه، حيث لا فرق بين
الاضطرار حينئذ والاضطرار بسوء الاختيار في امكان التقرب بالامر بلا اشكال.
وعليه يبتنى تفصيل سيدنا الأعظم قدس سره في مستمسكه في صحة الصلاة بين
التوبة وغيرها قال: (ويظهر من الجواهر أن التوبة انما يترتب عليها الأثر إذا كانت
بعد الفعل لا قبله. ولكنه غير ظاهر في مثل الغرض، أعني ما لو فعل ما هو علة
تامة في الوقوع في المعصية).
وما ذكره قدس سره في محله، بل حتى لو تم ما في الجواهر، وغض النظر عما
تقدم من أن منشأ استحقاق للعقاب هو ايقاع النفس في الاضطرار السابق على
التوبة فهو مختص بأثر التوبة الراجع للشارع الأقدس، وهو رفع العقاب دون
مثل التقرب من الآثار التكوينية النفسية الوجدانية، حيث لا اشكال في امكانه مع
التوبة في الفرض، لارتفاع حالة التمرد المانعة منه معها، وان لم تكن التوبة
مسقطة للعقاب في الفرض أو مطلقا. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.
412

ولنكتف بما ذكرنا في الكلام في الاضطرار، حيث يمكن الاستغناء
بملاحظة عن الكلام في ما أطالوا فيه الكلام من حكم الخروج من الأرض
المغصوبة لمن دخلها بسوء اختياره، لان المهم من ذلك هو امكان التقرب
بالعبادة المبنية على التصرف في الغصب حال الخروج، الذي يظهر حاله مما
ذكرناه هنا. وأما نفس حكم الخروج فلا أهمية للكلام فيه بعد المفروغية عن لزومه عقلا، ولو لتجنب أشد المحذورين. وبذلك ينتهى الكلام في مسأله
اجتماع الأمر والنهي.
والحمد لله رب العالمين.
413

الفصل السادس
في اقتضاء النهى الفساد
415

الفصل السادس
في اقتضاء النهى الفساد
ان عد هذه المسألة من مسائل الملازمات العقلية يبتنى على ما هو الظاهر
منهم من عدم الفرق في محل الكلام بين استفادة النهى من دليل لفظي
واستفادته من غيره، حيث يظهر من ذلك أن موضوع البحث هو الملازمة ثبوتا
بين النهى والفساد، لا إلى ظهور دليل النهى في الفساد اثباتا.
نعم قد ينافي ذلك ذهاب بعضهم كما قيل إلى دلالة النهى على الفساد
في المعاملات مع انكار الملازمة بينه وبين الحرمة فيها.
قال سيدنا الأعظم قدس سره: (فلو كان البحث في المقام عن الملازمة التي لا
مساس لها باللفظ لا عن الدلالة التي هي من أحواله، كان اللازم عد القول
المذكور من القول بالنفي، لا قولا بالاثبات، كما صنعوا).
ومن ثم قد يظهر من المحقق الخراساني قدس سره عد البحث في المسألة من
مباحث الألفاظ الراجعة لمقام الدلالة.
لكن لا مجال لرفع اليد عما سبق بعد عدم أهمية القول المذكور، وقرب
كون منشئه دعوى الملازمة الشرعية لظهور بعض النصوص في ذلك، ولذا يبعد
منه تخصيصه بما إذا استفيد النهى من دليل لفظي، فيخرج عن مباحث الألفاظ.
ومن هنا كان الأولى ادخال المسألة في الملازمات العقلية، وعد القول
المذكور قولا بالنفي، فإنه أجمع لشتات البحث، وأولى بنظمه.
إذا عرفت هذا فاعلم: أن محل كلامهم العبادات والمعاملات وقد تقدم
417

في المسألة الخامسة من مباحث الأحكام الوضعية أن الصحة والفساد في العمل
منتزعان من التمامية وعدمها بلحاظ ترتب الغرض المهم عليه، فما يترتب عليه
الغرض المهم هو الصحيح وما لم يترتب عليه هو الفاسد.
وحيث كان الغرض العملي المهم من فعل العبادة هو الاجزاء والخروج
عن مقتضى الامر بها كان المبحوث عنه في المقام منافاة النهى عنها لترتبه.
وجعل المعيار في الصحة أمرا آخر كموافقة الامر أو الشريعة تطويل لا
يترتب عليه أثر في مقام العمل.
كما أنه حيث كان الغرض من المعاملة عقدا كانت أو ايقاعا هو ترتب
مضمونها شرعا كان المبحوث عنه في المقام منافاة النهى عنها لترتبه.
وحيث كان منشأ المنافاة في كل منهما مباينا لمنشئه في الاخر فاللازم
البحث في مقامين..
418

المقام الأول
في العبادات
وقد يقرب اقتضاء النهى عنها فسادها بمنافاة النهى للامر بها، الذي لابد
منه في مشروعية العبادة وصحتها.
وهو يبتنى على ما تقدم في مسألة اجتماع الأمر والنهي من التضاد بين
الاحكام، وقد تقدم الكلام في شموله لما إذا كان الامر بدليا مع وجود المندوحة
وامكان امتثاله بغير مورد النهى.
مع أن المفروض في محل الكلام ان كان هو احراز ملاك الامر في مورد
النهى، بدليل خاص، أو تبعا للضابط المتقدم في تلك المسألة فمن الظاهر أنه
يكفي في صحة العبادة وغيرها مما يقع موردا للامر ويهتم باجزائه واجديته
للملاك ولو مع سقوط الامر.
وان كان المفروض عدم احراز ملاك الامر في مورد النهى، للدليل
الخاص على عدم ثبوته، أو تبعا للضابط المتقدم فمنشأ الفساد ثبوتا ليس هو
النهى، بل فقد الملاك المذكور. غايته أن دليل النهى قد يمنع من احراز ملاك
الامر من اطلاق دليله، وهو أمر آخر غير اقتضاء النهى الفساد
. هذا، مضافا إلى أن الوجه المذكور لا يختص بالعبادة، بل يجرى في كل
مأمور به وان كان توصليا، كتطهير المسجد وتكفين الميت والانفاق على الزوجة
وغيرها، لوضوح أنه لا مجال لاجزاء مالا يشمله الامر ولا يكون واجدا لملاكه،
مع أن ظاهر أخذهم العبادة في موضوع الكلام خصوصيتها في اقتضاء النهى
419

الفساد.
ومن هنا كان الظاهر أن نظرهم في دعوى اقتضاء النهى الفساد إلى مانعية
النهى الفعلي من التقرب ولو مع احراز الملاك أو عموم الامر لدعوى امكان
اجتماع الأمر والنهي مع تعدد العنوان كما تقدم من بعضهم أو لدعوى عدم
التضاد التام بين النهى والامر البدلي مع المندوحة كما تقدم منا وقد تقدم
توضيح ذلك في مسألة اجتماع الأمر والنهي. فراجع.
ويترتب على ذلك أمور..
الأول: اختصاص اقتضاء النهى الفساد في محل الكلام بما إذا كان النهى
معلوما أو محرزا بدليل شرعي أو عقلي، أو منجزا عملا بأصل كذلك، أما مع
الجهل المعذر أو الغفلة عنه أو عن وجوب الاحتياط ولو كانت عن تقصير فلا
يكون مانعا من التقرب وجدانا.
نعم قد يدعى عدم كفاية التقرب المذكور مع التقصير المصحح للعقاب،
وهو خارج عن محل الكلام راجع إلى تحديد التقرب المعتبر في العبادة، وهو
بالفقه أنسب.
وهذا بخلاف ما لو كان مبنى المسألة هو الوجه الأول، لوضوح أن التنافي
بين الأمر والنهي لو تم لا يختص بصوره الالتفات إليهما.
الثاني: أن اقتضاء الفساد لا يختص بالنهي الواقعي، بل يجرى في اعتقاده
خطأ واحرازه بدليل شرعي أو عقلي أو تنجزه بأصل كذلك، ولو مع عدم وجوده
واقعا، لاشتراك الجميع في جعل المكلف حين الفعل في مقام التمرد به المنافى
للتقرب به.
وهذا بخلاف ما لو كان مبنى المسألة هو الوجه الأول، لوضوح اختصاص
المنافى للامر بالنهي الواقعي.
الثالث: اختصاص الاقتضاء بالنهي التحريمي دون التنزيهي، لما تقدم
420

عند الكلام في العبادات المكروهة من عدم مانعية التنزيهي من التقرب.
وهذا بخلاف ما لو كان مبنى المسألة هو الوجه الأول، لوضوح أن الكراهة
كالحرمة منافية للوجوب والاستحباب.
نعم ذلك لا يجرى مع المندوحة وامكان امتثال الامر بغير مورد الكراهة،
لما تقدم عند الكلام في تضاد الاحكام من عدم التضاد أصلا بين الكراهة والامر
البدلي مع المندوحة. فراجع.
الرابع: عموم اقتضاء الفساد للنهي الغيري الثابت لمقدمة الحرام على
النحو المتقدم في ذيل مسألة مقدمة الواجب، بل حتى لو لم نقل بثبوت الحرمة
الغيرية للمقدمة المذكورة لابد من البناء على بطلانها لو كانت عبادة، لان عصيان
النهى النفسي لما كان يستند للاتيان بها يكون الاتيان، بها تمردا يتعذر التقرب
به.
بخلاف ما لو كان مبنى المسألة هو الوجه الأول، لان وقوع المأمور به
مقدمة للحرام الفعلي وان أوجب سقوط الامر به للتزاحم لو كان مضيقا، ورفع
اليد عنه في مقام العمل لو كان موسعا، الا أنه لا ينافي بقاء ملاكه، ومعه يتعين
الاجزاء بلا اشكال، نظير ما تقدم في مسألة الضد.
بقى شئ، وهو أنه بناء على اقتضاء النهى الفساد على أحد المبنيين
السابقين فالنهي في المقام يتصور على وجوه..
أولها: النهى المتعلق بالعبادة بنفسها وبتمامها، ولا اشكال في اقتضائه
الفساد.
ثانيها: النهى عن جزئها. والامر فيه كذلك، لان الجزء حيث كان عبادة
يفسد بالنهي وفساده مستلزم لفساد الكل، الا في فرض اجتزاء الشارع بالناقص،
421

كما في موارد حديث: (لا تعاد الصلاة...)، أو فرض تداركه بإعادة الجزء في
محله، إذا لم يتعذر التدارك ببطلان المركب بزيادة الجزء الفاسد المنهى عنه،
الذي محتاج لدليل خاص.
لكن ذكر بعض الأعاظم قدس سره بعد البناء منه على الوجه الأول لاقتضاء
النهى الفساد أنه يكفي النهى عن الجزء في البناء على مبطليته بدعوى: أن
النهى عن الجزء يستلزم أخذ العبادة بالإضافة إليه بشرط لا، وتكون مقيده
بعدمه، فيكون من الموانع المخلة بها.
وهو كما ترى، فان حرمه الشئ لا تستلزم تقييد المركب بعدمه، ليكون
مبطلا له. ولذا لا اشكال في عدم مبطلية الحرام للمركب إذا لم يكن من سنخ
أجزائه، كالنظر للأجنبية في أثناء الصلاة.
ولا فرق بينه وبين ما هو من سنخ الاجزاء الا في أن النهى عن الثاني قد
يستلزم تقييد اطلاق دليل جزئية الجزء بغيره، بحيث لا يجزى المنهى عنه في
تمامية المركب بل لابد من غيره، وهو راجع إلى فساده، لا افساده.
هذا وحيث كان معيار بطلان العبادة في الفرض بطلان جزئها، لاستلزم بطلان الجزء
بطلان الكل، فاللازم عدم اختصاص بطلان المركب بما إذا كان
بتمامه عباديا، بل يكفي فيه عبادية جزئه المنهى عنه، لعموم منشأ البطلان له.
ثالثها: النهى عن شرط العبادة، كالنهي عن حرمة لبس الحرير للرجال لو
فرض عدم الدليل على مانعيته من الصلاة. وقد ذكر المحقق الخراساني قدس سره أنه لا
يوجب فساد العبادة.
ووجهه بعض الأعاظم قدس سره بأن الشرط في الحقيقة هو المعنى الاسم
المصدري، والحرام هو المعنى المصدري، وهما متباينان، فالمحرم أجنبي عن
422

العبادة فلا يقتضى فسادها، بل هو كالنظر للأجنبية أثناء الصلاة.
واستشكل فيه بعض مشايخنا (دامت بركاته) بأن المعنى المصدري عين
المعنى الاسم المصدري حقيقة ووجودا وخارجا، وليس الفرق بينهما الا
اعتباريا، فيمتنع كون أحدهما مأمورا به والاخر منهيا عنه، ولا محيص عن
الالتزام بكون النهى المتعلق بالشرط موجبا لكون التقييد بالشرط المأمور به في
ضمن الامر بالمقيد متقيدا بغير الفرد المحرم، ضرورة أن المأمور به لابد أن
يكون مغايرا في الوجود للمنهي عنه في الخارج، فالعبادة المقترنة بالشرط
المنهى عنه لا تنطبق عليها الطبيعة المأمور بها، فتقع فاسدة لا محالة.
وما ذكره من اتحاد المصدر مع اسم المصدر في محله. بل اختصاص
الشرط باسم المصدر غير ظاهر المأخذ، بل هو تابع لدليل الشرطية الذي يمكن
أن يكون بالوجهين.
الا أن ذلك، وحده لا يكفي في مانعية النهى من شمول القيد للفرد
المحرم، لان التقييد بالشرط لا يرجع إلى الامر به، كي يدعى منافاة النهى له
ويلزم قصور الشرط عن الفرد المنهى عنه، بل هو راجع إلى الامر بالمشروط
المقارن له بنحو لا يسع غيره على ما تقدم توضيحه في أوائل الكلام في تقسيم
المقدمة إلى تكوينية وشرعية من مبحث المقدمة وهو لا ينافي حرمة الشرط
بوجه، فوجوب خصوص الصلاة المقارنة للستر لا تنافى حرمة الستر الا من
حيثية لزوم التكليف بما لا يطاق، فإذا لم ينحصر الستر بالفرد المحرم لم يلزم
المحذور المذكور، ولا موجب لتقييد الستر المعتبر بخصوص غير المحرم.
نعم، بناء على ثبوت الامر الغيري بالشرط ومنافاة النهى للامر البدلي مع
المندوحة يتعين قصور الامر الغيري عن الفرد المحرم. الا أنه ليس لقصور الامر
المذكور عن الشرطية كي لا يجزى، بل للمانع مع كونه مجزيا، عملا باطلا
دليل الشرطية.
423

هذا، وقد ذكر بعض المحققين قدس سره في وجه اقتضاء النهى عن الشرط
البطلان أن التقرب بالمتقيد بالمبغوض كالتقرب بالمبغوض، وكذا الامر بالمتقيد
بالمبغوض كالأمر بالمبغوض. وهو راجع إلى امتناع الامر بالمشروط والتقرب
به مع حرمة الشرط.
أقول: أما امتناع الامر بالمشروط مع حرمة الشرط فهو مختص بما إذا
انحصر الشرط بالحرام، كما يظهر مما سبق. وأما التقرب بالمشروط مع حرمة
الشرط فلم يتضح الوجه في امتناعه مطلقا بعد كونهما فعلين متباينين اختياريين
صادرين عن إرادتين، لا دخل للآحدهما بالآخر في مقام الفعل وتحريك
العضلات، ومجرد دخل الشرط في المشروط شرعا لا اثر له في مقام التقرب.
نعم لو كانت إرادة المشروط مستلزمة لإرادة الشرط للالتفات إلى شرطيته
وانحصار الداعي للشرط بفعله لم يبعد امتناع التقرب بالمشروط، حيث يكون
قصد امتثال أمر المشروط الذي به مقتضى التقرب راجعا إلى قصد فعل
الحرام وداعيا إليه، ومعه يمتنع التقرب ارتكازا.
ومن ثم ذكرنا في الفقه امتناع التقرب بالمركب إذا استلزم فعل الحرام
تدريجا، كالوضوء بالاغتراف من اناء الذهب لان الغسل بنفسه وان لم يكن
محرما الا أن القصد للغسل الوضوئي لما كان مستلزما للقصد إلى اكماله بتكرار
الاغتراف المحرم امتنع التقرب به. فلاحظ.
رابعها: النهى المتعلق بوصف العبادة الخارج عنها.
وقد ادعى المحقق الخراساني قدس سره أن الوصف إذا كان لازما للعبادة بحيث
لا يمكن وجوده في غيرها كالجهر في القراءة الذي لا ينفك عنها، وان أمكن
انفكاكها عنه واتصافها بغيره كان النهى عنه مساوقا للنهي عنها، فيترتب عليه
حكم النهى عن العبادة.
وهو غير ظاهر الوجه، إذ مجرد ملازمة الوصف للموصوف لا تقتضي
424

اشتراكهما في الحكم. بل لا تمنع من اختلافهما في المقام فيه بعد فرض امكان
خلو الموصوف عن الوصف وان امتنع العكس فيكون الوصف حراما
الموصوف واجبا. كيف! وقد سبق امكان اجتماع الوجوب البدلي مع الحرمة
في موضوع واحد، فامكان اجتماعهما في موضوعين متلازمين أولى.
اللهم الا أن يرجع إلى أن النهى عن الوصف لا يراد به الا النهى عن
الموصوف الواجد له فالمراد بالنهي عن الجهر بالقراءة هو النهى عن
القراءة الجهرية، واستفادة النهي عن الموصوف ليس لكونه لازما للنهي عن
الوصف، بل لكونه هو المراد منه.
لكنه لا يخلو عن خفاء. على أنه لم يتضح الوجه في اختصاصه بالنهي
عن الوصف اللازم الذي لا يتحقق في غير العبادة.
فالأولى أن يقال: لما كان الموصوف في المقام هو العبادة التي هي فعل
المكلف، وهو من الأمور المتصرمة غير القارة في الوجود، فان كان الوصف
منتزعا من فعل منفصل عنها في الوجود بإرادة متجددة لا دخل لها بإرادتها،
كالعجب بالعبادة واعلام الغير بها المتأخرين عنها لو فرض حرمتهما فلا
اشكال في عدم مانعية حرمة الوصف المذكور من التقرب بها حين وقوعها. الا
أن يكون ايجادها بداعي التوصل لتحقيق الوصف المذكور، حيث يكون القصد
المذكور موجبا لكون العمل تجريا مبعدا يمتنع معه التقرب به.
وان كان منتزعا من فعل مقارن لها في الوجود بقصد مقارن لقصدها،
منتزع من أمر قائم بها كالجهر بالقراءة أو خارج عنها كالرياء بها أشكل
التقرب بها مع الالتفات لحرمة الوصف، لان القصد إليها قصد لتحقيق موضوع
الوصف المحرم الذي يكون به وجوده وبعدمه عدمه، فيكون فعله بهذا اللحاظ
مبعدا يتعذر معه التقرب به.
والتفكيك بين القصدين تبعا للتفكيك بين الفعلين دقة لا يكفي في
425

التقرب بحسب المرتكزات العقلائية المحكمة في المقام.
وعلى ذلك يبتنى بطلان الصلاة لو قصد الرياء ببعض خصوصياتها
الخارجة عنها، كالتحنك حالها أو ابقاعها في المسجد أو جماعة، فضلا عن مثل
المتأني فيها أو الجهر بها أو اختيار بعض السور المأثورة فيها.
نعم، لما كان البطلان في ذلك كله بملاك امتناع التقرب بالمبعد جرى فيه
ما تقدم من تحديده بصورة الالتفات للحرمة وغيره. فلاحظ.
426

المقام الثاني
في المعاملات
ولا اشكال ظاهرا عند جماعة من محققي المتأخرين في عدم اقتضاء
النهى فيها الفساد لو كان راجعا لحرمة المعاملة من حيث هي وبعنوانها، كما في
حرمة البيع وقت النداء لصلاة الجمعة، فلا يمنع من ترتب أثرها عليها، إذ ليس
نسبتها إلى أثرها الا نسبة الموضوع لحكمه، لوضوح أن سببيتها لأثرها منتزعة
من حكم الشارع بنفوذ مضمونها، ومن الظاهر عدم منافاة حرمة الموضوع
لترتب حكمه عليه، كما في تحريم كثير من الأسباب الشرعية، كأسباب الضمان
والقصاص والكفارات وغيرها.
وأظهر من ذلك ما لو كان راجعا لحرمة المعاملة لجهة خارجة عنها غير
المسبب كما لو حرم ايقاع العقد الكلامي لاضرار الكلام بالعاقد، أو لحرمة
كلام أحد المعاقدين مع الاخر، لجهة تخصهما.
وأما لو كان راجعا لحرمة الأثر، بحيث لا تكون المفسدة قائمة بالمعاملة
لذاتها أو لجهة خارجة عنها، بل بلحاظ أثرها وترتب مضمونها عليها شرعا،
وحرمة المعاملة انما هي لكونها الفعل الاختياري للمكلف المستتبع لترتب أثره
شرعا مع عدم قدرته على الأثر مباشرة، نظير تنجيس المسجد الذي يحرم
بلحاظ ترتب النجاسة عليه. ومثاله في المقام ما لو فرض حرمة بيع المصحف أو
المسلم من الكافر، لقيام المفسدة بتملك الكافر لهما. فقد يدعى منافاة التحريم
للصحة واستلزامه الفساد لوجهين..
427

الأول: أن الأثر لما كان من الاحكام التابعة للشارع، وترتبه على المعاملة
ليس لخصوصيتها الذاتي التكوينية، بل لامضائها من قبله الراجع لحكمه بالأثر
بعد تحقق المعاملة، فمع فرض ترتب المفسدة عليه ومبغوضيته للشارع تبعا
لها، ولذا حرمه، كيف يمكن جعله من قبله وحكمه بترتبه، امضاء للسبب، بل
يتعين عدم ترتبه الراجع لفساد المعاملة.
وقد يدفع ذلك بارجاع النهى عن الأثر إلى النهى عن المؤثر، لان الأثر
ليس فعلا للمكلف، لا بالمباشرة، كما هو ظاهر، ولا بالتسبيب لعدم كون سببية
السبب ذاتيه، بل هو تابع لاعتبار الشارع الذي هو بيده، فيمتنع نهى المكلف عنه،
ويتعين رجوع النهى عنه للنهي عن ايجاد المعاملة بنفسها، لأنها الامر
الاختياري له، فيلحقه حكم الصورة الأولى.
وفيه: أن النهى وان كان راجعا إلى المعاملة، لما ذكر، الا أن المفروض
كون موضوع المفسدة والمبغوضية هو الأثر، وسراية النهى منه إلى المعاملة ليس
لكونها بنفسها موضوع المسألة والمبغوضية، بل لأنها الامر الاختياري الموصل
إليه في الجملة، القابل لان يكلف به، مع كون موضوع المفسد ة هو الأثر، فيعود
الاشكال.
ولعل الأولى دفعه مضافا إلى أن لازمه البطلان مع كون النهى تنزيهيا،
لأنه أيضا ناشئ عن مفسدة لا تناسب جعل الشارع له، وان لم تكن بنحو تقتضي
الزام المكلف بتركه بأن الحكم وان كان ذا مفسدة ومبغوضا للحاكم، الا أنه لا
مانع من اختلاف حاله قبل وجود الموضوع عن حاله بعده ولو لتجدد المزاحم
للمفسدة المذكورة، فان ذلك يقتضى مبغوضيته قبل وجود الموضوع وهو
المعاملة بنحو يوجب النهى عن ايجاده فرارا عن تجدد المزاحم الملزم بجعل
الحكم وان لزمت المفسدة.
ونظيره في الأحكام الشرعية غير المعاملات تحريم تنجيس المسجد
الراجع للنهي عن ايجاد سبب النجاسة بلحاظ سببيته لها، لا لذاته، مع الحكم بها
428

بعد تحققه، وفى الأمور العرفية ما لو كان في خروج الدار عن ملك مالكها
مفسدة بنظره، الا أنه كان يرى أن في عدم مضى بيع ولده لها مفسدة أعظم، فإنه
ينهى ولده تكليفا عن بيعها ويمضى بيعه وضعا.
ومن هنا يمكن نهى الموكل وكيله تكليفا عن بعض التصرفات مع عموم
وكالته لها، الا أن يرجع النهى إلى تحديد موضوع وكالته من دون نهى تكليفي،
فلا يكون نظيرا للمقام.
وبالجملة: لا منافاة بين النهى التكليفي عن المعاملة والسبب الشرعي من
حيثية الأثر والمسبب مع عموم سببيته لمورد النهى.
الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن المسبب بالنحو المذكور موجب
لسلب سلطنة المكلف الموقع للمعاملة عليها وحجره عنها، فلا ينفذ تصرفه،
لوضوح اعتبار سلطنة القائم بالمعاملة عليها في نفوذها منه.
وفيه: أن السلطنة المعتبرة شرعا في موقع المعاملة انما هي السلطنة
الوضعية الراجعة إلى أهليته من حيثية كون التصرف من شؤونه التابعة له،
كالوكيل والمالك الكامل والولي الشرعي وهي منوطة بأمور خاصة ليس منها
الحل التكليفي، لا السلطنة التكوينية الراجعة إلى قدرته على المعاملة خارجا،
ولا التكليفية الراجعة إلى الاذن له في ايقاعها وعدم حرمتها عليه.
نعم يعتبر في الإجارة القدرة على العمل وفى البيع القدرة على التسليم
في الجملة بالمعنى الذي ينافيه التحريم. الا أنه أجنبي عما نحن فيه، لعدم ما
مانعية حرمة نفس ايقاع المعاملة الذي هو محل الكلام، بل حرمة بعض شؤونها، لا
للتنافي بينهما، ولا من أجل اعتبار السلطنة، بل لجهة تختص بها ولا تجرى في
غيرها. ولو جرى خرج عن محل الكلام من ما نعيه نفس النهى.
مع أن لازم هذا الوجه الفساد لو كان النهى متعلقا بالمعاملة بعنوانها، لا من
جهة خصوص السبب، كالنهي عن البيع وقت النداء، ولا يختص بما إذا كان
النهى عنها بلحاظ مسببها، لان اعتبار السلطنة على المعاملة انما هو بالإضافة إلى
429

ابقاعها، فمع فرض النهى للسلطنة يتعين الفساد، مع أنه قدس سره صرح كغيره بعدم
اقتضائه الفساد في ذلك.
هذا وقد يدعى استفادة اقتضاء النهى الفساد شرعا من النصوص الواردة
في نكاح العبد بغير اذن مولاه الظاهرة في أنه لو كان عاصيا لله تعالى فسد
نكاحه. ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: (سألته عن مملوك تزوج بغير
اذن سيده. فقال: ذاك إلى سيده ان شاء أجازه، وان شاء فرق بينهما. قلت:
أصلحك الله ان الحكم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: ان أصل
النكاح فاسد، ولا تحل إجازة السيد له. فقال أبو جعفر عليه السلام: انه لم يعص الله،
وانما عصى سيده، فإذا أجازه فهو له جائز) وقريب من ذلك موثقه عنه عليه السلام: (
سألته عن رجل تزوج عبده (امرأة) بغير اذنه فدخل بها ثم اطلع على ذلك مولاه.
قال: ذاك لمولاه ان شاء فرق بينهما، وان شاء أجاز نكاحهما... وان أجاز نكاحه
فهما على نكاحهما الأول. فقلت لأبي جعفر عليه السلام: فان أصل النكاح كان عاصيا.
فقال أبو جعفر عليه السلام: انما أتى شيئا حلالا، وليس بعاص لله، انما عصى سيده ولم
يعص الله، ان ذلك ليس كاتيان ما حرم الله عليه من نكاح في عدة وأشباهه)
لقرب أن يكون قول زرارة: (فان أصل النكاح كان عاصيا) واردا مورد
الاستنكار لما تضمنه صدر الحديث من بقائهما على النكاح الأول مع امضاء
المولى له، وأن اللازم بطلان النكاح من أصله، فيكون الجواب ظاهرا في اقرار
ذلك مع كونه عاصيا لله في اتيان ما حرمه، ويدل على المدعى، كما تقدم في
الصحيح. وقد يستفاد من غيرهما.
ودعوى: أن نفى عصيانه له تعالى لا يناسب فرض عصيان السيد،
لوضوح ملازمته لعصيان الله تعالى فالحكم بالصحة معه لا يناسب اقتضاء النهى
430

الفساد، بل عدم اقتضائه له، ولابد أن يكون المراد بنفي
عصيانه تعالى نفى عصيانه الوضعي الراجع لمشروعية النكاح ذاتا.
مدفوعة: بأن المراد من نفى عصيانه تعالى ليس هو نفى مطلق العصيان،
لينافي فرض عصيان السيد، بل نفى خصوص عصيانه الراجع لمخالفة نهيه
بلحاظ حقه بالمباشرة، لا بتوسط حقوق الناس بعضهم على بعض.
ويكون المتحصل من الرواية أن مانعية النهى حدوثا وبقاء تابعة له حدوثا
وبقاء، فالنهي عن المعاملة ان كان راجعا لحقه تعالى فحيث لا رافع له، لعدم
تجدد الرضا منه بما خولف فيه يستتبع الفساد رأسا، بنحو لا يمكن تصحيحها،
وان كان راجعا لحق الناس فحيث يمكن ارتفاع النهى الشرعي بتجدد رضا من
له الحق تكون صحتها مراعاة بذلك لرافعيته لنهى الشارع. هذا ما قد يرجع إليه
كلام بعض الأعاظم قدس سره في توجيه الاستدلال.
ويشكل: بان النهى عما وقع لا يقبل البقاء ولا الارتفاع، لعدم الموضوع له
بعد مخالفته، والعصيان المسبب عنه لا يرتفع بعد تحققه.
ودعوى: أن المراد بارتفاع النهى والعصيان المسبب عنه ارتفاع موضوعه
ومنشأ حدوثه، وهو في المقام مخالفة مقتضى سلطنة السيد الذي يرتفع بتجدد
رضاه.
مدفوعة: بأن ذلك لا يكفي في تصحيح المعاملة الفاسد ة من غير جهة
مخالفة مقتضى السلطنة، فمن تزوج بنت زوجته غير المدخول بها أو ذات العدة
لم يصح زواجه بطلاق أمها أو خروجها من العدة.
على أنه لا مجال لفرض العصيان التكليفي الذي هو محل الكلام في
مورد النص بعد ما هو الظاهر من عدم عصيان العبد تكليفيا بمجرد ايقاع العقد،
خصوصا إذا أوقعه غيره كمأذونه ونحوه ممن لا سلطان للسيد عليه كما لا
يتحقق العصيان المذكور في أكثر موارد ايقاع المعاملات غير المشروعة
والباطلة.
431

كما أنه لا يناسب سياق عصيان الله تعالى بعصيان السيد مع عدم فرض
سبق النهى من السيد الذي يتوقف عليه عصيانه التكليفي.
ومن هنا كان الظاهر ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره ونسب لجماعة منهم
الوحيد والمحقق القمي قدس سرهما من حمل العصيان في المقام على العصيان
الوضعي المنتزع من ايقاع المعاملة على خلاف الوجه المشروع لها الذي به
يترتب أثرها.
ويرجع مضمون الحديث إلى أن مخالفة المشروع ان كان بايقاعها على
وجه لم يشرعه الله تعالى أصلا، كالنكاح في العدة وهو المراد بمعصية الله
تعالى فهو يبطل رأسا ولا يقبل التصحيح.
وان كان بايقاعها على وجه شرعه الله تعالى ذاتا، وانما لم ينفذ لمخالفته
مقتضى سلطنة الغير، كالمولى وهو المراد بمعصية السيد أمكن تصحيحه
برضا من له السلطنة واجازته، لارتفاع المانع معه من النفوذ، حيث يكون النفوذ
حينئذ مقتضى السلطنة، على ما يذكر في محله من مبحث العقد الفضولي.
فتكون النصوص أجنبية عن محل الكلام من النهى التكليفي.
تنبيهان
الأول: قال في التقريرات: (حكى عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهى
على الصحة، والمنقول عن نهاية العلامة التوقف، ووافقهما فخر المحققين في
نهاية المأمول، وأحال الامر على شرح التهذيب).
وقد نقل فيها وجهين للاستدلال. يرجع أولهما إلى اعتبار القدرة في
متعلق النهى مع قطع النظر عنه.
والثاني: إلى لزوم صحة متعلق النهى، لعدم الفرق بينه وبين متعلق الامر.
لكن الأول كما ترى لا يقتضى القدرة بعد النهى، ليتوهم منافاتها
للبطلان.
432

على أنه لو اعتبرت القدرة على المتعلق حتى بعد النهى عنه، فلا ينافيها
البطلان بناء على الأعم، لصدق العنوان المنهى عنه مع البطلان على المبنى
المذكور.
وأما بناء على الصحيح فمتعلق النهى وان لم يكن مقدورا الا مع الصحة،
لتوقف عنوانه عليها، الا أن متعلق النهى هو الصحيح لولا النهى، لا مطلقا ولو بعد
النهى، لتقدم الموضوع على حكمه رتبة، والظاهر أن المتعلق المذكور مقدور
بعد النهى ولو صار فاسدا بسببه، فمثلا: لو فرض توقف صدق الصلاة على
الصحة، الا أن متعلق النهى ليس هو الا ما يصدق عليه الصلاة قبل النهى، وهو
مقدور بعد النهى وان خرج عن كونه صلاة لفساده.
ومنه يظهر اندفاع الثاني، لان متعلق الامر كتعلق النهى ليس الا ما يصدق
عليه العنوان مع قطع النظر عن حكمه وفى رتبة سابقة عليه، وهو لا ينافي صحته
أو فساده في رتبة متأخرة عنه حتى لو كان العنوان متوقفا على الصحة ويتوقف
عليها صدقه، بل الامر في العبادات أظهر بناء على توقف صحتها على الامر،
حيث لا يكون متعلق الامر فيها هو الصحيح الفعلي لولا الامر، بل هو الصحيح
الاقتضائي لولاه، فمع كونه هو موضوع النهى لا ملزم بصحته. ومن ثم لا مجال
للبناء على الكبرى المذكورة، ولا مخرج عما سبق.
الثاني: محل الكلام في العبادات والمعاملات هو النهى التكليفي عن
نفس للعبادة أو المعاملة المستتبع للعقاب عليهما، لا النهى الوارد للارشاد
لبطلان العمل وعدم أجزأه أو عدم نفوذه، كنهي المكلف عن الصلاة في ما لا
يؤكل لحمه، وعن بيعه ما ليس عنده، حيث لا اشكال حينئذ في دلالته اثباتا على
الفساد، بل هو المفروض، مع استناد الفساد ثبوتا لعدم تمامية الملاك، لا للنهي
نفسه. كما أن النهى المذكور لا يقتضى التحريم التكليفي للعمل.
ومثله النهى عن ترتيب الأثر، كالنهي عن أكل الثمن، فإنه وان أمكن أن
يكون تكليفيا بالإضافة إلى ترتيب الأثر، الا أنه لا يكون تكليفيا بالإضافة إلى
433

ايقاع نفس الفعل ذي الأثر، بل لا يقتضى الا الفساد فيه.
نعم قد يجتمع الأمران في العبادة أو المعاملة، فتكون محرمة تكليفا
وفاسدة وضعا، كما هو الظاهر في الصلاة بلا وضوء والمعاملة الربوية. بل قد
يظهر من أدلة بعض المعاملات أنها توجب شدة حرمة الثمن، بحيث يكون أكله
أشد من أكل مال الغير بدون اذنه، كما هو الحال في المعاملة الربوية.
لكنه خارج عن محل الكلام، ويتبع الدليل الخاص، ولا ضابط له، فلاحظ.
والله سبحانه وتعالى العالم ومنه نستمد العون والتوفيق.
انتهى الكلام في مبحث اقتضاء النهى الفساد، وبه ينتهى الكلام في باب
الملازمات العقلية من قسم الأصول النظرية.
وكان ذلك ليلة الجمعة الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول، للسنة الثالثة
بعد الألف والأربعمائة للهجرة النبوية، على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى
التحية، في النجف الأشرف بيمن الحرم المشرف على مشرفة أفضل الصلاة
والسلام.
بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفى عنه، نجل العلامة الجليل حجة
الإسلام السيد (محمد على) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.
والحمد لله رب العالمين، وله الشكر على تيسير ذلك وتسهيله، ونسأله
سبحانه اتمام النعمة بقبول العمل، وغفران الزلل، وصلاح الحال، وراحة البال،
وحسن العاقبة في المبدأ والمال، وهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم
النصير.
كما انتهى تبييضه بعد تدريسه عصر الأربعاء السابع والعشرين من الشهر
المذكور في النجف الأشرف، بيمنى مؤلفه الفقير حامدا مصليا مسلما.
434