الكتاب: محاضرات في أصول الفقه
المؤلف: تقرير بحث الخوئي ، للفياض
الجزء: ١
الوفاة: ١٤١١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٩
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك: ٩٦٤-٤٧٠-٠٥٨-٩
ملاحظات: تقرير أبحاث آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي

محاضرات
في أصول الفقه
تقرير أبحاث الأستاذ الأعظم آية الله العظمى
السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره.
تأليف
العلامة المدقق الشيخ محمد إسحاق الفياض دام ظله
الجزء الأول
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
1

شابك 9 - 058 - 470 - 964
9 - 058 - isbn 964
محاضرات في أصول الفقه
(ج 1)
تقرير أبحاث: آية الله العظمى السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي قدس سره
المقرر: الفقيه المحقق والأصولي المدقق الشيخ محمد إسحاق الفياض
الموضوع: أصول الفقه
طبع ونشر: مؤسسة النشر الاسلامي
عدد الأجزاء: 5 أجزاء
الطبعة: الأولى
المطبوع: 1000 نسخة
التاريخ: 1419 ه‍. ق
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرع الإسلام فسهل شرائعه لمن ورده، وأعز أركانه لمن غالبه،
فجعله أمنا لمن علقه وسلما لمن دخله.
والصلاة والسلام على أمين وحيه وخاتم رسله محمد المصطفى وآله
الطيبين الطاهرين، الذين هم شجرة النبوة ومحط الرسالة ومختلف الملائكة
ومعادن العلم وينابيع الحكم، واللعنة الدائمة على أعدائهم الخائضين في بحر
الأهواء والفتن، الآخذين بالبدع دون السنن، الذين لا عن الله يعقلون ولا في
الدين يتفقهون.
وبعد، لما كان ما أفاده وألقاه محيي السلف وأسوة الخلف، أستاذ الفقهاء
والمجتهدين آية الله العظمى " السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي قدس سره
الشريف " في مباحث أصول الفقه من أتقن المباني في هذا الفن وأدقها، وما قرره
تلميذه الفاضل المدقق العلامة البحاثة " الشيخ محمد إسحاق الفياض دام ظله " من
دروس أستاذه الجليل من أجود التقريرات تنقيحا وأحسنها توضيحا وأمتنها
تعبيرا، وقد أصبح في الحوزات العلمية محورا أساسيا للدراسات الأصولية، فلذا
قامت مؤسسة النشر الإسلامي بطبع ونشر هذا السفر القويم - بعد ما طبعت مرات
في النجف الأشرف وقم المقدسة - بأسلوب راجح على الطبعات السابقة من نواح
3

شتى: بمزيد العناية في تصحيحه وتقويم نصه وتخريج آياته وأحاديثه وإرجاع
الأقوال المنقولة فيه إلى مصادره، كل ذلك بالجهود المشكورة التي بذلها إخواننا
الفضلاء المتوفقون لخدمة العلم والدين، نسأل الله تعالى لهم المزيد من التوفيق
والتسديد، إنه حميد مجيد.
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
4

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعترته
الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين وبعد فاني احمد الله تعالى
على ما اولاني به من تربية نفر من ذوي الكفاءة واللياقة حتى بلغ الواحد منهم تلو الاخر درجة راقية
من العلم والفضل وممن وفقت لرعايته وحضر أبحاثي العالية في الفقه والأصول هو قرة عيني
العلامة المدقق الفاضل الشيخ محمد إسحاق الفياض دامت تأييداته وقد عرض علي الجزء الأول
من كتابه (المحاضرات في أصول الفقه) الذي كتبه تقريرا لأبحاثي بأسلوب بليغ والمام جدير
بالإشادة والاعجاب واني أبارك له هذا الجهد الميمون واساله تعالى ان يوفقه لاتمام مرامه
انه ولي التوفيق في 6 جمادى الثانية سنة 1382
أبو القاسم الموسوي الخوئي
5

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة على خير خلقه محمد وآله الطاهرين،
واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.
وبعد، فهذا هو الجزء الأول من كتابنا " محاضرات في أصول الفقه " وهو
مشتمل على ما استفدته من تحقيقات عالية ومطالب شامخة وأفكار مبتكرة من
مجلس درس سيدنا الأستاذ الأفخم فقيه الطائفة سماحة آية الله العظمى السيد
أبو القاسم الخوئي، إذ عكفت ضمن المئات من الطلاب على مجلس درسه
الشريف في جامعة العلم الكبرى " النجف الأشرف " التي أسندت إليه زعامتها،
وألقت بين يديه مقاليدها، فقام بالعبء خير قيام في محاضراته وبحوثه، وتربى
على يديه الكريمتين جيل بعد جيل من الأفاضل الأعلام.
وإني إذ أبتهل إلى المولى سبحانه أن يوفقني لإلحاق الجزء الثاني بهذا الجزء
في الطبع أسأله تعالى أن يمتعنا وعموم المسلمين بدوام وجود استاذنا الأفخم
ويديم أيام إفاداته العامرة، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
6

بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
من الضروري الذي لا يشك فيه أحد أن الشريعة الإسلامية المقدسة تشتمل
على أحكام إلزامية، من وجوبات وتحريمات تتكفل بسعادة البشر ومصالحهم
المادية والمعنوية، ويجب الخروج عن عهدتها، وتحصيل الأمن من العقوبة من
ناحيتها بحكم العقل.
وهذه الأحكام ليست ضرورية لكل أحد بحيث يكون الكل عالمين بها من
دون حاجة إلى تكلف مؤنة الإثبات وإقامة البرهان عليها.
نعم، عدة منها أحكام ضرورية أو قطعية فيعلمها كل مسلم، من دون حاجة
إلى مؤنة الإثبات والاستدلال.
ولكن جلها نظريات تتوقف معرفتها وتمييز موارد ثبوتها عن موارد عدمها
على البحث والاستدلال. وأن ذلك يتوقف على معرفة قواعد ومبادئ تكون
نتيجتها معرفة الوظيفة الفعلية وتشخيصها في كل مورد. وأن هذه القواعد هي:
القواعد الأصولية، فهي مبادئ تصديقية لعلم الفقه المتكفل لتشخيص الوظيفة
الفعلية في كل مورد بالنظر والدليل. وأن المباحث الأصولية قد مهدت وأسست
لمعرفة هذه القواعد وتنقيحها.
7

وينبغي التنبيه على أمور:
الأمر الأول
أن هذه القواعد والمبادئ على أقسام
القسم الأول: ما يوصل إلى معرفة الحكم الشرعي بعلم وجداني، وبنحو البت
والجزم، وهي مباحث الاستلزامات العقلية: كمبحث مقدمة الواجب، ومبحث
الضد، ومبحث اجتماع الأمر والنهي، ومبحث النهي في العبادات.
فإنه بعد القول بثبوت الملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته - مثلا -
يترتب عليه العلم الوجداني بوجوب المقدمة عند وجوب ذيها بعد ضم الصغرى
إلى هذه الكبرى.
أقسام المباحث الأصولية
وكذا يحصل العلم البتي بفساد الضد العبادي عند الأمر بضده الآخر إذا ضم
ذلك إلى كبرى ثبوت الملازمة بين الأمر بالشئ والنهي عن ضده.
القسم الثاني: ما يوصل إلى الحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي بعلم جعلي
تعبدي، وهي مباحث الحجج والأمارات، وهذه على ضربين:
الضرب الأول: ما يكون البحث فيه عن الصغرى بعد إحراز الكبرى والفراغ
عنها، وهي مباحث الألفاظ بأجمعها، فإن كبرى هذه المباحث - وهي مسألة حجية
الظهور - محرزة ومفروغ عنها، وثابتة من جهة بناء العقلاء وقيام السيرة القطعية
8

عليها، ولم يختلف فيها اثنان، ولم يقع البحث عنها في أي علم. ومن هنا قلنا: إنها
خارجة عن المسائل الأصولية (1).
نعم، وقع الكلام في موارد ثلاثة:
الأول: في أن حجية الظهور هل هي مشروطة بعدم الظن بالخلاف، أم بالظن
بالوفاق، أم لا هذا ولا ذاك؟
الثاني: في ظواهر الكتاب وأنها هل تكون حجة أم لا؟
الثالث: في أن حجية الظواهر هل تختص بمن قصد إفهامه أم تعم غيره
أيضا؟
والصحيح فيها - على ما يأتي (2) بيانه - هو: حجية الظهور مطلقا، بلا
اختصاص لها بالظن بالوفاق، ولا بعدم الظن بالخلاف، ولا بمن قصد إفهامه.
كما أنه لا فرق فيها بين ظواهر الكتاب وغيرها.
ثم إن البحث في هذا الضرب يقع من جهتين:
الجهة الأولى: في إثبات ظهور الألفاظ بحد ذاتها وفي أنفسها، مع قطع النظر
عن ملاحظة أية ضميمة خارجية أو داخلية: كمباحث الأوامر والنواهي
والمفاهيم، ومعظم مباحث العموم والخصوص، والمطلق والمقيد: كالبحث عن أن
الجمع المحلى باللام هل هو ظاهر في نفسه في العموم أم لا؟ وعن أن النكرة
الواقعة في سياق النفي أو النهي هل هي ظاهرة في العموم بحد ذاتها؟ وعن أن
الفرد المعرف باللام هل هو ظاهر بنفسه في الإطلاق بلا معونة قرينة خارجية
ما عدا مقدمات الحكمة أم لا؟
الجهة الثانية: في إثبات ظهورها مع ملاحظة معونة خارجية: كبعض مباحث
العام والخاص، والمطلق والمقيد: كالبحث عن أن العام والمطلق إذا خصصا

(1) راجع مصباح الأصول: ج 2 ص 117.
(2) مصباح الأصول: ج 2 ص 118 - 122 في مسألة حجية الظواهر.
9

بدليلين منفصلين فهل هما بعد ذلك ظاهران في تمام الباقي أم لا؟ والبحث عن أن
المخصص والمقيد المنفصلين المجملين هل يسري إجمالهما إلى العام والمطلق أم
لا؟ ونحوهما.
الضرب الثاني: ما يكون البحث فيه عن الكبرى، وهي مباحث الحجج بعد
إحراز الصغرى والفراغ عنها: كمبحث حجية خبر الواحد، والإجماعات المنقولة،
والشهرات الفتوائية، وظواهر الكتاب، ويدخل فيه مبحث الظن الانسدادي بناء
على الكشف، ومبحث التعادل والترجيح، فإن البحث فيه في الحقيقة عن حجية
أحد الخبرين المتعارضين في هذا الحال.
القسم الثالث: ما يبحث عن الوظيفة العملية الشرعية للمكلفين في حال العجز
عن معرفة الحكم الواقعي واليأس عن الظفر بأي دليل اجتهادي، من عموم أو
إطلاق بعد الفحص بالمقدار الواجب، وما هو وظيفة العبودية في مقام الامتثال،
وهي مباحث الأصول العملية الشرعية: كالاستصحاب والبراءة والاشتغال.
القسم الرابع: ما يبحث عن الوظيفة العملية العقلية في مرحلة الامتثال في
فرض فقدان ما يؤدي إلى الوظيفة الشرعية، من دليل اجتهادي، أو أصل عملي
شرعي، وهي مباحث الأصول العملية العقلية: كالبراءة والاحتياط العقليين،
ويدخل فيه مبحث الظن الانسدادي بناء على الحكومة.
فالنتيجة المتحصلة إلى الآن: هي أن المسائل الأصولية وقواعدها على
أقسام أربعة:
تعريف علم الأصول
الأول: ما يثبت الحكم الشرعي بعلم وجداني.
الثاني: ما يثبته بعلم جعلي تعبدي، وهذا القسم على ضربين كما مر.
الثالث: ما يعين الوظيفة العملية الشرعية بعد اليأس عن الظفر بالقسمين
المتقدمين.
الرابع: ما يعين الوظيفة العملية بحسب حكم العقل في فرض فقدان الوظائف
الشرعية (يعني: الأقسام الثلاثة المتقدمة) وعدم الظفر بشئ منها. فهذا كله
10

فهرس المسائل الأصولية وترتيبها الطبيعي.
ومن هنا ظهر فائدة علم الأصول، وهي: (تعيين الوظيفة في مقام العمل الذي
هو موجب لحصول الأمن من العقاب).
وحيث إن المكلف الملتفت إلى ثبوت الأحكام في الشريعة يحتمل العقاب
وجدانا فلا محالة يلزمه العقل بتحصيل مؤمن منه.
وحيث إن طريقه منحصر بالبحث عن المسائل الأصولية فإذا يجب الاهتمام بها.
وبما أن البحث عنها منحصر بالمجتهدين دون غيرهم فيجب عليهم تنقيحها،
وتعيين الوظيفة منها في مقام العمل لنفسهم ولمقلديهم، حتى يحصل لهما الأمن
في هذا المقام.
الأمر الثاني
في تعريف علم الأصول
وهو: العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعية
الكلية الإلهية، من دون حاجة إلى ضميمة كبرى أو صغرى أصولية أخرى إليها.
وعليه فالتعريف يرتكز على ركيزتين، وتدور المسائل الأصولية مدارهما
وجودا وعدما:
الركيزة الأولى: أن تكون استفادة الأحكام الشرعية الإلهية من المسألة من
باب الاستنباط والتوسيط، لا من باب التطبيق، (أي: تطبيق مضامينها بنفسها على
مصاديقها): كتطبيق الطبيعي على أفراده.
والنكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الأصول: هي الاحتراز عن القواعد
الفقهية، فإنها قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية، ولا يكون
ذلك من باب الاستنباط والتوسيط، بل من باب التطبيق، وبذلك خرجت عن التعريف.
11

ولكن ربما يورد عليه: بأن اعتبار ذلك يستلزم خروج عدة من المباحث الأصولية
المهمة عن علم الأصول: كمباحث الأصول العملية الشرعية والعقلية، والظن
الانسدادي بناء على الحكومة.
فإن الأولى منها لا تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي، لأن
إعمالها في مواردها إنما هو من باب تطبيق مضامينها على مصاديقها وأفرادها، لا
من باب استنباط الأحكام الشرعية منها وتوسيطها لإثباتها، والأخيرتين منها لا
تنتهيان إلى حكم شرعي أصلا، لا واقعا ولا ظاهرا.
وبتعبير آخر: أن الأمر في المقام يدور بين محذورين، فإن هذا الشرط على
تقدير اعتباره في التعريف يستلزم خروج هذه المسائل عن مسائل هذا العلم، فلا
يكون جامعا، وعلى تقدير عدم اعتباره فيه يستلزم دخول القواعد الفقهية فيها، فلا
يكون مانعا. فإذا لا بد أن نلتزم بأحد هذين المحذورين: فإما أن نلتزم باعتبار هذا
الشرط لتكون نتيجته خروج هذه المسائل عن كونها أصولية. أو نلتزم بعدم
اعتباره لتكون نتيجته دخول القواعد الفقهية في التعريف، ولا مناص من أحدهما.
والتحقيق في الجواب عنه: هو أن هذا الإشكال مبتن على أن يكون المراد
بالاستنباط المأخوذ ركنا في التعريف: الإثبات الحقيقي بعلم أو علمي، إذ على
هذا لا يمكن التفصي عن هذا الإشكال أصلا، ولكنه ليس بمراد منه، بل المراد به
معنى جامعا بينه وبين غيره، وهو الإثبات الجامع بين أن يكون وجدانيا أو شرعيا
أو تنجيزيا أو تعذيريا.
وعليه فالمسائل المزبورة تقع في طريق الاستنباط، لأنها تثبت التنجيز مرة،
والتعذير مرة أخرى، فيصدق عليها - حينئذ - التعريف، لتوفر هذا الشرط فيها، ولا
يلزم - إذا - محذور دخول القواعد الفقهية فيه.
نعم، يرد هذا الإشكال على التعريف المشهور، وهو: (العلم بالقواعد الممهدة
لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية) فإن ظاهرهم أنهم أرادوا بالاستنباط:
12

الإثبات الحقيقي، وعليه فالإشكال وارد، ولا مجال للتفصي عنه كما عرفت. ولو
كان مرادهم المعنى الجامع الذي ذكرناه فلا وقع له أصلا كما مر.
وعلى ضوء هذا البيان ظهر الفرق بين المسائل الأصولية والقواعد الفقهية،
فإن الأحكام المستفادة من القواعد الفقهية - سواء أكانت مختصة بالشبهات
الموضوعية: كقاعدة الفراغ واليد والحلية ونحوها، أم كانت تعم الشبهات الحكمية
أيضا كقاعدتي: " لا ضرر ولا حرج " بناء على جريانهما في موارد الضرر أو
الحرج النوعي، وقاعدتي: " ما يضمن وما لا يضمن " وغيرها - إنما هي من باب
تطبيق مضامينها بأنفسها على مصاديقها، لا من باب الاستنباط والتوسيط، مع أن
نتيجتها في الشبهات الموضوعية نتيجة شخصية.
هذا، والصحيح: أنه لا شئ من القواعد الفقهية تجري في الشبهات الحكمية،
فإن قاعدتي: " نفي الضرر والحرج " لا تجريان في موارد الضرر أو الحرج
النوعي، وقاعدة " ما يضمن " أساسها ثبوت الضمان باليد مع عدم إلغاء المالك
لاحترام ماله، فالقواعد الفقهية نتائجها أحكام شخصية لا محالة.
وعلى كل حال، فالنتيجة: هي أن القواعد الفقهية من حيث عدم توفر هذا
الشرط فيها غير داخلة في المسائل الأصولية.
وعلى هذا الأساس ينبغي لك أن تميز كل مسألة ترد عليك أنها مسألة أصولية
أو قاعدة فقهية.
لا كما ذكره المحقق النائيني (1) (قدس سره) من: أن نتيجة المسألة الفقهية قاعدة كانت
أو غيرها بنفسها تلقى إلى العامي غير المتمكن من الاستنباط وتعيين الوظيفة في
مقام العمل، فيقال له: " كلما دخل الظهر وكنت واجدا للشرائط فقد وجبت عليك
الصلاة "، فيذكر في الموضوع تمام قيود الحكم الواقعي فيلقى إليه.
وهذا بخلاف نتيجة المسألة الأصولية، فإنها بنفسها لا يمكن أن تلقى

(1) فوائد الأصول: ج 4 ص 309.
13

إلى العامي غير المتمكن من الاستنباط، فإن إعمالها في مواردها وظيفة
المجتهدين دون غيرهم.
نعم، الذي يلقى إليه هو الحكم المستنبط من هذه المسألة، لا هي نفسها، وذلك
لأن ما أفاده (قدس سره) بالقياس إلى المسائل الأصولية وإن كان كما أفاد فإن إعمالها في
مواردها وأخذ النتائج منها من وظائف المجتهدين، فلاحظ فيه لمن سواهم.
إلا أن ما أفاده (قدس سره) بالإضافة إلى المسائل الفقهية غير تام على إطلاقه، إذ رب
مسألة فقهية حالها حال المسألة الأصولية من هذه الجهة:
كاستحباب العمل البالغ عليه الثواب، بناء على دلالة أخبار " من بلغ " (1)
عليه، وعدم كونها إرشادا، ولا دالة على حجية الخبر الضعيف، فإنه مما لا يمكن
أن يلقى إلى العامي لعدم قدرته على تشخيص موارده من الروايات، وتطبيق
أخبار الباب عليها.
وكقاعدة نفوذ الصلح والشرط باعتبار كونهما موافقين للكتاب أو السنة، أو
غير مخالفين لهما، فإن تشخيص كون الصلح أو الشرط في مواردهما موافقا
لأحدهما أو غير مخالف مما لا يكاد يتيسر للعامي.
وكقاعدتي: " ما يضمن، وما لا يضمن "، فإن تشخيص مواردهما وتطبيقهما
عليها لا يمكن لغير المجتهد. إلى غيرها من القواعد التي لا يقدر العامي على
تشخيص مواردها وصغرياتها ليطبق القاعدة عليها.
بل رب مسألة فقهية في الشبهات الموضوعية تكون كذلك: كبعض فروع العلم
الإجمالي فإن العامي لا يتمكن من تشخيص وظيفته فيه.
مثلا: إذا فرضنا أن المكلف علم إجمالا بعد الفراغ من صلاتي الظهر والعصر
بنقصان ركعة من إحداهما، ولكنه لا يدري أنها من الظهر أو من العصر ففي هذا
الفرع وأشباهه لا يقدر العامي على تعيين وظيفته في مقام العمل، بل عليه

(1) وسائل الشيعة: ج 1 ص 80 ب 18 من أبواب مقدمة العبادات (ط - آل البيت).
14

المراجعة إلى مقلده، بل الحال في كثير من فروع العلم الإجمالي كذلك.
شبهة ودفع:
أما الشبهة: فهي توهم أن مسألتي البراءة والاحتياط الشرعيين خارجتان
عن تعريف علم الأصول، لعدم توفر الشرط المتقدم فيهما، إذ الحكم المستفاد
منهما في مواردهما إنما هو من باب التطبيق، لا من باب الاستنباط، وقد سبق أن
المعتبر في كون المسألة أصولية: هو أن يكون وقوعها في طريق الحكم من باب
الاستنباط دون الانطباق.
وأما الدفع: فلأن المراد بالاستنباط ليس خصوص الإثبات الحقيقي، بل
الأعم منه ومن الإثبات التنجيزي والتعذيري، وقد سبق أنهما يثبتان التنجيز
والتعذير بالقياس إلى الأحكام الواقعية، وهذا نوع من الاستنباط، وإطلاقه عليه
ليس بنحو من العناية والمجاز، بل على وجه الحقيقة، فإن المعنى الظاهر منه عرفا
هو المعنى الجامع، لا خصوص حصة خاصة.
ولو تنزلنا عن ذلك وفرضنا: أن وقوعهما في طريق الحكم ليس من باب
الاستنباط، وإنما هو من باب التطبيق والانطباق: كانطباق الطبيعي على مصاديقه
وأفراده فلا نسلم أنهما خارجتان من مسائل هذا العلم، وذلك لأنهما واجدتان
لخصوصية بها امتازتا عن القواعد الفقهية، وهي: كونهما مما ينتهي إليه أمر المجتهد
في مقام الإفتاء بعد اليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي كإطلاق أو عموم.
وهذا بخلاف تلك القواعد، فإنها ليست واجدة لها، بل هي في الحقيقة أحكام
كلية إلهية استنبطت من أدلتها لمتعلقاتها وموضوعاتها، وتنطبق على مواردها بلا
أخذ خصوصية فيها أصلا، كاليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي ونحوه، فهما
بتلك الخصوصية امتازتا عن القواعد الفقهية، ولأجلها دونتا في علم الأصول
15

وعدتا من مسائله. هذا تمام الكلام في الركيزة الأولى.
الركيزة الثانية: أن يكون وقوعها في طريق الحكم بنفسها، من دون حاجة إلى
ضم كبرى أصولية أخرى. وعليه، فالمسألة الأصولية هي المسألة التي تتصف
بذلك.
ثم إن النكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الأصول أيضا: هي أن لا تدخل
فيه مسائل غيره من العلوم، كعلم النحو والصرف واللغة والرجال والمنطق
ونحوها، فإنها وإن كانت دخيلة في استنباط الأحكام الشرعية واستنتاجها من
الأدلة - فإن فهم الحكم الشرعي منها يتوقف على علم النحو ومعرفة قوانينه من
حيث الإعراب والبناء. وعلى علم الصرف ومعرفة أحكامه من حيث الصحة
والاعتلال. وعلى علم اللغة من حيث معرفة معاني الألفاظ وما تستعمل فيه.
وعلى علم الرجال من ناحية تنقيح أسانيد الأحاديث وتمييز صحيحها عن
سقيمها، وجيدها عن رديئها. وعلى علم المنطق لمعرفة صحة الدليل وسقمه.
ولكن كل ذلك بالمقدار اللازم في الاستنباط لا بنحو الإحاطة التامة. فلو لم يكن
الإنسان عارفا بهذه العلوم كذلك أو كان عارفا ببعضها دون بعضها الآخر لم يقدر
على الاستنباط - إلا أن وقوعها ودخلها فيه لا يكون بنفسها وبالاستقلال، بل لابد
من ضم كبرى أصولية، وبدونه لا تنتج نتيجة شرعية أصلا، ضرورة أنه لا يترتب
أثر شرعي على وثاقة الراوي ما لم ينضم إليها كبرى أصولية، وهي حجية الرواية،
وهكذا...
وبذلك قد امتازت المسائل الأصولية عن مسائل سائر العلوم، فإن مسائل
سائر العلوم وإن كانت تقع في طريق الاستنباط - كما عرفت - إلا أنها لا بنفسها، بل
لابد من ضم كبرى أصولية إليها. وهذا بخلاف المسائل الأصولية، فإنها كبريات
لو انضمت إليها صغرياتها لاستنتجت نتيجة فقهية من دون حاجة إلى ضم كبرى
16

ومن هنا يتضح أن مرتبة علم الأصول فوق مرتبة سائر العلوم، ودون مرتبة
علم الفقه، وحد وسط بينهما.
كما أنه يظهر أن مبحث المشتق، ومبحث الصحيح والأعم، وبعض مباحث
العام والخاص - كمبحث وضع أداة العموم كلها - خارجة عن مسائل هذا العلم،
لعدم توفر هذا الشرط فيها، إذ البحث في هذه المباحث عن وضع ألفاظ مفردة
" مادة " كما في بعضها، و " هيئة " كما في بعضها الآخر. ومن الواضح جدا أنه لا
تترتب آثار شرعية على وضعها فقط، مثلا: أي أثر شرعي يترتب على وضع
المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل، أو للجامع بينه وبين المنقضي عنه
المبدأ؟ وعلى وضع أسامي العبادات أو المعاملات لخصوص المعاني الصحيحة،
أو للأعم منها ومن الفاسدة؟ وعلى وضع الأدوات للعموم - مثلا - من دون أن
تنضم إليها مسألة أصولية؟
فالصحيح: هو أنها من المسائل اللغوية، ولكن حيث إنها لم تدون في علم
اللغة دونت في الأصول.
ونتيجة ما ذكرناه: أن المسائل الأصولية يعتبر فيها أمران:
الأول: أن يكون وقوعها في طريق الحكم من باب الاستنباط، لا من باب
الانطباق، وبها تتميز عن المسائل الفقهية.
الثاني: أن يكون وقوعها فيه بنفسها وبالاستقلال، من دون حاجة إلى ضم
مسألة أخرى، وبها تتميز عن مسائل سائر العلوم.
شبهات ودفوع:
الشبهة الأولى: توهم أن مسألة اجتماع الأمر والنهي بناء على اعتبار الشرط
الثاني تخرج عن مسائل هذا العلم، إذ على القول باستحالة الاجتماع وعدم إمكانه
17

لا يترتب عليها أثر شرعي ما عدا القطع بعدم فعلية كلا الحكمين، وإنما نحتاج
في ترتبه عليها إلى ضم مسألة أخرى، وهي: إجراء قوانين باب التعارض التي
يكون المقام من صغرياتها على القول بالامتناع، وهذا ليس شأن المسألة
الأصولية بمقتضى هذا الشرط كما عرفت.
ويدفعها: أنه يكفي في كون المسألة أصولية وقوعها في طريق الاستنباط،
وتعيين الوظيفة في مقام العمل بأحد طرفيها وإن كانت لا تقع كذلك بطرفها
الآخر، إذ لو لم يكن ذلك كافيا في الاتصاف بكونها مسألة أصولية للزم خروج
كثير من المسائل الأصولية عن تعريف علم الأصول بمقتضى الشرط المزبور.
منها: مسألة حجية خبر الواحد، فإنه على القول بعدمها لا يترتب عليها أثر
شرعي أصلا.
ومنها: مسألة حجية ظواهر الكتاب على القول بعدم حجيتها، إلى غيرها من
المسائل.
فالنتيجة: هي أن الملاك في كون المسألة أصولية وقوعها في طريق الاستنباط
بنفسها ولو باعتبار أحد طرفيها، في قبال ما ليس له هذا الشأن وهذه الخاصية
كمسائل بقية العلوم، والمفروض أن هذه المسألة كذلك فإنه يترتب عليها أثر
شرعي على القول بالجواز، وهو صحة العبادة وإن لم يترتب على القول بالامتناع.
الشبهة الثانية: توهم خروج مسألة الضد عن التعريف، لعدم توفر هذا الشرط
فيها، إذ لا يترتب أثر شرعي على نفس ثبوت الملازمة بين وجوب شئ وحرمة
ضده لتكون المسألة أصولية.
وأما حرمة الضد فهي وإن ثبتت بثبوت الملازمة إلا أنها حرمة غيرية لا تقبل
التنجيز كي تصلح لأن تكون نتيجة فقهية للمسألة الأصولية.
حول موضوع العلم
وأما فساد الضد فهو لا يترتب على ثبوت هذه الملازمة بلا ضم كبرى أصولية
أخرى، وهي ثبوت الملازمة بين حرمة العبادة وفسادها.
18

ويدفعها: ما مر من الجواب عن الشبهة الأولى، وملخصه: أنه يكفي في كون
المسألة أصولية ترتب نتيجة فقهية على أحد طرفيها وإن لم تترتب على طرفها
الآخر، والمفروض أنه يترتب على مسألتنا هذه أثر شرعي على القول بعدم
الملازمة، وهو: صحة الضد العبادي وإن لم يترتب على القول الآخر.
الشبهة الثالثة: دعوى: أن اعتبار هذا الشرط يستلزم خروج مسألة مقدمة
الواجب عن المسائل الأصولية، لامن جهة أن البحث فيها عن وجوب المقدمة
وهي مسألة فقهية، فإن البحث فيها - كما أفاد المحققون من المتأخرين - عن ثبوت
الملازمة العقلية بين وجوب شئ ووجوب مقدماته وعدم ثبوتها، بل من جهة
عدم ترتب أثر شرعي عليها بنفسها، وعدم توفر ذاك الشرط فيها.
أما وجوب المقدمة فهو وإن ترتب على ثبوت هذه الملازمة إلا أنه حيث كان
غيريا لا يصلح أن يكون أثرا للمسألة الأصولية، بل وجوده وعدمه سيان من هذه
الجهة. وأما غيره مما هو قابل لذاك فلم يكن حتى يترتب عليها.
ويدفعها: ما سنذكره - إن شاء الله تعالى - في محله، من: أن لتلك المسألة
ثمرة مهمة - غير وجوب المقدمة - تترتب عليها، وبها تكون المسألة أصولية،
وتفصيل الكلام فيها موكول إلى محلها، فلينتظر.
الأمر الثالث
في بيان موضوع العلم وعوارضه الذاتية وتمايز العلوم
فيقع الكلام في جهات:
الجهة الأولى: في مدرك ما التزم به المشهور من لزوم الموضوع في كل علم.
الجهة الثانية: في وجه ما التزموا به من: أن البحث في كل علم لا بد أن يكون
عن العوارض الذاتية لموضوعه.
19

الجهة الثالثة: في بيان تمايز العلوم بعضها عن بعض.
أما الكلام في الجهة الأولى: فغاية ما قيل أو يمكن أن يقال في وجهه: هو
أن الغرض من أي علم من العلوم أمر واحد.
مثلا: الغرض من علم الأصول: (الاقتدار على الاستنباط). ومن علم النحو:
(صون اللسان عن الخطأ في المقال). ومن علم المنطق: (صون الفكر عن الخطأ
في الاستنتاج).
وحيث إن هذا الغرض الوحداني يترتب على مجموع القضايا المتباينة في
الموضوعات والمحمولات التي دونت علما واحدا وسميت باسم فارد يستحيل
أن يكون المؤثر فيه هذه القضايا بهذه الصفة، لاستلزامه تأثير الكثير بما هو كثير
في الواحد بما هو واحد. فإذا يكشف (إنا) عن أن المؤثر فيه جامع ذاتي
وحداني بينها بقانون: " أن المؤثر في الواحد لا يكون إلا الواحد بالسنخ "، وهو
موضوع العلم.
وبتعبير آخر: أن البرهان على اقتضاء وحدة الغرض لوحدة القضايا موضوعا
ومحمولا ليس إلا أن الأمور المتباينة لا تؤثر أثرا واحدا، كما عليه جل الفلاسفة
لولا كلهم.
ويرد عليه:
أولا: أن البرهان المزبور وإن سلم في العلل الطبعية لا في الفواعل الإرادية
إلا أن الغرض الذي يترتب على مسائل العلوم لا يخلو: إما أن يكون واحدا
شخصيا، أو واحدا نوعيا، أو عنوانيا. وعلى أي تقدير لا تكشف وحدة الغرض
عن وجود جامع ما هوي وحداني بين تلك المسائل.
أما على الأول: فإنه يترتب على مجموع المسائل من حيث المجموع، لا على
كل مسألة مسألة بحيالها واستقلالها، فحينئذ المؤثر فيه المجموع من حيث هو،
20

فتكون كل مسألة جزء السبب لا تمامه، نظير: ما يترتب من الغرض الوحداني
على المركبات الاعتبارية من الشرعية: كالصلاة ونحوها، أو العرفية، فإن المؤثر
فيه مجموع أجزاء المركب بما هو، لا كل جزء جزء منه، ولذا لو انتفى أحد أجزائه
انتفى هذا الغرض. فوحدة الغرض بهذا النحو لا تكشف عن وجود جامع وحداني
بينها بقاعدة استحالة صدور الواحد عن الكثير، فإن استناده إلى المجموع بما هو
لا يكون مخالفا لتلك القاعدة ليكشف عن وجود الجامع، إذ سببية المجموع من
حيث هو سببية واحدة شخصية، فالاستناد إليه استناد معلول واحد شخصي إلى
علة واحدة شخصية، لا إلى علل كثيرة.
ومقامنا من هذا القبيل، فإن المؤثر في الغرض الذي يترتب على مجموع
القضايا والقواعد، المجموع من حيث المجموع، لا كل واحدة واحدة منها.
والمفروض - كما عرفت - أن سببية المجموع سببية واحدة شخصية فاردة،
فاستناده إليه ليس من استناد الواحد إلى الكثير، بل - حقيقة - من استناد معلول
واحد شخصي إلى علة كذلك.
فإذا، لا سبيل لنا إلى استكشاف وجود جامع ذاتي بين المسائل.
وأما على الثاني: بأن كان الغرض كليا له أفراد يترتب كل فرد منها على
واحدة من المسائل بحيالها واستقلالها - كما هو الصحيح - فالأمر واضح، إذ بناء
على ذلك لا محالة يتعدد الغرض بتعدد المسائل والقواعد، فيترتب على كل مسألة
بحيالها غرض خاص غير الغرض المترتب على مسألة أخرى.
مثلا: الاقتدار على الاستنباط الذي يترتب على مباحث الألفاظ يباين
الاقتدار على الاستنباط المترتب على مباحث الاستلزامات العقلية، وهما يباينان
ما يترتب على مباحث الحجج والأمارات، فإن الاقتدار على الاستنباط
الحاصل من مباحث الاستلزامات العقلية اقتدار على استنباط الأحكام الشرعية
21

على نحو البت والجزم، وهذا بخلاف الاقتدار الحاصل من مباحث الحجج
والأمارات، وهكذا...
وإذا كان الأمر كذلك فلا طريق لنا إلى إثبات جامع ذاتي، وحداني بين
موضوعات هذه المسائل، لأن البرهان المزبور لو تم فإنما يتم في الواحد
الشخصي البسيط بحيث لا يكون ذا جهتين أو جهات، فضلا عن كونه واحدا
نوعيا، فإذا فرضنا أن الغرض واحد نوعي فلا يكشف إلا عن واحد كذلك، لا
عن واحد شخصي.
وأما على الثالث: فالحال فيه أوضح من الثاني، فإن القاعدة المزبورة لو تمت
فإنما تتم في الواحد الحقيقي، لا في الواحد العنواني، والمفروض أن الغرض في
كثير من العلوم واحد بالعنوان لا بالحقيقة، فإن صون الفكر عن الخطأ في
الاستنتاج في علم المنطق، وصون اللسان عن الخطأ في المقال في علم النحو،
والاقتدار على الاستنباط في علم الأصول وهكذا ليس واحدا بالذات، بل
بالعنوان الذي انتزع من مجموع أغراض متعددة بتعدد القواعد المبحوث عنها في
العلوم ليشار به إلى هذه الأغراض.
فإذا كيف يكشف مثل هذا الواحد عن جامع ذاتي؟ فإن الواحد بالعنوان لا
يكشف إلا عن واحد كذلك!
وثانيا: أن الغرض المترتب على كل علم لا يترتب على نفس مسائله
الواقعية وقواعده النفس الأمرية ليكشف عن جامع وحداني بينها. ويقال: إن ذلك
الجامع الوحداني موضوع العلم، ومؤثر في ذلك الغرض، وهذا لعله من أبده
البديهيات، فإن لازم ذلك حصول ذلك الغرض لكل من كان عنده كتب كثيرة من
علم واحد أو علوم مختلفة، من دون أن يكون عالما بما فيها من القواعد والمسائل!
بل هو مترتب على العلم بنسبها الخاصة، وبثبوت محمولاتها لموضوعاتها،
فإن الاقتدار على الاستنباط في علم الأصول إنما يترتب على معرفة قواعده: بأن
22

يعرف حجية أخبار الثقة، وحجية ظواهر الكتاب، والاستصحاب ونحوها، فإذا
عرف هذه القواعد وعلم بنسبها الخاصة يحصل له الاقتدار على الاستنباط.
وصون اللسان عن الخطأ في المقال في علم النحو إنما يحصل لمن يعرف
مسائله وقواعده: كرفع الفاعل، ونصب المفعول، وجر المضاف إليه، ونحو ذلك.
وصون الفكر عن الخطأ في علم المنطق إنما يترتب على معرفة قوانينه
وقواعده: كإيجاب الصغرى، وكلية الكبرى، وتكرر الحد الأوسط، وهكذا، فلا بد
من تصوير الجامع حينئذ بين العلوم، أو - لا أقل - بين النسب الخاصة، لا بين
الموضوعات.
وثالثا: أن المحمولات التي تترتب على مسائل علم الفقه بأجمعها، وعدة
من محمولات مسائل علم الأصول من الأمور الاعتبارية التي لا واقع لها، عدا
اعتبار من بيده الاعتبار، فإن محمولات مسائل علم الفقه على قسمين:
أحدهما: الأحكام التكليفية: كالوجوب، والحرمة، والإباحة، والكراهة،
والاستحباب.
والآخر: الأحكام الوضعية: كالملكية والزوجية والرقية، ونحوها، وكلتاهما
من الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها إلا في عالم الاعتبار.
نعم، الشرطية والسببية والمانعية ونحوها من الأمور الانتزاعية التي تنتزع من
القيود الوجودية أو العدمية المأخوذة في متعلقات الأحكام أو موضوعاتها، ولهذا
لا تكون موجودة في عالم الاعتبار إلا بالتبع، ولكن مع ذلك هي تحت تصرف
الشارع رفعا ووضعا، من جهة أن منشأ انتزاعها تحت تصرفه كذلك.
وإن شئت قلت: إن محمولات مسائل علم الفقه على سنخين:
أحدهما: موجود في عالم الاعتبار بالأصالة: كجميع الأحكام التكليفية،
وكثير من الأحكام الوضعية.
والآخر: موجود فيه بالتبع: كعدة أخرى من الأحكام الوضعية.
23

ومن هنا ظهر حال بعض محمولات علم الأصول أيضا: كحجية خبر
الواحد، والإجماع المنقول، وظواهر الكتاب، وأحد الخبرين المتعارضين في
هذا الحال ونحوها، فإنها من الأمور الاعتبارية حقيقة وواقعا، بل البراءة
والاحتياط الشرعيان أيضا من هذا القبيل.
نعم، محمولات مثل مباحث الألفاظ والاستلزامات العقلية والبراءة
والاحتياط العقليين ليست من الأمور الاعتبارية في اصطلاح الأصوليين
وإن كانت كذلك في اصطلاح الفلاسفة، فإن المصطلح عندهم: إطلاق الأمر
الاعتباري على الأعم منه ومن الأمر الانتزاعي: كالإمكان والامتناع ونحوهما.
والمصطلح عند الأصوليين: إطلاق الأمر الاعتباري في مقابل الأمر الانتزاعي
الواقعي.
إذا عرفت ذلك فأقول: لو سلم ترتب الغرض الواحد على نفس مسائل العلم
الواحد فلا يكاد يعقل أن يكشف عن جامع واحد مقولي بينها ليقال: إن ذلك
الجامع الواحد يكشف عن جامع كذلك بين موضوعاتها بقاعدة السنخية
والتطابق، ضرورة أنه كما لا يعقل وجود جامع مقولي بين الأمر الاعتباري
والأمر التكويني كذلك لا يعقل وجوده بين أمرين اعتباريين، أو أمور اعتبارية،
فإنه لو كان بينها جامع لكان من سنخها، لا من سنخ الأمر المقولي، فلا كاشف عن
أمر وحداني مؤثر في الغرض الواحد، فإن التأثير والتأثر إنما يكونان في الأشياء
المتأصلة: كالمقولات الواقعية من الجواهر والأعراض.
ورابعا أن موضوعات مسائل علم الفقه على انحاء مختلفة:
فبعضها من مقولة الجوهر: كالماء والدم والمني، وغير ذلك.
ونحو من مقولة الوضع: كالقيام والركوع والسجود، وأشباه ذلك.
وثالث من مقولة الكيف المسموع: كالقراءة في الصلاة، ونحوها.
ورابع من الأمور العدمية: كالتروك في بابي الصوم والحج وغيرهما.
24

وقد برهن في محله: أنه لا يعقل وجود جامع ذاتي بين المقولات: كالجواهر
والأعراض، لأنها أجناس عالية ومتباينات بتمام الذات والحقيقة، فلا اشتراك
أصلا بين مقولة الجوهر مع شئ من المقولات العرضية، ولا بين كل واحدة منها
مع الأخرى. وإذا لم يعقل تحقق جامع مقولي بينها فكيف بين الوجود والعدم؟!
وملخص ما ذكرناه أمران:
الأول: أنه لا دليل على اقتضاء كل علم وجود الموضوع، بل سبق أن حقيقة
العلم عبارة عن " جملة من القضايا والقواعد المختلفة بحسب الموضوع
والمحمول، التي يجمعها الاشتراك في الدخل في غرض واحد دعا إلى تدوينها
علما ".
الثاني: أن البرهان قد قام على عدم إمكان وجود جامع مقولي بين
موضوعات مسائل بعض العلوم: كعلم الفقه والأصول.
وأما الكلام في الجهة الثانية: فتفصيل القول فيها يحتاج إلى تقديم مقدمة،
وهي: أن المشهور قد قسموا العوارض على سبعة أقسام، فإن العارض على
الشئ: إما أن يعرض ذلك الشئ ويتصف المعروض به بلا توسط أمر آخر:
كإدراك الكليات العارض للعقل، أو بواسطة أمر آخر مساو للمعروض: كصفة
الضحك العارضة للإنسان بواسطة أمر مساو له، وهو صفة التعجب، أو هذه الصفة
عارضة له بواسطة ما هو مساو له، وهو صفة الإدراك. (هذا في الواسطة المساوية
الخارجة عن ذات ذيها بأن لا تكون جزءه).
وقد يعرض على شئ بواسطة جزئه الداخلي المساوي له في الصدق:
كعروض عوارض الفصل على النوع مثل: عروض النطق على الإنسان بواسطة
النفس الناطقة، أو بواسطة أمر أخص: كعروض عوارض النوع أو الفصل على
الجنس كما هو الحال في أكثر مسائل العلوم، فإن نسبة موضوعات مسائلها إلى
موضوعات العلوم نسبة الأنواع إلى الأجناس، فعروض عوارضها لها من
25

العارض على الشئ بواسطة أمر أخص، أو بواسطة أمر أعم: كعروض عوارض
الأجناس للأنواع مثل: صفة المشي العارضة للإنسان بواسطة كونه حيوانا. (هذا
في الأعم الداخلي).
وربما يعرض على شئ بواسطة أعم خارجي، أي: خارج عن ذاته، ولا
يكون جنسه ولا فصله، أو بواسطة أمر مباين له: كعروض الحرارة للماء بواسطة
النار أو الشمس، أو عروض الحركة للسيارة أو الطيارة بواسطة القوة الكهربائية.
وملخص ما ذكرناه: هو أن الواسطة: إما مساوية أو أعم، وهما: إما داخليان:
كالجنس والفصل، وإما خارجيان، وإما خارجي أخص، وإما مباين، فهذه ستة
أقسام، والسابع منها ما لا يكون له واسطة.
إذا عرفت ذلك فأقول: إن المعروف والمشهور بل المتفق عليه بينهم: أن ما لا
واسطة له أو كانت أمرا مساويا داخليا من العوارض الذاتية. كما أن ما كانت
الواسطة فيه أمرا مباينا أو أعم خارجيا من العوارض الغريبة عندهم.
وأما الثلاثة الباقية فكلماتهم فيها مختلفة غاية الاختلاف:
فاختار جمع منهم: أن عوارض النوع ليس ذاتية للجنس، ومنه عوارض
الفصل.
واختار جمع آخر، بل نسب إلى المشهور: أن عوارض الجنس ليست ذاتية للنوع.
وبهذا يشكل كون محمولات العلوم عوارض ذاتية لموضوعاتها، فإنها إنما
تعرض لموضوعات المسائل أولا وبالذات، وبوساطتها تعرض لموضوعات العلوم.
فإذا فرض أن عوارض الأنواع ليست ذاتية للأجناس وبالعكس لزم أن يكون
البحث في العلوم عن العوارض الغريبة، لوضوح أن نسبة موضوعات المسائل إلى
موضوعات العلوم نسبة الأنواع إلى الأجناس.
كما أن البحث في عدة من مسائل هذا العلم عما يعرض لموضوعه بواسطة
أمر أعم كمباحث الألفاظ والاستلزامات العقلية، فإن موضوع العلم خصوص
26

الكتاب والسنة، وموضوع البحث الأعم منهما.
إذا، بناء على أن عوارض الجنس ليست ذاتية للنوع يكون البحث فيهما عن
العوارض الغريبة لموضوع العلم.
وملخص الكلام: أن هذا الإشكال يبتني على أمرين:
الأول: أن يكون البحث في العلوم عن العوارض الذاتية لموضوعها.
الثاني: أن لا تكون عوارض النوع ذاتية للجنس وبالعكس.
ثم إنهما يبتنيان على أمر واحد وأصل فارد، وهو الالتزام بلزوم الموضوع
في كل علم، وإلا فلا موضوع لهذين الأمرين، فضلا عن الإشكال.
وكيف كان، فقد ذهب غير واحد من الأعلام والمحققين في التفصي عنه يمينا
وشمالا، منهم: صدر المتألهين في الأسفار (1) إلا أن جوابه لا يجدي إلا في

(1) قال: نعم كل ما يلحق الشئ لأمر أخص، وكان ذلك الشئ مفتقرا في لحوقه له إلى أن
يصير نوعا متهيئا لقبوله ليس عرضا ذاتيا، بل عرض غريب على ما هو المصرح به في كتب
الشيخ وغيره. كما أن ما يلحق الموجود بعد أن يصير تعليميا أو طبيعيا ليس البحث عنه من
العلم الإلهي في شئ، وما أظهر لك أن تفطن بأن لحوق الفصول لطبيعة الجنس - كالاستقامة
والانحناء للخط مثلا - ليس بعد أن يصير نوعا متخصص الاستعداد، بل التخصص إنما
يحصل بها لا قبلها، فهي مع كونها أخص من طبيعة الجنس أعراض أولية له... " الأسفار:
ج 1 ص 33.
وأوضحه بعض المحققين بما إليك نصه: توضيحه: أن الموضوع في علم المعقول - مثلا -
هو الموجود أو الوجود، وهو ينقسم - أولا - إلى الواجب والممكن، ثم الممكن إلى الجوهر
والمقولات العرضية، ثم الجوهر إلى عقل ونفس وجسم، ثم العرض كل مقولة منه إلى أنواع،
والكل من مطالب ذلك العلم ومن لواحقه الذاتية، مع أن ما عدا تقسيم الأول يتوقف على
تخصص الموضوع بخصوصية أو خصوصيات، إلا أن جميع تلك الخصوصيات مجعولة
بجعل واحد، وموجودة بوجود فارد. فليس هنا سبق في الوجود لواحد بالإضافة إلى الآخر
كي يتوقف لحوق الآخر على سبق استعداد وتهيؤ للموضوع بلحوق ذلك الواحد المفروض
تقدمه رتبة، فإن الموجود لا يكون ممكنا أولا ثم يوجد له وصف الجوهرية أو العرضية، بل
إمكانه بعين جوهريته وعرضيته. كما أن جوهريته بعين العقلية أو النفسية أو الجسمية.
ففي الحقيقة لا واسطة في العروض والحمل الذي هو الاتحاد في الوجود، بل الإمكان يتحد
مع الوجود بعين الاتحاد الجوهري العقلي أو النفسي أو الجسماني في الوجود، فليس هناك
عروضان حتى يكون أحدهما بالذات والآخر بالعرض، بخلاف لحوق الكتابة والضحك
للحيوان، فإنه يتوقف على صيرورة الحيوان متخصصا بالنفس الإنسانية تخصصا وجوديا
حتى يعرضه الضحك والكتابة.
وليس الضحك والكتابة بالإضافة إلى الإنسان كالعقلية والنفسية بالإضافة إلى الجوهر،
بداهة أن إنسانية الإنسان ليس بضاحكيته وكاتبيته.
نعم، تجرد النفس وما يماثله مما يكون تحققه بتحقق نفس الإنسانية من الأعراض
الذاتية للحيوان كالنفس ".
ثم قال (قدس سره) أيضا: وهذا الجواب وإن كان أجود ما في الباب إلا أنه وجيه بالنسبة إلى علم
المعقول، وفي تطبيقه على سائر الموضوعات للعلوم لا يخلو عن تكلف، فإن موضوع علم
الفقه هو فعل المكلف، وموضوعات مسائله: الصلاة والصوم والحج، إلى غير ذلك، وهذه
العناوين نسبتها إلى موضوع العلم كنسبة الأنواع إلى الجنس، وهي وإن كانت لواحق ذاتية له
إلا أنه لا يبحث عن ثبوتها، والحكم الشرعي ليس بالإضافة إليها كالعقلية بالإضافة إلى
الجوهرية، بل هما موجودان متباينان، وكذا الأمر في النحو والصرف. نهاية الدراية:
ج 1 ص 2 - 3
27

المسائل الفلسفية فقط.
ولكن على ضوء ما حققناه سابقا يتضح لك بأنه لا أساس للإشكال المذكور،
فإنه يبتني على الالتزام بالأمرين المزبورين اللذين هما مبتنيان على أصل
وأساس واحد، وهو الالتزام بلزوم الموضوع في كل علم، وقد سبق أنه لا دليل
عليه (بصورة عامة)، وعرفت قيام الدليل على عدمه (بصورة خاصة) في بعض
العلوم: كعلم الفقه والأصول.
وتوهم أن وحدة العلم تدور مدار وحدة موضوعه فإذا فرض أنه لا موضوع
له فلا وحدة له مدفوع: بأن وحدة كل علم ليست وحدة حقيقية لنحتاج إلى تكلف
إثبات وجود جامع حقيقي بين موضوعات مسائله، بل وحدته وحدة اعتبارية.
فإن المعتبر يعتبر عدة من القضايا والقواعد المتباينة بحسب الموضوع والمحمول
28

علما، ويسميها باسم فارد من جهة اشتراكها في الدخل في غرض واحد.
ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا لزوم الموضوع للعلم فلا دليل على اعتبار أن
يكون البحث فيها عن العوارض الذاتية لموضوعه بالمعنى الذي فسرها المشهور
به، والوجه في ذلك ما بيناه: من أن حقيقة العلم عبارة عن عدة من المسائل
والقواعد المختلفة (موضوعا ومحمولا) التي جمعها الاشتراك في غرض واحد.
وعليه، فيبحث في كل علم عماله دخل في غرضه، سواء أكان من العوارض
الذاتية في الاصطلاح، أم كان من الغريبة، ضرورة أنه لا ملزم بأن يكون البحث
عن العوارض الذاتية فقط بعد فرض دخل العوارض الغريبة أيضا في المهم.
ولو تنزلنا عن هذا أيضا وسلمنا أن البحث في العلوم عن العوارض الذاتية
لموضوعاتها، إلا أنه لا دليل على أن عوارض الأنواع ليست ذاتية للأجناس،
وبالعكس.
بل الصحيح: أن ما يلحق الشئ بتوسط نوعه أو جنسه ذاتي له لا غريب،
بداهة أن المراد منه ليس ما يعرض الشئ أولا وبالذات، ومن دون واسطة، فإن
لازمه خروج كثير من محمولات العلوم التي لها دخل في الأغراض المترتبة عليها.
وبالجملة: لا وجه للقول بكون عوارض النوع غريبة للجنس، فإن البحث عنها
لا بد منه في العلوم، وبدونه لا يتم أمرها.
وعليه فنقول: لا بد من الالتزام بأحد أمرين: إما أن نلتزم بأن عوارض النوع
ذاتية للجنس. وإما أن نلتزم بأن المبحوث عنه في العلوم أعم من العوارض الذاتية
والغريبة، وهو: (كل ماله دخل في الغرض ذاتيا كان أو غريبا). ومع التنزل عن
الثاني فلا مناص من الالتزام بالأول.
وعلى ذلك، فملاك الفرق بينهما: هو أن ماله دخل في الغرض فليس بعرض
غريب، ومالا دخل له فيه غريب. ومن ذلك ظهر: أنه لا وجه لإطالة الكلام في
المقام، في بيان أن عارض النوع ذاتي للجنس، وبالعكس، أو لا؟ كما صنعه شيخنا
الأستاذ (قدس سره) وغيره.
29

ثم إن مرادنا من العرض: مطلق ما يلحق الشئ، سواء أكان من الأمور
الاعتبارية أم من الأمور المتأصلة الواقعية، لا خصوص ما يقابل الجوهر.
وأما الكلام في الجهة الثالثة: فقد اشتهر أن تمايز العلوم بعضها عن بعض
بتمايز الموضوعات.
وقد خالف في ذلك صاحب الكفاية (قدس سره) واختار أن تمايز العلوم بتمايز
الأغراض المترتبة عليها الداعية إلى تدوينها: (كالاقتدار على الاستنباط) في
علم الأصول، و (صون اللسان عن الخطأ في المقال) في علم النحو، و (صون
الفكر عن الخطأ في الاستنتاج) في علم المنطق، وهكذا...
وأورد على المشهور بما ملخصه: أن الملاك في تمايز العلوم لو كان تمايز
موضوعاتها فلازمه أن يكون كل باب، بل كل مسألة علما على حدة، لتحقق هذا
الملاك فيهما (1).
والتحقيق في المقام أن يقال: إن إطلاق كل من القولين ليس في محله.
وبيان ذلك: أن التمايز في العلوم: تارة يراد به التمايز في مقام التعليم والتعلم،
لكي يقتدر المتعلم ويتمكن من تمييز كل مسألة ترد عليه، ويعرف أنها مسألة
أصولية، أو مسألة فقهية، أو غيرهما.
واخرى يراد به التمايز في مقام التدوين، وبيان ما هو الداعي والباعث
لاختيار المدون عدة من القضايا والقواعد المتخالفة، وتدوينها علما واحدا،
وتسميتها باسم فارد، واختياره عدة من القضايا والقواعد المتخالفة الأخرى،
وتدوينها علما آخر، وتسميتها باسم آخر، وهكذا.
أما التمايز في المقام الأول: فيمكن أن يكون بكل واحد من الموضوع
والمحمول والغرض، بل يمكن أن يكون ببيان فهرس المسائل والأبواب إجمالا.
والوجه في ذلك: هو أن حقيقة كل علم حقيقة اعتبارية، وليست وحدتها

(1) كفاية الأصول: ص 22 (ط - مؤسسة النشر الإسلامي).
30

وحدة بالحقيقة والذات ليكون تمييزه عن غيره بتباين الذات، كما لو كانت حقيقة
كل واحد منهما من مقولة على حدة، أو بالفصل كما لو كانت من مقولة واحدة، بل
وحدتها بالاعتبار، وتمييز كل مركب اعتباري عن مركب اعتباري آخر يمكن
بأحد الأمور المزبورة.
وأما التمايز في المقام الثاني: فبالغرض إذا كان للعلم غرض خارجي يترتب
عليه، كما هو الحال في كثير من العلوم المتداولة بين الناس: كعلم الفقه والأصول
والنحو والصرف ونحوها، وذلك لأن الداعي الذي يدعو المدون لأن يدون عدة
من القضايا المتباينة علما: كقضايا علم الأصول - مثلا - وعدة أخرى منها علما
آخر: كقضايا علم الفقه ليس إلا اشتراك هذه العدة في غرض خاص، واشتراك
تلك العدة في غرض خاص آخر. فلو لم يكن ذلك ملاك تمايز هذه العلوم بعضها
عن بعض في مرحلة التدوين، بل كان هو الموضوع لكان اللازم على المدون أن
يدون كل باب، بل كل مسألة علما مستقلا لوجود الملاك كما ذكره صاحب
الكفاية (1) (قدس سره).
وأما إذا لم يكن للعلم غرض خارجي يترتب عليه سوى العرفان والإحاطة
به: كعلم الفلسفة الأولى فامتيازه عن غيره: إما بالذات أو بالموضوع أو بالمحمول،
كما إذا فرض أن غرضا يدعو إلى تدوين علم يجعل الموضوع فيه (الكرة
الأرضية) - مثلا - ويبحث فيه عن أحوالها من حيث الكمية والكيفية والوضع
والأين، إلى نحو ذلك، وخواصها الطبيعية، ومزاياها على أنحائها المختلفة.
أو إذا فرض أن غرضا يدعو إلى تدوين علم يجعل موضوعه (الإنسان)
ويبحث فيه عن حالاته الطارئة عليه، وعن صفاته من الظاهرية والباطنية، وعن
أعضائه وجوارحه وخواصها. فامتياز العلم عن غيره في مثل ذلك: إما بالذات أو
بالموضوع، ولا ثالث لهما، لعدم غرض خارجي له ما عدا العرفان والإحاطة،

(1) كفاية الأصول: ص 22.
31

ليكون التمييز بذلك الغرض الخارجي.
كما أنه قد يمكن الامتياز بالمحمول فيما إذا فرض أن غرض المدون يتعلق
بمعرفة ما تعرضه الحركة مثلا، فله أن يدون علما يبحث فيه عن ما تثبت الحركة
له، سواء أكان ماله الحركة من مقولة الجوهر أم من غيرها من المقولات، فمثل هذا
العلم لا امتياز له إلا بالمحمول.
وبما حققناه تبين لك وجه عدم صحة إطلاق كل من القولين، وأن تميز أي
علم عن آخر كما لا ينحصر بالموضوع كذلك لا ينحصر بالغرض، بل كما يمكن
أن يكون بهما يمكن أن يكون بشئ ثالث، لا هذا ولا ذاك.
ثم إن من القريب جدا أن يكون نظر المشهور فيما ذهبوا إليه: من أن تمايز
العلوم بالموضوعات إلى تقدم رتبة الموضوع على رتبتي المحمول والغرض،
ولعلهم لأجله قالوا: إن التمايز بها، وليس مرادهم الانحصار، وإلا فقد عرفت عدمه.
ويتلخص ما ذكرناه في أمور:
الأول: أن صحة تدوين أي علم لا تتوقف على وجود موضوع له، لما بينا
من أن حقيقة العلم: عبارة عن (مجموع القضايا والقواعد المتخالفة التي جمعها
الاشتراك في غرض خاص لا يحصل ذلك الغرض إلا بالبحث عنها).
الثاني: أنه لا منافاة بين ما ذكرناه: من عدم قيام الدليل على لزوم الموضوع
في العلوم وبين أن يكون لبعض العلوم موضوع، وذلك لأن ما ذكرناه إنما هو من
جهة عدم قيام البرهان على لزوم الموضوع في كل علم بحيث لا يكون العلم
علما بدونه، ولذا يبحث في أكثر العلوم عن محمولات مسائلها المترتبة على
موضوعاتها، وذلك لا ينافي وجود الموضوع لبعض العلوم، كما إذا فرض تعلق
غرض المدون بمعرفة موضوع ما، فيدون علما يبحث فيه عن عوارض موضوعه.
الثالث: أن تمايز العلوم بعضها عن بعض كما لا ينحصر بالموضوع كذا لا
ينحصر بالغرض، بل كما يمكن أن يكون بهما يمكن أن يكون بالمحمول، وببيان
32

الفهرس والأبواب إجمالا، بل بالذات تارة على حسب اختلاف العلوم
والمقامات. هذا كله في موضوع العلم بصورة عامة.
وأما الكلام في موضوع هذا العلم، فقد سبق أنه أقمنا البرهان على أنه
لا موضوع له واقعا، وأن حقيقته: عبارة عن عدة من القضايا والقواعد المتباينة
بحسب الموضوع والمحمول التي جمعها في مرحلة التدوين، اشتراكها في الدخل
في غرض واحد.
ولو تنزلنا عن ذلك وفرضنا أن له موضوعا فما هو الموضوع له؟ قيل: إن
موضوعه الأدلة الأربعة بوصف دليليتها، وهذا القول هو مختار المحقق القمي (قدس سره)
كما هو ظاهر كلامه في أول كتابه (1)، وقد صرح بذلك في هامشه (2) عليه.
ويرد عليه: أن لازم ذلك خروج المسائل الأصولية عن علم الأصول،
وكونها من مبادئه: كمباحث الحجج والأمارات، ومباحث الاستلزامات العقلية،
والأصول العملية: الشرعية والعقلية، ومبحث حجية العقل، وظواهر الكتاب، بل
مبحث التعادل والترجيح ما عدا مباحث الألفاظ، فإن كبرى هذه المسألة - وهي:
مسألة حجية الظواهر - مسلمة عند الكل، ولم يخالف فيها أحد، ولم يقع البحث
عنها في أي علم من العلوم، فلا كلام فيها.
وإنما الكلام في صغريات هذه الكبرى، أعني: ظهور الألفاظ في شئ وعدم
ظهورها فيه: كالبحث عن أن الأمر أو النهي هل هو ظاهر في الوجوب أو التحريم
أم لا؟ وغير ذلك. وعليه، فيكون البحث عنها عن عوارض الدليل بما هو دليل،
فإنه لا شبهة في دليلية الكتاب والسنة في أنفسهما، وإنما الكلام هناك في تعيين
مدلولهما، وذلك من عوارضهما.
أما خروج مباحث الحجج والأمارات فواضح، لأن البحث فيها بأسرها عن

(1) قوانين الأصول ج 1 ص 9، س 22.
(2) المصدر السابق: ص 8.
33

الدليلية، وهو بحث عن ثبوت الموضوع لا عن عوارضه الذاتية، فتدخل - إذا - في
مقدماته ومبادئه لا في مسائله، حتى مبحث التعادل والترجيح على ما هو
الصحيح من أن البحث فيه - في الحقيقة - عن حجية أحد الخبرين المتعارضين في
هذا الحال.
وأما خروج مباحث الاستلزامات العقلية فلأجل أن البحث فيها ليس عن
عوارض أحد الأدلة الأربعة، لا بما هي أدلة، ولا بما هي هي، بل عن أحوال
الأحكام بما هي أحكام، مع قطع النظر عن كونها مستفادة منها ومداليل أدلة.
ويظهر بذلك وجه خروج الأصول العملية: الشرعية والعقلية.
ولأجل ذلك عدل صاحب الفصول (قدس سره) عن هذا المسلك، واختار: أن
الموضوع " ذوات الأدلة الأربعة بما هي هي (1) "، وعليه فالبحث عن دليليتها بحث
عن عوارض الموضوع لا عن ثبوته.
ويرد عليه أيضا: لزوم خروج كثير من مسائل هذا العلم عن كونها أصولية:
كمباحث الحجج والأمارات - ما عدا مبحث حجية العقل وظواهر الكتاب -
ومباحث الاستلزامات العقلية، والأصول العملية: الشرعية والعقلية.
والوجه في ذلك: هو أن البحث في كل علم لا بد أن يكون عن العوارض
الذاتية لموضوعه، وإذا لم يكن كذلك فهو ليس من مباحث العلم ومسائله في
شئ. وعليه فكل مسألة يكون البحث فيها عن العوارض الذاتية لأحد الأدلة
الأربعة فهي من مسائل علم الأصول، وإلا فلا.
موضوع علم الأصول
وعلى ذلك يترتب خروج مباحث الاستلزامات العقلية، فإن البحث فيها
ليس عن أحوال أحد الأدلة مطلقا، بل عن الاستحالة والإمكان، وخروج مسألة
حجية خبر الواحد، إذ البحث فيها ليس عن عوارض السنة التي هي موضوع علم
الأصول، بل عن عوارض الخبر، وخروج مسألة حجية الإجماع المنقول والشهرة

(1) الفصول: ص 12، س 10.
34

الفتوائية، ومبحث التعادل والترجيح، والأصول العملية: الشرعية والعقلية، فإن
البحث في جميع هذه المسائل ليس عن العوارض الذاتية لأحد الأدلة الأربعة كما
هو ظاهر.
فتحصل: أنه لا فرق بين هذا القول والقول الأول إلا في مسألة حجية ظواهر
الكتاب وحجية العقل، فإنهما ليستا من المسائل الأصولية على القول الأول،
وتكونان منها على هذا القول.
ومن هنا التجأ شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) إلى إرجاع البحث عن مسألة
حجية خبر الواحد إلى البحث عن أحوال السنة، وأن مرجعه إلى أن السنة - أعني:
قول المعصوم أو فعله أو تقريره - هل تثبت بخبر الواحد أو لا؟ وبذلك تدخل في
مسائل أصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلة (1).
ويرد عليه: أنه غير مفيد، وذلك لأنه لو أريد من الثبوت: الثبوت التكويني
الواقعي - أعني: كون خبر الواحد واسطة وعلة لثبوت السنة واقعا - فهذا غير
معقول، بداهة أن خبر الواحد ليس واقعا في سلسلة علل وجودها، وكيف يمكن
أن يكون كذلك وهو حاك عنها، والحكاية عن شئ متفرعة عليه، وفي مرتبة
متأخرة عنه؟ على أن البحث في هذه المسألة - حينئذ - يكون عن مفاد (كان
التامة)، أي: عن ثبوت الموضوع، لا عن عوارضه (2).
ولو أريد منه الثبوت التكويني الذهني - أعني: كون خبر الواحد واسطة

(1) فرائد الأصول: ج 1 ص 108.
(2) وفي تعليقته الشريفة في المقام على الأجود ماله مزيد فائدة وإليك لفظه:
وأما البحث عن ثبوت السنة بالخبر بنحو مفاد كان التامة فهو وان لم يكن صحيحا في نفسه
- ضرورة عدم علية الخبر للسنة خارجا - إلا أنه على تقدير صحته لا يكون داخلا في
المبادئ، بل يكون البحث بحثا عن العوارض، فإن المبحوث عنه حينئذ ليس هو نفس
الوجود والثبوت بل الثبوت بالخبر الذي هو عبارة أخرى عن معلولية السنة للخبر، ولا ريب
أن البحث عن المعلولية بحث عن العوارض. (منه (قدس سره) هامش أجود التقريرات ج 1 ص 10).
35

لإثبات السنة واقعا ووجدانا - فهو أيضا غير معقول، ضرورة أن خبر الواحد لا
يفيد العلم الوجداني بالسنة، ولا يعقل انكشاف السنة به واقعا كما تنكشف
بالمتواتر والقرينة القطعية، ومع فرض الانكشاف حقيقة لا تبقى للبحث عن حجية
خبر الواحد موضوعية أصلا، فإن العبرة - حينئذ - بالعلم الوجداني الحاصل
بالسنة، فيجب الجري على وفقه دون الخبر بما هو.
والحاصل: أن لازم خبر الواحد بما هو أن يحتمل الصدق والكذب، فكما لا
يعقل أن يكون واسطة في ثبوت السنة واقعا فكذلك لا يعقل أن يكون واسطة
لإثباتها كذلك.
وإن أريد منه الثبوت التعبدي - كما هو الظاهر - فالأمر وإن كان كذلك، أي:
أن السنة الواقعية تثبت تعبدا بخبر الواحد إلا أنه من عوارض الخبر دون السنة،
وذلك لأن الثبوت التعبدي - بناء على ما سلكناه - عبارة عن إعطاء الشارع صفة
الطريقية والكاشفية لشئ وجعله علما للمكلف شرعا بعد ما لم يكن كذلك. وهذا
وإن استلزم إثبات السنة وانكشافها شرعا - وهو من عوارضها ولواحقها - إلا أنه
ليس هو المبحوث عنه في هذه المسألة، وإنما المبحوث عنه فيها طريقية خبر
الواحد وجعله علما تعبدا، ومن الواضح أنها من عوارض الخبر دون السنة.
والثبوت التعبدي بناء على ما سلكه المشهور: عبارة عن إن شاء الحكم
الظاهري على طبق الخبر، وهو أيضا من عوارضه دونها كما هو ظاهر.
ومنه يظهر الحال على ما سلكه المحقق صاحب الكفاية من أنه: عبارة عن
جعل المنجزية والمعذرية (1)، فإنهما أيضا من عوارضه وصفاته، لا من عوارضها،
وهو واضح.
حول معنى الوضع
فتحصل: أن البحث في هذه المسألة على جميع المسالك بحث عن عوارض
الخبر، لا عن عوارض السنة الواقعية. على أن ما أفاده (قدس سره) لو تم فإنما يتم في

(1) كفاية الأصول: ص 319 مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية.
36

خصوص هذه المسألة دون غيرها، وقد عرفت أن الإشكال المزبور غير منحصر
فيها.
ولذلك عدل صاحب الكفاية (قدس سره) عن مسلك المشهور، وذهب إلى أن موضوع
العلم: عبارة عن " جامع مقولي واحد بين موضوعات مسائله " (1). ولكن قد مر
الكلام في هذا مفصلا، وذكرنا هناك: أنه لم يقم برهان على لزوم موضوع كذلك
في العلوم، فضلا عن علم الأصول، بل سبق منا أنه لا يعقل وجود جامع ذاتي بين
موضوعات مسائله، لتباينها تباينا ذاتيا.
ثم إن أبيت إلا أن يكون لكل علم موضوع ولو كان واحدا بالعنوان - كعنوان
" الكلمة والكلام " في علم النحو، وعنواني: " المعلوم التصديقي والتصوري " في
علم المنطق، وعنوان " فعل المكلف " في علم الفقه، وهكذا - فأقول: إن موضوع
علم الأصول: " هو الجامع الذي ينتزع من مجموع مسائله المتباينة ": كعنوان ما
تقع نتيجة البحث عنه في طريق الاستنباط، وتعيين الوظيفة في مقام العمل.
الأمر الرابع
في الوضع
ويقع الكلام فيه من جهات:
الجهة الأولى: في أن منشأ دلالة الألفاظ على المعاني هل هي المناسبة الذاتية
بينهما لتصبح الدلالة ذاتية، أو الجعل والمواضعة لتصبح جعلية محضة؟
الجهة الثانية: في أن الواضع هل هو الله تبارك وتعالى أو البشر؟
الجهة الثالثة: في أن الوضع من الأمور الواقعية أو من الأمور الاعتبارية؟
الجهة الرابعة: في أقسام الوضع إمكانا مرة، ووقوعا مرة أخرى.
أما الجهة الأولى: فربما يقال فيها: إن دلالة الألفاظ على معانيها ناشئة عن

(1) كفاية الأصول: ص 22.
37

مناسبة ذاتية بينهما (1).
وفيه: أنه لو أريد بذاتية الدلالة: أن الارتباط الذاتي والمناسبة الذاتية بينهما
بحد يوجب أن يكون سماع اللفظ علة تامة لانتقال الذهن إلى معناه - فبطلانه
من الوضوح بمكان لا يقبل النزاع - فإن لازم ذلك تمكن كل شخص من الإحاطة
بتمام اللغات، فضلا عن لغة واحدة.
ولو أريد أن الارتباط المزبور والمناسبة المزبورة بينهما بحد يوجب أن يكون
سماع اللفظ مقتضيا لانتقال الذهن إلى معناه - أي: أن المناسبة اقتضائية لا علة
تامة - ففيه: أن ذلك وإن كان بمكان من الإمكان ثبوتا وقابلا للنزاع - إذ لا مانع
عقلا من ثبوت هذا النحو من المناسبة بين الألفاظ ومعانيها، نظير الملازمة الثابتة
بين أمرين، فإنها ثابتة في الواقع والأزل، بلا توقف على اعتبار أي معتبر أو فرض
أي فارض، وبلا فرق بين أن يكون طرفاها ممكنين، أو مستحيلين، أو مختلفين،
إذ صدقها لا يتوقف على صدق طرفيها فهي صادقة مع استحالتهما كما في قوله
تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (2). نعم، إن سنخ ثبوتها غير سنخ ثبوت
المقولات: كالجواهر والأعراض، ولذا ليست داخلة تحت شئ منها - إلا أنه لا
دليل على ثبوتها كذلك في مرحلة الإثبات، فلا يمكن الالتزام بها.
وأما ما قيل: من أنه لولا هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني لكان تخصيص
الواضع لكل معنى لفظا مخصوصا بلا مرجح، وهو محال: كالترجح بلا مرجح،
أي: وجود حادث من دون سبب وعلة (3) فيرد عليه:
أولا: أن المحال هو الثاني دون الأول، بل لا قبح فيه، فضلا عن الاستحالة
إذا كان هناك مرجح لاختيار طبيعي الفعل، مع فقد الترجيح بين أفراده ومصاديقه
على ما يأتي بيانه في " الطلب والإرادة " إن شاء الله تعالى.

(1) نسبه في القوانين: ج 1 ص 194 إلى عباد بن سليمان الصيمري وأصحاب التكسير.
(2) سورة الأنبياء الآية 22.
(3) فوائد الأصول: ج 1 ص 30.
38

وحيث إن المرجح لاختيار طبيعي الوضع والتخصيص موجود فهو كاف في
تخصيص الواضع وجعله لكل معنى لفظا مخصوصا وإن فقد الترجيح بين كل فرد
من أفراده.
على أنه لا يعقل تحقق المناسبة المذكورة بين جميع الألفاظ والمعاني،
لاستلزام ذلك تحققها بين لفظ واحد ومعاني متضادة أو متناقصة، كما إذا كان
للفظ واحد معان كذلك: كلفظ " جون " الموضوع للأسود والأبيض، ولفظ " القرء "
للحيض والطهر، وغيرهما وهو غير معقول، فإن تحققها بين لفظ واحد ومعان
كذلك يستلزم تحققها بين نفس هذه المعاني كما لا يخفى.
وثانيا: سلمنا امتناع الترجيح بلا مرجح، إلا أن المرجح غير منحصر
بالمناسبة المزبورة كي يلزم الالتزام بها، بل يكفي فيه وجود مرجح ما وإن كان
أمرا اتفاقيا، ضرورة أن العبرة إنما هي بما لا يلزم معه الترجيح بلا مرجح، سواء
كان ذاتيا أو اتفاقيا.
على أن المرجح لا بد وأن يقوم بالفعل الصادر من الفاعل، فيجوز أن يكون
الرجحان في نفس الوضع وإن لم يكن هناك مناسبة بين اللفظ والمعنى.
وأما الكلام في الجهة الثانية: فقد اختار المحقق النائيني (قدس سره) أن الله تبارك
وتعالى هو الواضع الحكيم، وقال في وجهه: فإنا نقطع بحسب التواريخ التي بين
أيدينا أنه ليس هنا شخص أو جماعة وضعوا الألفاظ المتكثرة في لغة واحدة
لمعانيها التي تدل عليها فضلا عن سائر اللغات. كما أنا نرى - وجدانا - عدم الدلالة
الذاتية، بحيث يفهم كل شخص من كل لفظ معناه المختص به، بل الله تبارك وتعالى
هو الواضع الحكيم، جعل لكل معنى لفظا مخصوصا باعتبار مناسبة بينهما
مجهولة عندنا، وجعله تبارك وتعالى هذا واسطة بين جعل الأحكام الشرعية
المحتاج إيصالها إلى إرسال رسل وإنزال كتب، وجعل الأمور التكوينية التي جبل
الإنسان على إدراكها: كحدوث العطش عند احتياج المعدة إلى الماء ونحو ذلك.
39

فالوضع جعل متوسط بينهما، لا تكويني محض حتى لا يحتاج إلى أمر آخر،
ولا تشريعي صرف حتى يحتاج إلى تبليغ نبي أو وصي، بل يلهم الله تبارك وتعالى
عباده - على اختلافهم - كل طائفة بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص.
ومما يؤكد المطلب: أنا لو فرضنا جماعة أرادوا إحداث ألفاظ جديدة بقدر
ألفاظ أي لغة لما قدروا عليه، فما ظنك بشخص واحد مضافا إلى كثرة المعاني
التي يتعذر تصورها من شخص أو أشخاص متعددة؟!
أقول: يتلخص نتيجة ما أفاده (قدس سره) في أمور:
الأول: أن الواضع هو الله تبارك وتعالى، ولكن لا بطريق إرسال الرسل وإنزال
الكتب كما هو الحال في إيصال الأحكام الشرعية إلى العباد، ولا بطريق جعل
الأمور التكوينية التي جبل الإنسان على إدراكها، بل بطريق الإلهام إلى كل عنصر
من عناصر البشر على حسب استعداده.
الثاني: التزامه (قدس سره) بوجود مناسبة مجهولة بين الألفاظ والمعاني.
الثالث: أن وضعه تبارك وتعالى إنما كان على طبق هذه المناسبة.
الرابع: أن الوضع جعل متوسط بين الجعل التكويني والجعل التشريعي.
الخامس: أنه (قدس سره) بعد نفي الدلالة الذاتية استند في دعوى: أن الله تبارك
وتعالى هو الواضع الحكيم دون غيره إلى أمرين:
الأول: أنه لا يمكن أن يكون الواضع هو البشر، لعدم إمكان إحاطته بتمام
ألفاظ لغة واحدة فضلا عن جميع اللغات، فإذا امتنع أن يكون البشر واضعا تعين
أن الله تعالى هو الواضع الحكيم.
الثاني: أنه على فرض تسليم أن البشر قادر على وضع الألفاظ لمعانيها
- بمعنى: أن شخصا أو جماعة معينين من أهل كل لغة يتمكن من وضع ألفاظها
لمعانيها - إلا أنه لما كان من أكبر الخدمات للبشر فلا بد من تصدي التواريخ
لضبطه، التي هي معدة لضبط الأخبار السالفة والوقائع المهمة، خصوصا مثل هذا
40

الأمر المهم، مع أنه لم يكن فيها عن حدوث الوضع في أي عصر وزمان وعن من
تصدى له عين ولا أثر. فإذا فرض أن البشر كان هو الواضع لنقل ذلك في التواريخ
فإنها تتكفل بنقل ما هو دونه، فكيف بمثله؟!
ولكن للتأمل في جميع هذه الأمور مجالا واسعا:
أما الأول: فيظهر ضعفه مما نذكره من ضعف ما اعتمد عليه من الوجهين
المذكورين.
وأما الثاني فيرده: أنه تخرص على الغيب، لما قد سبق من أنه لا دليل على
وجود هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني، بل الدليل قائم على عدمها في الجميع.
وأما الثالث فيرد عليه: أنا لو سلمنا وجود المناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى
فلا نسلم أن الواضع جعل لكل معنى لفظا مخصوصا على طبق تلك المناسبة، وذلك
لأن الغرض من الوضع يحصل بدون ذلك، ومعه فأي شئ يستدعي رعاية تلك
المناسبة في الوضع؟ اللهم إلا أن يتمسك بذيل قاعدة استحالة الترجيح من دون
مرجح، ولكن قد عرفت بطلانها.
وأما الرابع، وهو: أن الوضع وسط بين الأمور التكوينية والجعلية فهو مما لا
يرجع إلى معنى محصل، وذلك لعدم واسطة بينهما، ضرورة أن الشئ إذا كان من
الموجودات الحقيقية التي لا تتوقف في وجودها على اعتبار أي معتبر فهو من
الموجودات التكوينية، وإلا فمن الأمور الاعتبارية الجعلية، ولا نعقل ما يكون
وسطا بين الأمرين. وأما حديث الإلهام: فهو حديث صحيح، ولا اختصاص له
بالوضع.
وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: * (اهدنا الصراط المستقيم) *: أن الله تبارك
وتعالى كما من على عباده بهدايتهم تشريعا، وسوقهم إلى الحياة الأبدية بإرسال
الرسل وإنزال الكتب كذلك من عليهم بهدايتهم تكوينا بإلهامهم إلى سيرهم نحو
كمالهم، بل إن هذه الهداية موجودة في جميع الموجودات، فهي تسير نحو كمالهم
41

بطبعها أو باختيارها، والله هو الذي أودع فيها قوة الاستكمال، فترى الفأرة تفر من
الهرة ولا تفر من الشاة (1).
وعلى الجملة: أن مسألة الإلهام أجنبية عن تحقق معنى الوضع بالكلية، فإن
الإلهام من الأمور التكوينية الواقعية، ولا اختصاص له بباب الوضع، والمبحوث
عنه هو معنى الوضع، كان الوضع بإلهام إلهي أم لم يكن.
وأما الأمر الخامس: وهو استناده فيما ذكره من: أن الله تبارك وتعالى هو
الواضع الحكيم، لو تم فإنما يتم لو كان وضع الألفاظ لمعانيها دفعيا وفي زمان
واحد، إلا أن الأمر ليس كذلك، فإن سعة دائرة الوضع وضيقها تتبع سعة دائرة
الغرض وضيقها. ومن الواضح أن الغرض منه ليس إلا أن يتفاهم بها وقت الحاجة،
وتبرز بها المعاني التي تختلج في النفوس لئلا يختل نظام حياتنا المادية والمعنوية.
ومن الظاهر: أن كمية الغرض الداعي إليه تختلف سعة وضيقا بمرور الأيام
والعصور. ففي العصر الأول - وهو عصر آدم (عليه السلام) - كانت الحاجة إلى وضع ألفاظ
قليلة بإزاء معان كذلك، لقلة الحوائج في ذلك العصر وعدم اقتضائها أزيد من ذلك،
ثم ازدادت الحوائج مرة بعد أخرى وقرنا بعد آخر، بل وقتا بعد وقت، فزيد في
الوضع كذلك.
وعليه فيتمكن جماعة بل واحد من أهل كل لغة على وضع ألفاظها بإزاء
معانيها في أي عصر وزمن، فإن سعة الوضع وضيقه تابعان لمقدار حاجة الناس
إلى التعبير عن مقاصدهم سعة وضيقا. ولما كان مرور الزمن موجبا لاتساع
حاجاتهم وازديادها كان من الطبيعي أن يزداد الوضع ويتسع.
أما الذين يقومون بعملية الوضع فهم أهل تلك اللغة في كل عصر، من دون
فرق بين أن يكون الواضع واحدا منهم أو جماعة، وذلك أمر ممكن لهم، فإن
المعاني الحادثة التي يبتلى بها في ذلك العصر إلى التعبير عنها ليست بالمقدار الذي

(1) انظر تفسير البيان: ص 527.
42

يعجز عنه جماعة من أهل ذلك العصر أو يعجز عنه واحد منهم، فإنها محدودة
بحد خاص.
وقد تلخص من ذلك أمران:
الأول: أن أهل اللغة ليسوا بحاجة إلى وضع ألفاظها للمعاني التي تدور عليها
الإفادة والاستفادة في جميع العصور ليقال: إن البشر لا يقدر على ذلك، بل يمكن
الوضع بشكل تدريجي في كل عصر حسب تدريجية الحاجة إلى التعبير عنها.
الثاني: أننا لسنا بحاجة إلى وضع جميع الألفاظ لجميع المعاني، فإن الوضع
لما يزيد عن مقدار الحاجة لغو محض.
وأما الثاني وهو: (أن الواضع لو كان بشرا لنقل ذلك في التواريخ، لأن مثل
هذا العمل يعتبر من أعظم الخدمات للبشر، ولذلك تتوفر الدواعي على نقله) فيرد
عليه: أن ذلك إنما يتم لو كان الواضع شخصا واحدا أو جماعة معينين. وأما إذا
التزمنا بما قدمناه من: أن الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة معينين، بل
كل مستعمل من أهل تلك اللغة واضع بشكل تدريجي فلا يبقى مجال للنقل
في التواريخ.
نعم، لو كان الواضع شخصا واحدا أو جماعة معينين لنقله أصحاب التواريخ
لا محالة.
ومما يؤكد ما ذكرناه: ما نراه من طريقة الأطفال عندما يحتاجون إلى التعبير
عن بعض المعاني فيما بينهم، فإنهم يضعون الألفاظ لهذه المعاني، ويتعاهدون
ذكرها عند إرادة إبراز ما يختلج في أذهانهم من الأغراض والمقاصد، ولا نجدهم
يتخلفون عن هذه الحال، حتى أنهم لو عاشوا في مناطق خالية من السكان لتكلموا
بلغة مجعولة لهم لا محالة، ولا نعني بالوضع إلا هذا التعهد وهذا الالتزام، واليه أشار
تعالى بقوله: * (خلق الإنسان علمه البيان) * (1)، وذلك وإن كان ينتهي إليه تعالى،

(1) الرحمن: 4.
43

لأنه من لطفه وعنايته إلا أنه أمر آخر، غير أنه هو الواضع الحكيم.
وهذا الذي ذكرناه من دفع الإشكالين المتقدمين لا يفرق فيه بين مسلكنا
ومسلك القوم في تفسير العلقة الوضعية، فإن تدريجية الوضع وعدم اختصاصه
بشخص خاص لا تدع مجالا للإشكال المزبور، غاية الأمر: أنه بناء على مسلكنا
كان كل مستعمل واضعا وإن كانت كلمة الواضع عند إطلاقها تنصرف إلى الواضع
الأول إلا أنه من جهة الأسبقية، وهذا بخلاف غيره من المسالك كما لا يخفى.
فالمتحصل مما ذكرناه أمران:
الأول: أن الله تبارك وتعالى ليس هو الواضع الحكيم.
الثاني: أن الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة معينين على جميع
المسالك في تفسير حقيقة الوضع.
في حقيقة الوضع
في حقيقة الوضع
وأما الكلام في الجهة الثانية (1) - وهي: تعيين حقيقة الوضع -. فذهب بعض
الأعاظم (2) (قدس سرهم) إلى أنها من الأمور الواقعية، لا بمعنى أنها من إحدى المقولات،
ضرورة وضوح عدم كونها من مقولة الجوهر، لانحصارها في خمسة أقسام:
" العقل " " النفس " " الصورة " " المادة " " الجسم "، وهي ليست من إحداها.
وكذا عدم كونها من المقولات التسع العرضية أيضا، لأنها متقومة بالغير في
الخارج، لاستحالة تحققها في العين بدون موضوع توجد فيه، فإن وجودها في
نفسها عين وجودها لغيرها.
وهذا بخلاف حقيقة العلقة الوضعية، فإنها قائمة بطبيعي اللفظ والمعنى

(1) كذا، والظاهر أنها هي الجهة الثالثة.
(2) المراد به ظاهرا هو المحقق العراقي، انظر نهاية الأفكار: ج 1 ص 25 - 26.
44

ومتقومة بهما، فلا يتوقف ثبوتها وتحققها على وجودهما في الخارج، وهذا واضح،
ولذا يصح وضع اللفظ لمعنى معدوم بل مستحيل، كما لو فرضنا وضع لفظ الدور أو
التسلسل لخصوص حصة مستحيلة منه، لا للمعنى الجامع بينها وبين غيرها. فلو
كانت حقيقتها من إحدى هذه المقولات لاستحال تحققها بدون وجود اللفظ
والمعنى الموضوع له، بل بمعنى: أنها عبارة عن ملازمة خاصة وربط مخصوص
بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له، نظير سائر الملازمات الثابتة في الواقع بين
أمرين من الأمور التكوينية، مثل قولنا: إن كان هذا العدد زوجا فهو منقسم إلى
متساويين، وإن كان فردا فهو غير منقسم كذلك فالملازمة بين زوجية العدد
وانقسامه إلى متساويين وبين فرديته وعدم انقسامه كذلك ثابتة في نفس الأمر
والواقع أزلا.
غاية الأمر: أن تلك الملازمة ذاتية أزلية، وهذه الملازمة جعلية اعتبارية، لا
بمعنى: أن الجعل والاعتبار مقوم لذاتها وحقيقتها، بل بمعنى: أنه علة وسبب
لحدوثها، وبعده تصير من الأمور الواقعية، وكونها جعلية بهذا المعنى لا ينافي
تحققها وتقررها في لوح الواقع ونفس الأمر، وكم له من نظير!
وقد حققنا في محله: أن هذه الملازمات ليست من سنخ المقولات في شئ
كالجواهر والأعراض، فإنها وإن كانت ثابتة في الواقع في مقابل اعتبار أي معتبر
وفرض أي فارض كقوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (1)، فإن
الملازمة بين تعدد الآلهة وفساد العالم ثابتة واقعا وحقيقة، إلا أنها غير داخلة
تحت شئ منها، فإن سنخ ثبوتها في الخارج غير سنخ ثبوت المقولات فيه، كما
هو واضح.
والجواب عن ذلك: أنه (قدس سره) إن أراد بوجود الملازمة بين طبيعي اللفظ
والمعنى الموضوع له وجودها مطلقا حتى للجاهل بالوضع فبطلانه من

(1) الأنبياء: 22.
45

الواضحات التي لا تخفى على أحد، فإن هذا يستلزم أن يكون سماع اللفظ
وتصوره علة تامة لانتقال الذهن إلى معناه، ولازمه استحالة الجهل باللغات، مع
أن إمكانه ووقوعه من أوضح البديهيات.
وإن أراد (قدس سره) به ثبوتها للعالم بالوضع فقط دون غيره فيرد عليه: أن الأمر وإن
كان كذلك - يعني: أن هذه الملازمة ثابتة له دون غيره - إلا أنها ليست بحقيقة
الوضع، بل هي متفرعة عليها، ومتأخرة عنها رتبة، ومحل كلامنا هنا في تعيين
حقيقته التي تترتب عليها الملازمة بين تصور اللفظ والانتقال إلى معناه.
وذهب كثير من الأعلام والمحققين (قدس سرهم) إلى أن حقيقة الوضع حقيقة
اعتبارية، ولكنهم اختلفوا في كيفيتها على أقوال:
القول الأول: ما قيل (1): من أن حقيقة الوضع: عبارة عن اعتبار ملازمة بين
طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له، وحقيقة هذه الملازمة متقومة باعتبار من بيده
الاعتبار - أي: الواضع - كسائر الأمور الاعتبارية من الشرعية أو العرفية.
ثم إن الموجب لهذا الاعتبار والداعي إليه إنما هو قصد التفهيم في مقام
الحاجة، لعدم إمكانه بدونه.
ولكن لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لأنه لو أريد به اعتبارها خارجا -
بمعنى: أن الواضع جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى في الخارج - فيرده: أنه لا
يفيد بوجه ما لم تكن الملازمة بينهما في الذهن، ضرورة أن بدونه لا يحصل
الانتقال إلى المعنى من تصور اللفظ وسماعه. وعلى تقدير وجودها وثبوتها
فالملازمة الخارجية غير محتاج إليها، فإن الغرض - وهو: الانتقال - يحصل
بتحقق هذه الملازمة الذهنية، سواء أكانت هناك ملازمة خارجية أم لم تكن، فلا
حاجة إلى اعتبار المعنى موجودا في الخارج عند وجود اللفظ فيه، بل هو من
اللغو الظاهر.

(1) القائل المحقق العراقي تقريرا عنه في نهاية الأفكار: ج 1 ص 25 - 26.
46

وإن أريد به اعتبار الملازمة ذهنا - يعني: أن الواضع اعتبر الملازمة بين اللفظ
والمعنى في الذهن - ففيه: أنه لا يخلو: إما أن يكون مطلقا حتى للجاهل بالوضع،
أو يختص بالعالم به.
لا يمكن المصير إلى الأول، فإنه لغو محض لا يصدر من الواضع الحكيم، لأنه
لا أثر له بالقياس إلى الجاهل به. ولا معنى لأن يعتبر الانتقال إلى المعنى من سماع
اللفظ له، فإنه إن علم بالوضع فالانتقال من اللفظ إلى معناه ضروري له، وغير قابل
للجعل والاعتبار، وإن لم يعلم فالاعتبار يصبح لغوا.
ولا إلى الثاني، لأنه تحصيل حاصل، بل من أردأ أنحائه، فإنه لو كان عالما
بالوضع كان اعتبار الملازمة في حقه من قبيل: إثبات ما هو ثابت بالوجدان
بالاعتبار وبالتعبد.
وعلى الجملة: فالملازمة الذهنية أمر تكويني غير قابلة للجعل والاعتبار،
وليست معنى الوضع في شئ، بل هي مترتبة عليه، فلا بد - حينئذ - من تحقيق
معناه، وأنه ما هو الذي تترتب عليه تلك الملازمة؟
القول الثاني: إن حقيقة الوضع: عبارة عن اعتبار وجود اللفظ وجودا تنزيليا
للمعنى، فهو هو في عالم الاعتبار وإن لم يكن كذلك حقيقة (1).
بيان ذلك: أن الموجود على قسمين:
أحدهما: ما له وجود تكويني عيني في نظام التكوين والعين: كالمقولات
الواقعية من الجواهر والأعراض.
والثاني: ما له وجود اعتباري فهو موجود في عالم الاعتبار وإن لم يكن
موجودا في الخارج، وذلك كالأمور الاعتبارية الشرعية أو العرفية من الأحكام
التكليفية والوضعية.
وقد قيل: إن حقيقة العلقة الوضعية من قبيل القسم الثاني، بمعنى: أن الواضع

(1) قاله المحقق الطوسي (قدس سره) في شرح منطق الإشارات: ص 21 - 22.
47

جعل وجود اللفظ وجودا للمعنى في عالم الاعتبار، واعتبره وجودا تنزيليا له في
ذلك العالم دون عالم الخارج والعين: كالتنزيلات الشرعية أو العرفية، مثل
قوله (عليه السلام): " الطواف بالبيت صلاة " (1) وقوله (عليه السلام): " الفقاع خمر استصغره
الناس " (2) ونحوهما.
ومن ثمة يكون نظر المستعمل إلى اللفظ آليا في مرحلة الاستعمال، والى
المعنى استقلاليا، بحيث لا يرى في تلك المرحلة إلا المعنى ولا ينظر إلا إليه.
وإن شئت قلت: إن الوضع لأجل الاستعمال ومقدمة له، فهم المستعمل في هذه
المرحلة: إيجاد المعنى باللفظ وإلقائه إلى المخاطب، فلا نظر ولا التفات له إلا إليه.
ويرد عليه:
أولا: أن تفسيرها بهذا المعنى تفسير بمعنى دقيق بعيد عن أذهان عامة
الواضعين غاية البعد، ولا سيما القاصرين منهم: كالأطفال والمجانين الذين قد
يصدر الوضع منهم عند الحاجة، بل قد يصدر الوضع من بعض الحيوانات أيضا.
وكيف كان، فحقيقة الوضع حقيقة عرفية سهلة التناول والمأخذ، فلا تكون
بهذه الدقة التي تغفل عنها أذهان الخاصة، فضلا عن العامة.
وثانيا: أن الغرض الداعي إلى الوضع: هو استعمال اللفظ في المعنى الموضوع
له، لكي يدل عليه ويفهم منه معناه. فالوضع مقدمة للاستعمال والدلالة.
ومن الواضح أن الدلالة اللفظية إنما تكون بين شيئين: أحدهما دال، والآخر
مدلول، فاعتبار الوحدة بينهما بأن يكون وجود اللفظ وجودا للمعنى أيضا لغو وعبث.
وأما ما ذكره أخيرا ففيه: أن لحاظ اللفظ آلة في مقام الاستعمال، لا يستلزم
أن يكون ملحوظا كذلك في مقام الوضع للفرق بين المقامين.
وبكلمة واضحة: أن حال واضع اللفظ كحال صانع المرآة، ومستعمله
كمستعملها، فكما أن صانع المرآة في مقام صنعها يلاحظها استقلالا من حيث

(1) مستدرك الوسائل: ج 9 ص 410 ب 38 من أبواب الطواف ح 2 (ط آل البيت).
(2) الوسائل: ج 17 ص 292 ب 28 من أبواب الأطعمة والأشربة ح 1.
48

الكم والكيف والوضع، وفي مرحلة استعمالها تلاحظ آليا فكذلك وضع الألفاظ
واستعمالاتها من هذه الناحية.
وعلى الجملة: أن لحاظ اللفظ آليا في مرحلة الاستعمال لا يلازم اعتبار
وجوده وجودا للمعنى حال الوضع بوجه.
القول الثالث: ما عن بعض مشايخنا المحققين (قدس سرهم) قال: وقد لا يكون المعنى
المعتبر تسبيبيا كالاختصاص الوضعي، فإنه لا حاجة في وجوده إلا إلى اعتبار من
الواضع، ومن الواضح أن اعتبار كل معتبر قائم به بالمباشرة، لا بالتسبيب كي
يتسبب إلى اعتبار نفسه بقوله: (وضعت) ونحوه، فتخصيص الواضع ليس إلا
اعتباره الارتباط والاختصاص بين لفظ خاص ومعنى خاص.
ثم إنه لا شبهة في اتحاد حيثية دلالة اللفظ على معناه، وكونه بحيث ينتقل من
سماعه إلى معناه مع حيثية سائر الدوال: كالعلم المنصوب على رأس الفرسخ فإنه
أيضا ينتقل من النظر إليه إلى أن هذا الموضع رأس الفرسخ.
غاية الأمر: أن الوضع فيه حقيقي، وفي اللفظ اعتباري، بمعنى: أن كون العلم
موضوعا على رأس الفرسخ خارجي ليس باعتبار معتبر، بخلاف اللفظ، فإنه كأنه
وضع على المعنى ليكون علامة عليه، فشأن الواضع اعتبار وضع لفظ خاص
على معنى خاص.
ومنه ظهر: أن الاختصاص والارتباط من لوازم الوضع لا عينه، وحيث
عرفت اتحاد حيثية دلالة اللفظ مع حيثية دلالة سائر الدوال تعرف أنه لا حاجة
إلى الالتزام بأن حقيقة الوضع تعهد ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى كما عن
بعض أجلة العصر (1) فإنك قد عرفت أن كيفية الدلالة والانتقال في اللفظ وسائر
الدوال على نهج واحد بلا إشكال. فهل ترى تعهدا من ناصب العلم على رأس
الفرسخ؟ بل ليس هناك إلا وضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه، فكذلك

(1) قال به المحقق الآخوند الملا علي النهاوندي في تشريح الأصول: ص 25.
49

فيما نحن فيه. غاية الأمر: أن الوضع هناك حقيقي وهنا اعتباري (1).
يتلخص ما أفاده (قدس سره) في أمور:
الأمر الأول: أن حقيقة الوضع ليست أمرا تسبيبيا، بل هو أمر مباشري قائم
بالمعتبر بالمباشرة.
الأمر الثاني: أن الارتباط والاختصاص ليسا من حقيقة الوضع في شئ، بل
هما من لوازمها.
الأمر الثالث: أن حقيقته ليست التعهد والالتزام النفساني، ولكن من دون أن
يشيده بالبرهان.
الأمر الرابع: أنها من سنخ وضع سائر الدوال، غاية الأمر: أن الوضع فيها
حقيقي خارجي، وفي المقام جعلي واعتباري، فهذا الأمر في الحقيقة نتيجة الأمور
الثلاثة المتقدمة ووليدتها.
أقول: أما الأمر الأول والثاني: فهما في غاية الصحة والمتانة على جميع
المسالك في تفسير حقيقة الوضع، من دون فرق بين مسلكنا ومسلك القوم.
وأما الأمر الثالث: فيدفعه ما سنبينه - إن شاء الله تعالى - عن قريب من: أن
الصحيح عند التحقيق هو أن حقيقة الوضع عبارة عن ذلك التعهد والالتزام
النفساني.
وأما الأمر الرابع - وهو: أن سنخ الوضع هنا سنخ الوضع الحقيقي الخارجي -
فيرد عليه:
أولا: عين الإيراد الذي أوردناه على القول الثاني - وهو: أن تفسير الوضع
بهذا المعنى على فرض صحته في نفسه - تفسير بمعنى دقيق خارج عن أذهان
عامة الواضعين، ولا سيما القاصرين منهم: كالأطفال والمجانين، مع أنا نرى
صدور الوضع منهم كثيرا، والحال أنهم لا يدركون هذا المعنى الدقيق، وأنه من
قبيل: وضع العلم على رأس الفرسخ. غاية الأمر: أن الوضع فيه حقيقي، وفي المقام

(1) إلى هنا انتهى ما أفاده المحقق الإصفهاني (قدس سره)، انظر نهاية الدراية ج 1 ص 20.
50

اعتباري. ومن الواضح أنه لا يكاد يمكن أن يكون الوضع أمرا يغفل عنه الخواص
فضلا عن العوام.
وثانيا: أن وضع اللفظ ليس من سنخ الوضع الحقيقي: كوضع العلم على رأس
الفرسخ.
والوجه في ذلك: هو أن وضع العلم يتقوم بثلاثة أركان:
الركن الأول: الموضوع، وهو العلم.
الركن الثاني: الموضوع عليه، وهو ذات المكان.
الركن الثالث: الموضوع له، وهو الدلالة على كون المكان رأس الفرسخ.
وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ فإنه يتقوم بركنين:
الأول: الموضوع، وهو اللفظ.
الثاني: الموضوع له، وهو دلالته على معناه، ولا يحتاج إلى شئ ثالث
ليكون ذلك الثالث هو الموضوع عليه، وإطلاقه على المعنى الموضوع له لو لم
يكن من الأغلاط الظاهرة فلا أقل من أنه لم يعهد في الإطلاقات المتعارفة
والاستعمالات الشائعة، مع أن لازم ما أفاده (قدس سره): هو أن يكون المعنى هو
الموضوع عليه.
ويتلخص نتيجة ما ذكرناه إلى الآن في خطوط ثلاثة:
الخط الأول: بطلان الدلالة الذاتية، وأنها وضعية محضة.
الخط الثاني: فساد كون حقيقة الوضع حقيقة واقعية.
الخط الثالث: بطلان تفسير الوضع بكل واحد من التفسيرات الثلاثة المتقدمة،
فالنتيجة على ضوئها: هي أن حقيقة الوضع ليست إلا عبارة عن التعهد والالتزام
النفساني. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: يرشد إلى ذلك: الغرض الباعث على الوضع، بل الرجوع
إلى الوجدان والتأمل فيه أقوى شاهد عليه.
وبيان ذلك: أن الإنسان بما أنه مدني بالطبع يحتاج في تنظيم حياته - المادية
51

والمعنوية - إلى آلات يبرز بها مقاصده وأغراضه، ويتفاهم بها وقت الحاجة، ولما
لم يمكن أن تكون تلك الآلة الإشارة أو نحوها لعدم وفائها بالمحسوسات فضلا
عن المعقولات فلا محالة تكون هي الألفاظ التي يستعملها في إبراز مراداته من
المحسوسات والمعقولات، وهي وافية بهما، ومن هنا خص - تبارك وتعالى -
الإنسان بنعمة البيان بقوله عز من قائل: * (خلق الإنسان علمه البيان) * (1).
ومن هنا - أي: من أن الغرض منه قصد التفهيم وإبراز المقاصد بها - ظهر: أن
حقيقة الوضع هي التعهد والتباني النفساني، فإن قصد التفهيم لازم ذاتي للوضع
بمعنى التعهد.
وإن شئت قلت: إن العلقة الوضعية - حينئذ - تختص بصورة إرادة تفهيم
المعنى لا مطلقا، وعليه يترتب اختصاص الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية، كما
سيأتي بيانه مفصلا من هذه الجهة إن شاء الله تعالى.
وعلى ذلك فنقول: قد تبين أن حقيقة الوضع: عبارة عن التعهد بإبراز المعنى
الذي تعلق قصد المتكلم بتفهيمه بلفظ مخصوص، فكل واحد من أهل أي لغة
متعهد في نفسه متى ما أراد تفهيم معنى خاص أن يجعل مبرزه لفظا مخصوصا -
مثلا - التزم كل واحد من أفراد الأمة العربية بأنه متى ما قصد تفهيم جسم سيال
بارد بالطبع أن يجعل مبرزه لفظ الماء، ومتى قصد تفهيم معنى آخر أن يجعل مبرزه
لفظا آخر، وهكذا...
فهذا التعهد والتباني النفساني بإبراز معنى خاص بلفظ مخصوص عند تعلق
القصد بتفهيمه ثابت في أذهان أهل كل لغة، بالإضافة إلى ألفاظها ومعانيها بنحو
القوة، ومتعلق هذا التعهد أمر اختياري، وهو التكلم بلفظ مخصوص عند قصد
تفهيم معنى خاص.
ثم إن ذلك ثابت بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له بنحو القضية
الحقيقية. نعم، في مرحلة الاستعمال يوجد المستعمل فردا منه في استعمال، وفردا

(1) الرحمن: 3 - 4.
52

آخر منه في استعمال آخر، وهكذا...
وبهذا يندفع إشكال الدور الذي قد يتوهم هنا، بتقريب: أن تعهد ذكر اللفظ عند
قصد تفهيم المعنى يتوقف على العلم بأنه وضع له. فلو فرض أن الوضع عبارة عن
ذلك التعهد لدار.
وتوضيح الاندفاع: أن ما يتوقف على العلم بالوضع إنما هو التعهد الشخصي
الفعلي الثابت في مرحلة الاستعمال، دون التعهد الكلي النفساني المتعلق بذكر
طبيعي اللفظ عند إرادة تفهيم طبيعي المعنى بنحو القضية الحقيقية. وقد عرفت: أن
حقيقة الوضع: عبارة عن ذلك التعهد، ومن الظاهر أنه لا يتوقف على شئ.
فظهر: أن منشأ التوهم: خلط المتوهم بين التعهد في مرحلة الاستعمال
والتعهد في مرحلة الوضع، والذي يتوقف على الثاني هو الأول دونه.
وبتعبير آخر: أن حال الألفاظ حال الإشارات الخارجية، فكما قد يقصد
بها إبراز المعنى الذي تعلق القصد بتفهيمه مثل: ما إذا قصد إخفاء أمر عن
الحاضرين في المجلس، أو قصد تصديق شخص، أو غير ذلك فيجعل مبرزه
الإشارة باليد أو بالعين أو بالرأس فكذلك الألفاظ، فإنه يبرز بها أيضا المعاني التي
يقصد تفهيمها، فلا فرق بينهما من هذه الناحية.
نعم، فرق بينهما من ناحية أخرى، وهي: أن الإشارة على نسق واحد في
جميع اللغات والألسنة دون الألفاظ.
وعلى ضوء هذا البيان تبين: أن كل مستعمل واضع حقيقة، فإن تعهد كل
شخص فعل اختياري له، فيستحيل أن يتعهد شخص آخر تعهده في ذمته، لعدم
كونه تحت اختياره وقدرته.
نعم، يمكن أن يكون شخص واحد وكيلا من قبل طائفة في وضع لغاتهم ابتداء
لمعانيها، فيضعها بإزائها - يعني: يجعلها مستعدة لإبرازها عند قصد تفهيمها -
ويتعهد بذلك، ثم إنهم تبعا له يتعهدون على طبق تعهداته. أو يضع لغاتهم بلا توكيل
53

من قبلهم، بل فضوليا، ولكنهم بعد ذلك يتبعونه في ذلك ويتبانون على وفق تبانيه
والتزاماته، ومع هذا فهم واضعون حقيقة.
ومن هنا لا فرق بين الطبقات السابقة واللاحقة، غاية الأمر: أن الطبقات
اللاحقة تتبعها في ذلك، بمعنى: أنهم يتعهدون على وفق تعهداتهم وتبانيهم، وقد
تتعهد الطبقات اللاحقة تعهدات أخرى ابتدائية بالنسبة إلى المعاني التي يحتاجون
إلى تفهيمها في أعصارهم، وقد سبق أن الوضع تدريجي الحصول، فيزيد تبعا
لزيادة الحاجة في كل قرن وزمن.
ومن ذلك تبين ملاك أن كل مستعمل واضع حقيقة. وأما إطلاق الواضع على
الجاعل الأول دون غيره فلأسبقيته في الوضع، لا لأجل أنه واضع في الحقيقة دون
غيره.
ولكن ربما يشكل بأن التعهد والالتزام حسب ما ارتكز في الأذهان أمر
متأخر عن الوضع ومعلول له، فإن العلم بالوضع يوجب تعهد العالم به بإبراز المعنى
عند قصد تفهيمه بمبرز مخصوص، لا أنه عينه. ومن هنا لا يصح إطلاق الواضع
على غير الجاعل الأول، فلو كان معنى الوضع ذلك التعهد والالتزام النفساني لصح
إطلاقه على كل مستعمل من دون عناية، مع أن الأمر ليس كذلك.
والجواب عنه أن يقال: إنه لو أريد بتأخر التعهد عن الوضع تعهد المتصدي
الأول للوضع فذاك غير صحيح، وذلك لأن تعهده غير مسبوق بشئ ما عدا تصور
اللفظ والمعنى، ومن الواضح أن ذلك التصور ليس هو الوضع، بل هو من مقدماته،
ولذا لا بد منه في مقام الوضع بأي معنى من المعاني فسر.
وعليه، فنقول: إن المتصدي الأول له بعد تصور معنى خاص ولفظ مخصوص
يتعهد في نفسه بأنه متى قصد تفهيمه أن يجعل مبرزه ذلك اللفظ، ثم يبرز ذلك
التعهد بقوله: " وضعت " أو نحوه في الخارج.
54

ومما يدلنا على ذلك بوضوح: وضع الأعلام الشخصية، فإن كل شخص إذا
راجع وجدانه ظهر له أنه إذا أراد أن يضع اسما لولده - مثلا - يتصور أولا ذات
ولده، وثانيا: لفظا يناسبه، ثم يتعهد في نفسه بأنه متى قصد تفهيمه يتكلم بذلك
اللفظ، وليس هاهنا شئ آخر ما عدا ذلك.
وإن أريد به تعهد غيره من المستعملين فالأمر وإن كان كذلك - يعني: أن
تعهدهم وإن كان مسبوقا بتعهده - إلا أنه لا يمنع عن كونهم واضعين حقيقة،
ضرورة أن تعهد كل أحد لما كان فعلا اختياريا له يستحيل أن يصدر من غيره.
غاية الأمر: التعهد من الواضع الأول تعهد ابتدائي غير مسبوق بشئ، ومن غيره
ثانوي، ولأجله ينصرف لفظ الواضع إلى الجاعل الأول.
وعلى هذه الالتزامات والتعهدات قد استقرت السيرة العقلائية في مقام
الاحتجاج واللجاج، فيحتج العقلاء بعضهم على بعض بمخالفته التزامه ويؤاخذونه
عليها، وكذلك الموالي والعبيد، فلو أن أحدا يخالف التزامه ولم يعمل على طبق
ظهور كلام مولاه يحتج المولى عليه بمخالفته التزامه، ويعاقب عليها، ولا عذر له
في ذلك. ولو عمل على طبق ظهوره فله حجة يحتج بها على مولاه، وهكذا...
وعلى الجملة: أن أنظمة الكون كلها من المادية والمعنوية تدور مدار الجري
على وفق هذه الالتزامات، ولولاه لاختلت.
فبالنتيجة: أن مذهبنا هذا ينحل إلى نقطتين:
النقطة الأولى: أن كل متكلم واضع حقيقة، وتلك نتيجة ضرورية لمسلكنا: أن
حقيقة الوضع: (التعهد والالتزام النفساني).
النقطة الثانية: أن العلقة الوضعية مختصة بصورة خاصة، وهي: ما إذا قصد
المتكلم تفهيم المعنى باللفظ، وهي أيضا نتيجة حتمية للقول بالتعهد، بل وفي
الحقيقة هذه هي النقطة الرئيسية لمسلكنا هذا، فإن عليها تترتب نتائج ستأتي فيما
بعد إن شاء الله تعالى.
55

وأما ما ربما يتوهم هنا من: أن العلقة الوضعية لو لم تكن بين الألفاظ والمعاني
على وجه الإطلاق فلا يتبادر شئ من المعاني منها فيما إذا صدرت عن شخص
بلا قصد التفهيم، أو عن شخص بلا شعور واختيار، فضلا عما إذا صدرت عن
اصطكاك جسم بجسم آخر، مع أنه لا شبهة في تبادر المعنى منها وانتقال الذهن
إليه في جميع هذه الصور فمدفوع: بأن تبادر المعنى فيها وانسباقه إلى الذهن غير
مستند إلى العلقة الوضعية، بل إنما هو من جهة الانس الحاصل بينهما بكثرة
الاستعمال أو بغيرها، وذلك لأن الوضع حيث كان فعلا اختياريا فصدوره من
الواضع الحكيم في أمثال هذه الموارد التي لا يترتب على الوضع فيها أي أثر
وغرض داع إليه يصبح لغوا وعبثا.
الكلام في أقسام الوضع
ثم إن الوضع بذلك المعنى الذي ذكرناه موافق لمعناه اللغوي أيضا، فإنه في
اللغة بمعنى: الجعل والإقرار، ومنه وضع اللفظ، ومنه وضع القوانين في الحكومات
الشرعية والعرفية، فإنه بمعنى: التزام تلك الحكومة بتنفيذها في الأمة.
كما أنه بذلك المعنى أيضا يصح تقسيمه إلى التعييني والتعيني، باعتبار أن
التعهد والالتزام المزبور إن كان ابتدائيا فهو وضع تعييني، وإن كان ناشئا عن كثرة
الاستعمال فهو وضع تعيني، وعليه فيصح تعريفه بتخصيص شئ بشئ وتعيينه
بإزائه أيضا.
هذا كله في بيان الأقوال في حقيقة الوضع، وقد عرفت المختار من بينها.
وأما الجهة الثالثة (1): فملخص الكلام فيها: أن الوضع لما كان فعلا اختياريا
للواضع بأي معنى من المعاني فسر توقف تحققه على تصور اللفظ والمعنى، وعليه
فالكلام يقع في مقامين:
الأول: في ناحية المعنى.
والثاني: في ناحية اللفظ.

(1) كذا، والظاهر أنها هي الجهة الرابعة وهي مرحلة الثبوت.
56

أما المقام الأول: فالكلام فيه يقع في جهات:
الجهة الأولى: في الوضع العام والموضوع له العام، وهو أن يتصور الواضع
المعنى الكلي حين الوضع فيضع اللفظ بإزائه، سواء أكان تصوره بالكنه والحقيقة
كما إذا تصور الإنسان - مثلا - بحده التام، أم كان ذلك بالوجه والعنوان كما إذا
تصوره بحده الناقص، أو بالعنوان المعرف والمشير من دون دخل لذلك العنوان
فيه، نظير: بعض العناوين المأخوذ في موضوع القضية لأجل الإشارة إلى ما هو
الموضوع فيها حقيقة، بدون دخل له فيه أصلا. فالوضع العام والموضوع له العام
من قبيل القضية الطبيعية كقولنا: الإنسان نوع، فكما أن المحمول فيها ثابت
للطبيعي بما هو فكذلك الوضع هنا، أي: لطبيعي المعنى الجامع.
الجهة الثانية: في الوضع الخاص والموضوع له الخاص، وهو أن يتصور
الواضع حين إرادته الوضع معنى خاصا وجزئيا حقيقيا فيضع اللفظ بإزاء ذلك
الخاص: كوضع الأعلام الشخصية، سواء أكان تصوره بالكنه أم كان بالوجه
والعنوان، لكفاية تصور الشئ بوجه ما في وضع لفظ بإزائه، ولا يلزم تصوره
بكنهه وحقيقته. فقضية الوضع الخاص والموضوع له الخاص كالقضية الشخصية
التي ثبت الحكم فيها لأشخاص معينين.
الجهة الثالثة: في الوضع العام والموضوع له الخاص، وهو أن يلاحظ الواضع
حين الوضع معنى عاما يكون وجها وعنوانا لأفراده ومصاديقه، بحيث يكون
تصوره تصورا لها بوجه فيضع اللفظ بإزاء الأفراد والمصاديق، فهذا هو الوضع
العام والموضوع له الخاص، وحاله كحال القضية الحقيقية.
وقد يتوهم أن ذلك غير معقول، بتقريب أن أي مفهوم جزئيا كان أو كليا لا
يحكي إلا عن نفسه، فيستحيل أن يحكي مفهوم عن مفهوم آخر، فكما لا يعقل أن
يحكي المفهوم الخاص بما هو خاص عن مفهوم عام أو خاص آخر فكذلك لا
يعقل أن يحكي المفهوم العام بما هو عن مفهوم خاص أو عام آخر، بداهة أن لحاظ
57

كل مفهوم وتصوره عين إراءة شخصه، لا إراءة شئ آخر به فكيف يكون معرفة
لغيره بوجه؟! وعليه فلا يمكن الوضع العام والموضوع له الخاص.
والجواب عنه: أن المفهوم في الجملة بما هو - سواء كان عاما أو خاصا -
وإن كان لا يحكي في مقام اللحاظ إلا عن نفسه إلا أن تصور بعض المفاهيم الكلية
يوجب تصور أفراده ومصاديقه بوجه.
وتفصيل ذلك: هو أن المفاهيم الكلية المتأصلة - كمفاهيم الجواهر
والأعراض: كالحيوان والإنسان والبياض والسواد ونحو ذلك - لا تحكي في مقام
اللحاظ والتصور إلا عن أنفسها، وهي الجهة الجامعة بين الأفراد والمصاديق،
وكذلك بعض المفاهيم الانتزاعية: كالوجوب والإمكان والامتناع والأبيض
والأسود وما شاكلها، فإن عدم حكايتها عن غيرها من الواضحات.
وأما العناوين الكلية التي تنتزع من الأفراد والخصوصيات الخارجية
- كمفهوم الشخص والفرد والمصداق - فهي تحكي في مقام اللحاظ عن الأفراد
والمصاديق بوجه، وعلى نحو الإجمال، فإنها وجه لها، وتصورها في نفسها تصور
لها بوجه وعنوان.
وبتعبير آخر: أن مرآتيتها للأفراد والأشخاص ذاتية لها، فتصورها - لا محالة -
تصور لها إجمالا بلا إعمال عناية في البين، فإذا تصورنا مفهوم ما ينطبق عليه
مفهوم الإنسان - مثلا - فقد تصورنا جميع أفراده بوجه، ومن ثم جاز الحكم عليها
في القضية الحقيقية، فلو لم يحك المفهوم عن أفراده لاستحال الحكم عليها مطلقا،
مع أن الاستحالة واضحة البطلان.
الجهة الرابعة: في الوضع الخاص والموضوع له العام، وهو أن يتصور الواضع
حين إرادة الوضع معنى خاصا - أي: ما يمتنع فرض صدقه على كثيرين - فيضع
اللفظ بإزاء معنى كلي.
ولكن على ضوء ما ذكرناه في الجهة الثالثة قد تبين عدم إمكان ذلك، فإن
58

مفهوم الخاص مهما كان لا يحكي بما هو خاص عن مفهوم عام أو عن خاص
آخر، ضرورة أن تصور مفهوم الخاص بما هو تصور نفسه وإراءة شخصه،
فيستحيل أن يكون تصورا لغيره بوجه، بل لحاظ كل مفهوم لحاظ نفسه، وهو هو،
لا هو وغيره.
وعلى الجملة: أن الخاص بما هو لا يكون وجها وعنوانا للعام ليكون تصوره
تصورا له بوجه، وهذا بخلاف مفهوم العام: كمفهوم الشخص والفرد والمصداق،
فإنه وجه وعنوان للأفراد والمصاديق ولحاظه لحاظا لها بوجه. ومن هنا قلنا
بإمكان الوضع العام والموضوع له الخاص. وأما الخاص فلما لم يكن كذلك
فلا يمكن الوضع الخاص والموضوع له العام.
وقد يتوهم إمكان ذلك - أي: الوضع الخاص والموضوع له العام - فيما إذا
رأى شبحا من بعيد وتيقن أنه حيوان، ولكن لم يعلم أنه من أي نوع من أنواعه، أو
أي صنف من أصنافه، فإن له - حينئذ - أن يتصور ذلك الشبح الذي هو جزئي
حقيقي، ويضع اللفظ بإزاء معنى كلي منطبق عليه وعلى غيره من الأفراد. فهذا من
الوضع الخاص والموضوع له العام.
إلا أنه توهم فاسد، وذلك لأنه قد يتصور ذلك الشبح بعنوان أنه جزئي ومعنى
خاص فيضع اللفظ بإزاء واقعه - الشبح - وقد يتصور ذلك بعنوان الكلي المنطبق
عليه وعلى غيره، فيضع اللفظ بإزاء معنونه ولا ثالث له، فهو على الأول من
الوضع الخاص والموضوع له الخاص، وعلى الثاني من الوضع العام والموضوع
له العام أو الخاص كما لا يخفى.
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه لحد الآن: هي أن الممكن من أقسام الوضع
ثلاثة، وهي: الوضع العام والموضوع له العام، والوضع الخاص والموضوع له
الخاص، والوضع العام والموضوع له الخاص. وأما القسم الرابع منها وهو: الوضع
الخاص والموضوع له العام فقد عرفت أنه غير ممكن.
59

ثم إن المعنى الموضوع له - سواء كان عاما أو خاصا - إنما يكون من المفاهيم
القابلة في نفسها للحضور في ذهن السامع في مرحلة التخاطب، فالألفاظ كما لم
توضع للموجودات الخارجية - لأنها غير قابلة للحضور في الأذهان - كذلك لم
توضع للموجودات الذهنية، فإن الموجود الذهني غير قابل لوجود ذهني آخر،
بل هي موضوعة لذوات المعاني غير الآبية عن قبول نحوين من الوجود في نفسها،
وتلك المعاني تتصف بالسعة وبالضيق لا بنفسها، بل باعتبار الانطباق والصدق
الخارجي. وبهذا اللحاظ كان تقسيم الموضوع له: إلى العام تارة، والى الخاص
تارة أخرى، أي: بلحاظ الانطباق على ما في الخارج لا في نفسه. هذا تمام
الكلام في المقام الأول.
وأما الكلام في المقام الثاني - وهو تصور اللفظ - فالواضع حين إرادة
الوضع: إما أن يلاحظ اللفظ بمادته وهيئته كما في أسماء الأجناس وأعلام
الأشخاص، وإما أن يلاحظ المادة فقط كما في مواد المشتقات، وإما أن يلاحظ
الهيئة كذلك كما في هيئات المشتقات وهيئات الجمل الناقصة والتامة، فالوضع في
الأول والثاني شخصي، وفي الثالث نوعي.
ثم إن ملاك شخصية الوضع هو لحاظ الواضع شخص اللفظ بوحدته الطبيعية
وشخصيته الذاتية التي امتاز بها في ذاته عما عداه، وملاك نوعية الوضع هو لحاظ
الواضع اللفظ بجامع عنواني كهيئة " الفاعل " مثلا، لا بشخصه وبوحدته الذاتية.
وبهذا ظهر ملاك الشخصية والنوعية في الطوائف الثلاث:
أما الطائفة الأولى: فلأن الواضع لم يلحظ فيها في مقام الوضع إلا شخص
اللفظ بوحدته الطبيعية وشخصيته الممتازة، فالموضوع هو ذلك اللفظ الملحوظ
كذلك، سواء كان الموضوع له معنى عاما أو خاصا. وكذا الحال في الطائفة الثانية.
وأما الطائفة الثالثة: فلما كانت الهيئة مندمجة في المادة غاية الاندماج فلا
يعقل لحاظها بنفسها مع قطع النظر عن المادة، إذ لا وجود لها بدونها في الوجود
60

الذهني، فضلا عن الوجود العيني، فتجريدها عن المواد لا يمكن حتى في مقام
اللحاظ، فلا محالة يجب الوضع لأشخاصها بجامع عنواني كقولك: " كل ما كان
على هيئة الفاعل "، لا بشخصيتها الذاتية، وهذا معنى نوعية الوضع.
وأما الكلام في الجهة الرابعة - وهي: مرحلة الإثبات والوقوع - فيقع في
الأقسام الثلاثة من الوضع، وهي الأقسام الممكنة: من الوضع العام والموضوع له
العام، والوضع الخاص والموضوع له الخاص، والوضع العام والموضوع له الخاص.
وأما القسم الرابع - وهو: الوضع الخاص والموضوع له العام - فحيث إنه غير
ممكن فلا تصل النوبة إلى البحث عنه في مرحلة الإثبات، لأنه متفرع على إمكانه.
وعلى ذلك فنقول: لا شبهة في وقوع الوضع العام والموضوع له العام: كوضع
أسماء الأجناس. كما أنه لا شبهة في وقوع الوضع الخاص والموضوع له الخاص:
كوضع الأعلام الشخصية، وإنما الكلام والإشكال في وقوع الوضع العام
والموضوع له الخاص.
فذهب جماعة إلى أن وضع الحروف وما يشبهها منه، أي: من الوضع العام
والموضوع له الخاص (1). ولكن أنكره جماعة آخرون منهم: المحقق صاحب
الكفاية (2) (قدس سره).
وتحقيق الكلام في المقام يتوقف - أولا - على تحقيق المعاني الحرفية
والمفاهيم الأدوية. ثم التكلم في أن الموضوع له فيها كوضعها عام أو أنه خاص،
فيقع الكلام في مقامين:
المقام الأول: في تحقيق المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية، وبيان المراد من

(1) يظهر ذلك من صاحب القوانين في قوانينه: ج 1 ص 10 س 7، وصاحب المعالم في
الاستثناء المعقب للجمل: ص 57، ونسبه صاحب الحاشية (ص 31 س 13) إلى أكثره
المتأخرين.
(2) كفاية الأصول: ص 25.
61

عدم استقلالها.
المقام الثاني: في تحقيق أن معناها الموضوع له عام أو خاص؟
أما الكلام في المقام الأول:
فقد اختلفوا فيها على أقوال:
القول الأول: ما نسب إلى المحقق الرضي (قدس سره) (1) وتبعه فيه المحقق صاحب
الكفاية (قدس سره) (2): من أن المعنى الحرفي والاسمي متحدان بالذات والحقيقة،
ومختلفان باللحاظ والاعتبار، فكلمة " ابتداء " وكلمة " من " مشتركتان في طبيعة
معنى واحد، ولا امتياز لإحداهما على الأخرى إلا في أن اللحاظ في مرحلة
الاستعمال في الأسماء، استقلالي، وفي الحروف آلي.
وقد ذكر صاحب الكفاية (قدس سره): أن الاستقلالية وعدمها خارجتان عن حريم
المعنى، فالمعنى في نفسه لا يتصف بأنه مستقل، ولا بأنه غير مستقل، بل هما من
توابع الاستعمال وشؤونه.
واستدل على عدم إمكان أخذ اللحاظ الآلي كاللحاظ الاستقلالي، لا في
المعنى الموضوع له، ولا في المستعمل فيه بوجوه:
الوجه الأول ما توضيحه: أن لحاظ المعنى في مقام الاستعمال مما لا بد منه،
وعليه فلا يخلو الحال من أن يكون هذا اللحاظ عين اللحاظ المأخوذ في المعنى
الموضوع له، أو يكون غيره. فعلى الأول يلزم تقدم الشئ على نفسه، والثاني
خلاف الوجدان والضرورة، إذ ليس في مقام الاستعمال إلا لحاظ واحد، على أن
الملحوظ بما هو ملحوظ غير قابل لتعلق لحاظ آخر به، فإن القابل لطروء الوجود
الذهني إنما هو نفس المعنى وذاته، والموجود لا يقبل وجودا آخر.
في المعنى الحرفي
الوجه الثاني: أن أخذ اللحاظ الآلي فيما وضعت له الحروف يلزمه أخذ

(1) نسبه إليه المحقق حبيب الله الرشتي في بدائع الأفكار: ص 41 س 29، قال: وببالي أن هذا
التفصيل قد صرح به المحقق الشريف في حاشية العضدي.
(2) كفاية الأصول: ص 25.
62

اللحاظ الاستقلالي فيما وضعت له الأسماء، فكيف يمكن التفرقة بينهما بأن
الموضوع له في الحروف جزئي وفي الأسماء كلي؟
الوجه الثالث: أنه يلزمه عدم صحة الحمل، وعدم إمكان الامتثال بدون
تجريد الموضوع والمحمول عن التقييد بالوجود الذهني، لعدم انطباق ما في
الذهن على ما في العين.
فتحصل: أن المعنى الحرفي وإن كان لا بد من لحاظه آليا، كما أن المعنى
الاسمي لا بد من لحاظه استقلالا إلا أن ذلك لم ينشأ من أخذهما في الموضوع له،
بل منشأ ذلك هو اشتراط الواضع ذلك في مرحلة الاستعمال، لا بمعنى أنه اشترط
ذلك على حذو الشرائط في العقود والإيقاعات، فإنه لا يرجع في المقام إلى معنى
محصل:
أما أولا: فلعدم الدليل عليه، وعلى فرض تسليمه فلا دليل على وجوب
اتباعه ما لم يرجع إلى قيد الموضوع أو الموضوع له.
وأما ثانيا: فلأنه لو ثبت هذا الاشتراط ولزوم اتباعه لم يستلزم ذلك
استهجان استعمال الحرف موضع الاسم، وبالعكس، بل غاية الأمر: أن مخالفة
الشرط توجب استحقاق المؤاخذة، وإلا فالعلقة الوضعية على هذا غير مختصة
بحالة دون أخرى، بل المراد بالاشتراط: أن العلقة الوضعية في الحروف والأدوات
مختصة بحالة مخصوصة، وهي: ما إذا لاحظ المتكلم المعنى الموضوع له في
مرحلة الاستعمال آليا، وفي الأسماء بحالة أخرى، وهي: ما إذا لاحظ المعنى في
تلك المرحلة استقلالا.
وتوضيح ذلك: هو أن الوضع لما كان فعلا اختياريا للواضع فله تخصيصه
بأي خصوصية شاء، فيخصص العلقة الوضعية في الحروف بحالة، وفي الأسماء
بحالة أخرى، بل له ذلك في شئ واحد بجعله علامة لإرادة أمرين أو أمور من
جهة اختلاف حالاته وطوارئه، كما إذا فرض أن السيد قد تبانى مع عبده أنه إذا
63

وضع العمامة عن رأسه في وقت كذا فهو علامة لإرادته أمر كذا. وإذا وضعها عنه
في الوقت الفلاني فهو علامة لإرادته الأمر الفلاني. ومن ثمة كانت الآلية
والاستقلالية خارجتين عن حريم المعنى، وليستا من مقوماته وقيوده، بل من قيود
العلقة الوضعية ومقوماتها. فلذا كان استعمال كل واحد من الحرف والاسم في
موضوع الآخر بلا علقة وضعية وإن كان طبيعي المعنى واحدا فيهما كما عرفت،
ولأجله لا يصح ذلك الاستعمال.
وبتعبير واضح: أن القيد تارة من الجهات الراجعة إلى اللفظ، واخرى من
الجهات الراجعة إلى المعنى، وثالثة من الجهات الراجعة إلى الوضع نفسه.
أما على الأول: فيختلف اللفظ باختلافه: كالحركات والسكنات والتقدم
والتأخر بحسب الحروف الأصلية الممتازة بالذات عما عداها، أو بالترتيب مثلا:
كلمة " بر " تختلف باختلاف الحركات والسكنات: " بر " بالكسر و " بر " بالضم
و " بر " بالفتح. فللكلمة الأولى معنى، وللثانية معنى آخر، وللثالثة معنى ثالث، مع
أنه لا تفاوت فيها بحسب حروفها الأصلية أصلا. وكلمة " علم " يختلف معناها
بتقدم بعض حروفها الأصلية على بعضها الآخر، وتأخره عنه: ك‍ " عمل أو لمع "،
وهكذا في بقية الموارد...
وأما على الثاني: فيختلف المعنى باختلافه، فإن هيئة " القاعد " - مثلا - هيئة
واحدة، ولكنها مع ذلك تختلف باختلاف الخصوصيات والحالات الطارئة عليها،
فإذا كانت مسبوقة بالقيام يطلق عليها لفظ " قاعد "، وإذا كانت مسبوقة
بالاضطجاع يطلق عليها لفظ " جالس "، وهكذا في غير ذلك من الموارد...
وأما على الثالث: فتختلف العلقة الوضعية باختلافه: كلحاظ الآلية
والاستقلالية، فإنها إذا قيدت بالآلية تختلف عما إذا قيدت بالاستقلالية، وحينئذ
فلما كانت العلقة مختصة في الحروف بما إذا قصد المعنى آلة، وفي الأسماء بما إذا
قصد المعنى استقلالا فمن الواضح أنها تكون في الحروف والأدوات غير ما هي
64

في الأسماء، فتختص في كل واحدة منها بحالة تضاد الحالة الأخرى.
ومن هنا قال (قدس سره) في مبحث المشتق: إن استعمال لفظ " الابتداء " في موضع
كلمة " من " ليس استعمالا في غير الموضوع له، بل هو استعمال فيه، ولكنه من
دون علقة وضعية (1).
فالنتيجة: أن ذلك القول ينحل إلى نقطتين:
النقطة الأولى: هي نقطة الاشتراك، وهي: أن الحروف والأسماء مشتركتان
في طبيعي معنى واحد، فالاستقلالية وعدمها خارجتان عن حريم المعنى،
فالمعنى في نفسه لا مستقل ولا غير مستقل.
النقطة الثانية: هي نقطة الامتياز، وهي: أن ملاك الحرفية ملاحظة المعنى آلة،
وملاك الاسمية ملاحظة المعنى استقلالا، فبذلك يمتاز أحدهما عن الآخر.
هذا، ولكن يرد على النقطة الأولى: أن لازمها صحة استعمال كل من الاسم
والحرف في موضع الآخر، مع أنه من أفحش الأغلاط.
والوجه في ذلك: هو أن استعمال اللفظ في معنى غير المعنى الموضوع له إذا
جاز من جهة العلقة الخارجية والمناسبة الأجنبية، مع فرض انتفاء العلقة الوضعية
بينه وبين ذلك المعنى كان مقتضاه الحكم بالصحة بطريق أولى إذا كانت العلقة
ذاتية وداخلية، ضرورة أنه كيف يمكن الحكم بصحة الاستعمال إذا كانت المناسبة
خارجية والعناية أجنبية، وبعدم صحته إذا كانت داخلية وذاتية؟
وإن شئت فقل: إن القدر الجامع بين هذا الاستعمال - أي: استعمال الحرف في
موضع الاسم وبالعكس - وبين استعمال اللفظ في المعنى المجازي هو انتفاء العلقة
الوضعية في كليهما معا، ولكن لذاك الاستعمال مزية بها يمتاز ويتفوق على ذلك
الاستعمال، وهي: أن الاستعمال هنا استعمال في المعنى الموضوع له، لفرض
اشتراكهما في طبيعي معنى واحد ذاتا، وهذا بخلاف ذلك الاستعمال، فإنه استعمال

(1) كفاية الأصول: ص 60.
65

في غير المعنى الموضوع له بعناية من العنايات الخارجية. فإذا صح ذلك فكيف
لا يصح هذا، مع أنه من الغلط الواضح، بل لو تكلم به شخص لرمي بالسفه
والجنون؟!
وعلى ضوء بياننا هذا يتضح لك جليا: أن المعنى الحرفي والاسمي ليسا
بمتحدين ذاتا، ولا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد، بل هما متباينان بالذات
والحقيقة، فإن هذا هو الموافق للوجدان الصحيح، ولأجله لا يصح استعمال
أحدهما في موضع الآخر.
ويرد على النقطة الثانية: أن لازمها صيرورة جملة من الأسماء حروفا
لمكان ملاك الحرفية فيها، وهو لحاظها آلة ومرآة: كالتبين المأخوذ غاية لجواز
الأكل والشرب في قوله تعالى: * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض...
الآية) * (1) فإنه قد اخذ مرآة وطريقا إلى طلوع الفجر، من دون أن يكون له دخل
في حرمة الأكل والشرب وعدمها، فبذلك يعلم: أن كون الكلمة من الحروف لا
يدور على لحاظه آليا (2).
وبتعبير آخر: إذا كان الملاك في كون المعنى حرفيا تارة واسميا أخرى هو
اللحاظ الآلي والاستقلالي، وكان المعنى بحد ذاته لا مستقلا ولا غير مستقل، فكل
ما كان النظر إليه آليا فهو معنى حرفي، فيلزم محذور صيرورة جملة من الأسماء

(1) البقرة: 187.
(2) وفي هامش أجود التقريرات في بيان هذا الإيراد ما نصه: مضافا إلى أن لحاظ المعنى آلة لو
كان موجبا لكونه معنى حرفيا لزم منه كون كل معنى اسمي يؤخذ معرفا لغيره في الكلام وآلة
للحاظه، كالعناوين الكلية المأخوذة في القضايا معرفات للموضوعات الواقعية معنى حرفيا.
كما أن لحاظ المعنى حالة لغيره لو كان موجبا لكونه معنى حرفيا لزم منه كون جميع
المصادر معاني حرفية فإنها تمتاز عن أسماء المصادر بكونها مأخوذات بما أنها أوصاف
لمعروضاتها، بخلاف أسماء المصادر الملحوظ فيها الحدث بما أنه شئ في نفسه مع قطع
النظر عن كونه وصفا لغيره. راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 15 و 16.
66

حروفا. هذا أولا.
وثانيا: أن ما هو المشهور من أن المعنى الحرفي ملحوظ آلة لا أصل له،
وذلك لأنه لا فرق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي في ذلك، إذ كما أن اللحاظ
الاستقلالي والقصد الأولي يتعلقان بالمعنى الاسمي في مرحلة الاستعمال كذلك
قد يتعلقان بالمعنى الحرفي، فإنه هو المقصود بالإفادة في كثير من الموارد، وذلك
كما إذا كان ذات الموضوع والمحمول معلومين عند شخص، ولكنه كان جاهلا
بخصوصيتهما فسأل عنها فأجيب على طبق سؤاله، فهو والمجيب إنما ينظران إلى
هذه الخصوصية نظرة استقلالية.
مثلا: إذا كان مجئ " زيد " معلوما ولكن كانت كيفية مجيئه مجهولة
عند أحد فلم يعلم أنه جاء مع غيره أو جاء وحده فسأل عنها، فقيل: إنه جاء مع
عمرو فالمنظور بالاستقلال والملحوظ كذلك في الإفادة والاستفادة في
مثل ذلك إنما هو هذه الخصوصية التي هي من المعاني الحرفية، دون المفهوم
الاسمي فإنه معلوم، بل إن الغالب في موارد الإفادة والاستفادة عند العرف
النظر الاستقلالي والقصد الأولي بإفادة الخصوصيات والكيفيات المتعلقة
بالمفاهيم الاسمية.
القول الثاني: إن الحروف لم توضع لمعنى، وإنما وضعت لتكون علامة على
كيفية إرادة مدخولاتها نظير: حركات الإعراب التي لم توضع لمعنى، وإنما وضعت
لتكون قرينة على إرادة خصوصية من خصوصيات مدخولها من الفاعلية
والمفعولية ونحوهما. فكما أن كل واحد من حركات الإعراب يفيد خصوصية
متعلقة بمدخوله فإن " الفتحة " تفيد خصوصية في مدخولها، " والكسرة " تفيد
خصوصية أخرى فيه، " والضمة " تفيد خصوصية ثالثة فيه، فكذلك كل واحد من
الحروف. فإن كلمة " في " تفيد إرادة خصوصية في مدخولها غير ما تفيده كلمة
" على " من الخصوصية، وهكذا...، من دون أن تكون لها معان مخصوصة قد
67

وضعت بإزائها (1).
ولكن هذا القول لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لأن الخصوصيات التي دلت
عليها الحروف والأدوات هي بعينها المعاني التي وضعت الحروف بإزائها، إذ
المفروض أن تلك المعاني ليست مما تدل عليه الأسماء، لعدم كونها مأخوذة في
مفاهيمها، فانحصر أن يكون الدال عليها هو الحروف، ومن الواضح أن دلالتها
عليها ليست إلا من جهة وضعها بإزائها، وعليه فلا معنى للقول بأنها لم توضع
لمعنى، وإنما وضعت لكذا، بل هذا يشبه الجمع بين المتناقضين. وعلى كل حال
فبطلان هذا القول من الواضحات الأولية. ومنه ظهر حال المقيس عليه، وهو
حركات الإعراب بلا زيادة ونقيصة.
القول الثالث: ما اختاره جماعة من المحققين - قدست أسرارهم - وهو: أن
المعاني الحرفية والمفاهيم الاسمية متباينتان بالذات والحقيقة، ولكنهم اختلفوا
في كيفية هذا التباين وما به الامتياز:
فقد ذهب شيخنا الأستاذ (قدس سره) إلى التباين بينهما بالإيجادية والإخطارية،
بمعنى: أن المفاهيم الاسمية بأجمعها مفاهيم إخطارية ومتقررة في عالم
المفهومية، ومستقلة بحد ذاتها وهويتها في ذلك العالم. والمعاني الحرفية والمفاهيم
الأدوية بأجمعها معان إيجادية في الكلام، ولا تقرر لها في عالم المفهومية، ولا
استقلال بذاتها وحقيقتها.
وبيان ذلك: أن الموجودات في عالم الذهن كالموجودات في عالم العين،
فكما أن الموجودات في عالم العين على نوعين:
أحدهما: ما يكون له وجود مستقل بحد ذاته في ذلك العالم: كالجواهر
بأنواعها من النفس والعقل والصورة والمادة والجسم، ولذا قالوا: إن وجودها في

(1) قال به المحقق النهاوندي في تشريح الأصول: ص 40، وفي فوائد الأصول (ج 1 ص 47)
قال: حكي نسبة ذلك القول إلى الشيخ الرضي.
68

نفسه لنفسه يعني: لا يحتاج إلى موضوع محقق في الخارج.
وثانيهما: ما يكون له وجود غير مستقل كذلك في هذا العالم، بل هو متقوم
بالموضوع: كالمقولات التسع العرضية فإن وجوداتها متقومة بموضوعاتها، فلا
يعقل تحقق عرض ما بدون موضوع يتقوم به، ولذا قالوا: إن وجود العرض في
نفسه عين وجوده لموضوعه فكذلك الموجودات في عالم الذهن على نوعين:
أحدهما: ما يكون له استقلال بالوجود في عالم المفهومية والذهن: كمفاهيم
الأسماء بجواهرها وأعراضها واعتبارياتها وانتزاعياتها، فإن مثل مفهوم الإنسان
والسواد والبياض وغيرها من المفاهيم المستقلة ذاتا، فإنها تحضر في الذهن بلا
حاجة إلى أية مؤنة خارجية، سواء أكانت في ضمن تركيب كلامي أم لم تكن، بل
لو فرضنا فرضا: أنه لم يكن في العالم مفهوم ما عدا مفهوم واحد - مثلا - لما كان
هناك ما يمنع من خطوره في الذهن، فظهر أن حال المفاهيم الاسمية في عالم
المفهوم والذهن حال الجواهر في عالم العين والخارج.
وثانيهما: ما لا استقلال له في ذلك العالم، بل هو متقوم بالغير: كمعاني
الحروف والأدوات، فإنها بحد ذاتها وأنفسها متقومة بالغير ومتدلية بها، بحيث
لا استقلال لها في أي وعاء من الأوعية التي فرض وجودها فيه لنقصان في ذاتها،
فعدم الاستقلالية من ناحية ذلك النقصان لا من ناحية اللحاظ فقط، فلذا لا تخطر
في الذهن عند التكلم بها وحدها، أي: من دون التكلم بمتعلقاتها، فلو أطلق كلمة
" في " وحدها - أي: من دون ذكر متعلقها - فلا يخطر منها شئ في الذهن.
فتبين: أن حال المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية في عالم المفهوم حال
المقولات التسع العرضية في عالم العين.
إذا عرفت ذلك فنقول: قد اتضح من ضوء هذا البيان: أن المفاهيم الاسمية
حيث إنها كانت إخطارية ومتقررة ومستقلة في عالم المفهوم والمعنى فيستحيل أن
تكون الأسماء موجدة إياها في الكلام، ضرورة عدم إمكان كونها إيجادية بهذا
69

المعنى، لما عرفت من: أن معانيها تخطر في الذهن عند التكلم بها، سواء أكانت
مفردة أم كانت في ضمن تركيب كلامي، ولكن لما لم تكن بينها رابطة ذاتية توجب
ربط بعضها ببعض دعت الحاجة في مقام الإفادة والاستفادة إلى روابط تربط
بعضها ببعضها الآخر، وليست تلك الروابط إلا الحروف وتوابعها، فإن شأنها إيجاد
الربط بين مفهومين مستقلين.
ولذا قلنا: إن معانيها إيجادية محضة، نسبية كانت: كحرف " من وعلى وإلى "
ونحوها، أو غير نسبية: كحرف النداء والتشبيه والتمني والترجي، فإنها في كلا
القسمين موضوعة لإيجاد المعنى الربطي بين المفاهيم الاسمية في التراكيب
الكلامية.
مثلا: كلمة " في " موضوعة لإيجاد معنى ربطي بين الظرف والمظروف.
وكلمة " على " موضوعة لإيجاد معنى ربطي بين المستعلي والمستعلي عليه. وكلمة
" من " لإيجاده بين المبتدأ به والمبتدأ منه.
وبعبارة جامعة: أن كل واحد منها موضوع لإيجاد معنى ربطي خاص في
تركيب مخصوص، ولا واقع له سواه، فلولا وضع الحروف لم توجد رابطة بين
أجزاء الكلام أبدا، بداهة أنه لا رابطة بين مفهوم زيد ومفهوم الدار في أنفسهما،
لأنهما مفهومان متباينان بالذات، فلا بد من رابط يربط أحدهما بالآخر، وليس
ذلك إلا كلمة " في " - مثلا - التي هي الرابطة بينهما، كما أن كلمة " من " رابطة بين
المبتدأ به والمبتدأ منه، وكلمة " على " رابطة بين المستعلي والمستعلي عليه،
وهكذا...
وعلى الجملة: أن المعاني الحرفية بأجمعها معان إيجادية، وليس لها واقع في
أي وعاء من الذهن والخارج وعالم الاعتبار، ما عدا التراكيب الكلامية،
ونظيرها: صيغ العقود والإيقاعات بناء على ما ذهب إليه المشهور فيها من: أنها
آلات وأسباب لإيجاد مسبباتها: كالملكية والزوجية والرقية ونحوها، ولكن
70

الفرق بينها وبين المقام من ناحية أخرى، وهي: أنها بتوسط الاستعمال توجد
مسبباتها في عالم الاعتبار، فوعاؤها هو عالم الاعتبار. وأما الحروف فهي
موجدة لمعانيها غير الاستقلالية في وعاء الاستعمال، على أن معاني صيغ العقود
والإيقاعات مستقلة في موطنها دون معاني الحروف، فالفرق إذا من جهتين:
الأولى: أن المعاني الإنشائية مستقلة في أنفسها دون المعاني الحرفية.
الثانية: أن معانيها موجودة في عالم الاعتبار فوعاؤها ذلك العالم، دون
المعاني الحرفية، فإن وعاءها عالم الاستعمال. وإلى ما ذكرناه من: أن المعنى
الحرفي إيجادي أشارت الرواية المنسوبة إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام،
وهي: " أن الحرف ما أوجد معنى في غيره " (1).
وقال (قدس سره): إن هذا التعريف أجود تعريفات الباب من حيث اشتماله على
أركان المعاني الحرفية كلها.
وقد اتضح مما قدمناه: أن المعاني: إما إخطارية مستقلة بحد ذاتها في عالم
مفهوميتها، وإما إيجادية غير مستقلة كذلك في ذلك العالم، فلا ثالث لهما.
فالإخطارية تلازم الاستقلالية بالذات، والإيجادية تلازم عدمها كذلك، وعليه
فحكمة الوضع دعت إلى وضع الأسماء للطائفة الأولى من المعاني، ووضع
الحروف والأدوات للطائفة الثانية منها لتكون رابطة بين الطائفة الأولى بعضها
ببعض، وبذلك يحصل الغرض من الوضع.
ومن هنا أجاد أهل العربية عندما عبروا في مقام التفسير عن المفاهيم الحرفية
بأن كلمة " في " للظرفية، ولم يقولوا بأن في هي الظرفية كما هو ديدنهم في مقام
التعبير عن المفاهيم الاسمية وإن تسامحوا من جهة عدم التصريح بالنسبة بأن
يقولوا: كلمة " في " للنسبة.
ثم قال (قدس سره): يشبه المعاني الحرفية جميع ما يكون النظر فيه آليا: كتعظيم

(1) راجع تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: ص 60.
71

شخص لأجل تعظيم آخر، أو إهانة شخص لأجل إهانة آخر، وهكذا... (1)
ويتلخص ما أفاده (قدس سره) في أمور:
الأول: أن المعنى الحرفي والاسمي متباينان بالذات والحقيقة، ولا اشتراك
لهما في طبيعي معنى واحد.
الثاني: أن المفاهيم الاسمية مفاهيم استقلالية بحد ذاتها وأنفسها، والمفاهيم
الحرفية مفاهيم غير استقلالية كذلك، بل هي متقومة بغيرها ذاتا وهوية.
الثالث: أن معاني الأسماء جميعا معان إخطارية، ومعاني الحروف معان
إيجادية، ولا يعقل أن تكون إخطارية كمعاني الأسماء، وإلا لكانت مثلها في
الافتقار إلى وجود رابط يربطها بغيرها، فيلزم أن يكون في مثل قولنا: " زيد في
الدار " مفاهيم ثلاثة إخطارية: كمفهوم " زيد " ومفهوم " الدار " ومفهوم " الظرفية "
دون أن تكون هناك رابطة بين هذه المفاهيم التي لا يرتبط بعضها ببعض، فإذا لا
يتحقق التركيب، ولا يصح الاستعمال، لتوقفهما على وجود الرابط بين المفاهيم
الاستقلالية، ومن الواضح أنه ليس إلا الحروف أو ما يشبهها.
الرابع: أن حال المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية حال الألفاظ في مرحلة
الاستعمال، فكما أن الألفاظ في حال الاستعمال ملحوظة آلة والمعاني ملحوظة
استقلالا فكذلك المعاني الحرفية فإنها في مقام الاستعمال ملحوظة آلة، والمعاني
الاسمية ملحوظة استقلالا.
الخامس: أن جميع ما يكون النظر إليه آليا يشبه المعاني الحرفية كالعناوين
الكلية المأخوذة معرفات وآليات لموضوعات الأحكام أو متعلقاتها.
أقول: أما ما أفاده (قدس سره) أولا وثانيا: من أن المعنى الحرفي والاسمي متباينان
بالذات والحقيقة، ومن أن المعاني الاسمية مستقلة بحد ذاتها في عالم المفهومية،
والمعاني الحرفية ليست كذلك ففي غاية الصحة والمتانة، بل ولا مناص من

(1) وإن شئت تفصيل ذلك فراجع أجود التقريرات: ج 1 ص 16 - 25.
72

الالتزام بذلك كما سيأتي بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى.
وأما ما ذكره (قدس سره) ثالثا: من أن معاني الأسماء إخطارية، ومعاني الحروف
إيجادية ففيه: أن المعاني الاسمية وإن كانت إخطارية تخطر في الأذهان عند
التكلم بألفاظها - سواء أكانت في ضمن تركيب كلامي أم لم تكن - إلا أن المعاني
الحرفية والمفاهيم الأدوية ليست بإيجادية، وذلك لأن المعاني الحرفية وإن كانت
غير مستقلة في أنفسها ومتعلقة بالمفاهيم الاسمية بحد ذاتها وعالم مفهوميتها
بحيث لم يكن لها أي استقلال في أي وعاء فرض وجودها من ذهن أو خارج إلا
أن هذا كله لا يلازم كونها إيجادية بالمعنى الذي ذكره (قدس سره)، لأن ربط الحروف بين
المفاهيم الاسمية في التراكيب الكلامية غير المربوطة بعضها ببعض إنما هو من
جهة دلالتها على معانيها التي وضعت بإزائها، لا من جهة إيجادها المعاني الربطية
في مرحلة الاستعمال والتركيب الكلامي.
مثلا: كلمة " في " في قولهم: " زيد في الدار " باعتبار دلالتها على معناها
الموضوع له رابطة بين جزئي هذا الكلام غير المربوط أحدهما بالآخر ذاتا، لا أنها
توجد الربط في نفس ذلك التركيب، ولا واقع له في غير التركيب الكلامي، فكما
أن الأسماء تحكي عن مفاهيمها الاستقلالية في حد أنفسها في عالم مفهوميتها
كذلك الحروف تحكي عن المفاهيم غير المستقلة كذلك.
فالكاشف في مقام الإثبات عن تعلق قصد المتكلم في مقام الثبوت بإفادة
المعاني الاستقلالية هو الأسماء، والكاشف عن تعلق قصده كذلك بإفادة المعاني
غير الاستقلالية هو الحروف وما يحذو حذوها.
ونتيجة ذلك: عدم الفرق بين الاسم والحرف إلا في نقطة واحدة، وهي: أن
المعنى الاسمي مستقل بحد ذاته في عالم المعنى، وبذلك يكون إخطاريا، والمعنى
الحرفي غير مستقل كذلك فلا يخطر في الذهن إلا بتبع معنى استقلالي، وهذا لا
يستلزم كونه إيجاديا.
73

ومن هنا يظهر فساد ما أفاده (قدس سره): من أن المعنى: إما إخطاري مستقل، وإما
إيجادي غير مستقل، ولا ثالث لهما، فالأول معنى اسمي، والثاني معنى حرفي.
وتوضيح الفساد: هو أن المعنى الحرفي وإن لم يكن إخطاريا في نفسه لعدم
استقلاله في نفسه إلا أنه ليس بإيجادي أيضا، لما قدمناه: من أن له نحو ثبوت في
وعاء المفاهيم كالمعنى الاسمي.
وقد ظهر مما ذكرناه أمران:
الأول: بطلان القول بأن المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية إيجادية محضة،
وليس لها ثبوت في أي وعاء إلا الثبوت في ظرف الاستعمال، وأن المعاني
الحرفية تساوي المعاني الاسمية في أنها متقررة في عالم المفهومية والتعقل.
الثاني: أن عدم استقلالية المعاني الحرفية في حد أنفسها وتقومها بالمفاهيم
الاسمية المستقلة لا يستلزم كونها إيجادية، لإمكان أن يكون المعنى غير مستقل
في نفسه، ومع ذلك لا يكون إيجاديا.
وأما ما ذكره (قدس سره) رابعا: من أن المعاني الحرفية مغفول عنها في حال
الاستعمال - دون المعاني الاسمية - فلا أصل له أيضا، وذلك لأنهما من واد واحد
من تلك الجهة، فكما أن اللحاظ الاستقلالي يتعلق بإفادة المعاني الاسمية عند
الحاجة إلى إبرازها والتعبير عنها فكذلك يتعلق بالمفاهيم الحرفية من دون
فرق بينهما في ذلك، بل كثيرا ما يتعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعاني الحرفية،
وإنما يؤتى بغيرها في الكلام مقدمة لإفادة تلك الخصوصية والتضييق، فيقال في
جواب السائل عن كيفية مجئ زيد مع العلم بأصله: إنه جاء في يوم كذا، ومعه
كيف يمكن القول بأن المعاني الحرفية ملحوظة آلة في حال الاستعمال، ومغفول
عنها في تلك الحال؟
فقد تحصل مما بيناه: أن الفرق بين المعنى الحرفي والاسمي في نقطة واحدة،
هي: استقلال المعنى بالذات في الاسم وعدم استقلاله في الحرف، وأما من بقية
74

الجهات فلا فرق بينهما أصلا.
وبذلك يتضح فساد ما أفاده (قدس سره): من أن الفرق بينهما في أركان أربعة،
وتوضيح الفساد: أن الأركان التي جعلها ملاك الفرق في المقام كلها فاسدة:
أما الركن الأول: فلأنه يبتني على المقابلة بين إيجادية المعاني وإخطاريتها
فنفي الأولى يستلزم إثبات الثانية. ولكنك عرفت: أنه لا مقابلة بينهما أصلا، ومعه
لا يكون نفي الإيجادية عن المعاني الحرفية مستلزما لإخطاريتها، فإن ملاك
إخطارية المعنى الاستقلال الذاتي، فإذا كان كذلك يخطر في الذهن عند التعبير
عنه، سواء أكان في ضمن تركيب كلامي أم لم يكن، وملاك عدم الإخطارية عدم
الاستقلال كذلك، ولذا لا يخطر في الذهن عند التكلم به منفردا، وهذا غير كونه
إيجاديا، وعليه فلا مقابلة بينهما.
وأما الركن الثاني: وهو أنه لا واقع للمعاني الحرفية بما هي معان حرفية في ما
عدا التراكيب الكلامية، فلما بيناه: من أنها كالمعاني الاسمية ثابتة ومتقررة في
عالم المفهومية، سواء استعملت الحروف والأدوات فيها أم لم تستعمل، غاية الأمر
لا استقلال لها بحسب الذات.
وأما الركن الثالث: وهو الفرق بين الإيجاد في الإنشاء والإيجاد في الحروف
فيظهر فساده بما ذكرناه: من أن معانيها ليست إيجادية ليكون الفرق بينهما مبتنيا
على ما ذكره (قدس سره): من أنه لا وعاء لها غير الاستعمال والتركيب الكلامي، وهذا
بخلاف الإيجاد في الإنشاء فإن له وعاء مناسبا وهو عالم الاعتبار.
وأما الركن الرابع: وهو أن حال المعاني الحرفية حال الألفاظ حين
استعمالاتها فيتضح بطلانه أيضا بما تقدم.
ثم إن من الغريب جدا أنه (قدس سره) جعل هذا الركن هو الركن الوطيد في المقام،
وذكر: أن بانهدامه تنهدم الأركان كلها، فإن المعنى الحرفي لو كان ملتفتا إليه لكان
75

إخطاريا وكان له واقع غير التركيب الكلامي، وذلك لأنه - مضافا إلى ما بيناه من
أن المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي - مقصود في مقام التفهيم أن الملاك في
إخطارية المعنى استقلاليته بالذات كما عرفت، لا الالتفات إليه واللحاظ
الاستقلالي، ضرورة أن الالتفات إلى المعنى لا يجعله إخطاريا إذا لم يكن مستقلا
بحد ذاته، بحيث كلما يطلق يخطر في الذهن ولو كان وحده ولم يكن في ضمن
تركيب كلامي، ومن هنا قلنا: إن المعنى الحرفي مع كونه ملتفتا إليه غير إخطاري،
لعدم استقلاله في عالم مفهوميته.
وأما ما ذكره (قدس سره) خامسا: من أن جميع ما يكون النظر إليه آليا يشبه المعاني
الحرفية فيرد عليه:
أولا: ما ذكرناه الآن: من أن النظر إلى المعنى الحرفي كالنظر إلى المعنى
الاسمي استقلالي.
وثانيا: لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن النظر إليه آلي، إلا أنه لا يكون ملاكا
لحرفية المعنى، كما أن اللحاظ الاستقلالي لا يكون ملاك الاسمية، بل ملاك المعنى
الحرفي التبعية الذاتية وأنها تعليقية (1) محضة، وملاك الثانية الاستقلالية الذاتية
وأنها بحد ذاتها غير متقومة بالغير.
وبتعبير آخر: أنه على المبنى الصحيح كما بنى (قدس سره) عليه من أن المعنى الحرفي
والاسمي متباينان بالذات والحقيقة لا يدور المعنى الحرفي والاسمي بما هما
كذلك مدار اللحاظ الآلي والاستقلالي، بداهة أن المعنى حرفي وإن لوحظ
استقلالا، واسمي وإن لوحظ آلة، لعدم كونهما متقومين بهما ليختلف باختلافهما.
القول الرابع: ما اختاره بعض مشايخنا المحققين (قدس سرهم) (2): من أن المعاني
الحرفية والمفاهيم الأدوية عبارة عن النسب والروابط الخارجية التي ليس لها

(1) كذا، والظاهر: تعلقية.
(2) منهم: المحقق الإصفهاني في نهاية الدراية: ج 1 ص 23.
76

استقلال بالذات، بل هي عين الربط لا ذات له الربط.
وأفاد في وجه ذلك ما ملخصه: أن المعاني الحرفية تباين الاسمية ذاتا بدون
أن تشتركا في طبيعي معنى واحد، فإن الفرق بين الاسم والحرف لو كان بمجرد
اللحاظ الآلي والاستقلالي وكانا متحدين في المعنى لكان قابلا لأن يوجد في
الخارج على نحوين كما يوجد في الذهن كذلك، مع أن المعاني الحرفية: كأنحاء
النسب والروابط لا توجد في الخارج إلا على نحو واحد وهو الوجود لا في نفسه.
وبيان ذلك: أن الفلاسفة قد قسموا الوجود على أقسام أربعة:
القسم الأول: وجود الواجب تعالى شأنه، فإن وجوده في نفسه ولنفسه
وبنفسه، يعني: أنه موجود قائم بذاته، وليس بمعلول لغيره، فالكائنات التي يتشكل
منها العالم بشتى ألوانها وأشكالها معلولة لوجوده تعالى وتقدس، فإنه سبب أعمق،
واليه تنتهي سلسلة العلل والأسباب بشتى أشكالها وأنحائها.
القسم الثاني: وجود الجوهر، وهو وجود في نفسه ولنفسه ولكن بغيره، يعني:
أنه قائم بذاته، لكنه معلول لغيره، ولذا يقال: الجوهر ما يوجد في نفسه لنفسه.
القسم الثالث: وجود العرض، وهو وجود في نفسه ولغيره، يعني: أنه غير قائم
بذاته، بل متقوم بموضوع محقق في الخارج وصفة له، فإن وجوده في نفسه عين
وجوده لموضوعه، فلا يعقل تحقق عرض ما بدون موضوع موجود في العين، ولذا
يقال: العرض ما يوجد في نفسه لغيره، ويسمى ذلك الوجود بالوجود الرابطي في
الاصطلاح.
القسم الرابع: الوجود الرابط في مقابل الوجود الرابطي، وهو وجود لا في
نفسه، فإن حقيقة الربط والنسبة لا توجد في الخارج إلا بتبع وجود المنتسبين
من دون نفسية واستقلال لها أصلا، فهي بذاتها متقومة بالطرفين لا في وجودها،
وهذا بخلاف العرض فإن ذاته غير متقومة بموضوعه، بل لزوم القيام به ذاتي
وجوده.
77

وقد استدلوا على ذلك - أي: على الوجود الرابط في مقابل الوجود الرابطي -:
بأن كثيرا ما كنا نتيقن بوجود الجوهر والعرض، ولكن نشك في ثبوت العرض له،
ومن الواضح جدا أنه لا يعقل أن يكون المتيقن بعينه هو المشكوك فيه، بداهة
استحالة تعلق صفة اليقين والشك بشئ في آن واحد، لتضادهما غاية المضادة،
وبذلك نستدل على أن للربط والنسبة وجودا في مقابل وجود الجوهر والعرض،
وهو مشكوك فيه دون وجودهما.
أما أن وجوده وجود لا في نفسه فلأن النسبة والربط لو وجدت في الخارج
بوجود نفسي لزمه أن لا يكون مفاد القضية الحملية ثبوت شئ لشئ، بل ثبوت
أشياء ثلاثة، فيحتاج - حينئذ - إلى الرابطة بين هذه الموجودات الثلاثة، فإذا كان
موجودا في نفسه احتجنا إلى رابطة، وهكذا إلى ما لا يتناهى.
ويترتب على ذلك: أن الأسماء موضوعة للماهيات القابلة للوجود
المحمولي (الوجود في نفسه) بجواهرها وأعراضها على نحوين، كما توجد في
الذهن كذلك والتي تقع في جواب (ما هو) إذا سئل عن حقيقتها.
والحروف والأدوات موضوعة للنسب والروابط الموجودات، لا في أنفسها
المتقومة بالغير بحقيقة ذاتها لا بوجوداتها فقط، ولا تقع في جواب (ما هو)، فإن
الواقع في جواب (ما هو) ما كان له ماهية تامة، ووجود الرابط سنخ وجود لا ماهية
له، ولذا لا يدخل تحت شئ من المقولات، بل كان وجوده أضعف جميع مراتب
الوجودات.
ومن هنا يظهر: أن تنظير المعنى الحرفي والاسمي بالجوهر والعرض في غير
محله، إذ العرض موجود في نفسه لغيره.
ثم إن الحروف والأدوات لم توضع لمفهوم النسبة والربط فإنه من المفاهيم
الاسمية الاستقلالية في عالم مفهوميتها، وإنما الموضوع لها الحروف واقع النسبة
78

والربط - أي: ما هو بالحمل الشائع نسبة وربط - الذي نسبة ذلك المفهوم إليه نسبة
العنوان إلى المعنون، لا الطبيعي وفرده فإنه متحد معه ذهنا وخارجا دون العنوان،
فإنه لا يتعدى عن مرحلة الذهن إلى الخارج، ومغاير للمعنون ذاتا ووجودا: نظير
مفهوم العدم، وشريك الباري عز وجل، واجتماع النقيضين، بل مفهوم الوجود على
القول بأصالة الوجود، فإن نسبة هذه المفاهيم إلى واقعها نسبة العنوان إلى المعنون
لا الطبيعي وأفراده، لأن تلك المفاهيم لا تتعدى عن مرحلة الذهن إلى الخارج،
ولأجل ذلك لا يصح حملها على واقعها بالحمل الشائع الصناعي، فمفهوم النسبة
والربط نسبة وربط بالحمل الأولي الذاتي، ولا يكون كذلك بالحمل الشائع
الصناعي، فإن ما كان بهذا الحمل نسبة وربط معنون هذا العنوان وواقعه.
ومن ثمة كان المتبادر من إطلاق لفظ " الربط والنسبة " واقعه لا مفهومه،
فإن إرادته تحتاج إلى عناية زائدة، كما هو الحال في قولهم: " شريك الباري
ممتنع "، و " اجتماع النقيضين مستحيل "، و " المعدوم المطلق لا يخبر عنه "، فإن
المحكوم به بهذه الأحكام معنونات هذه الأمور لا مفاهيمها فإنها غير محكومة بها،
كيف، وأنها موجودة وغير معدومة ولا ممتنعة؟ (1)
تحصل مما ذكرناه: أن الحروف موضوعة لأنحاء النسب والروابط مطلقا،
سواء أكانت بمفاد " هل المركبة "، أم بمفاد " هل البسيطة "، أم كانت من النسب
الخاصة المقومة للأعراض النسبية: ككون الشئ في الزمان أو المكان، أو نحو ذلك.
وأما الموضوع بإزاء مفاهيمها فهي ألفاظ النسبة والربط ونحوهما من الأسماء
المحكية عنها بتلك الألفاظ، لا بالحروف والأدوات. هذا ملخص ما أفاده شيخنا
المحقق (قدس سره).
أقول: يقع الكلام هنا في مقامين:
المقام الأول: في أن للنسبة والربط وجودا في الخارج في مقابل وجودي

(1) نهاية الدراية ج (1) ص 23 - 26.
79

الجوهر والعرض، أم لا؟
المقام الثاني: على تقدير تسليم أن لها وجودا فهل الحروف موضوعة لها؟
أما الكلام في المقام الأول: فالصحيح هو أنه لا وجود لها في الخارج في
قبال وجود الجوهر أو العرض وإن أصر على وجودها جماعة من الفلاسفة.
والوجه في ذلك: هو أنه لا دليل على ذلك سوى البرهان المذكور وهو غير
تام، وذلك لأن صفتي اليقين والشك وإن كانتا صفتين متضادتين فلا يكاد يمكن
أن تتعلقا بشئ في آن واحد من جهة واحدة، إلا أن تحققهما في الذهن لا
يكشف عن تعدد متعلقهما في الخارج، فإن الطبيعي عين فرده ومتحد معه خارجا
ومع ذلك يمكن أن يكون أحدهما متعلقا لصفة اليقين والآخر متعلقا لصفة الشك،
كما إذا علم إجمالا بوجود إنسان في الدار ولكن شك في أنه زيد أو عمرو فلا
يكشف تضادهما عن تعدد متعلقيهما بحسب الوجود الخارجي، فإنهما موجودان
بوجود واحد حقيقة، وذلك الوجود الواحد من جهة انتسابه إلى الطبيعي متعلق
لليقين، ومن جهة انتسابه إلى الفرد متعلق للشك. أو إذا أثبتنا أن للعالم مبدأ ولكن
شككنا في أنه واجب أو ممكن على القول بعدم استحالة التسلسل فرضا، أو أثبتنا
أنه واجب ولكن شككنا في أنه مريد أو لا، إلى غير ذلك، مع أن صفاته تعالى عين
ذاته خارجا وعينا، كما أن وجوبه كذلك.
وما نحن فيه من هذا القبيل فإن اليقين متعلق بثبوت طبيعي العرض للجوهر،
والشك متعلق بثبوت حصة خاصة منه له، فليس هنا وجودان: أحدهما متعلق
لليقين والآخر للشك، بل وجود واحد حقيقة مشكوك فيه من جهة ومتيقن من
جهة أخرى.
تلخص: أن تضاد صفتي اليقين والشك لا يستدعي إلا تعدد متعلقهما في أفق
النفس، وأما في الخارج عنه فقد يكون متعددا وقد يكون متحدا.
وإن شئت فقل: إن الممكن في الخارج: إما جوهر أو عرض، وكل منهما زوج
80

تركيبي - يعني: مركب من ماهية ووجود - ولا ثالث لهما. والمفروض أن ذلك
الوجود - أي: الوجود الرابط - سنخ وجود لا ماهية له فلا يكون من أقسام
الجوهر، ولا من أقسام العرض، والمفروض أنه ليس في الخارج موجود آخر لا
يكون من أقسام الجوهر ولا العرض.
وأما الكلام في المقام الثاني: على تقدير تسليم أن للنسبة والربط وجودا في
الخارج في مقابل الجوهر والعرض: فلا نسلم أن الحروف والأدوات موضوعة
لها، لما بيناه سابقا: من أن الألفاظ موضوعة لذوات المفاهيم والماهيات، لا
للموجودات الخارجية ولا الذهنية، فإن الأولى غير قابلة للإحضار في الذهن،
وإلا فلا تكون بخارجية. والثانية غير قابلة للإحضار ثانيا، فإن الموجود الذهني لا
يقبل وجودا ذهنيا آخر، والمفروض أن الغرض من الوضع التفهيم والتفهم وهو لا
يجتمع مع الوضع للموجود الذهني أو الخارجي، بل لا بد أن يكون الوضع لذات
المعنى القابل لنحوين من الوجود.
وبتعبير آخر: أن اللفظ موضوع بإزاء المعنى اللا بشرطي، سواء أكان موجودا
في الخارج أم معدوما، ممكنا كان أو ممتنعا. وقد يعبر عنه ب‍ " الصور المرتسمة
العلمية " أيضا، وعلى ذلك فلا يمكن أن تكون الحروف موضوعة لأنحاء النسب
والروابط، لأنها - كما عرفت - سنخ وجود لا ماهية لها فلا تكون قابلة للإحضار
في الذهن. وأما مفاهيم نفس النسب والروابط فهي من المفاهيم الاسمية، وليست
مما وضعت لها الحروف والأدوات.
هذا، ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا إمكان وضع اللفظ للموجود بما هو، ولكنا
نقطع بأن الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط، لصحة استعمالها بلا عناية في
موارد يستحيل فيها تحقق نسبة ما حتى بمفاد (هل البسيطة) فضلا عن المركبة، فلا
فرق بين قولنا: " الوجود للإنسان ممكن " و " لله تعالى ضروري " و " لشريك
الباري مستحيل "، فإن كلمة " اللام " في جميع ذلك تستعمل في معنى واحد، وهو:
81

تخصص مدخولها بخصوصية ما في عالم المعنى على نسق واحد بلا عناية في
شئ منها، وبلا لحاظ أية نسبة في الخارج حتى بمفاد " كان التامة "، فإن تحقق
النسبة بمفاد " كان التامة " إنما هو بين ماهية ووجودها كقولك: " زيد موجود ".
وأما في الواجب تعالى وصفاته وفي الانتزاعيات والاعتبارات فلا يعقل فيها
تحقق أية نسبة أصلا.
فالمتحصل مما ذكرناه: هو أن صحة استعمال الحروف في موارد يستحيل
فيها ثبوت أية نسبة خارجية كما في صفات الواجب تعالى وغيرها من دون لحاظ
أية علاقة تكشف كشفا يقينيا عن أن الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط
في الخارج.
ومن هنا يظهر: أن حكمة الوضع لا تدعو إلى وضع الحروف لتلك النسب،
وإنما تدعو إلى وضعها لما يصح استعمالها فيه في جميع الموارد. فهذا القول لو تم
فإنما يتم في خصوص الجواهر والأعراض، وما يمكن فيه تحقق النسبة بمفاد
" هل البسيطة "، وأما في غير تلك الموارد فلا.
القول الخامس: ما عن بعض الأعاظم (قدس سرهم): من أن الحروف والأدوات وضعت
للأعراض النسبية الإضافية، كمقولة: الأين والإضافة ونحوهما. وملخص ما
أفاده (قدس سره): هو أن الموجود في الخارج على أنحاء ثلاثة:
النحو الأول: ما يكون وجوده وجودا لنفسه: كالجوهر بأصنافه.
النحو الثاني: ما يكون وجوده في نفسه وجودا لغيره: كالأعراض التسع التي
قد يعبر عن وجودها بالوجود الرابطي، وهي على طائفتين:
إحداهما: ما يحتاج في تحققه إلى موضوع واحد في الخارج ويستغنى به:
كالكم والكيف ونحوهما.
والثانية: ما يحتاج في تحققه إلى موضوعين ليتقوم بهما: كالعرض الأيني
والإضافي وغير ذلك.
82

النحو الثالث: ما يكون وجوده لا في نفسه: كأنحاء النسب والروابط.
وعلى ذلك فنقول: إن الحاجة دعت العقلاء إلى وضع الألفاظ التي تدور عليها
الإفادة والاستفادة، وبعد أن فحصنا وجدنا أنهم وضعوا الأسماء للجواهر وعدة
من الأعراض، ووضعوا الهيئات من المركبات والمشتقات للنسب والروابط،
ووضعوا الحروف للأعراض النسبية الإضافية. فكلمة " في " - مثلا - في قولنا:
" زيد في الدار " تدل على العرض الأيني العارض على موضوعه: كزيد، والهيئة
تدل على ربط هذا العرض بموضوعه، وهكذا...
وإن شئت قلت: إن المعاني منحصرة بالجواهر والأعراض وربطها بمحلها ولا
رابع لها. ومن المعلوم أن الحروف لم توضع للأولى، ولا لبعض الأقسام الثانية، لأن
الموضوع لها الأسماء، ولا للثالثة، لأن الموضوع لها الهيئات، فلا محالة تكون
موضوعة للأعراض النسبية الإضافية. فكلمة " في " وضعت للأين الظرفي، وكلمة
" من " للأين الابتدائي، وهكذا...، ولا فرق في ذلك بين أقسام الحروف مطلقا من
الداخل على المركبات الناقصة والداخل على المركبات التامة: كحروف التمني
والترجي والتشبيه ونحوها (1).
والجواب عنه يظهر بما ذكرناه من الجواب عن القول الثالث.
وتوضيح الظهور: أولا: أنا نقطع بعدم كون الحروف موضوعة للأعراض
النسبية الإضافية، لصحة استعمالها فيما يستحيل فيه تحقق عرض نسبي كما في
صفات الواجب تعالى والاعتبارات والإنتزاعيات، فإن العرض إنما هو صفة
للموجود في الخارج فلا يعقل تحققه بلا موضوع محقق خارجا، وعليه فيستحيل
وجوده في تلك الموارد.
وكيف كان، فلا شبهة في فساد هذا القول، فإن صحة استعمال الحروف في
الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد بلا لحاظ عناية في شئ منها تكشف

(1) بدايع الأفكار للمحقق العراقي ج 1 ص 49.
83

كشفا قطعيا عن أن الموضوع لها المعنى الجامع الموجود في جميع هذه الموارد
على نحو واحد، لا خصوص الأعراض النسبية الإضافية.
وثانيا: أن ذلك أفسد من القول السابق، بل لا يترقب صدوره من مثله (قدس سره).
والوجه فيه: هو ما بيناه: من أن للأعراض التسع جميعا مفاهيم مستقلة بحد ذاتها
وأنفسها في عالم مفهوميتها، من دون فرق بين الأعراض النسبية وغيرها، غاية
الأمر أن الأعراض النسبية تتقوم في وجودها بأمرين، وغير النسبية لا تتقوم إلا
بموضوعها. وكيف، فإن الأعراض جميعا موجودات في أنفسها وإن كان وجودها
لموضوعاتها؟
وقد تلخص من ذلك: أن الحروف والأدوات لم توضع للأعراض النسبية
الإضافية، بل الموضوع لها هي الأسماء: ككلمة " الظرفية " و " الابتداء "
و " الاستعلاء "، ونحوها. هذا كله بالإضافة إلى معاني الحروف.
وأما ما ذكره (قدس سره) بالإضافة إلى معاني الهيئات وأنها موضوعة لأنحاء النسب
والروابط فيرد عليه عين ما أوردناه (1) على القول المتقدم: من عدم الدليل على
وجود النسبة في الخارج في مقابل وجود الجوهر أو العرض أولا، وعدم وضع
اللفظ لها ثانيا، وعدم ثبوتها في جميع موارد استعمالاتها ثالثا، على تفصيل تقدم.
والنتيجة لحد الآن: ظهور بطلان جميع الأقوال والآراء التي سبقت، وعدم
إمكان المساعدة على واحد منها. وعلى ذلك فيجب علينا أن نختار رأيا آخر في
مقابل هذه الآراء.
التحقيق: أن المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية وإن كانت مرتكزة في أذهان
كل أحد ومعلومة لديه إجمالا - ولذا يستعملها فيها عند الحاجة إلى تفهيمها - إلا أن
الداعي إلى البحث عنها في المقام حصول العلم التفصيلي بها.

(1) تقدم في ص 80 فراجع.
84

وبيان ذلك: أن الحروف والأدوات تباين الأسماء ذاتا وحقيقة، ولا اشتراك
لهما في طبيعي معنى واحد. وقد تبين حكم هذه الناحية من مطاوي كلماتنا فيها،
وأنه لا شبهة في تباين المعنى الاسمي والحرفي بالذات، فلا حاجة إلى الإعادة
والبيان.
ونتكلم فيها فعلا من ناحية أخرى بعد الفراغ عن تلك الناحية، وهي: أن
المعاني الحرفية التي تباين الاسمية بتمام الذات ما هي؟
فنقول: إن الحروف على قسمين:
أحدهما: ما يدخل على المركبات الناقصة والمعاني الأفرادية: ك‍ " من "
و " إلى " و " على " ونحوها.
والثاني: ما يدخل على المركبات التامة ومفاد الجملة: كحروف النداء
والتشبيه والتمني والترجي وغير ذلك.
أما القسم الأول: فهو موضوع لتضييق المفاهيم الاسمية في عالم المفهوم
والمعنى وتقييدها بقيود خارجة عن حقائقها، ومع هذا لأنظر لها إلى النسب
والروابط الخارجية، ولا إلى الأعراض النسبية الإضافية، فإن التخصيص
والتضييق إنما هو في نفس المعنى، سواء أكان موجودا في الخارج أم لم يكن.
توضيح ذلك: أن المفاهيم الاسمية بكليتها وجزئيتها وعمومها وخصوصها
قابلة للتقسيمات إلى غير النهاية باعتبار الحصص أو الحالات التي تحتها، ولها
إطلاق وسعة بالقياس إلى هذه الحصص أو الحالات، سواء أكان الإطلاق بالقياس
إلى الحصص المنوعة: كإطلاق الحيوان - مثلا - بالإضافة إلى أنواعه التي تحته، أو
بالقياس إلى الحصص المصنفة أو المشخصة: كإطلاق الإنسان بالنسبة إلى أصنافه
أو أفراده، أو بالقياس إلى حالات شخص واحد من كمه وكيفه وسائر أعراضه
الطارئة وصفاته المتبادلة على مر الزمن.
ومن البديهي أن غرض المتكلم في مقام التفهيم والإفادة كما يتعلق بتفهيم
85

المعنى على إطلاقه وسعته كذلك قد يتعلق بتفهيم حصة خاصة منه، فيحتاج
- حينئذ - إلى مبرز لها في الخارج. وبما أنه لا يكاد يمكن أن يكون لكل واحد من
الحصص أو الحالات مبرزا مخصوصا - لعدم تناهي الحصص والحالات، بل عدم
تناهي حصص أو حالات معنى واحد فضلا عن المعاني الكثيرة - فلا محالة
يحتاج الواضع الحكيم إلى وضع ما يدل عليها ويوجب إفادتها عند قصد
المتكلم تفهيمها، وليس ذلك إلا الحروف والأدوات وما يشبهها من الهيئات الدالة
على النسب الناقصة: كهيئات المشتقات وهيئة الإضافة والتوصيف.
فكل متكلم متعهد في نفسه بأنه متى ما قصد تفهيم حصة خاصة من معنى أن
يجعل مبرزه حرفا مخصوصا أو ما يشبهه على نحو القضية الحقيقية، لا بمعنى أنه
جعل بإزاء كل حصة أو حالة حرفا مخصوصا أو ما يحذو حذوه بنحو الوضع
الخاص والموضوع له الخاص، لما عرفت من أنه غير ممكن من جهة عدم تناهي
الحصص. فكلمة " في " في جملة " الصلاة في المسجد حكمها كذا " تدل على أن
المتكلم أراد تفهيم حصة خاصة من الصلاة، وفي مقام بيان حكم هذه الحصة لا
الطبيعة السارية إلى كل فرد. وأما كلمتي " الصلاة " و " المسجد " فهما مستعملتان
في معناهما المطلق واللابشرط، بدون أن تدلا على التضييق والتخصيص أصلا.
ومن هنا كان تعريف الحرف: " بما دل على معنى قائم بالغير " من أجود
التعريفات وأحسنها، وموافق لما هو الواقع ونفس الأمر، ومطابق لما ارتكز في
الأذهان من أن المعنى الحرفي خصوصية قائمة بالغير وحالة له.
وإن شئت فعبر: أن الأسماء بجواهرها وأعراضها وغيرهما تدل على المعاني
المطلقة اللا بشرطية، ولا يدل شئ منها على تضييقات هذه المعاني وتخصيصاتها
بخصوصيات، فلا محالة انحصر أن يكون الدال عليها هو الحروف أو ما يقوم
مقامها، مثلا: كلمة " الدور " موضوعة لمعنى جامع وسيع ودالة عليه، ولكن قد
يتعلق الغرض بتفهيم حصة خاصة منه، وهي: خصوص الحصة المستحيلة مثلا،
86

فإذا ما الذي يوجب إفادتها؟ وليس ذلك إلا الحرف أو ما يشبهه، لعدم دال آخر
على الفرض، ونفس الكلمة لا تدل إلا على الطبيعي الجامع، وهكذا...
وبكلمة واضحة: أن وضع الحروف لذلك المعنى من نتائج وثمرات مسلكنا
في مسألة الوضع، فإن القول بالتعهد لا محالة يستلزم وضعها لذلك، حيث عرفت (1)
أن الغرض قد يتعلق بتفهيم الطبيعي، وقد يتعلق بتفهيم الحصة، والمفروض أنه لا
يكون عليها دال ما عدا الحروف وتوابعها، فلا محالة يتعهد الواضع ذكرها أو ذكر
توابعها عند قصد تفهيم حصة خاصة. فلو قصد تفهيم حصة من طبيعي الماء - مثلا -
كماء له مادة أو ماء البئر يبرزه بقوله: " ما كان له مادة لا ينفعل بالملاقاة " أو " ماء
البئر معتصم " فكلمة " اللام " في الأول وهيئة الإضافة في الثاني تدلان على أن
المراد من الماء ليس هو الطبيعة السارية إلى كل فرد، بل خصوص حصة منه.
ولا فرق في ذلك بين أن تكون الحصص موجودة في الخارج أو معدومة،
ممكنة كانت أو ممتنعة. ومن هنا يصح استعمالها في صفات الواجب تعالى
والإنتزاعيات: كالإمكان والامتناع ونحوهما، والاعتباريات: كالأحكام الشرعية
والعرفية بلا لحاظ عناية في البين. مع أن تحقق النسبة في تلك الموارد حتى بمفاد
" هل البسيطة " مستحيل.
وجه الصحة: هو أن الحروف وضعت لإفادة تضييق المعنى في عالم
المفهومية، مع قطع النظر عن كونه موجودا في الخارج أو معدوما، ممكنا كان أو
ممتنعا، فإنها على جميع التقادير تدل على تضييقه وتخصيصه بخصوصية ما على
نسق واحد.
فلا فرق بين قولنا: " ثبوت القيام لزيد ممكن " و: " ثبوت القدرة لله تعالى
ضروري " و: " ثبوت الوجود لشريك الباري ممتنع "، فكلمة " اللام " في جميع ذلك
استعملت في معنى واحد، وهو: تخصص مدخولها بخصوصية ما في عالم المعنى،

(1) تقدم في ص 86 فراجع.
87

بلا نظر لها إلى كونه محكوما بالإمكان في الخارج أو بالضرورة أو بالامتناع، فإن
كل ذلك أجنبي عن مدلولها، ومن هنا يكون استعمالها في الواجب والممكن
والممتنع على نسق واحد بلا لحاظ عناية في شئ منها.
نعم، إنها تحدث الضيق في مقام الإثبات والدلالة، وإلا لبقيت المفاهيم
الاسمية على إطلاقها وسعتها، وهذا غير كون معانيها إيجادية، وكم فرق بين
الإيجادية بهذا المعنى والإيجادية بذلك المعنى!.
وأما بحسب مقام الثبوت فهي تكشف عن تعلق قصد المتكلم بإفادة ضيق
المعنى الاسمي، فما يستعمل فيه الحرف ليس إلا الضيق في عالم المفهومية، من
دون لحاظ نسبة خارجية حتى في الموارد الممكنة كما في الجواهر والأعراض،
فضلا عن ما يستحيل فيه تحقق نسبة ما، كما في صفات الواجب تعالى وما شاكلها.
وعلى الجملة: حيث إن الأغراض تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان
والحالات فالمستعملين بمقتضى تعهداتهم النفسانية يتعهدون أن يتكلموا
بالحروف أو ما يشبهها عند تعلق أغراضهم بتفهيم حصص المعاني وتضييقاتها. فلو
أن أحدا تعلق غرضه بتفهيم الصلاة الواقعة بين زوال الشمس وغروبها يبرزه بقوله:
" الصلاة فيما بين الحدين حكمها كذا "، وهكذا...
وملخص ما ذكرناه في المقام: هو أن المفاهيم الاسمية وإن كان بعضها أوسع
من بعضها الآخر - مثلا: مفهوم الممكن أوسع من مفهوم الوجود، وهو أوسع من
مفهوم الجوهر، وهكذا إلى أن ينتهي إلى مفهوم لا يكون تحته مفهوم آخر، ولكل
واحد منها لفظ مخصوص يدل عليه عند الحاجة إلى تفهيمه - إلا أن حصصها أو
حالاتها غير المتناهية لم توضع بإزاء كل واحدة منها لفظ خاص كي يدل عليها
عند الحاجة، وذلك لعدم تناهيها، فإذا ما هو الذي يوجب إفادتها في الخارج؟
وليس ذلك إلا الحروف أو ما يشبهها بالتقريب الذي قدمناه: من أن الواضع تعهد
بذكر حرف خاص عند قصد تفهيم حصة خاصة من المعنى، ففي كل مورد قصد
88

ذلك جعل مبرزه حرفا من الحروف على اختلاف الموارد والمقامات.
تتلخص نتيجة ما ذكرناه في أمور:
الأمر الأول: أن المعاني الحرفية تباين الاسمية ذاتا، ولا اشتراك لهما في
طبيعي معنى واحد، فإنها متدليات بها بحد ذاتها، وهي مستقلات في أنفسها، ولا
جامع بين الأمرين أصلا.
الأمر الثاني: أن معانيها ليست بإيجادية، ولا بنسبة خارجية، ولا بأعراض
نسبية إضافية، بل هي: عبارة عن تضييقات نفس المعاني الاسمية في عالم
المفهومية وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها، بلا نظر إلى أنها موجودة في
الخارج أو معدومة، ممكنة أو ممتنعة. ومن هنا قلنا (1): إن استعمالها في الواجب
والممكن والممتنع على نسق واحد.
والذي دعاني إلى اختيار ذلك القول أسباب أربعة:
السبب الأول: بطلان سائر الأقوال والآراء.
السبب الثاني: أن المعنى الذي ذكرناه مشترك فيه بين جميع موارد استعمال
الحروف من الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد، وليس في المعاني
الاخر ما يكون كذلك كما عرفت (2).
السبب الثالث: أن ما سلكناه (3) في باب الوضع من أن حقيقة الوضع هي
التعهد والتباني ينتج الالتزام بذلك القول لا محالة، ضرورة أن المتكلم إذا
قصد تفهيم حصة خاصة فبأي شئ يبرزه؟ إذ ليس المبرز له إلا الحرف أو
ما يقوم مقامه.
السبب الرابع: موافقة ذلك للوجدان، ومطابقته لما ارتكز في الأذهان، فإن

(1) تقدم في ص 87 - 88 فراجع.
(2) انظر الهامش السابق.
(3) تقدم في ص 52 فراجع.
89

الناس يستعملونها لإفادة حصص المعاني وتضييقاتها في عالم المعنى، غافلين
عن وجود تلك المعاني في الخارج أو عدم وجودها، وعن إمكان تحقق النسبة
بينها أو عدم إمكانها.
ودعوى: إعمال العناية في جميع ذلك يكذبها صريح الوجدان والبداهة كما لا
يخفى، فهذا يكشف قطعيا عن أن الموضوع له الحرف ذلك المعنى لا غيره.
الأمر الثالث: أن معانيها جميعا حكائية، ومع ذلك لا تكون إخطارية، لأن
ملاك إخطارية المعنى الاستقلالية الذاتية في عالم المفهوم والمعنى، وهي غير
واجدة لذلك الملاك، وملاك حكائية المعنى نحو من الثبوت في عالم المعنى هي
واجدة له، فلا ملازمة بين عدم كونها إخطارية وكونها إيجادية كما عن شيخنا
الأستاذ (1) (قدس سره).
الأمر الرابع: في نقاط الامتياز بين رأينا وسائر الآراء:
يمتاز رأينا عن القول بأن معاني الحروف إيجادية في نقطة واحدة، وهي: أن
المعنى الحرفي على ذلك الرأي ليس له واقع في أي وعاء، ما عدا التراكيب
الكلامية. وأما على رأينا فله واقع، وهو عالم المفهوم وثابت فيه كالمعنى الاسمي،
غاية الأمر بثبوت تعلقي لا استقلالي.
ويمتاز عن القول بأن الحروف وضعت بإزاء النسب والروابط في نقطة واحدة
أيضا، وهي: أن المعنى الحرفي على ذلك الرأي سنخ وجود خارجي، وهو وجود
لا في نفسه، ولذا يختص بالجواهر والأعراض، ولا يعم الواجب والممتنع. وأما
على رأينا: فالمعنى الحرفي سنخ مفهوم ثابت في عالم المفهومية، ويعم الواجب
والممكن والممتنع على نسق واحد.
ويمتاز عن القول بأن الموضوع لها الحروف هي الأعراض النسبية في نقطتين:

(1) أجود التقريرات: ج 1 ص 20.
90

النقطة الأولى: أن المعنى الحرفي على ذلك الرأي مستقل بالذات. وأما على
رأينا: فهو غير مستقل بالذات.
النقطة الثانية: أن المعنى الحرفي على ذلك الرأي سنخ معنى يخص الجواهر
والأعراض، ولا يعم غيرهما. وأما على رأينا: فهو سنخ معنى يعم الجميع. هذا تمام
الكلام في القسم الأول من الحروف.
وأما القسم الثاني من الحروف: وهو ما يدخل على المركبات التامة، أو ما في
حكمها - كمدخول حرف النداء، فإنه وإن كان مفردا إلا أنه يفيد فائدة تامة - فحاله
حال الجمل الإنشائية.
بيان ذلك: أن الجمل على قسمين: أحدهما: إنشائية، والثاني: خبرية،
والمشهور بينهم: أن الأولى موضوعة لإيجاد المعنى في الخارج، ومن هنا فسروا
الإنشاء بإيجاد ما لم يوجد. والثانية موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع
أو نفيها عنه.
والصحيح - على ما سيأتي بيانه - أن الجملة الإنشائية (1) وضعت للدلالة على
قصد المتكلم إبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية عند إرادة تفهيمه. والجملة
الخبرية (2) موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن الواقع ثبوتا أو نفيا.
توضيح ذلك: أن هذا القسم من الحروف كالجملة الإنشائية، بمعنى: أنه وضع
للدلالة على قصد المتكلم إبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية عند قصد تفهيمه،
فحروف النداء ك‍ " يا " - مثلا - وضعت لإبراز قصد النداء وتوجيه المخاطب إليه،
وحروف الاستفهام موضوعة لإبراز طلب الفهم، وحروف التمني موضوعة لإبراز
التمني، وحروف الترجي موضوعة لإبراز الترجي، وكذا حروف التشبيه ونحوها.
وبتعبير آخر: أن وضع هذا القسم من الحروف لذلك المعنى أيضا من نتائج

(1) سيأتي في ص 100.
(2) سيأتي في ص 96.
91

وثمرات مسلكنا في مسألة الوضع، فإن لازم القول بالتعهد والالتزام هو تعهد كل
متكلم بأنه متى ما قصد تفهيم معنى خاص تكلم بلفظ مخصوص، فاللفظ مفهم له
ودال على أنه أراد تفهيمه به، فلو قصد تفهيم " التمني " يتكلم بلفظ خاص، وهو:
كلمة " ليت "، ولو قصد تفهيم " الترجي " يتكلم بكلمة " لعل "، وهكذا...، فالواضع
تعهد ذكر هذا القسم من الحروف عند إرادة إبراز أمر من الأمور النفسانية من
التمني والترجي ونحوهما.
ومن هنا يظهر بطلان ما عن شيخنا الأستاذ (1) (قدس سره): من أن معاني هذه
الحروف أيضا إيجادية ووجهه: ما تبين لك: من أن معانيها ثابتة في عالم المفهومية
كمعاني الجمل الإنشائية، ولا فرق بينهما من هذه الجهة.
فالنتيجة: هي أن حال هذا القسم من الحروف حال الجمل الإنشائية، كما أن
القسم الأول منها حاله حال الهيئات الناقصة. هذا تمام الكلام في المقام الأول.
وأما الكلام في المقام الثاني:
وهو: أن الموضوع له في الحروف عام أو خاص؟ فيتضح مما بيناه في المقام
الأول، فإن نتيجة ذلك: أن الموضوع له فيها خاص والوضع عام.
أما في الطائفة الأولى فلأنها لم توضع بإزاء مفاهيم التضييقات والتحصصات،
لأنها من المفاهيم الاسمية الاستقلالية في عالم مفهوميتها، بل لواقعها وحقيقتها
- أي: ما هو بالحمل الشائع - تضييق وتحصص، ومفاهيمها ليست بهذا الحمل
تضييقا وإن كان لذلك (2) بالحمل الأولي الذاتي. نعم، لابد من أخذ تلك
المفاهيم بعنوان المعرف والآلة للحاظ أفرادها ومصاديقها إجمالا حتى يمكن
الوضع بإزائها.
وبتعبير آخر: أنه كما لا يمكن أن يكون وضعها خاصا كالموضوع له - لما

(1) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 16.
(2) كذا، والظاهر كذلك.
92

تقدم (1): من أن حصص المعنى الواحد غير متناهية، فضلا عن المعاني الكثيرة،
فلا يمكن تصور كل واحد منها على وجه التفصيل - كذلك لا يمكن أن يكون
الموضوع لها عاما كالوضع، فإنه لا يعقل ذلك إلا أن توضع لمفاهيم الحصص
والتضييقات، والمفروض أنها من المفاهيم الاسمية، وليست من المعاني الحرفية
في شئ، ولا جامع مقولي بين أفراد التضييق وأنحائه لتوضع بإزائه، فلا بد -
حينئذ - من أن نلتزم بكون الموضوع له فيها خاصا والوضع عاما، بأن نقول: إن كل
واحد من هذه الحروف موضوع لسنخ خاص من التضييق في عالم المعنى، فكلمة
" في " لسنخ من التضييق، وهو سنخ التضييق الأيني، وكلمة " على " لسنخ آخر
منه، وهو سنخ التضييق الاستعلائي، وكلمة " من " لسنخ ثالث منه، وهو سنخ
التضييق الابتدائي، وهكذا سائر هذه الحروف.
ومن هنا يظهر: أن الموضوع له في الهيئات الناقصة كهيئات المشتقات، وهيئة
الإضافة والتوصيف أيضا من هذا القبيل، يعني: أن الوضع فيها عام والموضوع له
خاص، لما عرفت من عدم الفرق بينها وبين هذا القسم من الحروف أصلا.
وأما القسم الثاني منها فأيضا كذلك، ضرورة أن الحروف في هذا القسم لم
توضع لمفهوم التمني والترجي والتشبيه ونحوه، لأنها من المفاهيم الاسمية الاستقلالية
على أن لازمه أن تكون كلمة " لعل " مرادفة للفظ " الترجي "، وكلمة ليت
مرادفة للفظ " التمني "، وهكذا...، وهو باطل يقينا. كما أنها لم توضع بإزاء مفهوم
إبراز هذه المعاني، فإنه أيضا من المفاهيم الاسمية، بل وضعت لما هو بالحمل
الشائع إبرازا للتمني والترجي والاستفهام ونحو ذلك، ولا جامع ذاتي بين مصاديق
الإبراز وأفراده ليكون موضوعا بإزاء ذلك الجامع، ولأجل ذلك في هذا القسم
أيضا يكون الموضوع له خاصا والوضع عاما، بمعنى: أن الواضع تصور مفهوما

(1) تقدم في ص 85.
93

عاما: كإبراز التمني - مثلا - فوضع كلمة " ليت " بإزاء أفراده ومصاديقه، وتعهد بأنه
متى ما قصد تفهيم التمني يتكلم بكلمة " ليت "، وهكذا. هذا تمام الكلام
الإنشاء والإخبار
في تحقيق المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية وما يشبهها.
الإنشاء والإخبار
قال المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بعدما اختار أن المعنى الحرفي والاسمي
متحدان بالذات والحقيقة ومختلفان باللحاظ الآلي والاستقلالي: لا يبعد أن
يكون الاختلاف بين الإنشاء والخبر أيضا من هذا القبيل، بمعنى: أن طبيعي
المعنى الموضوع له واحد فيهما، والاختلاف بينهما إنما هو في الداعي، فإنه في
الإنشاء قصد إيجاد المعنى، وفي الخبر قصد الحكاية عنه، وكلاهما خارجان عن
حريم المعنى (1).
توضيح ذلك: أن الصيغ المشتركة كصيغة " بعت وملكت وقبلت " ونحوها
تستعمل في معنى واحد مادة وهيئة في مقام الإخبار والإنشاء.
أما بحسب المادة فظاهر، لأن معناها الطبيعي اللا بشرط، وهي تستعمل في
ذلك الطبيعي دائما، سواء كانت الهيئة الطارئة عليها تستعمل في مقام الإخبار أو
الإنشاء.
وأما بحسب الهيئة فلأنها تستعمل في نسبة إيجاد المادة إلى المتكلم في
كلا المقامين، غاية الأمر: أن الداعي في مقام الإنشاء إنما هو إيجادها في
الخارج، وفي مقام الإخبار الحكاية عنها، فالاختلاف بينهما في الداعي، لا في
المستعمل فيه.
وإن شئت قلت: إن العلقة الوضعية في أحدهما غير العلقة الوضعية في الثاني،

(1) كفاية الأصول: ص 27.
94

فإنها في الجمل الإنشائية تختص بما إذا قصد المتكلم إيجاد المعنى في الخارج،
وفي الجمل الخبرية تختص بما إذا قصد الحكاية عنه (1).
أقول: ما ذكره (قدس سره) مبني على ما هو المشهور بينهم، بل المتسالم عليه: من أن
الجمل الخبرية موضوعة لثبوت النسبة في الخارج أو عدم ثبوتها فيه، فإن طابقت
النسبة الكلامية النسبة الخارجية فصادقة، وإلا فكاذبة. وأن الجمل الإنشائية
موضوعة لإيجاد المعنى في الخارج الذي يعبر عنه بالوجود الإنشائي، كما
صرح (قدس سره) به في عدة من الموارد (2)، وقال: إن الوجود الإنشائي نحو من الوجود،

(1) وقد أورد عليه بعض الأعاظم - (قدس سرهم) - على ما نسب إليه بعض مقرري بحثه: من أن لازم
تقوم الإنشاء بقصد الإيجاد وتقوم الخبر بقصد الحكاية أن يكون الكلام الصادر من المتكلم
إذا لم يقصد به أحد الأمرين، لا إن شاء ولا خبرا.
وهذا فاسد، لانحصار الكلام الذي يصح السكوت عليه فيهما وإن لم يكن قاصدا
لأحدهما. هذا أولا.
وثانيا: لزوم تعلق القصد بالقصد في مقام الإنشاء والإخبار، لأنهما فعلان اختياريان
محتاجان إلى القصد. والمفروض: أن هنا قصدا سابقا عليه مقوما لهما فيلزم تعلقه به، وهذا
خلاف الوجدان والبرهان.
ولكن لا يمكن المساعدة عليه، فلأن ما ذكره أولا يرد عليه: أن الكلام المفيد الذي يصح
السكوت عليه لا ينفك عن قصد الحكاية أو الإنشاء كما هو ظاهر.
ويرد على ما ذكره ثانيا: أنه مبني على أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه،
ولكن الأمر ليس كذلك، فإن المعنى الموضوع له على ما هو عليه من الإطلاق والسعة من
دون تقييده بقصد الحكاية والإيجاد، بل هي مأخوذة في العلقة الوضعية، بمعنى: أنها تقيدت
في الإنشاء بقصد الإيجاد في مقام الاستعمال، وبقصد الحكاية في الإخبار. راجع نهاية
الأفكار: ج 1 ص 57، وبدائع الأفكار ج 1 ص 63.
(2) منها: ما في الكفاية ص 87، فقال في مقام بيان اتحاد الإرادة والطلب ما لفظه: (المراد
بحديث الاتحاد: ما عرفت من العينية مفهوما ووجودا حقيقيا وإنشائيا). وقال في موضع
آخر ص 87: (وأما الصيغ الإنشائية فهي - على ما حققنا في بعض فوائدنا - موجدة لمعانيها
في نفس الأمر، أي: قصد ثبوت معانيها وتحققها بها، وهذا نحو من الوجود). وانظر الفوائد
الأصولية: الفائدة الأولى: ص 17 - 19.
95

ولذا لا يتصف بالصدق أو بالكذب، فإنه على هذا لا مانع من أن يكون المعنى
واحدا في كلتا الجملتين، وكان الاختلاف بينهما من ناحية الداعي إلى الاستعمال (1).
أقول: يقع الكلام هنا في مقامين:
المقام الأول: في الجملة الخبرية.
والمقام الثاني: في الجملة الإنشائية.
أما الكلام في المقام الأول: فالصحيح هو: أن الجملة الخبرية موضوعة
للدلالة على قصد الحكاية والإخبار عن الثبوت أو النفي في الواقع، ولم توضع
للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه، وذلك لسببين:
السبب الأول: أنها لا تدل على ثبوت النسبة خارجا، أو على عدم ثبوتها ولو
ظنا، مع قطع النظر عن حال المخبر وعن القرائن الخارجية، مع أن دلالة اللفظ لا
تنفك عن مدلوله الوضعي بقانون الوضع، وإلا لم يبق للوضع فائدة. فإذا فرضنا أن
الجملة بما هي لا تدل على تحقق النسبة في الواقع ولا كاشفية لها عنه - أصلا -
حتى ظنا فما معنى كون الهيئة موضوعا لها؟ بل يصبح ذلك لغوا فلا يصدر من
الواضع الحكيم. نعم، إنها وإن كانت عند الإطلاق توجب تصور الثبوت أو النفي
في الواقع إلا أنه ليس مدلولا للهيئة، فإن التصور لا يكون مدلولا للجملة
التصديقية بالضرورة.
وعلى الجملة: أن قانون الوضع والتعهد يقتضي عدم تخلف اللفظ عن الدلالة
على معناه الموضوع له في نفسه، فلو كانت الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على
النسبة الخارجية لدلت عليها لا محالة.
السبب الثاني: أن الوضع على ما سلكناه عبارة عن التعهد والالتزام النفساني،
ومقتضاه تعهد كل متكلم من أهل أي لغة أنه متى ما قصد تفهيم معنى خاص أن
يتكلم بلفظ مخصوص فاللفظ مفهم له، ودال على أن المتكلم أراد تفهيمه بقانون

(1) كفاية الأصول: ص 27. فوائد الأصولية: الفائدة الأولى.
96

الوضع. ومن الواضح أن التعهد والالتزام لا يتعلقان إلا بالفعل الاختياري، إذ لا
معنى للتعهد بالإضافة إلى أمر غير اختياري، وبما أن ثبوت النسبة أو نفيها في
الواقع خارج عن الاختيار فلا يعقل تعلق الالتزام والتعهد به، فالذي يمكن أن
يتعلق الالتزام به: هو إبراز قصد الحكاية في الإخبار، وإبراز أمر نفساني غير قصد
الحكاية في الإنشاء، لأنهما أمران اختياريان داعيان إلى التكلم باللفظ في الجملة
الخبرية والإنشائية.
إذا عرفت ذلك فنقول: على ضوء هذا البيان قد أصبحت النتيجة: أن الجملة
الخبرية لم توضع للدلالة على ثبوت النسبة في الخارج أو نفيها عنه، بل وضعت
لإبراز قصد الحكاية والإخبار عن الواقع ونفس الأمر.
وتوضيح ذلك على وجه أبسط: هو أن الإنسان لما كان محتاجا في تنظيم
حياته المادية والمعنوية إلى آلات بها يبرز مقاصده وأغراضه - والإشارة ونحوها
لا تفي بجميع موارد الحاجة في المحسوسات فضلا عن المعقولات - فلا مناص
من التعهد والمواضعة بجعل ألفاظ خاصة مبرزة لها في موارد الحاجة، ودالة على
أن الداعي إلى إيجاد تلك الألفاظ إرادة تفهيمها.
وعليه، فالجملة الخبرية - بمقتضى تعهد الواضع بأنه متى ما قصد الحكاية عن
الثبوت أو النفي في الواقع أن يتكلم بها - تدل على أن الداعي إلى إيجادها ذلك،
فتكون بنفسها مصداقا للحكاية، وهذه الدلالة لا تنفك عنها حتى فيما إذا لم يكن
المتكلم في مقام التفهيم والإفادة في مقام الثبوت والواقع إذا لم ينصب قرينة على
الخلاف في مقام الاثبات.
غاية ما في الباب: أن تكلمه - حينئذ - يكون على خلاف مقتضى تعهده
والتزامه. وأما الدلالة فهي موجودة لا محالة، ويكون كلام المتكلم حجة عليه ببناء
العقلاء من جهة التزامه وتعهده.
نعم، تنتفي هذه الدلالة فيما إذا نصب قرينة على الخلاف، كما إذا نصب قرينة
97

على أنه في مقام الإرشاد، أو السخرية، أو الاستهزاء، أو الهزل، أو في مقام تعداد
الجمل وذكرها من باب المثال، فإن الجملة - حينئذ - لا تدل على قصد الحكاية
عن الواقع، بل تدل على أن الداعي إلى إيجادها أمر آخر غير قصد الحكاية.
ويترتب على ما ذكرناه: أن الجملة الخبرية من جهة الدلالة الوضعية لا تتصف
بالصدق أو الكذب، فإنها ثابتة على كلا تقديري الصدق والكذب. فقولنا: " زيد
عادل " يدل على أن المتكلم في مقام قصد الحكاية عن ثبوت العدالة لزيد، أما أنه
مطابق للواقع أو غير مطابق فهو أجنبي عن دلالته على ذلك بالكلية.
ومن هنا يظهر: أنه لا فرق بينها وبين الجمل الإنشائية في الدلالة الوضعية،
فكما أن الجملة الإنشائية لا تتصف بالصدق أو الكذب بل إنها مبرزة لأمر من
الأمور النفسانية فكذلك الجملة الخبرية فإنها مبرزة لقصد الحكاية عن الواقع نفيا
أو إثباتا، حتى فيما إذا علم المخاطب كذب المتكلم في إخباره.
فالجملة الانشائية والإخبارية تشتركان في أصل الإبراز والدلالة على أمر
نفساني، وإنما الفرق بينهما في ما يتعلق به الإبراز، فإنه في الجملة الإنشائية أمر
نفساني لا تعلق له بالخارج، ولذا لا يتصف بالصدق أو الكذب، بل يتصف بالوجود
أو العدم. وفي الجملة الخبرية أمر متعلق بالخارج، فإن طابقه فصادق، وإلا
فكاذب.
ومن هنا يتضح: أن المتصف بالصدق والكذب إنما هو مدلول الجملة لا نفسها،
واتصاف الجملة بهما إنما هو بتبع مدلولها وبالعرض والمجاز، ولذا لو أمكن فرضا
الحكاية عن شئ بلا دال عليها في الخارج لكانت الحكاية بنفسها متصفة بالصدق
أو الكذب لا محالة.
ومما ذكرنا ظهر: أنه لا فرق في إبراز الحكاية بين اللفظ وغيره من الإشارة أو
الكتابة أو نحوهما، فإن كل ذلك بالإضافة إلى إبراز الحكاية في الخارج على نسق
واحد، كما أنه لا فرق في ذلك بين الجملة الاسمية والفعلية.
98

ثم ليعلم: أن مرادنا من الخارج: هو واقع نفس الأمر المقابل للفرض والتقدير
أعم من الخارج والذهن، بل كل وعاء مناسب لثبوت النسبة وعدمها، فإن موارد
استعمالات الجملة الخبرية - كما عرفت - لا تنحصر بالجواهر والأعراض، بل تعم
الواجب والممكن والممتنع والأمور الاعتبارية على نحو واحد. هذا تمام الكلام
في تحقيق معنى الجملة الخبرية.
وأما الكلام في المقام الثاني: فالصحيح: هو أن الجملة الإنشائية موضوعة
لإبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية، ولم توضع لإيجاد المعنى في الخارج.
والوجه في ذلك: هو أنهم لو أرادوا بالإيجاد الإيجاد التكويني: كإيجاد
الجوهر والعرض فبطلانه من الضروريات التي لا تقبل النزاع، بداهة أن
الموجودات الخارجية بشتى أشكالها وأنواعها ليست مما توجد بالإنشاء، كيف،
والألفاظ ليست واقعة في سلسلة عللها وأسبابها كي توجد بها؟!
وإن أرادوا به الإيجاد الاعتباري: كإيجاد الوجوب والحرمة أو الملكية
والزوجية وغير ذلك فيرده: أنه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفساني، من دون
حاجة إلى اللفظ والتكلم به، ضرورة أن اللفظ في الجملة الإنشائية لا يكون علة
لإيجاد الأمر الاعتباري، ولا واقعا في سلسلة علته، فإنه يتحقق بالاعتبار
النفساني، سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن.
نعم، اللفظ مبرز له في الخارج، لا أنه موجد له، فوجوده بيد المعتبر وضعا
ورفعا، فله أن يعتبر الوجوب على ذمة أحد، وله أن لا يعتبر، وله أن يعتبر ملكية
مال لشخص، وله أن لا يعتبر ذلك، وهكذا...
وأما الاعتبارات الشرعية أو العقلائية فهي وإن كانت مترتبة على الجمل
الإنشائية إلا أن ذلك الترتب إنما هو فيما إذا قصد المنشئ معاني هذه الجمل بها لا
مطلقا، والمفروض في المقام أن الكلام في تحقيق معانيها، وفي ما تترتب عليه
تلك الاعتبارات.
99

وبتعبير آخر: أن الجمل الإنشائية وإن كانت مما يتوقف عليها فعلية تلك
الاعتبارات وتحققها خارجا ولكن لا بما أنها ألفاظ مخصوصة، بل من جهة أنها
استعملت في معانيها.
على أن في كل مورد من موارد الإنشاء ليس فيه اعتبار من العقلاء أو من
الشرع، فإن في موارد إن شاء التمني والترجي والاستفهام ونحوها ليس أي اعتبار
من الاعتبارات، لا من الشارع ولا من العقلاء حتى يتوصل بها إلى ترتبه في
الخارج.
إذا عرفت ذلك فنقول: قد ظهر مما قدمناه: أن الجملة الإنشائية - بناء على ما
بيناه من أن الوضع عبارة عن التعهد والالتزام النفساني - موضوعة لإبراز أمر
نفساني خاص، فكل متكلم متعهد بأنه متى ما قصد إبراز ذلك يتكلم بالجملة
الإنشائية، مثلا: إذا قصد إبراز اعتبار الملكية يتكلم بصيغة بعت أو ملكت، وإذا
قصد إبراز اعتبار الزوجية يبرزه بقوله: زوجت أو أنكحت، وإذا قصد إبراز اعتبار
كون المادة على عهدة المخاطب يتكلم بصيغة " إفعل " ونحوها، وهكذا...
ومن هنا قلنا: إنه لا فرق بينها وبين الجملة الخبرية في الدلالة الوضعية
والإبراز الخارجي، فكما أنها مبرزة لاعتبار من الاعتبارات: كالملكية والزوجية
ونحوهما فكذلك تلك مبرزة لقصد الحكاية والإخبار عن الواقع ونفس الأمر.
أسماء الإشارة والضمائر
فتحصل مما ذكرناه: أنه لا وجه لما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): من أن
طبيعي المعنى في الإنشاء والإخبار واحد، وإنما الاختلاف بينهما من ناحية
الداعي إلى الاستعمال (1).
فإنك عرفت اختلاف المعنى فيهما، فإنه في الجملة الخبرية شئ، وفي الجملة
الإنشائية شئ آخر.
ومما يؤكد ما ذكرناه: أنه لو كان معنى الإنشاء والإخبار واحدا بالذات

(1) كفاية الأصول: ص 27.
100

والحقيقة وكان الاختلاف بينهما من ناحية الداعي كان اللازم أن يصح استعمال
الجملة الاسمية في مقام الطلب، كما يصح استعمال الجملة الفعلية فيه، بأن يقال:
المتكلم في الصلاة معيد صلاته، كما يقال: إنه يعيد صلاته، أو إنه إذا تكلم في
صلاته أعاد صلاته، مع أنه من أفحش الأغلاط، ضرورة وضوح غلطية استعمال
" زيد قائم " في مقام طلب القيام منه، فإنه مما لم يعهد في أي لغة من اللغات.
نعم، يصح إن شاء المادة بالجملة الاسمية، كما في جملة " أنت حر في وجه
الله " أو " هند طالق "، ونحو ذلك.
أسماء الإشارة والضمائر
قال صاحب الكفاية (قدس سره): يمكن أن يقال: إن المستعمل فيه في أسماء الإشارة
والضمائر ونحوهما أيضا عام، وإن تشخصه إنما جاء من قبل طور استعمالها،
حيث إن أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها، وكذا بعض الضمائر،
وبعضها ليخاطب بها المعنى، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخص كما لا
يخفى. فدعوى: " أن المستعمل فيه في مثل: " هذا " و " هو " و " إياك " إنما هو
المفرد المذكر، وتشخصه إنما جاء من قبل الإشارة والتخاطب بهذه الألفاظ إليه،
فإن الإشارة والتخاطب لا يكاد يكون إلا إلى الشخص أو معه " غير مجازفة (1).
انتهى.
والتحقيق: أنا لو سلمنا اتحاد المعنى الحرفي والاسمي ذاتا وحقيقة
واختلافهما باللحاظ الآلي والاستقلالي لم نسلم ما أفاده (قدس سره) في المقام.
والوجه فيه: هو أن لحاظ المعنى في مرحلة الاستعمال مما لا بد منه، ولا

(1) كفاية الأصول: ص 27 باختلاف يسير في اللفظ، وفيه: في مثل: هذا، أو هو، أو إياك...،
أو التخاطب.
101

مناص عنه، ضرورة أن الاستعمال فعل اختياري للمستعمل، فيتوقف صدوره على
تصور اللفظ والمعنى.
وعليه، فللواضع أن يجعل العلقة الوضعية في الحروف بما إذا لوحظ المعنى
في مقام الاستعمال آليا، وفي الأسماء بما إذا لوحظ المعنى استقلاليا، ولا يلزم
على الواضع أن يجعل لحاظ المعنى - آليا كان أو استقلاليا - قيدا للموضوع له، بل
هذا لغو وعبث بعد ضرورة وجوده، وأنه في مقام الاستعمال مما لا بد منه.
وهذا بخلاف أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما، فإن الإشارة إلى المعنى
ليست مما لا بد منه في مرحلة الاستعمال.
بيان ذلك: أنه إن أريد بالإشارة استعمال اللفظ في المعنى ودلالته عليه - كما
قد تستعمل في ذلك في مثل قولنا: قد أشرنا إليه فيما تقدم، أو فلان أشار إلى أمر
فلأني في كلامه أو كتابه - فهذه الإشارة يشترك فيها جميع الألفاظ، فلا اختصاص
لها بأسماء الإشارة وما يلحق بها.
وإن أريد بها أمر زائد على الاستعمال فلا بد من أخذه في الموضوع له،
ضرورة أنه ليس كلحاظ المعنى مما لا بد منه في مقام الاستعمال، بمعنى: أنه ليس
شيئا يقتضيه طبع الاستعمال بحيث لا يمكن الاستعمال بدونه، فلا بد من أخذه قيدا
في المعنى الموضوع له، وإلا فالاستعمال بدونه بمكان من الإمكان.
استعمال اللفظ في المعنى المجازي
فالصحيح في المقام أن يقال: إن أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما وضعت
للدلالة على قصد تفهيم معانيها خارجا عند الإشارة والتخاطب لا مطلقا، فلا
يمكن إبراز تفهيم تلك المعاني بدون الاقتران بالإشارة والتخاطب، فكل متكلم
تعهد في نفسه بأنه متى ما قصد تفهيم معانيها أن يتكلم بها مقترنة بهذين الأمرين،
فكلمة " هذا " أو " ذاك " لا تدل على معناها - وهو المفرد المذكر - إلا بمعونة
الإشارة الخارجية: كالإشارة باليد كما هي الغالب، أو بالرأس، أو بالعين، وضمير
102

الخطاب لا يبرز معناه إلا مقترنا بالخطاب الخارجي (1).
ومن هنا لا يفهم شئ من كلمة " هذا " - مثلا - عند إطلاقها مجردة عن أية
إشارة خارجية، وعلى ذلك جرت سيرة أهل المحاورة في مقام التفهيم والتفهم،
وصريح الوجدان، ومراجعة سائر اللغات أقوى شاهد على ما ذكرناه.
ثم لا يخفى أن مثل كلمة " هذا " أو " هو " إنما وضعت لواقع المفرد المذكر،
أعني به: كل مفهوم كلي أو جزئي لا يكون مؤنثا، لا لمفهومه، وإلا فلازمه أن
يكون لفظ " هذا " مرادفا مع مفهوم المفرد المذكر، مع أنه خلاف الضرورة
والوجدان، وعلى ذلك فيكون الوضع عاما والموضوع له خاصا، وقس عليهما
غيرهما من أسماء الإشارة والضمائر.
الأمر الخامس
استعمال اللفظ في المعنى المجازي
اختلفوا في أن ملاك صحة استعمال اللفظ في المعنى المجازي وما يناسب
الموضوع له هل هو بالطبع أو بالوضع، أعني: ترخيص الواضع في الاستعمال
لوجود علقة من العلائق؟ وجهان، بل قولان:
فذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) إلى الأول، بدعوى: أن ملاك صحة ذلك
الاستعمال قبول الطبع له، وكونه حسنا عند العرف، فأي استعمال مجازي كان
حسنا عندهم وقبله الطبع السليم فهو صحيح وإن فرض أن الواضع لم يأذن فيه،
بل وإن منع عنه، وكل استعمال لم يقبله الطبع فهو غير صحيح وإن أذن الواضع فيه

(1) في هامش أجود التقريرات: ج 1 ص 13 - 14: (فالظاهر أن أسماء الإشارة إنما وضعت
للمعاني الواقعة موقع الإشارة الخارجية، أو أنها موضوعة بإزاء الإشارة الخارجية، فهي
موجدة لها بالجعل والمواضعة).
103

فإطلاق لفظ " القمر " على حسن الوجه واستعماله فيه صحيح وإن فرض أن
الواضع لم يأذن فيه، بل منع عنه (1)، هذا.
وذهب المشهور إلى الثاني، وأن ملاك صحة استعمال اللفظ في المعنى
المجازي إذن الواضع وترخيصه، سواء أكان مما يقبله الطبع أم لا.
وعلى الجملة: فعلى القول الأول تدور صحة استعمال اللفظ في المعنى
المجازي وعدم صحته مدار حسنه طبعا وعرفا، وعدم حسنه كذلك، سواء أكان
هناك إذن نوعي من الواضع أيضا أم لم يكن.
وعلى القول الثاني تدور مدار الوضع النوعي وجودا وعدما، كان حسنا عند
الطبع والعرف أيضا أم لم يكن.
والتحقيق في المقام أن يقال: إن البحث عن ذلك يبتني على إثبات أمرين:
الأول: وجود الاستعمالات المجازية في الألفاظ المتداولة بين العرف.
الثاني: انحصار الواضع بشخص واحد أو جماعة، وإلا فلا مجال لهذا البحث،
فإنا إذا التزمنا بأن كل مستعمل واضع حسب تعهده فهو لم يتعهد إلا بإرادة المعنى
الموضوع له عند عدم القرينة على الخلاف. وأما مع وجود القرينة فلا مانع من
الاستعمال، وحيث لم يثبت كلا الأمرين فلا موضوع لهذا البحث.
أما عدم ثبوت الأمر الأول فلإمكان أن نلتزم بما نسب إلى السكاكي: من أن
اللفظ يستعمل دائما في المعنى الموضوع له، غاية الأمر: أن التطبيق قد يكون
مبتنيا على التنزيل والادعاء، بمعنى: أن المستعمل ينزل شيئا منزلة المعنى الحقيقي
ويعتبره هو فيستعمل اللفظ فيه فيكون الاستعمال حقيقيا (2)، ولا بعد فيما نسب
إليه، فإن فيه المبالغة في الكلام، الجارية على طبق مقتضى الحال.
وهذا بخلاف مسلك القوم، فإنه لا مبالغة فيه، إذ لا فرق - حينئذ - بين قولنا:

(1) انظر كفاية الأصول: ص 28.
(2) مفتاح العلوم: ق 3 فصل 3 في الاستعارة ص 156 (طبع دار الكتب بيروت).
104

" زيد قمر " وقولنا: " زيد حسن الوجه " أو بين قولنا: " زيد أسد "، وقولنا " زيد
شجاع "، مع أن مراجعة الوجدان تشهد على خلاف ذلك ووجود الفارق بين
الكلامين.
ونظير ذلك: ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): من أن كلمة " لا " في مثل
قوله (عليه السلام): " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " إنما استعمل في نفي الحقيقة،
لكنه على نحو الادعاء والمبالغة، لا في نفي الصفة أو الكمال، وإلا فلا دلالة في
الجملة على المبالغة (1).
وقد ذكرنا في بعض مباحث الفقه: أن المبالغة ليست من أفراد الكذب، ولا
مانع منها في ما إذا اقتضتها الحال (2).
وقد تلخص من ذلك: أن ما نسب إلى السكاكي من إنكار المجاز في الكلمة
وأن جميع الاستعمالات بشتى أنواعها وأشكالها استعمالات حقيقية أقرب
إلى الحق.
وعلى ذلك لا يبقى مجال لهذا البحث، فإن موضوعه الاستعمال المجازي،
والمفروض أنه لا مجاز في الكلمة حتى يقع البحث في أن صحته متوقفة على
الإذن أو على الطبع. بل المجاز - حينئذ - إنما هو في الإسناد والتطبيق، وبعد
التصرف في الإسناد وتنزيل المعنى المجازي بمنزلة المعنى الحقيقي واعتباره فردا
منه ادعاء فالاستعمال استعمال في المعنى الحقيقي لا محالة.
وأما عدم ثبوت الأمر الثاني فلما حققناه سابقا في مبحث الوضع: من أن
الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة، ولا سيما على مسلكنا: من أنه عبارة
عن التعهد والالتزام النفساني، فإنه على هذا كان كل مستعمل واضعا حقيقة، فلا

(1) كفاية الأصول: ص 45.
(2) مصباح الفقاهة: ج 1 ص 394.
105

يختص الواضع بشخص دون شخص.
وعليه فنقول: إن الواضع كما تعهد بذكر لفظ خاص عند إرادة تفهيم معنى
خاص دون أن يأتي بأية قرينة كذلك قد تعهد بذكر ذلك اللفظ عند إرادة معنى
آخر، ولكن مع نصب قرينة تدل عليها. غاية الأمر: أن الوضع على الأول شخصي،
وعلى الثاني نوعي، وتسميته بذلك بملاحظة أن العلائق والقرائن غير منحصرة
بواحدة.
وعلى الجملة: فالتعهد والالتزام كما هما موجودان بالقياس إلى تفهيم المعاني
الحقيقية كذلك موجودان بالقياس إلى تفهيم المعاني المجازية، فكل متكلم كما
تعهد بأنه متى ما قصد تفهيم معنى خاص يتكلم بلفظ مخصوص مجردا عن القرينة
كذلك تعهد بأنه متى ما قصد تفهيم معنى مناسب للمعنى الموضوع له يتكلم بذلك
اللفظ مصحوبا بالقرينة، ليكون المجموع مبرزا له.
وقد تلخص من ذلك: أن عدم انحصار الواضع بشخص أو جماعة لا يدع
مجالا وموضوعا للبحث المذكور، فإنه مبتن على أن يكون الواضع من أهل كل لغة
شخصا خاصا أو جماعة معينين، ليقال: إن جواز استعمال اللفظ في المعنى
المجازي هل هو منوط بإذنه أم لا؟ وأما إذا لم يكن الواضع منحصرا بشخص أو
جماعة وكان كل مستعمل واضعا فلا مجال له أصلا.
إطلاق اللفظ وإرادة نوعه به...
الأمر السادس
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): أنه لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ وإرادة
نوعه به، كما إذا قيل: " ضرب - مثلا - فعل ماض "، أو صنفه، كما إذا قيل: " زيد "
في " ضرب زيد " فاعل إذا لم يقصد به شخص القول، أو مثله ك‍ " ضرب " في
المثال فيما إذا قصد. وقد أشرنا إلى أن صحة الإطلاق كذلك، وحسنه إنما كان
بالطبع لا بالوضع، وإلا كانت المهملات موضوعة لذلك، لصحة الإطلاق كذلك فيها،
106

والالتزام بوضعها لذلك كما ترى. وأما إطلاقه وإرادة شخصه كما إذا قيل: " زيد
لفظ " وأريد منه شخص نفسه ففي صحته بدون تأويل نظر).
توضيح ذلك: أن العلاقة الخارجية بين المعنى الموضوع له والمعنى المجازي
إذا كانت مقتضية لارتباط اللفظ بالمعنى المجازي ولحسن الاستعمال بالطبع كانت
العلاقة الذاتية بين اللفظ وما استعمل فيه، فإنه من سنخ اللفظ وفرده مقتضية له
لا محالة، فإن الذاتية أقوى بمراتب من العلاقة الخارجية الموجودة بين المعنى
الحقيقي والمعنى المجازي.
واستشهد على أن هذه الاستعمالات طبعية لا وضعية بصحة ذلك الإطلاق في
الألفاظ المهملة أيضا، مع أنه لا وضع فيها أصلا، فهذا يكشف قطعيا عن أنه بالطبع
لا بالوضع (1).
أقول: تحقيق الكلام في هذا المقام: هو أن ما أفاده (قدس سره): يبتني على أمرين:
الأول: إثبات أن الواضع شخص واحد أو جماعة معينون، إذ لو كان كل
مستعمل واضعا لم يستبعد وجود الوضع في المهملات أيضا، فإنه كما تعهد
باستعمال الألفاظ في معانيها كذلك قد تعهد بأنه متى ما أراد تفهيم نوع اللفظ أو
صنفه أو مثله يبرزها به، ولا مانع من الالتزام بمثل ذلك الوضع والتعهد في
الألفاظ المهملة أيضا، فإنه لا يوجب خروجها عن الإهمال إلى البيان، وذلك لأن
إهمالها باعتبار أنها لم توضع لإفادة المعاني، وهذا لا ينافي ثبوت الوضع فيها
لإفادة نفسها.
الثاني: إثبات أن هذه الإطلاقات من قبيل الاستعمال، فإنه إذا لم يكن كذلك
لم يبق مجال للبحث عن أنه بالوضع أو بالطبع.
والصحيح: هو أنها ليست من قبيل الاستعمال في شئ بيان ذلك يحتاج إلى
تقديم مقدمة، وهي: أن المعاني لما كانت بأنفسها مما لا يمكن إبرازها في الخارج

(1) كفاية الأصول: ص 29.
107

وإحضارها في الأذهان من دون واسطة - ضرورة أنه في جميع موارد الحاجة لا
يمكن إراءة شخص معنى أو صورته أو ما يشبه، فإن كل ذلك لا يفي
بالمحسوسات فضلا عن المعقولات والممتنعات - فلا محالة نحتاج إلى واسطة بها
تبرز المعاني وتحضر في الأذهان، وتلك الواسطة منحصرة بالألفاظ، فإن بها تبرز
المعاني للتعهد بذكرها عند إرادة تفهيمها في موارد الحاجة.
وهذا بخلاف نفس الألفاظ، فإنها بأنفسها قابلة لأن تحضر في الأذهان من
دون أية واسطة خارجية فلا حاجة إلى إبرازها وإحضارها فيها إلى آلة بها تبرز
وتحضر، ضرورة أنها لو لم تحضر بنفسها في الذهن واحتيج في إحضارها فيه إلى
آلة أخرى فتلك الآلة: إما أن تكون لفظا أو غير لفظ.
أما غير اللفظ فقد عرفت أنه غير واف في إبراز المقصود في جميع موارد
الحاجة.
وأما اللفظ فلأنا ننقل الكلام إلى ذلك اللفظ ونقول: إنه إما أن يحضر في الذهن
بنفسه أو لا يحضر.
فعلى الأول: فلا فرق بين لفظ دون لفظ بالضرورة.
وعلى الثاني: فإن احتاج إلى لفظ آخر فننقل الكلام إلى ذلك اللفظ... وهكذا،
فيذهب إلى غير النهاية.
وأما المعنى فهو يحضر فيه بتوسط اللفظ، فالحاضر أولا في الذهن هو اللفظ،
وبتبعه يحضر المعنى، فكل سامع للفظ الصادر من المتكلم ينتقل إلى اللفظ أولا،
والى المعنى ثانيا وبتبعه.
فعلى ضوء ذلك نقول: قد ظهر أن إطلاق اللفظ وإرادة شخصه أو نوعه أو
صنفه أو مثله ليس من قبيل استعمال اللفظ في المعنى، لا بالوضع النوعي ولا
بالوضع الشخصي، والوجه فيه: هو أن الوضع مقدمة للاستعمال وإبراز المقاصد،
ولولاه لاختلت أنظمة الحياة كلها من " المادية والمعنوية "، فتنظيمها وتنسيقها
108

بشتى ألوانها وأشكالها متوقف على الوضع. فإن المعاني النفسانية التي تتعلق بها
الأغراض المادية أو المعنوية لا يمكن إبرازها وإحضارها في الأذهان إلا بالجعل
والمواضعة والتعهد بذكر الألفاظ عند إرادة تفهيم تلك المعاني، ولذلك السبب
فالوضع يصبح ضروريا.
ومن هنا يتبين لك: أن ما لا يحتاج إبرازه وإحضاره في الأذهان إلى واسطة،
بل يمكن إحضاره فيها بنفسه عند تعلق الغرض به فلا حاجة إلى الوضع فيه أصلا،
بل هو لغو وعبث.
وحيث إن اللفظ بنفسه قابل لأن يحضر في ذهن المخاطب بلا واسطة أي شئ
فالوضع فيه لغو محض لا محالة. وهذا بيان إجمالي لجميع الأقسام المذكورة.
وإليك بيان تفصيلي بالقياس إلى كل واحد منها:
أقول: أما القسم الأول منها، وهو: ما إذا اطلق اللفظ وأريد به شخصه - كما إذا
قيل: " زيد ثلاثي " وأريد به شخص ذلك اللفظ - فليس هو من قبيل استعمال اللفظ
في المعنى في شئ، وذلك لأن لازمه اتحاد الدال والمدلول ذاتا وحقيقة، إذ
شخص هذا اللفظ دال، وهو بعينه مدلول، وهذا غير معقول.
وقد أجاب عن ذلك المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): بأن الدال والمدلول في
المقام وإن كانا متحدين حقيقة إلا أنه يكفي تعددهما اعتبارا، ولا يلزم أن
يكون الدال والمدلول متعددين ذاتا. وبما أن هنا حيثيتين واقعيتين وهما: حيثية
صدور اللفظ عن لافظه، وحيثية أن شخصه متعلق إرادته فهو من الحيثية الأولى
دال، ومن الحيثية الثانية مدلول، فلا يتحد الدال والمدلول من جميع الجهات (1).
ويرده: أن هذه الدلالة - أي: دلالة اللفظ على أنه مراد ومقصود - وإن كانت
موجودة هنا إلا أنها أجنبية عن دلالة اللفظ على المعنى رأسا، بل هي دلالة عقلية
سائرة في جميع الأفعال الاختيارية. فإن كل فعل صادر بالاختيار يدل على أنه

(1) كفاية الأصول: ص 29.
109

مراد لا محالة، بداهة لزوم سبق الإرادة على الفعل الاختياري في تمام الموارد.
فهذه الدلالة من دلالة المعلول على علته، وهي أجنبية عن دلالة الألفاظ على
معانيها بالكلية.
ومن هنا قد أجاب شيخنا المحقق (قدس سره) عن الإشكال بجواب آخر، وإليك نصه:
التحقيق: أن المفهومين المتضايفين ليسا متقابلين مطلقا، بل التقابل في
قسم خاص من التضايف، وهو ما إذا كان بين المتضايفين تعاند وتناف في
الوجود: كالعلية والمعلولية، والأبوة والبنوة مما قضى البرهان بامتناع اجتماعهما
في وجود واحد، لا في مثل: العالمية والمعلومية والمحبية والمحبوبية، فإنهما
يجتمعان في الواحد غير ذي الجهات كما لا يخفى. والحاكي والمحكي والدال
والمدلول كاد أن يكون من قبيل القسم الثاني، حيث لا برهان على امتناح حكاية
الشئ عن نفسه كما قال (عليه السلام): " يا من دل على ذاته بذاته " (1)، وقال (عليه السلام): " وأنت
دللتني عليك (2) " (3).
ولكن لا يمكن المساعدة عليه أيضا، وذلك لأن ما أفاده (قدس سره): من أن التقابل
في قسم خاص من التضايف لا في مطلق المتضايفين وإن كان صحيحا إلا أنه
أجنبي عن محل كلامنا هنا بالكلية، فإنه في دلالة اللفظ على المعنى، وهي قسم
خاص من الدلالة التي لا يمكن أن تجتمع في شئ واحد، لما بيناه: من أن حقيقة
تلك الدلالة: عبارة عن وجود اللفظ وحضوره في ذهن المخاطب أولا، وحضور
المعنى ووجوده فيه بتبعه ثانيا، فكل مخاطب بل كل سامع عند سماع اللفظ ينتقل
إلى اللفظ أولا، والى المعنى ثانيا، فحضور اللفظ علة لحضور المعنى. ومن البين

(1) حاشية زاد المعاد للمجلسي: ص 166، من دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام)، المشهور ب‍ " دعاء
الصباح ".
(2) بحار الأنوار: ج 98 ص 82، والإقبال: ص 67، من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام)، المشهور ب‍
" دعاء أبي حمزة الثمالي ".
(3) نهاية الدراية: ج 1 ص 31.
110

الواضح أن ذلك لا يعقل في شئ واحد، بداهة أن العلية تقتضي الاثنينية والتعدد
فلا يعقل علية حضور الشئ في الذهن لحضور نفسه هذا بالقياس إلى المخاطب
والسامع.
وأما بالقياس إلى المتكلم والمستعمل فحقيقة الاستعمال: إما هي عبارة عن
إفناء اللفظ في المعنى فكأنه لم يلق إلى المخاطب إلا المعنى، ولا ينظر إلا إليه كما
هو المشهور فيما بينهم. أو عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى، ومبرزا له كما هو
الصحيح. فعلى التقديرين لا يعقل استعمال الشئ في نفسه، ضرورة استحالة فناء
الشئ في نفسه، وجعل الشئ علامة لنفسه، فإنهما لا يعقلان إلا بين شيئين
متغايرين في الوجود.
وقد تلخص من ذلك: أن اتحاد الدال والمدلول في الدلالة اللفظية غير معقول.
ومن هنا يظهر: أن قياس المقام بدلالة ذاته تعالى على ذاته قياس مع الفارق،
فإن سنخ تلك الدلالة غير سنخ هذه الدلالة، إذ أنها بمعنى ظهور ذاته بذاته، وتجلي
ذاته لذاته، بل ظهور جميع الكائنات بشتى ألوانها وأشكالها من الماديات
والمجردات بذاته تعالى، وهذا بخلاف الدلالة هنا، فإنها بمعنى: الانتقال من شئ
إلى شئ آخر.
فعلى ضوء ذلك يظهر: أن إطلاق اللفظ وإرادة شخصه لا يكون من قبيل
الاستعمال في شئ، فإن المتكلم بقوله: " زيد ثلاثي " - مثلا - لم يقصد إلا إحضار
شخص ذلك اللفظ في ذهن المخاطب، وهو بنفسه قابل للحضور فيه، ومعه
لا حاجة إلى الواسطة كما مر (1) آنفا.
وقد يشكل على هذا: بأن لازم ذلك تركب القضية الواقعية من جزئين،
فإن القضية اللفظية تحكي بموضوعها ومحمولها ونسبتها عن القضية الواقعية،
وحيث قد فرض: أنه لا موضوع في المقام للقضية الواقعية في قبال القضية اللفظية

(1) تقدم في ص 108 - 109 فراجع.
111

فليس هناك بحسب الفرض غير المحمول والنسبة، مع أن تحقق النسبة بدون
الطرفين محال.
هذا، وقد أجاب عنه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بما ملخصه مع أدنى
توضيح، وهو: أن الإشكال المزبور مبتن على أن يكون الموضوع في القضية
الحقيقية يحتاج في وجوده وحضوره في الأذهان إلى واسطة كاللفظ بالإضافة إلى
المعنى، فإنه واسطة لوجوده وحضوره، وليس نفسه بموضوع للقضية، بل هو لفظ
الموضوع وحاك عنه، فموضوعية اللفظ لها إنما هي باعتبار أنه الواسطة لإحضار
ما هو موضوع فيها حقيقة. نعم، هو موضوع في القضية اللفظية.
وأما إذا فرض أن الموضوع في القضية الحقيقية لا يحتاج في وجوده
وحضوره إلى الواسطة، بل كان حاله حال بقية الأفعال الخارجية والموجودات
الفعلية فلا يلزم محذور تركب القضية من جزئين، ومقامنا من هذا القبيل، فإن
الموضوع في مثل قولنا: " زيد ثلاثي " إذا أريد به شخصه شخص ذلك اللفظ الذي
هو من الكيف المسموع، لا أنه لفظه. ومن البين الواضح: أن اللفظ لا يحتاج في
وجوده في الذهن إلى أية واسطة، لإمكان إيجاده على ما هو عليه وإثبات
المحمول له. وعليه فالقضية مركبة من أجزاء ثلاثة: الموضوع وهو ذات اللفظ،
وشخصه، والمحمول وهو ثلاثي مع النسبة بينهما (1).
وبتعبير آخر: أن كون الشئ موضوعا في القضية باعتبار أن المحمول ثابت
له، فقد يكون المحمول ثابتا لما يحتاج في وجوده وحضوره إلى الواسطة
كالمعنى، كما هو الحال في القضايا المتعارفة. وقد يكون ثابتا لما لا يحتاج في
وجوده إلى الواسطة كاللفظ.
ولما كان الموضوع في المقام شخص اللفظ من جهة أن المحمول ثابت له فإنه
سنخ حكم محمول عليه دون المعنى فلا يلزم المحذور المزبور، فإن لزومه هنا

(1) كفاية الأصول ص 29 - 30.
112

مبتن على أن لا يكون الموضوع هو نفس اللفظ. وأما إذا فرض أنه الموضوع في
القضية والحكم ثابت له فلا محذور أصلا.
وأما القسم الثاني، وهو: ما إذا اطلق اللفظ وأريد منه نوعه - كما إذا قيل: " زيد
لفظ أو ثلاثي " وأريد به طبيعي ذلك اللفظ - فليس من قبيل الاستعمال أيضا، بل
هو من قبيل: إحضار الطبيعي في ذهن المخاطب بإراءة فرده، فالمتكلم بذلك
اللفظ قد قصد ثبوت الحكم للطبيعي ليسري منه إلى أفراده، فأوجد المتكلم في
ذهن المخاطب أمرين:
أحدهما: شخص اللفظ الصادر منه.
والثاني: طبيعي ذلك اللفظ الجامع بينه وبين غيره، ولما لم يمكن إيجاده على
ما هو عليه في الخارج إلا بإيجاد فرده فلا يكون من قبيل استعمال اللفظ في المعنى
في شئ، فإن وجوده عين وجود فرده في الخارج، وإيجاده عين إيجاد فرده.
وعليه فلا يعقل أن يجعل وجود الفرد فانيا في وجوده، أو مبرزا له وعلامة
عليه، فإن كل ذلك لا يعقل إلا بين وجودين خارجا، والمفروض أنه لا اثنينية في
المقام، فلا يمكن أن يكون وجود الفرد واسطة لإحضار الطبيعي في الأذهان، فإن
الواسطة تقتضي التعدد في الوجود، ولا تعدد هنا فيه أصلا.
وقد تلخص من ذلك: أن ملاك الاستعمال لا يكون موجودا في أمثال المقام،
بل لا يعقل الاستعمال كما عرفت (1). فحال المقام حال ما إذا أشار أحد إلى حية
فقال: سامة، فإنه قد أوجد في ذهن المخاطب بإشارته هذه أمرين: أحدهما
شخص هذه الحية، والثاني: الطبيعي الجامع بينها وبين غيرها، فحكم على الطبيعي
بسنخ حكم يسري إلى أفراده، فمقامنا من هذا القبيل بعينه.
وعلى الجملة: حيث إن إيجاد الطبيعي على ما هو عليه في الخارج أو الذهن
بلا وساطة شئ بمكان من الإمكان فلا يحتاج تفهيمه إلى دال ومبرز له.

(1) تقدم في ص 108 - 109 فراجع.
113

وأما القسم الثالث والرابع، وهما: ما إذا اطلق اللفظ وأريد منه صنفه أو مثله
فقد يتوهم أنهما من قبيل الاستعمال، بل لعل ذلك مشهور بينهم، ولا سيما في القسم
الرابع.
وكيف كان فالصحيح: هو أن حال هذين القسمين حال القسمين الأولين، من
دون فرق بينهما أصلا. وبيان ذلك يحتاج إلى تقديم مقدمة، وهي: أنا قد ذكرنا فيما
تقدم (1): أن الحروف والأدوات موضوعة لتضييقات المفاهيم الاسمية وتقييدها
بقيود خارجة عن حريم ذواتها، فإن الغرض قد يتعلق بتفهيم طبيعي المعنى
الاسمي على إطلاقه وسعته، وقد يتعلق بتفهيم حصة خاصة منه، وقد ذكرنا: أن
الدال على الحصة ليس إلا الحروف، أو ما يحذو حذوها.
وإن شئت فقل: إن الموجود الذهني ليس كالموجود الخارجي، فإنه مطلقا من
أي مقولة كان لا ينطبق على أمر آخر وراء نفسه، وهذا بخلاف المفهوم الذهني،
فإنه بالقياس إلى الخارج عن أفق الذهن قابل لأن ينطبق على عدة حصص، ولكن
الغرض يتعلق بتفهيم حصة خاصة، والدال عليه - كما مر - هو الحرف أو ما يشبهه
وعلى ضوء ذلك فنقول: إن المتكلم كما إذا قصد تفهيم حصة خاصة من
المعنى يجعل مبرزه الحرف أو ما يقوم مقامه كذلك إذا قصد تفهيم حصة خاصة من
اللفظ يجعل مبرزه ذلك، فالحرف كما يدل على تضييق المعنى وتخصيصه
بخصوصية ما، كذلك يدل على تضييق اللفظ وتقييده بقيود ما، فإن الغرض كما قد
يتعلق بإيجاد طبيعي اللفظ على ما هو عليه من الإطلاق والسعة يتعلق بتفهيم
حصة خاصة من ذلك الطبيعي: كالصنف أو المثل، فالمبرز لذلك ليس إلا الحرف أو
ما يشبهه، بداهة أنه لا فرق في إفادة الحروف التضييق بين الألفاظ والمعاني.
فكلمة " في " في قولنا: " زيد في ضرب زيد فاعل " تدل على تخصص طبيعي لفظ
" زيد " بخصوصية ما من الصنف أو المثل، كما أنها في قولنا: " الصلاة في المسجد

(1) تقدم في ص 84 فراجع.
114

حكمها كذا " تدل على أن المراد من الصلاة ليس هو الطبيعة السارية إلى كل فرد،
بل خصوص حصة منها.
وعلى الجملة: فلا فرق بين قولنا: " الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في
الدار "، وقولنا: " زيد في ضرب زيد فاعل "، فكلمة " في " كما تدل في المثال
الأول على أن المراد من الصلاة ما يقع منه في المسجد كذلك تدل في المثال الثاني
على أن المراد من لفظ " زيد " ليس هو الطبيعة المطلقة، بل حصة خاصة منه من
المثل أو الصنف.
ومن هنا يظهر لك ملاك القول بأن هذين القسمين ليسا من قبيل الاستعمال
أيضا، لما مر من إمكان إيجاد اللفظ بنفسه وإحضاره في ذهن المخاطب بلا
وساطة شئ، فإذا تعلق الغرض بتقييده بخصوصية ما يجعل الدال عليه الحرف أو
ما يحذو حذوه.
مثلا: لو قال أحد: " زيد " في " ضرب زيد فاعل " فقد أوجد طبيعي لفظ زيد
وأحضره بنفسه في ذهن المخاطب، وقد دل على تقييده بخصوصية ما من المثل أو
الصنف بكلمة " في "، فأين هنا استعمال لفظ في مثله أو صنفه؟
فالنتيجة: أن شيئا من الإطلاقات المتقدمة ليس من قبيل الاستعمال، بل
هو من قبيل إيجاد ما يمكن إراءة (1) شخصه مرة، ونوعه أخرى، وصنفه ثالثة،
ومثله رابعة.
ثم إنه لا يخفى أن ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في آخر كلامه في هذا
المقام بقوله: (وفيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك مما كان الحكم في القضية لا
يكاد يعم شخص اللفظ، كما في مثل: ضرب فعل ماض) (2) غريب منه، وذلك لأن
الفعل الماضي أو غيره إنما لا يقع مبتدأ إذا استعمل في معناه الموضوع له وأريد منه

(1) كذا، والظاهر إرادة.
(2) كفاية الأصول: ص 31.
115

ذلك، لا مطلقا، حتى فيما إذا لم يستعمل فيه ولم يرد معناه، وحيث إن في ما نحن
فيه لم يرد معناه، بل أريد به لفظه، لا بماله من المعنى، فلا مانع من وقوعه مبتدأ،
ولا يخرج بذلك عن كونه فعلا ماضيا.
أقسام الدلالة
غاية ما في الباب: أنه لم يستعمل في معناه، وهذا لا يوجب خروجه عن ذلك،
وهذا نظير قولنا: " ضرب " وضع في لغة العرب للدلالة على وقوع الضرب في
الماضي، أفهل يتوهم أحد أنه لا يشمل نفسه لأنه مبتدأ؟
الأمر السابع
أقسام الدلالة
لا شبهة في أن الله تعالى شأنه فضل الإنسان على سائر مخلوقاته بنعمة
عظيمة، وهي: نعمة البيان بمقتضى قوله عز من قائل: (خلق الإنسان * علمه
البيان) (1)، وذلك لحكمة تنظيم الحياة المادية والمعنوية، فإن مدنية الإنسان
بالطبع تستدعي ضرورة الحاجة إلى البيان، لإبراز المقاصد خارجا، لئلا تختل
نظم الحياة، فالقدرة على البيان مما أودعه الله تعالى في الإنسان.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن الدلالة على أقسام ثلاثة:
القسم الأول: الدلالة التصورية: وهي الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ،
وهي لا تتوقف على شئ، ولا تكون معلولة لأمر ما عدا العلم بالوضع فهي تابعة
له، وليس لعدم القرينة دخل فيها أصلا. فالعالم بوضع لفظ خاص لمعنى مخصوص
ينتقل إليه من سماعه ولو فرض أن المتكلم نصب قرينة على عدم إرادته، بل
ولو فرض صدوره عن لافظ بلا شعور واختيار أو عن اصطكاك حجر بحجر آخر،
وهكذا.

(1) الرحمن: 3 - 4.
116

وعلى الجملة: فالدلالة التصورية بعد العلم بالوضع أمر قهري خارج عن
الاختيار.
القسم الثاني: الدلالة التفهيمية المعبر عنها بالدلالة التصديقية أيضا، لأجل
تصديق المخاطب المتكلم بأنه أراد تفهيم المعنى للغير، وهي: عبارة عن ظهور
اللفظ في كون المتكلم به قاصدا لتفهيم معناه. وهذه الدلالة تتوقف زائدا على العلم
بالوضع على إحراز أنه في مقام التفهيم، ولم ينصب قرينة متصلة على الخلاف، بل
لم يأت في الكلام بما يصلح للقرينية، فإنه يهدم الظهور ويوجب الإجمال لا
محالة، فلو لم يكن في ذلك المقام فلا ظهور ولا دلالة على الإرادة التفهيمية أصلا.
كما أن وجود القرينة المتصلة مانع عن الظهور التصديقي.
وعلى الجملة: فهذه الدلالة تتقوم بكون المتكلم في مقام التفهيم، وبعدم وجود
قرينة متصلة في الكلام.
القسم الثالث: الدلالة التصديقية: وهي دلالة اللفظ على أن الإرادة الجدية
على طبق الإرادة الاستعمالية، وهذه الدلالة ثابتة ببناء العقلاء، إلا أنها تتوقف
زائدا على ما مر على إحراز عدم وجود قرينة منفصلة على الخلاف، وإلا فلا
يكون الظهور كاشفا عن الإرادة الجدية في مقام الثبوت، فإن وجود القرينة
المنفصلة مانع عن حجيته.
والحاصل: أن بناء العقلاء قد استقر على أن الإرادة التفهيمية مطابقة للإرادة
الجدية ما لم تقم قرينة على عدم التطابق.
وبعد ذلك نقول: قد وقع الكلام بين الأعلام في أن الدلالة الوضعية هل هي
الدلالة التصورية أو أنها الدلالة التصديقية؟ فالمعروف والمشهور بينهم هو الأول،
بتقريب أن الانتقال إلى المعنى عند تصور اللفظ لا بد أن يستند إلى سبب، وذلك
السبب: إما الوضع أو القرينة، وحيث إن الثاني منتف لفرض خطور المعنى في
الذهن بمجرد سماع اللفظ فيتعين الأول.
117

وذهب جماعة من المحققين إلى الثاني، أي إلى انحصار الدلالة الوضعية
بالدلالة التصديقية (1).
التحقيق حسب ما يقتضيه نظر الدقيق هو القول الثاني، والوجه فيه: أما بناء
على ما سلكناه (2) في باب الوضع: من أنه عبارة عن التعهد والالتزام فواضح،
ضرورة أنه لا معنى للالتزام بكون اللفظ دالا على معناه ولو صدر عن لافظ بلا
شعور واختيار، بل ولو صدر عن اصطكاك حجر بآخر وهكذا...، فإن هذا غير
اختياري فلا يعقل أن يكون طرفا للتعهد والالتزام. وعليه فلا مناص من الالتزام
بتخصيص العلقة الوضعية بصورة قصد تفهيم المعنى من اللفظ وإرادته، سواء
أكانت الإرادة تفهيمية محضة أم جدية أيضا، فإنه أمر اختياري فيكون متعلقا
للالتزام والتعهد.
وعلى الجملة: قد ذكرنا (3) سابقا: أن اختصاص الدلالة الوضعية بالدلالة
التصديقية لازم حتمي للقول بكون الوضع بمعنى التعهد والالتزام. وأما الدلالة
التصورية - وهي: الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ - فهي غير مستندة إلى
الوضع، بل هي من جهة الانس الحاصل من كثرة الاستعمال، أو من أمر آخر، ومن
ثمة كانت هذه الدلالة موجودة حتى مع تصريح الواضع باختصاص العلقة
الوضعية بما ذكرناه.
بل إن الأمر كذلك حتى على ما سلكه القوم في مسألة الوضع من أنه أمر
اعتباري، فإن الأمر الاعتباري يتبع الغرض الداعي إليه في السعة والضيق، فالزائد
على ذلك لغو محض.
ولما كان الغرض الباعث للواضع على الوضع قصد تفهيم المعنى من اللفظ

(1) منهم المحقق الحائري اليزدي في الدرر: ج 1 ص 42 طبع جديد.
(2) تقدم في ص 52 فراجع.
(3) تقدم في ص 52 فراجع.
118

وجعله آلة لإحضار معناه في الذهن عند إرادة تفهيمه فلا موجب لجعل العلقة
الوضعية واعتبارها على الإطلاق، حتى في اللفظ الصادر عن لافظ من (1) غير شاعر:
كالنائم والمجنون ونحوهما، فإن اعتباره في أمثال هذه الموارد من اللغو الظاهر.
وإن شئت فقل: حيث إن الغرض الباعث على الوضع هو إبراز المقاصد
والأغراض خارجا فلا محالة لا يزيد سعة الوضع عن سعة ذلك الغرض، فإنه أمر
جعلي واختياره بيد الجاعل، فله تقييده بما شاء من القيود إذا دعت الحاجة إلى
ذلك. وبما أن الغرض في المقام قصد التفهيم فلا محالة تختص العلقة الوضعية
بصورة إرادة التفهيم.
ودعوى مصادمة حصر الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية للبداهة من جهة
أن الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ ضروري مدفوعة بما عرفت من: أن ذلك
الانتقال إنما هو من ناحية الانس الحاصل من كثرة الاستعمال أو نحو ذلك، لا من
ناحية الوضع، فالانتقال عادي لا وضعي.
فالنتيجة: هي انحصار الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية على جميع المسالك
والآراء في تفسير حقيقة الوضع، من دون فرق في المسألة بين رأينا وسائر الآراء.
نعم، الفرق بينهما في نقطة واحدة، وهي: أن ذلك الانحصار حتمي على القول
بالتعهد، دون غيره من الأقوال.
ولا يخفى أن مراد العلمين المحقق الطوسي (قدس سره) والشيخ الرئيس مما حكي
عنهما: من أن الدلالة تتبع الإرادة هو ما ذكرناه: من أن العلقة الوضعية مختصة
بصورة إرادة تفهيم المعنى، وليس مرادهما من ذلك أخذ الإرادة التفهيمية في
المعنى الموضوع له لكي يرد عليه ما اورد، فالألفاظ من جهة وضعها تدل على
إرادة اللافظ بها تفهيم معانيها، كما هو صريح كلامهما في بحث الدلالات (2). وعليه

(1) كذا، والظاهر زيادة (من).
(2) قال العلامة الطوسي (قدس سره): دلالة اللفظ لما كانت وضعية كانت متعلقة بإرادة المتلفظ الجارية
على قانون الوضع، فما يتلفظ به ويراد به معنى ما ويفهم عنه ذلك المعنى يقال: إنه دال على
ذلك المعنى، وما سوى ذلك المعنى مما لا تتعلق به إرادة المتلفظ وإن كان ذلك اللفظ أو جزء
منه بحسب تلك اللغة أو لغة أخرى، أو بإرادة أخرى يصلح لأن يدل عليه، فلا يقال: إنه دال
عليه انتهى. شرح منطق الإشارات تعريف المفرد والمركب ص 32 مطبعة الحيدري.
قال قطب الدين الشيرازي: الدلالة الوضعية تتعلق بإرادة اللافظ الجارية على قانون
الوضع حتى أنه لو اطلق وأراد منه معنى وفهم منه لقيل: إنه دال عليه، وإن فهم غيره فلا يقال:
إنه دال عليه...، وإن كان ذلك الغير بحسب تلك اللغة أو غيرها أو بإرادة أخرى يصلح لأن
يدل عليه... إلى أن قال: والمقصود: هي الوضعية، وهي كون اللفظ بحيث يفهم منه عند
سماعه أو تخيله بتوسط الوضع معنى، وهو مراد اللافظ. انتهى. شرح حكمة الإشراق:
الدلالات الثلاث.
119

فلا وجه لما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من حمل الدلالة في كلامهما على
الدلالة التصديقية غير الوضعية (1)، فإن تبعيتها للإرادة في الواقع ونفس الأمر
واضحة فلا مجال للكلام فيها أصلا.
ومن هنا يظهر فساد ما أورده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) على حصر الدلالة
الوضعية بالدلالة التصديقية بوجوه ثلاثة، وإليك نصه:
لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي، لا من حيث
هي مرادة للافظها:
1 - لما عرفت من أن قصد المعنى على أنحائها من مقومات الاستعمال، فلا
يكاد يكون من قيود المستعمل فيه.
2 - هذا، مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والإسناد في الجمل بلا تصرف في
ألفاظ الأطراف، مع أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صح بدونه، بداهة
أن المحمول على زيد في " زيد قائم " والمسند إليه في " ضرب زيد " - مثلا - هو
نفس القيام والضرب، لا بما هما مرادان.
3 - مع أنه يلزم كون وضع عامة الألفاظ عاما والموضوع له خاصا، لمكان

(1) كفاية الأصول: ص 31.
120

اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ، فإنه لا مجال لتوهم أخذ
مفهوم الإرادة فيه كما لا يخفى، وهكذا الحال في طرف الموضوع (1). انتهى.
والجواب عن جميع هذه الوجوه بكلمة واحدة، وهي: أن تلك الوجوه
بأجمعها مبتنية على أخذ الإرادة التفهيمية في المعاني الموضوع لها، وقد تقدم أن
الإرادة لم تؤخذ فيها، وأن الانحصار المذكور غير مبتن على ذلك، بل هي مأخوذة
في العلقة الوضعية، فالعلقة مختصة بصورة خاصة، وهي: ما إذا أراد المتكلم تفهيم
المعنى باللفظ (2).

(1) كفاية الأصول: ص 31، مع اختلاف يسير في اللفظ.
(2) وأورد بعض الأعاظم (قدس سرهم) على ما قرره بعض مقرري بحثه على انحصار الدلالة الوضعية
بالدلالة التصديقية إيرادا رابعا.
وملخصه: هو أن الانحصار يستلزم أن يكون اللفظ موضوعا لمعنى مركب من معنى
اسمي ومعنى حرفي كما إذا قيد المعنى الاسمي بإرادة المتكلم على كيفية دخول التقيد
وخروج القيد، وهذا مخالف لطريقة الوضع المستفادة من الاستقراء، فإنه بحسبه لم يوجد في
أية لغة لفظ واحد موضوع لمعنى مركب من معنى اسمي وحرفي. هذا، ويرده:
أو لا: أن الاختلاف بين المعنى الحرفي والاسمي - كما عرفت - اختلاف بالذات
والحقيقة، لا باللحاظ الآلي والاستقلالي. فالمعنى الحرفي حرفي وإن لوحظ استقلالا،
والمعنى الاسمي اسمي وإن لوحظ آليا. وقد اعترف هو (قدس سره) أيضا بذلك. وعليه فالإرادة
معنى اسمي وإن لوحظت آلة، ولا تنقلب بذلك عن المعنى الاسمي إلى المعنى الحرفي حتى
يلزم وضع اللفظ لمعنى مركب من معنى اسمي وحرفي. على أنك قد عرفت أن المعنى
الحرفي كالمعنى الاسمي ملحوظ استقلالا لا آليا، فلا وجه - حينئذ - لتخصيص الإيراد
بصورة أخذ الإرادة قيدا لا جزءا، إلا أن يكون مراده من المعنى الحرفي نفس التقيد بالإرادة
لا نفس الإرادة، فإنه معنى حرفي.
ولكنه مدفوع: أو لا: بالنقض بوضع الألفاظ للمعاني المركبة أو المقيدة، فإن معانيها
متضمنة للمعنى الحرفي لا محالة، إذ كل جزء مقيد بجزء آخر، فالتقيد معنى حرفي.
وثانيا: أنه لا مانع من وضع لفظ لمعنى مركب من معنى اسمي وحرفي إذا دعت الحاجة
إليه، فإذا فرض أن الغرض تعلق بوضع الألفاظ للمعاني المقيدة بإرادة المتكلم فلا مانع من
وضع الألفاظ لها كذلك، إذ الوضع فعل اختياري للواضع، فله أن يقيد المعنى الموضوع له
بقيود شاء ولا محذور فيه، والاستقراء المدعى في كلامه (قدس سره) لو تم فلا يدل على استحالة
ذلك الوضع على أن ذلك لو تم فإنما يتم إذا كان الواضع من أهل كل لغة واحدا أو جماعة
معينين ليثبت له الطريقة الخاصة في الوضع التي فرض عدم جواز التخلف عنها، إلا أنه
فرض في فرض.
ثانيا: أنه لا أساس لذلك الإيراد أصلا، فإنه مبتن على أخذ الإرادة في المعنى الموضوع
له، وأما إذا لم تؤخذ فيه أبدا، بل كانت مأخوذة في العلقة الوضعية فلا مجال لذلك الإيراد.
قاله العراقي تحريرا عنه في بداع الأفكار ج 1 ص 92.
121

فالنتيجة: هي أن جعل الإرادة من قيود العلقة الوضعية لا يدع مجالا
للإيرادات، لابتنائها جميعا على أخذ الإرادة التفهيمية في المعاني الموضوع لها،
وقد ظهر أن الأمر خلاف ذلك، وأن الإرادة لم تؤخذ في المعاني لا قيدا ولا جزءا،
بل هي مأخوذة في العلقة الوضعية، فهي تختص بصورة إرادة تفهيم تلك المعاني (1)

(1) وأورد بعض الأعاظم (قدس سره) على ما في تقريرات بعض تلامذته على ذلك بما ملخصه هو:
إن اللفظ لا يدل بالدلالة الوضعية على أن المتكلم أراد المعنى في الواقع، لأن تحصيله
بالوضع لا يمكن، فالذي يمكن تحصيله بالوضع هو الدلالة التصورية، ضرورة أن السامع
شاك في أن المتكلم يريد هذا المعنى واقعا، فيفتقر السامع في إحراز أن المتكلم أراد هذا
المعنى في الواقع إلى دلالة أخرى: كأصالة الظهور والحقيقة، فلا يكون الوضع وحده
كافيا لإثبات ذلك، ومعه فالوضع لذلك يصبح لغوا وعبثا، فلا يكون هذا غرضا للواضع من
الوضع، بل الغرض منه: تهية مقدمة من مقدمات الإفادة.
أقول: لا شبهة في أن الغرض الداعي إلى الوضع الباعث للواضع الحكيم عليه إنما هو:
إبراز المقاصد والمرادات النفسانية، فلولا الجعل والمواضعة والتعهد بذكر الألفاظ عند إرادة
تفهيم المعاني لم يمكن إبرازها، بل اختلت أنظمة الحياة كلها، فلذلك يصبح الوضع ضروريا،
ولولا ذلك لما احتجنا إلى الوضع أبدا، فالتشكيك فيه تشكيك في البداهة. وعلى ذلك فلا
يشك أيضا أحد في أن اللفظ الصادر من المتكلم يدل على أنه أراد تفهيم معناه بمقتضى
قانون الوضع، فهذه الدلالة لا تتوقف على ما عدا إحراز كون المتكلم في مقام التفهيم، وهي
موجودة حتى فيما إذا علم المخاطب كذب المتكلم في كلامه إذا لم ينصب قرينة متصلة
على أنه ليس في مقام التفهيم.
ومن هنا يظهر: أن ما ذكره (قدس سره) من الايراد مبني على الخلط بين الإرادة التفهيمية والإرادة
الجدية، فإن الثانية يحتاج إثباتها في الواقع ومقام الثبوت إلى مقدمة أخرى، وهي: التمسك
بأصالة الظهور، أو الحقيقة دون الأولى.
وعلى الجملة: فاللفظ بمقتضى قانون الوضع والتعهد يدل على إرادة المتكلم تفهيم
معناه، سواء أكانت هذه الإرادة متصادقة مع الإرادة الجدية في مقام الثبوت والواقع أم كانت
على خلافها. بدائع الأفكار ج 1 ص 93.
122

بنحو القضية الحقيقية وبنحو القوة والتقدير، وفي مرحلة الاستعمال تخرج من
القوة والتقدير إلى الفعلية والتحقق، ولعل لأجل ذلك الاختصاص قد عبر عن
الموضوع له بالمعنى باعتبار كونه مقصودا بالتفهيم.
قد أصبحت النتيجة بوضوح: أن الدلالة الوضعية تنحصر بالدلالة التصديقية،
ولا مناص من الالتزام بتلك النتيجة، ولا يرد عليها شئ من الإيرادات التي
تقدمت. هذا تمام الكلام في الدلالات الثلاث.
وضع المركبات
وقبل البدء فيه ينبغي التنبيه على مقدمة، وهي: أن محل الكلام هنا في وضع
المركب بما هو مركب، أعني: وضعه بمجموع أجزائه من الهيئة والمادة، مثلا في
قولنا: " زيد شاعر " قد وضعت كلمة " زيد " لمعنى خاص، وكلمة " شاعر " لمعنى
آخر، والهيئة القائمة بهما لمعنى ثالث، فكل ذلك لا إشكال ولا كلام فيه، وإنما
الكلام والإشكال في وضع مجموع المركب من هذه المواد على حدة. وأما وضع
هيئة الجملة فلا كلام في وضعها لقصد الحكاية والإخبار عن الواقع، أو مع إفادة
خصوصية أخرى أيضا، أو لإبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية.
فعلى ضوء هذه المقدمة قد ظهر: أن الصحيح: هو أنه لا وضع للمركب بما هو
مركب.
بيان ذلك: هو أن كل جملة ناقصة كانت أو تامة لها أوضاع متعددة باعتبار
وضع كل جزء جزء منه أقلها ثلاثة حسب ما تدعو إليه الحاجة.
مثلا: جملة " زيد إنسان " لها أوضاع ثلاثة: 1 - وضع " زيد ". 2 - وضع
123

" إنسان ". 3 - وضع " الهيئة القائمة بهما ".
ولجملة " الإنسان متعجب " أوضاع أربعة: 1 - وضع " الإنسان ". 2 - وضع
متعجب " مادة ". 3 - وضعه " هيئة ". 4 - وضع " الهيئة القائمة بالجملة ".
ولجملة " زيد ضارب عمرو " أوضاع ستة: 1 - وضع " زيد ". 2 - وضع ضارب
" مادة ". 3 - وضعه " هيئة ". 4 - وضع " الهيئة القائمة " بجملة " زيد ضارب "
5 - وضع " عمرو ". 6 - وضع " الهيئة القائمة بالمجموع ". وهكذا إلى أن ربما يبلغ
الوضع إلى عشرة أو أزيد على اختلاف الأغراض الموجبة لاختلاف المركبات
زيادة ونقيصة.
فإن الغرض قد يتعلق بالمركب من شيئين، وقد يتعلق بالمركب من أشياء
ثلاثة، وقد يتعلق بالمركب من أشياء أربعة، وهكذا...
ومن الواضح أن هذه الأوضاع وافية لإفادة الأغراض والمقاصد المتعلقة
بالمركبات، سواء كان الغرض قصد الحكاية عن الواقع، أو إبراز أمر نفساني غير
قصد الحكاية، ولا يبقى أي غرض لا تكون تلك الأوضاع وافية لإفادته لنحتاج
إلى وضع المركب بما هو على حدة لإفادة ذلك الغرض، مثلا: هيئة " ضرب زيد "
تدل على قصد الحكاية عن حدوث تلبس زيد بالمبدأ في الخارج. كما أن جملة
" ما أكرم القوم إلا زيدا " تدل على حصر الإكرام بزيد زائدا على دلالتها على قصد
الإخبار عن تلبس القوم بذلك. وهيئة " أن زيدا عادل " تدل على التأكيد، وهيئة
" ضرب موسى عيسى " تدل على أن موسى فاعل، لعدم دال آخر هنا غير تلك
الهيئة، وهكذا...
وعلى الجملة: فالمتكلم متى ما أراد تفهيم خصوصية من الخصوصيات
وإبرازها في الخارج يتمكن من ذلك بهيئة من الهيئات، وعليه فلسنا بحاجة إلى
وضع المركب بما هو، بل هو لغو وعبث.
ومما يدلنا على ذلك - أي: على عدم وجود وضع مستقل للمركبات بما هي -
124

مضافا إلى لغويته: أنه يستلزم إفادة المعنى الواحد مرتين، والانتقال إليه بانتقالين،
وذلك لفرض تعدد الوضع الذي يقتضي تعدد الإفادة والانتقال، وهذا كما إذا تكلم
الإنسان بلفظ الدار مرة، وبكلمات الحائط والغرفة والساحة أخرى، فإنه لا ريب
حينئذ في أن الانتقال إلى المعنى يكون مرتين، غايته: أنهما طوليان.
وأما في مقامنا فلو التزمنا بتعدد الوضع للزمنا الالتزام بعرضية الانتقالين،
وذلك لأن المركبات بما هي لو كان لها وضع فلا محالة كان وضعها لإفادة ما
يستفاد من مجموع الهيئة والمادة في الجملة، لعدم معنى آخر على الفرض،
وعليه فلزمنا الالتزام بعرضية الانتقالين لتحقق كل من الدالين في عرض تحقق
الآخر، وهذا مخالف للوجدان كما هو واضح. ومن هنا لم نجد قائلا به وإن
كان ابن مالك (1) قد نسب القول به إلى بعض، ولكن من المحتمل قويا أن
يكون النزاع لفظيا بأن يكون مراد القائل بالوضع: وضع هيئة المركب لا هو
بنفسه.
ومن هنا يظهر أن ما ذكره أهل الأدب من تقسيم المجاز إلى المجاز في
المفرد والى المجاز في المركب (2) غير صحيح، وذلك لأن الاستعمال المجازي
فرع وجود الموضوع له، فإذا فرض عدم الموضوع له للشئ فلا يعقل المجاز
فيه، وقد عرفت أن المركب بما هو لم يوضع لشئ، ومعه كيف يتصور المجاز
فيه؟
نعم، يجوز تشبيه المركب بالمركب كما في قوله تبارك وتعالى: (مثلهم كمثل
الذي استوقد نارا) (3). وكذا يجوز الكناية في المركب كما في قولهم: (أراك تقدم
رجلا وتؤخر أخرى) فهو كناية عن التردد الحاصل في النفس الموجب لذلك.

(1) راجع شرح الألفية لابن عقيل.
(2) راجع مفتاح العلوم: الأصل الثاني من علم البيان المجاز ص 175 س 13 ط بيروت.
(3) البقرة: 17.
125

الوضع الشخصي والنوعي
قسموا الوضع إلى: نوعي كوضع الهيئات، والى شخصي كوضع المواد.
ولا يخفى أن المراد بالوضع الشخصي ليس وضع شخص اللفظ الصادر من
المتكلم، فإن شخصه قد انقضى وانعدم فلا يمكن إعادته، وما يصدر عنه ثانيا هو
مثله لا عينه، بل المراد منه: وضع اللفظ بوحدته الطبيعية وشخصيته الذاتية في
قبال وضع اللفظ بجامعة العنواني ووحدته الاعتبارية.
هذا، وقد يشكل على ذلك: بأن ملاك شخصية الوضع في المواد إن كان وحدة
كل واحدة منها طبيعة وذاتا وامتيازها عن مادة أخرى بذاتها فهو بعينه موجود في
الهيئات، فإن كل هيئة بنفسها وبشخصها ممتازة عن هيئة أخرى، مثلا: هيئة
" فاعل " ممتازة بذاتها عن سائر الهيئات، فلها وحدة طبيعية وشخصية ذاتية، وإن
كان ملاك نوعية الوضع في الهيئات عدم اختصاص الهيئة بمادة دون مادة فهو
موجود بعينه في المواد، بداهة عدم اختصاص المادة بهيئة دون هيئة أخرى، مثلا:
مادة " ض ر ب " كما هي موجودة في " ضرب " كذلك موجودة في زنة
" ضارب "، و " مضروب " ونحو ذلك من الأوزان، فلا فرق بين الهيئة والمادة
ليكون وضع الأولى نوعيا والثانية شخصيا.
وقد أجاب عنه شيخنا المحقق (قدس سره) بوجهين، واليك قوله:
1 - والتحقيق: أن جوهر الكلمة ومادتها - أعني: الحروف الأصلية المترتبة
الممتازة عن غيرها ذاتا أو ترتيبا - أمر قابل للحاظ الواضع بنفسه، فيلاحظ
بوحدته الطبيعية وتوضع لمعنى، بخلاف هيئة الكلمة، فإن الزنة لمكان اندماجها
في المادة لا يعقل أن تلاحظ بنفسها، لاندماجها غاية الاندماج في المادة، فلا
استقلال لها في الوجود اللحاظي كما في الوجود الخارجي: كالمعنى الحرفي،
فلا يمكن تجريدها ولو في الذهن عن المواد، فلذا لا جامع ذاتي لها كحقائق
126

النسب، فلا محالة يجب الوضع لأشخاصها بجامع عنواني كقولهم: (كل ما كان
على زنة فاعل) وهو معنى نوعية الوضع، أي: الوضع لها بجامع عنواني
لا بشخصيتها الذاتية.
2 - أو المراد: أن المادة حيث يمكن لحاظها فقط فالوضع شخصي،
والهيئة حيث لا يمكن لحاظها فقط إلا في ضمن مادة فالوضع لها يوجب اقتصاره
عليها، فيجب أن يقال: هيئة فاعل وما يشبهها، وهذا معنى نوعية
الوضع، أي: لا لهيئة شخصية واحدة بوحدة طبيعية، بل لها ولما يشبهها،
فتدبر (1). انتهى.
وما أفاده (قدس سره) من الجواب في غاية المتانة. وحاصله: أن كل مادة يمكن
للواضع أن يلاحظها بشخصها وبوحدتها الطبيعية، مثلا: لفظ " الإنسان " أو مادة
" ض ر ب " يمكن أن يلاحظه بشخصه وبوحدته ويوضع لمعنى، فالوضع لا
محالة يوجب الاقتصار على تلك المادة أو ذلك اللفظ فلا ينحل إلى أوضاع
عديدة، فيكون نظير: الوضع الخاص والموضوع له الخاص، وهذا بخلاف الهيئة،
فإنها حيث لا يمكن أن تلاحظ بشخصها ووحدتها الذاتية بدون مادة ما يجب أن
توضع بجامع عنواني، ومن هنا ينحل إلى أوضاع متعددة، فيثبت لكل هيئة وضع
خاص مستقل نظير: وضع العام والموضوع له الخاص، وهذا معنى: كون الوضع
فيها نوعيا، أي: أن الملحوظ حال الوضع جامع عنواني، ولكن الموضوع معنون
هذا العنوان لا نفسه.
والنتيجة: أن الوضع ينحل إلى أوضاع عديدة بتعدد أفراد تلك الهيئة
الانتزاعية، وهذا معنى: أن الوضع نوعي، وهذا بخلاف المواد، فإن شخص كل مادة
موضوع بإزاء معنى ما، فلأجل ذلك كان الوضع فيها شخصيا.

(1) راجع نهاية الدراية: ج 1 ص 38.
127

الأمر الثامن
علامات الحقيقة والمجاز
إنهم ذكروا للحقيقة علائم:
منها: التبادر، وهو: خطور المعنى في الذهن بمجرد سماع اللفظ وإطلاقه،
من دون لحاظ أية قرينة وعناية في البين: من حالية أو مقالية. ومن الواضح أن
مثل هذا التبادر معلول للوضع لا محالة، وكاشف عنه كشفا إنيا.
والوجه في ذلك: هو أن دلالة اللفظ لا تخلو: إما أن تكون ذاتية، أو تكون
جعلية. وعلى الثاني: إما أن تكون الدلالة مع القرينة، أو بدونها.
أما الأولى: فقد عرفت بطلانها على ما حققناه في مسألة الوضع.
وأما الثانية: فهي خارجة عن مفروض كلامنا في المقام، فيتعين الثالثة، فيدل
التبادر على الوضع.
وبتعبير آخر: أن مطلق تبادر المعنى من إطلاق اللفظ وفهمه منه ليس علامة
لإثبات الحقيقة، بل العلامة حصة خاصة منه، وهي: فهم المعنى من اللفظ نفسه بلا
معونة خارجية، وهي كاشفة عن الوضع لا محالة، كما يكشف المعلول عن علته.
وقد يورد على ذلك: باستلزامه الدور. بيانه: أن من المعلوم بالضرورة أن
الوضع وحده لا يكفي للتبادر، ولا يكون علة تامة له، فإن الموجب للتبادر هو
العلم بالوضع لا نفسه، فلو انتفى العلم به انتفى التبادر، فينتج: أن التبادر في الحقيقة
معلول للعلم بالوضع، فلو كان العلم بالوضع متوقفا عليه لدار.
وأجاب عنه المحقق صاحب الكفاية (1) (قدس سره) بوجهين:
الأول: أن التبادر عند العالم بالوضع علامة الحقيقة للجاهل به، فالمستعلم

(1) انظر كفاية الأصول: ص 33.
128

يرجع في ذلك إلى العالم بالوضع، كما هو طريقة دارجة بين أهل المحاورة في
مقام استعلام اللغات الأجنبية وتعاليمها، وبذلك يندفع الدور من أصله.
الثاني: أن التبادر وإن كان متوقفا على العلم بالوضع لا محالة إلا أن
ذلك العلم ارتكازي مكنون في خزانة النفس، وثابت في حافظة أهل كل لغة
بالقياس إلى لغاتهم، وهم يستعملون تلك اللغات في معانيها حسب ذلك
الارتكاز من دون التفات تفصيلي منهم إلى خصوصيات تلك المعاني من
حيث السعة والضيق، فإذا حصل الالتفات منهم إلى خصوصيات تلك المعاني
حصل لهم العلم تفصيلا بها، وبذلك تحصل المغايرة بين العلمين، فارتفع الدور
من البين.
ثم لا يخفى أن تبادر المعنى من نفس اللفظ من دون قرينة لا يثبت به إلا وضع
اللفظ لذلك المعنى، وكون استعماله فيه حقيقيا في زمان تبادره منه. وأما وضعه
لذلك المعنى في زمان سابق عليه فلا يثبت بالتبادر المتأخر، فلا بد في إثبات
ذلك من التشبث بالاستصحاب القهقرى الثابت حجيته في خصوص باب
الظهورات بقيام السيرة العقلائية وبناء أهل المحاورة عليه، فإنهم يتمسكون
بذلك الاستصحاب في موارد الحاجة ما لم تقم حجة أقوى على خلافه. بل
على ذلك الأصل يدور استنباط الأحكام الشرعية من الألفاظ الواردة في
الكتاب والسنة، ضرورة أنه لولا اعتباره لا يثبت لنا أن هذه الألفاظ كانت
ظاهرة في تلك الأزمنة في المعاني التي هي ظاهرة فيها في زماننا، ولكن ببركة
ذلك الاستصحاب نثبت ظهورها فيها في تلك الأزمنة أيضا ما لم تثبت قرينة
على خلافها، وسمي ذلك الاستصحاب بالاستصحاب القهقرى، فإنه على عكس
الاستصحاب المصطلح السائر في الألسنة، فإن المتيقن فيه أمر سابق، والمشكوك
فيه لاحق، على عكس الاستصحاب القهقرى فإن المشكوك فيه فيه أمر سابق،
129

والمتيقن لاحق.
هذا كله فيما إذا أحرز التبادر وعلم أن المعنى ينسبق إليه الذهن من نفس
اللفظ. وأما إذا لم يحرز ذلك واحتمل أن ظهور اللفظ مستند إلى وجود قرينة
داخلية أو خارجية فلا يمكن إثبات الحقيقة بأصالة عدم القرينة، إذ لا دليل على
حجيته.
فإنه إن تمسك في إثبات حجيته بأخبار الاستصحاب فيرده: أن الاستصحاب
لا يثبت اللوازم غير الشرعية، ومن الظاهر أن استناد الظهور إلى نفس اللفظ من
لوازم عدم القرينة عقلا، فلا يثبت باستصحاب عدمه.
وإن تمسك فيه ببناء العرف على عدم الاعتناء باحتمال القرينة فيرده: أن بناء
العرف وأهل المحاورة إنما يختص بما إذا شك في مراد المتكلم ولم يعلم أنه
المعنى الحقيقي أو معنى آخر غيره، وقد نصب على إرادته قرينة قد خفيت علينا.
وأما إذا علم المراد وشك في أن ظهور اللفظ فيه من جهة الوضع أو من جهة القرينة
فلا بناء من أبناء المحاورة على عدم الاعتناء باحتمال القرينة.
فلتخص: أن إثبات الحقيقة يتوقف على إحراز أن الظهور مستند إلى نفس
اللفظ لا إلى القرينة.
ومنها: - أي: علائم الحقيقة - عدم صحة السلب. وذكروا: أن صحة السلب
علامة المجاز، وقد يعبر عن الأولى بصحة الحمل، وعن الثانية بعدم صحة الحمل.
فيقال: إن حمل اللفظ بماله من المعنى الارتكازي على معنى علامة أنه حقيقة
فيه، وكاشف عن كونه موضوعا بإزائه. كما أن عدم صحة حمل اللفظ كذلك على
معنى علامة للمجاز، وكاشف عن عدم وضعه بإزائه.
والصحيح أن يقال: إن شيئا منهما لا يصلح لأن يكون علامة للحقيقة أو المجاز.
بيان ذلك: أن ملاك صحة الحمل مطلقا، سواء أكان حملا أوليا ذاتيا أم كان
حملا شائعا صناعيا هو الاتحاد من جهة، لئلا يلزم حمل المباين على مباين
130

آخر، والمغايرة من جهة أخرى حتى لا يلزم حمل الشئ على نفسه.
والمغايرة قد تكون بالاعتبار، والمراد منه: الاعتبار الموافق للواقع، لا مجرد
الفرض كما في حمل الحد على المحدود، فإنهما متحدان بالذات والحقيقة،
ومختلفان باللحاظ والاعتبار، أعني به: الاختلاف من جهة الإجمال والتفصيل
والجمع والتفريق.
مثلا: المفهوم من لفظ " الإنسان " ومن جملة " الحيوان الناطق " حقيقة
واحدة، وهذه الحقيقة الواحدة المركبة مما به الاشتراك، وما به الامتياز ملحوظة
في الإنسان بنحو الوحدة والجمع، وفي الحيوان الناطق بنحو الكثرة والتفريق،
فجهة الواحدة في الإنسان كجهة الكثرة في الحيوان الناطق اعتبار موافق للواقع،
ضرورة أن هذه الحقيقة الواحدة بتلك الجهة غير تلك الحقيقة بالجهة الأخرى.
وقد ذكرنا سابقا: أنه يمكن تصوير شئ واحد مرة بنحو الوحدة، ومرة أخرى
بنحو الكثرة، وقد مثلنا لذلك بمفهوم " الدار "، فإنه مركب من حيطان وساحة
وغرفة أو غرف، وهذا المفهوم ملحوظ بنحو الجمع في لفظ " الدار "، وبنحو التفريق
في كلمات " الحيطان والساحة والغرف ".
وقد تكون المغايرة ذاتية والاتحاد في أمر خارج عن مقام الذات كما في
الحمل الشائع الصناعي مثل قولنا: " زيد إنسان أو كاتب " فإن مفهوم " زيد "، غير
مفهوم " الإنسان " أو " الكاتب "، فهما مفهومان متغايران، ولكنهما موجودان في
الخارج بوجود واحد، ويسمى هذا الحمل بالشائع، لأجل شيوعه بين عامة
الناس على عكس الأولي، وبالصناعي لأجل استعماله في صناعات العلوم
وأقيستها.
وإذا اتضح ذلك فنقول: إن صحة شئ من ذينك الحملين لا تكون علامة
للحقيقة، ولا يثبت بهما المعنى الحقيقي.
وتفصيل ذلك: أن الحمل الذاتي لا يكشف إلا عن اتحاد الموضوع والمحمول
131

ذاتا ومغايرتهما اعتبارا، ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال وأنه حقيقي أو
مجازي. مثلا: حمل " الحيوان الناطق " على الإنسان لا يدل إلا على اتحاد
معنييهما حقيقة، ولا نظر فيه إلى أن استعمال لفظ " الإنسان " فيما أريد به حقيقي أو
مجازي، ومن الظاهر أن مجرد الاستعمال لا يكون دليلا على الحقيقة.
وعلى الجملة: فصحة الحمل الذاتي بما هو لا يكشف إلا عن اتحاد المعنيين
ذاتا. وأما أن استعمال اللفظ في القضية استعمال حقيقي فهو أمر آخر أجنبي عن
صحة الحمل وعدمها.
نعم، بناء على أن الأصل في كل استعمال أن يكون حقيقيا - كما نسب إلى
السيد المرتضى (1) (قدس سره) - يمكن إثبات الحقيقة، إلا أنه لم يثبت في نفسه - كما
ذكرناه (2) غير مرة - على أنه لو ثبت فهو أجنبي عن صحة الحمل وعدمها.
وبكلمة أخرى: أن صحة الحمل وعدم صحته يرجعان إلى عالم المعنى
والمدلول، فمع اتحاد المفهومين ذاتا يصح الحمل، وإلا فلا. وأما الحقيقة والمجاز
فهما يرجعان إلى عالم اللفظ والدال، وبين الأمرين مسافة بعيدة.
نعم، لو فرض في القضية الحملية أن المعنى قد استفيد من نفس اللفظ من دون
قرينة كان ذلك علامة الحقيقة، إلا أنه مستند إلى التبادر، لا إلى صحة الحمل.
وقد أصبحت النتيجة بوضوح: أن صحة ذلك الحمل بما هو حمل لا تكون
علامة لإثبات الحقيقة، وكذا عدمها لا يكون علامة لإثبات المجاز، بل هما علامة
الاتحاد والمغايرة لا غير، فنحتاج في إثبات الحقيقة إلى التمسك بالتبادر من
الإطلاق، أو نحوه، هذا.
وأما الحمل الشائع فتفصيل الكلام فيه: أن ملاك صحته بجميع أنواعه اتحاد
المعنيين - أي: الموضوع والمحمول - وجودا ومغايرتهما مفهوما، فذلك الوجود

(1) الذريعة إلى أصول الشريعة: ق 1 ص 13.
(2) راجع ما ذكر في مصباح الأصول: ج 2 ص 128 بحث حجية الظواهر.
132

الواحد: إما أن يكون وجودا لهما بالذات، أو يكون لأحدهما بالذات، وللآخر
بالعرض، أو لكليهما بالعرض، فهذه أقسام ثلاثة:
أما القسم الأول: فهو في حمل الطبيعي على أفراده ومصاديقه، وحمل الجنس
على النوع، وحمل الفصل عليه، وبالعكس، فإن الموضوع والمحمول في تمام هذه
الموارد متحدان في الوجود الخارجي، بمعنى: أن وجودا واحدا وجود لهما
بالذات والحقيقة.
مثلا: وجود " زيد " هو وجود " الإنسان " بعينه، لأن وجود الطبيعي بعين
وجود فرده، وليس له وجود آخر غيره، فالوجود الواحد وجود لهما بالذات،
وإنما الاختلاف في جهتي النسبة، وكذلك الحال في قولنا: " الانسان حيوان "، أو
قولنا: " الإنسان ناطق " إلى غير ذلك...، فإن المحمول والموضوع في جميع ذلك
متحدان في ما يكون وجودا لهما بالذات.
وأما القسم الثاني: فهو في حمل العناوين العرضية على معروضاتها: كحمل
" الضاحك " أو " الكاتب " أو " العالم " أو " الأبيض " أو " الأسود " على زيد مثلا،
فإن هذه العناوين جميعها عرضية انتزاعية منتزعة من قيام الأعراض
بموضوعاتها، وليس لها وجود في الخارج، والموجود فيه نفس الأعراض
والمقولات التي هي من مبادئ تلك العناوين ومنشأ انتزاعها.
وعليه، فنسبة ما به الاتحاد - وهو: وجود زيد المتصف بتلك المبادئ - إلى
تلك العناوين بالعرض والمجاز، وبمقتضى القاعدة السائرة في الكائنات بأجمعها -
وهي: أن كل ما بالعرض لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات - ينتهي هذا الحمل - أي:
العناوين على معروضاتها - إلى حمل ثان، ويدل الكلام عليه بالدلالة الالتزامية لا
محالة، فذلك الحمل يكون من قبيل: حمل الطبيعي على أفراده، فإن في قولنا:
" زيد ضاحك " - مثلا - بما أن الضاحك عنوان عرضي انتزاعي فلا محالة ينتهي
الأمر إلى حمل الضحك على الصفة القائمة بزيد، وهو من حمل الكلي على
133

فرده، فبالنتيجة: يرجع هذا القسم إلى القسم الأول وإن كان مغايرا له بحسب
الصورة.
وأما القسم الثالث: فهو في حمل بعض العناوين العرضية على بعضها الآخر،
كقولهم: " الكاتب متحرك الأصابع، أو: " المتعجب ضاحك " ونحو ذلك. وقد اتضح
لك: أنه ليس للعناوين العرضية وجود في عالم الخارج بالذات، بل يضاف إليها
وجود ما يتصف بها إضافة بالعرض، وبقانون: أن ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات
فلا محالة ينتهي الأمر إلى حملين آخرين:
أحدهما: حمل صفة الكتابة أو التعجب على شئ.
وثانيهما: حمل الحركة أو الضحك على شئ آخر، فيدخل هذا القسم أيضا
في القسم الأول، والاختلاف بينهما في الصورة، لا في الحقيقة.
فتلخص من ذلك: أن مرجع جميع هذه الأقسام إلى قسم واحد، وهو القسم
الأول، وعلى ضوء أن الملاك في صحة الحمل الشائع هو الاتحاد في الوجود
الخارجي ظهر أن صحته لا تكشف عن الحقيقة، ضرورة أنها لا تكون أمارة إلا
على اتحاد المحمول مع الموضوع خارجا. وأما أن استعمال اللفظ في المحمول
على نحو الحقيقة فهي لا تدل عليه، إذ ليس هنا إلا مجرد التعبير عنه بذلك اللفظ،
وهو لا يزيد على الاستعمال، وهو أعم من الحقيقة.
نعم، إذا فرض تجرد اللفظ عن القرينة وتبادر منه المعنى كان ذلك آية
الحقيقة، إلا أنه خارج عن محل الكلام بالكلية.
وعلى الجملة: فملاك صحة الحمل نحو من أنحاء الاتحاد خارجا، وملاك
الحقيقة استعمال اللفظ في الموضوع له، فأحد الملاكين أجنبي عن الملاك الآخر،
لإمكان أن يتحد الموضوع والمحمول في الخارج مع كون استعمال اللفظ في
المحمول مجازا. وقد عرفت: أن الحقيقة والمجاز أمران يرجعان إلى عالم
الألفاظ، وصحة الحمل ترجع إلى عالم المدلول، فإثبات أحدهما لا يكون دليلا
134

على إثبات الآخر.
فقد أصبحت النتيجة لحد الآن: كما أن صحة الحمل الأولي الذاتي لا تكشف
عن الحقيقة كذلك صحة الحمل الشائع الصناعي، ومن ذلك يظهر حال عدم صحة
الحمل أيضا حرفا بحرف.
ولكن في تقريرات بعض الأعاظم (قدس سرهم): أن صحة الحمل مطلقا - سواء أكان
ذاتيا، أم كان شائعا صناعيا - كاشفة عن الحقيقة.
وأفاد في وجه ذلك ما ملخصه: أن صحة الحمل الذاتي تكشف عن أن المعنى
المعلوم لدى المستعلم تفصيلا والمعنى المعلوم لديه ارتكازا متحدان بالذات
والحقيقة، وبذلك الاتحاد يستكشف له تفصيلا أن اللفظ موضوع لذاك المعنى
المعلوم لديه تفصيلا.
ولكنه (قدس سره) استثنى من ذلك حمل الحد على المحدود، كما في مثل: " الإنسان
حيوان ناطق ".
فقال: إن صحة الحمل في مثل ذلك لا تكشف عن الحقيقة اللغوية، بدعوى: أن
مفهوم " الحيوان الناطق " مفهوم مركب مفصل، ومفهوم الإنسان مفهوم مفرد بسيط.
هذا في الحمل الأولي.
وأما صحة الحمل الشائع الصناعي فهي تكشف عن اتحاد الموضوع
والمحمول اتحاد الطبيعي مع فرده، وبذلك الاتحاد يستكشف أن اللفظ موضوع
للطبيعي (1).
والجواب عن ذلك قد ظهر مما تقدم، فإنك قد عرفت أن صحة الحمل مطلقا
ذاتيا كان أم صناعيا لا تتوقف على كون الاستعمال حقيقيا لتكون كاشفة عنه، فإن
ملاك أحدهما غير ملاك الآخر، فملاك صحة الحمل اتحاد المفهومين: إما بحسب

(1) انظر بدائع الأفكار: ج 1 ص 98.
135

الحقيقة والذات أو بحسب الوجود، فإذا كانا كذلك صح الحمل، سواء كان التعبير
عن المعنى المعلوم تفصيلا حقيقيا أم كان مجازيا، وهذا أجنبي عن صحة الحمل
وعدمها رأسا، ضرورة أن حمل الإنسان على زيد صحيح، سواء كان إطلاق لفظ
الإنسان على الطبيعي المنطبق على زيد في الخارج حقيقيا أم مجازيا.
وعلى الجملة: بمجرد صحة حمل شئ على شئ عند العرف وأبناء
المحاورة لا يستكشف منها الوضع والحقيقة إلا بمعونة التبادر أو نحوه، وإلا
فالحمل لو خلي وطبعه لا يدل على أزيد من الاتحاد بين الموضوع والمحمول
بنحو من أنحاء الاتحاد.
ومن الغريب أنه (قدس سره) فرق في الحمل الذاتي بين حمل الحد على المحدود
كقولك: " الإنسان حيوان ناطق " وبين غيره كقولك: " الغيث مطر "، فقال: إن الأول
لا يدل على الوضع، دون الثاني.
وذلك لأن الاتحاد لو كان طريقا إلى الحقيقة فمن اتحاد " الحيوان الناطق " مع
" الإنسان " بالذات والحقيقة يستكشف بالضرورة أن لفظ " الإنسان " موضوع
لمعنى يحلله العقل إلى جزءين: جزء مشترك فيه وهو " الحيوان "، وجزء آخر
يميزه عن غيره وهو " الناطق "، فهما بعينهما معنى: " الإنسان " بالتحليل العقلي،
كما هو شأن كل مفهوم بالإضافة إلى حكم العقل. وهذا لعله من الواضحات.
ثم لا يخفى: أن ما ذكره من: أن صحة الحمل عند المستعلم علامة لإثبات
الحقيقة لا محصل له، وذلك لأن الصحة في مرتبة متأخرة عن إحراز ملاك الحمل
بين المفهومين، فلا بد أولا من تصورهما تفصيلا وإحراز الملاك المصحح لحمل
أحدهما على الآخر، ثم يحمل هذا على ذاك، والعلم الارتكازي بالمعنى لا يكفي
في صحة الحمل، بل لا بد من الالتفات التفصيلي.
ومنها: - أي: علائم الحقيقة - الاطراد، وذكروا عدم الاطراد من علائم
المجاز.
136

لا يخفى أن المراد من الاطراد ليس تكرار الاستعمال في معنى، ضرورة أنه
إذا صح الاستعمال فيه مرة واحدة يصح فيه مرات عديدة، من دون فرق في ذلك
بين الاستعمال الحقيقي والمجازي.
ومن هنا فسر الاطراد شيخنا المحقق (قدس سره) بمعنى آخر، وإليك قوله:
مورد هاتين العلامتين: الاطراد وعدمه ما إذا اطلق لفظ باعتبار معنى كلي
على فرد يقطع بعدم كونه من حيث الفردية من المعاني الحقيقية، لكنه يشك في أن
ذلك الكلي كذلك أم لا؟ فإذا وجد صحة الإطلاق مطردا باعتبار ذلك الكلي كشف
عن كونه من المعاني الحقيقية، لأن صحة الاستعمال فيه وإطلاقه على أفراده
مطردا لا بد من أن تكون معلولة لأحد الأمرين: إما الوضع، أو العلاقة، وحيث لا
اطراد لأنواع العلائق المصححة للتجوز ثبت الاستناد إلى الوضع، فنفس الاطراد
دليل على الحقيقة وإن لم يعلم وجه الاستعمال على الحقيقة.
كما أن عدم الاطراد في غير مورد يكشف عن عدم الوضع له، وإلا لزم تخلف
المعلول عن العلة، لأن الوضع علة صحة الاستعمال مطردا، وهذه العلامة علامة
قطعية لو ثبت عدم اطراد علائق المجاز، كما هو المعروف والمشاهد في جملة من
الموارد (1). انتهى.
وحاصله: أن إطلاق لفظ باعتبار معنى كلي على فرد مع القطع بعدم كون ذلك
الفرد من حيث الفردية معنى حقيقيا: إن كان مطردا كشف عن كونه من المعاني
الحقيقية، وإن لم يكن مطردا كشف عن كونه من المعاني المجازية.
مثلا: إطلاق لفظ " الأسد " على كل فرد من أفراد " الحيوان المفترس " - مع
العلم بعدم كون الفرد بخصوصه من المعاني الحقيقية - لما كان مطردا كشف ذلك
عن كون " الحيوان المفترس " معنى حقيقيا له، وإطلاقه على كل فرد من أفراد

(1) نهاية الدراية للمحقق الأصفهاني: ج 1 ص 43.
137

" الشجاع " لما لم يكن مطردا فإنه يصح إطلاقه باعتبار هذا المفهوم الكلي على
" الإنسان " وعلى جملة من " الحيوانات "، إلا أنه لا يصح إطلاقه على " النملة
الشجاع " - مثلا - كشف ذلك عن كونه من المعاني المجازية.
نعم، إن إطلاق لفظ " الشجاع " باعتبار هذا المفهوم الكلي على جميع أفراده
حيث كان مطردا كشف هذا عن كون ذلك الإطلاق حقيقيا.
ولكن الصحيح: أنه لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لأن المراد من الاطراد
كما لا يمكن أن يكون تكرار الاستعمال - لما مر - كذلك لا يمكن أن يراد به
التكرار في التطبيق، أي: تطبيق المعنى على مصاديقه وأفراده.
بيان ذلك: أن انطباق الطبيعي على أفراده والكلي على مصاديقه أمر عقلي
وأجنبي عن الاستعمال بالكلية، فلا يعقل أن يكون المعنى كليا، ومع ذلك لا ينطبق
على تمام أفراده ومصاديقه، ولا يصح إطلاقه عليها، فهذا من الواضحات الأولية
وغير قابل للنزاع فيه أصلا.
وأما عدم انطباق بعض المفاهيم في بعض الموارد فهو إنما كان من جهة ضيق
دائرة ذلك المفهوم من ناحية تخصصه بخصوصية ما عرفا. ومن الواضح أن مثل
هذا المفهوم لا ينطبق إلا على أفراد تلك الحصة خاصة، دون غيرها، فإن سعة
الانطباق وضيقه تابعان لسعة المفهوم وضيقه، فإذا كان المفهوم وسيعا كان
الانطباق كذلك، وإذا كان مفهوما ضيقا كان الانطباق مثله، وعلى كل فلا يعقل
انطباقه على غير أفراده، وعدم انطباقه إلا على بعض أفراده.
مثلا: مفهوم " الإنسان " إذا لاحظناه بما له من السعة والإطلاق فلا محالة
ينطبق على جميع أفراده، فلا يعقل انطباقه على بعضها دون بعضها الآخر.
وإن لاحظناه بما له من الخصوصية: ك‍ " العالمية " أو " الهاشمية " أو " العربية "
أو غير ذلك فلا يعقل انطباقه إلا على أفراد هذه الحصة، فعدم الاطراد بهذا المعنى
138

أو الاطراد مشترك فيه بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، وتابع لسعة
المعنى وضيقه.
مثلا: لفظ " الماء " في لغة العرب موضوع للجسم السيال البارد بالطبع، مع أنه
لا ينطبق على كل جسم سيال بارد بالطبع، وليس ذلك إلا من جهة أن معناه: حصة
خاصة منه، لا هو على إطلاقه وسريانه، وعليه - فلا محالة - لا ينطبق إلا على
أفراد تلك الحصة، دون غيرها، وهكذا...، وعلى ذلك لا يكون عدم الاطراد كاشفا
عن عدم الحقيقة.
ومنه يظهر: أن عدم اطراد إطلاق لفظ " الأسد " باعتبار مفهوم الشجاع على
كل فرد من أفراده لا يكون إلا من جهة أن صحة ذلك الإطلاق إنما كانت باعتبار
حصة خاصة من ذلك الكلي، لا هو بإطلاقه، ومن المعلوم أن ذلك الإطلاق
باعتبار تلك الحصة مطرد.
فالنتيجة لحد الآن أمور:
الأول: أن انطباق طبيعي المعنى على أفراده ومصاديقه قهري وأجنبي عن
الاستعمال رأسا.
الثاني: أن سعة الانطباق وضيقه تابعان لسعة المعنى وضيقه عرفا، فإن تعيين
المفاهيم وخصوصياتها من حيث السعة والضيق أمر راجع إلى أهل العرف، فإن
كان معنى اللفظ عندهم وسيعا كان الانطباق أيضا كذلك، وإن كان ضيقا وحصة
خاصة فالانطباق تابع له.
الثالث: أنه لا فرق في ذلك بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، فهما على
حد سواء في ذلك.
الرابع: أن الاطراد بهذا المعنى وعدمه أجنبيان عن الحقيقة والمجاز.
والذي ينبغي أن يقال في المقام: هو أن الاطراد الكاشف عن الحقيقة
139

في الجملة عبارة عن استعمال لفظ خاص في معنى مخصوص في موارد
مختلفة بمحمولات عديدة، مع إلغاء جميع ما يحتمل أن يكون قرينة على
إرادة المجاز، فهذه طريقة عملية لتعليم اللغات الأجنبية واستكشاف حقائقها
العرفية.
توضيح ذلك: هو أن من جاء من بلد إلى بلد آخر لا يعرف لغاتهم إذا تصدى
لتعليم اللغة السائرة في هذا البلد رأى أن أهل البلد يطلقون لفظا ويريدون به معنى،
ويطلقون لفظا آخر ويريدون به معنى آخر، وهكذا...، ولكنه لا يعلم أن هذه
الإطلاقات من الإطلاقات الحقيقية أو المجازية، فإذا رأى أنهم يطلقون هذه
الألفاظ ويريدون بها تلك المعاني في جميع الموارد حصل له العلم بأنها معان
حقيقية، لأن جواز الاستعمال معلول لأحد أمرين: إما الوضع، أو القرينة. وحيث
فرض انتفاء القرينة من جهة الاطراد فلا محالة يكون مستندا إلى الوضع.
مثلا: إذا رأى أحد أن العرب يستعملون لفظ " الماء " في معناه المعهود ولكنه
شك في أنه من المعاني الحقيقية أو من المعاني المجازية فمن إلغاء ما يحتمل أن
يكون قرينة من جهة الاطراد علم بأنه من المعاني الحقيقية، ولا يكون فهمه منه
مستندا إلى قرينة حالية أو مقالية. وبهذه الطريقة - غالبا - يتعلم الأطفال والصبيان
اللغات والألفاظ.
فقد تحصل من ذلك: أن الاطراد بهذا التفسير الذي ذكرناه علامة لإثبات
الحقيقة، بل إن هذا هو السبب الوحيد لمعرفة الحقيقة غالبا، فإن تصريح الواضع
وإن كان يعلم به الحقيقة إلا أنه نادر جدا.
حول الحقيقة الشرعية
وأما التبادر: فهو وإن كان يثبت به الوضع - كما عرفت - إلا أنه لا بد من أن
يستند إلى العلم بالوضع: إما من جهة تصريح الواضع، أو من جهة الاطراد، والأول
نادر، فيستند إلى الثاني لا محالة.
140

تعارض الأحوال
التخصيص، والتقييد، والمجاز، والاشتراك، والإضمار.
ذكروا لتقديم كل واحد منها على الآخر فيما إذا وقعت المعارضة بينها وجوها.
ولكن الصحيح: ما ذكره المحقق صاحب الكفاية من: أن تلك الوجوه بأجمعها
من الأمور الاستحسانية التي لا اعتداد بها - أصلا - في باب الألفاظ، فإن المتبع
في ذلك الباب: الظهورات العرفية التي قد جرت على متابعتها السيرة العقلائية في
مسألة الاحتجاج واللجاج، دون الاستحسانات العقلية، والأمور الظنية، إذ لم
يترتب عليها أي أثر شرعي إلا إذا كانت موجبة للظهور العرفي، فحينئذ العمل
بالظهور، لا بها كما لا يخفى (1)، فلا وجه لإطالة الكلام في ذلك أصلا.
الأمر التاسع
في الحقيقة الشرعية
الكلام في هذه المسألة يقع في جهات:
الجهة الأولى: قال جماعة منهم المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): تظهر الثمرة في
المسألة بحمل الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة - كألفاظ العبادات والمعاملات -
على المعاني الشرعية بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية، وعلى المعاني اللغوية بناء
على عدم ثبوتها (2).
وقيل بالتوقف في المقام بناء على الثاني، بدعوى: أن الحقيقة الشرعية وإن لم
تثبت إلا أنه لا شبهة في صيرورة المعاني الشرعية من المجازات المشهورة من
جهة كثرة استعمال هذه الألفاظ في تلك المعاني، والمختار في تعارض الحقيقة مع

(1) انظر كفاية الأصول: ص 35.
(2) راجع المصدر السابق: ص 37.
141

المجاز المشهور: التوقف، بل المشهور على ذلك (1)، إلا بناء على حجية أصالة الحقيقة
تعبدا كما نسب إلى السيد المرتضى (2) (قدس سره) وأما بناء على اعتبار الظهور فلا ظهور
لها في معانيها الحقيقية، هذا.
والتحقيق: أنه لا ثمرة لهذه المسألة أصلا، وفاقا لشيخنا الأستاذ (قدس سره).
والوجه في ذلك: هو أن الكبرى المذكورة - وهي: حمل الألفاظ المستعملة
في لسان الشارع على المعاني اللغوية، أو التوقف بناء على عدم الثبوت، وعلى
المعاني الشرعية بناء على الثبوت - وإن كانت مسلمة إلا أن الصغرى غير ثابتة،
لعدم الشك في المراد الاستعمالي من هذه الألفاظ، سواء أقلنا بثبوت الحقيقة
الشرعية أم لم نقل، فهي على التقديرين استعملت في عرف المتشرعة في المعاني
الشرعية. إذا لا يبقى مورد نشك فيه في المراد الاستعمالي (3).
وعلى الجملة: أن ألفاظ الكتاب والسنة قد وصلت إلينا من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)
بواسطة الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، ومن الواضح جدا أن الحقيقة الشرعية وإن فرض
أنها لم تثبت، إلا أنه لا شبهة في ثبوت الحقيقة المتشرعية في زمن ما، وعليه فليس
لنا مورد نشك فيه في مراد الشارع المقدس من هذه الألفاظ حتى تظهر الثمرة
المزبورة.
نعم، لو فرض كلام وصل إلينا من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بلا وساطة الأئمة
الأطهار (عليهم السلام) فيمكن أن تظهر الثمرة فيه إذا فرض الشك في مراده (صلى الله عليه وآله) منه،
إلا أنه فرض في فرض، فبالنتيجة: أنه لا ثمرة للبحث عن هذه المسألة أصلا،
بل هو بحث علمي فقط.
الجهة الثانية: قد تقدم أن الوضع على قسمين: أحدهما: تعييني، والثاني:
تعيني.

(1) راجع تقريرات آية الله المجدد الشيرازي (قدس سره) ج 1 ص 245.
(2) انظر الذريعة إلى أصول الشريعة: ق 1 ص 13.
(3) راجع أجود التقريرات: ص 33.
142

أما الوضع التعييني في المقام - بأن كان الشارع المقدس قد تصدى للوضع
صريحا - فهو مقطوع العدم، ضرورة أنه لو كان كذلك لنقل إلينا بالتواتر، كيف ولم
ينقل حتى بخبر الواحد؟! وذلك لعدم المانع منه، مع توفر الداعي على نقله. وليس
الوضع كمسألة الخلافة ونحوها، لتوفر الدواعي هناك على إخفائها وكتمانها دونه.
وأما الوضع التعييني بمعنى آخر بأن يكون الوضع متحققا بنفس الاستعمال
- كما ذكره المحقق صاحب الكفاية (1) (قدس سره) - فيقع الكلام في إمكانه أولا، وفي وقوعه
ثانيا، فهنا مقامان:
أما الكلام في المقام الأول: فقد اختار شيخنا الأستاذ (قدس سره) عدم إمكانه،
بدعوى: أن حقيقة الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى وإلقاء المعنى في الخارج،
بحيث تكون الألفاظ مغفولا عنها، فالاستعمال يقتضي أن يكون النظر إلى الألفاظ
آليا، والوضع يستدعي أن يكون النظر إلى الألفاظ استقلاليا، فالجمع بين الوضع
والاستعمال في شئ يلازم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي، وهو غير
معقول (2).
والتحقيق: أن الوضع سواء كان بمعنى التعهد والالتزام النفساني، أو بمعنى
اعتبار نفساني على تمام أنحائه في مرتبة متقدمة على الاستعمال.
أما على الأول: فواضح، ضرورة أن التعهد والتباني بذكر لفظ خاص عند
إرادة تفهيم معنى ما يكون مقدما على الاستعمال لا محالة، من دون فرق بين أن
يكون إبراز هذا التعهد بمثل كلمة " وضعت "، أو نحوها الدالة على التعهد بالمطابقة،
أو يكون المبرز نفس الاستعمال الدال على ذلك بالالتزام بمعونة القرينة.
وأما على الثاني: فلأن اعتبار الملازمة أو نحوها بين لفظ خاص ومعنى ما
مقدم على الاستعمال بالضرورة، وإن كان المبرز لذلك الاعتبار نفس الاستعمال

(1) راجع كفاية الأصول: ص 36.
(2) انظر أجود التقريرات: ص 33.
143

مع نصب القرينة على ذلك. وكيف كان فالاستعمال متأخر عن الوضع لا محالة.
ونظير ذلك: الهبة، فإنه تارة يبرزها بجملة " وهبتك " الدالة عليها بالمطابقة،
واخرى يبرزها بجملة " خذ هذا الثوب " - مثلا - الدالة عليها بالالتزام.
فقد أصبحت النتيجة: أن محذور لزوم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي
مندفع على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع، فإن الوضع أمر نفساني ثابت
في أفق النفس، والاستعمال أمر خارج عن أفق النفس، فالوضع سابق على
الاستعمال دائما.
بل لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا الجمع بين الوضع والاستعمال في آن واحد لم
نسلم استلزامه الجمع بين اللحاظين: الآلي والاستقلالي، فإن هذا اللازم مبتن على
مذهب المشهور في مسألة الاستعمال، حيث إنهم يرون الألفاظ في مرحلة
الاستعمال آليات.
وأما على مذهب الصحيح - من أن حال الألفاظ حال المعاني في مقام
الاستعمال - فكما أن المعاني ملحوظة استقلالا فكذلك الألفاظ، ومن هنا يلتفت
المتكلم إلى خصوصيات الألفاظ الصادرة منه من كونها لغة عربية أو فارسية
أو غير ذلك فلا يلزم من الجمع بين الوضع والاستعمال الجمع بين اللحاظين الآلي
والاستقلالي.
فقد ظهر مما ذكرناه: إمكان الوضع التعييني على أن يكون الدال عليه نفس
الاستعمال مع نصب القرينة على ذلك.
وأما الكلام في المقام الثاني: فالظاهر أنه لا شبهة في وقوع الوضع التعييني
على هذا النحو خارجا، بل لعله كثير بين العرف والعقلاء في وضع الأعلام
الشخصية والمعاني المستحدثة، وعليه فدعوى: ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع
التعييني على النحو المزبور في الجملة غير بعيدة. إنما الإشكال في أن ذلك
144

الاستعمال هل هو استعمال حقيقي أو مجازي؟ أو لا هذا ولا ذاك؟ وجهان،
بل قولان:
فقد اختار المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) الاحتمال الأخير، بدعوى: أنه لا
يكون من الاستعمال الحقيقي، من جهة أن الاستعمال الحقيقي استعمال اللفظ في
المعنى الموضوع له، والمفروض: أنه لا وضع قبل هذا الاستعمال ليكون الاستعمال
استعمالا فيه.
وأما أنه لا يكون من الاستعمال المجازي فلأجل أن الاستعمال المجازي
استعمال اللفظ في المعنى المناسب للمعنى الموضوع له، والمفروض: أنه لا وضع
قبل هذا الاستعمال، ومعه لا يعقل المجاز، فانحصر أن لا يكون ذلك الاستعمال
حقيقيا ولا مجازيا.
وقد ذكرنا: أن صحة الاستعمال لا تدور مدار كونه حقيقيا أو مجازيا، بل صح
الاستعمال بدون أن يكون متصفا بأحدهما إذا كان حسنا عند الطبع، وقد عرفت:
أن إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله من هذا القبيل (1). هذا محصل ما
أفاده (قدس سره).
وقد ظهر مما حققناه سابقا (2): أن الإطلاقات المذكورة ليست من قبيل
الاستعمال في شئ على تفصيل تقدم.
كما أنه قد تبين مما ذكرناه الآن: أن هذا الاستعمال استعمال حقيقي وفي
المعنى الموضوع له.
بيانه: هو أنك عرفت (3) أن الوضع في مرتبة متقدمة على الاستعمال على
جميع المسالك في تفسير الوضع، وعليه فالوضع يحصل قبل الاستعمال، فإذا كان

(1) كفاية الأصول: ص 36.
(2) راجع الأمر السادس في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه.
(3) تقدم في ص 47 وما بعدها فراجع.
145

كذلك فالاستعمال استعمال في الموضوع له، وهذا واضح.
ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن الوضع ليس عبارة عن مجرد أمر نفساني: من
تعهد، واعتبار ملازمة، ونحو ذلك، بل للإبراز دخل في حقيقة الوضع جزءا أو قيدا،
وبدونه لا يتحقق الوضع، كما هو الحال في مثل عنوان البيع والتجارة والهبة
والصلح وما شاكل ذلك، فإن هذه العناوين لا تتحقق عرفا، ولا تصدق خارجا
على مجرد الاعتبار النفساني ما لم يبرزه في الخارج بمبرز من قول أو فعل،
فللإبراز دخل فيها جزءا أو قيدا، مثلا: عنوان البيع لا يصدق عرفا على مجرد
اعتبار البائع ملكية المبيع لزيد - مثلا - واعتبار زيد تملكه لنفسه بعوض معلوم ما
لم يبرزه البائع بقوله: " بعت "، أو " ملكت "، والمشتري بقوله: " اشتريت "، أو
" قبلت "، فالبيع: عبارة عن الأمر الاعتباري الخاص المبرز في الخارج بمبرز،
وهكذا غيره، فلو سلمنا أن الوضع أيضا كذلك فلا يكون هذا الاستعمال استعمالا
في غير ما وضع له.
والوجه في ذلك: هو أنه لا يعتبر في كون الاستعمال حقيقيا واستعمالا في
الموضوع له تقدم الوضع على الاستعمال، بل غاية ما يقتضيه ذلك هو أن لا يكون
الوضع متأخرا عن الاستعمال، فيكفي في كون الاستعمال حقيقيا مقارنة الوضع
معه زمانا، والمفروض: أن الوضع والاستعمال في مقامنا هذا كذلك، وإن كان
الاستعمال مقدما عليه طبعا ورتبة باعتبار أنه جزؤه أو قيده إلا أنه لا يوجب
تقدمه عليه زمانا.
وقد تحصل من ذلك بوضوح: أن هذا الاستعمال استعمال في الموضوع له ولو
قلنا بأن الوضع يتحقق بنفس ذلك الاستعمال، وأنه الجزء الأخير والمتمم لتحققه.
وكيف كان فقد ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) ما نصه:
فدعوى: الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة
جدا، ومدعي القطع به غير مجازف قطعا، ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها
146

في محاوراته، ثم يؤيد ذلك بعدم وجود علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية
واللغوية في بعض الموارد... إلى آخره (1). وهذا الذي ذكره هو الصحيح.
ثم قال (قدس سره): هذا كله بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا، وأما بناء
على كونها ثابتة في الشرائع السابقة - كما هو قضية غير واحد من الآيات مثل:
قوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام كما كتب... إلى آخره) * (2)، وقوله تعالى:
* (وأذن في الناس بالحج) * (3)، وقوله تعالى: * (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما
دمت حيا) * (4) إلى غير ذلك - فألفاظها حقائق لغوية لا شرعية، واختلاف الشرائع
فيها جزءا وشرطا لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية، إذ لعله كان من قبيل:
الاختلاف في المصاديق والمحققات، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا، كما
لا يخفى. انتهى.
وهذا الذي أفاده (قدس سره) يمكن الجواب عنه بوجهين:
الوجه الأول: أن ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة لا يضر بثبوت
الحقيقة الشرعية في شرعنا، ضرورة أن مجرد الثبوت هناك لا يلازم التسمية بهذه
الألفاظ الخاصة، وليس في المقام إلا التعبير عنها بهذه الألفاظ في الكتاب العزيز.
ومن الواضح أنه لا يدل على وجود تلك الألفاظ في الشرائع السابقة، بل هو
لأجل اقتضاء مقام الإفادة ذلك، كما هو الحال بالقياس إلى جميع الحكايات
والقصص القرآنية التي كانت بالسريانية كما في لغة " عيسى " (عليه السلام)، أو العبرانية
كما في لغة " موسى " (عليه السلام)، بل من المعلوم أن تلك المعاني كان يعبر عنها بألفاظ
سريانية أو عبرانية، وقد نقلت عنها بهذه الألفاظ الخاصة في شريعتنا، لاقتضاء

(1) كفاية الأصول: ص 36.
(2) البقرة: 183.
(3) الحج: 27.
(4) مريم: 15.
147

مقام الإفادة ذلك.
وإن شئت فقل: إن معنى الحقيقة الشرعية ليس جعل المعنى واختراعه، بل
جعل اللفظ بإزاء معنى من المعاني، ولا يفرق فيه بين كون المعنى قديما أو حادثا
في هذه الشريعة.
وما يتوهم من أن الصلاة بهذه اللفظة موجودة في إنجيل " برنابا " لا بلفظة
أخرى عبرانية، أو سريانية - فكما أن المعاني لم تكن مستحدثة فكذلك الألفاظ
التي يعبر بها عنها - مدفوع: بأن وجود لفظ " الصلاة " في الإنجيل الرائج لا يدل
على وجوده في أصله المعلوم أنه لم يكن باللغة " العربية ".
هذا، مضافا إلى أن لفظ " الصلاة " الموجودة في الإنجيل والتوراة لم يكن
بالمعنى المركب من الأجزاء والشرائط والكيفية الخاصة، بل كان بمعنى: الدعاء،
فالصلاة بهذه الكيفية والأجزاء والشرائط والموانع مستحدثة لا محالة.
حول الحقيقة الشرعية
وربما قيل: بأن الألفاظ المذكورة موضوعة بإزاء تلك المعاني قبل الشريعة
الإسلامية، فالعرب قبلها كانوا قد تعهدوا لهذه المعاني في استعمالاتهم، والتزموا
بذكر هذه الألفاظ عند إرادة تفهيمها، ومن هنا كانوا ينتقلون إلى معاني هذه
الألفاظ من لدن نزول هذه الآيات الكريمة، كقوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام كما
كتب على الذين من قبلكم) *، وقوله تعالى: * (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما
دمت حيا) *، إلى غير ذلك، وهم لا يتوقفون في فهم هذه المعاني من تلك الألفاظ،
ومن المعلوم أن هذا يكشف كشفا قطعيا عن كونها حقيقة فيها قبل زمن النبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فهي حقيقة لغوية، وليست بحقيقة شرعية، والقرآن الكريم قد تابعهم
في استعمالها ليكون أوقع في النفوس، حيث إنهم كانوا مستأنسين بالتعبير عنها
بهذه الألفاظ الخاصة (1).

(1) هداية المسترشدين ص 98 س 23.
148

والجواب عنه: أن هذا وإن كان ممكنا في نفسه إلا أنه لا شاهد عليه، لا من
الآيات، ولا من الروايات، ولا من القرائن الخارجية.
أما الأخيرتان: فظاهر.
وأما الأولى: فكذلك، لأن شيئا من هذه الآيات لا يشهد على ذلك، فقوله
تعالى: " كتب عليكم الصيام... إلى آخره " - مثلا - لا يدل على أن الصوم بهذا
اللفظ الخاص كان موجودا قبل الشريعة، غاية ما في الباب: أن الآية تدل على أن
الصوم كان موجودا قبلها، أما أنه كان يعبر عنه بهذا اللفظ الخاص فهي ساكتة عن
ذلك، والتعبير عنه في الآية المباركة من جهة اقتضاء مقام الإفادة ذلك.
وأما انسباق هذه المعاني في أذهان القوم بمجرد نزول هذه الآيات فهو من
جهة: أن هذه الألفاظ قد صدرت عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قبل نزولها، ثم بعد ذلك
جاءت الآيات الكريمة فحكت عما جاء به النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وقد استند فهم
العرب إلى ذلك لا محالة.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا أن تسمية هذه المعاني بهذه الألفاظ بالحقيقة
الشرعية تدور مدار كونها مستحدثة في شرعنا إلا أن ثمرة ثبوت الحقيقة الشرعية
تترتب على القول بثبوت الحقيقة في لسان الشارع لا محالة، ولا أثر لكون هذه
المعاني قديمة وثابتة في الشرائع السابقة بالقياس إلى الثمرة المزبورة أصلا، ولا
يترتب على كونها معاني حديثة أثر ما عدا التسمية بالحقائق الشرعية. فإن الثمرة
التي ذكرت في المسألة - وهي: حمل الألفاظ في استعمالات الشارع المقدس
على المعاني الشرعية بناء على الثبوت - لا تترتب على كون هذه المعاني
مستحدثة في هذه الشريعة، إذ المراد من هذه الألفاظ في استعمالات النبي (صلى الله عليه وآله):
هو هذه المعاني، سواء قلنا بكونها معان حديثة في شريعتنا أم كانت معان ثابتة في
الشرائع السابقة. فعلى كلا التقديرين: تعهد الشارع المقدس لهذه المعاني في
149

استعمالاته قبال معانيها اللغوية كانت مسماة بالحقائق الشرعية أو بالحقائق
اللغوية، فلا فرق بين التسميتين في ثمرة النزاع أصلا.
فتلخص: أن ما أفاده (قدس سره) من توقف ثبوت الحقيقة الشرعية على كون هذه
المعاني مستحدثة في هذه الشريعة على تقدير تسليمه لا يترتب على ذلك أي أثر.
وأما القسم الثاني - وهو: الوضع التعيني الذي ينشأ من كثرة الاستعمال، لا من
الجعل والمواضعة - فثبوته في زمن الصادقين (عليهما السلام) معلوم، بل وحتى في زمن
أمير المؤمنين (عليه السلام)، بل ولا يبعد ثبوته في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) بلسانه ولسان تابعيه،
لكثرة استعمالات هذه الألفاظ في هذه المعاني وكثرة الأسئلة التي ترد من
السائلين، لا سيما في مثل لفظ " الصلاة " الذي هو أكثر استعمالا من غيره من
ألفاظ العبادات.
نعم، ثبوته في خصوص لسانه (صلى الله عليه وآله) مشكل جدا، لعدم العلم بكثرة
استعمالاته (صلى الله عليه وآله) على حد توجب التعين، وقد أشار إلى ذلك الإشكال المحقق
صاحب الكفاية (1) (قدس سره) بقوله: فتأمل.
الصحيح والأعم
وعليه، فالروايات التي صدرت عنهم (عليهم السلام) واشتملت على هذه الألفاظ قد
أصبحت معلومة المراد، فإنها تحمل على هذه المعاني بلا قرينة، لثبوت الحقيقة
المتشرعية في زمنهم (عليهم السلام) على الفرض، ومعه تنتفي الثمرة التي كنا نتوقعها من
هذا البحث، باعتبار أن الروايات التي وصلت عن المعصومين (عليهم السلام) إلينا المشتملة
على هذه الألفاظ كان المراد منها معلوما فلا ثمرة، بل لا داعي لهذا البحث بعد ذلك.
فقد أصبحت النتيجة لحد الآن في أمور:
الأول: أن الصحيح: ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني المتحقق بنفس
الاستعمال.

(1) كفاية الأصول: ص 37.
150

الثاني: إن قلنا بعدم الوضع التعييني فلا شبهة في ثبوت الوضع التعيني في زمن
الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من جهة كثرة استعمالات المتشرعة تلك الألفاظ في المعاني
الجديدة.
الثالث: أنه لا ثمرة للبحث عن هذه المسألة أصلا، فإن ألفاظ الكتاب
والسنة الواصلتين إلينا يدا بيد معلومتان من حيث المراد، فلا نشك في المراد
الاستعمالي منهما، ولا يتوقف في حملها على المعاني الشرعية.
ومن هنا لا يهمنا إطالة البحث عن أن الحقيقة الشرعية ثابتة أو غير ثابتة، فإن
الثمرة المذكورة غير مبتنية على ثبوت الحقيقة الشرعية.
الأمر العاشر
الصحيح والأعم
وقع الكلام بين الأعلام في أن ألفاظ العبادات والمعاملات هل تكون أسامي
للصحيحة أو للأعم؟ قبل بيان ذلك ينبغي التنبيه على جهات:
الجهة الأولى: لا إشكال في جريان النزاع على القول بثبوت الحقيقة
الشرعية فإنه القدر المتيقن في المسألة. وإنما الإشكال في جريانه على القول
بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية، ولكن الظاهر بل المقطوع به جريان النزاع على هذا
القول أيضا.
والوجه في ذلك: هو أن مرجع هذا القول إلى أن الشارع المقدس من لدن
نزول القرآن الحكيم هل استعمل هذه الألفاظ في المعاني الصحيحة من جهة لحاظ
علاقة بينها وبين المعاني اللغوية، أو استعملها في الأعم من جهة لحاظ علاقة بينه
وبين المعاني اللغوية؟
فعلى الأول يكون الأصل في استعمالات الشارع الاستعمال في الصحيح، إلا
151

إذا قامت قرينة على الخلاف، وعلى الثاني ينعكس الأمر.
بل يجري النزاع حتى على القول بأن هذه الألفاظ استعملت في لسان الشارع
في معانيها اللغوية، ولكنه أراد المعاني الشرعية من جهة نصب قرينة تدل على
ذلك بنحو تعدد الدال والمدلول، كما نسب هذا القول إلى الباقلاني (1).
والوجه في ذلك: هو أن يقع النزاع في أن الشارع حين إرادته المعاني
الشرعية بالقرينة هل نصب القرينة العامة على إرادة المعاني الصحيحة حتى
تحتاج إرادة الأعم إلى قرينة خاصة، أو أنه نصبها على إرادة الأعم فإرادة
الصحيحة تحتاج إلى قرينة خاصة؟
الجهة الثانية: الظاهر أن الصحة بمعنى: التمامية من حيث الأجزاء والشرائط
التي يعبر عنها في اللغة الفارسية بكلمة (درستي) وهي معناها لغة وعرفا.
وأما تفسير الفقهاء الصحة بمعنى: إسقاط القضاء والإعادة، والمتكلمين
بمعنى: موافقة الشريعة فكلاهما من باب التفسير باللازم، فالصلاة - مثلا - إذا كانت
تامة من حيث أجزائها وشرائطها كانت موافقة للشريعة، ومسقطة للإعادة
والقضاء، وليس شئ من ذلك معنى الصحة، ولا من الحيثيات التي تتم بها
حقيقتها. وهذا هو الحال في سائر المركبات الشرعية والعرفية.
ومن ذلك ظهر فساد ما أفاده شيخنا المحقق (2) (قدس سره) حيث قال ما لفظه:
إن حيثية إسقاط القضاء وموافقة الشريعة وغيرهما ليست من لوازم التمامية
بالدقة، بل من الحيثيات التي تتم بها حقيقة التمامية، حيث لا واقع للتمامية إلا
التمامية من حيث إسقاط القضاء، أو من حيث موافقة الأمر، أو من حيث ترتب
الأثر إلى غير ذلك، واللازم ليس من متممات معنى ملزومه، فتدبر.

(1) قوانين الأصول ص 38 في حاشية منه (رحمه الله) عليها.
(2) نهاية الدراية: ج 1 ص 50 وهامشها.
152

ثم قال في هامش كتابه: إنه إشارة إلى أن اللازم إن كان من لوازم الوجود
صح ما ذكر، وإن كان من لوازم الماهية فلا، إذ لا منافاة في لازم الماهية وعارضها
بين اللزوم وكونه محققا لها كالفصل بالإضافة إلى الجنس فإنه عرض خاص له، مع
أن تحصل الجنس بتحصله (1). انتهى.
وجه الظهور: هو أن إسقاط القضاء والإعادة وموافقة الشريعة وغيرهما
جميعا من آثار التمامية ولوازمها، وهي: التمامية من حيث الأجزاء والشرائط،
وليست من متممات حقيقتها، ضرورة أن لها واقعية مع قطع النظر عن هذه الآثار
واللوازم. والظاهر أنه وقع الخلط في كلامه (قدس سره) بين تمامية الشئ في نفسه - أعني
بها: تماميته من حيث الأجزاء والشرائط، وتماميته بلحاظ مرحلة الامتثال
والإجزاء - فإنه لا واقع لهذه التمامية مع قطع النظر عن هذه الآثار واللوازم. أو
وقع الخلط بين واقع التمامية وعنوانها، فإن عنوان التمامية عنوان انتزاعي منتزع
عن الشئ باعتبار أثره، فحيثية ترتب الآثار من متممات حقيقة ذلك العنوان، ولا
واقع له إلا الواقعية من حيث ترتب الآثار، ولكنه خارج عن محل الكلام، فإن
كلمة " الصلاة " - مثلا - لم توضع بإزاء ذلك العنوان ضرورة، بل وضعت بإزاء واقعه
ومعنونه، وهو الأجزاء والشرائط. ومن الظاهر أن حيثية ترتب الآثار ليست من
متممات حقيقة تمامية هذه الأجزاء والشرائط، وعلى أي حال فلا وقع لما
ذكره (قدس سره) أصلا.
وأما ما أفاده (قدس سره): من أنه لا منافاة بين كون شئ لازما لماهية وكونه محققا
لها، فإن الفصل لازم لماهية الجنس مع كونه محققا لها في الخارج فهو وإن كان
صحيحا إلا أن اللازم لا يعقل أن يكون من متممات معنى ملزومه من دون فرق
فيه بين لازم الوجود ولازم الماهية، فماهية الفصل بما هي من لوازم ماهية الجنس

(1) نهاية الدراية: ج 1 ص 50.
153

لا يعقل أن تكون من متمماتها بالضرورة. نعم، الفصل بحسب وجوده محصل
لوجود الجنس ومحقق له، ولكنه بهذا الاعتبار ليس لازما له، فإطلاق قوله (قدس سره): إن
ذلك أي: اللازم ليس من متممات معنى ملزومه. إنما يتم في لازم الوجود دون
لازم الماهية غير تام، وكيف كان فالأمر ظاهر لا سترة فيه.
وقد تحصل من ذلك: أن الصحة بمعنى: تمامية المركب في نفسه وذاته، أعني
بها: تماميته من حيث أجزائه وقيوده. ومن هنا يتبين: أن البسيط لا يتصف بالصحة
والفساد، بل يتصف بالوجود أو العدم.
كما ظهر: أن الصحة والفساد أمران إضافيان يختلفان باختلاف حالات
المكلفين، مثلا: " الصلاة " قصرا صحيحة للمسافر وفاسدة للحاضر، كما أنها إذا
وقعت إلى ما بين المشرق والمغرب صحيحة لمن لم يتمكن من تشخيص القبلة،
وفاسدة للمتمكن من ذلك، وهكذا...
فتحصل: أن الصحة التي هي داخلة في المسمى على أحد القولين في المسألة
من حيث أجزائه وقيوده مع قطع النظر عن أي أثر يترتب عليها، فإنها في مرتبة
سابقة على ترتب الآثار.
ومن هنا يظهر: أن الصحة الفعلية التي هي منتزعة من انطباق المأمور به على
المأتي به خارجا خارجة عن محل الكلام، ضرورة أنها في مرتبة متأخرة عن
الأمر، فكيف يعقل أخذها في المسمى وفي متعلق الأمر؟! ومن الواضح أن المراد
من الوضع للصحيح أو للأعم: الوضع لما هو واقع في حيز الأمر، وعلى ذلك فلا
وجه للترديد.
والقول: بأن الصحة والفساد المبحوث عنهما في هذه المسألة هل هي بمعنى:
التمامية وعدمها من حيث موافقة الأمر، أو من حيث إسقاط القضاء والإعادة، أو
من حيث استجماع الأجزاء والشرائط، أو من حيث ترتب الأثر وعدمه، أو غير
154

ذلك؟ فإنك قد عرفت (1): أن المبحوث عنه لا يمكن أن يكون إلا التمامية وعدمها،
بالإضافة إلى الأجزاء والشرائط. وأما بقية الحيثيات فهي أجنبية عن معنى
التمامية بالكلية، بل هي من الآثار واللوازم المترتبة عليها في مرتبة متأخرة، وهذا
واضح، فلا وجه لإطالة الكلام في ذلك كما عن شيخنا المحقق (قدس سره).
الجهة الثالثة: لا شبهة في دخول الأجزاء جميعا في محل النزاع بلا فرق بين
الأركان: كالركوع، والسجود، والتكبيرة، وبين غيرها. وكذلك لا شبهة في دخول
شرائط المأمور به في محل النزاع.
وتوهم أنها خارجة عن محل النزاع بدعوى: أن مرتبة الأجزاء مرتبة
المقتضي، ومرتبة الشرائط متأخرة عن المقتضي فإن الشرائط دخيلة في فعلية
التأثير كما في تقريرات شيخنا العلامة الأنصاري (2) (قدس سره)، ولا يجوز إدخالها في
المسمى لتكون مساوية مع الأجزاء في الرتبة مدفوع: بأن تأخر الشرائط رتبة عن
الأجزاء لا يستلزم عدم إمكان وضع اللفظ بإزاء المجموع، ضرورة أن الوضع
بإزاء المتقدم والمتأخر رتبة بل زمانا من الواضحات الأولية كما لا يخفى، فالتأخر
في مقام العلية لا يوجب التأخر في مقام التسمية، فإن أحد المقامين أجنبي عن
المقام الآخر بالكلية.
ولا إشكال أيضا في أن كل ما لم يؤخذ في المأمور به جزءا أو شرطا فهو
خارج عن المسمى وإن كان له دخل في الصحة، وذلك: كقصد القربة، وعدم كون
العبادة مزاحمة بواجب آخر الموجب لسقوط أمره، وعدم كونه منهيا عنه.
وهذا لا لأجل ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من استحالة أخذ جميع ذلك في
المسمى، لما ذكره في وجهها. وحاصله: أن الصحة من جهة عدم المزاحم وعدم
النهي ومن جهة قصد القربة في مرتبة متأخرة عن المسمى وفرع تحققه لينهى عنه،

(1) قد مر ذكره في ص 153 فراجع.
(2) راجع مطارح الأنظار: مبحث الصحيح والأعم ص 17.
155

أو يوجد له مزاحم، أو يقصد به التقرب، وعليه فكيف يعقل اعتبارها في المسمى
وأخذها فيه فيكون من قبيل أخذ ما هو متأخر رتبة في المتقدم كذلك؟ وهو غير
معقول.
فإنه يرد عليه: أن وضع لفظ بإزاء شيئين طوليين رتبة، بل زمانا بمكان من
الإمكان، وليس فيه أي محذور أبدا، ومقامنا من هذا القبيل، إذ مجرد كون قصد
القربة وعدم المزاحم وعدم النهي في طول الأجزاء المأمور بها وشرائطها لا
يوجب استحالة أخذها في مسمى لفظ " الصلاة " مثلا، ولا يوجب تقدم الشئ
على نفسه، وغير ذلك من المحاذير.
ومن الغريب استدلاله (قدس سره) على استحالة أخذ هذه الأمور في المسمى بكونها
متفرعة على تحقق المسمى في مرتبة سابقة عليها حتى يوجد له مزاحم، أو ينهى
عنه، أو يقصد به القربة، وذلك لأن قضية التفرع مبتنية على أن يكون المسمى
متحققا بدون هذه الأمور، ولم يكن لها دخل في تحققه. وأما إذا فرض أنها أيضا
مأخوذة فيه كالأجزاء والشرائط فلا تحقق له قبل هذه الأمور حتى يوجد له
مزاحم، أو غيره. وعليه، فلو فرض مزاحم للمأمور به، أو فرض النهي عنه، أو أنه
لم يقصد القربة به لم يتحقق المسمى، ضرورة انتفاء المركب بانتفاء أحد أجزائه.
نعم، غاية ما يلزم على هذا هو: كون المسمى غير ما تعلق به الأمر، وهذا
ليس بمحذور امتناع عقلي، بل لأن دخل هذه الأمور في المسمى واضح البطلان،
ومن ثم لم يحتمل أحد دخل هذه الأمور في المسمى، حتى على القول بأن
الألفاظ موضوعة للصحيحة.
فالمتحصل مما ذكرناه هو: أن الأجزاء وشرائط المأمور به جميعا داخلتان
في محل النزاع من دون شبهة وإشكال، كما أنه لا إشكال في خروج هذه الأمور
عن محل النزاع.
156

الجهة الرابعة: أنه لا بد على كلا القولين من تصوير جامع وحداني يشترك
فيه جميع الأفراد.
أما بناء على أن يكون الموضوع له لأسماء العبادات والمعاملات عاما
كوضعها كما هو الصحيح فالأمر واضح، فإن لفظ " الصلاة " ونحوه، من أسماء
الأجناس، وقد تقدم (1) أن الموضوع له فيها عام، غاية الأمر: أن ذلك الجامع على
أحد القولين حصة خاصة، وعلى القول الآخر طبيعة مطلقة، وهذا لا يوجب
التفاوت في المقام.
وأما بناء على أن يكون الموضوع له فيها خاصا فالأمر أيضا كذلك، ضرورة
أن تصور جميع الأفراد تفصيلا غير معقول، لعدم تناهيها، فلا بد - حينئذ - من
تصورها بجامع يكون ذلك الجامع معرفا لها إجمالا وبوجه حتى يمكن وضع
اللفظ بإزائها.
فبالنتيجة: أن تصور الجامع على كلا القولين لا بد منه، سواء قلنا بأن
الموضوع له عام أو خاص. وأما الاشتراك اللفظي أو كون الألفاظ حقيقة في
بعض الأصناف ومجازا في الباقي فهو مقطوع البطلان، كما يظهر ذلك من إطلاق
لفظ " الصلاة " - مثلا - على أصنافها على نسق واحد من دون لحاظ عناية في
شئ منها.
وبعد ذلك نقول: الكلام يقع في مقامين:
المقام الأول: في العبادات.
المقام الثاني: في المعاملات.
أما الكلام في المقام الأول:
فيقع في تصوير الجامع بين أفراد العبادات، وقد عرفت أن تصويره بينها لا بد
منه، سواء أقلنا بكونها موضوعة للصحيحة أم للأعم.

(1) تقدم في ص 61 فراجع.
157

ولكن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد خالف في المقام، وذهب إلى: أنه لا ضرورة
تدعو إلى تصوير جامع وحداني يشترك فيه جميع الأفراد، وأفاد في وجه ذلك:
أنه يمكن الالتزام بأن الموضوع له في مثل لفظ " الصلاة " - مثلا - أولا هو المرتبة
العليا الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط، فإن للصلاة باعتبار مراتبها عرضا
عريضا، ولها مرتبة عليا وهي: صلاة المختار، ولها مرتبة دنيا وهي: صلاة الغرقى،
وبين الحدين متوسطات، فلفظة " الصلاة " ابتداء موضوعة للمرتبة العليا على كلا
القولين، واستعمالها في غيرها من المراتب النازلة من باب الادعاء والتنزيل، أو
من باب الاشتراك في الأثر.
فالصحيحي يدعي أن استعمال لفظ " الصلاة " في بقية المراتب الصحيحة: إما
من باب الادعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد مسامحة فيما يصح فيه التنزيل، أو
من باب الاشتراك في الأثر واكتفاء الشارع به في مقام الامتثال، كما في " صلاة "
الغرقى فإنه لا يمكن فيها الالتزام بالتنزيل المزبور.
والأعمي يدعي أن استعمالها في بقية مراتبها الأعم من الصحيحة والفاسدة
من باب العناية والتنزيل، أو من باب الاشتراك في الأثر، فكل واحد من الأمرين
موجب لجواز الاستعمال، حتى في فاسد " صلاة " الغرقى من باب تنزيله منزلة
الواجد منها المنزل منزلة التام الأجزاء والشرائط من جهة الاشتراك في الأثر.
نعم، استثنى (قدس سره) من ذلك القصر والإتمام، فقال: إنهما في عرض واحد فلا بد
من تصوير جامع بينهما. ثم رتب على ذلك بطلان ثمرة النزاع بين قول الأعمي
وقول الصحيحي، وهي: جواز التمسك بالإطلاق على الأعمي، وعدم جوازه على
الصحيحي، فإنه بناء على كون الصلاة - مثلا - موضوعة لخصوص المرتبة العليا لم
يجز التمسك بالإطلاق ولو فرض وجود مطلق في العبادات، لعدم العلم بالتنزيل
والمسامحة في مقام الاستعمال، ومعه يصبح اللفظ مجملا لا محالة.
ثم قال: إن الحال في سائر المركبات الاختراعية أيضا كذلك، يعني: أن اللفظ
158

فيها موضوع ابتداء للمرتبة العليا، واستعماله في بقية مراتبها من باب الادعاء
وتنزيل الفاقد منزلة الواجد، أو من جهة الاشتراك في الأثر (1).
ونتيجة ما أفاده (قدس سره) ترجع إلى أمور:
الأول: أن الموضوع له هو المرتبة العليا على كلا القولين، غاية الأمر:
الصحيحي يدعي صحة الاستعمال في خصوص المراتب الصحيحة بين بقية
المراتب، والأعمي يدعي صحته على الإطلاق.
الثاني: أنه لا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها من المركبات الاختراعية.
الثالث: أن الصحيحي والأعمي محتاج كل منهما إلى تصوير جامع بين
صلاتي القصر والإتمام، ليكون اللفظ موضوعا بإزاء ذلك الجامع.
الرابع: بطلان ثمرة النزاع بين القولين.
أما الأول فيرده: أن إطلاق ألفاظ العبادات على جميع مراتبها الدانية والعالية
بعرضهما العريض على نسق واحد من دون لحاظ عناية في شئ منها، مثلا:
إطلاق لفظ " الصلاة " على المرتبة العليا، وهي: " صلاة " المختار الواجدة لجميع
الأجزاء والشرائط، وعلى بقية المراتب: كصلاة المضطر ونحوه على نسق واحد
بلا لحاظ عناية تنزيلها منزلة الواجد، أو اشتراكها مع المرتبة العليا في الأثر، فلو
كانت لفظة " الصلاة " موضوعة لخصوص المرتبة العليا لكان استعمالها في غيرها
من المراتب النازلة: ك‍ " صلاة " بدون قيام أو إلى غير القبلة - مثلا - محتاجا إلى
لحاظ التنزيل، أو الاشتراك في الأثر، مع أن الأمر ليس كذلك، ضرورة أن
المتشرعة يطلقون لفظ " الصلاة " على كل مرتبة من مراتبها غافلين عن لحاظ
التنزيل، أو اشتراك هذه المرتبة مع المرتبة العليا في الأثر، ولا يرون التفاوت في
مرحلة الاستعمال والإطلاق بينها وبين بقية المراتب أصلا، فهذا يكشف كشفا

(1) أجود التقريرات ص 36.
159

قطعيا عن أن الموضوع له هو الجهة الجامعة بين جميع المراتب، لا خصوص
المرتبة العليا، من دون فرق في ذلك بين العبادات وغيرها من المركبات. فما
أفاده (قدس سره) كما لا يتم في العبادات كذلك لا يتم في سائر المركبات.
وأما الثاني: فمع الإغماض عما أجبنا به عن الأمر الأول يرد عليه: أنه فرق
بين المركبات الشرعية وغيرها، وهو: أن للمراتب العليا من المركبات غير
الشرعية حدودا خاصة وأجزاءا معينة، التي لا يطرأ عليها الاختلاف بالزيادة
والنقيصة، وتنعدم بفقدان واحد منها، كما إذا فرض أنها ذات أجزاء ثلاثة، أو أربعة،
أو خمسة، أو عشرة، أو أقل، أو أزيد على اختلافها باختلاف المركبات فحينئذ
يمكن دعوى: أن اللفظ موضوع لخصوص المراتب العليا منها، وإطلاقه على بقية
المراتب من باب الادعاء والتنزيل، أو من جهة الاشتراك في الأثر. وهذا بخلاف
العبادات، فإن المراتب العليا منها ليست لها أجزاء خاصة بحيث لا تختلف زيادة
ونقيصة، فإنها بأنفسها مختلفة ومتشتتة من ناحية الكمية أو الكيفية، مثلا: المرتبة
العليا من صلاة الصبح غير المرتبة العليا من صلاة الظهرين، وكلتاهما غير المرتبة
العليا من صلاة المغرب، وكل ذلك غير المرتبة العليا من صلاة العشاء بحسب
الكمية أو الكيفية، وهي بأجمعها غير المرتبة العليا من صلاة الآيات وصلاة
العيدين وغيرهما.
وعلى الجملة: فلا شبهة في أن للصلاة عرضا عريضا باعتبار أصنافها
العديدة، ولكل واحد من أصنافها أيضا عرض عريض باعتبار مراتبها الطولية.
ومن المعلوم أن المرتبة العليا من كل صنف من أصنافها مباينة للمرتبة العليا من
صنف آخر، وهكذا...
فالنتيجة: أن المراتب العالية أيضا متعددة، فلا بد من تصوير جامع بينها
ليكون اللفظ موضوعا بإزاء ذلك الجامع، للقطع بانتفاء الاشتراك اللفظي.
فقد ظهر: أن الالتزام بالوضع لخصوص المرتبة العليا لا يغني عن تصوير
160

الجامع فهو مما لا بد منه، سواء قلنا بأن الموضوع له المرتبة العليا أم قلنا بأنه
الجهة الجامعة بين جميع المراتب.
ومن هنا يظهر الجواب عن الأمر الثالث أيضا، وهو: أن الحاجة إلى تصوير
الجامع لا تختص بالقصر والإتمام، بل لا بد من تصويره بين جميع المراتب
العالية، وقد عرفت أنها كثيرة، ولا تنحصر بالقصر والإتمام.
وأما الأمر الرابع: فقد تبين من ضوء بياننا المتقدم: أن ثمرة النزاع بين
الأعمي والصحيحي تظهر على هذا أيضا، والوجه في ذلك: هو أن الأعمى - لا
محالة - يدعي وضع اللفظ للجامع بين جميع المراتب العليا صحيحة كانت أو
فاسدة، والصحيحي يدعي وضعه لخصوص الصحيحة منها، فعلى ذلك إذا فرض
وجود مطلق في البين وشك في اعتبار شئ ما جزءا أو شرطا في المأمور به فبناء
على الصحيحي لا يجوز التمسك بإطلاقه، لأن الشك في اعتباره مساوق للشك
في صدق المسمى، ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق. وبناء على الأعمي لا مانع
منه، لأن صدق المسمى محرز بالوجدان، والشك إنما هو في اعتبار أمر زائد فيدفع
بالإطلاق.
نعم، لا يمكن التمسك بالإطلاق بالإضافة إلى بقية المراتب، لعدم إحراز
الإطلاق من جهة عدم العلم بالتنزيل والادعاء كما ذكره (قدس سره)، فلا يمكن التمسك
بإطلاق ما دل على وجوب الصلاة لإثبات وجوبها على المضطر أو نحوه، وذلك
من جهة عدم إحراز التنزيل والادعاء بعد فرض أن الموضوع له لا يعم المشكوك
فيه، لأنه خصوص المرتبة العليا.
وقد أصبحت النتيجة بوضوح: أن تصوير الجامع على كلا القولين قد أصبح
ضروريا، وعليه فإن أمكن تصويره في مقام الثبوت على كلا القولين فللنزاع في
مقام الإثبات مجال، وإن لم يمكن تصويره إلا على أحد القولين دون الآخر فلا
مناص من الالتزام بذلك القول. فعلى ذلك يقع الكلام في مقامين:
161

الأول: في تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة فقط.
الثاني: في تصويره بين الأعم من الصحيحة والفاسدة.
أما الكلام في المقام الأول: فقد ذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) إلى أن
وجود الجامع بين الأفراد الصحيحة مما لا بد منه، وقد استدل على ذلك بقاعدة
فلسفية، وهي: " أن الواحد لا يصدر إلا من الواحد "، إذ لا بد من السنخية بين العلة
ومعلولها، والواحد بما هو واحد لا يعقل مسانخته للكثير بما هو كثير. إذا لا بد من
الالتزام بأن العلة هو الجامع بين الكثير وهو أمر واحد.
ثم طبق (قدس سره) هذه القاعدة على المقام بتقريب: أن الأفراد الصحيحة من الصلاة
- مثلا - تشترك جميعها في أثر وحداني، وهو: النهي عن الفحشاء والمنكر بمقتضى
قوله تعالى: * (ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * (1). كما هي تشترك في أنها
" عماد الدين " (2)، و " معراج المؤمن "، كما في عدة من الروايات (3). ولا يعقل أن
يكون المؤثر في ذلك الأثر الوحداني جميع الأفراد الصحيحة على كثرتها، لما
عرفت من أن الواحد لا يسانخ الكثير، فلا محالة يستكشف كشفا قطعيا عن وجود
جامع وحداني بين تلك الأفراد الصحيحة يكون هو المؤثر في ذلك الأثر
الوحداني.
ومن هنا قال (قدس سره): إن تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة بمكان من
الإمكان، بل هو ضروري دون الأعم، لعدم تحقق صغرى هذه القاعدة على قول
الأعمي، وبدونها لا طريق لنا إلى كشف الجامع من ناحية أخرى (4).
ولكن لا يخفى ما فيما أفاده (قدس سره)، بل لم يكن يترقب صدوره عنه، وذلك

(1) العنكبوت: 45.
(2) وسائل الشيعة: ج 2 ص 373 ب 1 من أبواب الاستحاضة ذيل ح 5.
(3) انظر جامع أحاديث الشيعة: باب فضل الصلاة ج 4 ص 3 - 28.
(4) كفاية الأصول ص 39.
162

من وجوه:
الأول: أن هذه القاعدة وإن كانت تامة في العلل الطبيعية - لا محالة - دون
الفواعل الإرادية ولكن ذلك فيما إذا كان المعلول واحدا بوحدة شخصية، وأما إذا
كان واحدا بوحدة نوعية فلا تجري فيه هذه القاعدة. وقد مر الكلام في ذلك في
البحث عن حاجة العلوم إلى وجود الموضوع، فليراجع.
وحيث إن وحدة الأثر في المقام وحدة نوعية لا شخصية فإن النهي عن
الفحشاء كلي له أفراد وحصص بعدد أفراد الصلاة وحصصها في الخارج، فلا شئ
هناك يكشف عن وجود جامع بين أفرادها، مثلا: صلاة الصبح يترتب عليها نهي
عن منكر، وصلاة المغرب يترتب عليها نهي آخر، وهكذا...، فلا كاشف عن جهة
جامعة بين الأفراد والحصص بقانون أن الأمور المتباينة لا تؤثر أثرا واحدا.
الثاني: لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا تمامية القاعدة حتى في الواحد النوعي فإنها
لا تتم في المقام، لأنها لو تمت فيما إذا كانت الوحدة وحدة ذاتية مقولية فلا تتم
فيما إذا كانت الوحدة وحدة بالعنوان دون الحقيقة والذات. ولما كانت وحدة
النهي عن الفحشاء وحدة عنوانية لا وحدة مقولية - ضرورة أن النهي عن
الفحشاء عنوان ينتزع عن ترك الأعمال القبيحة بالذات، أو من جهة النهي
الشرعي - فكل واحد من هذه الأعمال حصة من الفحشاء والمنكر، ويعبر عن
النهي عنه بالنهي عن الفحشاء. ولا مانع من أن ينتزع الواحد بالعنوان عن الحقائق
المختلفة، والأمور المتباينة خارجا.
وعليه فلا كاشف عن جهة جامعة ذاتية مقولية، وغاية ما هناك: وجود جامع
عنواني بين الأفراد الصحيحة: كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر مع الاختلاف
في الحقيقة والذات، ومن الضروري عدم وضع لفظ " الصلاة " لنفس العنوان.
الثالث: أنا نعلم بالضرورة أن الأثر في المقام غير مترتب على الجامع بين
163

الأفراد، وإنما هو مترتب على أفراد الصلاة بخصوصياتها من الأجزاء والشرائط
المعتبرة فيها، فإن ترتب النهي عن الفحشاء والمنكر على الصلاة ليس كترتب
الإحراق على النار، أو كترتب سائر الآثار الخارجية على أسبابها، فإن الأثر في
جميع هذه الموارد مترتب على الجامع من دون دخل لأية خصوصية من
الخصوصيات الفردية. وهذا بخلاف المقام، فإن النهي عن الفحشاء والمنكر مما
يترتب على أفراد الصلاة وحصصها بخصوصياتها الخاصة المعتبرة في صحتها
خارجا، ولا ريب في أن صحة صلاة الصبح منوطة بخصوصية وقوع التسليمة في
الركعة الثانية، وصحة صلاة المغرب منوطة بخصوصية وقوع التسليمة في الركعة
الثالثة وعدم وقوعها في الركعة الثانية، وصحة صلاة الظهرين أو صلاة العشاء
متوقفة على خصوصية وقوع التسليمة في الركعة الرابعة، ومشروطة بعدم وقوعها
في الركعة الثالثة، وهكذا بقية الخصوصيات، فالمؤثر في جهة النهي عن الفحشاء
حقيقة تلك الخصوصيات، ومع هذا كيف يمكن القول بأن المؤثر فيه الجامع بين
الأفراد؟ فإن الالتزام بذلك إنما هو فيما إذا لم يكن دخل للخصوصيات في ترتب
الأثر، وهذا لا يعقل في المقام! إذ كيف يمكن وجود جامع بين المشروط بشئ
والمشروط بعدمه؟!
فتلخص: أن الجامع الذاتي المقولي لو سلمنا إمكان تعقله بين الأفراد
الصحيحة لم يكن لنا طريق إليه في مقام الإثبات.
الرابع: أن هذا الجامع الذي فرضه (قدس سره) لا يخلو من أن يكون مركبا، أو يكون
بسيطا، ولا ثالث لهما.
والأول لا يعقل، لأن الصحة والفساد - كما عرفت - مفهومان إضافيان (1)،
ومن المعلوم أن كل مركب فرض جامعا فذلك المركب يتداخل فيه الصحة

(1) تقدم في ص 154 - 155 فراجع.
164

والفساد، سواء كان المركب من المراتب العالية: كصلاة المختار، أو من المراتب
الدانية، أو من المراتب الوسطى فعلى جميع التقادير كان ذلك المركب صحيحا
بالقياس إلى شخص أو زمان أو حالة، وفاسدا بالقياس إلى غير ذلك، مثلا: الصلاة
قصرا صحيحة من المسافر وفاسدة من غيره، والصلاة قاعدا صحيحة للعاجز عن
القيام وفاسدة للقادر عليه، والصلاة مع الطهارة المائية صحيحة من واجد الماء
وفاسدة من فاقده، ومع الطهارة الترابية يعكس ذلك، وهكذا...، وعليه فكيف
يعقل أن يكون المركب بما هو جامعا؟!
وعلى الجملة: قد ذكرنا سابقا: أن للصلاة مراتب عريضة، ومن المعلوم أن
تلك المراتب بأجمعها متداخلة صحة وفسادا، فما من مرتبة من مراتب الصحيحة
إلا وهي فاسدة من طائفة حتى المرتبة العليا، فإنها فاسدة ممن لم يكلف بها فلا
يعقل أن يؤخذ منها جامع تركيبي.
فقد أصبحت النتيجة: أن استحالة تصوير الجامع التركيبي بين الأفراد
الصحيحة أمر بديهي.
والثاني - وهو: فرض الجامع بسيطا - أيضا غير معقول، والوجه في ذلك:
هو أن الجامع المقولي الذاتي لا يعقل أن ينطبق على مركب من حقيقتين متباينتين
بالذات والهوية، بداهة استحالة تحقق جامع ما هوي بين الحقيقتين المتباينتين
ذاتا، وإلا فلا تكونان متباينتين، بل كانتا مشتركتين في حقيقة واحدة، وهذا خلف.
ومقامنا من هذا القبيل بعينه، لأن الصلاة مركبة وجدانا من مقولات متباينة بحد
ذاتها: كمقولة الوضع، والكيف، ونحوهما.
وقد برهن في محله: أن المقولات متباينات بتمام ذاتها وذاتياتها فلا اشتراك
لها في حقيقة واحدة، ومن هنا كانت المقولات أجناسا عالية، فلو كانت مندرجة
تحت مقولة واحدة لم تكن أجناسا عالية، ومع ذلك كيف يعقل جامع مقولي بين
165

الأفراد الصحيحة؟ بل لا يعقل فرض جامع لمرتبة واحدة منها فضلا عن جميع
مراتبها المختلفة. والمركب بما هو مركب لا يعقل أن يكون مقولة على حدة،
ضرورة اعتبار الوحدة الحقيقية في المقولة، وإلا لم تنحصر المقولات، بل لا يعقل
تركب حقيقي بين أفراد مقولة واحدة، فضلا عن مقولات متعددة.
وقد تحصل من ذلك: أنه لا يعقل تصور الجامع الحقيقي البسيط لمرتبة
واحدة من الصلاة، فضلا عن جميع مراتبها كما كان الأمر كذلك في الجامع
التركيبي.
الخامس: قد ذكرنا سابقا: أن الصحة في المقام بمعنى تمامية الشئ في
نفسه، أعني بها: تماميته من حيث الأجزاء والشرائط. وقد تقدم (1): أن الصحة من
جهة قصد القربة، أو من جهة عدم النهي، أو المزاحم خارجة عن محل النزاع وغير
داخلة في المسمى، فإنه في مرتبة سابقة قد يوجد له مزاحم، وقد يقصد به التقرب،
وقد ينهى عنه، ولكن مع ذلك لهذه الأمور دخل في الصحة وفي فعلية الأثر.
فلو كان للصلاة - مثلا - مزاحم واجب، أو أنها نهي عنها، أو لم يقصد بها
التقرب لم يترتب عليها الأثر. وعليه فما يترتب عليه الأثر بالفعل لم يوضع له
اللفظ يقينا، وما وضع له اللفظ ليس إلا ما يكون مقتضيا وقابلا لترتب الأثر عليه،
وهذا كما يمكن صدقه على الأفراد الصحيحة يمكن صدقه على الأفراد الفاسدة،
لأنها أيضا قد تقع صحيحة بالإضافة إلى شخص أو زمان أو حالة لا محالة.
وعلى الجملة: أن ما يترتب عليه الأثر بالفعل لم يوضع له اللفظ قطعا، وما
يترتب عليه الأثر بالاقتضاء جامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة جميعا.
وقد تحصل من ذلك: أن ترتب النهي عن الفحشاء والمنكر على الصلوات
الصحيحة بالفعل لا يفي بإثبات القول بوضع الألفاظ للجامع بين الأفراد
الصحيحة بخصوصها، فإنه سواء أقلنا بذلك القول أم لم نقل فترتبه متوقف على

(1) تقدم في ص 157 فراجع.
166

اعتبار شئ زائد على المسمى لا محالة.
السادس: أن الجامع لا بد من أن يكون أمرا عرفيا، وما ذكره من الجامع على
تقدير تسليم وجوده والإغماض عن جميع ما ذكرناه لا يكون معنى عرفيا حتى
يكون مسمى بلفظ " الصلاة " وموردا للخطاب، ضرورة أن اللفظ لا يوضع لمعنى
خارج عن المتفاهم العرفي، ولا يكون مثله متعلقا للخطاب الشرعي، فإن
الخطابات الشرعية كلها منزلة على طبق المفاهيم العرفية، فلو فرض معنى يكون
خارجا عن الفهم العرفي لم يقع موردا للخطاب الشرعي أو العرفي، ولا يوضع
اللفظ بإزائه. وحيث إن الجامع في المقام ليس أمرا عرفيا فلا يكون مسمى بلفظ
" الصلاة " مثلا، ضرورة أن محل كلامنا ليس في تصوير جامع كيف ما كان، بل في
تصوير جامع عرفي يقع تحت الخطاب، لا في جامع عقلي بسيط يكون خارجا
عن متفاهم العرف.
وبتعبير آخر: أن المصلحة الداعية إلى وضع الألفاظ إنما هي الدلالة على قصد
المتكلم تفهيم معنى ما، فتلك المصلحة إنما دعت إلى وضعها للمعاني التي يفهمها
أهل العرف والمحاورة، وأما ما كان خارجا عن دائرة فهمهم فلا مصلحة تدعو إلى
وضع اللفظ بإزائه، بل كان الوضع بإزائه لغوا محضا لا يصدر من الواضع الحكيم.
ولما لم يكن الجامع الذي فرضه بين الأفراد الصحيحة جامعا عرفيا - فإن
كثيرا من الناس لا يعلم بتأثير الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر، فضلا عن
العلم بكشفه عن جامع ذاتي مقولي - لم يكن ذلك الجامع موضوعا له لمثل كلمة
" الصلاة " ونحوها، بل المتفاهم منها عرفا في مثل قولنا: فلان " صلى " أو " يصلي "
أو نحو ذلك غير ذلك الجامع.
فالنتيجة من جميع ما ذكرناه: أن تصوير جامع ذاتي مقولي بين الأفراد
الصحيحة غير معقول. وأما تصوير جامع عنواني بينها فهو إن كان ممكنا، كعنوان
الناهي عن الفحشاء والمنكر أو نحوه، إلا أن لفظ " الصلاة " لم يوضع بإزاء هذا
167

العنوان يقينا، ضرورة أن لفظ " الصلاة " لو كان موضوعا لذلك العنوان لكان مرادفا
لكلمة " الناهي " عن الفحشاء والمنكر، ولازم ذلك أن يكون حمل ذلك العنوان
على الصلاة من الحمل الأولي الذاتي، لا الشائع الصناعي، وهو باطل قطعا.
لا يقال: إن لزوم الترادف يبتني على أن يكون لفظ " الصلاة " موضوعا لنفس
العنوان المذكور، وأما إذا فرضنا أنه موضوع لواقع ذلك العنوان ومعنونه فلا يلزم
ذلك.
فإنه يقال: إن أريد بالمعنون ما يكون جامعا بين الأفراد الخارجية ليكون
صدقه عليها صدق الطبيعة على أفرادها فقد عرفت: أنه لا دليل عليه، بل البرهان
قائم على خلافه.
وإن أريد بالمعنون نفس الأفراد الخارجية ليكون الوضع من قبيل: الوضع
العام والموضوع له الخاص فهو باطل جزما، وذلك لأن إطلاق كلمة " الصلاة " على
جميع أقسامها بشتى أنواعها وأشكالها على نسق واحد، وليس استعمالها في نوع
أو صنف أو فرد مغايرا لاستعمالها في نوع أو صنف أو فرد آخر.
ومن هنا يكون حمل كلمة " الصلاة " بمالها من المعنى المرتكز في أذهان
المتشرعة على جميع أقسامها وأفرادها من قبيل: حمل الكلي على أفراده،
والطبيعي على مصاديقه، فوحدة النسق في إطلاق الكلمة وكون الحمل شائعا
صناعيا يكشفان كشفا قطعيا عن أن المعنى الموضوع له عام لا خاص.
وعلى الجملة: أن القول بكون الموضوع له خاصا يشترك مع القول بالاشتراك
اللفظي في البطلان، بل لا فرق بحسب النتيجة، حيث إن الموضوع له متعدد على
كلا القولين، وإنما الفرق بينهما في وحدة الوضع وتعدده.
فقد أصبحت النتيجة من جميع ما ذكرناه: أن تصوير جامع ذاتي مقولي على
القول بالصحيح غير معقول، وتصوير جامع عنواني وإن كان شيئا معقولا إلا أن
اللفظ لم يوضع بإزائه، ولا بإزاء معنونه كما عرفت. هذا.
168

وفي تقريرات بعض الأعاظم (قدس سرهم) بيان آخر لتصوير الجامع بين الأفراد
الصحيحة، وملخصه: هو أن الجامع لا ينحصر بالجامع المقولي، ولا بالجامع
العنواني، بل هنا جامع ثالث، وهو: المرتبة الخاصة من الوجود الساري، فإن
الصلاة - مثلا - مركبة من مقولات متباينات، وتلك المقولات وإن لم تندرج تحت
جامع مقولي حقيقي إلا أنها مندرجة تحت مرتبة خاصة من الوجود الساري إليها،
وتلك المرتبة الخاصة البسيطة وجود سار إلى جملة من المقولات، ومحدود من
ناحية القلة بالأركان على سعتها. وأما من ناحية الزيادة فهو لا بشرط، وهذه جهة
جامعة بين جميع الأفراد الصحيحة. فالصلاة: عبارة عن تلك المرتبة الخاصة من
الوجود، وعلى هذا كانت الصلاة أمرا بسيطا خاصا يصدق على القليل والكثير،
والقوي والضعيف (1)... وهكذا.
ويرده أو لا: أنه لا ريب في أن لكل مقولة من المقولات وجودا في نفسه في
عالم العين، فكما أنه لا يعقل أن يكون بين مقولتين أو ما زاد جامع مقولي واحد
بأن تندرجا تحت ذلك الجامع فكذلك لا يعقل أن يكون لهما وجود واحد في
الخارج، ضرورة استحالة اتحاد مقولة مع مقولة أخرى في الوجود.
وعلى الجملة: فكل مركب اعتباري عبارة عن نفس الأجزاء بالأسر،
فالوحدة بين أجزائه وحدة اعتبارية، ومن الضروري أنه ليس لمجموع تلك
الأجزاء المتباينة بالذات والحقيقة حصة خاصة من الوجود حقيقة سارية إليها،
فالصلاة - مثلا - مركبة من مقولات متباينة: كمقولة الوضع والكيف ونحوهما،
وليست تلك المقولات مشتركة في مرتبة خاصة بسيطة من الوجود لتكون وجودا
للجميع.
وعلى ذلك: فإنه (قدس سره) إن أراد به اشتراك تلك المقولات في مفهوم الوجود فهو
لا يختص بها، بل يعم جميع الأشياء. وإن أراد به اشتراكها في حقيقة الوجود

(1) انظر نهاية الأفكار: ج 1 ص 82.
169

فالأمر أيضا كذلك. وإن أراد أن لتلك المقولات وحدها مرتبة خاصة من الوجود
ففيه: أنه غير معقول كما عرفت، وقد برهن في محله: أن الاتحاد الحقيقي في
الوجود بين أمرين أو أمور متحصلة مستحيل ولو اعتبر الوحدة بينهما أو بينها ألف
مرة، وكيف ما كان فلا نعقل لذلك معنى متحصلا أصلا.
وثانيا: أنه لو سلم ذلك فإن الصلاة ليست عبارة عن تلك المرتبة الخاصة
الوجودية، ضرورة أن المتفاهم منها عند المتشرعة ليس هذه، بل نفس المقولات
والأجزاء والشرائط، وهذا واضح.
وثالثا: أنا قد ذكرنا سابقا (1): أن الألفاظ لم توضع للموجودات الخارجية،
بل وضعت للماهيات القابلة لأن تحضر في الأذهان، وعليه فلا يعقل أن يوضع
لفظ " الصلاة " لتلك المرتبة الخاصة من الوجود، فإنها غير قابلة لأن تحضر في
الذهن.
ولشيخنا المحقق (قدس سره) بيان ثالث في تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة،
واليك نصه:
والتحقيق: أن سنخ المعاني والماهيات وسنخ الوجود العيني الذي حيثية
ذاته حيثية طرد العدم في مسألة السعة والإطلاق متعاكسان، فإن سعة سنخ
الماهيات من جهة الضعف والإبهام، وسعة سنخ الوجود الحقيقي من فرط الفعلية.
فلذا كلما كان الضعف والإبهام في المعنى أكثر كان الإطلاق والشمول أوفر، وكلما
كان الوجود أشد وأقوى كان الإطلاق والسعة أعظم وأتم.
فإن كانت الماهية من الماهيات الحقيقية كان ضعفها وإبهامها بلحاظ
الطوارئ وعوارض ذاتها مع حفظ نفسها: كالإنسان - مثلا - فإنه لا إبهام فيه من
حيث الجنس والفصل المقومين لحقيقته، وإنما الإبهام فيه من حيث الشكل، وشدة

(1) تقدم في بحث الوضع ص 60 فراجع.
170

القوى، وضعفها، وعوارض النفس، والبدن، حتى عوارضها اللازمة لها ماهية
ووجودا.
وإن كانت الماهية من الأمور المؤتلفة من عدة أمور بحيث تزيد وتنقص كما
وكيفا فمقتضى الوضع لها بحيث يعمها مع تفرقها وشتاتها أن تلاحظ على نحو مبهم
في غاية الإبهام بمعرفية بعض العناوين الغير المنفكة عنها، فكما أن الخمر - مثلا -
مائع مبهم من حيث اتخاذه من العنب والتمر وغيرهما، ومن حيث اللون والطعم
والريح، ومن حيث مرتبة الإسكار - ولذا لا يمكن وصفه إلا لمائع خاص بمعرفية
المسكرية من دون لحاظ الخصوصية تفصيلا، بحيث إذا أراد المتصور تصوره لم
يوجد في ذهنه إلا مصداق مائع مبهم من جميع الجهات إلا حيثية المائعية
بمعرفية المسكرية - كذلك لفظ " الصلاة " مع هذا الاختلاف الشديد بين مراتبها
كما وكيفا لا بد من أن يوضع لسنخ عمل معرفه النهي عن الفحشاء، أو غيره من
المعرفات، بل العرف لا ينتقلون من سماع لفظ " الصلاة " إلا إلى سنخ عمل خاص
مبهم، إلا من حيث كونه مطلوبا في الأوقات الخاصة. ولا دخل لما ذكرناه بالنكرة،
فإنه لم يؤخذ فيه الخصوصية البدلية كما أخذت فيها.
وبالجملة: الإبهام غير الترديد، وهذا الذي تصورناه في ما وضع له الصلاة
بتمام مراتبها من دون الالتزام بجامع ذاتي مقولي وجامع عنواني، ومن دون
الالتزام بالاشتراك اللفظي مما لا مناص عنه بعد القطع بحصول الوضع ولو تعينا.
ثم قال (قدس سره) بقوله: وقد التزم بنظيره بعض أكابر فن المعقول في تصحيح
التشكيك في الماهية جوابا عن تصور شمول طبيعة واحدة لتمام مراتب الزائدة
والمتوسطة والناقصة. حيث قال: نعم، الجميع مشترك في سنخ واحد مبهم غاية
الإبهام بالقياس إلى تمام نفس الحقيقة ونقصها وراء الإبهام الناشئ فيه عن
اختلاف في الأفراد بحسب هوياتها. انتهى. مع أن ما ذكرناه أولى به مما ذكره في
الحقائق المتأصلة والماهيات الواقعية كما لا يخفى.
171

ثم قال (قدس سره): وأما على ما تصورنا الجامع فالصحيحي والأعمي في إمكان
تصوير الجامع على حد سواء، فإن المعرف إن كان فعلية النهي عن الفحشاء فهو
كاشفة عن الجامع بين الأفراد الصحيحة، وإن كان اقتضاء النهي عن الفحشاء فهو
كاشف عن الجامع بين الأعم، هذا (1).
يتلخص نتيجة ما أفاده (قدس سره) في ضمن أمور:
الأول: أن الماهية والوجود متعاكسان من جهة السعة والإطلاق، فالوجود
كلما كان أشد وأقوى كان الإطلاق والشمول فيه أوفر، والماهية كلما كان الضعف
والإبهام فيها أكثر كان الإطلاق والشمول فيها أعظم وأوفر.
الثاني: أن الجامع بين الماهيات الاعتبارية: كالصلاة ونحوها سنخ أمر مبهم
في غاية الإبهام، فإنه جامع لجميع شتاتها ومتفرقاتها، وصادق على القليل
والكثير، والزائد والناقص، مثلا: الجامع بين أفراد الصلاة سنخ عمل مبهم من جميع
الجهات إلا من حيث النهي عن الفحشاء والمنكر، أو من حيث فريضة الوقت.
الثالث: أن الماهيات الاعتبارية نظير الماهيات المتأصلة التشكيكية من جهة
إبهامها ذاتا، بل إن ثبوت الإبهام في الاعتباريات أولى من ثبوته في المتأصلات.
الرابع: أن القول بالصحيح والأعم في تصوير الجامع المزبور على حد سواء.
أما الأمر الأول: فهو وإن كان متينا إلا أنه خارج عن محل كلامنا في المقام.
وأما الأمر الثاني فيرده: أن الماهيات الاعتبارية لا تكون مبهمة أصلا،
ضرورة أن للصلاة - مثلا - حقيقة متعينة من قبل مخترعها، وهي أجزاؤها الرئيسية
التي هي عبارة عن مقولة الكيف والوضع ونحوهما، ومن المعلوم أنه ليس فيها
أي إبهام وغموض، كيف؟ فإن الإبهام لا يعقل أن يدخل في تجوهر ذات الشئ،
فالشئ بتجوهر ذاته متعين ومتحصل لا محالة، وإنما يتصور الإبهام بلحاظ

(1) نهاية الدراية: ج 1 ص 62 ط - المطبعة العلمية -.
172

الطوارئ وعوارضه الخارجية كما صرح هو (قدس سره) بذلك في الماهيات المتأصلة،
فحقيقة الصلاة حقيقة متعينة بتجوهر ذاتها، وإنما الإبهام فيها بلحاظ الطوارئ
وعوارضها الخارجية.
وعليه فالعمل المبهم إلا من حيث النهي عن الفحشاء أو فريضة الوقت لا يعقل
أن يكون جامعا ذاتيا ومنطبقا على جميع مراتبها المختلفة زيادة ونقيصة انطباق
الكلي على أفراده، ومتحدا معها اتحاد الطبيعي مع مصاديقه ضرورة، إذ قد عرفت
أن الصلاة مركبة من عدة مقولات متباينة فلا تندرج تحت جامع ذاتي، فلا محالة
يكون ما فرض جامعا عنوانا عرضيا لها ومنتزعا عنها، إذ لا ثالث بين الذاتي
والعرضي. ومن الواضح جدا أن لفظ " الصلاة " لم يوضع بإزاء هذا العنوان، وإلا
لترادف اللفظان، وهو باطل يقينا.
ومن هنا يظهر بطلان قياس المقام بمثل كلمة " الخمر " ونحوها مما هو
موضوع للعنوان العرضي دون الذاتي.
على أن الكلام في هذه المسألة - كما مر (1) - إنما هو في تعيين مسمى لفظ
" الصلاة " الذي هو متعلق للأمر الشرعي، لا في تعيين المسمى كيف ما كان. ومن
الظاهر أن الجامع المزبور لا يكون متعلق الأمر، بل المتعلق له هو نفس الأجزاء
المتقيدة بقيود خاصة، فإنها واجدة للملاك الداعي إلى الأمر بها، كما لا يخفى.
ومن هنا كان المتبادر عرفا من لفظ " الصلاة ": هذه الأجزاء المتقيدة بتلك
الشرائط، لا ذلك الجامع.
ومن الغريب أنه (قدس سره) قال: إن العرف لا ينتقلون من سماع لفظ " الصلاة " إلا
إلى سنخ عمل مبهم إلا من حيث كونه مطلوبا في الأوقات المخصوصة؟ كيف؟
فإن العرف لا يفهم من إطلاق لفظ " الصلاة " إلا كمية خاصة من الأجزاء والشرائط

(1) تقدم في ص 167.
173

التي تعلق الأمر بها وجوبا أو ندبا، وفي الأوقات الخاصة، أو في غيرها. ومن هنا
كان إطلاق لفظ " الصلاة " على صلاة العيدين وصلاة الآيات إطلاقا حقيقيا من
دون إعمال عناية أو رعاية علاقة.
وبما ذكرناه يظهر حال ما أفاده (قدس سره) في الأمر الثالث، فلا حاجة إلى الإعادة.
وأما الرابع فيرد عليه ما تقدم: من أن النهي عن الفحشاء إنما يترتب فعلا
على ما يتصف بالصحة بالفعل، وهو غير المسمى قطعا، فلا يمكن أن يكون ذلك
جامعا بين الأفراد الصحيحة.
وقد تلخص من جميع ما ذكرناه: أن الجامع بين الأفراد الصحيحة: إما أنه
غير معقول، أو هو معقول، ولكن اللفظ لم يوضع بإزائه.
تبصرة
إذا لم يعقل جامع بين الأفراد الصحيحة فما هو المؤثر في النهي عن الفحشاء
والمنكر؟
والجواب عنه: هو أن حديث كيفية تأثير الصلاة في الانتهاء عن الفحشاء
والمنكر يمكن أن يكون بأحد وجهين:
الأول: أن الصلاة باعتبار أجزائها المختلفة كما وكيفا مشتملة على أرقي
معاني العبودية والرقية، ولأجل ذلك تصرف النفس عن جملة من المنكرات
وتؤثر في استعدادها للانتهاء عنها من جهة مضادة كل جزء من أجزائها لمنكر
خاص.
فإن المصلي الملتفت إلى وجود مبدأ ومعاد إذا قرأ قوله تعالى: * (الحمد لله
رب العالمين) * التفت إلى أن لهذه العوالم خالقا هو ربهم، وهو رحمان ورحيم.
وإذا قرأ قوله تعالى: * (مالك يوم الدين) * التفت إلى أن الله يسأل عما ارتكبه من
القبائح ويجازي عليه في ذلك اليوم. وإذا قرأ قوله تعالى: * (إياك نعبد وإياك
174

نستعين) * التفت إلى أن العبادة والاستعانة منحصرتان به تعالى وتقدس، ولا يصلح
غيره للعبادة والاستعانة. وإذا قرأ * (اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين
أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * التفت إلى أن طائفة قد خالفوا
الله وعصوه عنادا، ولأجله وقع عليهم غضبه تعالى وسخطه، أو أنهم خالفوه بغير
عناد فصاروا من الضالين، وهناك طائفة أخرى قد أطاعوا الله ورسوله فوقعوا في
مورد نعمائه تعالى ورضاه. ففاتحة الكتاب بمجموع آياتها تكون عبرة وعظة
للمصلين الملتفتين إلى معاني هذه الآيات.
ثم إذا وصل المصلي إلى حد الركوع والسجود فركع ثم سجد التفت إلى
عظمة مقام ربه الجليل، وأن العبد لا بد أن يكون في غاية تذلل وخضوع وخشوع
إلى مقامه الأقدس، فإنهما حقيقة العبودية، وأرقى معناها، ومن هنا كانت
عباديتهما ذاتية.
ومن هنا كان في الركوع والسجود مشقة على العرب في صدر الإسلام،
فالتمسوا النبي (صلى الله عليه وآله) أن يرفع عنهم هذا التكليف ويأمرهم بما شاء، وذلك
لتضادهما الكبر والنخوة. وبما أن الصلاة تتكرر في كل يوم وليلة عدة مرات
فالالتفات إلى معانيها في كل وقت اتي بها لا محالة تؤثر في النفس، وتصرفها عن
الفحشاء والمنكر.
الثاني: أن الصلاة باعتبار أنها مشروطة بعدة شرائط فهي لا محالة تنهى عن
الفحشاء والمنكر، فإن الالتزام بإباحة المكان واللباس، وبالطهارة من الحدث
والخبث - مثلا - يصرف المكلف عن كثير من المحرمات الإلهية.
وقد نقل عن بعض السلاطين: أنه كان يمتنع عن شرب الخمر لأجل الصلاة،
وكيف ما كان فالصلاة باعتبار هاتين الجهتين ناهية عن عدة من المنكرات
لا محالة.
فتلخص: أن تأثير الصلاة في النهي عن الفحشاء باعتبار هاتين الجهتين
175

واضح. هذا تمام الكلام في المقام الأول.
وأما الكلام في المقام الثاني: فيقع في تصوير الجامع على القول بالأعم،
وقد ذكر فيه عدة وجوه:
الأول: ما عن المحقق القمي (قدس سره): من أن ألفاظ العبادات موضوعة بإزاء
خصوص الأركان، وأما بقية الأجزاء والشرائط فهي دخيلة في المأمور به دون
المسمى، فلفظ " الصلاة " - مثلا - موضوع لذات التكبيرة والركوع والسجود
والطهارة من الحدث، فإنها أركان الصلاة وأصولها الرئيسية. وأما البقية فجميعا
معتبرة في مطلوبيتها شرعا، لا في تسميتها عرفا (1)، فيرجع حاصل ما أفاده (قدس سره)
إلى أمرين:
الأول: أن البقية بأجمعها خارجة عن المسمى، ودخيلة في المأمور به.
الثاني: أن الأركان هو الموضوع له.
وقد أورد شيخنا الأستاذ (2) (قدس سره) على كل واحد من الأمرين إيرادا.
أما الأول: فقد أورد عليه: بأنه إن أراد بعدم دخول بقية الأجزاء والشرائط
في المسمى عدم دخولها فيه دائما فيرده: أنه ينافي الوضع للأعم، فإن لازمه عدم
صدق لفظ " الصلاة " على الفرد الصحيح إلا بنحو من العناية والمجاز، ومن باب
إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكل.
وإن أراد به دخولها فيه عند وجودها، وخروجها عنه عند عدمها فهو غير
معقول، ضرورة أن دخول شئ واحد في ماهية عند وجوده وخروجه عنها عند
عدمه أمر مستحيل، لاستحالة كون شئ جزءا لماهية مرة وخارجا عنها مرة
أخرى، فإن كل ماهية متقومة بجنس وفصل أو ما يشبههما، فلا يعقل أن يكون
شئ واحد مقوما لماهية عند وجوده ولا يكون كذلك عند عدمه. فإذا لا يعقل

(1) انظر قوانين الأصول: ص 43.
(2) أجود التقريرات: 42.
176

أن تكون البقية داخلة في المسمى عند تحققها وخارجة عنه عند عدمها فأمرها
ولا محالة يدور بين الخروج مطلقا، أو الدخول كذلك، وكلا الأمرين ينافي
الوضع للأعم.
وأما الأول فلما عرفت. وأما الثاني فلأنه يناسب الوضع للصحيح، لا للأعم
كما لا يخفى.
ثم أورد (قدس سره) على نفسه: بأن الالتزام بالتشكيك في الوجود وفي بعض
الماهيات - كالسواد والبياض ونحوهما - يلزمه الالتزام بدخول شئ في الوجود
أو الماهية عند وجوده، وبعدم دخوله فيه عند عدمه، فإن المعنى الواحد على القول
بالتشكيك يصدق على الواجد والفاقد والناقص والتام، فالوجود يصدق على
وجود الواجب، ووجود الممكن على عرضه العريض، وكذا السواد يصدق على
الضعيف والشديد، فلتكن الصلاة أيضا صادقة على التام والناقص والواجد والفاقد
على نحو التشكيك.
أجاب عنه: بأن التشكيك في حقيقة الوجود لا ندرك حقيقته، بل هو أمر فوق
إدراك البشر، ولا يعلم إلا بالكشف والمجاهدة كما صرح به أهله.
وأما التشكيك في الماهيات فهو وإن كان أمرا معقولا إلا أنه لا يجري
في كل ماهية، بل يختص بالماهيات البسيطة التي يكون ما به الاشتراك فيها عين
ما به الامتياز: كالسواد والبياض ونحوهما. وأما الماهيات التي تكون
مركبة من جنس وفصل ومادة وصورة - كالإنسان ونحوه - فلا يعقل فيها
التشكيك.
وعليه فلا يعقل التشكيك في حقيقة " الصلاة " لأنها على الفرض مركبة
من أركان ومقولات عديدة، فلا يعقل أن تكون بقية الأجزاء والشرائط داخلة فيها
مرة، وخارجة عنها مرة أخرى لتصدق الصلاة على الزائد والناقص.
177

وأما الثاني فأورد عليه: بأن الأركان أيضا تختلف باختلاف الأشخاص من
القادر والعاجز والغريق ونحو ذلك، فلا بد - حينئذ - من تصوير جامع بين مراتب
الأركان، فيعود الإشكال.
وبيان ذلك: هو أن الشارع جعل الركوع والسجود بعرضهما العريض ركنا،
فهما يختلفان باختلاف الحالات من الاختيار والاضطرار، وأدنى مراتبهما
الإشارة والإيماء، فحينئذ لا بد من تصوير جامع بين تلك المراتب ليوضع اللفظ
بإزاء ذلك الجامع، فإذا يعود الإشكال.
ومن جميع ما ذكرناه يستبين: أن ما ذكره (قدس سره) لا يرجع عند التأمل إلى معنى
محصل، هذا.
وأورد المحقق صاحب الكفاية (1) (قدس سره) على هذا الوجه من تصوير الجامع
إيرادا ثالثا. وملخصه: هو أنا نقطع بأن لفظ " الصلاة " لم يوضع بإزاء الأركان
الخاصة، ضرورة أنه يصدق على الفرد الفاقد لبعض الأركان إذا كان ذلك الفرد
واجدا لبقية من الأجزاء والشرائط، ولا يصدق على الفرد الواجد لجميع الأركان
إذا كان ذلك الفرد فاقدا لتمام البقية، فلا يصح إذا دعوى وضعها لخصوص
الأركان، فإنه لا يدور صدق " الصلاة " مدارها وجودا وعدما كما لا يخفى.
والصحيح: هو ما أفاده المحقق القمي (قدس سره)، ولا يرد عليه شئ من هذه
الإيرادات.
أما الإيراد الأول: فلأن فيه خلطا بين المركبات الحقيقية والمركبات
الاعتبارية، فإن المركبات الحقيقية التي تتركب من جنس وفصل ومادة وصورة
ولكل واحد من الجزءين جهة افتقار بالإضافة إلى الآخر لا يعقل فيها تبديل
الأجزاء بغيرها، ولا الاختلاف فيها كما وكيفا، فإذا كان شئ واحد جنسا أو فصلا

(1) كفاية الأصول: ص 40.
178

لماهية فلا يعقل أن يكون جنسا أو فصلا لها مرة، ولا يكون كذلك مرة أخرى،
ضرورة أن بانتفائه تنعدم تلك الماهية لا محالة. مثلا: الحيوان جنس للإنسان
فلا يعقل أن يكون جنسا له في حال أو زمان، ولا يكون جنسا له في حال أو زمان
آخر، وهكذا...
فما ذكره (قدس سره) تام في المركبات الحقيقية ولا مناص عنه. وأما المركبات
الاعتبارية التي تتركب من أمرين مختلفين أو أزيد وليس بين الجزءين جهة
اتحاد حقيقة ولا افتقار ولا ارتباط، بل إن كل واحد منهما موجود مستقل على
حياله، ومبائن للآخر في التحصل والفعلية، والوحدة العارضة عليهما اعتبارية
لاستحالة التركب الحقيقي بين أمرين أو أمور متحصلة بالفعل فلا يتم فيها ما
أفاده (قدس سره)، ولا مانع من كون شئ واحد داخلا فيها عند وجوده، وخارجا عنها
عند عدمه.
وقد مثلنا لذلك في الدورة السابقة بلفظ " الدار "، فإنه موضوع لمعنى مركب،
وهو ما اشتمل على حيطان وساحة وغرفة وهي أجزاؤها الرئيسية ومقومة لصدق
عنوانها، فحينئذ إن كان لها سرداب أو بئر أو حوض أو نحو ذلك فهي من أجزائها
وداخلة في مسمى لفظها، وإلا فلا.
وعلى الجملة: فقد لاحظ الواضع في مقام تسمية لفظ " الدار " معنى مركبا
من أجزاء معينة خاصة، وهي: الحيطان والساحة والغرفة فهي أركانها، ولم يلحظ
فيها موادا معينة وشكلا خاصا من الأشكال الهندسية وأما بالإضافة إلى الزائد
عنها فهي مأخوذة لا بشرط، بمعنى: أن الزائد على تقدير وجوده داخل في
المسمى، وعلى تقدير عدمه خارج عنه، فالموضوع له معنى وسيع يصدق على
القليل والكثير والزائد والناقص على نسق واحد، ومن هذا القبيل: لفظ " القباء " و
" العباء " بالإضافة إلى البطانة ونحوها، فإنها عند وجودها داخلة في المسمى،
وعند عدمها خارجة عنه وغير ضائر بصدقه.
179

ومن هذا القبيل أيضا: الكلمة والكلام، فإن الكلمة موضوعة للمركب من
حرفين فصاعدا، فإن زيد عليهما حرف أو أزيد فهو داخل في معناها، وإلا فلا.
والكلام موضوع للمركب من كلمتين فما زاد، فيصدق على المركب منهما ومن
الزائد على نحو واحد، وهكذا...
وبتعبير آخر: أن المركبات الاعتبارية على نحوين:
أحدهما: ما لوحظ فيه كثرة معينة من جانب القلة والكثرة وله حد خاص من
الطرفين: كالأعداد، فإن الخمسة - مثلا - مركبة من أعداد معينة بحيث لو زاد
عليها واحد أو نقص بطل الصدق لا محالة.
وثانيهما: ما لوحظ فيه أجزاء معينة من جانب القلة فقط وله حد خاص من
هذا الطرف. وأما من جانب الكثرة ودخول الزائد فقد اخذ لا بشرط، وذلك مثل:
الكلمة والكلام والدار وأمثال ذلك، فإن فيها ما اخذ مقوما للمركب، وما اخذ
المركب بالإضافة إليه لا بشرط.
ومن الظاهر أن اعتبار اللا بشرطية في المعنى كما يمكن أن يكون باعتبار
الصدق الخارجي كذلك يمكن أن يكون باعتبار دخول الزائد في المركب.
كما أنه لا مانع من أن يكون المقوم للمركب الاعتباري أحد أمور على سبيل
البدل، وقد مثلنا لذلك في الدورة السالفة بلفظ " الحلوى "، فإنه موضوع للمركب
المطبوخ من شكر وغيره، سواء كان ذلك الغير دقيق أرز أو حنطة أو نحو ذلك.
ولما كانت الصلاة من المركبات الاعتبارية فإنك عرفت أنها مركبة من
مقولات متعددة، كمقولة الوضع، ومقولة الكيف ونحوهما، وقد برهن في محله: أن
المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات فلا تندرج تحت مقولة واحدة،
لاستحالة تحقق الاتحاد الحقيقي بين مقولتين، بل لا يمكن بين أفراد مقولة واحدة
فما ظنك بالمقولات؟ فلا مانع من الالتزام بكونها موضوعة للأركان فصاعدا.
180

والوجه في ذلك: هو أن معنى كل مركب اعتباري لا بد أن يعرف من قبل
مخترعه، سواء أكان ذلك المخترع هو الشارع المقدس أم غيره. وعليه فقد استفدنا
من النصوص (1) الكثيرة: أن حقيقة الصلاة التي يدور صدق عنوان الصلاة مدارها
وجودا وعدما: عبارة عن التكبيرة والركوع والسجود، والطهارة من الحدث على
ما سنتكلم (2) فيها عن قريب إن شاء الله تعالى.
وأما بقية الأجزاء والشرائط فهي عند وجودها داخلة في المسمى، وعند
عدمها خارجة عنه وغير مضرة بصدقه، وهذا معنى: كون الأركان مأخوذة لا
بشرط بالقياس إلى دخول الزائد، وقد عرفت: أنه لا مانع من الالتزام بذلك في
الماهيات الاعتبارية، وكم له من نظير.
وإن شئت فقل: إن المركبات الاعتبارية أمرها - سعة وضيقا - بيد معتبرها،
فقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أمور بشرط لا كما في الأعداد. وقد يعتبر التركيب
بين أمرين أو أزيد لا بشرط، بالإضافة إلى دخول الزائد، كما هو الحال في كثير
من تلك المركبات، فالصلاة من هذا القبيل فإنها موضوعة للأركان فصاعدا.
ومما يدل على ذلك: هو أن إطلاقها على جميع مراتبها المختلفة كما وكيفا
على نسق واحد بلا لحاظ عناية في شئ منها، فلو كانت الصلاة موضوعة
للأركان بشرط لا فلم يصح إطلاقها على الواجد لتمام الأجزاء والشرائط بلا
عناية، مع أنا نرى - وجدانا - عدم الفرق بين إطلاقها على الواجد، وإطلاقها على
الفاقد أصلا.
وقد تلخص من ذلك: أن دخول شئ واحد في ماهية مركبة مرة وخروجه
عنها مره أخرى إنما يكون مستحيلا في الماهيات الحقيقية دون المركبات
الاعتبارية.

(1 و 2) سيأتي ذكرها ضمن التذييل في ص 184 فانتظر.
181

وعلى ضوء ذلك قد ظهر الجواب عن الإيراد الثاني أيضا، فإن لفظ " الصلاة "
موضوع لمعنى وسيع جامع لجميع مراتب الأركان على اختلافها كما وكيفا، وله
عرض عريض، فباعتباره يصدق على الناقص والتام والقليل والكثير على نحو
واحد، كصدق كلمة " الدار " على جميع أفرادها المختلفة زيادة ونقيصة كما وكيفا،
إذا لا نحتاج إلى تصوير جامع بين الأركان ليعود الإشكال.
وبتعبير واضح: أن الأركان وإن كانت تختلف باختلاف حالات المكلفين
- كما أفاده شيخنا الأستاذ (1) - (قدس سره) إلا أنه لا يضر بما ذكرناه: من أن لفظ " الصلاة "
موضوع بإزاء الأركان بعرضها العريض، ولا يوجب علينا تصوير جامع بين
مراتبها المتفاوتة فإنه موضوع لها كذلك على سبيل البدل، وقد عرفت: أنه لا مانع
من أن يكون مقوم المركب الاعتباري أحد الأمور على سبيل البدل.
ومن ذلك يتبين: أن ما ذكرناه غير مبني على جواز التشكيك في الماهية أو
في الوجود، فإنه سواء أقلنا به في الماهية أو الوجود أم لم نقل فما ذكرناه أمر على
طبق المرتكزات العرفية في أكثر المركبات الاعتبارية.
وأما ما أفاده (2) (قدس سره): من أن إدراك التشكيك في الوجود أمر فوق إدراك
البشر فلا يعلم إلا بالكشف والمجاهدة، ففساده غني عن البيان، كما لا يخفى على
أهله.
وبما ذكرناه يظهر فساد الإيراد الثالث أيضا، وذلك لأن الأركان قد يصدق
عليها الصلاة الصحيحة فكيف يمنع عن صدق الصلاة عليها حتى على الأعم؟ فلو
كبر المصلي (3) ونسي جميع الأجزاء والشرائط غير الأركان والوقت والقبلة حتى
فرغ منها يحكم بصحة صلاته بلا إشكال، ولم يستشكل في ذلك أحد من الفقهاء.

(1) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 75.
(2) أجود التقريرات: ج 1 ص 42.
(3) في هامش أجود التقريرات ص 41: (ومن هنا لو كبر المصلي لصلاة الوتر).
182

ومن هنا يظهر بطلان ما أفيد ثانيا: من أن لفظ " الصلاة " يصدق على الفاقد
لبعض الأركان فيما إذا كان واجدا لسائر الأجزاء والشرائط، ووجه الظهور: هو
ما عرفت من أن الروايات الكثيرة قد دلت على أن حقيقة الصلاة التي تتقوم بها
هي التكبيرة والركوع والسجود والطهارة من الحدث، والمراد منها أعم من المائية
والترابية، كما أن المراد من الركوع والسجود أعم مما هو وظيفة المختار أو
المضطر كما عرفت.
فقد أصبحت النتيجة: أنه لا مانع من الالتزام بأن الموضوع له هو خصوص
الأركان، ولا يرد عليه شئ مما تقدم.
تذييل
قد نطقت روايات الباب والنصوص الكثيرة على أن الأركان أربعة، وهي:
التكبيرة والركوع والسجود والطهارة.
أما الأولى: فقد دلت نصوص عديدة (1) على أن التكبيرة ابتداء الصلاة وبها

(1) منها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " التكبيرة الواحدة في افتتاح
الصلاة تجزئ، والثلاث أفضل، والسبع أفضل كله " (1).
ومنها: صحيحة زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل ينسى تكبيرة الإحرام؟
قال: " يعيد " (2).
ومنها: موثقة عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أقام الصلاة فنسي أن
يكبر حتى افتتح الصلاة؟ قال: " يعيد الصلاة " (3).
ومنها: صحيحة علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل ينسى أن يفتتح
الصلاة حتى يركع؟ قال: " يعيد الصلاة " (4).
(1) وسائل الشيعة: ج 6 ص 10 ب 1 من أبواب تكبيرة الإحرام ح 4.
(2) وسائل الشيعة: ج 6 ص 13 ب 2 من أبواب تكبيرة الإحرام ح 1.
(3) وسائل الشيعة: ج 6 ص 13 ب 2 من أبواب تكبيرة الإحرام ح 3.
(4) وسائل الشيعة: ج 6 ص 13 ب 2 من أبواب تكبيرة الإحرام ح 5.
183

افتتاحها، ومعنى هذا: هو أن الصلاة لا تتحقق بدون ذلك، فالمصلي لو دخل في
القراءة من دون أن يكبر لا يصدق أنه دخل فيها.
ومن هنا يظهر: أن عدم ذكر التكبيرة في حديث " لا تعاد " إنما هو من جهة أن
الدخول في الصلاة لا يصدق بدونها حتى يصدق على الإتيان بها الإعادة، فإنها
عرفا وجود ثان للشئ بعد وجوده أو لا.
أو فقل: إن المستفاد من هذه الروايات: هو أن الصلاة عمل خاص لا يمكن
الدخول فيه بدون الافتتاح بالتكبيرة، ولذا ورد في بعض الروايات " لا صلاة
بغير افتتاح " (1)، وعليه فلو دخل المصلي بدونها نسيانا أو جهلا فلا يكون
مشمولا للحديث.
وأما الركوع والسجود والطهور فقد دلت صحيحة الحلبي أو حسنته
- بابن هاشم - على أن " الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث منها الطهور،
وثلث منها الركوع، وثلث منها السجود... الحديث " (2). فقد حصرت
الصحيحة الصلاة بهذه الثلاثة، ولكن لا بد من رفع اليد عنها من هذه
الجهة بما دل من الروايات على أن التكبيرة أيضا ركن ومقوم لها
كما عرفت.
بقي هنا شئ، وهو: أن التسليمة هل هي ركن للصلاة أيضا أم لا؟ وجهان،
بل قولان:
فذهب بعضهم (3): إلى أنها أيضا ركن، واستدل على ذلك بعدة من الروايات (4)

(1) البحار: ج 88 ص 249 س 17 طبع المكتبة الإسلامية، وبيروت ط الثالثة.
(2) وسائل الشيعة: ج 6 ص 310 ب 9 من أبواب الركوع ح 1.
(3) ذهب إليه السيد المرتضى علم الهدى في الناصريات ضمن الجوامع الفقهية: ص 231
س 35.
(4) منها: مضمرة علي بن أسباط عنهم (عليهم السلام) في حديث طويل... إلى أن قال: " يسمي
عند الطعام، ويفشي السلام، ويصلي والناس نيام، وله كل يوم خمس صلوات متواليات،
ينادي إلى الصلاة كنداء. الجيش بالشعار، ويفتتح بالتكبير ويختم بالتسليم " (1).
وفي الوسائل: الباب 1 من أبواب التسليمة موثقة أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول في رجل صلى الصبح فلما جلس في الركعتين قبل أن يتشهد رعف قال: " فليخرج
فليغسل أنفه، ثم ليرجع فليتم صلاته فإن آخر الصلاة التسليم " (2).
(1) وسائل الشيعة: ج 6 ص 415 ب 1 من أبواب التسليم ح 2.
(2) وسائل الشيعة: ج 6 ص 416 ب 1 من أبواب التسليم ح 4.
184

الدالة على أن اختتام الصلاة بالتسليم، فهي دالة على أن الصلاة لا تتحقق
بدون التسليم.
وذهب جماعة منهم: السيد (قدس سره) في العروة إلى أنها ليست بركن (1)، وهذا هو
الأقوى.
ودليلنا على ذلك: هو أنها لم تذكر في حديث " لا تعاد "، فلو ترك المصلي
التسليمة في الصلاة نسيانا لم تجب عليه الإعادة في الوقت، فضلا عن القضاء في
خارجه.
وكيف كان فإن قلنا بعدم كون التسليمة من الأركان كانت التسليمة أيضا
خارجة عن المسمى.
فالنتيجة من جميع ما ذكرناه لحد الآن أمور:
الأول: أن لفظ " الصلاة " موضوع للأركان فصاعدا، وهذا على طبق الارتكاز
العرفي، كما هو الحال في كثير من المركبات الاعتبارية.
الثاني: أن اللفظ موضوع للأركان بمراتبها على سبيل البدل لا للجامع بينها،
فإن الجامع غير معقول كما عرفت، ولا لمرتبة خاصة منها، وذلك من جهة أن
إطلاق اللفظ على جميع مراتبها على نسق واحد. هذا، وقد تقدم (2) أنه لا بأس

(1) انظر العروة الوثقى للسيد كاظم اليزدي: ج 1 ص 693.
(2) تقدم في ص 182 فراجع.
185

بكون المقوم للمركب الاعتباري أحد أمور على نحو البدل.
الثالث: أن الأركان - على ما نطقت به روايات الباب - عبارة عن التكبيرة
والركوع والسجود والطهارة، والمراد: الأعم من المائية، والترابية. كما أن المراد
من الركوع والسجود: أعم مما هو وظيفة المختار أو المضطر، ولكن مع هذا كله
يعتبر في صدق الصلاة الموالاة، بل الترتيب أيضا، وأما الزائد عليها فعند الوجود
داخل فيها، وإلا فلا.
الرابع: أن دخول شئ واحد في مركب مرة وخروجه عنه مره أخرى مما لا
بأس به في المركبات الاعتبارية، بل هو على طبق الفهم العرفي كما لا يخفى.
الوجه الثاني من وجوه تصوير الجامع ما قيل: من أن لفظ " الصلاة " موضوع
بإزاء معظم الأجزاء، ويدور صدقه مداره وجودا وعدما، وقد نسب شيخنا العلامة
الأنصاري (1) (قدس سره) هذا الوجه إلى المشهور. وكيف ما كان فقد أورد عليه المحقق
صاحب الكفاية (قدس سره) بوجهين:
الأول: ما أورده (قدس سره) ثانيا على الوجه الأول: من أن لازم ذلك هو أن يكون
استعمال لفظ " الصلاة " فيما هو المأمور به بأجزائه وشرائطه مجازا وكان من
باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، لا من باب إطلاق الكلي على فرده
والطبيعي على مصداقه، وهذا مما لا يلتزم به القائل بالأعم.
الثاني: أنه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمى فكان شئ واحد داخلا فيه
تارة، وخارجا عنه أخرى، بل مرددا بين أن يكون هو الخارج أو غيره عند
اجتماع تمام الأجزاء، وهو كما ترى، سيما إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من
الاختلاف الفاحش بحسب الحالات (2).

(1) مطارح الأنظار: ص 8.
(2) كفاية الأصول: ص 41.
186

توضيحه: هو أنه لا ريب في اختلاف الصلاة باختلاف حالات المكلفين: من
السفر والحضر والاختيار والاضطرار ونحو ذلك، كما أنه لا ريب في اختلافها في
نفسها باختلاف أصنافها من حيث الكم والكيف، وعليه فمعظم الأجزاء يختلف
من هاتين الناحيتين، فيلزم دخول شئ واحد فيه مرة، وخروجه عنه مرة أخرى،
بل عند اجتماع تمام الأجزاء لا تعين لما هو الداخل عما ليس هو بداخل، فإن
نسبة كل جزء إلى المركب على حد سواء، بل لا واقع له حينئذ، إذ جعل عدة خاصة
من معظم الأجزاء دون غيرها ترجيح بلا مرجح، فيكون المركب - حينئذ - من
قبيل: الفرد المردد الذي لا واقع له.
ولكن بما حققناه (1) في الوجه الأول: من أن المسمى قد اعتبر لا بشرط
بالإضافة إلى الزائد قد تبين الجواب عن الإيراد الأول، فإن معظم الأجزاء الذي
اخذ مقوما للمركب مأخوذ لا بشرط بالقياس إلى بقية الأجزاء، فهي داخلة في
المسمى عند وجودها وخارجة عنه عند عدمها.
وبهذا يظهر الجواب عن الإيراد الثاني أيضا: فإن عند اجتماع تمام الأجزاء
كان المسمى هو تمام الأجزاء، لا خصوص بعضها ليقال: إنه أمر مردد بين
هذا وذاك.
وإن شئت فقل: إن اللفظ لم يوضع بإزاء مفهوم معظم الأجزاء، وإلا لترادف
اللفظان، وهو باطل قطعا، بل هو موضوع بإزاء واقع ذلك المفهوم ومعنونه، وهو
يختلف باختلاف المركب نفسه، مثلا: معظم أجزاء صلاة الصبح بحسب الكم غير
معظم أجزاء صلاة العشاء، فلو كان المعظم لصلاة الصبح أربعة أجزاء - مثلا -
فلا محالة كان المعظم لصلاة المغرب ستة أجزاء، وهكذا... وعلى هذا فاللفظ
موضوع بإزاء المعظم على سبيل وضعه للأركان، بمعنى: أن المقوم للمركب أحد

(1) تقدم في ص 180 فراجع.
187

أمور على نحو البدل، فقد يكون المقوم أربعة أجزاء، وقد يكون ثلاثة أجزاء،
وقد يكون خمسة أجزاء، وهكذا...
وقد تقدم: أنه لا مانع من الالتزام بذلك في المركبات الاعتبارية، وكم له من
نظير فيها، بل هو على وفق الارتكاز كما عرفت، وأما الزائد على المعظم فعند
وجوده يدخل في المسمى، وعند عدمه يخرج عنه. فالموضوع له - حينئذ - هو
مفهوم وسيع جامع لجميع شتاته ومتفرقاته، لا خصوص المعظم بشرط لا، ولا
مرتبة خاصة منه، ومن هنا يصدق على القليل والكثير والزائد والناقص على نسق
واحد، نظير: لفظ الكلام فإنه موضوع في لغة العرب لما تركب من حرفين فصاعدا،
فالحرفان مقومان لصدق عنوان الكلام في لغة العرب، وأما الزائد عليهما من
حرف أو حرفين أو أزيد فعند وجوده داخل في المسمى، وعند عدمه خارج عنه.
ومن جميع ما ذكرناه يستبين: أنه لا بأس بهذا الوجه أيضا مع الإغماض عن
الوجه الأول، بأن يكون اللفظ موضوعا للمعظم لا بشرط، هذا مع اعتبار الموالاة
والترتيب أيضا في المسمى، إذ بدونهما لا يصدق على المعظم عنوان الصلاة.
الوجه الثالث: ما قيل: من أن لفظ " الصلاة " موضوع للمعنى الذي يدور
مداره التسمية عرفا.
وفيه: أن هذا الوجه بظاهره لا يرجع إلى معنى محصل، وذلك لأن الصدق
العرفي تابع لوجود المسمى في الواقع ومقام الثبوت، فلا يعقل أن يكون وجود
المسمى في الواقع ونفس الأمر تابعا للصدق العرفي.
ولكن قد ظهر مما ذكرناه: أن مرجع هذا الوجه إلى الوجه الثاني، فإن المراد
منه: هو أن الكاشف عن وجود المسمى ليس إلا الفهم العرفي، فإنه طريق وحيد
في مقام الإثبات إلى سعة المعنى، أو ضيقه في مقام الثبوت، وحيث إن لفظ
" الصلاة " يصدق عند العرف على معظم أجزائها ولا يصدق على غير المعظم
188

يكشف عن أنه موضوع بإزاء المعظم على الكيفية التي تقدمت.
مثلا: لفظ " الماء " في لغة العرب موضوع لمعنى في الواقع، ولكن الكاشف
في مقام الإثبات عن مقدار سعته أو ضيقه لا يكون إلا الصدق العرفي، فلو رأينا
إطلاق العرف لفظ " الماء " على ماء الكبريت نستكشف عن أنه موضوع لمعنى
وسيع في الواقع.
وعلى الجملة: فالمتبع في إثبات سعة المعنى أو ضيقه إنما هو فهم العرف،
والصدق عندهم دليل على سعة المعنى بالقياس إلى ذلك المورد، كما أن عدم
الصدق دليل على عدم السعة.
تتلخص نتيجة جميع ما ذكرناه لحد الآن في خطوط:
الخط الأول: فساد توهم الاشتراك في وضع ألفاظ العبادات كما سبق.
الخط الثاني: فساد توهم كون الوضع فيها عاما والموضوع له خاصا.
الخط الثالث: عدم إمكان تصوير جامع ذاتي مقولي على القول بالصحيح.
الخط الرابع: إمكان تصوير جامع عنواني على هذا القول، إلا أنه ليس
بموضوع له كما عرفت.
الخط الخامس: جواز تصوير جامع ذاتي بين الأعم من الصحيحة والفاسدة.
فالنتيجة على ضوء هذه الخطوط الخمس قد أصبحت: أن ألفاظ العبادات
- كالصلاة ونحوها - موضوعة للجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة، لا
لخصوص الجامع بين الأفراد الصحيحة.
ومن هنا لا مجال للنزاع في مقام الإثبات عن أن الألفاظ موضوعة للصحيح
أو للأعم، فإن النزاع في هذا المقام متفرع على إمكان تصوير الجامع على كلا
القولين معا، فإذا لم يمكن تصويره إلا على أحدهما فلا مجال له أصلا، إذا لا بد من
الالتزام بالقول بالأعم ولا مناص عنه، هذا من ناحية.
189

ومن ناحية أخرى: أن المرتكز في أذهان المتشرعة: هو أن إطلاق لفظ
" الصلاة " على جميع أفرادها الصحيحة والفاسدة على نسق واحد من دون لحاظ
عناية في شئ منها، ضرورة أنهم يستعملون هذا اللفظ في الجميع غافلين عن
لحاظ قرينة المجاز والعناية في موارد إطلاقه على الفرد الفاسد، فلو كان اللفظ
موضوعا لخصوص الصحيح فلا محالة كان إطلاقه على الفاسد محتاجا إلى لحاظ
عناية وقرينة، مع أن الأمر على خلاف ذلك، وأن الاستعمال في الجميع على نسق
واحد فلا فرق بين قولنا: فلان صلى صلاة صحيحة، أو تلك الصلاة صحيحة، وبين
قولنا: فلان صلى صلاة فاسدة، أو هذه الصلاة فاسدة، وهكذا...
وحيث إن استعمالات المتشرعة تابعة للاستعمالات الشرعية فتكشف تلك
عن عموم المعنى الموضوع له عند الشارع المقدس أيضا.
ثمرة المسألة
ذكروا لها ثمرات:
الأولى: ما اشتهر فيما بينهم: من أن الأعمي يتمسك بالبراءة في موارد الشك
في الأجزاء والشرائط، والصحيحي يتمسك بقاعدة الاشتغال والاحتياط في تلك
الموارد.
ولكن التحقيق: أن الأمر ليس كذلك، ولا فرق في التمسك بالبراءة أو
الاشتغال بين القولين أصلا.
والوجه في ذلك: هو أنا إذا قلنا بالوضع للأعم فالتمسك بالبراءة مبتن على
القول بانحلال العلم الإجمالي في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، فإنه إن قلنا
بالانحلال وأن العلم الإجمالي ينحل إلى علم تفصيلي وشك بدوي فلا مانع من
الرجوع إلى البراءة عن وجوب الأكثر والتقييد الزائد، فإن مسألتنا هذه من إحدى
190

صغريات كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، وذلك لأن تعلق التكليف في
المقام بالطبيعي الجامع بين المطلق والمقيد معلوم لنا تفصيلا، وهو الماهية المهملة
العارية عن جميع الخصوصيات. وإنما هو شكنا في تعلقه به على نحو الإطلاق،
بمعنى: عدم تقييده بشئ لا جزءا ولا شرطا، أو على نحو التقييد به بأحد النحوين
المزبورين، فحينئذ إن قلنا بانحلال العلم الإجمالي في تلك المسألة والرجوع إلى
البراءة عن التكليف الزائد عن المقدار المعلوم - كما هو كذلك - فنقول هنا أيضا
بالانحلال والرجوع إلى البراءة عن التقييد الزائد. وأما لو قلنا بعدم انحلال العلم
الإجمالي في تلك المسألة فلا بد من الاحتياط والرجوع إلى قاعدة الاشتغال،
وعلى ذلك فلا ملازمة بين قول الأعمي والرجوع إلى البراءة.
وأما على الصحيحي: فإن قلنا بأن متعلق التكليف عنوان بسيط وخارج عن
الأجزاء والشرائط وإنما هي سبب لوجوده فلا محالة يكون الشك في جزئية شئ
أو شرطيته شكا في المحصل فلا بد من القول بالاشتغال، إلا أن هذا مجرد فرض
غير واقع في الخارج، بل إنه خلاف مفروض البحث، إذ المفروض: أن متعلق
التكليف هو الجامع بين الأفراد الصحيحة، ونسبته إلى الأجزاء والشرائط نسبة
الطبيعي إلى أفراده، أو نسبة العنوان إلى معنونه. وعلى كلا التقديرين فلا يكون
المأمور به مغايرا في الوجود مع الأجزاء والشرائط ومسببا عنها.
وعلى الجملة: أن كلا من السبب والمسبب موجود في الخارج بوجود مستقل
على حياله واستقلاله: كالقتل المسبب عن مقدمات خارجية، أو الطهارة الخبثية
المسببة عن الغسل، بل الحدثية المسببة عن الوضوء والغسل والتيمم على قول،
فإذا كان المأمور به أمرا بسيطا مسببا عن شئ آخر ومترتبا عليه وجودا فلا
محالة يرجع الشك في جزئية شئ أو شرطيته، بالإضافة إلى سببه إلى الشك في
المحصل، ولا إشكال في الرجوع معه إلى قاعدة الاشتغال في مورده.
191

ولكن المقام لا يكون من ذلك الباب، فإن الجامع الذي فرض وجوده بين
الأفراد الصحيحة لا يخلو أمره: من أن يكون من الماهيات المتأصلة المركبة، أو
البسيطة، أو من الماهيات الاعتبارية والعناوين الانتزاعية، وعلى كل تقدير لا بد
من أن يكون منطبقا على الأجزاء والشرائط الخارجية انطباق الكلي على أفراده،
ومعه لا يرجع الشك إلى الشك في المحصل ليكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال.
أما على الأول: فلأن المفروض أن الجامع هو عين الأجزاء والشرائط،
فالاجزاء مع شرائطها بأنفسها متعلقة للأمر، ووحدتها ليست وحدة حقيقية، بل
وحدة اعتبارية، بداهة أنه لا تحصل من ضم ماهية الركوع إلى ماهية السجود
ماهية ثالثة غير ماهيتهما. وعليه فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عند الشك في
اعتبار شئ زائد على المقدار المعلوم بناء على صحة الانحلال في مسألة
دوران الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين، لأن تعلق التكليف - حينئذ -
بالمقدار المتيقن من الأجزاء وقيودها معلوم، والشك في غيره شك في التكليف
فالمرجع فيه البراءة، وبناء على عدم الانحلال في تلك المسألة فالمرجع فيه
قاعدة الاشتغال.
وأما على الثاني: فكذلك، لأن الطبيعي عين أفراده خارجا ومتحد معها عينا،
فالأمر المتعلق به متعلق بالأجزاء مع شرائطها، سواء قلنا بأن متعلق الأوامر
الطبائع أم قلنا بأنه الأفراد. أما على الثاني واضح. وأما على الأول فلاتحاد
الطبيعي معها، غاية الأمر: أن الخصوصيات الفردية غير دخيلة في ذلك. فعلى كلا
القولين يرجع الشك في اعتبار شئ جزءا أو شرطا إلى الشك في إطلاق المأمور
به وتقييده، لا إلى أمر خارج عن دائرة المأمور به، فبناء على الانحلال في تلك
المسألة كان المرجع فيه البراءة عن التقييد المشكوك فيه.
وأما على الثالث: فالأمر أيضا كذلك، لأن الأمر الانتزاعي لا وجود له خارجا
ليتعلق به الأمر، وإنما الموجود حقيقة هو منشأ انتزاعه، فالأمر في الحقيقة متعلق
192

بمنشأ الانتزاع، وهو في المقام نفس الأجزاء والشرائط، وأخذ ذلك الأمر
الانتزاعي في لسان الدليل متعلقا للأمر إنما هو لأجل الإشارة إلى ما هو متعلق
الحكم في القضية.
فالنتيجة: أن الشك في اعتبار جزء أو قيد على جميع التقادير يرجع إلى الشك
في تقييد نفس المأمور به بقيد زائد على المقدار المتيقن، فبناء على ما هو الصحيح
من انحلال العلم الإجمالي عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر نرجع هنا إلى
البراءة.
وبتعبير آخر: أنا قد بينا في مبحث النهي عن العبادات، وأشرنا فيما تقدم (1)
أيضا: أن الصحة الفعلية التي هي منتزعة عن انطباق المأمور به على المأتي به
خارجا لا يعقل أخذها في متعلق الأمر، لتأخرها عنه، فالمتعلق على كلا القولين
نفس الأجزاء مع قيودها الخاصة، غاية الأمر: أنه على القول بالوضع للصحيح
كان المسمى تمام الأجزاء مع تمام القيود، وعلى القول بالوضع للأعم كان هو
الأعم. وعلى هذا كان الشك في اعتبار أمر زائد على المقدار الذي نعلم بتعلق
الأمر به من الأجزاء والشرائط موردا للبراءة، بلا فرق في ذلك بين القول بالصحيح
والقول بالأعم.
فتلخص: أن أخذ الصحة بمعنى التمامية في المسمى لا يمنع عن جريان
البراءة على القول بالانحلال كما هو القوي.
فقد أصبحت النتيجة من جميع ما ذكرناه: أن القول بوضع الألفاظ للأعم لا
يلزمه جريان البراءة دائما، كما أن القول بوضعها للصحيح لا يلزمه الالتزام
بالاشتغال كذلك، بل هما في ذلك سواء، فإن جريان البراءة وعدمه مبنيان على
الانحلال وعدمه في تلك المسألة، لا على الوضع للصحيح أو الأعم.

(1) راجع الصفحة 155 - 156 من هذا الجزء.
193

وعلى ضوء هذا يستبين فساد ما أفاده شيخنا الأستاذ (1) (قدس سره) من أنه على
الصحيحي لا مناص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال، كما أنه على الأعمي لا
مناص من الرجوع إلى البراءة، بتقريب أن تصوير الجامع على الصحيحي لا يمكن
إلا بتقييد المسمى بعنوان بسيط خاص: إما من ناحية علل الأحكام، أو من ناحية
معلولاتها، وأن هذا العنوان خارج عن المأتي به ومأخوذ في المأمور به، وعليه
فالشك في اعتبار شئ جزءا أو شرطا - لا محالة - يوجب الشك في حصول
العنوان المزبور، فيرجع الشك - حينئذ - إلى الشك في المحصل، والمرجع فيه
قاعدة الاشتغال دون البراءة.
والوجه في فساده: هو ما سبق (2) من أن الجامع على القول بالصحيح على كل
تقدير لا بد من أن ينطبق على الأجزاء والشرائط انطباق الكلي على أفراده، وعليه
كان الشك في اعتبار جزء أو قيد في المأمور به من دوران المأمور به نفسه بين
الأقل والأكثر، فعلى القول بالانحلال كان المرجع فيه البراءة عن وجوب الأكثر،
فنتيجة ذلك: هي أن المأمور به بتمام أجزائه وشرائطه هو الأقل دون الأكثر، وقد
عرفت (3) أن القول بالاشتغال مبني على أن يكون المأمور به عنوانا بسيطا مسببا
عن الأجزاء والشرائط الخارجيتين، ومتحصلا منهما، وهو خلاف المفروض.
وأما ما ذكره (قدس سره): من أنه على الصحيحي لا بد من تقييد المسمى بعنوان
بسيط: إما من ناحية العلل، أو من ناحية المعلولات فيرده: أنه خلط بين الصحة
الفعلية التي تنتزع عن انطباق المأمور به على المأتي به في الخارج، والصحة
بمعنى التمامية، فالحاجة إلى التقييد إنما تكون فيما إذا كان النزاع بين الصحيحي

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 79.
(2) تقدم في ص 173 فراجع.
(3) تقدم في ص 191 فراجع.
194

والأعمي في أخذ الصحة الفعلية في المسمى وعدم أخذها فيه، فإنه على
الصحيحي لا بد من تقييده بعنوان خاص كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر، أو
نحوه مما هو مؤثر في حصول الغرض.
ولكن، قد تقدم (1): أنه لا يعقل أخذها في المأمور به، فضلا عن أخذها في
المسمى، فلا تكون الصحة بهذا المعنى موردا للنزاع، فإن النزاع - كما عرفت (2)
مرارا - إنما هو في الصحة بمعنى التمامية، ومن المعلوم أنها ليست شيئا آخر وراء
نفس الأجزاء والشرائط بالأسر. ولا هي موضوع للآثار، ولا مؤثرة في حصول
الغرض، وعليه فلا حاجة إلى تقييد المسمى بعنوان بسيط خارج عنهما.
ومن هنا يظهر: أن هذه المسألة ليست من المسائل الأصولية، والوجه في
ذلك: هو ما حققناه (3) في أول الكتاب في مقام الفرق بين المسائل الأصولية
ومسائل بقية العلوم من أن كل مسألة أصولية ترتكز على ركيزتين أساسيتين:
الركيزة الأولى: أن تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي الإلهي،
وبهذه الركيزة امتازت المسائل الأصولية عن القواعد الفقهية بأجمعها على بيان
تقدم.
الركيزة الثانية: أن يكون وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها، أي بلا ضم
كبرى أو صغرى أصولية أخرى إليها، وبهذه الركيزة امتازت عن مسائل سائر
العلوم الدخيلة في الاستنباط: من النحو، والصرف، والرجال، والمنطق، واللغة،
ونحو ذلك، فإن مسائل هذه العلوم وإن كانت دخيلة في الاستنباط إلا أنها ليست
بحيث لو انضم إليها صغرياتها أنتجت نتيجة فقهية.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر: أن هذه المسألة ليست من المسائل الأصولية،

(1) تقدم في ص 155 فراجع.
(2) تقدم في ص 153 فراجع.
(3) تقدم في ص 15 فراجع.
195

بل هي من المسائل اللغوية فلا تقع في طريق الاستنباط بلا ضم كبرى أصولية
إليها، وهي كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.
ويترتب على ذلك: أن هذه الثمرة ليست ثمرة لهذه المسألة، بل هي ثمرة
لمسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، وهي من مبادئ تلك المسألة، فالبحث عنها
محقق لموضوع البحث عن تلك المسألة، وكذا الثمرة الآتية فإنها ثمرة لمسألة
المطلق والمقيد دون هذه المسألة.
نعم، هي محققة لموضوع التمسك بالإطلاق، فالبحث عن جواز التمسك
بالإطلاق وعدم جوازه وإن كان بحثا عن مسألة أصولية إلا أن البحث عن ثبوت
الإطلاق وعدمه بحث عن المبادئ.
الثمرة الثانية: ما ذكره جماعة منهم: المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): من أنه
يجوز التمسك بالإطلاق أو العموم على القول بالأعم عند الشك في اعتبار شئ
جزءا أو شرطا، ولا يجوز التمسك به على القول بالصحيح، بل لا بد فيه من
الرجوع إلى الأصول العملية (1).
بيان ذلك: أن التمسك بالإطلاق يتوقف على إثبات مقدمات:
الأولى: أن يكون الحكم في القضية واردا على المقسم بين قسمين أو أقسام
بأن يكون له قابلية الانطباق على نوعين أو أنواع.
الثانية: أن يحرز كون المتكلم في مقام البيان ولو بأصل عقلائي، ولم يكن في
مقام الإهمال أو الإجمال.
الثالثة: أن يحرز أنه لم ينصب قرينة على التعيين.
فإذا تمت هذه المقدمات استكشف بها الإطلاق في مقام الثبوت، وأن مراده
الاستعمالي مطابق لمراده الجدي، وليس لأية خصوصية مدخلية فيه، فإذا شك

(1) كفاية الأصول: ص 43 - 44.
196

في دخل خصوصية من الخصوصيات فيه يدفع ذلك بالإطلاق في مقام الإثبات.
وحيث إن هذه المقدمات تامة على القول بالوضع للأعم فإن الحكم حينئذ
قد تعلق بالطبيعي الجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة، فإذا أحرز أن المتكلم
في مقام البيان ولم ينصب قرينة على التقييد فلا مانع من التمسك بالإطلاق لدفع
ما شك في اعتباره جزءا أو قيدا، لأنه شك في اعتبار أمر زائد على صدق اللفظ،
وفي مثله لا مانع عن التمسك بالإطلاق لإثبات عدم اعتباره.
وعلى الجملة: فعلى القول بالأعم إذا تمت المقدمتان الأخيرتان يجوز
التمسك بالإطلاق لدفع كل ما احتمل دخله في المأمور به جزءا أو شرطا، لتمامية
المقدمة الأولى على الفرض، وعليه فما ثبت اعتباره شرعا بأحد النحوين
المزبورين فهو، والزائد عليه حيث إنه مشكوك فيه ولم يعلم اعتباره فالمرجع فيه
الإطلاق به يثبت عدم اعتباره.
وهذا بخلاف القول بالوضع للصحيح، فإن المقدمة الأولى على هذا القول
مفقودة، إذ الحكم - حينئذ - لم يرد إلا على الواجد لتمام الأجزاء والشرائط، فلو
شك في جزئية شئ أو شرطيته فلا محالة يرجع الشك إلى الشك في صدق اللفظ
على الفاقد للمشكوك فيه، لاحتمال دخله في المسمى، ومعه لا يمكن التمسك
بالإطلاق.
فقد تحصل من ذلك: جواز التمسك بالإطلاق على القول بالأعم في موارد
الشك في الأجزاء والشرائط، وعدم جوازه على القول بالصحيح.
نعم، على القول بالأعم لو شك في كون شئ ركنا للصلاة أو لم يكن فلا يجوز
التمسك بالإطلاق، لأن الشك فيه يرجع - حينئذ - إلى الشك في صدق اللفظ،
ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق كما مر بيانه.
وقد يورد على هذه الثمرة بوجوه:
الأول: أنه لا فرق بين القولين في جواز التمسك بالإطلاق وعدم جوازه،
والوجه في ذلك: هو أن مناط الجواز كون المتكلم في مقام البيان، وأنه لم ينصب
197

قرينة على التقييد، وعليه فكما أن الأعمي يتمسك بالإطلاق فيما إذا احتمل دخل
شئ في المأمور به زائدا على القدر المتيقن فكذلك الصحيحي يتمسك به إذا شك
في اعتبار أمر زائد على المقدار المعلوم.
ومن هنا يتمسك الفقهاء - رضوان الله عليهم - بإطلاق صحيحة حماد (1) التي
وردت في مقام بيان الأجزاء والشرائط وبين الإمام (عليه السلام) فيها جميع أجزاء الصلاة
من التكبيرة والقراءة والركوع والسجود ونحوها، وحيث لم يبين فيها الاستعاذة
- مثلا - فيتمسك بإطلاقها على عدم وجوبها، فلا فرق في ذلك بين القول بالوضع
للصحيح والقول بالوضع للأعم.
فتلخص: أن العبرة بكون المتكلم في مقام البيان وعدم إتيانه بقرينة في كلامه،
لا بكون الوضع للأعم أو الصحيح كما لا يخفى.
والجواب عنه قد ظهر مما تقدم، وملخصه: أن التمسك بالإطلاق موقوف على
إحراز المقدمات الثلاث. أولها: إحراز تعلق الحكم بالجامع بحسب المراد
الاستعمالي وقابلية انقسامه إلى قسمين أو أقسام، فهذه المقدمة لا بد من إحرازها،
وإلا فلا يعقل الإطلاق في مقام الثبوت كي يستكشف ذلك بالإطلاق في مقام
الإثبات. وحيث إنه على القول بالصحيح قد تعلق الحكم بحصة خاصة - وهي
خصوص الحصة الصحيحة - فالمقدمة الأولى مفقودة، فالإطلاق اللفظي على
القول بالصحيح غير معقول.
وأما ما استشهد على ذلك بتمسك الفقهاء - رضوان الله عليهم - بإطلاق
صحيحة حماد المتقدمة فهو خلط بين الإطلاق الحالي والإطلاق اللفظي، فإن
إطلاق الصحيحة إطلاق مقامي، وهو أجنبي عن الإطلاق اللفظي المتقوم بإحراز
صدق المفهوم على المورد المشكوك فيه، والذي لا يمكن التمسك به على
الصحيحي هو الإطلاق اللفظي، وأما الإطلاق المقامي فالتمسك به مشترك فيه بين

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ص 459 - 460 ب 1 من أبواب أفعال الصلاة ح 1.
198

القول بالصحيح والقول بالأعم.
والسر في ذلك: أن المعتبر في الإطلاق اللفظي أن يرد الحكم في القضية على
الطبيعي الجامع القابل للانطباق على حصص عديدة، ولا أقل من حصتين. وبعد
ذلك تصل النوبة إلى إحراز بقية المقدمات من كون المتكلم في مقام البيان وعدم
إتيانه بالقرينة على إرادة الخلاف، ولأجل ذلك لا يسع القائل بوضع الألفاظ
للصحيح أن يتمسك بالإطلاق، وذلك للشك في صدق المفهوم على الفاقد لما
يحتمل لدخله في المسمى.
وأما الإطلاق الأحوالي فلا يعتبر فيه ذلك، بل المعتبر فيه سكوت المتكلم عن
البيان حينما يورد الحكم على نفس الأجزاء والشرائط أو الافراد.
مثلا: إذا كان المولى في مقام بيان ما يحتاجه اليوم من اللحم والخبز والأرز
واللبن وغيرها من اللوازم فأمر عبده بشرائها ولم يذكر الدهن - مثلا - فبما أنه
كان في مقام البيان ولم يذكر ذلك فيستكشف منه عدم إرادته له، وإلا لبينه.
ومن هنا لا نحتاج في هذا النحو من الإطلاق إلى وجود لفظ مطلق في
القضية، بل هو مناقض له كما عرفت آنفا. والإطلاق في الصحيحة من هذا القبيل،
فإنه - سلام الله عليه - كان في مقام بيان الأجزاء والشرائط، فكل ما لم يبينه
يستكشف عدم دخله في المأمور به.
فالنتيجة: أن أحد الإطلاقين أجنبي عن الإطلاق الآخر رأسا، وجواز
التمسك بأحدهما لا يستلزم جواز التمسك بالآخر. كما أنه لا فرق في جواز
التمسك بالإطلاق الأحوالي بين القول بالوضع للصحيح والقول بالوضع للأعم.
وأما الإطلاق اللفظي فلا يجوز التمسك به على القول بالصحيح دون الأعم. فما
أورده القائل من الإشكال لا يرجع إلى معنى محصل.
الثاني: أن الأعمي كالصحيحي في عدم إمكان التمسك بالإطلاق عند الشك
في اعتبار جزء أو قيد، وذلك لأن أدلة العبادات جميعا من الكتاب والسنة مجملة،
199

ولم يرد شئ منها في مقام البيان، فإذا كان المتكلم فيها في مقام الإهمال أو
الإجمال فلا يجوز التمسك بإطلاقها، غاية الأمر: أن عدم جواز التمسك على هذا
القول من جهة واحدة، وهي: عدم ورود مطلقات العبادات في مقام البيان، بل إنها
جميعا في مقام التشريع والجعل بلا نظر لها إلى خصوصيتها من الكمية، والكيفية.
وعلى القول بالصحيح من ناحيتين، وهما: عدم ورود المطلقات في مقام البيان،
وعدم تعلق الحكم بالجامع والمقسم. فالنتيجة: عدم صحة التمسك بالإطلاق على
كلا القولين.
والجواب عنه مضافا إلى أنه رجم بالغيب: أن الأمر ليس كما ذكره القائل،
فإن من الآيات الكريمة ما ورد في الكتاب وهو في مقام البيان كقوله تعالى:
* (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم...) * (1)، فالمفهوم من كلمة
" الصيام " عرفا كف النفس عن الأكل والشرب، وهو معناه اللغوي، فالصيام بهذا
المعنى كان ثابتا في سائر الشرائع والأديان بقرينة قوله تعالى: * (وكلوا واشربوا
حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) * (2) حيث لم يعتبر فيه
سوى الكف عن الأكل والشرب عند تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
نعم، إن ذلك يختلف كيفية باختلاف الشرائع، ولكن كل ذلك الاختلاف يرجع
إلى الخارج عن ماهية الصيام، بل قد يعتبر فيه - كما في شرع الإسلام - الكف عن
عدة أمور أخر أيضا: كالجماع، والارتماس في الماء، والكذب على الله تعالى
وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله) وعلى الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وإن لم يكن الكف عنها معتبرا
في بقية الشرائع والأديان.
وعلى ذلك فلو شككنا في اعتبار شئ في هذه الماهية قيدا وعدم اعتباره
كذلك فلا مانع من أن نرجع إلى إطلاق قوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام... إلى
آخره) *، وبه يثبت عدم اعتباره. فحال الآية المباركة حال قوله تعالى: * (أحل الله

(1) و (2) البقرة: 183 و 187.
200

البيع) * (1) و * (تجارة عن تراض) * (2) وما شاكلهما. فكما أنه لا مانع من التمسك بإطلاقها في باب المعاملات عند الشك في اعتبار شئ فيها فكذلك لا مانع من
التمسك بإطلاق هذه الآية المباركة في باب الصوم عند الشك في دخل شئ في
صحته شرعا.
هذا، مضافا إلى ما في السنة من الروايات المطلقة الواردة في مقام البيان،
منها: قوله (عليه السلام) في التشهد: " يتشهد " (3)، فإن مقتضى إطلاقه عدم اعتبار أمر زائد
على نفس الشهادتين، فلو شك في اعتبار التوالي بينهما فيدفع بالإطلاق، وكذا
غيره من نصوص الباب، فلاحظ.
هذا كله على تقدير تسليم أن يكون الضابط في كون المسألة أصولية ترتب
ثمرة فعلية عليها، إلا أن الأمر ليس كذلك فإن الضابط للمسألة الأصولية إمكان
وقوعها في طريق الاستنباط، لا فعليته.
وملخص ما ذكرناه في الجواب عن هذا الإيراد أمران:
الأول: أن المطلق الوارد في مقام البيان من الكتاب والسنة موجود، وليس
الأمر كما ذكره القائل.
الثاني: لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن المتكلم لم يكن في مقام البيان في شئ
من مطلقات العبادات إلا أن إمكان ترتب هذه الثمرة يكفينا لكون المسألة أصولية،
لما عرفت: من أن الميزان فيها إمكان وقوعها في طريق استنباط حكم فرعي كلي،
لا فعلية ذلك كما تقدم.
نعم، الذي يرد هنا ما ذكرناه (4) سابقا: من أن هذه الثمرة ليست ثمرة لهذه

(1) البقرة: 275.
(2) النساء: 29.
(3) وسائل الشيعة: ج 6 ص 404 ب 8 من أبواب التشهد ح 1.
(4) تقدم في ص 197 فراجع.
201

المسألة، ولا تترتب عليها بلا واسطة، بل هي من ثمرات كبرى مسألة المطلق
والمقيد، وهي من صغريات تلك الكبرى ومن مبادئها، من جهة أن البحث فيها في
الحقيقة عن ثبوت الإطلاق وعدم ثبوته والبحث عن جواز التمسك به وعدم
جوازه بحث عن المسألة الأصولية دونه.
الثالث: أن الإطلاق والتقييد في العبادات إنما يلاحظ بالإضافة إلى المأمور
به ومتعلق الأمر، لا بالقياس إلى المسمى بما هو، ضرورة أن الإطلاق أو التقييد في
كلام الشارع أو غيره إنما يكون بالقياس إلى مراده، وأنه مطلق أو مقيد، لا إلى ما
هو أجنبي عنه، وعلى ذلك فلا فرق بين القولين، فكما أن الصحيحي لا يمكنه
التمسك بالإطلاق فكذلك الأعمي.
أما الصحيحي: فلما عرفت (1) من عدم إحرازه الصدق على الفاقد، لما شك في
اعتباره جزءا أو شرطا، لاحتمال دخله في المسمى.
وأما الأعمي: فلأجل أنه يعلم بثبوت تقييد المسمى بالصحة، وأنها مأخوذة
في المأمور به ومتعلق الأمر، فإن المأمور به حصة خاصة من المسمى وهي الحصة
الصحيحة، ضرورة أن الشارع لا يأمر بالحصة الفاسدة، ولا بما هو الجامع بينه
وبين الصحيح، وعلى ذلك فلا يمكن التمسك بالإطلاق عند الشك في جزئية شئ
أو شرطيته، للشك - حينئذ - في صدق المأمور به على الفاقد للشئ المشكوك فيه.
وعلى الجملة: فلا فرق بين أن تكون الصحة مأخوذة في المسمى، وأن تكون
مأخوذة في المأمور به، فعلى كلا التقديرين لا يمكن التمسك بالإطلاق، غاية
الأمر: أن الشك في الصدق على الصحيحي من جهة أخذ الصحة في المسمى،
وعلى الأعمي من جهة العلم بتقييد المأمور به بالصحة لا محالة.
فالنتيجة: هي عدم جواز الأخذ بالإطلاق على كلا القولين، إذا لا ثمرة في البين.

(1) تقدم في ص 198 فراجع.
202

والجواب عنه يظهر مما بيناه (1) سابقا، فإن الصحة الفعلية التي هي منتزعة
عن انطباق المأمور به على المأتي به خارجا في موارد الامتثال والإجزاء غير
مأخوذة في المأمور به قطعا، بل لا يعقل ذلك كما سبق، وإنما النزاع في
أخذ الصحة بمعنى التمامية، أعني به: تمامية الشئ من حيث الأجزاء
والقيود في المسمى. فالقائل بالصحيح يدعي وضع لفظ " الصلاة " - مثلا -
للصلاة التامة من حيث الأجزاء والشرائط. والقائل بالأعم يدعي وضع اللفظ
للأعم.
وعلى ذلك فلو شككنا في اعتبار شئ جزءا أو قيدا في المأمور به كالسورة
مثلا: فعلى القول بالوضع للصحيح كان صدق اللفظ بما له من المعنى على الفاقد لها
غير معلوم، لاحتمال دخلها فيه، وإمكان أن يكون المجموع هو المسمى بلفظ
" الصلاة "، ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق.
وعلى القول بالوضع للأعم كان صدق اللفظ على الفاقد معلوما، وإنما الشك
في اعتبار أمر زائد عليه، وفي مثله لا مانع من التمسك بالإطلاق لنفي اعتبار
الشئ المشكوك فيه، وبه نثبت أن المأمور به هو طبيعي الصلاة الجامع بين الفاقدة
والواجدة للسورة، ومن انطباق ذلك الطبيعي على المأتي به بلا سورة ننتزع
الصحة، فالصحة بمعنى التمامية تثبت بنفس التمسك بالإطلاق بضميمة ما علم
من الأجزاء والشرائط تفصيلا، والصحة المنتزعة غير مأخوذة في المأمور به فضلا
عن المسمى.
وعلى الجملة: فالمأمور به على كلا القولين وإن كان هو الصلاة الواجدة
لجميع الأجزاء والشرائط فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا، إلا أن الاختلاف
بينهما في نقطة أخرى، وهي: أن صدق اللفظ على الفاقد لما يشك في اعتباره
معلوم على قول الأعمي، وإنما الشك في اعتبار أمر زائد عليه. وأما على

(1) تقدم في ص 155 - 156 من هذا المبحث فراجع.
203

الصحيحي فالصدق غير معلوم. وعلى أساس تلك النقطة يجوز التمسك بالإطلاق
على القول بالأعم دون القول بالصحيح.
فقد أصبحت النتيجة: أن هذه الشبهة مبتنية على أخذ الصحة الفعلية في
المأمور به ولكن قد تقدم فساده.
ومن هنا قال شيخنا الأستاذ (1) (قدس سره): إن هذه الشبهة ليست بذات أهمية كما
اهتم بها شيخنا العلامة الأنصاري (2) (قدس سره) وأطال الكلام فيها، واعتنى بالجواب عنها
فوق ما تستحق، والصحيح ما أفاده (قدس سره).
وربما قيل (3): بأن ثمرة النزاع تظهر في النذر، وذلك كما لو نذر أن يعطي
دينارا للمصلي ركعتين، فبناء على القول بالأعم يجزئ الإعطاء للمصلي ركعتين
ولو كانت صلاته فاسدة، وعلى القول بالصحيح لا يجزئ ذلك، بل يجب على
الإعطاء للمصلي صلاة صحيحة، ولا تبرأ ذمته إلا بذلك.
لا يخفى أن أمثال هذه الثمرة غير قابلة للذكر والعنوان في المباحث
الأصولية، لأنها ليست ثمرة للمسألة الأصولية، فإن ثمرتها استنباط الحكم الكلي
الفرعي. وأما تطبيقه على موارده ومصاديقه فليس ثمرة للبحث الأصولي، بل لا
تصلح هذه الثمرة ثمرة لأية مسألة علمية ولو كانت المسألة من المبادئ.
هذا، مضافا إلى أن وجوب الوفاء بالنذر تابع لقصد الناذر في الكيفية،
والكمية، وأجنبي عن الوضع للصحيح أو الأعم، فلو قصد الناذر من كلمة
" المصلي " من أتى بالصلاة الصحيحة لم تبرأ ذمته بالإعطاء لمن يصلي فاسدة ولو
قلنا بوضع الألفاظ للأعم، ولو قصد منها الآتي بالصلاة ولو كانت فاسدة برئت
ذمته بذلك وإن قلنا بوضع الألفاظ للصحيح. على أن الصحة المتنازع دخلها في

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 47.
(2) فرائد الأصول: ج 2 ص 474.
(3) القائل هو المحقق القمي في قوانين الأصول: ص 43، فراجع.
204

المسمى غير الصحة المعتبرة في مرحلة الامتثال، فيمكن أن يكون المأتي به
صحيحا من جهة وجدانه تمام الأجزاء والشرائط، وفاسدا من الجهات الأخر،
وعليه تحصل براءة الذمة بالإعطاء لمن يصلي فاسدة أيضا.
ثم إنا قد ذكرنا في الدورة السابقة ثمرة لهذه المسألة غير ما ذكره القوم،
وهي: أن الحكم الوارد على عنوان الصلاة ومفهومها يختلف باختلاف القولين،
مثلا: قد ورد النهي عن صلاة الرجل وبحذائه امرأة تصلي (1)، فعلى القول بالصحيح
لو علمنا بفساد صلاة المرأة لا تكون صلاة الرجل منهيا عنها، لعدم صدق الصلاة
على ما أتت المرأة به، فلا يصدق - حينئذ - أنه صلى وبحذائه امرأة تصلي. وأما
على القول بالأعم كانت منهيا عنها. هذا.
ولكن قد تبين مما تقدم: أن هذه الثمرة أيضا ليست بثمرة لبحث أصولي، بل لا
تترتب على النزاع بين القولين، فإنك عرفت: أن القول بالصحيح لا يلازم الصحة
في مقام الامتثال، فإن الصحة هناك غير الصحة المأخوذة في المسمى على هذا
القول كما مر (2).
فقد استبان من مجموع ما ذكرناه تحت عنوان الثمرة لحد الآن أمور:
الأول: أن البحث عن هذه المسألة ليس بحثا أصوليا، بل بحث عن المبادئ،
وذكرها في هذا العلم لأجل أن لها فائدة جلية ومناسبة شديدة مع بعض المسائل
الأصولية.
الثاني: أن ما ذكروه من الثمرات لها عمدتها الثمرة الأولى، والثانية ليس بثمرة
للبحث عن هذه المسألة كما عرفت (3).
الثالث: أن جواز الرجوع إلى البراءة أو عدم جوازه غير مبني على القول

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ص 124 ب 5 من أبواب مكان المصلي ح 3 و 4.
(2) تقدم في ص 155 - 156 فراجع.
(3) تقدم في ص 196 - 197 فراجع.
205

بالوضع للصحيح أو الأعم، بل مبني على انحلال العلم الإجمالي وعدمه في مسألة
الأقل والأكثر الارتباطيين.
الرابع: أن القول بالوضع للأعم يحقق موضوع جواز التمسك بالإطلاق أو
العموم، كما أن القول بالوضع للصحيح يحقق موضوع عدم جوازه. هذا تمام الكلام
في المقام الأول.
المقام الثاني: في المعاملات
ويقع البحث عنه في مقامين:
الأول: فيما ذهب إليه المشهور: من جواز التمسك بإطلاقات المعاملات من
العقود والإيقاعات على كلا القولين، ولا يختص الجواز باختيار الوضع للأعم،
ومن هنا تنتفي الثمرة المتقدمة في العبادات هنا.
الثاني: فيما ذكره جماعة منهم: المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): من أن النزاع في
المعاملات إنما يجري فيما إذا كانت الألفاظ أسامي للأسباب، دون المسببات فإن
المسببات أمور بسيطة غير قابلة لأن تتصف بالصحة والفساد، بل هي تتصف
بالوجود عند وجود أسبابها، وبالعدم عند عدمها (1).
ولتحقيق الكلام في المقامين نقول:
أما المقام الأول: فالأمر كما ذهب إليه المشهور: من جواز التمسك
بالإطلاقات حتى على القول بالصحيح، والوجه في ذلك: هو أن المعاملات أمور
عرفية عقلائية، وليست من الماهيات المخترعة عند الشارع المقدس، وإنما هي
ماهيات قد اخترعها العقلاء قبل هذه الشريعة لتمشية نظام الحياة، ثم لما جاء نبينا
الأعظم (صلى الله عليه وآله) يخالفهم في هذه الطريقة المستقرة عندهم، ولم يجعل (صلى الله عليه وآله) طرقا

(1) كفاية الأصول: ص 49.
206

خاصة لا بد للناس أن يمشوا على طبق تلك الطرق، بل ولم يتصرف فيها تصرفا
أساسيا، بل أمضاها على ما كانت عندهم، وتكلم بلسانهم، فهو (صلى الله عليه وآله) كأحدهم من
هذه الجهة.
نعم، قد تصرف (صلى الله عليه وآله) فيها في بعض الموارد، فنهى عن بعض المعاملات:
كالمعاملة الربوية وما شاكلها، وزاد في بعضها قيدا أو جزءا لم يكن معتبرا عند
العقلاء كاعتبار البلوغ في المتعاقدين، واعتبار الصيغة في بعض الموارد.
وعلى ذلك الأصل نحمل ما ورد في الشرع من الآيات والروايات: كقوله
تعالى: * (أوفوا بالعقود) * (1) و * (أحل الله البيع) * (2) و * (تجارة عن تراض) * (3)،
وكقوله (صلى الله عليه وآله): " النكاح سنتي " (4) و " الصلح جائز " (5)، ونحو ذلك على المفاهيم
التي قد استقرت عندهم وجرى ديدنهم عليها، فإنه (صلى الله عليه وآله) لم يتصرف فيها لا لفظا
ولا معنى، وتكلم بما تكلموا به من الألفاظ واللغات. إذا تكون تلك الأدلة مسوقة
لإمضاء المعاملات العرفية العقلائية، وحيث إن المعاملات عندهم قسمان: فعلي
وقولي إلا في بعض الموارد فتلك الأدلة تدل على إمضاء كلا القسمين، إلا في
بعض الموارد الخاصة التي اعتبر الشارع فيها اللفظ، أو اللفظ الخاص كما في
الطلاق، والنكاح، وما يشبههما. وعليه فإن دل دليل من قبل الشارع على اعتبار
شئ جزءا أو قيدا فنأخذ به، وإن شككنا فيه فنتمسك بإطلاقات تلك الأدلة
ونثبت بها عدم اعتباره.

(1) المائدة: 1.
(2) البقرة: 275.
(3) النساء: 29.
(4) مستدرك الوسائل: ج 14 ص 153 ب 1 من أبواب مقدمات النكاح ح 18، وفيه " من
سنتي ".
(5) وسائل الشيعة: ج 18 ص 443 ب 3 من أبواب الصلح ح 1.
207

ومن هنا يظهر فساد ما ربما يورد (1) على الشهيد (قدس سره) حيث قال: إن الماهيات
الجعلية: كالصلاة والصوم وسائر العقود حقيقة في الصحيح، ومجاز في الفاسد إلا
الحج، لوجوب المضي (2) فيه. مع أنه (قدس سره) كغيره يتمسك بإطلاقات المعاملات،
والحال أن الصحيحي لا يمكنه التمسك بها لإجمال الخطاب.
ووجه الفساد هو ما عرفت: من أنه لا مانع من التمسك بإطلاقات المعاملات
على القول بالصحيح كما عرفت.
وعلى الجملة: فالمعاملات المأخوذة في موضوع أدلة الإمضاء - كالبيع
ونحوه - معاملات عرفية عقلائية، ولم يتصرف الشارع فيها أي تصرف لا من
حيث اللفظ ولا من حيث المعنى، بل أمضاها بما لها من المفاهيم التي قد استقر
عليها الفهم العرفي وتكلم بالألفاظ التي كانت متداولة بينهم في محاورتهم قبل
الشريعة الإسلامية، فحينئذ إن شك في اعتبار أمر زائد على ما يفهمه العرف
والعقلاء فنتمسك بإطلاق الأدلة وننفي بذلك اعتباره كما أنه لم يكن معتبرا عند
العرف، إذ لو كان معتبرا للزم على الشارع المقدس بيانه، وحيث إنه (صلى الله عليه وآله) كان في
مقام البيان ولم يبين فعلم عدم اعتباره.
ومن هنا تفترق المعاملات عن العبادات، فإن العبادات حيث إنها ماهيات
مخترعة عند الشارع بجميع أجزائها وشرائطها فلو كانت موضوعة للصحيحة
يمكننا التمسك بإطلاقاتها عند الشك في جزئية شئ أو شرطيته، لاحتمال دخله
في المسمى كما سبق. وهذا بخلاف المعاملات فإنها ماهيات مخترعة عند العرف،
فلو شككنا في اعتبار شئ فيها شرعا فيكون الشك في أمر زائد على ما كان
معتبرا عندهم، وفي مثله لا مانع من التمسك بالإطلاق ولو على القول بكونها
موضوعة للصحيحة.

(1) ممن أورد عليه هو الشيخ الأنصاري في المكاسب: ص 80 س 32.
(2) انظر القواعد والفوائد للشهيد الأول: ج 1 ص 158.
208

نعم، لو شككنا في اعتبار شئ فيها عرفا كاعتبار المالية - مثلا - أو نحوها فلا
يمكننا التمسك بالإطلاق، لعدم إحراز صدق البيع على فاقد المالية، أو نحوها. هذا
بناء على القول بالصحيح.
وأما بناء على الأعم فلا مانع من التمسك بالإطلاق حتى إذا كان الشك في
اعتبار شئ فيها عرفا، إلا فيما إذا كان الشك في دخله في المسمى.
وصفوة القول: إن حال المعاملات عند العرف حال العبادات عند الشارع
المقدس، فكما أن ثمرة جواز الأخذ بالإطلاق وعدم جوازه تظهر بين القولين في
العبادات فكذلك تظهر بينهما في المعاملات، وإنما تنتفي الثمرة بين القولين فيها،
أي: المعاملات لو شككنا في اعتبار جزء أو قيد فيها شرعا لا عرفا فإنه يجوز -
حينئذ - التمسك بالإطلاق مطلقا حتى على القول بالوضع للصحيح كما مر (1).
وربما يورد: بأن حديث التمسك بالإطلاق في المعاملات إنما يتم فيما لو
كانت المعاملات أسامي للأسباب دون المسببات، فإنه - حينئذ - مجال للتمسك
بإطلاق قوله تعالى: * (أحل الله البيع) * و * (تجارة عن تراض) * ونحوهما لإثبات
إمضاء كل سبب عرفي إلا ما نهى عنه الشارع.
وأما لو كانت المعاملات أسامي للمسببات فالإمضاء الشرعي المتوجه إليها
لا يدل على إمضاء أسبابها، لعدم الملازمة بين إمضاء المسبب - وهو المبادلة في
البيع وما شاكلها - وإمضاء السبب وهو المعاطاة أو الصيغة الفارسية مثلا.
ومن الواضح أن أدلة الإمضاء جميعا من الآيات والروايات متجهة إلى إمضاء
المسببات، ولا تنظر إلى إمضاء الأسباب أصلا، ضرورة أن الحلية في قوله تعالى:
* (أحل الله البيع) * ثابتة لنفس المبادلة والملكية في مقابل تحريمها، ولا معنى
لحلية نفس الصيغة أو حرمتها. ووجوب الوفاء في قوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) *

(1) راجع مقدمة المقام الثاني: في المعاملات.
209

ثابت للملكية والمبادلة، فإن الوفاء على ما ذكرناه بمعنى: الإنهاء والإتمام، ومن
المعلوم أنه لا يتعلق بنفس العقد فإنه آني الحصول فلا بقاء له، بل لا بد وأن يتعلق
بما له قابلية البقاء والدوام، وهو ليس في المقام إلا نفس المسبب. والنكاح في
قوله (صلى الله عليه وآله): " النكاح سنتي " نفس علاقة الزواج بين الرجل والمرأة، لا نفس
الصيغة، وكذا الصلح في قوله (صلى الله عليه وآله): " الصلح جائز " ونحو ذلك.
وعليه، فلو شككنا في حصول مسبب من سبب خاص كالمعاطاة - مثلا -
فمقتضى الأصل عدم حصوله، والاقتصار على الأخذ بالقدر المتيقن إلا فيما إذا
كان له سبب واحد، فإن إمضاء مسببه يستلزم إمضاءه لا محالة، وإلا لكان إمضاؤه
بدونه لغوا محضا. وكذا فيما إذا لم يكن في البين قدر متيقن، فإن نسبة المسبب -
حينئذ - إلى الجميع على حد سواء، فلا يمكن الحكم بإمضاء بعض دون بعض،
وفي غير هاتين الصورتين لا بد من الاقتصار على القدر المتيقن، وفي الزائد عليه
نرجع إلى أصالة العدم.
وقد أجاب عنه شيخنا الأستاذ (قدس سره): بأن نسبة صيغ العقود إلى المعاملات ليست
نسبة الأسباب إلى مسبباتها ليكونا موجودين خارجيين يترتب أحدهما على
الآخر ترتبا قهريا، ويكون تعلق الإرادة بالمسبب بتبع تعلقها بالسبب من جهة أن
اختيارية المسبب باختيارية السبب، كما هو الحال في جميع الأفعال التوليدية، بل
نسبتها إليها نسبة الآلة إلى ذيها، والإرادة تكون متعلقة بنفس المعاملة ابتداء كما
هو الحال في سائر الإنشاءات، فإن قولنا: " بعت " أو " صل " ليس بنفسه موجدا
للملكية أو الطلب في الخارج، نظير: الإلقاء الموجد للإحراق، بل الموجد في
الواقع هو الإرادة المتعلقة بإيجاده إن شاء (1).
فتحصل: أنه إذا لم تكن الصيغ من قبيل الأسباب، والمعاملات من قبيل

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 81.
210

المسببات فلم يكن هناك موجودان خارجيان مترتبان كي لا يكون إمضاء
أحدهما إمضاء للآخر، بل الموجود واحد.
غاية ما في الباب: أنه باختلاف الآلة ينقسم إلى أقسام عديدة، فالبيع المنشأ
بالمعاطاة قسم، وبغيرها قسم آخر، وباللفظ العربي قسم، وبغير العربي قسم آخر،
وهكذا...، فإذا كان دليل إمضاء البيع - مثلا - في مقام البيان ولم يقيده بنوع دون
نوع فيستكشف منه عمومه لجميع الأقسام والأنواع، كما في بقية المطلقات حرفا
بحرف. هذا ما أجاب به (قدس سره) عن الإشكال.
ولكن لا يمكن المساعدة على ما أفاده (قدس سره)، وذلك لعدم الفرق في محل الكلام
بين أن يعبر عن صيغ العقود بالأسباب أو يعبر عنها بالآلات، فإن أدلة الإمضاء إذا
لم تكن ناظرة إلى إمضاء تلك الصيغ فلا يفرق بين كونها أسبابا أو آلة، ولا أثر
للاختلاف في مجرد التعبير.
ومن الغريب أنه (قدس سره) قد استدل على شمول أدلة الإمضاء لصيغ العقود بأن
الآلة وذيها ليسا كالسبب والمسبب يمتاز أحدهما من الآخر في الوجود، بل هما
موجودان بوجود واحد، فإمضاء ذي الآلة يلازم إمضاء الآلة لا محالة.
وجه الغرابة: أنه لا ريب في تعدد وجود الصيغ ووجود ما يعبر عنه
بالمسببات في باب المعاملات، فإن المسببات هي الأمور الاعتبارية النفسانية
التي لا وجود لها إلا في عالم الاعتبار، والأسباب عبارة عن الأفعال والألفاظ،
وهما من الموجودات الحقيقية الخارجية، سواء عبر عنها بالأسباب أو بالآلات،
فكما أن إمضاء المسبب لا يلازم إمضاء السبب فكذلك إمضاء ذي الآلة لا يلازم
إمضاء الآلة، لعدم تفاوت بينهما إلا في التعبير.
وعليه، فلا بد من الاقتصار على القدر المتيقن على كل تقدير، فلو شك في
حصول مسبب كالملكية أو نحوها من سبب خاص كالمعاطاة - مثلا - أو بغير
العربي أو نحو ذلك فمقتضى الأصل عدم حصوله إلا إذا كان له سبب واحد، فإن
211

إمضاء المسبب - حينئذ - يلازم إمضاء سببه لا محالة، وإلا لكان إمضاؤه لغوا.
والصحيح في الجواب عنه: هو أنا لو سلمنا أن نسبة صيغ العقود إلى
المعاملات نسبة الأسباب إلى مسبباتها، أو نسبة الآلة إلى ذيها وأغمضنا النظر عما
سلكناه في باب المعاملات من أنها أسام للمركب من المبرز والمبرز خارجا فلا
سبب، ولا مسبب، ولا آلة، ولا ذيها كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فمع ذلك لا
يتم الإشكال المزبور، فإنه إنما يتم فيما إذا كان هناك مسبب واحد وله أسباب
عديدة، فحينئذ يقال: إن إمضاءه لا يلازم إمضاءها جميعا، فلا بد من الاقتصار
على القدر المتيقن لو كان، وفي الزائد نرجع إلى أصالة عدم حصوله.
نعم، لو فرضنا أنه لم يكن بينها قدر متيقن بل كانت نسبة الجميع إليه على حد
سواء أمكننا أن نقول بأن إمضاء المسبب إمضاء لجميع أسبابه، فإن الحكم بإمضاء
بعض دون بعض ترجيح من دون مرجح، والحكم بعدم الإمضاء رأسا مع إمضاء
المسبب على الفرض غير معقول، ولكنه فرض نادر جدا، بل لم يتحقق في
الخارج. وأما إذا كانت المسببات كالأسباب متعددة كما هو كذلك فلا يتم
الإشكال.
بيان ذلك: أن المراد بالمسبب: إما أن يكون هو الاعتبار النفساني كما هو
مسلكنا، أو يكون هو الوجود الإنشائي المتحصل من الصيغة أو غيرها كما هو
مسلكهم في باب الإنشاء، حيث إنهم فسروا الإنشاء بإيجاد المعنى باللفظ.
ومن هنا قالوا: إن صيغ العقود أسباب للمعاملات من جهة أنها لا توجد إلا بها،
فالبيع لا يوجد إلا بعد قوله: بعت، وكذا غيره.
أو أن المراد بالمسبب: هو الإمضاء العقلائي فإنه مسبب، وفعل البائع - مثلا -
سبب، فإذا صدر من البائع بيع يترتب عليه إمضاء العقلاء ترتب المسبب على
السبب. وأما الإمضاء الشرعي فلا يعقل أن يكون مسببا، بداهة أن المسبب هو ما
يتعلق به الإمضاء من قبل الشارع المقدس، فلا يعقل أن يكون هو نفسه، وإلا لزم
212

تعلق الإمضاء بنفسه في مثل قوله تعالى: * (أحل الله البيع) * و * (أوفوا بالعقود) *،
وقوله (صلى الله عليه وآله): * (النكاح سنتي) * ونحو ذلك، فإن المعنى حينئذ: هو أن الله أحل البيع
الذي أحله، وأوجب الوفاء بالعقد الذي أوجب الوفاء به، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) سن
النكاح الذي سنه، وهكذا...
وإن كان ربما يظهر من كلام المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في مبحث النهي عن
المعاملات، حيث قال - بعد ما حكى عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على
الصحة -: والتحقيق أنه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبب أو التسبيب
لاعتبار القدرة في متعلق النهي كالأمر، ولا يكاد يقدر عليهما إلا فيما إذا كانت
المعاملة مؤثرة صحيحة (1).
وكيف كان، فاحتمال أن يكون المسبب هو الإمضاء الشرعي فاسد قطعا،
وعلى جميع التقادير المذكورة لا يتم إشكال عدم التلازم بين إمضاء المسبب
وإمضاء سببه.
أما بناء على أن يكون المسبب عبارة عن الاعتبار القائم بالنفس فلا محالة
يتعدد المسبب بتعدد مبرزه خارجا، مثلا: لو اعتبر زيد ملكية داره لشخص
فأبرزها باللغة العربية، واعتبر ملكية بستانه لآخر فأبرزها باللغة الفارسية، واعتبر
ملكية فرسه لثالث فأبرزها بالمعاطاة، واعتبر ملكية كتابه لرابع فأبرزها بالكتابة
أو الإشارة فهنا اعتبارات متعددة خارجا، وكل واحد منها يباين الآخر لا محالة
وإن كان الجميع صادرا من شخص واحد فضلا عما إذا صدر عن أشخاص
متعددة، كما إذا باع زيد فرسه بالصيغة العربية، وباع عمرو داره بالصيغة الفارسية،
وباع ثالث كتابه بالمعاطاة، وهكذا...، حيث لا شبهة في أن الاعتبار القائم بزيد
المبرز في الخارج بالصيغة العربية يباين كلا من الآخرين، وكذا كل واحد منها
بالإضافة إلى الآخرين.

(1) راجع كفاية الأصول: ص 228.
213

وعلى ذلك فإذا فرضنا أن الشارع أمضى الاعتبار المبرز في الخارج باللغة
الفارسية أو بالمعاطاة فلا محالة أمضى المعاطاة أو الصيغة الفارسية التي يعبر عنها
بالسبب، وإلا لكان إمضاؤه بدون إمضائها لغوا محضا، بداهة أنه لا معنى لأن
يمضي الشارع الملكية المبرزة بالمعاطاة ولا يمضي نفس المعاطاة، ويمضي
الملكية المظهرة بالعقد الفارسي ولا يمضي نفس هذا العقد، وهكذا...، فإن معنى
عدم إمضاء الشارع هذا السبب عدم حصول الملكية به خارجا، وهذا مناقض
لحصولها به وإمضاء الشارع إياها.
وأما بناء على أن يكون المسبب عبارة عن الوجود الإنشائي الحاصل
بالتلفظ بصيغ العقود كصيغة " بعت " ونحوها فهو أوضح من الأول، بداهة أنه متى
ما حصل التلفظ بصيغة " بعت " أو نحوها يتحقق المسبب خارجا. فلو قال زيد
مثلا: بعت داري، ثم قال: بعت بستاني، ثم قال: بعت فرسي، وهكذا... يتحقق بكل
واحد من هذه الصيغ والأسباب وجود إنشائي الذي يعبر عنه بالمسبب على
مسلك القوم، فكما أن لكل صيغة وجودا فكذلك لكل منشأ وجودا إنشائيا بوجود
سببه، فلا يعقل انفكاك المنشأ عن الإنشاء والسبب، ولا سيما فيما إذا كانت
الأسباب مختلفة الحقائق: كالعربية والعجمية وغيرهما.
وعلى الجملة: فالتلفظ بالصيغة يوجب تحصل وجود إنشائي للبيع على
مسلكهم، فلا يتصور انفكاكه عنه. وعليه فإمضاء الوجود الإنشائي والتنزيلي
إمضاء لسببه، فلا يعقل تعلق الإمضاء بأحدهما دون الآخر كما تقدم.
وأما لو كان المراد من المسبب إمضاء العقلاء فالأمر فيه أوضح من الأولين،
ضرورة أن العقلاء يمضون كل بيع صادر من البائع إذا كان واجدا للشرائط بأن
يكون صادرا من أهله ووقع في محله، مثلا: لبيع زيد كتابه إمضاء عقلائي، ولبيع
زيد داره إمضاء عقلائي آخر، ولبيع زيد فرسه إمضاء عقلائي ثالث، وهكذا...،
214

وليس إمضاؤهم متعلقا بطبيعي البيع، فإنه لا أثر له، والآثار إنما تترتب على آحاد
البيع الصادرة عن آحاد الناس. ومن الواضح أن العقلاء إنما يمضون تلك الآحاد
المترتبة عليها الآثار، وليس إمضاء أحدها عين إمضاء الآخر، بل لكل واحد منها
إمضاء على حياله واستقلاله، كما هو مقتضى كون البيع سببا لإمضاء عقلائي.
وكيف كان، فلا ريب في أن لكل بيع من البيوع الموجودة في الخارج إمضاء
عقلائيا يباين إمضاء عقلائيا آخر، وهكذا...، سواء كانت البيوع صادرة عن
شخص واحد أو عن أشخاص متعددة.
وعليه، فإذا كان لدليل الإمضاء إطلاق قد دل بإطلاقه على نفوذ كل إمضاء
عقلائي فلا محالة دل بالالتزام على إمضاء كل سبب يتسبب إليه، وإلا فلا يعقل
إمضاؤه بدون إمضائه. فإنه نقض للغرض كما لا يخفى.
فالنتيجة من جميع ذلك: أن الإيراد المزبور إنما يتم فيما لو كان هناك مسبب
واحد وله أسباب عديدة، ولكن قد عرفت أنه لا أصل له على جميع المسالك في
تفسير المسبب، ولا يعقل أن يكون لمسبب واحد أسباب متعددة على الجميع، بل
لكل سبب مسبب، فإمضاؤه بعينه إمضاء لسببه.
هذا كله بناء على مسلك القوم في باب المعاملات.
التحقيق: أن كون صيغ العقود أسبابا أو آلة كل ذلك لا يرجع إلى معنى
صحيح، وذلك لما حققناه سابقا: من أن ما هو المشهور من أن الإنشاء إيجاد
المعنى باللفظ فاسد فإنهم: إن أرادوا به الإيجاد التكويني الخارجي فهو غير
معقول، بداهة أن اللفظ لا يكون واقعا في سلسلة علل وجوده وأسبابه.
وإن أرادوا به الإيجاد الاعتباري فيرده: أنه يوجد بنفس اعتبار المعتبر،
سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن، فاللفظ لا يكون سببا لإيجاده ولا آلة له،
فلا يكون محتاجا إليه أصلا، كيف؟ فإن الأمر الاعتباري لا واقع له، ما عدا اعتبار
المعتبر في أفق النفس. وأما الخارج عنه من اللفظ والكتابة والإشارة والفعل
215

فأجنبي عنه بالكلية.
نعم، إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج يحتاج إلى مبرز، وذلك
المبرز قد يكون لفظا كما هو الغالب، وقد يكون إشارة، وقد يكون كتابة، وقد يكون
فعلا.
ومن هنا ذكرنا في بحث المعاملات: أنها أسام للمركب من الأمر الاعتباري
النفساني وإبرازه باللفظ أو نحوه في الخارج، فإن الآثار المترقبة منها لا تترتب إلا
على المركب من الأمرين، فالبيع والإيجار والصلح والنكاح وما شاكلها لا يصدق
على مجرد الاعتبار النفساني بدون إبرازه في الخارج بمبرز ما، فلو اعتبر أحد
ملكية داره لزيد - مثلا - أو ملكية فرسه لعمرو بدون أن يبرزها في الخارج باللفظ
أو ما شاكله فلا يصدق أنه باع داره من " زيد " أو فرسه من " عمرو "، كما أنه لا
تصدق هذه العناوين على مجرد إطلاق اللفظ أو نحوه من دون اعتبار نفساني كما
لو كان في مقام تعداد صيغ العقود أو الإيقاعات، أو كان التكلم بها بداع آخر غير
إبراز ما في أفق النفس من الأمر الاعتباري. فلو قال أحد: بعت أو: زوجت أو
نحو ذلك من دون اعتبار نفساني فلا يصدق عليه عنوان البيع أو عنوان التزويج
والنكاح (1)، وهكذا...
وعلى ضوء ما ذكرناه يتضح: أنه لا سبب ولا مسبب في باب المعاملات،
ولا آلة ولا ذي الآلة ليشكل أن إمضاء أحدهما لا يلازم إمضاء الآخر، بل
المعاملات بعناوينها الخاصة من البيع والهبة وما شاكلها أسام للمركب من الأمرين
فلا يصدق على كل واحد منهما بالخصوص كما عرفت، والمفروض أنها بهذه
العناوين مأخوذة في أدلة الإمضاء: كقوله تعالى: * (أحل الله البيع) * (2)، وقوله (صلى الله عليه وآله):

(1) راجع مصباح الفقاهة: ج 1 ص 53.
(2) البقرة: 275.
216

* (النكاح سنتي) * (1) و * (الصلح جائز) * (2) إلى غير ذلك، فالأدلة ناظرة إلى
إمضائها بتلك العناوين. وعليه فمتى صدق هذه العناوين عرفا وشك في اعتبار أمر
زائد عليه شرعا جزءا أو شرطا فلا مانع من التمسك بإطلاقها، وبه يثبت عدم
اعتباره.
كما أنه يتضح مما ذكرناه: أن ما يسمى بالمسبب: عبارة عن الأمر الاعتباري
النفساني القائم بالمعتبر بالمباشرة من دون احتياج إلى سبب ولا آلة.
ومن مجموع ما ذكرناه يستبين: أنه لا فرق في جواز التمسك بإطلاق أدلة
الإمضاء بين أن تكون المعاملات أسامي للأعم أو للصحيحة: أما على الأول
فواضح. وأما على الثاني فلأن الصحة عند العقلاء أعم منها عند الشارع، إذ رب
معاملة تكون موردا لإمضاء العقلاء ولا تكون موردا لإمضاء الشارع، فإذا شك في
ذلك يتمسك بالإطلاق.
وأما الصحة الشرعية فلا يعقل أخذها في المسمى وفي موضوع أدلة الإمضاء
ليكون معنى قوله تعالى: * (أحل الله البيع) *: أن الله أحل وأمضى البيع الذي أحله
وأمضاه. نعم، يمكن أن تكون الصحة عند العقلاء مأخوذة في الموضوع له ليكون
البيع - مثلا - اسما للاعتبار المبرز في الخارج الممضى عند العقلاء، لا للأعم منه
ومن أن لا يكون ممضى عندهم، فإن الاعتبار إذا كان واجدا للشرائط - كما إذا
كان صادرا من العاقل مثلا - فيقع موردا لإمضائهم، وإذا كان فاقدا لها - كما إذا كان
صادرا عن الصبي غير المميز أو المجنون أو الفضولي أو ما شاكل ذلك - فلا يقع
موردا لإمضائهم. وعليه فلو شككنا في اعتبار أمر زائد على ما أمضاه العقلاء
كاعتبار اللفظ - مثلا - أو العربية أو نحو ذلك فلا مانع من التمسك بالإطلاق
لإثبات عدم اعتباره، لأن الشك - حينئذ - في اعتبار أمر زائد على صدق اللفظ.

(1) المستدرك: ج 14 ص 153 ب 1 من أبواب مقدمات النكاح ح 18.
(2) الوسائل: ج 18 ص 443 ب 3 من أبواب الصلح ح 1.
217

ومن هنا تفترق المعاملات عن العبادات، فإن العبادات بما أنها ماهيات
مخترعة من قبل الشارع المقدس فلو كانت موضوعة للصحيحة فلا يمكننا
التمسك بإطلاق أدلتها، لأن الشك في اعتبار شئ فيها جزءا أو شرطا يرجع
إلى الشك في صدق اللفظ على الفاقد للشئ المشكوك فيه، لاحتمال مدخليته
في المسمى.
وهذا بخلاف المعاملات، فإنها حيث كانت ماهيات مخترعة من قبل العقلاء
لتنظيم الحياة المادية للبشر، فلو كانت أسامي للصحيحة لم يكن مانع من التمسك
بالإطلاق، فإن الصحيح عند العقلاء أعم موردا من الصحيح عند الشارع.
وقد تحصل من ذلك: أن نقطة الميز بين البابين التي توجب جواز التمسك
بالإطلاق في باب المعاملات ولو كانت موضوعة للصحيحة، وعدم جوازه في
باب العبادات لو كانت كذلك هي أن الصحة التي هي محل البحث في المعاملات
الصحة عند العقلاء، وقد عرفت أنها أعم عند الشارع. والصحة التي هي محل
البحث في العبادات الصحة عند الشارع، فهذه هي النقطة الرئيسية للفرق بين
البابين.
نعم، تظهر الثمرة بين القولين في المعاملات أيضا فيما إذا شك في اعتبار أمر
عرفي فيها عند العقلاء جزءا أو شرطا، كما إذا شك في اعتبار المالية في البيع - كما
هو مقتضى ظاهر تعريف المصباح (1) - أو في اعتبار شئ آخر عندهم:
فعلى القول بكونها أسامي للصحيحة لا يجوز التمسك بالإطلاق، لاحتمال
دخل المالية في صدق البيع، فلو باع الخنفساء أو مثقالا من التراب أو نحو ذلك
مما لا مالية له عند العقلاء فنشك في صدق البيع على ذلك، ومعه لا يمكننا
التمسك بالإطلاق.

(1) المصباح المنير: ج 1 ص 69 (مادة بيع).
218

وعلى القول بالأعم لا مانع من التمسك بالإطلاق في هذه الموارد أيضا.
وأما الكلام في المقام الثاني فيتضح الحال فيه مما حققناه (1) في المقام الأول.
وملخصه: هو أنا لا نعقل للمسبب في باب المعاملات معنى ما عدا الاعتبار
النفساني القائم بالمعتبر بالمباشرة. ومن الظاهر أن المسبب بهذا المعنى يتصف
بالصحة والفساد، فإن الاعتبار إذا كان من أهله - وهو البالغ العاقل - فيتصف
بالصحة حتى عند العقلاء. وإذا كان من غير أهله - وهو المجنون أو الصبي غير
المميز - فيتصف بالفساد كذلك. نعم، لو كان صادرا من الصبي المميز فيتصف
بالصحة عند العقلاء، وبالفساد عند الشارع.
وعلى الجملة: فكما أن الصيغة تتصف بالصحة والفساد فيقال: الصيغة العربية
صحيحة وغير العربية فاسدة، أو الصادرة عن البالغ العاقل صحيحة ومن غيره
فاسدة فكذلك الاعتبار، فيقال: إن الاعتبار الصادر عن العاقل صحيح وعن غيره
فاسد. وعليه فلا أصل لما ذكروه من أن المعاملات لو كانت أسامي للمسببات لم
تتصف بالصحة والفساد، بل تتصف بالوجود والعدم، فإن هذا إنما يتم لو كان
المسبب عبارة عن الإمضاء الشرعي، فإنه غير قابل لأن يتصف بالصحة والفساد،
بل هو إما موجود أو معدوم، وكذا لو كان عبارة عن إمضاء العقلاء فإنه لا يقبل
الاتصاف بهما، فإما أن يكون موجودا أو معدوما، إلا أن المسبب هنا ليس هو
الإمضاء الشرعي أو العقلائي، ضرورة أن المعاملات من العقود والإيقاعات أسام
للأفعال الصادرة عن آحاد الناس.
فالبيع - مثلا - اسم للفعل الصادر عن البائع، والهبة: اسم للفعل الصادر عن
الواهب، وهكذا..، ومن الواضح أنها أجنبية عن مرحلة الإمضاء رأسا. نعم، إنها
قد تقع موردا للامضاء إذا كانت واجدة للشرائط من حيث الاعتبار، أو مبرزه،

(1) راجع بحث المقام الثاني: في المعاملات، المقام الأول ص 207.
219

وقد لا تقع موردا له إذا كانت فاقدة لها كذلك.
فقد تحصل مما ذكرناه: أنه لا مانع من جريان النزاع في المسبب بهذا المعنى
من هذه الجهة. نعم، هو خارج عن محل النزاع من جهة أخرى، وهي: أن عنوان
البيع وما شاكله لا يصدق عليه عرفا بدون إبرازه في الخارج ولو على القول
بالأعم، فلا محالة يكون البيع أو نحوه موضوعا للمؤلف من الاعتبار وإبرازه إما
مطلقا أو فيما أمضاه العقلاء.
وملخص ما ذكرناه في باب المعاملات لحد الآن أمور:
الأول: أن المعاملات أمور عرفية عقلائية، وليست من المخترعات الشرعية.
الثاني: جواز التمسك بالإطلاق في باب المعاملات مطلقا ولو كانت أسامي
للصحيحة.
الثالث: أن الصحة المأخوذة في مسمى المعاملات على القول بالصحيح هي
الصحة عند العقلاء، لا عند الشارع كما عرفت (1).
الرابع: أن المسببات في باب المعاملات عبارة عن الاعتبار القائم بالنفس
بالمباشرة، لا بالتسبيب والآلة، وقد عرفت أنه لا معنى للسببية والمسببية فيها أصلا.
الخامس: أن المعاملات بعناوينها الخاصة أسام للمؤلف من الاعتبار وإبرازه
خارجا فلا يصدق على كل واحد منهما بالخصوص. هذا تمام الكلام في مسألة
الصحيح والأعم.
تذييل إن كل واجب مركب - كالصلاة ونحوها - إذا لوحظ بالقياس إلى عدة أمور
فلا يخلو الحال إما أن يكون الواجب أجنبيا عنها بالكلية فلا يكون لها دخل
فيه، ولا في الفرد المقترن به، لا بنحو الجزئية ولا بنحو الشرطية، وهذه الأمور
على قسمين:

(1) تقدم في ص 218 فراجع.
220

أحدهما: ما كان راجحا في نفسه: كالأدعية الواردة في أيام وليالي شهر
رمضان، فإنها وإن كانت مقترنة مع الواجب كالصوم أو نحوه وذات رجحان في
نفسها، إلا أنها أجنبية عنه وغير موجبة لمزية فيه.
الثاني: ما لم يكن له رجحان في نفسه أيضا: كنزول المطر - مثلا - مقارنا
للصلاة أو نحوها، أو لا يكون كذلك، بل لها دخل في الواجب بنحو من أنحاء
الدخل، وهذا على أقسام:
القسم الأول: ما هو خارج عن طبيعي الواجب، فلا يكون جزءه ولا قيده،
ولكنه من خصوصيات الفرد، ويوجب مزية فيه، وذلك كعنوان الجماعة والمسجد
والقنوت ونحو ذلك، فإن طبيعي الواجب باق على ما هو عليه من المصلحة فلا
تزيد ولا تنقص باختلاف تلك الخصوصيات، غاية الأمر تطبيقه على الفرد الواجد
لها أولى من تطبيقه على الفرد الفاقد.
ومن هنا ورد: أن الصلاة فريضة والجماعة مستحبة، وهذا لا بمعنى أن
الجماعة ليست من أفراد الواجب، بل بمعنى: أن الصلاة جماعة حيث كانت واجدة
لهذه الخصوصيات، فتطبيق الصلاة عليها مستحب.
القسم الثاني: ما يكون له دخل في الواجب بنحو الشرطية، والضابط في
الشرط هو أن يكون تقيد الواجب به داخلا في حقيقته والقيد خارجا عنها. ومن
هنا يظهر أن التقيد لا بد أن يكون اختياريا للمكلف، سواء أكان القيد أيضا
اختياريا كالطهارة وما شاكلها أم لم يكن كالقبلة ونحوها.
القسم الثالث: ما يكون له دخل في الواجب بنحو الجزئية، والضابط في الجزء
أن يكون الشئ بنفسه متعلقا للأمر ومقوما لحقيقة الواجب.
وبعد ذلك نقول: لا إشكال في دخول الأجزاء في محل البحث، كما أنه لا
إشكال في خروج ما عدا الأجزاء والشرائط عنه. وأما الشرائط نفسها فربما قيل
بخروجها عن حريم النزاع (1)، ولكن قد تقدم فساده.

(1) نسب القول إلى الشيخ الأعظم في تقريراته في مطارح الأنظار: ص 17 وراجع 155 هنا.
221

والصحيح: هو أنها داخلة فيه أيضا. هذا تمام الكلام فيما يتعلق بالصحيح
والأعم.
حول الاشتراك
الاشتراك
الكلام فيه يقع من جهتين:
الأولى: في إمكان الاشتراك أو وجوبه أو امتناعه.
الثانية: في منشأ الاشتراك هل هو الوضع تعيينا أو تعينا أو شئ آخر؟
أما الكلام في الجهة الأولى: فذهب قوم إلى أن الاشتراك في اللغة واجب،
بتقريب أن الألفاظ والتراكيب المؤلفة منها متناهية، والمعاني الموجودة في الواقع
ونفس الأمر غير متناهية، فالحاجة إلى تفهيم المعاني جميعا تستدعي لزوم
الاشتراك لئلا يبقى معنى بلا لفظ دال عليه.
وقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بوجوه:
الأول: أن وضع الألفاظ بإزاء المعاني غير المتناهية غير معقول، لأنه يستلزم
أوضاعا غير متناهية، وصدورها من واضع متناه محال.
الثاني: أنا لو سلمنا إمكان ذلك كما إذا كان الواضع هو الله تبارك وتعالى
إلا أنه من الواضح أن الوضع مقدمة للاستعمال ولإبراز الحاجة والأغراض، وهو
من البشر لا منه تعالى وتقدس. إذا وضع الألفاظ بإزاء المعاني غير
المتناهية يصبح لغوا محضا، لأنه زائد على مقدار الحاجة إلى الاستعمالات
المتناهية.
وعلى الجملة: فالواضع وإن فرض أن الله تعالى وهو قادر على أوضاع غير
متناهية إلا أن المستعمل هو البشر، فالاستعمال منه لا محالة يقع متناهيا، فالوضع
زائدا على المقدار المتناهي غير محتاج إليه.
222

الثالث: أن المعاني الجزئية وإن لم تتناه إلا أن المعاني الكلية متناهية
كالألفاظ، فلا مانع من وضع اللفظ بإزاء معنى كلي يستعمل في أفراده ومصاديقه
حسب ما تتعلق الحاجة بها. ومن الواضح أن الأمر كذلك في جميع أسماء
الأجناس من الحيوانات وغيرها، فيضع الواضع لفظا خاصا لواحد منها ثم يطلقه
على كل واحد من أفراده من دون أن تكون للأفراد أسام خاصة، مثلا: لفظ " الهرة "
موضوع لطبيعي ذلك الحيوان الخاص، ثم نستعمله في كل فرد من أفرادها دون أن
تكون لأفرادها أسماء خاصة، وكذا لفظ " الأسد " ونحوه.
نعم، المتمايز أفراده بحسب الاسم من بين الحيوانات الإنسان، دون غيره.
فالنتيجة: أن المعاني الكلية متناهية فلا مانع من وضع اللفظ بإزائها.
الرابع: أن المحذور المزبور إنما يلزم لو كان اللفظ موضوعا بإزاء جميع
المعاني، ويكون استعماله في الجميع على نحو الحقيقة، وأما إذا كان موضوعا
بإزاء بعض منها ويكون استعماله في الباقي مجازا فلا يلزم المحذور، فإن باب
المجاز واسع، فلا مانع من أن يكون لمعنى واحد حقيقي معان متعددة مجازية (1).
فمن جميع ما تقدم يستبين: أن الاشتراك ليس بواجب.
ولا يخفى أن ما أفاده (قدس سره) من امتناع الاشتراك بوضع اللفظ للمعاني غير
المتناهية متين جدا، لاستلزامه أوضاعا لا تتناهى. وكذا ما أفاده (قدس سره) ثانيا: من أنه
لو أمكن الوضع إلى غير متناه فلا يقع في الخارج إلا بمقدار متناه، فإن الوضع إنما
يكون بمقدار الحاجة إلى الاستعمال وهو متناه لا محالة، فالزائد عليه لغو فلا
يصدر عن الواضع الحكيم.
نعم، إن ما سلمه (قدس سره) من تناهي الألفاظ فهو غير صحيح، وذلك لأنه يمكن لنا
تصوير هيئات وتراكيب متعددة من الألفاظ باعتبار كونها مؤتلفة من الحروف

(1) كفاية الأصول: ص 52.
223

الهجائية بعضها من بعض إلى عدد غير متناه، فاللفظ الواحد يختلف باختلاف
حركاته، فلو ضم أوله أو رفع أو كسر فهو في كل حال لفظ مغاير للفظ في حالة
أخرى، وكذا لو رفع آخره أو ضم أو كسر. وإذا أضيف إليه في جميع هذه الأحوال
حرف من الحروف الهجائية صار لفظا ومركبا ثانيا غير الأول، وهكذا...، فتصبح
الألفاظ بهذه النسبة غير متناهية، مثلا: لفظ " بر " إذا ضم أوله أو رفع أو كسر فهو
لفظ غير الأول، ولو أضيف إليه الاختلاف بالتقديم أو التأخير أو حرف من
الحروف صار لفظا آخر، وهكذا...
وإن شئت فقل: إن مواد الألفاظ وإن كانت مضبوطة ومحدودة من الواحد إلى
الثمانية والعشرين حرفا إلا أن الألفاظ المؤتلفة منها والهيئات الحاصلة من ضم
بعضها إلى بعضها الآخر تبلغ إلى غير النهاية، فإن اختلاف الألفاظ وتعددها
بالهيئات والتقديم والتأخير والزيادة والنقصان والحركات والسكنات يوجب
تعددها واختلافها إلى مقدار غير متناه.
وهذا نظير الأعداد فإن موادها وإن كانت آحادا معينة من الواحد إلى العشرة
إلا أن تركبها منها يوجب تعددها إلى عدد غير متناه، مع أنه لم يزد على كل
مرتبة من مراتبها إلا عدد واحد، وتفاوت كل مرتبة من مرتبة أخرى بذلك الواحد،
فإذا أضيف إليها ذلك صارت مرتبة أخرى، وهكذا تذهب المراتب إلى غير النهاية.
فالنتيجة: أن الألفاظ غير متناهية كالمعاني والأعداد.
وأما ما أفاده (قدس سره) ثالثا: من أن جزئيات المعاني وإن كانت غير متناهية إلا أن
كلياتها التي تنطبق عليها متناهية.
ففيه: أنه (قدس سره): إن أراد بكليات المعاني المفاهيم العامة: كمفهوم الشئ
والممكن والأمر فما أفاده (قدس سره) وإن كان صحيحا فإنها منحصرة ومتناهية، إلا
أن جميع الألفاظ لم توضع بإزائها يقينا على نحو الوضع العام والموضوع له
224

الخاص، أو الوضع العام والموضوع له العام، ضرورة أنه لا يمكن تفهيم جميع
المعاني والأغراض التي تتعلق الحاجة بإبرازها بواسطة الألفاظ الموضوعة
بإزائها لو لم تكن لأنفسها أسامي خاصة يقع التفهيم والتفهم بها في مقام الحاجة،
بل إن ذلك مستحيل عادة كما لا يخفى.
وإن أراد بها (قدس سره) المراتب النازلة منها كالإنسان والحيوان والشجر والحجر
وما شاكل ذلك فيرده أنها غير متناهية باعتبار أجزائها من الجنس والفصل،
وعوارضها من الملازمة والمفارقة المتصورة لها..، وهكذا تذهب إلى غير
النهاية، بل يكفي لعدم تناهي هذه المعاني نفس مراتب الأعداد، فإنك عرفت أن
مراتبها تبلغ إلى حد لا نهاية له، وكل مرتبة منها معنى كلي لها أفراد وحصص في
الخارج والواقع، مثلا: العاشر مرتبة منها، والحادي عشر مرتبة أخرى، والثاني
عشر مرتبة ثالثة.. وهكذا، ولكل واحدة منها في الخارج أفراد تنطبق عليها
انطباق الطبيعي على أفراده، والكلي على مصاديقه.
فما أفاده (قدس سره): من أن المعاني الكلية متناهية غير صحيح، على أن التفهيم بها
في جميع الموارد لا يخلو عن إشكال كما لا يخفى.
وكيف كان، فقد ظهر من جميع ما ذكرناه: أن الاشتراك ليس بواجب ولو
سلمنا إمكان وضع الألفاظ للمعاني غير المتناهية، لعدم تناهي الألفاظ أيضا.
وقد قيل باستحالة الاشتراك في اللغات، لمنافاته المصلحة الباعثة للواضع إلى
الوضع، وهي التفهيم والتفهم في مقام الحاجة، حيث إن إبراز المقاصد لا يمكن
في جميع الموارد إلا باللفظ، وأما غيره: كالإشارة أو نحوها فهو لا يفي بذلك في
المحسوسات فضلا عن المعقولات، وعليه فصار الوضع ضروريا لضرورة الحاجة
إلى التفهيم والتفهم، فالاشتراك بما أنه يخل بذلك الغرض ويوجب الإجمال في
المراد من اللفظ فهو محال صدوره من الواضع الحكيم، لكونه لغوا محضا.
225

وأجاب عنه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بوجهين:
الأول: أن إمكان التفهيم والتفهم من اللفظ المشترك بواسطة القرائن الواضحة
الدالة على المقصود من الواضحات، فإن اللفظ قد يدل على المقصود بنفسه، وقد
يدل عليه بواسطة القرائن، فاللفظ المشترك وإن لم يدل عليه بنفسه ولكنه يدل
عليه بواسطة ضم قرينة إليه، فلا يكون مخلا بغرض الوضع.
نعم، لو كان الاشتراك علة تامة للإخلال والإجمال بحيث لا يمكن الإفادة
والاستفادة معه مطلقا لتم ما أفاده القائل، إلا أن الأمر ليس كذلك.
الثاني: أنا نمنع كون الاشتراك يوجب الإخلال بغرض الوضع، فإن الغرض
كما يتعلق بالتفهيم والتفهم كذلك قد يتعلق بالإهمال والإجمال، فيلتجئ الواضع
إلى الاشتراك لتحصيل هذا الغرض (1).
التحقيق: أن ما أفاده (قدس سره) من إمكان الاشتراك وأنه لا يمتنع ولا يجب وإن
كان صحيحا إلا أنه إنما يتم على مسلك القوم في تفسير الوضع، فإنه على مسلك
من يرى أن حقيقة الوضع عبارة:
1 - عن اعتبار الواضع وجعله الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى
الموضوع له.
2 - أو جعله وجود اللفظ وجودا للمعنى تنزيلا.
3 - أو جعله اللفظ على المعنى في عالم الاعتبار، فلا مانع من الاشتراك
وتعدد الجعل، إذ الاعتبار خفيف المؤنة، ولا محذور في تعدده في اللفظ
الواحد أصلا.
وأما على ما نراه: من أن حقيقة الوضع التعهد والالتزام النفساني فلا يمكن
الاشتراك بالمعنى المشهور، وهو تعدد الوضع على نحو الاستقلال في اللفظ الواحد.

(1) كفاية الأصول: ص 52.
226

والوجه في ذلك: هو أن معنى التعهد - كما عرفت - عبارة عن تعهد الواضع
في نفسه بأنه متى ما تكلم بلفظ مخصوص لا يريد منه إلا تفهيم معنى خاص،
ومن المعلوم أنه لا يجتمع مع تعهده ثانيا بأنه متى ما تكلم بذلك اللفظ الخاص
لا يقصد إلا تفهيم معنى آخر يباين الأول، ضرورة أن معنى ذلك ليس إلا النقض
لما تعهده أولا.
أو فقل: إن الوضع على ما ذكرناه: عبارة عن ذلك التعهد المجرد عن الإتيان
بأية قرينة، وعليه فلا يمكن للواضع أن يجمع بين تعهدين كذلك أو أزيد في
لفظ واحد، فإن الثاني مناقض للأول، ولا يجتمع معه إلا أن يرفع يده عن الأول،
ويلتزم ثانيا بأنه متى ما تكلم بذلك اللفظ الخاص يقصد منه تفهيم أحد المعنيين
الخاصين.
فالذي يمكن من الاشتراك هو هذا المعنى، أعني به: رفع اليد عن التزام
الأول، والالتزام من جديد بأنه متى ما تكلم بذلك اللفظ فهو يريد منه تفهيم أحد
المعنيين على نحو الوضع العام والموضوع له الخاص.
نعم، في مقام الاستعمال لا بد من نصب قرينة على إرادة تفهيم أحدهما
بالخصوص، فإن اللفظ غير دال إلا على إرادة أحدهما لا بعينه، فهذا المعنى نتيجة
كالاشتراك اللفظي من ناحية تعدد الموضوع له وكون استعمال اللفظ في كل واحد
من المعنيين أو المعاني استعمالا حقيقيا ومحتاجا إلى نصب قرينة معينة. نعم،
الفرق بينهما من ناحية الوضع فقط، فإنه متعدد في الاشتراك بالمعنى المشهور
والمتنازع فيه، وواحد في الاشتراك على مسلكنا.
فالنتيجة: أن الاشتراك بالمعنى المعروف على مسلكنا غير معقول، وعلى
مسلك القوم لا بأس به. نعم، يمكن على مسلكنا ما تكون نتيجته نتيجة الاشتراك،
وهو الوضع العام والموضوع له الخاص، ولا مانع منه فإن الوضع فيه واحد،
227

ومحذور الامتناع إنما جاء في تعدد الوضع.
ثم لو قلنا بإمكان الاشتراك فلا مانع من وقوعه في كلام الفصحاء والبلغاء،
ومن استعمال اللفظ المشترك عند أهل المحاورة.
وقد يتوهم عدم إمكان استعماله في القرآن الحكيم، وذلك لأن الله تعالى: إما
أن يعتمد في بيان المراد منه على القرائن الدالة على ذلك فيلزم التطويل بلا طائل،
وإما أن لا يعتمد على شئ في ذلك فيلزم الإهمال والإجمال، وكلاهما غير لائق
بكلامه تعالى، ولكنه فاسد.
أما الأول: فلمنع لزوم التطويل بلا طائل إذا كان الاتكال على القرائن
الحالية، فإن القرائن لا تنحصر بالمقالية، ومنع كونه بلا طائل إذا كان الإتيان بها
لغرض آخر زائدا على بيان المراد.
وأما الثاني: فلمنع كون الإجمال غير لائق بكلامه تعالى، فإن الغرض قد
يتعلق بالإجمال والإهمال كما أخبر هو - تعالى وتقدس - بوقوعه في كلامه بقوله
عز من قائل: * (فيه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات) * (1)،
فالمتشابه هو المجمل، وقد وقع في القرآن العزيز في غير مورد، ولا مانع منه أصلا
إذا تعلق الغرض به ودعت الحاجة إلى الإتيان بذلك.
وأما الكلام في الجهة الثانية: فالمشهور بينهم أن منشأ الاشتراك الوضع،
تعيينا كان أو تعينا.
ولكن نقل شيخنا الأستاذ (2) (قدس سره) عن بعض مؤرخي متأخري المتأخرين: أن
المنشأ لحصول الاشتراك في اللغات خلط اللغات بعضها ببعض، فإن العرب
- مثلا - كانوا على طوائف: فطائفة منهم قد وضعت لفظا خاصا لمعنى مخصوص،
وطائفة ثانية قد وضعته لمعنى آخر، وطائفة ثالثة قد وضعته لمعنى ثالث..،

(1) آل عمران: 7.
(2) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 51.
228

وهكذا، ولما جمعت اللغات من جميع هذه الطوائف وجعلت لغة واحدة حدث
الاشتراك، وكذلك الحال في الترادف فإنه قد حصل من جمع اللغات، وإلا فالمعنى
كان يعبر عنه في كل لغة بلفظ واحد.
وعلى الجملة: فالمنشأ لوجود الاشتراك وتحققه في اللغة العربية وغيرها هو
جمع اللغات وخلط بعضها ببعض، وإلا فلا اشتراك في البين أصالة وبالذات.
وفيه: أن ما ذكره هذا القائل وإن كان ممكنا في نفسه إلا أن الجزم به مشكل
جدا، ولا سيما بنحو الموجبة الكلية، لعدم الشاهد عليه من الخارج، حيث إنه مما
لم ينقل في كتب التأريخ ولا غيره، ومجرد نقل مؤرخ حسب اجتهاده لا يكون
دليلا عليه بعد عدم نقل غيره إياه. بل ربما يبعد ذلك وقوع الاشتراك في الأعلام
الشخصية، فإن شخصا واحدا كالأب - مثلا - يضع لفظا واحدا لأولاده المتعددين
لمناسبة ما، كما نجد ذلك في أولاد الحسين (عليهم السلام)، فإنه (عليه السلام) قد وضع لفظ " علي "
لثلاثة من أولاده، فيكون كل واحد منهم مسمى بذلك اللفظ على نحو الاشتراك
فيه، والتمييز بينهم في مقام التفهيم كان بالأكبر والأوسط والأصغر.
وكيف كان، فلا يهمنا تحقيق ذلك وإطالة الكلام فيه بعد أن كان الاشتراك
ممكنا في نفسه، بل واقعا كما في أعلام الأشخاص، بل في أعلام الأجناس.
ونتيجة البحث عن الاشتراك أمور:
الأول: أن الاشتراك على مسلك القوم في الوضع ممكن، وعلى مسلكنا فيه
غير ممكن إلا على الوجه الذي قدمناه (1).
الثاني: أن استعمال اللفظ المشترك في القرآن جائز فضلا عن غيره.
الثالث: أن منشأ الاشتراك أحد أمرين: إما الوضع، أو الجمع بين اللغات على
سبيل منع الخلو.

(1) تقدم في ص 227 فراجع.
229

استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد
استعمال اللفظ
في أكثر من معنى واحد
يقع الكلام فيه من جهتين:
الأولى: في إمكان استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد.
الثانية: على تقدير إمكانه وجوازه فهل هذا الاستعمال على خلاف الظهور
العرفي أم لا؟
أما الكلام في الجهة الأولى: فقد اشتهر بين المتأخرين: عدم إمكان هذا
الاستعمال، وأنه مستحيل عقلا.
وقبل بيان ذلك وتحقيقه ليعلم أن محل النزاع هو في ما إذا استعمل لفظ واحد
في معنيين مستقلين بحيث يكون الإطلاق الواحد في حكم الإطلاقين،
والاستعمال الواحد في حكم الاستعمالين، ويكون كل واحد من المعنيين مرادا
على حياله واستقلاله.
ومن هنا يظهر: أن استعمال اللفظ الواحد في مجموع المعنيين بما هو كذلك
خارج عن محل البحث، لأنه في حكم الاستعمال الواحد في المعنى الواحد، بل
هو هو بعينه وإن كان مجازا فإن اللفظ لم يوضع بإزائه، كما أن استعماله في
أحدهما لا بعينه خارج عن محل النزاع. فمحل النزاع فيما إذا كان كل واحد من
المعنيين مرادا من اللفظ على سبيل الاستقلال والانفراد كما عرفت.
وبعد ذلك نقول: قد استدل شيخنا الأستاذ (1) (قدس سره) على استحالة استعمال اللفظ
في أكثر من معنى واحد بما ملخصه: إن حقيقة الاستعمال ليست إلا عبارة عن
إيجاد المعنى باللفظ وإلقائه إلى المخاطب خارجا، ومن هنا لا يرى المخاطب إلا

(1) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 51.
230

المعنى فإنه الملحوظ أولا وبالذات، واللفظ ملحوظ بتبعه وفان فيه، وعليه فلازم
استعمال اللفظ في المعنيين على نحو الاستقلال تعلق اللحاظ الاستقلالي بكل
واحد منهما في آن واحد كما لو لم يستعمل اللفظ إلا فيه. ومن الواضح أن النفس
لا تستطيع أن تجمع بين اللحاظين المستقلين في آن واحد، ولا ريب في أن
الاستعمال في أكثر من معنى واحد يستلزم ذلك، والمستلزم للمحال محال
لا محالة.
ويرده: أن الأمر ليس كما ذكره (قدس سره)، وذلك لأن النفس بما أنها جوهر بسيط
ولها صفحة واسعة تقتدر على أن تجمع بين اللحاظين المستقلين في صفحتها في
آن واحد، ويدلنا على ذلك أمور:
الأول: أن حمل شئ على شئ والحكم بثبوته له كقولنا: زيد قائم - مثلا -
يستدعي لحاظ كل من الموضوع والمحمول، والنسبة في آن واحد وهو آن
الحكم، وإلا لكان الحكم من النفس ممتنعا، ضرورة أن مع الغفلة لا يمكن الحكم
بثبوت شئ لشئ.
إذا لا مانع من الجمع بين اللحاظين المستقلين في آن واحد، فإن الحمل
والحكم دائما يستلزمان ذلك، كيف؟ فإن المتكلم حين الحكم لا يخلو: إما أن
يكون غافلا، وإما أن يكون ملتفتا إلى كل واحد من الموضوع والمحمول والنسبة،
ولا ثالث، وحيث إن الأول غير معقول فتعين الثاني. وهذا معنى استلزام الحمل
والحكم الجمع بين اللحاظين الاستقلاليين.
الثاني: قد يصدر عن شخص واحد فعلان أو أزيد في آن واحد ولو بأن يكون
أحدهما بآلة، والآخر بآلة أخرى، مثلا: الإنسان يشتغل لسانه بالكلام ويحرك يده
في آن واحد، ومن البين أن كلا منهما فعل اختياري مسبوق بالإرادة واللحاظ،
وعليه فالإتيان بفعلين في آن واحد لا محالة يستلزم لحاظ كل واحد منهما
231

بلحاظ استقلالي في آن كذلك.
الثالث: أنا إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدناها أنها تقتدر على تصور أمور
متضادة أو متماثلة بتصورات مستقلة في آن واحد، وهذا غير قابل للإنكار.
فقد أصبحت النتيجة من ذلك: أن اجتماع اللحاظين المستقلين مع تعدد
المعنى أمر واضح لا شبهة فيه.
وقد استدل المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) على امتناع ذلك بوجه آخر، واليك
نص بيانه:
إن حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى، بل جعله
وجها وعنوانا له، بل بوجه نفسه كأنه الملقى، ولذا يسري إليه قبحه وحسنه كما لا
يخفى، ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك إلا لمعنى واحد، ضرورة أن لحاظه هكذا
في إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر، حيث إن لحاظه كذلك لا يكاد
يكون إلا بتبع لحاظ المعنى فانيا فيه فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في
المعنون، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد مع
استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال؟
وبالجملة: لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجها لمعنيين
وفانيا في الاثنين إلا أن يكون اللاحظ أحول العينين، فانقدح بذلك امتناع
استعمال اللفظ مطلقا، مفردا كان أو غيره في أكثر من معنى بنحو الحقيقة
أو المجاز (1). انتهى.
ولا يخفى أن ما أفاده (قدس سره) إنما يتم على ما هو المشهور بين المتأخرين من أن
حقيقة الاستعمال ليست مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة تفهيم المعنى، بل إيجاد
للمعنى باللفظ، وجعل اللفظ فانيا في المعنى ووجها وعنوانا له. وعلى ذلك

(1) كفاية الأصول: ص 53.
232

فلا يمكن استعمال اللفظ في المعنيين على نحو الاستقلال، لأن لازمه فناء اللفظ
في كل واحد منهما في آن واحد وهو محال، كيف؟ فإن إفناءه في أحدهما وجعله
وجها وعنوانا له يستحيل أن يجتمع مع إفنائه في الآخر وجعله وجها وعنوانا له،
فاللفظ الواحد لا يعقل أن يكون وجودا لمعنيين مستقلين في زمن واحد، وهذا
مبتن على أن تكون حقيقة الوضع عبارة عن جعل وجود اللفظ وجودا تنزيليا
للمعنى، ولكن قد سبق بطلانه (1) مفصلا.
وأما بناء على مسلكنا: من أن حقيقة الوضع هي التعهد والالتزام النفساني
فلا مانع من ذلك، لأن الاستعمال ليس إلا فعلية ذلك التعهد وجعل اللفظ علامة
لإبراز ما قصده المتكلم تفهيمه، ولا مانع - حينئذ - من جعله علامة لإرادة المعنيين
المستقلين، فاللفظ على هذا المسلك لا يكون إلا علامة لإبراز ما في أفق النفس،
وهو - أي: ما في الأفق - قد يكون معنى واحدا فاللفظ علامة لإبرازه، وقد يكون
مجموع المعنيين، وقد يكون أحدهما لا بعينه، وقد يكون كل من المعنيين مستقلا.
ولا مانع من جعل اللفظ علامة على الجميع، فكما أنه يجوز أن يجعل علامة
لإرادة المجموع أو أحدهما فكذلك يجوز أن يجعل علامة لإرادة تفهيم كل واحد
منها على نحو الاستقلال والعموم الاستغراقي، إذ ليس شأن اللفظ على هذا إلا
علامة في مقام الإثبات. ولا محذور في جعل شئ واحد علامة لإرادة تفهيم
معنيين أو أزيد.
ومن هنا قد قلنا سابقا (2): إنه لا مانع من أن يراد بلفظ واحد تفهيم معناه
وتفهيم أنه عارف باللغة التي يتكلم بها.
فقد تحصل: أن الوضع على هذا المسلك لا يقتضي إلا التكلم بلفظ خاص عند
قصد المتكلم تفهيم معنى مخصوص في أفق النفس وجعله علامة لإبرازه

(1) تقدم في القول الثاني من مبحث حقيقة الوضع ص 47 - 48، فراجع.
(2) لم يعثر عليه في هذا الكتاب.
233

خارجا، وأما الفناء والوجه والعنوان كل ذلك لا يكون.
ومن هنا يظهر: أن تفسير الوضع باعتبار الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى
الموضوع له، أو بجعل اللفظ على المعنى في عالم الاعتبار أيضا لا يستدعي فناء
اللفظ في مقام الاستعمال.
نعم، تفسيره بجعل اللفظ وجودا للمعنى تنزيلا يقتضي ذلك، ولكن قد عرفت
فساده (1).
وأما الأصل المشهور بينهم، وهو: أن النظر إلى اللفظ آلي في مقام الاستعمال
والى المعنى استقلالي فقد سبق أنه لا أصل له. فالمتحصل من المجموع: أنه لا
مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
وأما الكلام في الجهة الثانية: فيقع البحث عن موافقة هذا الاستعمال للظهور
العرفي وعدمها، فلو وجدنا لفظا مشتركا خاليا عن القرينة التي تدل على إرادة
تفهيم بعض معانيه فهل نحمله على إرادة جميع المعاني، أو على إرادة البعض، أو
تحتاج إرادة كل واحد منهما إلى نصب قرينة تدل على ذلك؟
لا ريب في أن إرادة الجميع خلاف الظهور العرفي فلا يحمل اللفظ عليها إلا
مع نصب قرينة تدل على ذلك. هذا على مسلكنا في باب الوضع واضح، فإن
الاشتراك لا يعقل إلا برفع اليد عن التعهد الأول والالتزام بتعهد آخر، وهو قصد
تفهيم أحد المعنيين أو المعاني، فيكون المعنى الموضوع له اللفظ أحد المعنيين
أو المعاني، لا الجميع، وعليه فاستعماله في الجميع استعمال في غير الموضوع له،
وعلى خلاف التعهد والالتزام.
بل ولو قلنا بإمكان الاشتراك على هذا المسلك فأيضا الاستعمال المزبور
خلاف الظهور فلا يصار إليه بلا دليل، فإن المتفاهم العرفي من اللفظ عند إطلاقه

(1) تقدم في ص 47 - 48 فراجع.
234

إرادة معنى واحد، فإرادة المعنيين أو المعاني منه على خلافه، ولا فرق في ذلك
بين مسلك التعهد وغيره، فإن هذا الاستعمال مخالف للظهور على جميع
المسالك، سواء قلنا بأن الاستعمال في أكثر من معنى واحد استعمال حقيقي أو
أنه مجازي.
ولعل هذا هو مراد المحقق القمي (قدس سره) من اعتبار حال الوحدة في المعنى
الموضوع له (1)، يعني: أن المتفاهم عرفا من اللفظ عند الإطلاق إرادة معنى واحد
لا أزيد، وليس مراده من ذلك أخذ حال الوحدة في الموضوع له، ضرورة أن
فساده من الواضحات الأولية.
وعلى ذلك فإن استعمل اللفظ في معنيين أو أزيد ولم يؤت معه بقرينة تدل
على إرادة جميع المعاني أو خصوص معنى فاللفظ يصبح مجملا ولا يدل على
شئ. إذا فالمرجع هو الأصول العملية على اختلافها باختلاف الموارد. هذا فيما
إذا دار الأمر بين إرادة معنى واحد وإرادة الأكثر منه.
وأما إذا علم إرادة الأكثر ودار الأمر بين إرادة مجموع المعنيين على نحو
العموم المجموعي، أو إرادة كل واحد منهما على سبيل العموم الاستغراقي ولم
تكن قرينة على تعيين أحد الأمرين فقد قيل بلزوم حمل اللفظ على الثاني
تقديما للحقيقة على المجاز، ولكنه لا يتم فإنه لا وجه له حتى على القول بأن
الاستعمال في أكثر من معنى واحد على سبيل الاستغراق استعمال حقيقي، لما
عرفت من أن الاستعمال في أكثر من معنى واحد على خلاف الظهور العرفي وإن
كان الاستعمال استعمالا حقيقيا، وأصالة الحقيقة هنا غير جارية كما لا يخفى (2).

(1) انظر قوانين الأصول: ج 1 ص 63.
(2) هذا ينافي ما في أجود التقريرات، واليك نصه: (ثم إنه إذا قام قرينة على ذلك [أي: إرادة
أكثر من معنى] فإن علم كيفية الاستعمال فهو، وإن دار الأمر بين أن يراد من اللفظ مجموع
المعنيين على المجاز، أو كل واحد من المعنيين بنحو التعدد في الاستعمال فإن قلنا بأن
الاستعمال في أكثر من معنى حقيقة فلا بد من الحمل عليه تقديما لأصالة الحقيقة على
المجاز. وإن قلنا بمجازيته فلا محالة يكون اللفظ من المجملات، فينتهي الأمر إلى الأصول
العملية). انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 52.
235

وتظهر الثمرة بين الأمرين فيما لو كان لشخص عبدان كل منهما مسمى باسم
واحد " الغانم " - مثلا - فباعهما المالك فقال للمشتري: بعتك غانما بدرهمين،
ووقع النزاع بين البائع والمشتري في استعمال هذا اللفظ، وأنه هل استعمل فيهما
على سبيل المجموع ليكون ثمن العبدين درهمين أو على سبيل الاستغراق ليكون
ثمن كل منهما درهمين والمجموع أربعة دراهم؟ ففي مثل ذلك نرجع إلى أصالة
عدم اشتغال ذمة المشتري للبائع بأزيد من درهمين.
فتحصل من جميع ما ذكرناه: أن استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد جائز
ولا مانع منه أصلا. نعم، هو مخالف للظهور العرفي فلا يمكن حمل اللفظ عليه بلا
نصب قرينة ترشد إليه.
ثم إنه لا فرق في ذلك بين التثنية والجمع وبين المفرد، كما أنه لا فرق بين أن
يكون المعنيان حقيقيين أو مجازيين، أو أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا، فإن
الملاك في الجميع واحد جوازا ومنعا.
وما قيل، في بيان استحالة إرادة المعنى المجازي والمعنى الحقيقي معا: من أن
إرادة المعنى المجازي تحتاج إلى القرينة الصارفة عن إرادة المعنى الحقيقي وهي
مانعة عن إرادته ولا تجتمع معها (1) يندفع: بأن هذا إنما هو فيما إذا أراد المتكلم
خصوص المعنى المجازي، وأما إذا أراد المعنى المجازي والحقيقي معا على نحو
المجموع أو الجميع فيحتاج ذلك إلى القرينة الصارفة عن إرادة خصوص المعنى
الحقيقي، لا عن إرادته مع المعنى المجازي إذا كانت هناك قرينة تدل على ذلك.

(1) قاله الشهيد الأول في معالم الدين: ص 35، فراجع.
236

وكيف كان، فقد ظهر مما ذكرناه: أنه لا وجه لما ذكره صاحب المعالم (قدس سره) من
التفصيل بين التثنية والجمع وبين المفرد، حيث جوز إرادة الأكثر من معنى واحد
في التثنية والجمع دون المفرد، بل اختار (قدس سره) أن الاستعمال حقيقي في التثنية
والجمع، واستدل على ذلك: بأن التثنية في قوة تكرار المفرد مرتين، والجمع في
قوة تكراره مرات، فقولنا: " رأيت عينين " في قوة قولنا: " رأيت عينا وعينا "، وكما
يجوز أن يراد من العين الأول معنى ومن الثاني معنى آخر على نحو الحقيقة كذلك
يجوز أن يراد المعنيين من التثنية.
ومما يؤكد ذلك: صحة التثنية في الأعلام الشخصية كقولك: " زيدان " فإن
المراد منه فردان متغايران لا محالة (1).
وما ذكره: من أن الاستعمال حقيقي في التثنية والجمع لا يمكن المساعدة
عليه أصلا.
والوجه في ذلك: هو أن للتثنية والجمع وضعين: أحدهما للمادة. والآخر
للهيئة، وهي: الألف والنون، أو الواو والنون.
أما المادة: فهي موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن جميع الخصوصيات،
حتى الخصوصية اللا بشرطية.
وأما الهيئة: فهي موضوعة للدلالة على إرادة المتعدد من مدخولها، فحينئذ إن
أريد من المدخول - ككلمة العين - مثلا - في قولك: رأيت عينين - معنيان
كالجارية والباكية، أو الذهب والفضة بناء على ما حققناه من جواز استعمال اللفظ
في أكثر من معنى واحد فالهيئة الطارئة عليها تدل على إرادة المتعدد منهما،
ويكون المراد من قولنا: " عينان " حينئذ: فردان من الجارية وفردان من الباكية.
أو فردان من الذهب وفردان من الفضة، فالتثنية تدل على أربعة أفراد.
وهذا وإن كان صحيحا على ما ذكرناه إلا أنه أجنبي عن استعمال التثنية في

(1) انظر معالم الأصول: ص 30.
237

أكثر من المعنى الواحد، فإنه من استعمال المفرد في ذلك، والتثنية مستعملة في
معناه الموضوع له، وهو الدلالة على إرادة المتعدد من مدخولها. وهذا بعينه نظير:
ما إذا ثنى ما يكون متعددا من نفسه: كالعشرة - مثلا - أو للطائفة أو الجماعة أو
القوم إلى غير ذلك كقولنا: " رأيت طائفتين "، فكما أنه لم يذهب إلى وهم أحد أن
التثنية في أمثال هذه الموارد مستعملة في أكثر من معنى واحد فكذلك في المقام،
فلا فرق في ذلك بين المقامين أصلا، غاية الأمر: أن المفرد هنا استعمل في المتعدد
بالعناية دون هناك.
وكيف كان، فهذه الصورة غير مرادة لصاحب المعالم (قدس سره) يقينا، لأن التثنية فيها
لم تستعمل في أكثر من معنى واحد، فلا معنى حينئذ لكونها حقيقة.
وإن أريد من كلمة " العين " معنى واحد كالذهب - مثلا - لتدل الهيئة على إرادة
أكثر من طبيعة واحدة ففيه: أنه غير معقول، وذلك لما عرفت من أن للتثنية وضعين:
أحدهما: للهيئة، وهي تدل على إرادة المتعدد من المدخول.
والثاني: للمادة، وهي تدل على الطبيعة المهملة. إذا إن أريد بالمادة طبيعة
واحدة كالذهب - مثلا - فالهيئة تدل على إرادة المتعدد منه، ويكون المراد من
العينين: فردان من الذهب، وحيث إن المفروض في المقام إرادة طبيعة واحدة من
المدخول فالتثنية تفيد تكرارها بإرادة فردين منها، ومع هذا كيف تدل على تعدد
المدخول من حيث الطبيعة وليس هنا شئ آخر يكون دالا على إرادة طبيعة
أخرى كالفضة مثلا؟!
نعم، يمكن أن يؤول العين بالمسمى، ويراد من تثنيتها الفردان منه: كالذهب
والفضة أو نحوهما كما هو الحال في تثنية الأعلام الشخصية، إلا أنه أيضا ليس
من استعمال التثنية في أكثر من المعنى الواحد كما لا يخفى، مع أن هذا التأويل
مجاز بلا كلام ولا شبهة.
وقد تحصل من ذلك: أن تفصيل صاحب المعالم (قدس سره) باطل من أصله. فالصحيح
238

هو ما ذكرناه: من أنه يجوز الاستعمال في أكثر من معنى واحد بلا فرق في
ذلك بين التثنية والجمع وبين المفرد. نعم، هو خلاف الظهور العرفي.
ثم إن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بعد ما منع عن جواز الاستعمال في
المعنيين قال: وهم ودفع، لعلك تتوهم أن الأخبار الدالة على أن للقرآن بطونا
سبعة أو سبعين تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد فضلا عن
جوازه. ولكنك غفلت عن أنه لا دلالة لها أصلا على أن إرادتها كانت من باب
إرادة المعنى من اللفظ، فلعلها كانت بإرادتها في أنفسها حال الاستعمال في
المعنى، لا من اللفظ كما إذا استعمل فيها. أو كان المراد من البطون لوازم معناه
المستعمل فيه اللفظ وإن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها (1). انتهى.
ويرده: أنه لو كان المراد من البطون ما ذكره (قدس سره) أولا لم يكن ذلك موجبا
لعظمة القرآن على غيره ولفضيلته على سائر المحاورات، لإمكان أن يراد المعاني
بأنفسها حال التكلم بالألفاظ في غير المحاورات القرآنية، بل يمكن إرادتها كذلك
حال التكلم بالألفاظ المهملة فضلا عن الألفاظ الموضوعة، فمن هذه الجهة لا فرق
بين الكتاب وغيره، بل لا فرق بين اللفظ المهمل والموضوع فالكل سواء، ولا
فضل لأحدهما على الآخر.
على أن لازم ذلك أن لا تكون البطون بطونا للقرآن ومعاني له، بل كانت شيئا
أجنبيا عنه، غاية الأمر أنها أريدت حال التكلم بألفاظه، وكلا الأمرين مخالف
لصريح الروايات المشتملة على البطون، فهي كما نطقت بإثبات الفضيلة والعظمة
للقرآن على غيره من جهة اشتماله على ذلك كذلك نطقت بإضافة تلك البطون إليه،
وأنها معان للقرآن لا أنها شئ أجنبي عنه.
منها: " ما في القرآن آية إلا ولها ظاهر، ظهر وبطن... إلى آخره " (2).

(1) كفاية الأصول: ص 55.
(2) بحار الأنوار: ج 92 ص 78 ب 8 كتاب القرآن ح 47.
239

ومنها: " وإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه
شافع مشفع... إلى أن قال: وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق
وباطنه عميق، وله تخوم، وعلى تخومه تخوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى
غرائبه " (1) وما شاكلهما من الروايات (2) الكثيرة.
وأما ما ذكره (قدس سره) ثانيا: من أن المراد من البطون: لوازم معناه وملزوماته - من
دون أن يستعمل اللفظ فيها - التي لن تصل إلى إدراكها أفهامنا القاصرة إلا بعناية
من أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) الذين هم أهل القرآن فهو الصحيح.
وتدلنا على ذلك روايات كثيرة تبلغ حد التواتر إجمالا بلا ريب:
منها: " أن القرآن حي لم يمت، وأنه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما
تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا " (3).
ومنها: " أن القرآن حي لا يموت، والآية حية لا تموت، فلو كانت الآية إذا
نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين
كما جرت في الماضين " (4).
ومنها: " لو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك ماتت الآية لما بقي من
القرآن شئ، ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض،
ولكل قوم آية يتلونها، هم منها من خير أو شر " (5).
ومن هنا قد ورد في عدة من الروايات: أن الآية من القرآن إذا فسرت في
شئ فلا تنحصر الآية به، وهو كلام متصل ينصرف على وجوه. و " أن القرآن
ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه " (6). وهذا معنى: أن للقرآن بطونا

(1) مرآة الأنوار: ص 3، وتفسير البرهان: ج 1 ص 7.
(2) منها ما في تفسير العياشي: ج 1 ص 2، والبرهان: ج 1 ص 7.
(3) و (4) مرآة الأنوار: ص 3 - 4.
(5) المصدر السابق، وتفسير العياشي: ج 1 ص 10، والبرهان: ج 1 ص 7.
(6) مجمع البيان: ج 1 ص 13، وعوالي اللآلي: ج 4 ص 104.
240

لن تصل إليها أفهامنا القاصرة إلا بتوجيه من أهل البيت (عليهم السلام) كما وجهنا إليها
في بعض الموارد.
وقد دلت على ذلك المعنى روايات كثيرة واردة من طرق العامة والخاصة.
ومن أراد الاطلاع على مجموع هذه الروايات في جميع هذه الأبواب فليطلبها
من مصادرها.
وفي بعض الروايات إشارة إلى صغرى هذه الكبرى، وهو ما ورد: " أن القرآن
ظاهره قصة وباطنه عظة " (1)، فإنه في الظاهر بين قصص السابقين وقضاياهم:
كقصة بني إسرائيل وما شاكلها، ولكنها في الباطن عظة للناس وعبر ودروس لهم،
فإن التأمل في القضايا الصادرة عن الأمم السابقة دروس وعبر لنا. وينبهنا على أن
السير على منهاجه ينجينا عن الضلال، وأن الكفر بنعم الله تعالى يوجب السخط
على الكافرين والعاصين.
وعلى الجملة: أن قصص الكتاب في الظاهر وإن كانت حكايات وقصص إلا
أنها في الباطن دروس وعبر للناس.
فقد أصبحت نتيجة هذا البحث لحد الآن أمورا:
الأول: أن استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد جائز على مسلك من يرى
حقيقة الوضع التعهد والالتزام. نعم، هو خلاف الظهور عرفا.
الثاني: أن المراد من بطون القرآن: لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وملزوماته
وملازماته من دون استعمال اللفظ فيها على ما نطقت به الروايات من طرق
الخاصة والعامة.
الثالث: أن هذه البواطن التي تضمنها القرآن لا يعرفها إلا من خوطب به وأهل
بيته الطاهرين (عليهم السلام).
ومن هنا قد وقفنا على بعضها في بعض الموارد بواسطة الآثار المنقولة
عنهم (عليهم السلام).

(1) لم يعثر عليه في مظانه.
241

حول المشتق
الأمر الحادي عشر
في المشتق
لا ريب في صحة إطلاق المشتق على المتلبس بالمبدأ فعلا، وعلى المنقضي
عنه المبدأ، وعلى من لم يتلبس به بعد ولكنه سيتلبس به في المستقبل.
ولا إشكال أيضا في أن إطلاق المشتق على المتلبس بالمبدأ فعلا إطلاق
حقيقي، كما أنه لا إشكال في أن إطلاقه على من يتلبس بالمبدأ في المستقبل
إطلاق مجازي.
وإنما الكلام والإشكال في إطلاق المشتق على من انقضى وانصرم عنه المبدأ
هل هو مجاز أو حقيقية؟ وقبل تحقيق الحال في المقام ينبغي التنبيه على أمور:
الأول: أن اللفظ الموضوع لمعنى على قسمين:
أحدهما: ما يسمى بالمشتق، وهو ما كان لكل واحدة من مادته وهيئته وضع
خاص مستقل.
والثاني: ما يسمى بالجامد، وهو ما كان لمجموع من مادته وهيئته وضع
واحد لا وضعان.
أما المشتق فهو على قسمين:
أحدهما: ما يكون موضوعا لمعنى يجري على الذات المتصفة بالمبدأ بنحو
من أنحاء الاتصاف ويصدق عليها خارجا: كاسم الفاعل والمفعول والزمان
والمكان وما شاكل ذلك.
وثانيهما: ما يكون موضوعا لمعنى لا يجري على الذات ولا يصدق عليه
خارجا، وذلك كالأفعال جميعا والمصادر المزيدة، بل المصادر المجردة بناء على
ما هو الصحيح من أن المصادر المجردة أيضا مشتقات.
242

وأما الجامد فهو أيضا على قسمين:
أحدهما: ما يكون موضوعا لمعنى منتزع عن مقام الذات: كالإنسان والحيوان
والشجر والتراب ونحو ذلك.
وثانيهما: ما يكون موضوعا لمعنى منتزع عن أمر خارج عن مقام الذات،
وذلك كعنوان: الزوج والرق والحر وما شابه ذلك، فهذه أربعة أقسام، ومحل النزاع
في هذه المسألة لا يختص بالمشتقات المصطلحة فقط كما ربما يوهم عنوان النزاع
فيها، بل يعم القسم الثاني من الجوامد أيضا، كما أنه لا يعم جميع المشتقات، بل
يختص بخصوص القسم الأول منها.
فالنتيجة: أن محل البحث هنا في القسم الأول من المشتق والقسم الثاني من
الجامد، والقسمان الآخران خارجان عنه.
ومن هنا يظهر: أن النسبة بين المشتق في حريم البحث وكل من المشتق
المصطلح والجامد عموم من وجه، فإن الأفعال والمصادر المزيدة والمجردة
جميعا من المشتقات المصطلحة ومع ذلك هي خارجة عن محل النزاع. والعناوين
الانتزاعية كعنوان: الزوج والحر والرق وما شاكل ذلك من الجوامد ومع ذلك هي
داخلة في محل البحث.
فالنزاع يجري في كل عنوان جار على الذات باعتبار تلبسها بالمبدأ بنحو
من أنحائه، سواء أكان ذلك المبدأ من إحدى المقولات التسع الواقعية: كالكم
والكيف والأين وأشباه ذلك، أم كان من توابعها: كالشدة والضعف والسرعة
والبطء، أم كان من الاعتبارات: كالملكية والزوجية والحرية وما شابهها، أم كان
من الانتزاعيات: كالفوقية والتحتية والسابقية والمسبوقية والإمكان والوجوب
والامتناع وما شاكلها.
وقد تحصل من ذلك: أن دخول شئ في محل النزاع هنا يبتني على ركنين:
الركن الأول: أن يكون الشئ جاريا على الذات المتلبسة بالمبدأ ومتحدا
243

معها خارجا بنحو من الاتحاد، وبذلك الركن خرجت المصادر المزيدة، لأنها
لا تجري على الذات المتصفة بها، فإنها مغايرة معها خارجا وعينا. فلا يقال:
" زيد إكرام " إذا كان زيد متصفا بهذا المبدأ، بل يقال: " زيد كريم ". وكذا المصادر
المجردة لا يشملها النزاع، لعدم صحة حملها على الذات، فلا يقال: " زيد علم " إلا
مبالغة وإن قلنا بأنها من جملة المشتقات كما هو الصحيح. وهكذا الأفعال بجميع
أنواعها لا يجري فيها النزاع، لعدم جريانها على الذوات وإن كانت من المشتقات.
فتحصل: أن المصادر المزيدة والمجردة والأفعال بأجمعها خارجة عن محل
النزاع، لكونها فاقدة لهذا الركن.
الركن الثاني: أن تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ بأن تكون لها حالتان:
حالة تلبسها بالمبدأ، وحالة انقضاء المبدأ عنها، وبذلك الركن خرج القسم الأول
من الجوامد: كالإنسان والحيوان والشجر وما يضاهيها من العناوين الذاتية.
والوجه فيه: أن المبادئ في أمثال ذلك مقومة لنفس الحقيقة والذات،
وبانتفائها تنتفي الذات فلا تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ.
وبتعبير آخر: أن شيئية الشئ بصورته لا بمادته، فإذا فرضنا تبدل الإنسان
بالتراب أو الكلب بالملح فما هو ملاك الإنسانية أو الكلبية - وهو الصورة النوعية -
قد انعدم وزال، ووجدت حقيقة أخرى وصورة نوعية ثانية وهي: صورة النوعية
الترابية أو الملحية. ومن الواضح أن الإنسان أو الكلب لا يصدق على التراب
أو الملح بوجه من الوجوه، لأن الذات غير باقية وتنعدم بانعدام الصورة النوعية،
وهي: صورة الإنسانية أو الكلبية، ومع عدم بقاء الذات لا يشملها النزاع.
ولا معنى لأن يقال: إن الإطلاق عليها حقيقة أو مجاز.
وأما المادة المشتركة بين الجميع المعبر عنها ب‍ " الهيولي " وإن كانت باقية
إلا أنها قوة صرفة لإفاضة الصور عليها، وليست ملاكا لشئ من هذه العناوين، ولا
تتصف بالإنسانية أو الكلبية أو نحوها بحال من الأحوال.
244

وأما القسم الثاني من الجوامد - وهو: ما كان منتزعا عن أمر خارج عن مقام
الذات - فهو داخل في محل النزاع كعنوان: الزوج والرق والحر وما شاكل ذلك،
لأن الذات فيه باقية بعد انقضاء المبدأ عنها، وحينئذ يشمله النزاع في أن الإطلاق
عليها حال الانقضاء حقيقة أو مجاز.
ومما يشهد لما ذكرناه من عموم النزاع لهذا القسم من الجامد أيضا ما ذكره
فخر المحققين والشهيد الثاني - (قدس سرهما) - في الإيضاح والمسالك من ابتناء الحرمة في
المرضعة الثانية على النزاع في مسألة المشتق في من كانت له زوجتان كبيرتان
وزوجة صغيرة وقد أرضعت الكبيرتان الصغيرة، فتحرم عليه المرضعة الأولى،
لصدق أم الزوجة عليها، والصغيرة، لصدق بنت الزوجة عليها، وإنما الكلام
والإشكال في المرضعة الثانية فقد ابتنى الحرمة في هذه المسألة على النزاع في
مسألة المشتق (1)، فبناء على أنه موضوع للأعم يصدق عليه عنوان أم الزوجة
باعتبار أن المرتضعة كانت زوجة فتحرم، وبناء على أنه موضوع لخصوص
المتلبس فعلا لا يصدق عليها هذا العنوان بالفعل فلا تحرم (2).

(1) إيضاح الفوائد: ج 3 ص 53، ومسالك الأفهام: ج 1 ص 379.
245



(1) منها: صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أحدهما (عليهما السلام) عن رجل كانت له جارية فأعتقت
فزوجت فولدت، أيصلح لمولاها الأول أن يتزوج ابنتها؟ قال (عليه السلام): " لا، هي حرام، وهي ابنته،
والحرة والمملوكة في هذا سواء " (1).
ومنها: صحيحة ابن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يتزوج المرأة متعة
أيحل له أن يتزوج ابنتها؟ قال (عليه السلام): " لا " (2).
ومنها: موثقة غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه أن عليا (عليه السلام) قال: " إذا تزوج الرجل
المرأة حرمت عليه ابنتها إذا دخل بالام... الحديث " (3).
فالصحيحة الأولى صريحة في حكم المقام، وهو: حرمة بنت الزوجة التي ولدت متأخرة عن
زمان الزوجية، بل موردها خصوص ذلك. وأما الصحيحة الثانية والموثقة فهما تدلان على حكم
المقام بالإطلاق.
(1) وسائل الشيعة: ج 18 ص 458 ب 18 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح 2.
(2) المصدر السابق: ح 1 ص 457.
(3) المصدر السابق: ح 4 ص 459.
246



(1) النساء: 23.
(2) النساء: 23.
247



(1) سوف يأتي في مسألة الضد في (ج 3) من هذا الكتاب، فتأمل.
248



(1) وسائل الشيعة: ج 20 ص 402 - 403 ب 14 من أبواب ما يحرم بالرضاع ح 1.
249



(1) مسالك الأفهام: ج 7 ص 269.
(2) انظر معجم رجال الحديث: ج 9 ص 53.
(3) منهم: الشيخ المامقاني، والفاضل الجزائري في الحاوي، فراجع تنقيح المقال: ج 2 ص 91.
250



(1) انظر الكافي: ج 5 ص 446 ح 13، والتهذيب: ج 7 ص 293 ح 1232.
(2) وسائل الشيعة: ج 20 ص 390 - 400 ب 10 من أبواب ما يحرم بالرضاع ح 2.
(3) وسائل الشيعة: ج 14 ص 399 ب 10 من أبواب ما يحرم بالرضاع ح 1.
251

ثم إن النزاع في هذه المسألة في وضع الهيئة وفي سعة مفهوم الاشتقاقي
وضيقه من دون اختصاص لها بمادة دون مادة، فلا ينظر إلى أن المادة ذاتية أو
عرضية وبزوالها تنتفي الذات أو لا تنتفي فإن كل ذلك لا دخل له في محل النزاع.
نعم، المادة إذا كانت ذاتية لا يعقل فيها بقاء الذات مع زوال التلبس، لكن
الهيئة غير مختصة بها، بل تعم ما يعقل فيه بقاء الذات مع زوال التلبس، مثلا: المادة
في الناطق ذاتية ولكن الهيئة لا يختص وضعها بها، بل يعم غيرها كالقائم ونحوه،
وهكذا المادة في الحيوان فإنها ذاتية ولا يعقل بقاء الذات بدونها، إلا أن الهيئة
غير مختصة بها، بل تعم غيرها أيضا كالعطشان ونحوه، وهكذا...
وعلى الجملة: فالنزاع هنا يختص بوضع الهيئة فقط، وأنها موضوعة لمعنى

(1) وقال في الأجود في مقام الإيراد على الحكم ببطلان نكاح كليهما بمناط عدم إمكان
الجمع بين الام والبنت في الزوجية في زمان واحد ولو بقاء مع عدم المرجح في البين ما
هذا نصه:
(هذا يبتني على عدم إمكان الجمع بين الام والبنت في الزوجية ولو مع قطع النظر عن
حرمة أم الزوجة مؤبدا، وإلا ففي بطلان زوجية البنت نظر واضح). أجود التقريرات: ج 1
ص 54.
252

وسيع أو لمعنى ضيق، ولا ينظر إلى المادة والمبدأ أصلا، فلا فرق بين أن يكون
المبدأ ذاتيا أو عرضيا، فإن ذاتية المبدأ لا تضر بوضع الهيئة للأعم إلا إذا كان وضع
الهيئة مختصا بذلك المبدأ كما في العناوين الذاتية، حيث إن الوضع فيها شخصي
فلا يجري النزاع فيها.
فالنتيجة: أن الخارج عن البحث العناوين الذاتية من الجوامد، والأفعال
والمصادر من المشتقات.
ولشيخنا الأستاذ (قدس سره) في المقام كلام (1)، وهو: أن ما يكون المبدأ فيه
منتزعا عن مقام الذات ولا يحاذيه شئ في الخارج وكان من الخارج المحمول
كالعلة والمعلول والممكن وما يقابلانه من الواجب والممتنع خارج عن محل
البحث.
بتقريب: أن في أمثال هذه العناوين لا يعقل بقاء الذات وزوال التلبس فتكون

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 53.
253

كالعناوين الذاتية، فإن الإمكان - مثلا - منتزع عن مقام ذات الممكن وهو
الإنسان، لا عن أمر خارج عن مقام ذاته، وإلا فلازمه أن يكون الممكن في مرتبة
ذاته خاليا عن الإمكان ولا يكون متصفا به، وحينئذ لزم انقلاب الممكن إلى
الواجب أو الممتنع، لاستحالة خلو شئ عن أحد المواد الثلاث.
أو فقل: إن المواد الثلاث - أعني بها: الوجوب والإمكان والامتناع - وإن
كانت خارجة عن ذات الشئ وذاتياته، لأنها نسبة إلى وجود الشئ الخارج عن
مقام ذاته إلا أنها منتزعة عن ذلك المقام، فلا يعقل أن تخلو ماهية من الماهيات
عن إحدى هذه المواد الثلاث في حال من الأحوال، وهكذا العلية والمعلولية
فإنهما وإن كانتا خارجيتين عن مقام ذات العلة وذات المعلول إلا أنهما منتزعتان
عن نفس ذاتهما لا عن خارج مقام الذات، فلا يعقل زوال المادة مع بقاء الذات،
وإلا للزم اتصاف ذات العلة وذات المعلول بغيرهما، وهو كما ترى.
ولكن بالتأمل فيما ذكرناه يظهر الجواب عنه، وذلك لأن البحث في المشتق
- كما أشرنا إليه آنفا - إنما هو في وضع الهيئة فقط بلا اختصاص لها بمادة دون
مادة، لما تقدم سابقا (1): من أن وضع الهيئات نوعي لا شخصي، مثلا: هيئة
" فاعل " وضعت لمعنى، وهيئة " مفعول " وضعت لمعنى، وزنة " مفعل " - وهي: اسم
فاعل من باب الإفعال - وضعت لمعنى، وهكذا...
ومن الواضح أن عدم جريان النزاع في بعض أفراد الهيئة من جهة عدم إمكان
بقاء الذات فيها مع زوال المبدأ لا يوجب عدم جريانه في كلي الهيئة التي تعم ما
يعقل فيه بقاء الذات مع انقضاء المبدأ، ولا يكون البحث - حينئذ - من سعة مفهوم
هذه الهيئة وضيقه لغوا بعد ما كانت الذات باقية حال الانقضاء في جملة من المواد.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن النزاع في وضع هيئة " مفعل " وهيئة " فاعل "

(1) راجع الأمر الثامن: في علامات الحقيقة والمجاز.
254

وهيئة " مفعول "، ولا ريب أن هذه الهيئات لا تختص بالمواد التي لا يعقل فيها بقاء
الذات مع زوالها: كالممكن والواجب والممتنع والعلة والمعلول وما شاكل ذلك،
لئلا يجري النزاع فيها، بل تعم ما يمكن فيه بقاء الذات مع زوال التلبس وانقضاء
المبدأ عنها: كالمقيم والمنعم والقائم والضارب والمملوك والمقدور وأشباه ذلك.
ومن المعلوم أن عدم جريان النزاع في بعض الأفراد والمصاديق لا يوجب
لغوية النزاع عن الكلي بعد ما كانت الذات في أكثر مصاديقه قابلة للبقاء مع زوال
المادة.
نعم، لو كانت الهيئة في مثل لفظ " الممكن " وما يقابلانه موضوعة بوضع على
حدة لكان لما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) مجال واسع، وكان البحث عن سعة
مفهومهما وضيقه - حينئذ - لغوا محضا، إلا أن الأمر ليس كذلك، فإن الهيئة فيها
موضوعة في ضمن وضع لفظ جامع بينها وبين غيرها بوضع نوعي، وهو هيئة
" مفعل " مثلا.
فما أفاده شيخنا الأستاذ (1) (قدس سره) فيه خلط بين جريان النزاع في الهيئات
الخاصة والهيئات العامة التي لا يختص وضعها بمادة.
ومن جميع ما ذكرناه يستبين: أن الخارج عن البحث أمران:
أحدهما: العناوين الذاتية.
وثانيهما: الأفعال والمصادر.
ثم إنه قد يشكل في دخول هيئة اسم الزمان في محل النزاع، باعتبار أنها
فاقدة للركن الثاني الذي قد مر اعتباره في دخول شئ في محل البحث، وهو بقاء
الذات مع انقضاء المبدأ عنها، لأن الذات فيه - وهي الزمان - من الأمور المتقضية
والمتصرمة في الوجود آنا فآنا، فلا يعقل بقاؤها فيه مع زوال المبدأ عنها ليكون
داخلا في موضع النزاع. وأما إطلاق اسم الزمان في بعض الموارد: كإطلاق

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 53.
255

مقتل الحسين (عليه السلام) على اليوم العاشر من المحرم في كل عام فهو من باب التجوز
والعناية بلا إشكال.
وقد أجاب عنه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)، واليك نصه: (ويمكن حل
الإشكال: بأن انحصار مفهوم عام بفرد كما في المقام لا يوجب أن يكون وضع
اللفظ بإزاء الفرد دون العام، وإلا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة، مع أن
الواجب موضوع للمفهوم العام مع انحصاره فيه تبارك وتعالى) (1).
وتوضيحه: أن انحصار مفهوم كلي في فردين: أحدهما ممكن، والآخر ممتنع
لا يوجب عدم إمكان وضع اللفظ للكلي ليضطر إلى وضعه للفرد الممكن فإنه
يمكن ملاحظة المعنى الجامع بين الفردين ووضع اللفظ له، وما نحن فيه القبيل،
فإن انحصار مفهوم اسم الزمان في فرد لا يوجب وضعه له، بل يمكن ملاحظة
المفهوم العام ووضع اللفظ بإزائه، غاية الأمر: انحصاره في الخارج في فرد واحد
وهو الزمان المتلبس بالمبدأ بالفعل، وامتناع تحقق فرده الآخر وهو الزمان
المنقضي عنه المبدأ، ولا مانع من وضع لفظ للجامع بين الفرد الممكن والمستحيل
أصلا، وكم له من نظير.
ومن هنا وقع النزاع في وضع لفظ الجلالة " الله "، وأنه اسم للجامع أو علم
لذاته المقدسة، فلو لم يمكن الوضع للكلي بين الممكن والممتنع لم يصح النزاع
فيه، بل كان المتعين أنه علم لا اسم جنس، إذ لو كان من قبيل الثاني لكان الوضع
لا محالة للمعنى الجامع، مع أن بقية أفراده غير ذاته المقدسة ممتنعة، بل قال (قدس سره):
إن ذلك واقع في كلمة الواجب، فإنها موضوعة للمعنى الجامع مع استحالة سائر
أفراده غير ذاته تعالى.
ولا يخفى أن ما أفاده (قدس سره): من أنه لا مانع من وضع لفظ للمعنى الجامع بين
الفرد الممكن والممتنع صحيح، بل إنه لا مانع من وضع لفظ لخصوص الفرد الممتنع

(1) كفاية الأصول: ص 58.
256

كوضع لفظ بسيط للحصة المستحيلة من الدور أو التسلسل، أو لمفهوم اجتماع
النقيضين فضلا عن الوضع للجامع بين ما يمكن وما يستحيل كما هو الحال في لفظ
" الدور " و " التسلسل " و " الاجتماع " وما شاكل ذلك، فإن الجميع وضع للمفهوم
العام مع امتناع بعض أفراده في الخارج: كاجتماع النقيضين والضدين، وتوقف
العلة على المعلول المتوقف على علته، فإنه دور مستحيل والتسلسل فيما لا
يتناهى، وكثير من أفرادها ممكنة في الخارج: كدور الشئ حول نفسه، والتسلسل
فيما يتناهى وغيرهما.
وعلى الجملة: فلا شبهة في إمكان هذا الوضع على جميع المسالك في
تفسيره، وهذا واضح، ولكن وقوع مثل هذا الوضع متوقف على تعلق الحاجة
بتفهيم الجامع المزبور، وذلك لأن الغرض من الوضع التفهيم والتفهم في المعاني
التي تتعلق الحاجة بإبرازها كما في الأمثلة المذكورة، فإن الحاجة كثيرا ما تتعلق
باستعمال تلك الألفاظ في الجامع، بل تطلق كثيرا ويراد منها خصوص الفرد
المستحيل والحصة الممتنعة. وأما إذا لم تتعلق الحاجة بذلك كان الوضع له لغوا،
فلا يصدر عن الواضع الحكيم. ولما لم تكن حاجة متعلقة باستعمال اسم الزمان
في الجامع بين الزمان المنقضي عنه المبدأ والزمان المتلبس به فعلا كان الوضع له
لغوا، إذا يخرج عن مورد النزاع.
ومن هنا يظهر فساد قياس المقام باسم الجلالة الذي وقع الخلاف في أنه علم
لذاته المقدسة أو اسم جنس، وذلك لأن الحاجة تتعلق باستعمال لفظ الجلالة في
الجامع في مسألة البحث عن التوحيد وغيره، وهذا بخلاف اسم الزمان، فإن
الحاجة لا تتعلق باستعمال اللفظ في الجامع بين المنقضي والمتلبس، إذا كان
وضع اللفظ بإزائه لغوا.
وأما تمثيله لما وضع للجامع مع استحالة بعض أفراده بلفظ الواجب فهو
غريب، وذلك لأن الواجب بمعنى الثابت، وهو مفهوم جامع بين الواجب تعالى
وغيره، فإنه يصدق على كل موجود، فإن كل موجود واجب لا محالة.
257

نعم، إنه تعالى واجب لذاته، وغيره واجب بإرادته، والواجب لذاته وإن
كان منحصرا بالله تعالى إلا أن هذه الجملة لم توضع بوضع واحد ليكون من الوضع
للعام مع انحصار فرده في واحد.
وعلى الجملة: فلفظ الواجب مرادف لكلمة الثابت، فهو يصدق على الأمور
التكوينية والتشريعية، وبزيادة كلمة الوجود إليه يعم جميع الموجودات من
الواجب لذاته وبغيره، وبزيادة كلمة لذاته ينحصر بالله سبحانه فلا يشمل غيره، إلا
أن ذلك أجنبي عن وضع لفظ بإزاء جامع ينحصر بفرد، فإن الانحصار فيه من ضم
مفهوم إلى مفاهيم اخر، ومن باب تعدد المدلول بتعدد الدال.
والتحقيق في المقام: أن أسماء الأزمنة لم توضع بوضع على حدة في قبال
أسماء الأمكنة، بل الهيئة المشتركة بينهما - وهي هيئة " مفعل " - وضعت بوضع
واحد لمعنى واحد كلي، وهو ظرف وقوع الفعل في الخارج أعم من أن يكون
زمانا أو مكانا. وقد سبق أن النزاع إنما هو في وضع الهيئة بلا نظر إلى مادة دون
مادة، فإذا لم يعقل بقاء الذات في مادة مع زوالها لم يوجب ذلك عدم جريان
النزاع في الهيئة نفسها التي هي مشتركة بين ما يعقل فيه بقاء الذات مع انقضاء
المبدأ عنها وما لا يعقل فيه ذلك، وحيث إن الهيئة في محل البحث وضعت لوعاء
المبدأ الجامع بين الزمان والمكان كان النزاع في وضعها لخصوص المتلبس أو
الأعم نزاعا معقولا، غاية الأمر: أن الذات إذا كانت زمانا لم يعقل بقاؤها مع زوال
التلبس عن المبدأ، وإذا كانت مكانا يعقل فيه ذلك. وقد عرفت: أنه لا مانع من
وضع اللفظ للجامع بين الفرد الممكن والممتنع إذا تعلقت الحاجة بتفهيمه.
نعم، لو كانت هيئة اسم الزمان موضوعة بوضع على حدة لخصوص الزمان
الذي وقع فيه الفعل لم يكن مناص من الالتزام إلا بخروج اسم الزمان عن النزاع.
الأمر الثاني (1): قد سبق أن المصادر المزيد فيها، بل المصادر المجردة

(1) تابع للأمر الأول المتقدم ذكره في مقدمة هذا البحث.
258

والأفعال جميعا خارجة عن محل النزاع، لأنها غير جارية على الذوات.
أما المصادر فلأنها وضعت للدلالة على المبادئ التي تغاير الذوات خارجا،
فلا تقبل الحمل عليها (1).
وأما الأفعال فلأنها وضعت للدلالة على نسبة المادة إلى الذات على أنحائها
المختلفة باختلاف الأفعال، فالفعل الماضي يدل على تحقق نسبة المبدأ إلى
الذات، والفعل المضارع يدل على ترقب وقوع تلك النسبة، وفعل الأمر يدل على
طلب تلك النسبة. ومن المعلوم أن معانيها هذه تأبى عن الحمل على الذوات.
ثم إن المشهور بين النحويين دلالة الأفعال على الزمان، وقالوا: إن الفعل
الماضي يدل على تحقق المبدأ في الزمن السابق على التكلم، والمضارع يدل على
تحققه في الزمن المستقبل أو الحال، وصيغة الأمر تدل على الطلب في الزمان
الحال، ومن هنا قد زادوا في حد الفعل الاقتران بأحد الأزمنة الثلاثة، دون الاسم
والحرف.
ولكن الصحيح: عدم دلالتها على الزمان، والوجه في ذلك: هو أن كون الزمان
جزءا لمدلول الأفعال باطل يقينا، لأنها لا تدل عليه لا مادة ولا هيئة. أما بحسب
المادة فظاهر، لأنها لا تدل إلا على نفس الطبيعة المهملة غير مأخوذة فيها أية
خصوصية فضلا عن الزمان. وأما بحسب الهيئة فقد تقدم: أن مفادها نسبة المادة
إلى الذات على نحو من أنحاء النسبة، فالزمان أجنبي عن مفاد الفعل مادة وهيئة.
والحاصل: أن احتمال كون الزمان جزءا لمدلول الفعل فاسد في نفسه،
والقائلون بدلالته على الزمان لم يريدوا ذلك يقينا.
وأما احتمال كون الزمان قيدا لمداليل الأفعال بأن يكون معنى الفعل مقيدا به

(1) الظاهر أن هيئة اسم المصدر موضوعة للدلالة على قصد المعنى بما هو، من دون لحاظه
منتسبا إلى غيره من ناحية استعمال اللفظ فيه كما أن هيئة المصدر موضوعة للدلالة على
قصد المعنى بما أنه منتسب إلى فاعل ما، أو إلى مفعول ما. أجود التقريرات: ج 1 ص 61.
259

على نحو يكون القيد خارجا عنه والتقيد به داخلا فهو وإن كان أمرا ممكنا في
نفسه إلا أنه غير واقع، وذلك لأن دلالة الأفعال عليه لا بد أن تستند إلى أحد
أمرين: إما إلى وضع المادة، أو إلى وضع الهيئة. ومن الواضح أن المادة وضعت
للدلالة على نفس طبيعي الحدث اللابشرط، والهيئة وضعت للدلالة على تلبس
الذات به بنحو من أنحائه كما عرفت، وشئ منهما لا يدل عليه.
ومما يدلنا على ذلك: ما نرى من صحة إسناد الأفعال إلى نفس الزمان، والى
ما فوقه من المجردات الخالية عن الزمان، والخارجة عن دائرته من دون لحاظ
عناية في البين، فلا فرق بين قولنا: " علم الله " و " علم زيد " و " أراد الله " و " أراد
زيد " و " مضى الزمان " و " مضى الأمر الفلاني "، فالفعل في جميع هذه الأمثلة
استعمل في معنى واحد وعلى نسق فارد. فلو كان الزمان مأخوذا فيه قيدا لم يصح
إسناده إلى نفس الزمان بلا لحاظ تجريد، فإن الزمان لا يقع في الزمان، وإلا لدار
أو تسلسل.
وكذا لم يصح إسناده إلى ما فوق الزمان من المجردات، إذ أفعالها لا تقع في
الزمان، لأنها غير محدودة بحد، وما كان في الزمان محدود بحد لا محالة، وبهذا
يستكشف كشفا قطعيا عن أن الزمان غير مأخوذ في الفعل لا جزءا ولا قيدا.
نعم، الفعل المسند إلى الزماني وإن كان يدل على وقوع الحدث في أحد
الأزمنة الثلاثة إلا أنه ليس من جهة الوضع، بل من جهة أن الأمر الزماني لا بد
وأن يقع في أحد الأزمنة.
فتحصل: أن الأفعال لا تدل على الزمان، وأن استعمالها في جميع الموارد
على نحو الحقيقة، ولا فرق بين استعمالها في الزمان وما فوقه واستعمالها في
الزماني، فالإسناد في الجمع إسناد حقيقي. ولكن مع هذا كله يمتاز الفعل الماضي
عن المضارع بخصوصية ثابتة في كل واحد منهما، ولأجل تلك الخصوصية
لا يصح استعمال أحدهما في موضع الآخر، ويكون الاستعمال غلطا واضحا.
260

وتفصيل ذلك: أن الخصوصية في الفعل الماضي: هي أنه وضع للدلالة على
قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المادة مقيدا بكونه قبل زمان التكلم، وهذه الدلالة
موجودة في جميع موارد استعمالاته، سواء أكان الإسناد إلى نفس الزمن وما فوقه
أم إلى الزماني.
فقولنا: " مضى الزمان " يدل على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق الزمن قبل
زمن التكلم وإن كان الزمان لا يقع في زمن الزمان، وكذا قولنا: " علم الله " و " أراد
الله " وما شاكل ذلك يدل على أن المتكلم قاصد للإخبار عن تحقق المادة وتلبس
الذات بها قبل زمن التكلم، وإن كان صدور الفعل مما هو فوق الزمان لا يقع في
زمان.
وكذلك إذا أسند الفعل إلى الزماني كقولنا: " قام زيد " و " ضرب عمرو " فإنه
يدل على قصد المتكلم الإخبار عن تحقق المبدأ وتلبس الذات به قبل حال
التكلم، فهذه الخصوصية موجودة في الفعل الماضي في جميع موارد استعمالاته،
من دون دلالة له على وقوع المبدأ في الزمان الماضي.
نعم، بين الإسناد إلى الزماني والإسناد إلى غيره فرق من ناحية أخرى، وهي:
أن الإسناد إلى الزماني يدل بالالتزام على وقوع الحدث في الزمان الماضي، فهذه
الدلالة وإن كانت موجودة إلا أنها غير مستندة إلى أخذ الزمان في الموضوع له، بل
من جهة أن صدور الفعل من الزماني قبل حال التكلم يستلزم وقوعه في الزمان
الماضي لا محالة.
وأما الخصوصية في الفعل المضارع: فهي أنه وضع للدلالة على قصد المتكلم
الحكاية عن تحقق المادة في زمن التكلم أو ما بعده، ولا يدل على وقوعها في
الحال أو الاستقبال. كيف؟ فإن دلالته على ذلك في جميع موارد إسناده على حد
سواء، فلا فرق بين إسناده إلى الزمن وما فوقه كقولنا: " يمضي الزمان " و " يريد
الله " و " يعلم الله " وبين إسناده إلى الزماني. غاية الأمر: إذا أسند إلى الزماني يدل
261

على وقوع المبدأ في الزمن الحال أو الاستقبال بالالتزام من جهة أن الفاعل
الزماني يقع فعله في الزمن لا محالة، وإلا فالمضارع بوضعه لا يدل إلا على تحقق
المبدأ حال تحقق التكلم أو ما بعده، من دون أن يدل على وقوعه في الزمان.
وقد تحصل من ذلك أمران:
الأول: أن الأفعال جميعا لا تدل على الزمان، لا بنحو الجزئية ولا بنحو
القيدية، لا بالدلالة المطابقية ولا بالدلالة الالتزامية. نعم، إنها تدل عليه بالدلالة
الالتزامية إذا كان الفاعل أمرا زمانيا، وهذه الدلالة غير مستندة إلى الوضع، بل هي
مستندة إلى خصوصية الإسناد إلى الزماني، ولذا هذه الدلالة موجودة في الجمل
الاسمية أيضا إذا كان المسند إليه فيها زمانيا، فإذا قيل: " زيد قائم " فهو يدل على
قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المبدأ وتلبس الذات به في الخارج بالمطابقة،
وعلى وقوعه في أحد الأزمنة الثلاثة بالالتزام.
الثاني: أن كلا من الفعل الماضي والمضارع يدل على خصوصية بها يمتاز
أحدهما عن الآخر، وتلك الخصوصية مأخوذة في المعنى على نحو التقييد،
فيكون معنى الفعل الماضي تحقق المادة مقيدا بكونه قبل زمن التلفظ بنحو دخول
التقيد وخروج القيد، ومعنى المضارع تحقق المادة مقيدا بكونه في زمن التكلم
أو فيما بعده.
هذا كله فيما إذا كان الفعل مطلقا فيدل على تحقق المادة ونسبتها إلى الذات
قبل زمن التكلم أو مقارنا معه أو متأخرا عنه، ولكن قد يقيد بالسبق واللحوق أو
التقارن بالإضافة إلى شئ آخر غير التكلم، إذا لا يكون الماضي ماضيا حقيقة
والمستقبل مستقبلا كذلك، وإنما يكون ماضيا أو مستقبلا بالإضافة إلى شئ آخر،
كما في قولنا: " جاءني زيد قبل سنة " و " هو يضرب غلامه " فاللحوق أو التقارن
إنما يلاحظ في هذا المثال بالقياس إلى شئ آخر وهو المجئ، لازمن التلفظ،
و " يجئ زيد في شهر كذا " و " قد ضرب عمرا قبله بأيام " فالسبق هنا إنما يلاحظ
262

بالإضافة إلى شئ آخر وهو مجئ زيد، لا زمن التكلم.
وعلى الجملة: لا ريب في صحة استعمال الماضي والمضارع في هذه الموارد
في اللغة العربية وغيرها.
فقد ظهر أن الملاك في صحة استعمال الماضي جامع السبق، سواء أكان
بالإضافة إلى زمن التكلم أم كان بالإضافة إلى شئ آخر وإن كان الظاهر عند
الإطلاق خصوص الأول، والملاك في صحة استعمال المضارع جامع التقارن أو
اللحوق وإن كان الظاهر عند الإطلاق خصوص التقارن أو اللحوق بالإضافة إلى
زمن التكلم.
الأمر الثالث: أن مواد المشتقات ومبادئها تنقسم إلى أقسام:
منها: ما يكون من قبيل الأفعال الخارجية: كالقيام والقعود والركوع والسجود
والتكلم والمشي وما شاكل ذلك، ويكون الانقضاء فيها برفع اليد عن تلك الأفعال
ولو آنا ما.
ومنها: ما يكون من قبيل الملكة والقوة والاستعداد كما في المجتهد
والمهندس والمفتاح والمكنسة وما شاكل ذلك، والانقضاء فيها لا يكون إلا بزوال
القوة والملكة والاستعداد، فما دامت قوة الاستنباط موجودة في المجتهد أو
استعداد الفتح موجودا في المفتاح - مثلا - فالتلبس فعلي وغير زائل. نعم، إذا
زالت الملكة عن شخص - مثلا - كان صدق عنوان المجتهد عليه حقيقة داخلا في
محل الكلام.
ومنها: ما يكون من قبيل: الحرفة والصنعة كما في الخياط والبناء والبزاز
والحداد والنساج والتمار ونحو ذلك، ويكون التلبس بها بأخذ تلك المبادئ حرفة
أو صنعة له، فالبناء - مثلا - هو من اتخذ البناء حرفة له، والانقضاء في مثل ذلك
إنما يكون بترك هذه الحرفة، فما دام لم يتركها ولم يعرض عنها فالتلبس فعلي وإن
لم يشتغل بالبناء فعلا ففعلية التلبس بتلك المبادئ تدور مدار اتخاذها شغلا
263

وكسبا، وانتسابها إلى الذات، سواء أكان ذلك الانتساب انتسابا حقيقيا كما في
الخياط والنساج وما شاكلهما أم كان انتسابا تبعيا كما في البقال والبزاز والتامر
واللابن والحداد وأمثالها، لأن موادها ومبادئها من أسماء الأعيان. ومن المعلوم
أنها غير قابلة للانتساب إلى الذات حقيقة، فلا محالة يكون انتسابها إليها بتبع
اتخاذ الفعل المتعلق بها حرفة وشغلا، فمن اتخذ بيع التمر شغلا له صار التمر
مربوطا به تبعا، ومن اتخذ بيع اللبن شغلا صار اللبن مربوطا به، وهكذا...
ثم إن كون التلبس بالمادة على نحو القوة والاستعداد قد يكون من جهة أن
المادة موضوعة لذلك كما في الاجتهاد ونحوه، وقد يكون من جهة استفادة ذلك
من الهيئة كما في المكنسة والمفتاح فإن المادة فيهما - وهي الفتح والكنس -
ظاهرة في الفعلية، لا في القابلية والاستعداد، ولكن الهيئة فيها موضوعة لإفادة
تلبس الذات بها شأنا واستعدادا، فالمفتاح والمكنسة موضوعان لما من شأنه
الفتح والكنس لا للمتلبس بالفتح أو الكنس فعلا.
ومن هنا يصدق لفظ المفتاح حقيقة على كل ما فيه قابلية للفتح ولو لم يقع
الفتح به خارجا، فما دامت القابلية موجودة فالتلبس فعلي، ويكون الانقضاء فيها
بزوال القابلية عنه ولو بانكسار بعض أسنانه، فبناء على القول بكون المشتق
موضوعا للمعنى الجامع بين الذات المنقضية عنه المبدأ والمتلبسة به فعلا يصدق
عليه أنه مفتاح على نحو الحقيقة. وعلى القول بكونه موضوعا للمتلبس به فعلا لا
يصدق عليه إلا مجازا.
ومما ذكرناه يستبين أن اختلاف المواد في المشتقات لا دخل له في محل
البحث أصلا، فإن النزاع إنما هو في وضع الهيئات للمشتقات، وأنها موضوعة
للمعنى الجامع أو للحصة الخاصة منه، بلا نظر إلى وضع موادها، وأنها ظاهرة
في الفعلية، أو في القابلية والملكة، أو الحرفة والصنعة، ففي جميع ذلك يجري
النزاع، غاية الأمر: أن الانقضاء في كل مورد بحسبه. ومن هنا كان اختلاف المواد
264

من هذه الناحية موجبا لاختلاف زمن التلبس طولا وقصرا كما عرفت.
وبذلك يظهر فساد ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره): من خروج أسماء الآلة
وأسماء المفعولين عن محل النزاع تبعا لصاحب الفصول (1) (قدس سره): بتقريب أن الهيئة
في أسماء الآلة - كما عرفت - قد وضعت للدلالة على القابلية والاستعداد، وهذا
الصدق حقيقي وإن لم يتلبس الذات بالمبدأ فعلا.
وأما أسماء المفعولين: فلأن الهيئة فيها وضعت لأن تدل على وقوع المبدأ
على الذات، وهذا المعنى مما لا يعقل فيه الانقضاء، لأن ما وقع على الذات كيف
يعقل انقضاؤه عنها؟ ضرورة أن الشئ لا ينقلب عما وقع عليه، والمفروض أن
الضرب قد وقع عليها، فدائما يصدق أنها ممن وقع عليه الضرب، إذا لا يفرق في
صدق المشتق بين حال التلبس والانقضاء، ففي كلا الحالين على نسق واحد بلا
عناية في البين، بل لا يتصور فيه الانقضاء كما مر (2).
وجه الظهور: أن الهيئة في الآلة إذا دلت على قابلية الذات للاتصاف بالمادة
شأنا فما دامت القابلية موجودة كان التلبس فعليا وإن لم تخرج المادة عن القابلية
إلى الفعلية أصلا، فالمفتاح يصدق على ما من شأنه الفتح وإن لم يتلبس به أبدا.
وعليه فانقضاء التلبس إنما يكون بسقوطها عن القابلية كما لو انكسر بعض
أسنانه مثلا، ومعه كان الصدق على نحو الحقيقة بناء على الأعم، وعلى نحو المجاز
بناء على الوضع لخصوص المتلبس.
فما أفاده (قدس سره) مبتن على الخلط بين شأنية الاتصاف بالمبدأ وفعليته به، وتخيل
أن المعتبر في التلبس إنما هو التلبس بالفعل بالمبدأ.
وأما أسماء المفعولين فلأن ما ذكره (قدس سره) في وجه خروجها عن محل النزاع
عجيب!

(1) الفصول الغروية ج 1 ص 60.
(2) أجود التقريرات ج 1 ص 83.
265

والوجه في ذلك: هو أنه لو تم ما ذكره لجرى ذلك في أسماء الفاعلين أيضا،
فإن الهيئة فيها موضوعة لأن تدل على صدور الفعل عن الفاعل، ومن المعلوم أنه
لا يتصور انقضاء الصدور عمن صدر عنه الفعل خارجا، لأن الشئ لا ينقلب عما
وقع عليه، والمبدأ الواحد كالضرب - مثلا - لا يتفاوت حاله بالإضافة إلى الفاعل
أو المفعول، غاية الأمر أن قيامه بأحدهما قيام صدوري، وبالآخر قيام وقوعي.
وحل ذلك: أن أسماء المفعولين كأسماء الفاعلين وضعت للمفاهيم الكلية،
لما تقدم منا: من أن الألفاظ وضعت بإزاء المعاني التي هي قابلة للانطباق على ما
في الخارج تارة، وعلى ما في الذهن أخرى، لا بإزاء الموجودات الخارجية، لأنها
غير قابلة لأن تحضر في الأذهان، ومن هنا قد يكون للموضوع له مطابق في
الخارج وقد لا يكون له مطابق فيه، فالمضروب - مثلا - قد يكون موجودا، وقد
يكون معدوما، وهكذا الحال في سائر الألفاظ، فالنزاع هنا في أن اسم الفاعل أو
اسم المفعول موضوع لمعنى لا ينطبق إلا على خصوص المتلبس أو للأعم منه
ومن المنقضي.
وعلى الجملة: لا نجد فرقا بين اسم الفاعل والمفعول. فكما أن النزاع يجري
في هيئة اسم الفاعل وأنها وضعت لمفهوم كان مطابقه في الخارج فردا واحدا وهو
خصوص المتلبس بالمبدأ فعلا، أو فردين: أحدهما المتلبس والآخر المنقضي
فكذلك يجري في هيئة اسم المفعول، وأنها وضعت لمعنى كان مطابقه في الخارج
فردا واحدا أو فردين، مثلا: لو فرض أن زيدا كان عالما بقيام عمرو ثم زال عنه
العلم به فكما أن النزاع جار في صحة إطلاق العالم على زيد وعدم صحة إطلاقه
إلا مجازا فكذلك النزاع جار في صحة إطلاق المعلوم على قيام عمرو وعدم صحة
إطلاقه عليه إلا على نحو المجاز، ضرورة أنه لا فرق بين الهيئتين هنا أصلا، فإن
المبدأ في كلتيهما واحد، والمفروض أن ذلك المبدأ قد زال، وبزواله كان إطلاق
العالم على زيد، وإطلاق المعلوم على قيام عمرو من الإطلاق على المنقضي
266

عنه المبدأ لا محالة.
الأمر الرابع: أن المراد من الحال المأخوذ في عنوان المسألة ليس زمن
النطق يقينا، ضرورة عدم دلالة الأوصاف المشتقة عليه، ولا على غيره من
الماضي أو المستقبل، لا بنحو الجزئية ولا بنحو القيدية، فحالها من هذه الجهة
كحال أسماء الأجناس، فكما أنها لا تدل على زمان خاص فكذلك تلك.
ومن هنا لا تجوز في قولنا: " زيد كان قائما بالأمس " أو " زيد سيكون
ضاربا " ونحو ذلك. كما أنه لا تجوز في قولنا: " زيد كان إنسانا " أو " سيكون
ترابا " إلى غير ذلك، فلو كان زمن النطق داخلا في مفهومها لزم التجوز في هذه
الأمثلة لا محالة.
وكذا لا دلالة فيها على أحد الأزمنة الثلاثة أيضا، وذلك لأن تلك الأوصاف
كما تستند إلى الزمانيات كذلك تستند إلى نفس الزمان والى ما فوقه من
المجردات، مع أنه لا يعقل أن يكون للزمان زمان، وكذا للمجردات، والإسناد
في الجميع على نسق واحد، ولو كان خصوص زمان أو أحد الأزمنة داخلا في
مفهومها لكان إسنادها إلى نفس الزمان وما فوقه محتاجا إلى لحاظ عناية
وتجريد.
نعم، إذا أسندت إلى الزمانيات تدل على أن تلبس الذات بالمبدأ واقع في
أحد الأزمنة، وهذا لا من جهة أن الزمان مأخوذ في مفهومها جزءا أو قيدا، بل من
جهة أن قيام الفعل بالفاعل الزماني لا يكون إلا في الزمان، فوقوعه في أحد
الأزمنة مما لا بد منه.
ومن هنا يظهر أن المراد من الحال ليس زمن النطق والتكلم ولا أحد الأزمنة
الثلاثة، بل المراد منه: فعلية تلبس الذات بالمبدأ، إذا مرجع النزاع إلى سعة
المفاهيم الاشتقاقية وضيقها، بمعنى: أن المشتقات هل هي موضوعة للمفاهيم التي
مطابقها في الخارج خصوص الذات حال تلبسها بالمبدأ، أو الأعم من ذلك ومن
267

حال الانقضاء؟
فبناء على القول بالأعم كانت مفاهيمها قابلة للانطباق خارجا على فردين
هما: المتلبس فعلا والمنقضي عنه المبدأ. وعلى القول بالأخص كانت مفاهيمها
غير قابلة للانطباق إلا على فرد واحد، وهو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلا.
وأما ما يقال: من أن الظاهر من إطلاق المشتقات وحملها على شئ هو
فعلية تلبس الذات بالمبدأ حين النطق والتكلم فإن الظاهر من قولنا: " زيد قائم "
كونه كذلك بالفعل وفي زمان النطق، فلا معنى للنزاع في كون المشتق موضوعا
للأعم أو للأخص بعد التسالم على أن المرجع في تعيين مداليل الألفاظ ومفاهيمها
هو فهم العرف، والمفروض أن المتفاهم عندهم من الإطلاق والحمل هو
خصوص المتلبس بالمبدأ فعلا حين التكلم، فهو وإن كان صحيحا بالإضافة إلى
الاستظهار من الإطلاق إلا أنه لا يستلزم بطلان النزاع في المقام، فإن الظهور من
جهة الإطلاق يختص بموارد الحمل وما بحكمه، ولا يعم جميع الموارد كما إذا
قيل: " لا تكرم الفاسق " أو " لا تهن العالم " ونحو ذلك، فيقع البحث في أن موضوع
الحكم هو خصوص المتلبس بالمبدأ أو للأعم منه ومن المنقضي.
فتحصل مما ذكرناه: أن المراد بالحال: هو فعلية التلبس بالمبدأ لا حال النطق،
ولذا صح إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبس وإن لم يكن ذلك زمان النطق.
الأمر الخامس: ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): أنه لا أصل في المقام ليعول
عليه عند الشك في تعيين الموضوع له، وأنه المعنى الوسيع أو المعنى الضيق بعد
عدم تمامية الأدلة على تعيين الوضع لأحدهما (1)، بتقريب: أن أصالة عدم ملاحظة
الواضع الخصوصية في الموضوع له عند وضعه معارضة بأصالة عدم ملاحظته
العموم والإطلاق فيه، لأن المفاهيم في حد مفهوميتها متباينات، فإذا دار الأمر
بين الوضع لمفهوم عام أو لمفهوم خاص فكما يحتمل لحاظ الأول عند الوضع

(1) انظر كفاية الأصول: ص 63.
268

فكذلك يحتمل لحاظ الثاني، وحيث إن كل واحد من اللحاظين حادث مسبوق
بالعدم فجريان الأصل في أحدهما معارض بجريانه في الآخر. هذا مضافا إلى
عدم جريانه في نفسه، لأن أصالة عدم لحاظ الخصوصية لا تثبت الوضع للأعم إلا
على القول باعتبار الأصل المثبت، وكذا العكس. وعليه فتنتهي النوبة إلى الأصول
الحكمية.
وذكر في الكفاية: أن هذه الأصول تختلف باختلاف الموارد، فالموارد التي
يشك فيها في حدوث الحكم بعد زوال العنوان الذي اخذ في الموضوع يرجع فيها
إلى أصالة البراءة، كما إذا فرضنا أن زيدا كان عالما ثم زال عنه العلم وبعد ذلك
ورد في الدليل " أكرم كل عالم " فشككنا في وجوب إكرام " زيد " لاحتمال كون
المشتق موضوعا للأعم.
وأما الموارد التي يشك فيها في بقاء الحكم بعد حدوثه وثبوته فالمرجع
فيها هو الاستصحاب، وذلك كما لو كان زيد عالما وأمر المولى بوجوب " إكرام كل
عالم " ثم بعد ذلك زال عنه العلم وأصبح جاهلا فلا محالة نشك في بقاء الحكم،
لاحتمال كون المشتق موضوعا للأعم، إذا نستصحب بقاءه (1).
لا يخفى أن ما أفاده (قدس سره) أولا: من أنه لا أصل هنا ليعول عليه عند الشك في
الوضع للمفهوم الوسيع أو الضيق فهو صحيح، لما عرفت.
وأما ما أفاده (قدس سره) ثانيا: من أنه لا مانع من الرجوع إلى الأصل الحكمي في
المقام، وهو أصالة البراءة في موارد الشك في الحدوث، والاستصحاب في موارد
الشك في البقاء فلا يمكن المساعدة عليه، وذلك لأنه لا فرق بين موارد الشك في
الحدوث وموارد الشك في البقاء، ففي كلا الموردين كان المرجع هو أصالة البراءة
دون الاستصحاب.

(1) كفاية الأصول: ص 63.
269

أما في موارد الشك في حدوث التكليف فالأمر واضح.
وأما في موارد الشك في البقاء فبناء على ما سلكناه في باب
الاستصحاب (1): من عدم جريانه في الشبهات الحكمية خلافا للمشهور فالأمر
أيضا واضح، فإن الاستصحاب فيها دائما معارض باستصحاب عدم سعة
المجعول، وبالتعارض يتساقط الاستصحابان لا محالة.
وأما على المسلك المشهور من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية
فالاستصحاب لا يجري في المقام أيضا، وذلك لاختصاص جريانه بما إذا كان
المفهوم فيه متعينا ومعلوما من حيث السعة والضيق، وكان الشك متمحضا في سعة
الحكم المجعول وضيقه، كما لو شككنا في بقاء حرمة وطئ الحائض بعد انقطاع
الدم وقبل الاغتسال فالمرجع فيه هو استصحاب بقاء الحرمة إلى أن تغتسل، أو لو
شككنا في بقاء نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره، أو في بقاء نجاسة الماء المتمم
كرا بناء على نجاسة الماء القليل بالملاقاة، فالمرجع في جميع ذلك هو
استصحاب بقاء الحكم، وبه يثبت سعته.
وأما فيما لا يتعين مفهوم اللفظ ومعناه، وهو المعبر عنه بالشبهة المفهومية فلا
يجري الاستصحاب فيه، لا حكما ولا موضوعا.
أما الأول: فلما ذكرناه (2) في بحث الاستصحاب: من اعتبار وحدة القضية
المتيقنة مع المشكوك فيها موضوعا ومحمولا في جريان الاستصحاب، ضرورة
أنه لا يصدق نقض اليقين بالشك مع اختلاف القضيتين موضوعا أو محمولا،
وحيث إن في موارد الشبهات المفهومية لم يحرز الاتحاد بين القضيتين لا يمكن
التمسك بالاستصحاب الحكمي، فإذا شك في بقاء وجوب صلاة العصر، أو الصوم
بعد استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة المشرقية عن قمة الرأس من جهة الشك

(1) راجع مصباح الأصول: ج 3 ص 36.
(2) المصدر السابق: ص 234.
270

في مفهوم المغرب وأن المراد به هو الاستتار أو ذهاب الحمرة: فعلى الأول كان
الموضوع - وهو جزء النهار - منتفيا، وعلى الثاني هو كان باقيا، وبما أنا لم نحرز
بقاء الموضوع فلم نحرز الاتحاد بين القضيتين، وبدونه لا يمكن جريان
الاستصحاب.
وأما الثاني: وهو استصحاب بقاء الموضوع فلعدم الشك في انقلاب حادث
زماني ليحكم ببقاء المتيقن، إذ مع قطع النظر عن وضع اللفظ وتردد مفهومه بين
السعة والضيق ليس لنا شك في أمر خارجي، فإن استتار القرص عن الأفق حسي
معلوم لنا بالعيان، وذهاب الحمرة غير متحقق كذلك، فماذا يكون هو المستصحب؟
وبعبارة واضحة: أن المعتبر في الاستصحاب أمران: اليقين السابق، والشك
اللاحق مع اتحاد المتعلق فيهما، وهذا غير متحقق في الشبهات المفهومية، فإن كلا
من الاستتار وعدم ذهاب الحمرة متيقن، فلا شك، وإنما الشك في بقاء الحكم،
وفي وضع اللفظ لمعنى وسيع أو ضيق، وقد عرفت أن الاستصحاب بالنسبة إلى
الحكم غير جار، لعدم إحراز بقاء الموضوع، وأما بالإضافة إلى وضع اللفظ فقد
تقدم: أنه لا أصل يكون مرجعا في تعيين السعة أو الضيق.
وما نحن فيه من هذا القبيل بعينه، فإن الشبهة فيه مفهومية والموضوع له مردد
بين خصوص المتلبس أو الأعم منه ومن المنقضي فالاستصحاب لا يجري في
الحكم، لعدم إحراز اتحاد القضية المتيقنة مع المشكوكة، وقد مر أن الاتحاد مما
لا بد منه في جريان الاستصحاب.
مثلا: العالم بما له من المعنى موضوع للحكم، وحيث إنه مردد بين أمرين:
المتلبس بالمبدأ والأعم فالتمسك باستصحاب بقاء الحكم غير ممكن، للشك
في بقاء موضوعه.
وكذلك لا يجري الاستصحاب بالنسبة إلى الموضوع، لعدم الشك في شئ
خارجا، مع قطع النظر عن وضع المشتق وتردد مفهومه بين الأعم والأخص.
271

وقد عرفت أن المعتبر في جريان الاستصحاب أمران: اليقين السابق، والشك
اللاحق مع وحدة متعلقهما في الخارج، والشك في مقامنا غير موجود، فإن تلبس
زيد - مثلا - بالمبدأ سابقا وانقضاء المبدأ عنه فعلا كلاهما متيقن، فلا شك في شئ،
وإنما الشك في وضع المشتق وبقاء الحكم. أما بالنسبة إلى وضع المشتق فقد
عرفت أنه لا أصل يرجع إليه في تعيين مفهوم اللفظ ووضعه سعة أو ضيقا.
وتوهم جريان الأصل في بقاء الموضوع بوصف موضوعيته فإنه مشكوك
فيه مدفوع: بأنه عبارة أخرى عن جريان الأصل في بقاء الحكم، وقد عرفت عدم
جريانه فيه.
فالنتيجة: أن الاستصحاب في الشبهات المفهومية ساقط ولو قلنا بجريان
الاستصحاب في الشبهات الحكمية فيما إذا كان الشك في سعة المجعول وضيقه.
وقد أشار شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في آخر بحث الاستصحاب (1) في
مسألة اشتراط بقاء الموضوع فيه إلى هذا المعنى، وهو: عدم جريان الاستصحاب
في موارد الشبهات المفهومية.
فقد أصبحت النتيجة: أن المرجع في كلا الموردين هو أصل البراءة.
فما ذكره المحقق صاحب الكفاية (2) (قدس سره) من الفرق بين الموردين وأن
المرجع في المورد الثاني هو الاستصحاب دون البراءة غير صحيح.
نستنتج مما ذكرناه حول المشتق لحد الآن عدة أمور:
الأول: أن محل البحث لا يعم جميع المشتقات، بل يخص بعضها ويعم بعض
أصناف الجوامد، وهو ما كان مفهومه منتزعا عن أمر خارج مقام ذاته.
الثاني: أن ملاك دخول شئ في محل البحث أن يكون واجدا لركيزتين:

(1) انظر فرائد الأصول: ج 2 ص 691.
(2) كفاية الأصول: ص 63.
272

1 - أن يكون قابلا للحمل على الذات ولا يأبى عنه.
2 - أن تبقى الذات بعد انقضاء المبدأ عنها، فإذا اجتمعت هاتان الركيزتان
في شئ دخل في محل البحث، وإلا فلا.
الثالث: أن محل النزاع هنا يتمحض في وضع هيئات المشتقات وسعة معانيها
وضيقها، بلا نظر إلى موادها أصلا، واختلافها لا يوجب الاختلاف في محل
البحث كما تقدم.
الرابع: أن الأفعال جميعا لا تدل على الزمان حسب وضعها. نعم، إذا أسندت
إلى الزماني دلت على وقوع الحدث في زمن ما، إلا أن هذه الدلالة خارجة عن
مداليها، ومستندة إلى خصوصية أخرى كما سبق.
الخامس: أن نقاط الميز بين الأفعال بعد خروج الزمان عن مداليلها: هي أن
الفعل الماضي يدل على تحقق الحدث قبل زمن التكلم. والمضارع يدل على
تحقق الحدث في زمن التكلم أو ما بعده. والأمر يدل على الطلب حال التلفظ،
فهذه النقاط هي النقاط الرئيسية للفرق بينها، وهي توجب تعنون كل واحد منها
بعنوان خاص واسم مخصوص، وتمنع عن صحة استعمال أحدها في موضع
الآخر، وموجودة في جميع موارد استعمالاتها كما مر بيانه.
السادس: أن المراد من الحال المأخوذ في عنوان المسألة هو فعلية تلبس
الذات بالمبدأ، لا زمان النطق، كما سبق من أن الزمان مطلقا، سواء أكان زمان
النطق أم غيره لم يؤخذ في مفاهيم المشتقات.
السابع: أنه لا أصل موضوعي يرجع إليه عند الشك في وضع المشتق للأعم
أو الأخص.
الثامن: أن الأصل الحكمي في المقام هو البراءة مطلقا ولو كان للحكم حالة
سابقة. هذا تمام الكلام في المقدمات.
273

الأقوال في المسألة
قال المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): (إن الأقوال في المسألة وإن كثرت إلا أنها
حدثت بين المتأخرين بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين، لأجل توهم
اختلاف المشتق باختلاف مبادئه في المعنى، أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال،
وقد مرت الإشارة إلى أنه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده) (1).
أقول: الصحيح كما أفاده (قدس سره)، وذلك لما عرفت: من أن مركز البحث والنزاع
هنا في وضع هيئة المشتق، وفي سعة معناه وضيقه، واختلافه من كل من الناحيتين
المزبورتين أجنبي عن المركز بالكلية.
ولشيخنا الأستاذ (2) (قدس سره) في المقام كلام، وحاصله: هو أن النزاع في وضع
المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ فعلا أو للأعم منه مبتن على البساطة والتركب
في المفاهيم الاشتقاقية.
فعلى القول بالتركب حيث إنه قد اخذ في مفهوم المشتق انتساب المبدأ إلى
الذات، ويكفي في صدق الانتساب التلبس في الجملة، فلا محالة يكون المشتق
موضوعا للأعم.
وعلى القول بالبساطة فمفهوم المشتق ليس إلا نفس المبدأ المأخوذ لا بشرط،
فهو ملازم لصدق نفس المبدأ، ومع انتفائه ينتفي العنوان الاشتقاقي لا محالة،
ويكون حاله - حينئذ - حال الجوامد في أن المدار في صدق العنوان فعلية المبدأ،
وإن كان بينهما فرق من جهة أخرى، وهي: أن شيئية الشئ حيث إنها بصورته
لا بمادته فالمادة لا تتصف بالعنوان أصلا، ولذا لا يصح استعمالها في المنقضي
عنه وما لم يتلبس به بعد ولو مجازا. وهذا بخلاف المشتقات، فإن المتصف

(1) كفاية الأصول: ص 64.
(2) أجود التقريرات: 74 - 77.
274

بالعناوين الاشتقاقية هي الذوات، وهي باقية بعد الانقضاء وزوال التلبس فيصح
الاستعمال مجازا.
وحيث إن المختار عندنا القول ببساطة المفاهيم الاشتقاقية فيتعين أن الحق
هو وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ فعلا. هذا.
ثم عدل (قدس سره) عن هذه الملازمة - أي: استلزام القول بالتركب الوضع للأعم،
واستلزام القول بالبساطة الوضع للأخص - وقال: الحق هو وضع المشتق
لخصوص المتلبس مطلقا، سواء قلنا بالبساطة أم بالتركب.
وأفاد في وجه ذلك ما ملخصه: أما على البساطة فلأن الركن الوطيد على هذا
القول هو نفس المبدأ، غاية الأمر أنه ملحوظ على نحو لا بشرط، ومعه لا يأبى
عن الحمل على الذات، ولا يكون مباينا لها في الوجود الخارجي، فالصدق -
حينئذ - متقوم بالمبدأ وجودا وعدما، فإذا انعدم فلا محالة لا يصدق العنوان
الاشتقاقي إلا بالعناية.
بل قال: إن العناوين الاشتقاقية من هذه الجهة أسوء حالا من العناوين
الذاتية، فإن العناوين الذاتية وإن كانت فعليتها بفعلية صورها والمادة غير متصفة
بالعنوان أصلا إلا أنها موجودة قبل الاتصاف وبعده وحينه، ومن هنا يكون
الاستعمال فيها قبل الاتصاف وبعد انقضائه غلطا، لأن العلائق المذكورة في
محلها من الأول، أو المشارفة، أو علاقة ما كان كلها مختصة بباب المشتقات.
وهذا بخلاف العناوين الاشتقاقية، فإنها عين مبادئها، وهي بسيطة، سواء
أكانت المبادئ من إحدى المقولات أم كانت من غيرها، وغير مركبة من صورة
ومادة، فإذا انعدمت المبادئ تنعدم العناوين بالكلية، ولا يبقى منها شئ أبدا.
وتوهم أنه لا بد على هذا أن لا يصح استعمال العنوان الاشتقاقي في
المنقضي عنه وما لم يتلبس بعد ولو مجازا بطريق أولى، لأنه أسوء حالا من
العنوان الذاتي، والمفروض - كما عرفت - عدم جواز استعماله فيهما مطلقا مدفوع:
275

بأنه وإن كان أسوء حالا منه إلا أن المتصف بالعناوين الاشتقاقية حين الاتصاف
هي الذوات، وحيث إنها موجودة قبل الاتصاف وبعده فيصح الاستعمال بعلاقة
الأول، أو المشارفة، أو علاقة ما كان، فبقاء الموصوف فيها هو المصحح لجواز
الاستعمال وإن لم يؤخذ في المعنى.
وهذا بخلاف العناوين الذاتية، فإنها - كما عرفت - عناوين لنفس الصور
دون المادة، فالمادة لا تتصف بها في حال من الأحوال. مثلا: إنسانية الإنسان
بصورتها النوعية والمادة المشتركة لا تتصف بالإنسانية أبدا، ولا يصدق عليها
عنوانها، وتلك المادة وإن كانت موجودة قبل الاتصاف وبعده وحينه، إلا أنها
لا تتصف بالإنسانية في حال، ولذا لا يصح الاستعمال في المنقضي وما لم يتلبس
بعد حتى مجازا، لعدم تحقق شئ من العلائق المزبورة.
فقد أصبحت النتيجة: أن البراهين القائمة على البساطة تدل بالملازمة على
وضع المشتق لخصوص المتلبس فعلا، دون الأعم.
وأما على التركب: فلأن الذات المأخوذة في المفاهيم الاشتقاقية لا تكون
مطلق الذات، بل خصوص ذات متلبسة بالمبدأ، ومتصفة بصفة ما على أنحائها
المختلفة من الجواهر والأعراض وغيرهما. ومن الواضح أنه لا جامع بين الذات
الواجدة لصفة ما والذات الفاقدة لها، فإن مفهوم المشتق على القول بالتركب مركب
من الذات والمبدأ، وليس مركبا من المبدأ والنسبة الناقصة، ليكون المفهوم مركبا
من مفهوم اسمي وحرفي، وإلا لم يصح حمله على الذات أبدا، ولم يصح استعماله
إلا في ضمن تركيب كلامي، مع أن الأمر ليس كذلك، لصحة الحمل على الذات،
وصحة الاستعمال منفردا، بل هو - كما عرفت - مركب من الذات والمبدأ. غاية
الأمر: أن المفهوم على هذا متضمن لمعنى حرفي: كأسماء الإشارة والضمائر
ونحوهما.
ومن هنا قلنا: إنه بناء على التركب فالذات هي الركن الوطيد، ولكنها لم
276

تؤخذ مطلقة، بل المأخوذ هو حصة خاصة منها، وهي الذات المتلبسة بالمبدأ،
والمتلونة بهذا اللون فعلا، ولا يكون جامع بينها وبين الذات المنقضية عنها المبدأ
ليصدق عليهما صدق الطبيعي على أفراده والكلي على مصاديقه.
أو فقل: إن وضع المشتق للأعم يتوقف على تصوير جامع بين المنقضي
والمتلبس في الواقع ومقام الثبوت، ولما لم يعقل وجود جامع بينهما ثبوتا فلا
مجال لدعوى كون المشتق موضوعا للأعم إثباتا.
نعم، لو كان الزمان مأخوذا في مدلول المشتق بأن يقال: إنه وضع للدلالة على
المتلبس في زمن ما وهو صادق على المتلبس في الحال وفي الماضي وجامع
بينهما لأمكن أن يدعى بأنه موضوع للجامع بين الفردين.
ولكن قد تقدم: أن الزمان خارج عن مفهومه وغير مأخوذ فيه، لا جزءا ولا
قيدا، ولا خاصا ولا عاما، بل لو قلنا بأخذ النسبة الناقصة في مداليلها فهي لم
توضع إلا للمتلبس، وذلك لأن النسبة الناقصة هنا حالها حال سائر النسب
التقييدية والإضافات، وهي لا تصدق إلا في موارد التلبس الفعلي، ومن الظاهر
أنه لا جامع بين النسبة في حال التلبس والنسبة في حال الانقضاء ليكون المشتق
موضوعا بإزاء ذلك الجامع.
تلخص على ضوء ما بيناه: أن المشتق وضع للمتلبس بالمبدأ فعلا على كلا
القولين، ولا مجال - حينئذ - للنزاع في مقام الإثبات أبدا، فإنه متفرع على إمكان
تصوير الجامع في مقام الثبوت، وقد عرفت عدم إمكانه.
وغير خفي أنه يمكن تصوير الجامع على القول بالتركب بأحد الوجهين:
الأول: أن يقال: إن الجامع بين المتلبس والمنقضي اتصاف الذات بالمبدأ في
الجملة في مقابل الذات التي لم تتصف به بعد، فإن الذات في الخارج على قسمين:
قسم منها لم يتلبس بالمبدأ بعد وهو خارج عن المقسم.
وقسم منها متصف به، ولكنه أعم من أن يكون الاتصاف باقيا حين الجري
277

والنسبة أم لم يكن باقيا، وهو جامع بين المتلبس والمنقضي، وصادق عليهما
صدق الطبيعي على أفراده. فالموضوع له على القول بالأعم هو صرف وجود
الاتصاف العاري عن أية خصوصية كما هو شأن الجامع والمقسم في كل مورد،
وهو كما ينطبق على الفرد المتلبس حقيقة كذلك ينطبق على الفرد المنقضي، فإن
هذا المعنى موجود في كلا الفردين.
أو فقل: إن الجامع بينهما خروج المبدأ من العدم إلى الوجود، فإن المبدأ كما
خرج من العدم إلى الوجود في موارد التلبس كذلك خرج في موارد الانقضاء،
فصرف وجود المبدأ للذات من دون اعتبار امتداده وبقائه جامع بين الفردين،
وخصوصية البقاء والانقضاء من خصوصيات الأفراد، وهما خارجتان عن المعنى
الموضوع له.
الثاني: أنا لو سلمنا أن الجامع الحقيقي بين الفردين غير ممكن إلا أنه
يمكننا تصوير جامع انتزاعي بينهما وهو عنوان أحدهما، نظير ما ذكرناه (1) في
بحث الصحيح والأعم من تصوير الجامع الانتزاعي بين الأركان، ولا ملزم هنا لأن
يكون الجامع ذاتيا، لعدم مقتض له، إذ في مقام الوضع يكفي الجامع الانتزاعي،
لأن الحاجة التي دعت إلى تصوير جامع هنا هي الوضع بإزائه، وهو لا يستدعي
أزيد من تصوير معنى ما، سواء أكان المعنى من الماهيات الحقيقية أم من
الماهيات الاعتبارية، أم من العناوين الانتزاعية.
إذا للواضع في المقام أن يتصور المتلبس بالمبدأ فعلا، ويتصور المنقضي عنه
المبدأ، ثم يتعهد على نفسه بأنه متى ما قصد تفهيم أحدهما يجعل مبرزه هيئة ما من
الهيئات الاشتقاقية على سبيل الوضع العام والموضوع له العام أو الخاص.
فالنتيجة: أن تصوير الجامع على القول بالأعم بأحد هذين الوجهين بمكان

(1) قد تقدم في ص 179 - 183 فراجع.
278

من الإمكان. وعلى هذا الضوء يظهر أن للنزاع في مقام الإثبات مجالا واسعا.
وأما ما أفاده (قدس سره): من أنه على البساطة لا يتصور الجامع بين المتلبس
والمنقضي والواجد والفاقد، فالأمر كما أفاده لو كان مفهوم المشتق بعينه هو مفهوم
المبدأ وكان الفرق بينهما بالاعتبار واللحاظ - أي: اعتباره لا بشرط وبشرط لا -
إذ حينئذ كان الركن الوطيد هو المبدأ، فإذا زال زال العنوان الاشتقاقي لا محالة،
إلا أن هذا القول باطل، فإن مفهوم المشتق - كما سيأتي (1) بيانه - ليس بسيطا،
وعلى تقدير أنه كان بسيطا فلا يكون عين مفهوم المبدأ، بل هو مباين له. هذا تمام
الكلام في مقام الثبوت.
وأما الكلام في مقام الإثبات فلا ينبغي الشك في أن المشتق وضع للمتلبس
بالمبدأ فعلا، ويدل على ذلك أمور:
الأول: أن المتبادر من المشتقات والمرتكز منها عند أذهان العرف والعقلاء
خصوص المتلبس لا الأعم، وهذا المعنى وجداني لكل أهل لغة بالقياس إلى
لغاته، فهم يفهمون من المشتقات عند إطلاقاتها واستعمالاتها المتلبس بالمبدأ
فعلا، ولا تصدق عندهم إلا مع فعلية التلبس والاتصاف، وصدقها على المنقضي
عنه المبدأ وإن أمكن إلا أنه خلاف المتفاهم عرفا، فلا يصار إليه بلا قرينة، وهذا
التبادر والارتكاز غير مختص بلغة دون أخرى، لما ذكرناه (2) غير مرة: أن الهيئات
في جميع اللغات وضعت لمعنى واحد على اختلافها باختلاف اللغات، مثلا: هيئة
" ضارب " في لغة العرب وضعت لعين المعنى الذي وضعت هيئة " زننده " في اللغة
الفارسية له، وهكذا...، ومن هنا يفهم من تبادر عنده من كلمة " زننده " خصوص
المتلبس أن كلمة " ضارب " أيضا كذلك.

(1) سيأتي في ص 296 فانتظر.
(2) لم يصرح به في المباحث المتقدمة، بل ذكر معنى الهيئات بنحو الكلي من دون اختصاصه
بلغة دون أخرى في بحث الوضع ص 92، وفي بحث المشتق ص 253.
279

نعم، تختلف المواد باختلاف اللغات، فيختص التبادر فيها بأهل كل لغة، فلا
يتبادر من لفظ العجمي للعربي شيئا وبالعكس، نظرا إلى اختصاص الوضع بأهله،
وهذا هو السر في رجوع أهل كل لغة في فهم معنى لغة أخرى إلى أهلها وتبادره
عندهم. فالعجمي يرجع في فهم اللغة العربية إلى العرب، وهكذا بالعكس. وهذا
بخلاف الهيئات، فإنها على اختلاف اللغات مشتركة في معنى واحد، فالهيئات
الاشتقاقية بشتى أنواعها وأشكالها وضعت لمعنى واحد، وهو خصوص المتلبس
بالمبدأ فعلا.
ثم إن هذا التبادر لا يختص بالجمل التامة ليقال: إن منشأه ظهور الحمل في
التلبس الفعلي، بل إن حال هيئة المشتق حال هيئة المركبات التقييدية، كالإضافة
والتوصيف. فكما أن المتبادر عند أهل العرف من تلك المركبات فعلية النسبة
والقيد ولا تصدق خارجا إلا مع فعلية الاتصاف فكذلك المتبادر عندهم من
المشتقات ذلك. فهذا التبادر يكشف كشفا قطعيا عن الوضع لخصوص المتلبس،
لأنه غير مستند إلى القرينة على الفرض، ولا إلى كثرة الاستعمال، ضرورة أن
العرف حسب ارتكازهم يفهمون من المشتقات المتلبس من دون ملاحظة الكثرة
وحصول الانس منها.
فالنتيجة: دعوى: أن هذا التبادر مستند إلى كثرة الاستعمال دون الوضع
دعوى جزافية.
الثاني: صحة سلب المشتق عمن انقضى عنه المبدأ، فيقال: زيد ليس بعالم بل
هو جاهل، وهي أمارة أن المشتق مجاز فيه، وإلا لم يصح السلب عنه.
وقد يورد عليه: أن المراد من صحة السلب: إن كان صحة السلب مطلقا فغير
صحيح، ضرورة صحة حمل المشتق على المنقضي عنه المبدأ بمعناه الجامع. وإن
كان مقيدا فغير مفيد، لأن علامة المجاز صحة سلب المطلق دون المقيد.
ولا يخفى أن هذا صحيح فيما إذا تردد المفهوم العرفي للفظ بين السعة
280

والضيق ولم يعلم أنه موضوع للمعنى الموسع أو المضيق: كلفظ " العمى " - مثلا - لو
تردد مفهومه عرفا ودار بين أن يكون مطلق عدم الإبصار ولو من جهة أنه لا عين
له: كبعض أقسام " الحيوانات "، وبين خصوص عدم الإبصار مع وجود عين له ومع
شأنية الإبصار ولم يثبت أنه موضوع للثاني لم يمكن إثبات أنه وضع للمعنى
الثاني بصحة السلب، وذلك لأنه: إن أريد بصحة السلب صحة سلب العمى عما لا
عين له بالمعنى المطلق فهو غير صحيح، بداهة صحة حمله عليه بهذا المعنى. وإن
أريد بها صحة سلبه عنه بالمعنى الثاني " عدم الإبصار مع شأنيته " فهو وإن كان
صحيحا إلا أنه لا يثبت أن العمى لم يوضع للأعم، لأن سلب الأخص لا يلازم
سلب الأعم، وقد ثبت في " المنطق ": أن نقيض الأخص أعم من نقيض الأعم،
فسلب الأول حيث أنه أعم لا يستلزم سلب الثاني.
إلا أن ذلك لا يتم في محل كلامنا، وذلك لما تقدم: من أن المتبادر عرفا من
المشتق خصوص المتلبس بالمبدأ فعلا، وهو آية الحقيقة. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: إذا صح سلب المشتق بماله من المفهوم العرفي عن
المنقضي عنه المبدأ فهو كاشف عن عدم وضعه للجامع، وإلا لم يصح سلبه عن
مصداقه وفرده في حين من الأحيان، فإذا صح سلب المشتق بمفهومه العرفي عمن
انقضى عنه المبدأ ثبت أنه موضوع للمتلبس.
نعم، مع قطع النظر عن التبادر لا يمكن إثبات أن المشتق موضوع للمتلبس
بصحة سلبه عن المنقضي كما عرفت (1).
الثالث: لا ريب في تضاد مبادئ المشتقات عرفا بمالها من المعاني الثابتة في
الأذهان المرتكزة في النفوس: كالقيام والقعود، والحركة والسكون، والسواد
والبياض، والعلم والجهل وما شاكلها، ضرورة أن اثنين منها لا يجتمعان في
الصدق في آن واحد، وعليه فطبعا تكون العناوين الاشتقاقية المنتزعة عن اتصاف

(1) راجع ص 133 - 134.
281

الذات بها متضادة. ومن هنا يرى العرف التضاد بين عنوان العالم والجاهل،
والأسود والأبيض، والمتحرك والساكن، وهكذا...، وهو بنفسه يدل على أن
المشتق موضوع للمتلبس دون الأعم، وإلا لم يكن بينها مضادة عرفا بمالها من
المعاني، بل كان مخالفة، وأمكن صدق عنوانين منها معا على الذات في زمن
واحد فيما إذا كان التلبس بأحدهما فعليا وبالآخر منقضيا، فيجتمعان في الصدق
في آن واحد، فلا مضادة.
وبتعبير آخر: أن المشتق لو كان موضوعا للأعم لم يلزم اجتماع الضدين
عند صدق عنوانين على الذات حقيقة، بل يصح أن يقال عرفا: هذا أسود وأبيض،
أو عالم وجاهل في آن واحد، مع أن الأمر ليس كذلك، ضرورة أن هذا من اجتماع
الضدين حقيقة، كما أن قولنا: هذا سواد وبياض، أو علم وجهل كذلك.
نعم، لو كان الصدق مختلفا في الزمان بأن كان صدق أحدهما في زمان
وصدق الآخر في زمان آخر، أو لم يكن الإطلاق في كلا الحملين حقيقيا، بل
كان في أحدهما بالحقيقة وفي الآخر بالعناية فلا تضاد، إذ المعتبر في تحقق التضاد
أو التناقض في أي مورد كان وحدة الزمان مع اعتبار بقية الوحدات، ومع
الاختلاف فيه أو في غيره من الوحدات، أو لم يكن الإطلاق في كليهما على نحو
الحقيقة ينتفي التضاد.
فالنتيجة: أن ارتكاز التضاد بين العناوين بمالها من المعاني قرينة عرفية على
الوضع للمتلبس.
ثم إن هذا الذي ذكرناه من الأدلة على الوضع لخصوص المتلبس لا يختص
بهيئة دون أخرى، وبلغة دون ثانية، بل يجري في الجميع، ولا أثر لاختلاف
المبادئ في ذلك، كما أنه لا أثر لاختلاف الطوارئ والحالات، وهذا واضح.
وعليه، فما ذكره القوم من التفصيلات باعتبار اختلاف الطوارئ والحالات
282

تارة وباعتبار اختلاف المبادئ تارة أخرى لا يرجع إلى معنى محصل.
فقد تحصل مما ذكرناه: أنه لا مناص من الالتزام بوضع المشتق لخصوص
المتلبس.
ومما يؤيد ما ذكرناه من الاختصاص: أن الفقهاء - رضوان الله عليهم - لم
يلتزموا بترتيب الآثار في موارد الانقضاء، ومن هنا لم يحكموا بوجوب الإنفاق
على الزوجة بعد انقضاء الزوجية عنها بطلاق أو نحوه، وكذا بجواز النظر إليها.
أدلة القول بالأعم
وقد استدل على القول بالأعم: بأن استعمال المشتق في موارد الانقضاء أكثر
من استعماله في موارد التلبس، فيقال: هذا قاتل زيد، وذاك مضروب عمرو،
وهكذا...، فلو كان المشتق موضوعا للمتلبس لزمه أن تكون هذه الاستعمالات
وما شاكلها استعمالات مجازية، وهذه بعيدة في نفسها، مع أنها تنافي حكمة
الوضع التي دعت إلى وضع الألفاظ لغرض التفهيم، فإن الاستعمال في موارد
الانقضاء إذا كان أكثر فالحاجة تدعو إلى الوضع بإزاء الجامع دون خصوص
المتلبس.
ويرده أولا: أن ذلك مجرد استبعاد، ولا مانع من أن يكون استعمال اللفظ في
المعنى المجازي أكثر من استعماله في المعنى الحقيقي مع القرينة، ولا محذور في
ذلك أبدا.
كيف؟ فإن باب المجاز أوسع وأبلغ من الاستعمال في المعنى الحقيقي، ومن
هنا تستعمل: التشبيه، والكناية، والاستعارة، والمبالغة التي هي من أقسام المجاز
في كلمات الفصحاء والبلغاء أكثر من استعمالها في كلمات غيرهم.
والسر في كثرة الاستعمال في المعاني المجازية: أن استعمال اللفظ في
المعنى المناسب للمعنى الموضوع له حيث إنه يجوز بأدنى مناسبة فلا محالة يتكثر
283

بتكثر المناسبات على حسب اختلاف الموارد ومقتضياتها، ومن ثم لا يكون
لذلك ضابط كلي، فقد يكون الاستعمال في المعنى المجازي أكثر من الاستعمال
في المعنى الحقيقي، وقد يكون بالعكس، وقد يكون لمعنى واحد حقيقي معان
متعددة مجازية، بل ربما تزداد المعاني المجازية بمرور الزمن.
وثانيا: أن استعمال المشتق في موارد الانقضاء وإن كان كثيرا ولا شبهة فيه إلا
أنه لم يعلم أن هذه الاستعمالات بلحاظ حال الانقضاء، بل الظاهر أنها كانت
بلحاظ حال التلبس، ولا إشكال في أن هذه الاستعمالات على هذا حقيقة، فإنها
استعمالات في المتلبس واقعا، فإطلاق " ضارب عمرو " على " زيد " باعتبار
زمان تلبسه به، لا باعتبار اتصافه به فعلا، وهكذا...
إذا فلا صغرى للكبرى المذكورة، وهي: أن كثرة استعمال اللفظ في المعنى
المجازي لا تلائم حكمة الوضع، فإنه لا مجاز على هذا ليكون الاستعمال فيه
أكثر.
والنتيجة: أن الاستعمالات التي جاءت في كلمات الفصحاء في موارد
الانقضاء ليس شئ منها بلحاظ حال الانقضاء، بل إن جميعها بلحاظ حال
التلبس، فتكون حقيقة لا مجازا.
ثم إن استعمال المشتق في المنقضي بلحاظ حال الانقضاء وإن كان محتملا
في القضايا الخارجية في الجملة إلا أنه في القضايا الحقيقية غير محتمل، فإن
الاستعمال فيها دائما في المتلبس دون المنقضي، بل لا يعقل فيها حال الانقضاء،
وهذا كما في قوله تعالى: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة
جلدة) * (1)، وقوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * (2)، فإن المقصود

(1) النور: 2.
(2) المائدة: 38.
284

منهما: أن كل شخص فرض متلبسا بالزنا أو السرقة فهو محكوم عليه بجلده أو
بقطع يده، فالمشتق في كلتا الآيتين استعمل في المتلبس، وهو تمام الموضوع
للحكم المذكور فيهما، وقد ذكرنا (1) غير مرة أن الموضوع في القضايا الحقيقية
لا بد من أخذه مفروض الوجود في الخارج.
ومن هنا ترجع كل قضية حقيقية إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع،
وتاليها ثبوت الحكم له، فالموضوع في الآيتين كل إنسان فرض متلبسا بالزنا أو
السرقة في الخارج، فعنوان الزاني أو السارق مستعمل فيمن تلبس بالمبدأ.
غاية ما في الباب: أن زمان القطع والجلد متأخر في الخارج عن زمن
التلبس بأحد المبدأين المزبورين، فإنهما يتوقفان على ثبوت التلبس بأحدهما
عند الحاكم بأحد الطرق المعتبرة: كالبينة أو نحوها.
فقد تحصل: أن الاستعمال في المنقضي في القضايا الحقيقية غير معقول، بل
يكون الاستعمال دائما في المتلبس.
وعلى هذا الضوء يظهر فساد ما ذكره بعضهم: من أن المشتق في الآيتين وما
شاكلهما استعمل فيمن انقضى عنه المبدأ، وفي ذلك دلالة على أن المشتق وضع
للأعم.
كما أنه يظهر بذلك: أنه لا وجه لما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في
مقام الجواب عن هذا الاستدلال: من أن الاستعمال فيها بلحاظ حال التلبس دون
الانقضاء (2)، وذلك لما عرفت: من أن حالة الانقضاء في أمثال المقام لا تتصور
ليكون الاستعمال بلحاظ حال التلبس دونها.
وهذا نظير قولك: الجنب أو الحائض يجب عليهما الغسل، فإن المراد بالجنب
أو الحائض: هو كل إنسان فرض متلبسا بالجنابة أو الحيض خارجا فهو محكوم

(1) راجع في ذلك ج 3 مبحث الترتب، و ج 4 مبحث العام والخاص.
(2) كفاية الأصول: ص 70.
285

عليه بالغسل، فعنوان الجنب أو الحائض قد استعمل فيمن تلبس بالمبدأ، ولا
يتصور فيه الانقضاء، غاية الأمر: أن الامتثال يقع متأخرا عن زمان الوجوب كما
كان هو الحال في الآيتين.
فالنتيجة قد أصبحت: أنه لا وجه للاستدلال على الوضع للأعم بالآيتين
المزبورتين.
وقد استدل ثانيا على القول بالأعم بما استدل الإمام (عليه السلام) بقوله تعالى: * (لا
ينال عهدي الظالمين) * (1) على عدم لياقة من عبد الأصنام للخلافة ولو بعد دخوله
في الإسلام.
وتقريب الاستدلال به: أن المشتق لو كان موضوعا لخصوص المتلبس لم يتم
استدلال الإمام (عليه السلام) بالآية المباركة على عدم لياقة الخلفاء الثلاثة للخلافة الإلهية،
لأنهم في زمن دعواهم لمنصب الخلافة كانوا متشرفين بقبول الإسلام، وغير
متلبسين بالظلم وعبادة الوثن ظاهرا، وإنما كان تلبسهم به قبل التشرف بالإسلام
وفي زمن الجاهلية فالاستدلال بالآية لا يتم إلا على القول بالوضع للأعم،
ليصدق عليهم عنوان الظالم فعلا فيندرجوا تحت الآية.
ولا يخفى أن النزاع - كما عرفت - لا يتأتى في الآية المباركة، فإنها من
القضايا الحقيقية التي اخذ الموضوع فيها مفروض الوجود، فإن فعلية الحكم فيها
تابعة لفعلية موضوعه، ولا يعقل تخلف الحكم عنه، فإنه كتخلف المعلول عن
علته التامة.
نعم، يجري النزاع في القضايا الخارجية التي يكون الموضوع فيها أمرا
موجودا خارجيا، فإنه يمكن أن يؤخذ الحكم فيها باعتبار خصوص المتلبس، أو
الأعم منه ومن المنقضي عنه المبدأ، فالترديد في استعمال المشتق في المتلبس أو
الأعم إنما يتأتي في القضايا الخارجية دون القضايا الحقيقية.

(1) انظر تفسير البرهان: ج 1 ص 147 في تفسير الآية: 124 من سورة البقرة.
286

مثلا: عنوان " العالم " في قولنا: " يجب إكرام العالم " يستعمل فيمن تلبس
بالمبدأ أبدا، سواء تحقق التلبس في الخارج أم لم يتحقق، فإنه قد فرض فيه وجود
شخص متلبس بالعلم وحكم بوجوب إكرامه لا نعقل الانقضاء فيه ليتنازع في
عموم الوضع له.
وعلى هذا الضوء يظهر أن استدلال الإمام (عليه السلام) بالآية المباركة على عدم لياقة
عبدة الأوثان للخلافة غير مبتن على كون المشتق موضوعا للأعم ليصدق على
من انقضى عنه المبدأ حقيقة، بل هو مبتن على نزاع آخر أجنبي عن نزاع المشتق،
وهو: أن العناوين التي تؤخذ في موضوعات الأحكام ومتعلقاتها في القضايا
الحقيقية هل تدور الأحكام مدارها حدوثا وبقاء، أم تدور مدار حدوثها فقط؟
والصحيح: أن الأحكام المترتبة على تلك العناوين تختلف حسب اختلاف
الموارد ومقتضياتها.
ففي غالب الموارد تدور مدارها حدوثا وبقاء، وهذا هو المتفاهم منها عرفا،
فإذا ورد النهي عن الصلاة خلف الفاسق يفهم منه عرفا أن عدم جواز الاقتداء به
يدور مدار فسقه حدوثا وبقاء، فلو انتفى عنه الفسق فلا محالة ينتفي الحكم
المترتب عليه أيضا.
وفي بعض الموارد لا يدور بقاء الحكم مدار بقاء عنوان موضوعه، بل يبقى
بعد زوال العنوان أيضا، فالعنوان وإن كان دخيلا في حدوث الحكم إلا أنه لا
دخل له في بقائه، ويعبر عنه ب‍ " أن حدوثه علة محدثة ومبقية " وهذا كما في
آيتي الزنا والسرقة، فإن وجوب القطع والجلد يحدثان عند حدوث التلبس بهذين
المبدأين، ولكنهما لا يدوران مدار بقاء العنوان أصلا، ولا دخل لهذا بوضع المشتق
للأعم أو للأخص.
وبتعبير واضح: أن العناوين التي تؤخذ في القضايا على أنحاء ثلاثة:
الأول: أن تلاحظ معرفة إلى الأفراد ومشيرة إليها من دون كونها دخيلة في
287

الحكم أصلا، وهذا يتفق في القضايا الخارجية، فإن العناوين التي تؤخذ فيها قد
تلاحظ معرفة إلى الأفراد، فيقال: " صل خلف ابن زيد " فعنوان ابن زيد قد اخذ
معرفا إلى ما هو الموضوع في الواقع بلا دخل له في الحكم.
الثاني: تلاحظ دخيلة في الحكم، بمعنى: أن الحكم يدور مدارها حدوثا
وبقاء، وهذا هو الظاهر عرفا من العناوين المأخوذة في القضايا الحقيقية، فقوله عز
من قائل: * (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * (1) ظاهر في أن وجوب
السؤال يدور مدار صدق هذا العنوان وجودا وعدما.
الثالث: تلاحظ دخيلة في الحكم حدوثا لا بقاء، بمعنى: أن بقاء الحكم لا
يدور مدار بقاء العنوان، فيكون حدوث العنوان علة محدثة ومبقية معا، فعناوين
القضايا الحقيقية لا تخلو عن القسمين الأخيرين وإن كان القسم الأول منهما هو
الغالب والكثير فيها، ومن ثم لم نجد لحد الآن موردا يكون العنوان في القضية
الحقيقية لوحظ معرفا إلى ما هو الموضوع في الواقع بلا دخل له في الحكم.
وعلى ضوء معرفة هذا يقع الكلام في أن عنوان الظالم المأخوذ في موضوع
الآية المباركة هل لوحظ دخيلا في الحكم على النحو الأول أو على النحو الثاني؟
فالاستدلال بالآية الكريمة على عدم لياقة عبدة الأصنام للخلافة إلى الأبد مبتن
على أن يكون دخله على النحو الثاني دون الأول.
ولا يخفى أن الارتكاز الناشئ من مناسبة الحكم والموضوع يستدعي أن
التلبس بهذا العنوان آنا ما كاف لعدم نيل العهد والخلافة أبدا.
والوجه فيه: أن جبلة الناس على أن المتقمص لمنصب الخلافة والإمامة التي
هي أعظم منصب إلهي بعد الرسالة لا بد أن يكون مثالا ساميا للمجتمع في سيرته
واخلاقه، ومعرى عن أية منقصة خلقية وخلقية، وقدوة للناس، وقائدا مثاليا لهم.
فلو أن أحدا اعتاد شرب الخمر والزنا أو اللواط في زمان ثم ترك وتاب وبعد

(1) الأنبياء: 7.
288

ذلك ادعى منصب الخلافة من الله تعالى لم تقبل دعواه، لأجل أن الناس لا يرونه
قابلا لأن يتصدى هذا المنصب الإلهي، بل يعتقدون أن الله تعالى لا يجعله
خليفة لهم.
فإن الخليفة هو ممثل من قبله تعالى، والممثل من قبله لا بد أن يكون مثالا
روحيا للبشر، ومربيا لهم في سيرته، وداعيا إلى الله تعالى بأخلاقه وأعماله،
ليكون أثره أثرا طيبا وساميا في النفوس. وهذا كنبينا محمد (صلى الله عليه وآله) وأوصيائه
الأطيبين (عليهم السلام).
وليس معنى هذا اعتبار العصمة قبل الخلافة ليقال: إنها لا تعتبر قبلها، بل من
جهة أن الخلافة لعلو شأنها وجلالة قدرها ومكانتها لا بد أن يكون المتصدي لها
مثالا أعلى للمجتمع الإنساني في علو الشأن وجلالة القدر والمكانة. فمن عبد
الوثن في زمن معتد به كيف يكون أهلا لذلك؟ وكيف يجعله الله تعالى ممثلا
وهاديا للأمة؟ والحال أنه كغيره من أفراد الأمة، ولا امتياز له عن البقية في
شئ. وهذا مما تستدعيه مناسبة الحكم والموضوع.
ويؤكده أمران آخران أيضا:
الأول: نفس إطلاق الحكم في الآية المباركة، فإن الإتيان بصيغة المضارع
وهي كلمة " لا ينال " بلا تقييدها بوقت خاص يدل على عدم اختصاص الحكم
بزمن دون زمن، وأنه ثابت أبدا لمن تلبس بالظلم ولو آنا ما.
الثاني: قد ورد في عدة من الروايات (1) النهي عن الصلاة خلف المحدود

(1) منها: حسنة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
لا يصلين أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا، والأعرابي لا
يؤم المهاجرين " (1).
(1) وسائل الشيعة: ج 8 ص 325 ب 15 من أبواب صلاة الجماعة ح 6.
ومنها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: " خمسة لا يؤمون الناس ولا
يصلون بهم صلاة فريضة في جماعة: الأبرص والمجذوم وولد الزنا، والأعرابي حتى يهاجر،
والمحدود " (1). وما شاكلهما من الروايات.
(1) المصدر السابق: ص 324 ح 3.
289

والمجذوم والأبرص وولد الزنا، والأعرابي، فتدل على أن المتلبس بأحد هذه
العناوين لا يليق أن يتصدى هذا المنصب الكبير، لعدم المناسبة بينهما. وبالأولوية
القطعية تدل على أن المتلبس بالظلم وعبادة الوثن أولى بعدم اللياقة للجلوس
على كرسي الخلافة، لعلو المنصب وعظم المعصية، بل إن المحدود بالحد الشرعي
في زمان ما لا يليق للمنصب المزبور إلى الأبد وإن تاب بعد ذلك وصار من
الأتقياء الخيار.
فقد أصبحت نتيجة ما ذكرناه حول الآية المباركة: أن الاستدلال بها على عدم
لياقة عبدة الأوثان للخلافة أبدا لا يبتني على النزاع في وضع المشتق للأعم أو
للمتلبس بالمبدأ، بل ومن مطاوي ما ذكرناه يستبين: أنه لا تترتب ثمرة على
النزاع في وضع المشتق أصلا.
بيان ذلك: أن الظاهر من العناوين الاشتقاقية المأخوذة في موضوعات
الأحكام أو متعلقاتها بنحو القضايا الحقيقية: هو أن فعلية الأحكام تدور مدار
فعليتها حدوثا وبقاء، وبزوالها تزول لا محالة. وإن قلنا بأن المشتق موضوع للأعم
فمن هذه الجهة لا فرق بينها وبين العناوين الذاتية.
نعم، قد ثبت في بعض الموارد بمناسبة داخلية أو خارجية أن حدوث العنوان
علة محدوثة ومبقية معا كما تقدم.
وكيف ما كان، فلا أثر للقول بأن المشتق وضع للأعم أو للأخص، إذ على كلا
التقديرين كانت الأحكام في فعليتها تابعة لفعلية العناوين المأخوذة في
290

موضوعاتها، وبانقضائها وزوال التلبس عنها تنقضي بتاتا.
ومن هنا لم يلتزم الفقهاء بترتب أحكام الحائض، والنفساء، والمستحاضة،
والزوجية وما شاكلها بعد انقضاء المبدأ عنها، حتى على القول بكون المشتق
موضوعا للأعم، بل لم يحتمل ابتناء هذه المسائل وما شابهها على النزاع في مسألة
المشتق، فتصبح المسألة بلا ثمرة مهمة.
وما نسبه شيخنا الأستاذ (1) - (قدس سره) - إلى الفخر الرازي غير صحيح، من أنه قد
اعترف بدلالة الآية الشريفة على عدم لياقة الخلفاء الثلاثة للخلافة الإلهية أبدا،
لأنهم كانوا عابدين للوثن في زمان معتد به، وفي ذلك الزمان شملهم قوله تعالى:
* (لا ينال عهدي الظالمين) * (2)، فدلت على عدم اللياقة إلى الأبد.

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 82.
(2) واليك نص كلامه:
المسألة الرابعة: الروافض احتجوا بهذه الآية على القدح في امامة أبي بكر وعمر من
ثلاثة أوجه:
الأول: أن أبا بكر وعمر كانا كافرين، فقد كانا حال كفرهما ظالمين، فوجب أن يصدق
عليهما في تلك الحالة أنهما لا ينالان عهد الإمامة البتة، وإذا صدق عليهما في ذلك الوقت
أنهما لا ينالان عهد الإمامة البتة ولا في شئ من الأوقات ثبت أنهما لا يصلحان للإمامة.
الثاني: أن من كان مذنبا في الباطن كان من الظالمين، فإذا ما لم يعرف أن أبا بكر وعمر ما
كانا من الظالمين المذنبين ظاهرا وباطنا وجب أن لا يحكم بإمامتهما، وذلك إنما يثبت في
حق من تثبت عصمته، ولما لم يكونا معصومين بالاتفاق وجب أن لا تتحقق إمامتهما البتة.
الثالث: قالوا: كانا مشركين، وكل مشرك ظالم، والظالم لا يناله عهد الإمامة فيلزم أن لا
ينالهما عهد الإمامة. أما أنهما كانا مشركين فبالاتفاق، وأما أن المشرك ظالم فلقوله تعالى:
* (إن الشرك لظلم عظيم) *. وأما أن الظالم لا يناله عهد الإمامة فلهذه الآية.
لا يقال: إنهما كانا ظالمين حال كفرهما، فبعد زوال الكفر لا يبقى هذا الاسم.
لأنا نقول: الظالم من وجد منه الظلم، وقولنا: وجد منه الظلم أعم من قولنا: وجد منه
الظلم في الماضي أو في الحال، بدليل: أن هذا المفهوم يمكن تقسيمه إلى هذين القسمين،
ومورد التقسيم بالتقسيم بالقسمين مشترك بين القسمين، وما كان مشتركا بين القسمين
لا يلزم انتفاؤه لانتفاء أحد القسمين، فلا يلزم من نفي كونه ظالما في الحال نفي كونه
ظالما في الماضي.
والذي يدل عليه نظرا إلى الدلائل الشرعية: أن " النائم " يسمى مؤمنا، والإيمان هو
التصديق، والتصديق غير حاصل حال كونه نائما فدل على أنه يسمى مؤمنا، لأن الإيمان
كان حاصلا قبل، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ظالما لظلم وجد من قبل.
وأجاب عنه بقوله: كل ما ذكرتموه معارض بما أنه لو حلف لا يسلم على كافر فسلم
على إنسان مؤمن في الحال، إلا أنه كان كافرا قبل بسنين متطاولة فإنه لا يحنث، فدل على
ما قلناه، ولأن التائب عن الكفر لا يسمى كافرا، والتائب عن المعصية لا يسمى عاصيا (1).
انتهى كلامه.
وغير خفي: أن ما ذكره من الجواب عن دلالة الآية أجنبي عنها بالكلية، بل هما في
طرفي النقيض، وذلك لأن دلالة الآية المباركة على الحكم المذكور مبنية على وجوه ثلاثة:
الأول: مناسبة الحكم والموضوع، فإنها تقتضي بقاء الحكم أبدا.
الثاني: الإتيان بصيغة المضارع وهي كلمة " لا ينال " وعدم توقيتها بوقت خاص فهي
على هذا تدل على بقاء الحكم واستمراره حتى بعد زوال التلبس.
الثالث: ما ورد من نظائره في الشريعة المقدسة فإنه يدل على أن بقاء هذا الحكم في الآية
المباركة وعدم زواله بزوال المبدأ أولى. ومن الواضح: أن شيئا من هذه الوجوه الثلاثة لا
يجري فيما ذكره من الجواب، بل المتفاهم العرفي - كما عرفت من الأمثلة التي ذكرها - هو
أن الحكم يدور مدار العنوان حدوثا وبقاء على عكس المتفاهم من الآية الكريمة.
على أن النذر تابع لقصد الناذر في الكيفية والكمية، وأجنبي عن دلالة اللفظ وظهوره
في شئ.
(1) تفسير الرازي: ج 4 ص 41 الطبعة الثانية في تفسير الآية: 124 من سورة البقرة.
291

ونستنتج مما ذكرناه حول القولين في وضع المشتق عدة أمور:
الأول: أن الوضع للمتلبس أو الأعم غير مبتن على القول بالبساطة والتركيب
في المفاهيم الاشتقاقية.
الثاني: أن تصوير الجامع على كلا القولين: البساطة والتركيب ممكن بأحد
الوجهين المتقدمين.
الثالث: أن المشتق موضوع للمتلبس دون الأعم، وذلك بوجوه:
292

1 - التبادر.
2 - صحة السلب بالتقريب المتقدم.
3 - ارتكاز التضاد بين المشتقين المتضادين في المبدأ.
الرابع: أن قوله عز من قائل: * (لا ينال عهدي الظالمين) * دل على عدم لياقة
عبدة الأوثان للخلافة الإلهية أبدا.
الخامس: أنه لا ثمرة تترتب على النزاع في وضع المشتق.
هل المشتق بسيط أم مركب؟
إن المفاهيم الاشتقاقية هل هي بسيطة، أو أنها مركبة؟ قولان في المسألة:
المشهور بين المتأخرين: هو بساطتها، منهم: السيد الشريف (1) والمحقق
الدواني (2) (قدس سرهما)، وخالف فيه جماعة، منهم: صاحب شرح المطالع، فذهب إلى
التركيب، حيث قال في مقام تعريف الفكر: بأنه ترتيب أمور معلومة لتحصيل أمر
مجهول (3).
وأورد عليه: بأنه يصح تعريف الشئ بالخاصة وبالفصل وحده، ولا يجب
أن يكون التعريف دوما بالحد أو بالرسم التام، بل كما يمكن أن يكون به
يمكن أن يكون بالحد أو الرسم الناقص، فيقال: " الإنسان ضاحك أو ناطق "،
وعليه فلا يكون تعريف الفكر بهذا تعريفا جامعا لخروج تعريف الشئ بالحد
أو الرسم الناقص عنه، لعدم ترتيب أمور معلومة فيه، بل التعريف - حينئذ - بأمر
واحد.
وأجاب عنه (4): بأن الخاصة أو الفصل وإن كانت في بداية الأمر وبالنظر

(1) حاشية شرح المطالع: ص 11.
(2) حاشية شرح المطالع: ص 11.
(3) شرح المطالع: ص 11.
(4) راجع شرح المطالع: ص 11.
293

السطحي أمرا واحدا إلا أنها في الواقع وبالنظر الدقي تنحل إلى أمرين: ذات
ومبدأ، فالناطق ينحل إلى: ذات ونطق. وكذا الضاحك، فلا يكون هنا ترتيب أمر
واحد، بل ترتيب أمور معلومة عند النفس لتحصيل شئ مجهول.
وأشكل عليه المحقق الشريف في الهامش: بأنه لا يمكن أخذ الشئ في
مفهوم المشتق، وذلك لأن المأخوذ فيه: إن كان مفهوم الشئ فيلزم دخول العرض
العام في الفصل وهو محال. وإن كان مصداقه فيلزم انقلاب القضية الممكنة إلى
الضرورية. مثلا: جملة " الإنسان ضاحك " قضية ممكنة، فإذا انحلت إلى قولنا:
" الإنسان إنسان له الضحك " صارت قضية ضرورية، لأن ثبوت الشئ لنفسه
ضروري، وهو خلف (1).
ومن مجموع ذلك يستبين: أن مركز النزاع هو البساطة والتركيب بحسب
التحليل والواقع، لا بحسب الإدراك والتصور، وذلك لأن البساطة الإدراكية تجتمع
مع تركب المفهوم حقيقة، ضرورة أن المتفاهم في مرحلة التصور من كل لفظ مفرد
عند الإطلاق معنى بسيط، سواء أكان في الواقع أيضا بسيطا، أم كان مركبا، وهذا
بلا فرق بين المشتقات وغيرها من الألفاظ. إذا لا معنى لأن يجعل مركز البحث
البساطة والتركيب بحسب التصور والإدراك.
ومن هنا سلم شارح المطالع البساطة اللحاظية، إلا أنه قال: بحسب التحليل
ينحل إلى شيئين: ذات متصفة بالمبدأ (2).

(1) انظر هامش شرح المطالع: ص 11.
(2) شرح المطالع: ص 11. ولكنه لا يطابق مع ما ذكره في المتن، واليك نص عبارة المطالع
قال: والإشكال الذي استصعبه قوم بأنه لا يتناول التعريف بالفصل وحده ولا بالخاصة
وحدها فليس من تلك الصعوبة في شئ. أما أولا: فلأن التعريف بالمفردات إنما يكون
بالمشتقات، كالناطق والضاحك والمشتق وإن كان في اللفظ مفردا إلا أن معناه شئ له
المشتق منه فيكون من حيث المعنى مركبا.
294

ومما يؤكد ذلك تصدي المحقق الشريف لإقامة البرهان على البساطة: بأن
الالتزام بالتركيب يستلزم أحد المحذورين المتقدمين، وظاهر أن إثبات البساطة
اللحاظية لا يحتاج إلى مؤنة استدلال وإقامة برهان، فإن المرجع الوحيد لإثباتها
فهم أهل العرف أو اللغة، ولا إشكال في أنهم يفهمون من المشتق معنى واحدا كما
يفهمون من غيره من الألفاظ المفردة ذلك (1).
ومن الغريب ما صدر عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)، حيث قال ما لفظه
هذا: (إرشاد: لا يخفى أن معنى البساطة - بحسب المفهوم - وحدته إدراكا
وتصورا، بحيث لا يتصور عند تصوره إلا شئ واحد، لا شيئان وإن انحل بتعمل
من العقل إلى شيئين: كانحلال مفهوم الحجر والشجر إلى شئ له الحجرية أو
الشجرية مع وضوح بساطة مفهومهما. وبالجملة: لا تنثلم بالانحلال إلى الاثنينية
بالتعمل العقلي وحدة المعنى وبساطة المفهوم كما لا يخفى. والى ذلك يرجع
الإجمال والتفصيل الفارقان بين المحدود والحد مع ما هما عليه من الاتحاد ذاتا،
فالعقل بالتعمل يحلل النوع ويفصله إلى جنس وفصل بعد ما كان أمرا واحدا
إدراكا، وشيئا فاردا تصورا، فالتحليل يوجب فتق ما هو عليه من الجمع
والرتق) (2).
وجه الغرابة: هو ما عرفت من أن ما يصلح لأن يكون مورد البحث والنزاع
هو البساطة والتركيب بحسب التحليل العقلي، لا بحسب الإدراك والتصور،
ضرورة أن البساطة اللحاظية لا تصلح لأن تكون محورا للبحث ومركزا لتصادم
الأدلة والبراهين العقلية، بل لا تقع تحت أي بحث علمي كما لا يخفى.
وقد أشرنا آنفا: أن المرجع في إثباتها فهم العرف، لأن واقعها انطباع صورة
علمية واحدة في مرآة الذهن، سواء أكانت قابلة للانحلال في الواقع - كمفهوم

(1) هامش شرح المطالع: ص 11.
(2) راجع كفاية الأصول: ص 74.
295

الإنسان ونحوه - أم لم تكن، فمناط البساطة اللحاظية وحدة المفهوم إدراكا، بل
وحدة المفهوم في مرحلة التصور في كل مفهوم ومدلول للفظ واحد مما لم يقع
لأحد فيه شك وريب.
وقد تحصل من ذلك: أن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بالنتيجة من القائلين
بالتركيب، لا البساطة.
وكيف كان، فالمشهور بين الفلاسفة (1) والمتأخرين من الأصوليين منهم:
شيخنا الأستاذ (2) (قدس سره) بساطة المفاهيم الاشتقاقية، وقد أصروا على أنه لا فرق
بينها وبين المبادئ حقيقة وذاتا، وإنما الفرق بينهما بالاعتبار ولحاظ الشئ مرة لا
بشرط، وبشرط لا مرة أخرى، خلافا لجماعة منهم: شيخنا المحقق (3) (قدس سره) وصاحب
شرح المطالع (4)، فذهبوا إلى التركيب.
ويجب علينا أولا تحقيق الأمر في أن المفاهيم الاشتقاقية بسيطة أو مركبة؟
ثم على تقدير التركيب فهل هي مركبة من مفهوم الشئ والمبدأ أو من واقعه؟
فنقول: الصحيح هو أنها مركبة لا بسيطة، وتركبها إنما هو لأخذ مفهوم
الشئ فيها، فلنا دعويان:
الأولى: أن مفاهيم المشتقات مركبة، وغير بسيطة.
الثانية: أنها مركبة من مفهوم الشئ، لا من مصداقه.
وأما دعوى: أنها مركبة من المبدأ ومصداق الشئ والذات فهي باطلة جزما،
وذلك لاستلزامها أن يكون المشتق من متكثر المعنى، فإن الذوات متباينة
بالضرورة. فإذا قلنا: " زيد قائم " و " الجدار قائم " و " الصلاة قائمة " فالذات

(1) انظر الحكمة المتعالية: ج 1 ص 418.
(2) أجود التقريرات: ج 1 ص 65.
(3) انظر نهاية الأصول: ج 1 ص 127.
(4) شرح المطالع: ص 11.
296

المأخوذة في كل واحدة من هذه الجمل مباينة للذات المأخوذة في غيرها، فإذا
كان المأخوذ في مفهوم المشتق هو واقع الذات لتكثر مفهوم القائم لا محالة فلا
مناص من أن يكون الوضع عاما والموضوع له خاصا، وهذا مخالف للفهم العرفي
يقينا. وقد قدمنا سابقا: أن المشتقات كالجوامد وضعت لمعنى عام، فيكون
الموضوع له فيها كالوضع عاما فلا تكون من متكثر المعنى، كما أن الجوامد لم
تكن معانيها متكثرة (1).
وعليه، فالأمر دائر بين بساطة المفاهيم الاشتقاقية وأخذ مفهوم الشئ فيها،
والصحيح: هو الثاني. وقبل التكلم في ذلك ينبغي لنا بيان ما هو المراد من الذات
المأخوذة في المشتقات؟
فنقول: المراد منها ذات مبهمة في غاية الإبهام، ومعراة عن كل خصوصية من
الخصوصيات، ما عدا قيام المبدأ بها، فهي لمكان إبهامها واندماجها قابلة للحمل
على الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد، بل هي مبهمة من جهة أنها عين
المبدأ أو غيره، ومن هنا يصدق المشتق على الجوهر، والعرض، والأمر
الاعتباري، والانتزاعي، والزمان، وما فوقه من الواجب تعالى وغيره على وتيرة
واحدة، من دون لحاظ عناية في شئ منها، فهي كالموصولات في جهة الإبهام،
فكما أنها مبهمة من جميع الجهات إلا من ناحية صلتها - ولذا سميت بالمبهمات -
فكذلك هذه.
ومن هنا يصح التعبير عنها ب‍ " ما " و " من " الموصولتين، أو بكلمة " الذي "
على اختلاف الموضوعات باعتبار كونها من ذوي العقول أو من غيرها. فإذا قيل:
" العالم " فلا يراد منه إلا من ثبت له صفة العلم، وإذا قيل: " الماشي " فلا يراد منه إلا
من له صفة المشي، أو ماله صفة المشي، وهكذا...

(1) تقدم في ص 255 - 256 فراجع.
297

إذا عرفت هذا فأقول: يدل على تركب المعنى الاشتقاقي بالمعنى الذي
أوضحناه: الوجدان والبرهان.
أما الوجدان: فلأجل أن المتبادر عرفا من المشتق عند إطلاقه هو الذات
المتلبسة بالمبدأ على نحو الإبهام والاندماج - مثلا - عند إطلاق لفظ " ضارب "
تمثل في النفس ذات مبهمة متلبسة بالضرب، وهكذا...، وهذا المعنى وجداني لا
ريب فيه.
وأما البرهان فلما سنذكره: من أنه لا يمكن تصحيح حمل المشتق على
الذات إلا بأخذ مفهوم الشئ فيه، لأن المبدأ مغاير معها ذاتا وعينا، ولا يمكن
تصحيح حمله عليها بوجه، لمكان المغايرة بينهما حقيقة وخارجا. ومجرد
اعتباره لا بشرط لا يوجب اتحاده معها، ولا يقلبه عما هو عليه من المغايرة
والمباينة، لأن المغايرة لم تكن اعتبارية لتنتفي باعتبار آخر على ما سيأتي بيانه (1)
تفصيلا.
ومع هذا قد استدل القائلون بالبساطة بوجوه:
الأول: ما عن المحقق الشريف (2): من أن الذات لو كانت مأخوذة في
المشتقات فلا يخلو الحال: إما أن يكون الملحوظ حال الوضع مفهوم الذات،
أو مصداقها:

(1) وقد ذكر في الأجود ماله مزيد فائدة، واليك نصه:
(هذا، مع أن كل هيئة من هيئات المشتقات موضوعة بوضع على حدة في قبال وضع
المواد، فلا محالة يكون ما استعمل فيه الهيئة مغايرا لما يستعمل فيه المادة، فلا بد من دلالتها
على النسبة أو عليها مع الذات. وحيث إن المشتق بنفسه من دون أن يكون معتمدا على
الموصوف يمكن أن يكون موضوعا في القضية الحملية أو مسندا إليه في غيرها، فلا مناص
عن دلالته على الذات أيضا، وإلا كانت النسبة الكلامية قائمة بطرف واحد وهو غير معقول).
أجود التقريرات: ج 1 ص 66.
(2) انظر هامش شرح المطالع: ص 8.
298

فإن كان الأول لزم دخول العرض العام في الفصل كالناطق - مثلا - وهو
محال، لأن الشئ عرض عام فيستحيل أن يكون مقوما للجوهر النوعي، لأن
مقومه ذاتي له، والعرض العام خارج عنه.
وإن كان الثاني لزم انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية، فإن جملة
" الإنسان ضاحك " قضية ممكنة، إذ الضحك بماله من المعنى ممكن الثبوت
للإنسان، فلو كان الإنسان الذي هو مصداق الشئ مأخوذا فيه لكان صدقه على
الإنسان ضروريا لا محالة، لأنه من ثبوت الشئ لنفسه.
وأجاب عنه صاحب الكفاية (1) (قدس سره) وجماعة من الفلاسفة المتأخرين، منهم:
السبزواري في حاشيته على منظومته (2): أن الناطق فصل مشهوري وليس بفصل
حقيقي ليكون مقوما للجوهر النوعي، وذلك لتعذر معرفة حقائق الأشياء وفصولها
الحقيقية، وعدم إمكان وصول أحد إليها ما عدا الباري عز وجل. ومن هنا وضعوا
مكانه ما هو لازمه وخاصته، ليشيروا به إليه، فالناطق ليس بفصل حقيقي
للإنسان، بل هو فصل مشهوري وضع مكانه.
والوجه فيه: هو أن النطق المأخوذ في مفهوم الناطق: إن أريد به النطق
الظاهري الذي هو خاصة من خواص الإنسان فهو كيف مسموع، فلا يعقل أن
يكون مقوما للجوهر النوعي. وإن أريد به الإدراك الباطني - أعني: إدراك الكليات
- فهو كيف نفساني، وعرض من أعراض الإنسان أيضا، فكيف يكون مقوما له؟
فإن العرض إنما يعرض الشئ بعد تقومه بذاته وذاتياته، وتحصله بفصله.
ومما يدل على هذا: أنهم جعلوا الناهق فصلا للحمار، والصاهل فصلا للفرس،
وكلاهما كيف مسموع، فلا يعقل أن يقوم الجوهر النوعي به.
ومن هنا ربما يجعلون لازمين وخاصتين مكان فصل واحد، فيقولون:

(1) كفاية الأصول: ص 71.
(2) شرح المنظومة: ص 35.
299

" الحيوان حساس متحرك بالإرادة "، فإن الحساس والمتحرك بالإرادة خاصتان
للحيوان، وليستا بفصلين له، ضرورة أن الشئ الواحد لا يعقل أن يتقوم بفصلين،
فإن كل فصل مقوم للنوع وذاتي له فلا يعقل اجتماعهما في شئ واحد.
وعليه، فلا يلزم من أخذ الشئ في المشتق دخول العرض العام في الفصل،
بل يلزم منه دخوله في الخاصة، ولا محذور فيه، إذ قد يتقيد العرض العام بقيد
فيكون خاصة.
فما أفاده السيد الشريف: من استلزام أخذ مفهوم الشئ في المفهوم
الاشتقاقي دخول العرض في الفصل (1) غير تام بوجه.
هذا، وقد أورد عليه شيخنا الأستاذ (قدس سره): بأن الناطق بمعنى: التكلم أو: إدراك
الكليات وإن كان من لوازم الإنسان وعوارضه إلا أنه بمعنى: صاحب النفس
الناطقة فصل حقيقي، فيلزم من أخذ مفهوم الشئ في مفهوم المشتق دخول
العرض العام في الفصل (2).
وغير خفي أن هذا من غرائب ما صدر منه، فإن صاحب النفس الناطقة هو
الإنسان، وهو نوع لا فصل، إذا لا مناص من الالتزام بكون الناطق فصلا
مشهوريا وضع مكان الفصل الحقيقي، لتعذر معرفته غالبا بل دائما.
وأغرب منه ما أفاده (قدس سره): من أن الشئ ليس من العرض العام في شئ،
بل هو جنس الأجناس، وجهة مشتركة بين الجميع (3).
وذكر في وجه هذا: أن العرض العام ما كان خاصة للجنس القريب أو البعيد:
كالماشي والتحيز، والشيئية تعرض لكل ماهية من الماهيات وتنطبق عليها، فهي
جهة مشتركة بين جميعها، وليس وراءها أمر آخر يكون ذلك الأمر هو الجهة
المشتركة وجنس الأجناس لتكون الشيئية عارضة عليه وخاصة له كما هو شأن

(1) انظر هامش المطالع: ص 8.
(2) و (3) أجود التقريرات ص 69 - 70.
300

العرض العام، وعلى هذا فاللازم من أخذ مفهوم الشئ في المشتق دخول الجنس
في الفصل، لا دخول العرض العام فيه.
بل قال (قدس سره): ولم يظهر لنا بعد وجه تعبير المحقق الشريف عنه بالعرض العام
وإن ارتضاه كل من تأخر عنه. ومن البين: كما يستحيل دخول العرض العام في
الفصل كذلك يستحيل دخول الجنس فيه، لأن لكل واحد من الجنس والفصل
ماهية تباين ماهية الآخر ذاتا وحدا، فلا يكون أحدهما ذاتيا للآخر، فالحيوان
ليس ذاتيا للناطق وبالعكس، بل هو لازم أعم بالإضافة إليه، وذاك لازم أخص.
وعليه فيلزم من دخول الجنس في الفصل انقلاب الفصل إلى النوع وهو محال.
فقد أصبحت النتيجة: أن خروج مفهوم الشئ عن مفهوم المشتق أمر
ضروري، سواء قلنا بأن الشئ عرض عام أو جنس، وسواء أكان الناطق فصلا
حقيقيا أم مشهوريا، فإن دخول الجنس في اللازم كدخوله في الفصل الحقيقي
محال. هذا ملخص ما أفاده (قدس سره).
ولكنه غريب، فإن الشئ لا يعقل أن يكون جنسا عاليا للأشياء جميعا من
الواجب والممكن والممتنع، فإنه وإن كان صادقا على الجميع حتى على
الممتنعات فيقال: " اجتماع النقيضين شئ مستحيل " و " شريك الباري
- عز وجل - شئ ممتنع "، وهكذا... إلا أن صدقه ليس صدقا ذاتيا ليقال: إنه
جنس عال له، بداهة استحالة الجامع الماهوي بين المقولات المتأصلة والماهيات
المنتزعة والأمور الاعتبارية، بل لا يعقل الجامع الماهوي بين المقولات المتأصلة
بأنفسها، مع أنه كيف يعقل أن يكون الشئ جامعا ماهويا بين ذاته تعالى
ويبن غيره؟
وعلى الجملة: أن صدق مفهوم الشئ على الواجب والممتنع والممكن على
نسق واحد، فلا فرق بين أن يقال: " الله شئ " وبين أن يقال: " زيد شئ "
و " شريك الباري شئ "، وحيث إنه لا يعقل أن يكون صدقه على الجميع ذاتيا
301

فلا محالة يكون عرضيا.
فما أفاده (قدس سره): من أن الشئ جنس لما تحته من الأجناس العالية لا نعقل له
معنى محصلا، لأنه: إن أراد بالجنس معناه المصطلح عليه فهو غير معقول،
وإن أراد به معنى آخر فلا نعقله، ضرورة أن الشئ: إما جنس أو عرض عام
فلا ثالث.
ودعوى: أنه جنس لما تحته من المقولات الواقعية التي هي أجناس
عاليات دون غيرها مدفوعة:
أولا: بأن صدق الشئ بماله المفهوم على الجميع على حد سواء، وليس
صدقه على المقولات ذاتيا وعلى غيرها عرضيا.
وثانيا: أن الشئ لا يمكن أن يكون جنسا للمقولات الحقيقية، لاستحالة
جامع حقيقي بينها، بل قد برهن في محله: أن الجامع الحقيقي لا يعقل بين
المقولات التسع العرضية فضلا عن الجامع بين جميع المقولات.
فتحصل: أن مفهوم الشئ يستحيل أن يكون جنسا تندرج تحته الأجناس
العالية.
فالتحقيق: أن مفهوم الشئ مفهوم عام مبهم معرى عن كل خصوصية من
الخصوصيات: كمفهوم الأمر والذات، ويصدق على الأشياء جميعا صدقا عرضيا،
فيكون من العرض العام، لا من العرض المقابل للجوهر، فإنه لا يصدق على وجود
الواجب تعالى، ولا على غيره من الاعتبارات والانتزاعات ونحوهما. ومن
الواضح أن الشئ بماله من المفهوم يصدق على الجميع على نسق واحد.
ثم إن مرادنا من العارض هنا: ما هو خارج عن ذات الشئ ومحمول عليه.
فهذا هو الضابط للعرض العام والخاص، والعموم والخصوص يختلفان بالإضافة،
فالماشي عرض عام باعتبار وإضافة، وخاص باعتبار آخر وإضافة أخرى،
وهكذا...
302

وعلى ضوء هذا الضابط يظهر بطلان ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من الضابط
للعرض العام، وهو: ما كان خاصة للجنس القريب أو البعيد كالماشي والتحيز
مثلا (1)، وذلك لعدم الشاهد والبرهان عليه، بل الشاهد والبرهان على خلافه كما
مر، ولذا ذكروا أن الوجود من عوارض الماهية بمعنى: أنه خارج عن حيطة ذاتها
ومحمول عليها.
فما ذكره السيد الشريف وغيره: من أن الشئ عرض عام هو الصحيح.
وأما ما ذكره (قدس سره): من أنه على تقدير أخذ مصداق الشئ في المشتق لزم
انقلاب مادة الإمكان إلى الضرورة فيرده:
أولا: أن المأخوذ ليس واقع الشئ ومصداقه، بل مفهومه كما عرفت.
وثانيا: على تقدير تسليم أن المأخوذ مصداقه، إلا أنه لا يوجب الانقلاب
كما توهمه، لما سيجئ بيانه تفصيلا إن شاء الله تعالى، بل عدم أخذه من جهة
محذور آخر قد تقدم بيانه (2).
الثاني (3): ما ذكره صاحب الفصول (قدس سره): من أنه لو اخذ مفهوم الشئ في
المشتقات يلزم انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية، فإن قولنا: " الإنسان
ضاحك " من القضايا الممكنة، نظرا إلى أن كلا من ثبوت الضحك وعدمه ممكن
للإنسان، فلو كان معنى الكاتب: شئ له الكتابة فالقضية ضرورية، باعتبار أن
صدق الشئ بما هو على جميع الأشياء ضروري، فلو كان الشئ مأخوذا في
المشتق لزم الانقلاب (4).
والجواب عنه ما ذكره صاحب الكفاية وشيخنا الأستاذ (5) (قدس سرهما).

(1) أجود التقريرات: 69.
(2) تقدم في ص 296 - 297 فراجع.
(3) أي الوجه الثاني من وجوه استدلال القائلين بالبساطة.
(4) الفصول الغروية: ص 61.
(5) أجود التقريرات: 71 - 72.
303

وتوضيحه: أن الشئ تارة يلاحظ مطلقا ولا بشرط، واخرى يلاحظ مقيدا
بقيد، وذلك القيد: إما أن يكون مباينا للإنسان، أو مساويا له، أو عاما، أو خاصا.
فإن لوحظ على النحو الأول فثبوته وإن كان للإنسان وغيره ضروريا إلا
أنه خارج عن الفرض.
وإن لوحظ على النحو الثاني فإن كان القيد الملحوظ فيه أمرا مباينا للإنسان
امتنع ثبوته له، كما إذا لوحظ الشئ مقيدا بالطيران إلى السماء - مثلا - أو ما
شابه ذلك، فإنه بهذا القيد يستحيل صدقه عليه، فالامتناع - حينئذ - ضروري.
وإن كان القيد أمرا مساويا له فهو: إما أن يكون ممكن الثبوت له أو ثبوته
ضروري، فعلى الأول: القضية ممكنة كقولنا: " الإنسان ضاحك أو متعجب أو
كاتب ". وعلى الثاني: ضرورية، كقولنا: " الإنسان متكلم أو ناطق ".
وإن كان عاما فثبوته له دائما ضروري كقولنا: " الإنسان حيوان أو ماش أو
جوهر " وما شاكله.
وإن كان خاصا فثبوت الإنسان له ضروري على عكس المقام، كقولنا: " زيد
إنسان "، " العربي إنسان "، " العجمي إنسان "، وهكذا...
وهذا - أي: ثبوت الإنسان للأخص منه - إنما يكون ضروريا إذا لوحظ
الإنسان لا بشرط. وأما إذا لوحظ بشرط شئ من العلم أو الكتابة أو ما شاكل ذلك
فلا يكون ثبوته لزيد أو نحوه ضروريا، بل هو ممكن وإن كان ثبوته لمن هو
متصف بهذا الشئ فعلا ضروريا.
والسر في جميع هذا: هو أن المحمول ليس ذات المقيد بما هي، بل المقيد بما
هو مقيد على نحو خروج القيد ودخول التقيد.
وعلى هذا الضوء يتبين: أن ثبوت مفهوم الشئ بما هو ومطلقا لما صدق عليه
وإن كان ضروريا إلا أنه لا يستلزم أن يكون ثبوته مقيدا بقيد ما وبشرط شئ
أيضا كذلك، لما عرفت من اختلاف القيود وجوبا وإمكانا وامتناعا (1).

(1) كفاية الأصول ص 75، فوائد الأصول ص 71 - 72.
304

فما أفاده المحقق صاحب الفصول (قدس سره): من لزوم الانقلاب في صورة أخذ
مفهوم الشئ في المشتق غير صحيح، بل إنه حسب التحليل لا يرجع إلى معنى
معقول أصلا.
ومن مجموع ما ذكرناه يستبين: أنه لا وجه لدعوى الانقلاب، حتى لو كان
المأخوذ فيه مصداق الشئ وواقعه، وذلك لأن قضية " الإنسان كاتب " - مثلا -
وإن انحلت على هذا إلى قضية " الإنسان إنسان له الكتابة " إلا أن المحمول فيها
ليس هو الإنسان وحده ليكون ثبوته للإنسان من قبيل ثبوت الشئ لنفسه الذي
هو ضروري، بل المحمول هو الإنسان المقيد بالكتابة، ومن المعلوم أن ثبوته بهذا
الوصف لا يكون ضروريا.
ودعوى: انحلال القضية على هذا إلى قضيتين: إحداهما ضرورية، والاخرى
ممكنة مدفوعة: بأنا لا نسلم الانحلال، وذلك لأنه: إن أريد بالانحلال انحلال
عقد الوضع إلى قضية فعلية أو ممكنة على النزاع بين الشيخ الرئيس والفارابي (1)
فهو جار في جميع القضايا، فلا يختص ببعض دون بعض. وإن أريد به الانحلال
الحقيقي بأن يدعى أن قضية الإنسان كاتب - مثلا - تنحل حقيقة إلى قضيتين
مزبورتين ففيه: أنا لا نعقل له معنى محصلا.
نعم، المحمول منحل إلى أمرين، وهذا ليس من انحلال القضية إلى قضيتين في
شئ، إلا أن يقال: إن مرادهم من انحلال القضية ذلك، فلو كان كذلك فلا بأس بهذا
الانحلال، ولا محذور فيه، وإنما المحذور هو انقلاب مادة الإمكان إلى
الضرورة، وقد عرفت أن تركب المشتق لا يستلزمه.
فتلخص: أنه لا محذور في أخذ مصداق الشئ في المشتق إلا ما ذكرناه.
وكيف كان، فالأمر ظاهر، فلا وجه لإطالة الكلام في ذلك كما عن شيخنا

(1) انظر شرح المطالع: ص 128.
305

المحقق (1) (قدس سره) وغيره.
الثالث: ما أشار إليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): من أن أخذ مفهوم الشئ في
المفاهيم الاشتقاقية يستلزم تكرر الموضوع في قضية " زيد قائم " " الإنسان
كاتب " وما شاكلهما، والتكرر خلاف الوجدان والمتفاهم عرفا من المشتقات عند
استعمالاتها في الكلام (2).
ولا يخفى أنه قد سبق (3): أن المأخوذ فيها شئ مبهم معرى عن كل
خصوصية من الخصوصيات، ما عدا قيام المبدأ به، ولا تعين له إلا بالانطباق على
ذوات معينة في الخارج: كزيد وعمرو ونحوهما. وعليه فلا يلزم التكرار في مثل
قولنا: " زيد قائم " و " الإنسان كاتب " ونحوهما، بداهة أنه لا فرق بين جملة
" الإنسان كاتب " وجملة " الإنسان شئ له الكتابة "، فكما لا تكرار في الجملة
الثانية فكذلك في الأولى على التركيب، فإن التكرار إعادة عين ما ذكر أولا مرة
ثانية، وهو منتف هنا.
نعم، إنما يلزم ذلك لو كان المأخوذ في المشتقات مصداق الشئ وواقعه،
ولكنك عرفت أنه غير مأخوذ فيه، فالمأخوذ هو مفهوم الشئ على نحو الإبهام
والاندماج، وعليه فلا تكرار.
الرابع: ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أنا لو سلمنا إمكان أخذ الشئ في
المبدأ الاشتقاقي إلا أنه لم يقع في الخارج، وذلك لأن الواضع في مقام وضع لفظ
لمعنى لا بد له من ملاحظة فائدة مترتبة عليه، وإلا كان الوضع لغوا فلا يصدر
من الواضع الحكيم، والفائدة المترقبة من أخذ مفهوم الذات في المشتق: هي توهم

(1) نهاية الدراية: ص 128.
(2) كفاية الأصول: ص 74.
(3) تقدم في ص 297 فراجع.
306

عدم صحة حمله على الذات بدونه، ولكن الأمر ليس كذلك، فإن الملاك المصحح
للحمل هو اعتبار المبدأ في المشتق لا بشرط على ما سيأتي بيانه إن شاء الله
تعالى، فإذا يصبح أخذ مفهوم الشئ والذات فيه لغوا محضا.
ولا يخفى: أن أخذ الذات في المشتق مما لا بد منه، لاحتياج حمل العرض
على موضوعه إلى ذلك، لما سنذكره (1) إن شاء الله تعالى: من أن وجود العرض في
الخارج مباين لوجود الجوهر فيه وإن كان وجوده في نفسه عين وجوده
لموضوعه إلا أنهما لا يكونان متحدين خارجا ليصح حمل أحدهما على الآخر،
وملاك صحة الحمل - كما ذكرناه غير مرة - الاتحاد في الوجود (2) وهو منتف بين
العرض وموضوعه، ومجرد اعتبار العرض لا بشرط لا يوجب اتحاده معه، فإنه لا
ينقلب الشئ عما هو عليه من المغايرة والمباينة، فإن المغايرة ليست بالاعتبار
لينتفي باعتبار آخر غيره. ومن الظاهر أن وجود العرض غير وجود الجوهر في
نفسه، ولا يتحد معه باعتبار لا بشرط.
الخامس: ما ذكره شيخنا الأستاذ (3) (قدس سره) أيضا وهو: أنه يلزم من أخذ الذات
في المشتق أخذ النسبة فيه أيضا، إذ المفروض أن المبدأ مأخوذ فيه، فيلزم
- حينئذ - اشتمال الكلام الواحد على نسبتين في عرض واحد: إحداهما في تمام
القضية، والاخرى في المحمول فقط، وهذا مما لا يمكن الالتزام به أصلا، على أن
لازم ذلك: أن تكون المشتقات مبنية لاشتمالها على المعنى الحرفي وهو النسبة،
ولا يخفى ما فيه.
أما ما ذكره (قدس سره) أولا: من لزوم اشتمال الكلام الواحد على نسبتين في عرض
واحد فيرده: أن ذلك لو صح فإنما يلزم فيما لو كان المأخوذ فيه ذاتا خاصة،

(1) سيأتي ذكره في ص 310 فانتظر.
(2) تقدم في ص 1344 و 135، وسيأتي ذكره في ص 311 فلاحظ.
(3) أجود التقريرات: 67.
307

مع أنه لا يلزم على هذا أيضا، لأن النسبة في طرف المحمول لم تلحظ بنفسها
وباستقلالها لتكون نسبة تامة خبرية في عرض النسبة في تمام القضية، بل هي
نسبة تقييدية مغفول عنها في الكلام، وإنما تصير تامة خبرية في صورة الانحلال،
وهي خلاف الفرض، ولا مانع من اشتمال الكلام الواحد على نسبة تقييدية
ونسبة تامة خبرية، فلو كان هذا محذورا لم يختص ذلك بالمشتقات، بل يعم كثيرا
من القضايا والجملات كما لا يخفى.
هذا كله على تقدير أن يكون المأخوذ في مفهوم المشتق مصداق الشئ،
ولكن عرفت أن الأمر ليس كذلك، بل المأخوذ فيه هو ذات مبهمة معراة عن
كل خصوصية من الخصوصيات، ما عدا قيام المبدأ بها، وعليه فلا موضوع لما
أفاده (قدس سره).
وأما ما ذكره - (قدس سره) - ثانيا فهو غريب، وذلك لأن مجرد المشابهة للحروف
لا يوجب البناء، وإنما الموجب له هو مشابهة خاصة، وهي فيما إذا شابه الاسم من
الحروف حسب وضعه: كأسماء الإشارة والضمائر والموصولات فإنها حسب
وضعها بمالها من المادة والهيئة تشبه الحروف. وأما ما كان من الأسماء مشتملا
على النسبة بهيئته فقط دون مادته كالمشتقات فهو ليس كذلك، وأن هذه المشابهة
لا توجب البناء.
أو فقل: إن مادة المشتقات وضعت لمعنى حدثي مستقل بوضع على حدة،
فهي لا تشابه الحروف أصلا. وأما هيئاتها باعتبار اشتمالها على النسب وإن كان
تشابه الحروف إلا أنها لا توجب البناء.
ومن جميع ما ذكرناه يستبين: أن شيئا من هذه الوجوه لا يتم، فيتعين
- حينئذ - القول بالتركيب، بل أصبح هذا ضروريا.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قدس سره) ذكر: أن وجود العرض في حد نفسه عين وجوده
لموضوعه، بمعنى: أن العرض غير موجود بوجودين: أحدهما لنفسه. والآخر
308

لموضوعه، بل وجوده النفسي عين وجوده الرابطي، فوجوده في الخارج هو
الرابط بين موضوعاته.
وعليه، فحيث إن للعرض حيثيتين واقعيتين: إحداهما وجوده في نفسه،
والاخرى وجوده لموضوعه فقد يلاحظ بما أنه شئ من الأشياء، وأن له وجودا
بحياله واستقلاله في مقابل وجود الجوهر كذلك فهو بهذا الاعتبار عرض مباين
لموضوعه وغير محمول عليه. وقد يلاحظ على واقعه بلا مؤنة أخرى، وأن
وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه فهو بهذا الاعتبار عرضي ومشتق، وقابل
للحمل على موضوعه، ومتحد معه حيث إنه من شؤونه وأطواره، فإن شأن
الشئ لا يباينه (1).
ويرده أولا: أن هذا الفرق ليس فارقا بين المشتق ومبدئه، بل هو فارق بين
المصدر واسم المصدر، وذلك لأن العرض كالعلم - مثلا - كما عرفت: أنه متحيث
بحيثيتين واقعيتين: حيثية وجوده في حد نفسه، وحيثية وجوده لغيره، فيمكن أن
يلاحظ مرة بإحداهما، وهي: أنه شئ من الأشياء، وأن له وجودا في نفسه في
مقابل وجود الجوهر، وبهذا الاعتبار يعبر عنه باسم المصدر.
ويمكن أن يلاحظ مرة ثانية بالحيثية الأخرى، وهي: أن وجوده في نفسه
عين وجوده لموضوعه، وأنه من أطواره وعوارضه، وبهذا الاعتبار يعبر عنه
بالمصدر، إذ قد اعتبر فيه نسبته إلى فاعل ما، دون اسم المصدر.
وإن شئت قلت: إن اسم المصدر وضع للدلالة على الوجود المحمولي في قبال
العدم كذلك، والمصدر وضع للدلالة على الوجود النعتي في قبال العدم النعتي،
هذا بحسب المعنى.
وأما بحسب الصيغة: ففي اللغة العربية قلما يحصل التغاير بين الصيغتين،
بل الغالب أن يعبر عنهما بصيغة واحدة: كالضرب مثلا، فإنه يراد به تارة المعنى

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 117 - 118.
309

المصدري، واخرى ذات الحدث، فهما مشتركان في صيغة واحدة. وأما في اللغة
الفارسية: ففي الغالب أن لكل واحد منهما صيغة مخصوصة، فيقال: كتك وزدن،
گردش وگرديدن وآزمايش وآزمودن، إلى غير ذلك.
ومن ذلك يتبين: أن المصدر أو اسم المصدر لا يصلح أن يكون مبدأ
للمشتقات، لاشتمال كل واحد منهما على خصوصية زائدة، والمبدأ الساري فيها
لفظا ومعنى لا بد أن يكون معرى عن كل خصوصية من الخصوصيات، حتى
لحاظه بأحد النحوين المذكورين، مثلا: المبدأ في كلمة " ضرب ": هو عبارة عن
" الضاد والراء والباء "، وهو مبدأ لجميع المشتقات منها المصدر واسم المصدر.
أو فقل: إن المبدأ كالهيولي الأولى، فكما أنها عارية عن كل خصوصية من
الخصوصيات - وإلا فلا تقبل أية صورة ترد عليها، ولا تكون مادة لجميع
الأشياء - فكذلك المبدأ، وهذا بخلاف المصدر أو اسم المصدر، فإن كل واحد
منهما مشتمل على خصوصية زائدة على نفس الحدث المشترك بينهما.
فالنتيجة: أن الفرق المذكور ليس فارقا بين المبادئ والمشتقات، بل هو
فارق بين المصدر واسم المصدر.
وثانيا: لا ريب في أن وجود العرض يباين وجود الجوهر خارجا، وإن كان
وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه إلا أنه ليس بمعنى أن وجوده وجود
موضوعه، بل هو غيره حقيقة وواقعا، وليست هذه المغايرة والمباينة بالاعتبار
لينتفي باعتبار آخر.
وعليه، فكيف يقال: العرض إن لوحظ لا بشرط وعلى ما هو في الواقع، وأن
وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه، وأنه طور من أطواره وشأن من شؤونه
ومرتبة من وجوده فهو متحد معه، وإن لوحظ بشرط لا وعلى حياله واستقلاله،
وأنه شئ من الأشياء فهو مغاير له؟ فإن كل ذلك لا يصحح اتحاده مع موضوعه
وجودا وحقيقة، ضرورة أن مجرد اعتباره لا بشرط وكونه من أطوار وجود
310

موضوعه وشؤونه لا يوجب انقلاب الشئ عما هو عليه من المغايرة والمباينة إلى
الاتحاد بينهما وجودا.
وقد ذكرنا سابقا في بحث صحة السلب: أن حمل شئ على شئ يتوقف
على المغايرة من جهة والاتحاد من جهة أخرى، بأن يكونا موجودين بوجود
واحد ينسب ذلك الوجود الواحد إلى كل واحد منهما بالذات أو بالعرض، أو إلى
أحدهما بالذات والى الآخر بالعرض، وما بالعرض لا بد أن ينتهي لا محالة إلى ما
بالذات. ومن الواضح: أن العرض كما يباين الجوهر مفهوما كذلك يباينه وجودا،
ومجرد اعتباره لا بشرط بالإضافة إلى موضوعه لا يوجب اتحاده معه حقيقة
وخارجا، وهذا واضح لا ريب فيه.
وثالثا: لو تم هذا فإنما يتم في المشتقات التي تكون مبادئها من المقولات
التسع العرضية التي يكون وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعاتها. ولكن
قد سبق: أن النزاع لا يختص بها، بل يعم المشتقات التي تكون مبادئها من الأمور
الاعتبارية: كالملكية والزوجية وما شاكلهما، أو من الأمور الانتزاعية: كالإمكان
والوجوب والامتناع، أو من الأمور العدمية.
ومن الظاهر أن اعتبار اللابشرط في هذه المشتقات لا يجدي في شئ، بداهة
أن العدم ليس من عوارض ذات المعدوم، وكيف يعقل اتحاده معها إذا لوحظ لا
بشرط؟ فإنه لا وجود له ليقال: إن وجوده طور من أطوار وجود موضوعه.
والامتناع ليس من عوارض ذات الممتنع، فإنه لا وجود له خارجا ليقال: إن
وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه. والوجوب ليس عرضا مقوليا لذات
الواجب تعالى. والإمكان ليس من عوارض ذات الممكن كالإنسان مثلا. وكذا
الملكية ليست من عوارض ذات المالك أو المملوك بمعنى العرض المقولي، ولا
وجود لها خارجا ليقال: إنه ملحوظ لا بشرط، وإن وجودها في نفسه عين
وجودها لمعروضها.
311

تلخص: أنا لو سلمنا اتحاد العرض مع موضوعه خارجا فلا نسلم الاتحاد
في هذه الموارد. والتفكيك في وضع المشتقات بين هذه الموارد وتلك الموارد
التي يكون المبدأ فيها من الأعراض - بأن نلتزم بوضعها في تلك الموارد لمعاني
بسيطة متحدة مع موضوعاتها وفي هذه الموارد لمعاني مركبة - أمر لا يمكن،
ضرورة أن وضع المشتقات بشتى أنواعها وأشكالها على نسق واحد، فالمعنى إذا
كان بسيطا أو مركبا كان كذلك في جميع الموارد.
ورابعا: لو أغمضنا عن جميع ذلك وقلنا: إن كل وصف متحد مع موصوفه
سواء أكان من المقولات أم كان من الاعتبارات أو الانتزاعات، إلا أنا لا نسلم
ذلك في المشتقات التي لا يكون المبدأ فيها وصفا للذات: كأسماء الأزمنة
والأمكنة وأسماء الآلة، فإن اتحاد المبدأ فيها مع الذات غير معقول، ضرورة أن
الفتح لا يعقل أن يتحد مع الحديد، والقتل مع الزمان أو المكان الذي وقع فيه
ذلك المبدأ، وهكذا...
وعلى الجملة: أنا لو سلمنا اتحاد الوصف مع موصوفه في الوعاء المناسب
له من الذهن أو الخارج باعتبار أن وصف الشئ طور من أطواره وشأن من
شؤونه وشؤون الشئ لا تباينه فلا نسلم اتحاد الوصف مع زمانه ومكانه وآلته،
وغير ذلك من الملابسات، إذ كيف يمكن أن يقال: إن المبدأ إذا اخذ لا بشرط
يتحد مع زمانه أو مكانه أو آلته؟ فإن وجود العرض إنما يكون وجودا لموضوعه،
لا لزمانه ومكانه وآلته. إذا لا مناص للقائل ببساطة مفهوم المشتق أن يلتزم
بالتركيب في هذه الموارد، ولازم ذلك هو التفكيك في وضع المشتقات حسب
مواردها وهو باطل جزما، فإن وضعها على نسق واحد، ولم ينسب القول
بالتفصيل إلى أحد.
ومن ذلك كله نستنتج أمرين:
312

الأول: بطلان ما استدلوا على البساطة من الوجوه، كما تقدم (1).
الثاني: عدم إمكان تصحيح الحمل على البساطة بوجه، وهذا بنفسه دليل
قطعي على بطلان هذا القول، وضرورة الالتزام بالقول بالتركيب كما هو واضح.
ومضافا إلى هذا يدل على التركيب وجهان آخران:
الأول: أنه هو المطابق للوجدان وما هو المتفاهم من المشتق عرفا، مثلا:
المتمثل من كلمة " قائم " في الذهن ليس إلا ذات تلبست بالقيام دون المبدأ
وحده، وهذا لعله من الواضحات الأولية عند العرف.
الثاني: أنا لو سلمنا أنه يمكن تصحيح الحمل في حمل المشتق على الذات
باعتبار اللابشرط إلا أنه لا يمكن ذلك في حمل المشتق على مشتق آخر،
كقولنا: " الكاتب متحرك الأصابع " أو: " كل متعجب ضاحك "، فإن المشتق لو كان
عين المبدأ فما هو الموضوع؟ وما هو المحمول في أمثال هذه القضايا؟
ولا يمكن أن يقال: إن الموضوع هو نفس الكتابة التي هي معنى المشتق على
الفرض أو نفس التعجب، والمحمول هو نفس تحرك الأصابع أو نفس الضحك،
لأنهما متباينان ذاتا ووجودا، فلا يمكن حمل أحدهما على الآخر، لمكان
اعتبار الاتحاد من جهة في صحة الحمل كما عرفت، وبدونه فلا حمل.
وكذا لا يمكن أن يقال: إن الكتابة أو التعجب مع النسبة موضوع، ونفس
تحرك الأصابع أو الضحك محمول بعين الملاك المزبور، وهو المباينة بينهما
وجودا وذاتا، على أن النسبة أيضا خارجة عن مفهوم المشتق على القول
بالبساطة. إذا لا مناص لنا من الالتزام بأخذ الذات في المشتق ليصح الحمل في
هذه الموارد. وهذا بنفسه برهان على التركيب.
فالنتيجة من مجموع ما ذكرناه لحد الآن: أن أخذ مفهوم الذات في المشتق
يمكن الوصول إليه من طرق أربعة:

(1) راجع ص 298 - 308.
313

1 - بطلان القول بالبساطة.
2 - مطابقته للوجدان.
3 - عدم إمكان تصحيح حمله على الذات بدون الأخذ.
4 - عدم صحة حمل وصف عنواني على وصف عنواني آخر بغيره.
ثم إن لشيخنا المحقق (قدس سره) في المقام كلام وحاصله: هو أنه بعد ما اعترف
بمغايرة المشتق ومبدئه وأن مفهوم المشتق قد اخذ فيه ما به يصح حمله على
الذات ذكر: أن المأخوذ فيه هو الأمر المبهم من جميع الجهات لمجرد تقوم
العنوان، وليس من مفهوم الذات، ولا من المفاهيم الخاصة المندرجة تحتها في
شئ، بل هو مبهم من جهة انطباقه على المبدأ نفسه كما في قولنا: " الوجود
موجود " أو: " البياض أبيض "، ومن جهة عدم انطباقه عليه كما في قولنا: " زيد
قائم " (1).
وأنت خبير بأن الأمر المبهم القابل للانطباق على الواجب والممكن والممتنع
لا محالة يكون عنوانا عاما يدخل تحته جميع ذلك. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنا لا نجد في المفاهيم أوسع من مفهوم الشئ والذات،
إذا لا محالة يكون المأخوذ في مفهوم المشتق هو مفهوم الذات والشئ، وهو
المراد من الأمر المبهم، ضرورة أنا لا نعقل له معنى ما عدا هذا المفهوم.
وإن شئت فقل: إن مفهوم الشئ والذات مبهم من جميع الجهات
والخصوصيات، ومنطبق على الواجب والممتنع والممكن بجواهره وأعراضه
وانتزاعاته واعتباراته.
فما أفاده (قدس سره): من أن المأخوذ في مفهوم المشتق ليس من مفهوم الذات ولا
مصداقه في شئ غريب.
والإنصاف: أن كلماته في المقام لا تخلو عن تشويش واضطراب كما لا يخفى.

(1) راجع نهاية الدراية: ج 1 ص 129.
314

الفرق بين المشتق والمبدأ
المشهور بين الفلاسفة: هو أن الفرق بين المبدأ والمشتق إنما هو باعتبار اللا
بشرط وبشرط اللا (1). وقع الكلام في المراد من هاتين الكلمتين: لا بشرط
وبشرط لا.
وقد فسر صاحب الفصول (قدس سره) مرادهم منهما بما يراد من الكلمتين في بحث
المطلق والمقيد.
وملخصه: هو أن الماهية مرة تلاحظ لا بشرط بالإضافة إلى العوارض
والطوارئ الخارجية، واخرى بشرط شئ، وثالثا بشرط لا. فعلى الأول تسمى
الماهية مطلقة ولا بشرط. وعلى الثاني تسمى بشرط شئ. وعلى الثالث بشرط
لا. وعلى هذا فلو ورد لفظ في كلام الشارع ولم يكن مقيدا بشئ من
الخصوصيات المنوعة أو المصنفة أو المشخصة وشككنا في الإطلاق ثبوتا
فنتمسك بإطلاقه في مقام الإثبات لإثبات الإطلاق في مقام الثبوت بقانون التبعية
إذا تمت مقدمات الحكمة.
مثلا: لو شككنا في اعتبار شئ في البيع: كالعربية أو اللفظ أو نحو ذلك
لأمكن لنا التمسك بإطلاق قوله تعالى: * (أحل الله البيع) * (2) لإثبات عدم اعتباره
فيه. وأما إذا كان مقيدا بشئ من الخصوصيات المتقدمة فنستكشف منه التقييد
ثبوتا بعين الملاك المزبور (3).
ثم أورد عليهم: بأن هذا الفرق غير صحيح، وذلك لأن صحة الحمل وعدم
صحتها لا تختلف من حيث اعتبار شئ لا بشرط أو بشرط لا، لأن العلم والحركة

(1) انظر الشواهد الربوبية: ص 43، والأسفار: ج 7 ص 22.
(2) البقرة: 275.
(3) الفصول الغروية: ص 62.
315

والضرب وما شاكلها مما يمتنع حملها على الذوات وإن اعتبر لا بشرط ألف مرة،
فإن ماهية الحركة أو العلم بنفسها غير قابلة للحمل على الشئ. فلا يقال: " زيد
علم أو حركة "، ومجرد اعتبارها لا بشرط بالإضافة إلى الطوارئ والعوارض
الخارجية لا يوجب انقلابها عما كانت عليه، فاعتبار اللا بشرط وبشرط اللا من
هذه الناحية على حد سواء، فالمطلق والمقيد من هذه الجهة سواء، وكلاهما آبيان
عن الحمل، فما ذكروه من الفرق بين المشتق والمبدأ لا يرجع إلى معنى صحيح (1).
ولا يخفى أن ما ذكره ليس مرادا للفلاسفة من الكلمتين: " اللا بشرط وبشرط
اللا " يقينا كما سيتضح ذلك. وعليه فما أورده (قدس سره) عليهم في غير محله.
وقال المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في مقام الفرق بينهما ما هذا لفظه: (الفرق
بين المشتق ومبدئه مفهوما: أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ،
ولا يعصي عن الجري عليه لما هما عليه من نحو من الاتحاد، بخلاف المبدأ فإنه
بمعناه يأبى عن ذلك، بل إذا قيس ونسب إليه كان غيره لا هو هو، وملاك الحمل
والجري إنما هو نحو من الاتحاد والهوهوية، والى هذا المعنى يرجع ما ذكره أهل
المعقول في الفرق بينهما) (2).
أقول: ظاهر عبارته (قدس سره): أن الفرق بينهما ذاتي، بمعنى: أن مفهوم المشتق
سنخ مفهوم يكون في حد ذاته لا بشرط فلا يأبى عن الحمل. ومفهوم المبدأ سنخ
مفهوم يكون في حد ذاته بشرط لا فيأبى عن الحمل، لا أن هنا مفهوما واحدا
يلحظ تارة لا بشرط، واخرى بشرط لا ليكون الفرق بينهما بالاعتبار واللحاظ.
ويرد عليه: أن هذا لا يختص بالمشتق ومبدئه، بل هو فارق بين كل مفهوم
آب عن الحمل، وما لم يأب عن ذلك، بل إن هذا من الواضحات الأولية، ضرورة
أن كل شئ إذا كان بمفهومه آبيا عن الحمل فهو لا محالة كان بشرط لا. وكل شئ

(1) الفصول الغروية: ص 62.
(2) كفاية الأصول: ص 75.
316

إذا لم يكن بمفهومه آبيا عنه فهو لا محالة كان لا بشرط. ومن الواضح أن الفلاسفة
لم يريدوا بهاتين الكلمتين هذا المعنى الواضح الظاهر، فإنه غير قابل للبحث، ولا
أن يناسبهم التصدي لبيانه كما لا يخفى.
فالصحيح أن يقال: إن مرادهم كما هو صريح كلماتهم: هو أن ماهية العرض
والعرضي " المبدأ والمشتق " واحدة بالذات والحقيقة، والفرق بينهما بالاعتبار
واللحاظ من جهة أن لماهية العرض في عالم العين حيثيتين واقعيتين: إحداهما
حيثية وجوده في نفسه، واخرى حيثية وجوده لموضوعه.
فهي تارة تلاحظ من الحيثية الأولى وبما هي موجودة في حيالها واستقلالها،
وأنها شئ من الأشياء في قبال وجودات موضوعاتها، فهي بهذا اللحاظ
والاعتبار عرض ومبدأ بشرط لا، وغير محمول على موضوعه لمباينته معه،
وملاك الحمل الاتحاد في الوجود.
وتارة أخرى تلاحظ بما هي في الواقع ونفس الأمر، وأن وجودها في نفسه
عين وجودها لموضوعها، وأن وجودها ظهور الشئ، وطور من أطواره، ومرتبة
من وجوده، وظهور الشئ لا يبان، فهي بهذا الاعتبار عرضي ومشتق لا بشرط،
فيصح حملها عليه.
وبعين هذا البيان قد جروا في مقام الفرق بين الجنس والمادة، والفصل
والصورة، حيث قالوا: إن التركيب بين المادة والصورة تركيب اتحادي لا
انضمامي، وهما موجودتان في الخارج بوجود واحد حقيقة، وهو وجود النوع
كالإنسان ونحوه، فإن المركبات الحقيقية لا بد لها من جهة وحدة حقيقية، وإلا
لكان التركيب انضماميا. ومن الظاهر أن الوحدة الحقيقية لا تحصل إلا إذا كان
أحد الجزءين قوة صرفة والآخر فعلية محضة، فإن الاتحاد الحقيقي بين جزءين
فعليين أو جزءين كليهما بالقوة غير معقول، لإباء كل فعلية عن فعلية أخرى، وكذا
كل قوة عن قوة أخرى، ولذلك صح حمل كل من الجنس على الفصل وبالعكس،
317

وحمل كل منهما على النوع، وكذا العكس، فلو كان التركيب انضماميا لم يصح
الحمل أبدا، لمكان المغايرة والمباينة.
وعلى هذا الضوء فالتحليل بين أجزاء المركبات الحقيقية - لا محالة - تحليل
عقلي، بمعنى: أن العقل يحلل تلك الجهة الواحدة إلى ما به الاشتراك وهو الجنس،
وما به الامتياز وهو الفصل، فالجهة المميزة لتلك الحقيقة الواحدة عن بقية الحقائق
هي الفصل، وإلا فالجنس هو الجهة الجامعة والمشتركة بينها وبين سائر الأنواع
والحقائق.
ويعبر عن جهة الاشتراك بالجنس مرة، وبالمادة أخرى، كما أنه يعبر عن
جهة الامتياز بالفصل تارة، وبالصورة تارة أخرى، وليس ذلك إلا من جهة أن
اللحاظ مختلف.
فقد تلاحظ جهة الاشتراك بما لها من المرتبة الخاصة والدرجة المخصوصة
من الوجود الساري، وهي كونها قوة صرفة ومادة محضة.
وقد تلاحظ جهة الامتياز بما لها من الحد الخاص الوجودي، وهو كونه
فعلية وصورة. ومن الظاهر تباين الدرجتين والمرتبتين بما هما درجتان
ومرتبتان، فلا يصح حمل إحداهما على الأخرى، ولا حمل كلتيهما على النوع،
ضرورة أن المادة بما هي مادة وقوة محضة كما أنها ليست بإنسان كذلك ليست
بناطق، كما أن الصورة بما هي صورة وفعلية كذلك، فكل جزء بحده الخاص يباين
الجزء الآخر كذلك حقيقة وواقعا، كما أنه يباين المركب منهما، وملاك صحة
الحمل الاتحاد، والمباينة تمنع عنه، وهذا مرادهم من لحاظهما بشرط لا.
وقد تلاحظ كل واحدة من جهتي الاشتراك والامتياز بمالهما من الاتحاد
الوجودي في الواقع، نظرا إلى شمول الوجود الواحد لهما، وهو الساري من
الصورة، وما به الفعلية إلى المادة وما به القوة، ومتحدتان في الخارج بوحدة
حقيقية، لأن التركيب بينهما اتحادي لا انضمامي كما مر. وبهذا اللحاظ صح
318

الحمل، كما أنه بهذا الاعتبار يعبر عن جهة الاشتراك بالجنس، وعن جهة الامتياز
بالفصل. وهذا مرادهم من لحاظهما لا بشرط.
فتبين: معنى اتحاد الجنس والمادة والفصل والصورة بالذات والحقيقة،
واختلافهما بالاعتبار واللحاظ. كما أنه تبين من ذلك: معنى اتحاد جهتي
الاشتراك والامتياز وجودا وعينا، وأنهما حيثيتان واقعيتان اختلفتا مفهوما
ولحاظا، واتحدتا عينا وخارجا.
وعلى هذا الضوء يتضح لك الفرق بين الجنس والفصل والعرض وموضوعه،
فإن التركيب بين الأولين حقيقي، ولهما جهة واحدة بالذات والحقيقة كما عرفت،
والتركيب بين الأخيرين اعتباري، والمغايرة حقيقية، وذلك لاستحالة التركيب
الحقيقي بين العرض والجوهر من جهة فعلية كل واحد منهما خارجا، وهي تمنع
عن حصول الاتحاد بينهما واقعا.
وعلى نهج هذه النقطة الرئيسية للفرق بين العرض وموضوعه، والجنس
والفصل قد ظهر أمران:
الأول: أن ما ذكره الفلاسفة: من أن جهتي الاشتراك والامتياز إن لوحظتا لا
بشرط صح الحمل، وإن لوحظتا بشرط لألم يصح فهو صحيح.
أما بالنسبة إلى النقطة الأولى من كلامهم فلمكان ملاك الحمل، وهو الاتحاد
والهوهوية.
وأما بالنسبة إلى النقطة الثانية منه فلمكان المغايرة بين المادة بدرجتها
الخاصة والصورة كذلك، فإن الدرجتين بما هما درجتان متباينتان حقيقة فلا ملاك
للحمل، وإن كانتا مشتركتين في وجود واحد والوجود الواحد شامل لهما معا
فهاتان الحيثيتان - حيثية اتحاد المادة مع الصورة وحيثية مغايرتها معها - حيثيتان
واقعيتان لهما مطابق في الخارج، وليستا بمجرد اعتبار لا بشرط وبشرط لا ليقال:
كما أن اعتبار لا بشرط لا يجدي مع المغايرة ولا ينقلب الشئ به عما كان عليه
319

كما تقدم (1) كذلك اعتبار بشرط لا لا يجدي مع الاتحاد حقيقة، ولا يوجب انقلاب
الشئ عما كان عليه، لأن الاتحاد ليس بالاعتبار لينتفي باعتبار طارئ آخر،
بل المراد هنا: هو أن اعتبار لا بشرط اعتبار موافق لحيثية لها مطابق في الواقع،
واعتبار بشرط لا اعتبار موافق لحيثية أخرى لها مطابق فيه أيضا، لا أن الواقع
ينقلب عما هو عليه بالاعتبار.
الثاني: أن لهم دعويين:
الأولى: أن مفهوم المشتق بسيط ذاتا وحقيقة، ولا فرق بينه وبين مفهوم المبدأ
بالذات، وإنما الفرق بينهما بالاعتبار واللحاظ.
الثانية: أن اعتبار لا بشرط يصحح الحمل، فالمبدأ إذا لوحظ لا بشرط فهو
مشتق وعرضي، ويصح حمله على موضوعه. وإن اعتبر بشرط لا فهو عرض فلا
يصح، كما هو الحال في الجنس والفصل، والمادة والصورة.
ولا يخفى ما في كلتا الدعويين:
أما الدعوى الأولى: فلما ذكرناه سابقا: من أن مفهوم المشتق مركب من ذات
لها المبدأ، وقد أثبتناه بالوجدان والبرهان، وناقشنا في جميع ما يستدل على
البساطة واحدا بعد واحد على ما تقدم (2).
ثم لو فرضنا أن مفهوم المشتق بسيط فلا مناص من الالتزام بكونه غير مفهوم
المبدأ، ومباينا له ذاتا، وذلك لما عرفت من استحالة حمل مفهوم المبدأ على
الذات في حال من الحالات، وضرورة صحة حمل المشتق بماله من المفهوم عليها
في كل حال، ونتيجة ذلك: أن مفهوم المشتق على تقدير تسليم أن يكون بسيطا فلا
محالة يكون مباينا لمفهوم المبدأ بالذات.

(1) راجع ص 311 من هذا الكتاب.
(2) راجع ص 298 - 308.
320

وأما الدعوى الثانية: فيردها الوجوه المتقدمة (1) جميعا، واليك ملخصها:
1 - إن هذا الفرق ليس فارقا بين المشتق ومبدئه، بل هو بين المصدر واسمه.
2 - إن وجود العرض مباين لوجود الجوهر ذاتا، فلا يمكن الاتحاد بينهما
باعتبار اللابشرط.
3 - إن هذا لو تم فإنما يتم فيما إذا كان المبدأ من الأعراض المقولية دون
غيرها.
4 - إنا لو سلمنا أنه تم حتى فيما إذا كان المبدأ أمرا اعتباريا أو انتزاعيا، إلا
أنه لا يتم في مثل: اسم الآلة والزمان والمكان وما شاكل ذلك.
ما هي النسبة بين المبدأ والذات؟
المبدأ قد يكون مغايرا للذات كما في قولنا: " زيد ضارب " مثلا، واخرى
يكون عين الذات كما في الصفات العليا له تعالى فيقال: " الله قادر وعالم ".
لا إشكال في صحة إطلاق المشتق وجريه على الذات على الأول، وإنما
الكلام في الثاني، وأنه يصح إطلاقه على الذات أم لا؟ فيقع الإشكال فيه من
جهتين:
الأولى: اعتبار التغاير بين المبدأ والذات، ولا يتم هذا في صفاته تعالى
الجارية عليه، لأن المبدأ فيها متحد مع الذات، بل هو عينها خارجا، ومن هنا التزم
صاحب الفصول (2) (قدس سره) بالنقل في صفاته تعالى عن معانيها اللغوية.
الثانية: اعتبار تلبس الذات بالمبدأ وقيامه بها بنحو من أنحاء القيام، وهذا
بنفسه يقتضي التعدد والاثنينية، ولا اثنينية بين صفاته تعالى وذاته، بل فرض
العينية بينهما يستلزم قيام الشئ بنفسه، وهو محال.

(1) تقدم في ص 309 - 312.
(2) الفصول الغروية: ص 62.
321

لا يخفى أن هذه الجهة في الحقيقة متفرعة على الجهة الأولى، وهي: اعتبار
المغايرة بين المبدأ والذات، فإنه بعد الفراغ من اعتبارها يقع الكلام في الجهة
الثانية، وأن ما كان المبدأ فيه متحدا مع الذات بل عينها خارجا كيف يعقل قيامه
بالذات وتلبس الذات به؟ لأنه من قيام الشئ بنفسه وهو محال، إذا لا يعقل
التلبس والقيام في صفاته تعالى.
وقبل أن نصل إلى البحث عن هاتين الجهتين نقدم مقدمة، وهي: أن الصفات
الجارية عليه تعالى على قسمين:
أحدهما: صفاته الذاتية، وهي التي يكون المبدأ فيها عين الذات: كالعالم
والقادر والحياة (1) والسميع والبصير. وقد ذكرنا في بحث التفسير: أن مرجع
الأخيرين إلى العلم، وأنهما علم خاص، وهو العلم بالمسموعات والمبصرات (2).
وثانيهما: صفاته الفعلية، وهي التي يكون المبدأ فيها مغايرا للذات: كالخالق
والرازق والمتكلم والمريد والرحيم والكريم، وما شاكل ذلك، فإن المبدأ فيها -
وهو الخلق أو الرزق أو نحوه - مغاير لذاته تعالى.
ومن هنا يظهر ما في كلام صاحب الكفاية (قدس سره) من الخلط بين صفات الذات
وصفات الفعل، حيث عد (قدس سره) الرحيم من صفات الذات (3)، مع أنه من صفات
الفعل.
وكيف كان، إذا اتضح لك هذا فنقول: إن صاحب الفصول (قدس سره) قد التزم في
الصفات العليا والأسماء الحسنى الجارية عليه تعالى بالنقل والتجوز:
1 - من جهة عدم المغايرة بين مبادئها والذات.
2 - من جهة عدم قيامها بذاته المقدسة وتلبسها بها لمكان العينية (4).

(1) كذا في النسختين والصواب: الحي.
(2) البيان في تفسير القرآن: ص 432.
(3) كفاية الأصول: ص 76.
(4) الفصول الغروية: ص 62 س 28.
322

وقد أجاب عن المحذور الأول صاحب الكفاية وشيخنا الأستاذ (1) (قدس سرهما): بأن
المبدأ في الصفات العليا له تعالى وإن كان عين ذاته المقدسة إلا أن الاتحاد
والعينية في الخارج لا في المفهوم واللحاظ، فإن مفهوم المبدأ - كالعلم أو القدرة -
مغاير لمفهوم ذاته تعالى، وتكفي المغايرة المفهومية في صحة الحمل والجري،
ولا يلزم معها حمل الشئ على نفسه.
وعلى هذا الضوء أوردا على الفصول (قدس سره) بأنه لاوجه للالتزام بالنقل
والتجوز في الصفات الذاتية له تعالى، فإن مبادئها - كما عرفت - مغايرة للذات
مفهوما.
وأورد شيخنا الأستاذ (2) (قدس سره) ثانيا بعين ما أورد في الكفاية على الجهة الثانية،
وهو: أن الالتزام بالنقل والتجوز يستلزم تعطيل العقول عن فهم الأوراد والأذكار
بالكلية، ويكون التكلم بها مجرد لقلقة لسان.
وأورد في الكفاية على الجهة الثانية - وهي: أن اعتبار التلبس والقيام يقتضي
الاثنينية -: بأنه لا مانع من تلبس ذاته تعالى بمبادئ صفاته العليا، فإن التلبس
على أنحاء متعددة: تارة يكون التلبس والقيام بنحو الصدور. واخرى بنحو
الوقوع. وثالثا بنحو الحلول. ورابعا بنحو الانتزاع كما في الاعتبارات
والإضافات. وخامسا بنحو الاتحاد والعينية كما في قيام صفاته العليا بذاته
المقدسة، فإن مبادئها عين ذاته الأقدس. وهذا أرقي وأعلى مراتب القيام
والتلبس وإن كان خارجا عن الفهم العرفي (3).
وقد ذكرنا غير مرة (4): أن نظر العرف لا يكون متبعا إلا في موارد تعيين
مفاهيم الألفاظ سعة وضيقا. والمتبع في تطبيقات المفاهيم على مواردها النظر

(1) انظر كفاية الأصول: ص 74، وأجود التقريرات: ج 1 ص 84.
(2) أجود التقريرات: ج 1 ص 84.
(3) كفاية الأصول: ص 77.
(4) سيأتي في (ج 3) فانتظر.
323

العقلي، فإذا كان هذا تلبسا وقياما بنظر العقل، بل كان من أتم مراتبه لم يضر عدم
إدراك أهل العرف ذلك.
وعليه فلا وجه لما التزم به في الفصول من النقل في الصفات الجارية عليه
تعالى عما هي عليه من المعنى، كيف؟ فإن هذه الصفات لو كانت بغير معانيها
جارية عليه تعالى: فإما أن تكون صرف لقلة لسان وألفاظا بلا معان فإن غير هذه
المفاهيم العامة غير معلوم لنا إلا ما يقابل هذه المعاني العامة ويضادها، وإرادته
منها غير ممكنة.
والتحقيق في المقام يقتضي التكلم في جهات ثلاث:
الأولى: في اعتبار المغايرة بين المبدأ والذات في المشتقات حقيقة وذاتا، أو
تكفي المغايرة اعتبارا أيضا.
الثانية: في صحة قيام المبدأ بالذات فيما إذا كانا متحدين خارجا.
الثالثة: أنه على تقدير الالتزام بالنقل في صفاته العليا هل يلزم أحد
المحذورين المتقدمين أم لا؟
أما الكلام في الجهة الأولى: فقد تقدم أنه يعتبر في صحة حمل شئ على
شئ التغاير بينهما من ناحية، والاتحاد من ناحية أخرى. وأما بين الذات والمبدأ
فلا دليل على اعتبار المغايرة حتى مفهوما فضلا عن كونها حقيقة، بل قد يكون
مفهوم المبدأ بعينه هو مفهوم الذات، وبالعكس كما في قضية الوجود فهو موجود
والضوء مضئ، وهكذا...، فالمبدأ في الموجود هو الوجود، وفي المضئ هو
الضوء، فلا تغاير بين المبدأ والذات حتى مفهوما.
وعلى الجملة: فالمبدأ قد يكون عين الذات خارجا وإدراكا، بل إطلاق
العنوان الاشتقاقي عليها - حينئذ - أولى من إطلاقه على غيرها وإن كان خارجا
عن الفهم العرفي، مثلا: إطلاق الموجود على الوجود أولى من إطلاقه على غيره،
لأنه موجود بالذات، وغيره موجود بالعرض.
324

وعلى هذا الضوء لا مانع من إطلاق صفاته العليا عليه تعالى حقيقة وإن كانت
مبادئها عين ذاته الأقدس.
وأما الكلام في الجهة الثانية: فالمراد بالتلبس والقيام ليس قيام العرض
بمعروضه وتلبسه به، وإلا لاختص البحث عن ذلك بالمشتقات التي تكون
مبادئها من المقولات التسع، ولا يشمل ما كان المبدأ فيه من الاعتبارات أو
الانتزاعات كما لا يخفى، مع أن البحث عنه عام.
بل المراد منه: واجدية الذات للمبدأ في قبال فقدانها له، وهي تختلف
باختلاف الموارد:
فتارة يكون الشئ واجدا لما هو مغاير له وجودا ومفهوما، كما هو الحال في
غالب المشتقات.
واخرى يكون واجدا لما هو متحد معه خارجا، وعينه مصداقا وإن كان
يغايره مفهوما، كواجدية ذاته تعالى لصفاته الذاتية.
وثالثة يكون واجدا لما يتحد معه مفهوما ومصداقا، وهو واجدية الشئ
لنفسه، وهذا نحو من الواجدية، بل هي أتم وأشد من واجدية الشئ لغيره،
فالوجود أولى بأن يصدق عليه الموجود من غيره، لأن وجدان الشئ لنفسه
ضروري.
فتلخص: أن المراد من التلبس: الواجدية، وهي كما تصدق على واجدية
الشئ لغيره كذلك تصدق على واجدية الشئ لنفسه، ومن هذا القبيل: واجدية الله
تعالى لصفاته الكمالية وإن كانت الواجدية بهذا المعنى خارجة عن الفهم العرفي
إلا أنه لا يضر بعد الصدق بنظر العقل. وعلى هذا فلا أصل لإشكال استحالة تلبس
الشئ بنفسه.
وأما الكلام في الجهة الثالثة - وهي: استلزام النقل تعطيل العقول عن فهم
الأوراد والأذكار - فالظاهر أنه لا يتم في محل الكلام وإن تم في مقام إثبات أن
325

مفهوم الوجود واحد ومشترك معنوي بين الواجب والممكن كما ذكره السبزواري
في شرح منظومته (1)، وغيره.
أما أنه لا يتم في المقام فلأن المغايرة بين المبدأ والذات حسب المتفاهم
العرفي واللغوي من المشتقات الدائرة في الألسن أمر واضح لا ريب فيه، وقد مر:
أن الاتحاد والعينية بينهما خارج عن الصدق العرفي، فلا يصح - حينئذ - إطلاق
المشتق عليه تعالى بهذا المعنى المتعارف.
وإن شئت فقل: إن المبدأ فيه عين ذاته المقدسة، فلا تغاير بينهما أصلا، فلا
محالة يكون إطلاقه عليه بمعنى آخر مجازا، وهو ما يكون المبدأ فيه عين الذات،
فلا يراد من كلمتي " العالم والقادر " في قولنا: يا عالم ويا قادر - مثلا - معناهما
المتعارف، بل يراد بهما: من يكون علمه وقدرته عين ذاته، واليه أشار بعض
الروايات (2): أن الله تعالى علم كله وقدرة كله وحياة كله.
ولعل هذا هو مراد الفصول من النقل والتجوز. وعليه فلا يلزم من عدم إرادة
المعنى المتعارف من صفاته العليا لقلقة اللسان وتعطيل العقول.
وأما أنه يتم في مفهوم الوجود فلأجل أن إطلاق الموجود عليه تعالى:
إما أن يكون بمعناه المتعارف وهو الشئ الثابت، ويعبر عنه في اللغة الفارسية
" هستي " (3).
وإما أن يكون بما يقابله وهو المعدوم.
وإما أن لا يراد منه شئ، أو معنى لا نفهمه.
فعلى الثاني يلزم تعطيل العالم عن الصانع.
وعلى الثالث يلزم تعطيل العقول، وأن يكون التلفظ به مجرد لقلقة لسان

(1) انظر شرح المنظومة: ص 10 فن الحكمة.
(2) بحار الأنوار: ج 4 ص 84 ح 17 و 18.
(3) أي: الوجود. انظر لغت نامه دهخدا: ج 48 ص 214.
326

وألفاظ بلا معنى، وكلا الأمرين غير ممكن، فيتعين الأول.
ما هو المتنازع فيه في المشتق؟
إن كلامنا في مسألة المشتق، والغرض من البحث عنها: إنما هو معرفة مفهومه
ومعناه سعة وضيقا، كما هو الحال في سائر المباحث اللفظية، بمعنى: أنه موضوع
لمفهوم وسيع منطبق على المتلبس والمنقضي معا، أو لمفهوم ضيق لا ينطبق إلا
على المتلبس فقط.
وأما تطبيق هذا المفهوم على موارده وإسناده إليها هل هو بنحو الحقيقية أو
المجاز؟ فهو خارج عن محل الكلام. فإن الإسناد إن كان إلى ما هو له فهو حقيقة،
وإن كان إلى غير ما هو له فهو مجاز. ولا يلزم مجاز في الكلمة في موارد الادعاء
والإسناد المجازي، فإن الكلمة فيها استعملت في معناها الحقيقي، والتصرف، إنما
هو في الإسناد والتطبيق. مثلا: لو قال: " زيد أسد " فلفظ " الأسد " استعمل في معناه
الموضوع له وهو الحيوان المفترس، فيكون حقيقة، ولكن في تطبيقه على زيد
لوحظ نحو من التوسعة والعناية، فيكون التطبيق مجازا.
وأوضح من ذلك موارد الخطأ، فإذا قيل: " هذا زيد " ثم بان أنه " عمرو "
فلفظ " زيد " ليس بمجاز، لأنه استعمل في ما وضع له، والخطأ إنما هو في التطبيق،
وهو لا يضر باستعماله فيه، أو قيل: " هذا أسد " ثم بان أنه حيوان آخر، أو إذا رأى
أحد شبحا من بعيد وتخيل أنه إنسان فقال: " هذا إنسان " ثم ظهر أنه ليس
بإنسان، وهكذا...، فاللفظ في أمثال هذه الموارد استعمل في معناه الموضوع له،
والتوسع إنما هو في التطبيق والإسناد إما ادعاء وتنزيلا، أو خطأ وجهلا، وكذا
المشتقات، فإن كلمة " الجاري " في مثل قولنا: " النهر جار " أو: " الميزاب جار " قد
استعملت في معناها الموضوع له، وهو المتلبس بالجريان، والمجاز إنما هو في
327

إسناد الجري إلى النهر أو الميزاب، لا في الكلمة، وهذا من دون فرق بين أن يكون
مفهوم المشتق مركبا أو بسيطا، كما هو واضح.
ومن هنا يظهر ما في كلام الفصول: من أنه يعتبر في صدق المشتق واستعماله
في ما وضع له حقيقة أن يكون الإسناد والتطبيق أيضا حقيقيا، فاستعمال المشتق
في مثل قولنا: " الميزاب جار " ليس استعمالا في معناه الحقيقي، فإن التلبس
والإسناد فيه ليس بحقيقي (1)، وذلك لأن ما ذكره (قدس سره) مبني على الخلط بين المجاز
في الكلمة والمجاز في الإسناد بتخيل أن الثاني يستلزم الأول، مع أن الأمر ليس
كذلك، فإن كلمتي: " سائل وجار " في مثل قولنا: " الميزاب جار " أو: " النهر سائل "
استعملتا في معناهما الموضوع له، وهو المتلبس بالمبدأ فعلا، غاية الأمر: تطبيق
هذا المعنى على النهر أو الميزاب إنما هو بنحو من التوسعة والعناية، وهذا معنى
مجاز في الإسناد دون الكلمة. فما أفاده (قدس سره): من اعتبار الإسناد الحقيقي في صدق
المشتق حقيقة في غير محله.
يتلخص هذا البحث حول الموضوعات المتقدمة في عدة أمور:
الأول: أن محل البحث في مفاهيم المشتقات هو بساطتها وتركيبها بحسب
الواقع والتحليل العقلي، لا بحسب الإدراك واللحاظ كما يظهر من الكفاية على
ما مر.
الثاني: أن الذات المأخوذة فيها مبهمة من جميع الجهات والخصوصيات،
ما عدا قيام المبدأ بها، ولذا تصدق على الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد.
الثالث: أن جميع الوجوه التي أقاموها على بطلان القول بالتركيب باطلة فلا
يمكن الاعتماد على شئ منها.
الرابع: أن القول بوضع المشتق للمعنى المركب من مفهوم الذات دون البسيط
هو الصحيح، لدلالة الوجدان والبرهان عليه كما سبق.

(1) انظر الفصول الغروية: ص 62 س 18.
328

الخامس: أن ما ذكره الفلاسفة وغيرهم: من أن الفرق بين المشتق ومبدئه هو
لحاظ الأول لا بشرط ولحاظ الثاني بشرط لا غير صحيح، لوجوه قد تقدمت (1).
نعم، ما ذكروه من الفرق بين المادة والجنس، والصورة والفصل - وهو اعتبار
أحدهما لا بشرط والآخر بشرط لا - صحيح.
السادس: أنه لا دليل على اعتبار التغاير بين المبدأ والذات مفهوما، فضلا
عن اعتبار التغاير خارجا وحقيقة كما في الوجود والموجود، والبياض
والأبيض،... وهكذا نعم، المتبادر من المشتقات الدائرة في الألسنة هو تغاير
المبدأ والذات مفهوما وخارجا، ولذا قلنا: إن إطلاق المشتق عليه تعالى ليس على
نحو الإطلاق المتعارف، بل هو على نحو آخر، وهو: كون المبدأ عين الذات وإن
كان هذا المعنى خارجا عن الفهم العرفي.
السابع: أن المراد من التلبس والقيام: واجدية الذات للمبدأ، لا قيام العرض
بموضوعه كما عرفت (2).
الثامن: لا يعتبر في استعمال المشتق في ما وضع له حقيقة أن يكون الإسناد
والتلبس أيضا حقيقيا كما عن الفصول.
إلى هنا قد تم الجزء الأول من كتابنا " محاضرات في أصول الفقه "، وسيتلوه
الجزء الثاني - إن شاء الله تعالى، وبعونه وتوفيقه - [وأوله بحث الأوامر]
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

(1) راجع ص 316 - 322.
(2) قد تقدم في ص 279 فراجع.
329