الكتاب: مناهج الوصول إلى علم الأصول
المؤلف: السيد الخميني
الجزء: ١
الوفاة: ١٤١٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: شوال ١٤١٤ - ١٣٧٣ ش
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قده) - قم
ردمك:
ملاحظات:

مناهج الوصول
1

مناهج الوصول
إلى علم الأصول
الجزء الأول
تأليف الامام الخميني (قدس سره)
تحقيق مؤسسة تنظيم ونشر آثار الامام الخميني قدس سره - قم
3

اسم الكتاب: مناهج الوصول إلى علم الأصول (الجزء الأول) المؤلف: الإمام الخميني (قده)
تحقيق ونشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قده) - قم
سنة الطبع الثاني: زمستان 1373 - رجب 1415
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة
لمؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره
4

بسم الله الرحمن الرحيم
5

مقدمة التحقيق
7

مقدمة
بقلم سماحة آية الله الشيخ محمد الفاضل اللنكراني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف
بريته محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على
أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد
فمما أنعم الله تعالى - من نعمائه التي لا تحصى، وآلائه التي
لا تعد - نعمة عظيمة يجب علي بإزائها الشكر الكثير، وهي أن وفقني
لإدراك دورة كاملة من المباحث الأصولية التي ألقاها سيدنا الأستاذ العلامة
المحقق الإمام الخميني - قدس سره الشريف - على جم غفير من الأفاضل في
الحوزة العلمية المقدسة التي هي بالفعل أم الحوزات العلمية في عالم الشيعة،
وهي حوزة قم المحمية، التي هي عش أهل البيت - عليهم السلام والسلام -
من الزمن القديم إلى يومنا هذا.
ولا غرض لي - في هذا المجال - في تعريف الأستاذ وتبيين شخصيته،
9

بل ولا حاجة إليه، لكونها غنية عن البيان غنية عن البيان لا سيما من مثلي الذي هو
من أقل تلاميذه بعد كون أبعاده العلمية - الفقهية والأصولية والفلسفية والعرفانية والأخلاقية والتفسيرية والرجالية وغيرها من
العلوم الإسلامية والفنون المذهبية ومقدماتها - واضحة لدى المخالف والمؤالف،
لا سيما بعد تحقق الثورة الإسلامية الإيرانية المشتهرة في الآفاق، الواقعة
بضل الله وعنايته الخاصة، بعد المجاهدات الكثيرة وتحمل المشاق والآلام
المتنوعة والتضحيات الكثيرة من الأمة المسلمة الإيرانية، الذي كان كثير منهم
من الشباب، لأن الثورة المسبوقة بالمعارضات التي طالت خمس عشرة سنة
كانت بقيادة الروحانية والمرجعية وعلى رأسهم الإمام - قدس سره - فإنه كان
هو القائد الأعظم والمؤسس لنظام الحكومة الإسلامية المحضة، التي يكون
تعريفها وتبيينها من طريق أهل البيت - عليهم الصلاة والسلام - والانصاف
أن تأسيس تلك الحكومة في الظرف الذي كان الحاكم على إيران مستظهرا
بالقدرة العظيمة الظاهرية التي لم يكن فوقها قدرة، وهي قدرة الشيطان
الأكبر الذي هو أم الفساد في جميع أقطار العالم في هذا الزمان، وهو
أمريكا، كان أشبه بالمعجزة، خصوصا مع عدم الاستظهار بقدرة أخرى أصلا
وعدم توفر الإمكانات وعدم التجهيزات حتى الأجهزة الأولوية والآلات
الساذجة. نعم كان المستظهر به هي القدرة المطلقة الإلهية، التي لا يماثلها
قدرة أصلا، والإيمان والاعتقاد بتلك القدرة غير المحدودة (إن تنصروا الله
ينصركم ويثبت أقدامكم) ولا شك أن النصر المضاف إلى المحدود محدود،
والمضاف إلى الله غير المحدود غير محدود، فجزاء النصر الجزئي المحدود هو
النصر الكلي غير المحدود.
10

واليوم نشاهد ثمرات الثورة في أبعادها المختلفة، ومن ثمراتها حدوث
التحول الكامل، خصوصا في الشباب الذين كان كثير منهم قبل الثورة
غواصين في بحار الشهوات، وأحاطت بهم الخطيئات، ولم يكن همهم إلا
الالتذاذ بالمعاصي والاشتغال بالسيئات، وقد تحول حالهم إلى أن صار
مطلوبهم الأكبر الذي كانوا يدعون له في صلاة ليلهم هي الشهادة في سبيل
الله وفداء أنفسهم في الحرب مع العراق التي أشعلها الشيطان الأكبر لغرض
مواجهة الثورة وإسقاطها واجتثاثها من أصلها، اعتقادا بأن الحكومة
الإسلامية والقوانين القرآنية المنطبقة على الفطرة الأصلية والعقل السليم
لا تقف عند نقطة خاصة، بل تسري إلى سائر البلاد، وهو كذلك، فنرى الميل إلى الإسلام الواقعي المحض في كثير من الممالك الإسلامية التي يترأسها
المنتحلون للإسلام المتظاهرون به مع عدم اعتقادهم به بوجه، ولأجله تكون
المعارضة والمخالفة مستمرة، وكثيرا ما يقدم المعارضون التضحيات الكثيرة.
وفي عقيدتي أن أهم ثمرة للثورة الذي لا تبلغه ثمرة أخرى في
الأهمية والعظمة هو اشتهار عقائد الشيعة واطلاع العالم عليها، وعلى
أن مدرسة التشيع هي مدرسة المعارضة للظالم والخروج على الطاغوت
وحكومته بأي نحو كان على مر التاريخ ولم يكن لهذه الشهرة سابقة في
بدء الإسلام وأول حدوثه، ولذا ترتب على هذه الشهرة توجه أنظار
المحققين وأفكار الباحثين الطالبين للحقيقة إلى هذا المذهب. ومن الواضح
أن الفطرة السليمة غير المشوبة إذا نظرت إلى عقائد الشيعة وأفكارهم في
الفنون الإسلامية المختلفة - الفردية والاجتماعية، السياسية والاقتصادية،
وسائر شؤونها المتكثرة - لا تكاد تشك في صحتها وكونها هي العقائد الحقة
11

والقوانين الصالحة لإدارة المجتمعات والحكومات، لابتنائها على العقل السليم
والمنطق الصحيح والحرية والاستقلال والتكفل لجميع شؤون المعاش والمعاد
في جميع الأعصار والأدوار وكل أقطار العالم على اختلاف ألسنتهم
وألوانهم وأفكارهم.
وبعد ذلك نرجع الآن إلى ما هو الغرض في هذه المقدمة فنقول:
أول من صنف في علم الأصول
قال السيوطي في محكي كتاب " الأوائل: " أول من صنف في أصول
الفقه الشافعي بالإجماع. وصرح بذلك جمع من أعلام المؤرخين وبعض
المصنفين فيما يتعلق بالكتب كصاحب كتاب " كشف الظنون ".
وربما يحتمل أن يكون أبو يوسف - الذي هو سابق على الشافعي وتلميذ
لأبي حنيفة - هو أول من صنف في ذلك، كما قاله ابن خلكان في ترجمته،
كما أنه هو أول من لقب بقاضي القضاة.
كما أنه يحتمل أن يكون هو محمد بن الحسن الشيباني فقيه العراق،
لأنه مقدم على الشافعي، وقد صرح ابن النديم في " الفهرست ": أن من جملة
مؤلفاته الكثيرة تأليفا يسمى ب‍ " أصول الفقه "، وتأليفا سماه كتاب
" الاستحسان "، وتأليفا بعنوان " كتاب اجتهاد الرأي ".
لكن الظاهر - كما يظهر من كتاب " تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام "
للسيد الأجل الصدر - قدس سره - أن أول من صنف في ذلك - بعد ما كان
المؤسس هما الإمامين الهمامين الصادقين عليهما السلام - هشام بن الحكم،
صنف كتاب " الألفاظ ومباحثها "، وهو أهم مباحث هذا العلم، ثم
12

يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين، صنف كتاب " اختلاف الحديث
ومسائله "، وهو مبحث تعارض الحديثين، و " مسائل التعادل والترجيح في
الحديثين المتعارضين "، ذكرهما أبو العباس النجاشي في كتاب " الرجال "،
والشافعي متأخر عنهما.
سير علم الأصول عند الشيعة وقوسه النزولي والصعودي
الظاهر أن أول من اعتمد على علم الأصول في مقام الاستنباط واستند
إليه الشيخ الجليل حسن بن علي بن أبي عقيل، الذي هو من مشايخ جعفر
ابن محمد بن قولويه صاحب كتاب " كامل الزيارات " وأحد مشايخ الشيخ
المفيد - قدس سره - وهو أول من هذب الفقه، واستعمل النظر، وفتق (1)
البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى، وله كتاب " المتمسك
بحبل آل الرسول صلى الله عليه وآله " في الفقه.
ثم اقتفى أثره ونهج منهجه ابن الجنيد المعروف بالإسكافي، الذي هو
- كما صرح به السيد بحر العلوم قدس سره - من أعيان الطائفة الإمامية،
وأعاظم الفرقة المحقة، وأفاضل قدماء الإمامية، وأكثرهم علما وفقها وأدبا
وتصنيفا، وأحسنهم تحريرا وأدقهم نظرا تبلغ مصنفاته نحو من خمسين
كتابا، منها كتاب " تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة " مشتمل على جميع
مباحث الفقه، وهو عشرون مجلدا.
وقد وصلت النوبة بعدهما إلى الشيخ الأكبر محمد بن محمد

(1) فتق الكلام: نقحه وقومه.
13

النعمان المعروف ب‍ (المفيد) فألف كتابا في الأصول، يشتمل مع اختصاره
على أمهات المباحث والمطالب، وقد رأيت مصنفا له في الأصول في
غاية الاختصار لا يتجاوز عدة صفحات، ولعله كان كتابا آخر منه في
هذا العلم.
وتبعه في ذلك تلميذاه اللذان هما من أركان الطائفة، والمتبحرين في
الفنون المختلفة الإسلامية، ولهما تآليف قيمة، وتصنيفات ثمينة في
أكثرها، وهما: السيد الأجل السيد المرتضى الملقب ب‍ (علم الهدى)
وشيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي - قدس سره القدوسي -
فقد صنف الأول كتاب " الذريعة إلى أصول الشريعة "، والثاني كتاب
" عدة الأصول " الذي قال في شأنه السيد بحر العلوم: هو أحسن كتاب
صنف في الأصول.
ولجلالة شأن الشيخ الطوسي، وعظمة مقامه، وكثرة تأليفاته واستنباطاته
وفتاواه، لم يعد أحد من تلامذته نظريات أستاذهم، ولم يتجاسروا على
نقدها وتمحيصها.
واستمرت هذه الحالة إلى أن وصلت النبوة إلى سبط الشيخ ابن إدريس
الحلي المعروف بصاحب " السرائر، فجدد البحث والانتقاد، وفتح باب
الاستنباط والاجتهاد بعد الركود والانسداد.
وانتقل الدور بعده إلى الفاضلين: المحقق صاحب " الشرائع " وابن
أخته العلامة الحلي، فأحكما أساس البحث والنظر، وألفا في الفقه
والأصول كتبا كثيرة، فألف الأولى في الأصول كتاب " نهج الوصول
إلى معرفة الأصول " وكتاب " المعارج "، والثاني صنف كتبا كثيرة عمدتها
14

" نهج الوصول إلى علم الأصول "، الذي تصدى لشرحه جمع من
أجلاء الأصحاب منهم ابنه فخر المحققين، وصار مدار البحث والدرس
إلى زمان الشهيد الثاني، وقد ألف الشهيد المزبور كتابا في ذلك سماه
" تمهيد القواعد "، وابنه صاحب " المعالم " كتابه المعروف ب‍ " المعالم " الذي
كان إلى زماننا هذا مدار البحث والدرس في بدء الشروع في علم
الأصول، لسلاسة تعبيره وجودة جمعه وسهولة تناوله، ولأجله صار
موردا لإقبال العلماء عليه بالتحشية والتعليق والشرح، وأحسنها ما ألفه
الشيخ محمد تقي الأصفهاني - أخو صاحب " الفصول " - المسمى
ب‍ " هداية المسترشدين " وهو كتاب كبير مشتمل على تحقيقات كثيرة
وتدقيقات بديعة.
وفي هذه الدورة بلغت العناية بعلم الأصول مرتبة لم تكن حاجة إلى
بلوغه تلك المرتبة بوجه، بعد كونها مقدمة للفقه، ولم تكن لها موضوعية،
وعلى حسب تعبير بعض الأعظم اتصف بالتورم والخروج عن الحد.
إلى أن وصلت النوبة إلى الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري
صاحب كتاب الرسائل " وتلميذه المحقق الخراساني صاحب " الكفاية " قدس
سرهما فقد وقع منهما التنقيح والتهذيب والترتيب على وجه أنيق، وصار
الكتابان من الكتب الدراسية في الحوزات العلمية، وعليهما شروح وتعاليق
كثيرة، وصارت أنظارهما موردا للتدقيق والتحقيق من قبل أجلاء
تلاميذهما، ولهم في ذلك تآليف قيمة وأنظار ثمينة، لا يمكن إنكار علو
رتبتها الكاشف عن الغوص في أعماق بحار المطالب والبلوغ إلى منتهى
المراتب العالية والدرجات المتعالية.
15

وبعد ذلك انتقل الدور إلى الطبقة اللاحقة التي منهم سيدنا الأستاذ
العلامة المحقق الأصولي الكبير الامام الخميني قدس سره الشريف.
منهج الامام - قدس سره - وأنظاره في علم الأصول
وأما منهجه فقد كان بناؤه على ملاحظات المطالب من أصلها والنظر في
أساسها وأنها هل أسست على أساس صحيح قابل للقبول، أو أن أساسها
مخدوش ومورد للنظر والباحث، فقد رأينا في مباحثه أنه كثيرا ما يضع
إصبعه على نكتة البحث ويهتم بالأساس الذي لعله كان مسلما عندهم،
ويناقش فيه، ولأجله تصير المسألة متطورة متغيرة، ولا تصل النبوة إلى البحث
عن الأغصان والفروع، ومن هذه الجهة كان بحثه - قدس سره - في أعلى
درجة الفائدة، وموجبا لشحذ أذهان الفضلاء والطلبة، ولم تكن المطالب
مقبولة عنده تعبدا وتقليدا، بل كانت ملحوظة أسسا وأصولا. ولعمري إن
هذه مزية مهمة توجب الرشد والرقاء، وتؤثر في كمال التحقيق والتدقق.
وأما أنظاره القيمة الابتكارية المحضة أو تبعا لبعض مشايخه، فكثيرة نشير
إلى بعضها:
منها: ما يترتب عليه ثمرات مهمة وفوائد جمة: وهو عدم انحلال
الخطابات العامة المتوجهة إلى العموم - بحيث يكون الخطاب واحدا
والمخاطب متعددا - إلى الخطابات الكثيرة حسب كثرة المخاطبين وتعدد
المكلفين، بل الخطاب واحد والمخاطب متعدد، والشرط في صحة هذا النحو
من الخطاب يغاير الشرط في الخطابات الشخصية، فإنه لا يمكن في الخطاب
الشخصي توجيه إلى المخاطب مع العلم بعدم القدرة - مثلا - مع أنه لا مانع
16

من كونه مخاطبا في ضمن العموم مع وصف كونه كذلك.
ويترتب عليه صحة الأمر بالضدين الأهم والمهم من دون أن يكون
هناك ترتب في البين، كما يتكلفه القائل بالترتب الذي صار موردا
للإثبات والنفي إلى حد الاستحالة، فإنه عليه يكون الأمر ثابتين من
دون ترتب وطولية في البين، وكذا يترتب عليه صحة تكليف الكفار والعصاة
مع العلم بعصيانهم ومخالفتهم. وكذا ثمرات مهمة أخرى كعدم اشتراط
الابتلاء الذي جعله الشيخ الأعظم الأنصاري - قدس سره - من شرائط
منجزية العلم الإجمالي، وقال: بأن خروج بعض الطرفين أو الأطراف عن
محل الابتلاء يمنع عن تأثير العلم رأسا، وعلى مبنى الإمام - قدس سره -
لا يبقى مجال لهذا الاشتراط.
ومنها: ما أفاده في إبطال ما اشتهر - بل ولعله من المسلم عندهم - من أن
الماهية توجد بوجود فرد ما، وتنعدم بانعدام جميع الأفراد.
وملخص ما بينه وأفاده: أنه إذا كان الطبيعي موجودا بوجود فرد ما،
فالإنسان يوجد بوجود زيد لا محالة، كما أنه يوجد بوجود عمرو، لكن زيدا
وعمرا إنسانان لا إنسان واحد، فإذا كان وجود زيد وجود إنسان تام وتحقق
كمال الطبيعة وتمام الماهية، فكيف لا يكون عدمه عدمها؟! فكما أن الإنسان
يوجد بوجود زيد كذلك ينعدم بعدمه لا محالة، لكن لا مانع من وجود
الماهية وعدمه في آن واحد، فكما أن الإنسان يتصف في آن واحد بالبياض
والسواد معا لأجل اتصاف زيد بالأول وعمرو بالثاني، كذلك يتصف
بالوجود والعدم معا للعلة المذكورة بعينها، وعليه فلا يبقى مجال لما اشتهر
من أن الماهية توجد بوجود فرد ما وتنعدم بانعدام جميع الأفراد، بل هي
17

توجد بوجود فرد وتنعدم بانعدام، ويجتمع الأمران - الوجود والعدم -
فيها في آن واحد.
ومنها: ما أفاده في إبطال ما استفاده مثل المحقق الخراساني
- قدس سره - من المسألة المعروفة في الفلسفة، وهي أن الماهية من حيث هي
هي ليست إلا هي، لا موجودة ولا معدومة ولا مطلوبة ولا غير مطلوبة من
أن مقتضى ذلك عدم إمكان تعلق الأحكام التكليفية بنفس الطبائع
والماهيات، لأنها في عالم الماهية ليست إلا هي، ولا تكون مطلوبة كما أنها
لا تكون غير مطلوبة.
ومحصل ما أفاد في إبطال هذا المقال: أن مقصود الفلاسفة من العبارة
المذكورة أن الماهية في مرتبتها التي هي مرتبة الجنس والفصل لا يكون أمر آخر
غيرهما مأخوذا فيها، بحيث يكون في عداد الجنس والفصل حتى الوجود،
فإن الماهية وإن كانت متصفة بالوجود إلا أن الوجود لا يكون داخلا فيها
جزء لا جنسا ولا فصلا، كما أن العدم - أيضا - يكون كذلك مع أنها في
الخارج لا تخلو إما عن الوجود وإما عن العدم.
وبعبارة أخرى: العبارة المذكورة ناظرة إلى الحمل الأولى الذاتي الذي
لا يكون دون الاتحاد في الماهية وإن لم نقل باعتبار الاتحاد في المفهوم فيه
أيضا والبحث في تعلق الأحكام بالطبائع ناظر إلى الحمل الشائع الصناعي،
فماهية الصلاة واجبة لا بمعنى كون الوجوب جزء لماهيتها، بل بمعنى كونها
معروضة للوجوب.
ومن هنا يظهر: أن إضافة الوجوب إلى الماهية إنما هو في عداد إضافة
الوجود إليها، ولا فرق بين الأمرين، وعليه فلا مجال للفرار عن الشبهة
18

المذكورة بالاتجاء إلى كون متعلق الأحكام هو وجود الطبائع، كما زعمه
المحقق الخراساني - قدس سره - مضافا إلى استحالة تعلق التكليف بالوجود،
للزوم تحصيل الحاصل، والتحقيق في محله.
ويترتب على ما أفاده وضوح جواز اجتماع الأمر والنهي في مثل الصلاة
في الدار المغصوبة، لعدم تحقق الاتحاد بين العنوانين في عالم تعلق الأمر
والنهي وكون الاتحاد في الخارج الذي هو خارج عن مرحلة تعلق الأحكام
وغير ذلك من الثمرات.
ومنها: أنه قد اشتهر لا سيما في كلام المحقق الخراساني - قدس سره - أن
لكل حكم مراتب أربعة: الاقتضاء والإنشاء والفعلية والتنجز، ولو أخرجنا
الاقتضاء والتنجز عن المراتب، نظرا إلى كون الأول قبل الحكم وسببا مقتضيا
له، والثاني بعد الحكم، لأنه عبارة عن استحقاق العقوبة على المخالفة، تبقى
المرتبتان الإنشاء والفعلية، والمراد بالأول مرتبة جعل الحكم ووضعه وإنشائه،
وبالثاني مرتبة بلوغه إلى لزوم العمل على طبقه، والجري على وفقه.
والإمام - قدس سره - قد أنكر هذه المراتب بل المرتبتين أيضا، والتزم بأن
الأحكام على قسمين - لا أن لكل منها مرتبتين -:
قسم - وهو جل الأحكام - عبارة عن الأحكام الفعلية الواقعة في جريان
العمل والقوانين التي يلزم تطبيق العمل عليها.
والقسم الآخر: هي الأحكام الإنشائية التي تصير فعلية في زمن المهدي
صاحب العصر والزمان - عجل الله فرجه - وبعد ظهوره.
فالإنشائية والفعلية منوعتان لجنس الحكم، لا أنهما مرتبتان لكل حكم،
والتحقيق في محله.
19

ومنها: ما أفاده في إبطال ما كان مسلما عند مثل المحقق الخراساني
- قدس سره - من أن الأوامر على ثلاثة أقسام: الأمر الواقعي الأولي، والأمر
الثانوي الاضطراري، والأمر الظاهري، وأن الأول مثل الأمر بالصلاح مع
الطهارة المائية، والثاني مثل الأمر بها مع الطهارة الترابية، والثالث مثل الأمر
بها مع الطهارة الظاهرية الثابتة بالبينة أو بمثل الاستصحاب وقاعدة الطهارة.
ومحصل ما أفاده: أن تعدد الأمر غير قابل للقبول، بل في المثال المذكور
الأمر الواحد قد تعلق بطبيعة الصلاة في قوله - تعالى - في موارد متعددة:
(أقيموا الصلاة) وآية الوضوء والتيمم ناظرة إلى تبيين المتعلق واشتراطه
بالوضوء لواجد الماء وبالتيمم لفاقد الماء، من دون أن يكون هناك أمران، كما
أن أدلة حجية البينة والأصول العملية المثبتة للطهارة ناظرة إلى جواز الاكتفاء
بالطهارة الثابتة بها في مقام الامتثال وموافقة الأمر بالصلاة من دون أن
يكون هناك أمر ثالث، فالأمر واحد ومتعلقة - أيضا - واحد، لكن الأدلة
الأخرى ناظرة إلى بيان الشرطية والاكتفاء بالشرط ولو كان ثابتا بأصل أو
أمارة، فنرى في مورد بعض أدلة الاستصحاب إجراءه في مورد الشك في
الوضوء مع العلم بحدوثه من دون أن يكون فيه إشعار بتعدد الأمر ووجود أمر
آخر غير الأمر المتعلق بطبيعة الصلاة، بل مفاده التوسعة في دليل آية الوضوء،
وأن الوضوء الاستصحابي يكفي في تحقق الشرط. نعم قد وقع البحث في أنه
مع انكشاف الخلاف وأنه لم يكن متوضئا في حال الشك هل يكون المأتي
به مجزيا أم لا؟
ومنها: ما اختاره تبعا لشيخه واستاذه صاحب كتاب " وقاية الأذهان "
من أن المجاز لا يكون استعمالا للفظ في غير ما وضع له، بل يكون استعمالا
20

فيما وضع له، غاية الأمر ثبوت ادعاء في لابين شبيه ماى قوله السكاكي في
خصوص باب الاستعارة، التي هي المجاز مع علاقة المشابهة، مع فرق بينهما
قد حقق في محله.
وغير ذلك من الموارد الكثيرة والأنظار القيمة التي يظهر لمن راجع
مباحثه.
الكتاب الذي بين يديك
حيث إن الفضلاء الذين يستفيدون من مباحثه كثيرون، وكان أكثرهم
يقررون ويثبتون مطالبه كلا أو جلا، لكن المطبوع منها الذي كان ملحوظا
للإمام - قدس سره - ومتصدرا بتقريظه الشريف ما قرره الفاضل العالم
الكامل أخوانا المعظم آية الله الحاج الشيخ جعفر السبحاني التبريزي - أدام الله
بركات وجوده - المسمى ب‍ " تهذيب الأصول "، وكان مرجعا للفضلاء
والطلاب في الحوزات العلمية من الأساتذة والتلامذة وغيرهم.
لكن الكتاب الذي بين يديك وجد بعد ارتحاله - قدس سره - في
قراطيس متفرقة ولم يخرج إليك إلا بعد إعمال جهد شديد وعمل متواصل
تصدت له مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام - قدس سره - التي هي مؤسسة
كثيرة البركات والآثار، وهي تحت إشراف قرة العين حجة الإسلام والمسلمين
الحاج السيد أحمد الخميني - دامت بركاته العالية - وقد صدرت منها كتب
نافعة كثيرة مطبوعة.
واللازم أولا التقدير والتشكر من تلك المؤسسة التي لازالت مؤيدة، وثانيا
من الذين أتبعوا أنفسهم في تنظيم هذا الكتاب وتذييله بمطالب يترتب عليها
21

فوائد مهمة لا يستغني عنها بوجه أصلا.
وفي الختام نرجو من الله تعالى أن يزيد في علو درجات الإمام
- قدس سره - وأن يحشره مع أجداده الطيبين الطاهرين وأن يجزيه عن
الإسلام والمسلمين خير جزاء المحسنين بحق بقية الله تعالى في الأرضين
- روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمة الفداء - وكان اللازم البحث في المقدمة
على سبيل التفصيل، لكن ضيق الوقت والاستعجال قد منعا من ذلك.
محمد الفاضل اللنكراني
25 / 1 / 72
22

كلمة المؤسسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله الطيبين
الطاهرين، وبعد فهذه وجيزة نبين فيها منهجنا الذي اتبعنا في
تحقيق الكتاب، ومراحل عملنا فيه فنقول:
منهجنا في التحقيق:
لا ندعي لأنفسنا منهجا جديدا يختلف عن المنهج الحديث المتداول في
التحقيقات القائمة اليوم، وإن كان يختلف في بعض جزئياته عن
غيره لاختلاف في خصوصيات عملنا، كما هو الحال في كل عمل
تحقيقي آخر، له خصوصياته ومناهجه التي يمتاز بها عن الأعمال التحقيقية
الأخرى.
ولقد حاولنا - محاولة الحريص - أن تكون جميع مراحل تحقيقنا هذا في
غاية الدقة والإتقان بما يتناسب مع عظمة المؤلف وعلو مقامه، فإن وفقنا
23

فبفضل الله وتسديده، وإلا فبقصورنا وجهدنا العاجز
نسأله تعالى بحق محمد وآله ألا يحرمنا من رضاه ومثوبته، كما نأمل أن
ننال رضا سيدنا المصنف - طاب ثراه - وهو في كرامته
مراحل التحقيق:
1 - مرحلة الاستنساخ.
2 - مرحلة المقابلة.
3 - مرحلة تقطيع النص.
4 - مرحلة تقويم النص.
5 - مرحلة استخراج النصوص وترجمة الرجال.
6 - مرحلة التدقيق والضبط النهائي.
7 - مرحلة إعداد الهوامش وتنزيلها.
1 - مرحلة الاستنساخ: في هذه المرحلة تم استنساخ المخطوطة بخط واضح
وبشكل يفسخ المجال لاجراء الأعمال اللاحقة.
2 - مرحلة المقابلة: بعد مرحلة الاستنساخ بدأنا بمقابلة المستنسخ
لاستكشاف اشتباهات المستنسخ وسهوه وضبط النص كما ورد في
المخطوطة من غير زيادة أو نقصان، عدا ما أجراه المستنسخ على النص من
بعض التصحيحات السريعة والتقطيع الأولي.
ولا تخفى أهمية هذه المرحلة من ناحية الأمانة التحقيقية، ومن ناحية
ابتناء تقويم النص عليها.
3 - مرحلة تقطيع النص وتزيينه بعلامات الترقيم: وهي مرحلة مهمة جدا
24

في التحقيقات الحديثة، فهي تعين القارئ على فهم المطالب، وتكشف له
كثيرا من الغوامض.
وهذه المرحلة تعتمد على فهم النص والتأمل في مطالبه لتحديد رؤوس
الأسطر بالصورة الصحيحة، ووضع علامات الترقيم في مواضعها المناسبة.
ومن علامات الترقيم التي اعتنينا بها ووسعنا استعمالها في كتابنا هذا هي
الفارزة المنقوطة، حيث وضعناها في موضعين:
1 - قبل الجمل التعليلة.
2 - قبل الجمل المفسرة.
كما أن الأقوال تركناها بدون حصر، لأنها في الأغلب منقولة
بالمضمون، ولأن بعضها مشتمل على أحاديث وأمثلة، فحصرها يؤدي إلى
تداخل الأقواس.
4 - مرحلة التقويم: وهي أهم مراحل التحقيق على الإطلاق، ويعرف ذلك
عند الإحاطة بالأعمال التي يقوم بها المقوم، والتي تجرى على النص في هذه
المرحلة، وهي كما يلي:
أ - ضبط النص إملائيا وفق الضوابط والقواعد الإملائية الحديثة.
ب - استكشاف الكلمات غير المقروءة، أو المحتملة لقراءتين، أو الساقطة
بسبب التلف الذي أصاب بعض أطراف المخطوطة، أو غير ذلك.
ج - تتميم العبارات الناقصة وحصر الكلمات التي يقتضي السياق
إضافتها بين معقوفين.
5 - مرحلة استخراج النصوص وترجمة الرجال: وهذه المرحلة تعد اليوم
من أهم الأعمال التحقيقية التي تجرى للكتاب المراد تحقيقه.
25

وتنبع أهميتها من إضفاء العلمية على الكتاب، وإكسابه الثقة والاعتماد
بدعمه بالمصدر والسند.
وقد ترجمنا باختصار جميع الرجال والأعلم عند أول ورودهم في متن
الكتاب، سواء وقعوا في سند الروايات التي تضمنها الكتاب، أو كانوا من
العلماء الذين أورد المصنف آراءهم.
وقد اعتمدنا في ذلك على أهم الجوامع الحديثية المتقدمة والمتأخرة، وعلى
أهم كتب الرجال وتراجم الأعلام القديمة والحديثة، وفي تخريج الأقوال
اعتمدنا على المتوفر من المصادر المطبوعة حديثا والكتب الخطية والحجرية،
وقد قمنا - بالنسبة للكتب الحجرية - بتحديد موضع الاستخراج بذكر السطر
ابتداء وانتهاء، إضافة إلى ذكر الجزء والصفحة بالنسبة إلى المصادر كافة، كل
ذلك تسهيلا وتيسيرا للمراجع الكريم.
6 - مرحلة المراجعة والتدقيق والضبط النهائي: ولا تخفى أهمية هذه
المرحلة في تلافي النواقص والأخطاء والاشتباهات الحاصلة في المراحل
السابقة، والتي لا يعصم منها إلا من عصم الله تعالى.
وبعد تدقيق أهم الأعمال التحقيقية السالفة، وهي: تقطيع النص وتقويمه
واستخراج نصوصه تأتي المرحلة الأخيرة:
7 - مرحلة إعداد الهوامش وتنزيلها: وفي هذه المرحلة تجمع الهوامش
التقويمية والتراجم والاستخراجات بتسلسل واحد لكل صفحة من صفحات
الكتاب، وبصياغة موحدة بيد شخص واحد، لكي تسير على نسق متسق،
وتنساب على طريقة وانسجام.
وفي الختام لا يسعنا إلا أن نتقدم بجزيل شكرنا، ووافر امتناننا، وعظيم
26

تقديرنا للإخوة الباحثين المحققين في مؤسستنا الذين بذلوا جهودا كبيرة
مضنية، في سبيل إخراج هذا الكتاب وتنسيقه بهذه الحلة الوضاءة، والسبك
الرائع المتقن، فبارك الله تعالى عملهم، وشكر سعيهم، ووفقهم لما فيه
الرشاد، وهداهم إلى سبل السداد، بمحمد وآله الكرام الأمجاد.
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قده)
فرع قم المقدسة - قسم التحقيق
11 / شوال 1413 ه‍ ق
14 / 1 1372 ه‍ ش
27

نموذج من الكتاب
بخط السيد الإمام الخميني (قده)
29

صورة الصفحة الأولى من الأصل
31

صورة الصفحة الأخيرة من الأصل
32

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم
33

وبعد:
فقبل الورود في المقصود لا بد من تقديم أمور:
الأمر الأول في موضوع كل علم وتعريف علم الأصول
إن كل علم عبارة عن عدة قضايا مرتبطة تجمعها خصوصية بها يترتب
عليها غرض واحد وفائدة واحدة بالوحدة السنخية. ووحدة
العلم - كوجوده - اعتبارية لا حقيقية ضرورة امتناع حصول الوحدة
الحقيقية المساوقة للوجود الحقيقي للقضايا المتعددة لان المركب
من الشيئين أو الأشياء لا يكون موجودا (آخر) غير الأجزاء، اللهم إلا
المركب الحقيقي الحاصل من الكسر والانكسار المتحصلة منهما
صورة غير صورة الأجزاء.
ولا إشكال في أن العلوم كلها - عقلية كانت أو غيرها - إنما نشأت من
35

النقص إلى الكمال، فكل علم لم يكن في أول أمره إلا قضايا معدودة
لعلها لم تبلغ عدد الأصابع، فأضاف إليها الخلف بعد السلف، وكم
ترك الأول للاخر، والفرط (1) للتابع.
فهذا المنطق، فقد نقل الشيخ أبو علي (2) عن معلم الفلاسفة: (3) أنا ما
ورثنا عمن تقدمنا في الأقيسة إلا ضوابط غير مفصلة. إلخ، وهذا
حال سائر العلوم، فلا أظن بعلم أسس من بدو نشئة على ما هو الان
بين أيدينا، فانظر علوم الرياضيات والطب والتشريح حاضرها و
ماضيها، وعلمي الفقه

(1) الشفاء - المنطق - 4: 113. 1 الشيخ أبو علي: هو الحسين بن عبد
الله بن سينا المعروف بالشيخ الرئيس. ولد في بخارى سنة (370 ه)
كان يحفظ كل ما يلقى عليه، حتى إذا بلغ الثانية عشر أخذ يفتي الناس
على مذهب أبي حنيفة، ثم شرع في علم الطب، وصنف القانون و
هو ابن ستة عشر عاما، وحين بلغ من العمر أربعا وعشرين سنة كان قد
تم له الإحاطة بجل العلوم. له تصانيف عديدة أشهرها: الشفاء،
والإشارات، والنجاة، والقانون في الطب. توفي سنة (428 ه)، ودفن
في همدان.
انظر وفيات الأعيان 2: 157، أعيان الشيعة 6: 69، الكنى والألقاب 1:
309.
(2) معلم الفلاسفة: هو أرسطو طاليس بن نيقوماخس - الطبيب
المشهور - وهو أشهر فلاسفة اليونان. ولد سنة (384 ق. م) بمدينة
(إسطاغيرا). لقب بالمعلم الأول لأنه أول من وضع المنطق. أخذ
الحكمة عن (أفلاطون) اليوناني، ففاق جميع تلامذته. سميت مدرسته
بالمدرسة المشائية لأنه كان يعلم وهو يمشي. كتب في المنطق و
الطبيعة والميتافيزيقا والأخلاق والشعر. توفي سنة (322 ق. م).
انظر دائرة المعارف للبستاني 3: 75، الموسوعة الفلسفية 1: 98، دائرة
معارف القرن العشرين 1: 164.
36

والأصول من زمن الصدوقين (1) والشيخين (2) إلى زماننا.

(1) الصدوقان: هما الصدوق ووالده عليهما الرحمة والرضوان:
الصدوق: هو محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي. لا تخفى
جلالة قدره، ومما يدل على ذلك إخبار الإمام الحجة عجل الله فرجه
والده بقوله: (سترزق ولدين خيرين)، وهما الشيخ الصدوق وأخوه
الشيخ حسين بن علي رضوان الله عليهما.
له كتب عديدة، منها (من لا يحضره الفقيه)، وهو أحد الكتب الحديثية
الأربعة عند الإمامية. توفي سنة (381 ه)، وقبره الشريف مزار
معروف في بلدة (ري).
انظر رجال العلامة: 147، روضات الجنات 6: 132، بلغة المحدثين:
410، معجم رجال الحديث 16: 316.
والد الصدوق: هو الشيخ علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي،
ويكنى أبا الحسن.
كان محدثا ثقة جليل المنزلة وشيخ القميين وفقيههم. كتب إلى الإمام الحجة
عجل الله فرجه بواسطة نائبه الخاص الحسين بن روح -
رضي الله عنه - يطلب الولد بشفاعته، فكتب عليه السلام: (قد دعونا
الله لك بذلك، وسترزق ولدين ذكرين خيرين)، فولد له أبو جعفر
وأبو عبد الله. ومما يدل على علو شأنه ما ورد إليه من الإمام العسكري
- عليه السلام - وفيه: (يا شيخي ومعتمدي وفقيهي أبا
الحسن
وفقك الله لمرضاته) وهو أول من ابتكر طرح الأسانيد، وجمع بين
النظائر، وأتى بالخبر مع القرينة. وقف بوجه الحلاج ودحض
حجته. له كتب كثيرة أشهرها رسالته لولده الصدوق. توفي سنة (328
ه)، ودفن في (قم) وقبره لا يزال مزارا معروفا فيها.
انظر روضات الجنات 4: 273، تنقيح المقال 2: 283، تأسيس الشيعة
لعلوم الاسلام:
131، نوابغ الرواة: 185.
(2) الشيخان: هما الشيخ المفيد والشيخ الطوسي عليهما الرحمة و
الرضوان:
الشيخ المفيد: هو محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي،
المكنى بأبي عبد الله، والملقب بالمفيد، والمعروف بابن المعلم. من
أجل
مشايخ الشيعة ورؤسائهم.
ولد سنة (336 ه)، أخذ العلم عن أكثر من خمسين أستاذا منهم الشيخ
ابن قولويه
والشيخ الصدوق. وأدل شي على عظمته ورود ثلاث رسائل إليه من
الناحية المقدسة ورد في إحداها: (للأخ السديد والولي الرشيد
الشيخ المفيد.). وجاء في ثانية:
(سلام عليك أيها الناصر للحق، الداعي إليه بكلمة الصدق) درس
على يديه كبار علمائنا الأبرار، كالسيد المرتضى، والشريف الرضي، و
الشيخ الطوسي، والشيخ النجاشي، وغيرهم. ذكروا أن له أكثر من
(200) كتاب ورسالة. توفي - رضي الله عنه وأرضاه - سنة (413 ه)،
وصلى عليه السيد المرتضى، ودفن في الروضة المطهرة للامامين
الكاظمين عليهما السلام.
انظر روضات الجنات 6: 153، رجال النجاشي: 399، تاريخ بغداد 3:
231، تنقيح المقال 3: 180 - 181.
الشيخ الطوسي: هو محمد بن الحسن بن علي الطوسي، لقب بشيخ
الطائفة. ولد عام (385 ه) في شهر رمضان المبارك. هاجر إلى بغداد
عاصمة العلم والخلافة آنذاك، خلف أستاذيه - الشيخ المفيد والسيد
المرتضى - في الجلوس على كرسي الكلام الذي كان الخليفة
العباسي - آنذاك - لا يعطيه إلا لوحيد عصره من العلماء، هاجر إلى
النجف الأغر إثر فتنة التهبت في بغداد. كتب في الحديث والرجال و
الفقه والأصول والتفسير والكلام كتبا بالغة الأهمية، أثرى بها المكتبة
الاسلامية. توفي سنة (460 ه) في شهر محرم، ودفن قريبا من
حرم أمير المؤمنين عليه السلام في داره التي صارت مسجدا فيما بعد.
انظر رجال العلامة: 148، تنقيح المقال 3: 104، أعيان الشيعة 9: 159.
37

ثم اعلم أن القضايا المركبة منها العلوم مختلفة: فمن العلوم ما يكون
جميع قضاياه أو غالبها قضايا حقيقية أو بحكمها، كالعقليات والفقه
وأصوله، ومنها ما تكون جزئية حقيقية، كالتاريخ والجغرافيا وغالب
مسائل الهيئة وعلم العرفان.
ونسبة موضوع المسائل إلى ما قيل: إنه موضوع العلم، قد تكون كنسبة
الطبيعي إلى أفراده، وقد تكون كنسبة الكل إلى أجزائه، بل قد
يكون موضوع
38

جميع المسائل هو موضوع العلم، فمن الأول الأمثلة الأول، ومن
الثاني الثانية غالبا ما عدا العرفان، ومن الثالث العرفان فإن موضوعه
هو الله تعالى وهو عين موضوع مسائله.
فاتضح مما ذكر أمور:
منها: أن ما اشتهر - من أن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه
الذاتية - مما لا أصل له، سوأ فسرناها بما فسرها القدماء، أو
بأنها ما لا تكون لها واسطة في العروض ضرورة أن عوارض
موضوعات المسائل - التي تكون نسبتها إلى موضوع العلم كنسبة
الأجزاء إلى الكل، لا الجزئيات إلى الكلي - لا تكون من عوارضه
الذاتية بالتفسيرين إلا بتكلف.
ومنها: ما قيل: - من أن مسائل العلوم هي القضايا الحقيقية - غير
مطرد ومنها: ما قيل: - من أن موضوعات المسائل هي موضوع العلم
خارجا، ويتحد معها عينا كاتحاد الطبيعي وأفراده - غير تام.
ومنها: ما اشتهر - من أن لا بد لكل علم من موضوع واحد جامع

(1) شرح الشمسية: 14 / سطر 13 - 14 و 15 / سطر 1، شوارق الإلهام 1: 5 / سطر 27،
الأسفار 1: 30، الشواهد الربوبية: 19، الفصول الغروية: 10 / سطر 23، هداية
المسترشدين: 14 / سطر 10 و 12، الكفاية 1: 2.
(2) شرح الشمسية: 14 / سطر 14 و 15 / سطر 3 - 4، الأسفار 1: 30 و 32 هامش 1،
الشواهد الربوبية: 19.
(3) الفصول الغروية: 10 / سطر 23 - 24، الأسفار 1: 32 هامش 1، الكفاية 1: 2.
(4) الكفاية 1: 2 - 5، فوائد الأصول 1: 22.
39

بين موضوعات المسائل (1) - مما لا أصل له، فإنك قد عرفت أن كل
علم إنما كان بدو تدوينه عدة قضايا، فأضاف إليه الخلف حتى صار
كاملا، ولم يكن من أول الأمر في نظر المؤسس البحث عن عوارض
الجامع بين موضوعات المسائل.
فهذا علم الفقه، فهل يكون في مسائله ما يبحث عن عوارض فعل
المكلف بما هو فعله الجامع بين الافعال؟ وهل كان نظر مدونيه في
أول
تدوينه إلى ذلك، أم كان هذا التكلف كالمناسبات بعد الوقوع على
وجه لا يصدق في جميع مسائل العلوم أو غالبها؟ وهل تظن أن مدون
علم الجغرافيا في بدو تأسيسه كان ناظرا إلى أحوال الأرض وهيئاتها؟
أو أن في كل صقع وجد شخص أو أشخاص في مر الدهور، و
دون جغرافيا صقعه، أو مع البلاد المجاورة، ثم ضم آخر جغرافيا
صقعه إليه، فصار جغرافيا مملكة، وهكذا إلى أن صار جغرافيا جميع
الأرض، فلم يكن البحث فيه من أول الأمر عن أحوال الأرض - تأمل -
وهكذا الامر في كثير من العلوم.
فالالتزام بأنه لا بد لكل علم من موضوع يبحث فيه عن عوارضه
الذاتية، ثم التزام تكلفات باردة لتصحيحه، ثم التزام استطراد كثير من
المباحث التي تكون بالضرورة من مسائل الفنون، مما لا أرى له وجها.

(1) الكفاية 1: 2 و 6، فوائد الأصول 1: 22.
40

فأي داع للالتزام بكون موضوع علم الفقه هو فعل المكلف (1)، وأن
موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، مع أن الاحكام
ليست من العوارض؟ ومع التسليم وتعميم الاعراض للاعتباريات
ليست كلها من الاعراض الذاتية لموضوعات المسائل، فإن وجوب
الصلاة لا يمكن أن يكون من الاعراض الذاتية لها بوجودها الخارجي
لكون الخارج ظرف السقوط لا الثبوت، ولا بوجودها الذهني، و
هو واضح، ولا للماهية من حيث هي ضرورة عدم كونها مطلوبة،
فمعنى وجوبها أن الامر نظر إلى الماهية وبعث المكلف نحو إيجادها،
وبهذا الاعتبار يقال: إنها واجبة، لا بمعنى اتصافها بالوجوب في وعاء
من الأوعية، ووعاء الاعتبار ليس خارجا عن الخارج والذهن.
هذا، مع لزوم الاستطراد في كثير من مهمات مسائل الفقه، كأبواب
الضمان، وأبواب المطهرات والنجاسات، وأبواب الإرث، وغير
ذلك.
أو أي داع لجعل موضوع الفلسفة هو الوجود، ثم التكلف بإرجاع
المسائل فيها إلى البحث عن أعراضه الذاتية له بما تكلف به بعض
أعاظم
فن الفلسفة (2) ثم الالتزام باستطراد كثير من المباحث، كمباحث
الماهية

(1) المعالم: 25 / سطر 7.
(2) الاسفار 1: 23 - 25، الشواهد الربوبية: 14 و 16.
ومؤلفهما هو محمد بن إبراهيم الشيرازي القوامي، المعروف بصدر
المتألهين وملا صدرا. ولد
سنة (979 ه) في (شيراز) ودرس فيها، ثم هاجر إلى (أصفهان) ليدرس
عند الشيخ البهائي والسيد الداماد، وانقطع للأخير. قدم (قم) و
اعتزل فيها قرابة (15) عاما، بعدها شرع بالتصنيف، فكتب كتبا كثيرة
أشهرها الاسفار في (9) مجلدات، ومفاتيح الغيب، والشواهد
الربوبية.
عرف بجمعه بين المدرستين الاشراقية والمشائية. توفي سنة (1050
ه) في البصرة في طريقه إلى بيت الله الحرام.
انظر أعيان الشيعة 9: 321، سلافة العصر: 491، روضات الجنات 4:
120.
41

والاعدام، بل مباحث المعاد وأحوال الجنة والنار وغيرها، أو
التكلف الشديد البارد بإدخالها فيها.
هذا، مع أن كثيرا من العلوم مشتمل على قضايا سلبية بالسلب
التحصيلي، والتحقيق في السوالب المحصلة أن مفادها هو قطع النسبة
و
سلب الربط، لا إثبات النسبة السلبية، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه
في مباحث الاستصحاب (1).
فتحصل مما ذكرنا: أن دعوى كون موضوع كل علم أمرا واحدا منطبقا
على موضوعات المسائل ومتحدا معها، غير سديدة.
وما ربما يتوهم - من لزوم ذلك عقلا استنادا إلى قاعدة عدم صدور
الواحد إلا من الواحد (2) - مما لا ينبغي أن يصدر ممن له حظ من
العقليات فإن موضوع القاعدة هو البسيط الحقيقي صادرا ومصدرا، لا
مثل العلوم التي هي قضايا متكثرة، كل منها مشتملة على فائدة
تكون مع أخرى واحدة

(1) الرسائل - للسيد الإمام قدس سره -: 138 - 139.
(2) حاشية المشكيني على الكفاية 1: 3.
42

بالنسخ، فإن قاعدة (كل فاعل مرفوع) يستفاد منها فائدة غير ما يستفاد
من قاعدة (كل مفعول منصوب) وسائر القواعد، لكن لتلك
الفوائد الكثيرة ربط وسنخية من وجه، ولها وحدة انتزاعية اعتبارية.
مع أن حديث تأثير الجامع بين المؤثرات إذا اجتمعت أثرا واحدا
حديث خرافة لعدم تحقق الجامع في الخارج بنعت الوحدة إلا على
رأي
الرجل الهمداني. (1)
تنبيه: ما به امتياز العلوم:
كما أن منشأ الوحدة في العلوم هو سنخية قضاياها المتشتتة، ومنشأ
امتيازها هو اختلاف ذاتها وسنخ قضاياها، ولا يمكن أن يكون ما به

(1) الاسفار 1: 273.
صادف الشيخ ابن سينا في مدينة همدان رجلا من العلماء كبير السن
غزير المحاسن وافر العلوم، متقنا في العلوم الحكمية والشرعية
السمعية، وله مذاهب غريبة مباينة للأقدمين في المنطق والطبيعيات
والإلهيات والهندسة، ويعجب ممن يخالفه، حيث يرى آراءه بديهية
ومجمعا عليها. ومما اشتهر عن هذا الرجل قوله: إن الطبيعي موجود
بوجود واحد عددي في ضمن أفراده، وهذا معنى وجود الأنواع و
الأجناس في الأعيان. ويقول: هل بلغ من عقل الانسان أن يظن أن هذا
موضع خلاف بين الحكماء؟ وللشيخ الرئيس رسالة مفردة في هذا
الباب شنع فيها كثيرا على هذا الرجل.
وقد يفسر قول هذا الرجل بالمثل الإلهية وينتصر له، وأن رد الشيخ
عليه كان قبل قوله بالمثل.
(1) انظر الاسفار 1: 273، شرح المنظومة 1: 147 - 149.
43

اختلافها وامتيازها هو الأغراض أو الفوائد المترتبة عليها لتأخرها رتبة
عن القضايا، فمع عدم امتيازها لا يمكن أن يترتب عليها فوائد
مختلفة.
نعم، قد تتداخل العلوم في بعض القضايا بمعنى أن تكون لقضية
واحدة فائدة أدبية - مثلا - يبحث الأديب عنها لفائدتها الأدبية، و
الأصولي لفهم كلام الشارع، كبعض مباحث الألفاظ، فالأصولي و
الأديب يكون غرضهما فهم كون اللام للاستغراق، و (ما) و (إلا)
للحصر، لكن يكون ذلك هو الغرض الأقصى للأديب بما أنه أديب، أو
يكون أقصى مقصده أمرا أدبيا، وللأ صولي غرض آخر، هو فهم
كلام الشارع لتعيين تكليف العباد.
وتداخل العلوم في بعض المسائل لا يوجب أن تكون امتيازها
بالاغراض بما أنها واحدة بالوحدة الاعتبارية، فإن المركب من مسائل
شتى إذا اختلف مع مركب آخر بحسب مسائله، واتحد معه في
بعضها، يكون مختلفا معه بما أنه واحد اعتباري ذاتا، خصوصا إذا كان
التداخل قليلا، كما أن الامر كذلك في العلوم.
فتحصل مما ذكر: أن اختلاف العلوم إنما يكون بذاتها، لا بالاغراض و
الفوائد، فإنه غير معقول.
ثم إنه بما ذكرنا - من عدم لزوم كون المبحوث عنه في مسائل العلم
من الاعراض الذاتية لموضوع العلم، بل ولا لموضوع المسائل -
يتضح: أن بعض المباحث اللفظية، كالبحث عن دلالة الأمر والنهي و
كلمات الحصر وكثير من مباحث العام والخاص والمطلق والمقيد،
وبعض المباحث العقلية
44

التي يكون البحث فيها أعم مما ورد في كلام الشارع، تكون من مسائل
العلم بما أنها مسائل مرتبطة بسائر مسائلها، ومشتركة معها في
الخصوصية التي لأجلها صارت واحدة بالاعتبار، إذا لم يكن محذور
آخر في عدها منه، كما سنشير إليه (1).
بحث وتحقيق: في تعريف الأصول:
قد عرف الأصول بتعاريف لم يسلم واحد منها من الاشكال طردا أو
عكسا، بخروج ما دخل فيه تارة، ودخول ما خرج منه أخرى.
فقد اشتهر تعريفه: بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية
الفرعية (2)، فاستشكل عليه بلزوم استطراد الظن على
الحكومة، ومسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية (3)، ويظهر
من الشيخ الأعظم (4) ما يوجب انسلاك كثير من القواعد الفقهية فيه.

(1) في صفحة: 49 - 50.
(2) قوانين الأصول 1: 5 / سطر 4 - 5، الفصول الغروية: 9 / سطر 39 - 40، هداية
المسترشدين: 12 / سطر 26.
(3) الكفاية 1: 9 - 10.
(4) مطارح الانظار: 37 - سطر 8 - 9.
الشيخ الأعظم: هو الشيخ المرتضى بن الشيخ محمد أمين الأنصاري
التستري.
ينتهي نسبه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري. ولد في ذي الحجة من عام
(1214 ه) في مدينة دزفول من بلاد خوزستان، هاجر إلى
كربلا، ودرس عند السيد المجاهد وشريف العلماء، وبعدها هاجر
إلى النجف الأشرف، وفيها درس عند الشيخ
موسى كاشف الغطاء، كما درس عند المولى النراقي في (كاشان) أربع
سنوات، وكما درس عند الشيخ علي كاشف الغطاء خمس
سنوات بعد وفاة أخيه الشيخ موسى كاشف الغطاء، وقيل: إنه حضر
درس الشيخ صاحب الجواهر تيمنا وتبركا، وبعد وفاته استقل
شيخنا الأنصاري بزعامة الطائفة، وألقت المرجعية الدينية الكبرى
مقاليدها إليه، ومع ذلك كله بقي على زهده وعيشه البسيط غاية
البساطة حتى وافاه الاجل في عام (1281 ه).
انظر معارف الرجال 2: 399، أعيان الشيعة 10: 117، مقدمة
المكاسب للسيد كلانتر 1: 19 - 25.
45

وقد عدل المحقق الخراساني (1) رحمه الله عنه إلى تعريفه بأنه
صناعة

(1) الكفاية 1: 9. المحقق الخراساني: هو الشيخ محمد كاظم الهروي
الخراساني ابن المولى حسين التاجر. ولد عام (1255 ه) في (هراة) ثم
انتقل به والده إلى مدينة مشهد المقدسة، ودرس فيها المقدمات و
السطوح، ثم هاجر إلى النجف الأشرف، وتوقف في طريقة إليها في
سبزوار، وحضر درس المولى هادي السبزواري في الحكمة قرابة
خمسة أشهر، كما توقف في طهران ثلاثة عشر شهرا درس فيها عند
الحكيمين: الميرزا أبي الحسن جلوة، والمولى حسين الخوئي، و
بعدها أتم رحلته إلى النجف، وحضر درس الشيخ الأعظم مدة سنتين
حتى وافاه الاجل فاختص بعده بالامام المجدد السيد الشيرازي، و
انتقل معه إلى سامراء. عاد إلى النجف ليشارك العلمين الميرزا حبيب
الله الرشتي والشيخ هادي الطهراني في التدريس، وامتاز درسه بالقوة
والتهذيب والإحاطة. له تصانيف قيمة في الفقه والأصول، وله
في الحكمة حاشيتان على الاسفار ومنظومة السبزواري. توفي فجر
اليوم الذي قرر فيه الهجرة إلى إيران لأداء فريضة الجهاد، وذلك
في العشرين من ذي الحجة عام (1329 ه)، ودفن إلى جوار أمير
المؤمنين عليه السلام.
انظر أعيان الشيعة 9: 5، معارف الرجال 2: 323، الذريعة 2: 111 و 4:
367 و 6:
186.
46

يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الاحكام، أو
التي ينتهى إليها في مقام العمل لادخال الظن على الحكومة و
الأصول العملية، ولعل التعبير بالصناعة للإشارة إلى أن الأصول علم
آلي بالنسبة إلى الفقه، كالمنطق بالنسبة إلى العلوم العقلية.
وكأن هذا التعريف أسوأ التعاريف المتداولة بينهم لان كل علم إما
نفس المسائل، فتكون البراهين على إثباتها من المبادئ التصديقية،
أو مجموع المسائل والمبادئ، كما قيل: إن أجزأ العلوم ثلاثة (1)، و
أريد به أجزأ العلوم المدونة، وأما كون العلم هو المبادئ فقط فلم
يذهب إليه أحد، ولا يمكن التزامه، وقد سبق منه رحمه الله أن
مسائل العلم هي قضايا متشتتة جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض (2)،
مع أن تعريفه ذلك لا ينطبق إلا على المبادئ فإنها هي التي تعرف بها
القواعد التي يمكن أن تقع في طريق الاستنباط.
مع أن القواعد الكلية الفقهية - كقاعدة ما يضمن أصلا وعكسا، و
قاعدة الضرر، والحرج، والغرر، وغيرها من القواعد التي يستنبط
منها أحكام كلية - داخلة في هذا التعريف. اللهم إلا أن يراد بالصناعة
هو العلم اللئالي المحض كما احتملنا.

(1) شرح الشمسية: 185 / سطر 7 - 8، حاشية ملا عبد الله: 150 - 151، البصائر
النصيرية: 148 / سطر 25.
47

وهذا الاشكال وارد على تعريف شيخنا العلامة - (1) أعلى الله مقامه -
مع ورود بعض مناقشات أخر عليه.
كما أنه وارد على تعريف بعض أعاظم العصر (2) رحمه الله من أنه
عبارة عن العلم بالكبريات التي لو انضمت إليها صغرياتها يستنتج
منها حكم فرعي كلي فإنه صادق على القواعد المتقدمة، مع ورود الاشكال المتقدم

(1) درر الفوائد 1: 2 - 3. شيخنا العلامة: هو الشيخ عبد الكريم
الحائري ابن محمد جعفر، وهو مؤسس الحوزة العلمية في قم
المقدسة.
ولد عام (1276 ه) في قرية (مهرجرد)، التابعة لبلاد (يزد). بدأ دراسته
في مدينة (يزد) و (أردكان)، ثم هاجر إلى سامراء يوم كانت
مقصد العلماء لوجود أكابر الاعلام وفقهاء الطائفة فيها، ثم هاجر
بصحبة أستاذه الفشاركي إلى النجف الأشرف، وقضى فيها وطرا، و
عاد إلى إيران، وأقام في (أراك) برهة من الزمن. انتقل بعدها إلى قم
المقدسة، وصار مرجع زمانه حتى ارتحل إلى جوار ربه عام
(1355 ه).
انظر أعيان الشيعة 8: 42، نقباء البشر 3: 1158.
(2) فوائد الأصول 1: 19. بعض أعاظم العصر: هو الشيخ الميرزا محمد
حسين ابن الميرزا عبد الرحيم النائيني. ولد في نائين عام (1277
ه)، ونشأ بها، ثم هاجر إلى أصفهان، فأكمل بها المقدمات، وفي عام
(1303 ه) هاجر إلى العراق، فحضر درس السيد إسماعيل الصدر و
السيد محمد الفشاركي الأصفهاني والسيد المجدد الشيرازي، ثم
اختص بالمحقق الآخوند، وكان من أنصاره في مهماته الدينية و
السياسية، ومن أعضاء مجلس الفتيا الذي كان يعقده في داره، وبعد
وفاة أستاذه الخراساني استقل في التدريس، وكتب كثير من
طلابه الاعلام تقارير بحوثه، واشتهر منها فوائد الأصول وأجود
التقريرات. توفي يوم السبت (26 - جمادى الأولى 1355 ه)، ودفن
في
الصحن المطهر لأمير المؤمنين عليه السلام.
انظر طبقات أعلام الشيعة 2: 593 - 596، معارف الرجال 1: 284.
48

- على التعريف المعروف - عليه، وقد تصدى لدفع الاشكال في
أوائل الاستصحاب (1) بما لا يخلو من غرابة، فراجع.
كما أن بعض المحققين (1) تصدى لدفع الاشكال على الطرد والعكس:
بأن المدار في المسألة الأصولية على وقوعها في طريق استنباط
الحكم الشرعي بنحو يكون ناظرا إلى إثبات الحكم بنفسه، أو بكيفية
تعلقه بموضوعه، قائلا:
إن المسائل الأدبية لا تقع إلا في طريق استنباط موضوع الحكم بلا نظر
إلى كيفية تعلق حكمه، بخلاف مباحث العام والخاص والمطلق و
المقيد.
وأنت خبير بأن كثيرا من مباحث العام والخاص، والمطلق والمقيد، و
المفاهيم، والامر والنهي، مباحث لغوية يحرز بها أوضاع الكلمات

(1) فوائد الأصول 4: 309.
(2) مقالات الأصول 1: 10 - 11، نهاية الأفكار 1: 22 - 23. بعض
المحققين: هو الشيخ علي ابن المولى محمد العراقي النجفي،
المعروف
بضياء الدين العراقي وآغا ضيأ العراقي. ولد في (سلطان آباد) التابعة
لمحافظة (أراك)، نشأ في رعاية والد فقيه، وبعد إنهاء
المقدمات في بلدته، هاجر إلى النجف الأشرف، فدرس لدى السيد
الفشاركي والمحقق الخراساني وشيخ الشريعة الأصفهاني، فنبغ بين
تلامذة هؤلاء الفحول، ثم استقل بعدهم بالتدريس، فكان صاحب
مدرسة تميزت بقوة البحث والعمق والتجديد، تخرج على يديه
أعاظم
العلماء ومراجع العصر. صنف كتبا في الفقه والأصول: منها مقالات
الأصول وكتاب القضاء وشرح التبصرة في عدة مجلدات وغيرها.
قرر بحثه بعض تلامذته، اشتهر منها نهاية الأفكار في الأصول. انتقل
إلى جوار ربه سنة (1361 ه)، ودفن بالقرب من المرقد المطهر في
النجف الأشرف.
انظر أعيان الشيعة 7: 392، معارف الرجال 1: 386، نقباء البشر 3:
996.
49

كمبحث المشتق الذي اعترف بخروجه (1)، وكسائر المباحث اللغوية،
فأي فرق بين البحث عن أن اللام للاستغراق، و (ما) و (إلا) للحصر،
وأداة الشرط دالة على المفهوم، والضمير المتعقب للجمل يرجع إلى
الأخيرة منها، والامر والنهي ظاهران في الوجوب والحرمة، إلى
غير ذلك، وبين البحث عن أن الصعيد مطلق وجه الأرض، وهيئة
الفعل دالة على الصدور الاختياري - مثلا - وغير ذلك من المباحث
اللغوية؟ فجميع ذلك مما يستنتج منه كيفية تعلق الحكم بالموضوع.
مع ورود إشكال دخول القواعد الفقهية فيه عليه أيضا.
ونحن قد تصدينا في مباحث الظن لبيان الفرق بين القواعد الأصولية و
الفقهية (2) بما لا يخلو من إشكال.
ولا أظن إمكان حد جامع لجميع المسائل التي يبحث عنها في
الأصول بوضعه الفعلي، وطارد لغيرها من المباحث الأدبية التي تكون
نظير كثير من مباحث الألفاظ، والفقهية التي تكون نظير الأصولية في
وقوعها كبرى قياس الاستنتاج.
في تحقيق المقام:
والذي يمكن أن يقال: إن كلية المباحث التي يبحث فيها عن الأوضاع

(1) مقالات الأصول 1: 10 و 11، نهاية الأفكار 1: 22 و 23.
(2) انظر أنوار الهداية 1: 44 و 267.
50

اللغوية، وتشخيص مفاهيم الجمل والألفاظ، ومداليل المفردات و
المركبات، وتشخيص الظهورات، خارجة من المسائل الأصولية، و
داخله في علم الأدب، وإنما يبحث عنها الأصولي لكونها كثيرة
الدوران في الفقه والسيلان في مباحثه، ولهذا لا يقنع الأصولي
بالبحث
عنها في باب من الفقه، بل المناسب له - بما أن منظوره الاجتهاد في
الاحكام - أن ينقح تلك المباحث العامة البلوى ولو لم تكن أصولية.
وقد أدرج المتأخرون (1) بعض المسائل التي لا ابتلا بها رأسا أو قليلة
الفائدة جدا في فنهم لأدنى مناسبة، إما تشييدا لأذهان المشتغلين،
أو لثمرة علمية، أو لدخالة بعيدة في الاستنباط.
وبعد ما عرفت ذلك لا بأس بتعريفه: بأنه هو القواعد الالية التي يمكن
أن تقع كبرى استنتاج الاحكام الكلية الإلهية أو الوظيفة العملية.
فالمراد بالالية ما لا ينظر بها فقط، ولا يكون لها شأن إلا ذلك، فتخرج
بها القواعد الفقهية، فإنها منظور فيها لان قاعدة (ما يضمن) و
عكسها - بناء على ثبوتها - مما ينظر فيها، وتكون حكما كليا إلهيا، مع
أنها من جزئيات قاعدة اليد، ولا يثبت بها حكم كلي، نعم لو
كانت الملازمة الشرعية بين المقدم والتالي كان للنقض وجه، لكن
ليس كذلك عكسا ولا أصلا.

(1) فرائد الأصول: 106، الكفاية 2: 107 حيث أدرجا في علم الأصول مسألة حجية
الظن المطلق على الانسداد، وغيرها.
51

وكذا قاعدة الضرر والحرج والغرر، فإنها مقيدات للأحكام ولو بنحو
الحكومة، فلا تكون آلية بل استقلالية، وإن يعرف بها حال
الاحكام.
نعم يخرج بهذا القيد بعض الأصول العملية، كأصل البراءة الشرعية
المستفاد من حديث الرفع (1) وغيره، ولا غرو فيه لأنه حكم شرعي
ظاهري كأصل الحل والطهارة. (2)

(1) الخصال: 417 / 9 باب التسعة، الوسائل 11: 295 / 1 باب 56 من أبواب جهاد
النفس.
(2) ولك أن تدرج المسائل المتداخلة في هذا العلم، كالمسائل
المتقدمة - اللغوية والأدبية وغيرهما - وتميزها عن غيرها بقولنا:
(قواعد آلية) بما فسرناها، وتكون المسألة الأدبية - بما أنها آلة -
أصولية، وبما أنها استقلالية أو بجهات أخرى من مسائل الأدب أو
غيره، لكن لا بد أن يراد بالاستنتاج - حينئذ - أعم مما بلا واسطة،
لكن التحقيق هو ما تقدم، والدليل عليه - بعد الوجدان - التعريف
المشهور.
كما أن التحقيق: أن أصل البراءة الشرعية من الأصول، وماهيته ليست
غير أصل البراءة العقلية، بل العقل والنقل متطابقان على معذورية
الجاهل، كقوله تعالى: (ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)، و (لا
يكلف الله نفسا.) إلخ، وقوله: (الناس في سعة ما لا يعلمون)، و
حديث الرفع بناء على كونه لرفع المؤاخذة.
وأما مثل: (كل شي حلال.) وحديث الرفع، بناء على رفع الحكم
ورفع الشرطية والجزئية، و (كل شي مطلق) بناء على كونه
بمعنى المباح، لا على احتمال آخر، فأجنبي عن أصل البراءة، بل هي
أحكام فقهية، فأصل البراءة مسألة أصولية، وأصل الإباحة والحل
فقهية، فافهم. (منه قدس سره)
(أ) وذلك في الصفحة السابقة.
(ب) تقدم تخريجه قريبا.
(ج) الإسراء: 15.
(د) البقرة: 286.
(ه‍) الكافي 6: 297 / 2 باب نوادر، الوسائل 16: 373 / 2 باب 38 من أبواب
الذبائح، والرواية في المصدرين هكذا: (هم في سعة حتى يعلموا)، والأقرب لما في المتن
نصا ومعنى ما في عوالي اللآلي 1: 424 / 109، وهو: (إن الناس في سعة ما لم يعلموا).
(و) الكافي 5: 313 / 40 باب النوادر من كتاب المعيشة، الفقيه 3: 216 / 92 باب 96
في الصيد والذبائح، الوسائل 12: 59 / 1 باب 4 من أبواب ما يكتسب به و 17: 90 -
92 / 1 و 2 و 7 باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة.
(ز) الفقيه 1: 208 / 22 باب 45 في وصف الصلاة، الوسائل 18: 127 / 60 باب
12 من أبواب صفات القاضي.
52

وقولنا: (يمكن أن تقع) إلخ لأجل أن الأصولية لا تتقوم بالوقوع
الفعلي، فالبحث عن القياس وحجية الشهرة والاجماع المنقول
أصولي.
وبقولنا: (تقع كبرى) خرجت مباحث العلوم الاخر.
ولم نقل الاحكام العملية، لعدم عملية جميع الأحكام، كمطهرية الماء
والشمس، ونجاسة الأعيان النجسة.
وإضافة الوظيفة لادخال مثل أصل البراءة. وأما الظن على الحكومة
ففيه كلام آخر، حاصله:
أنه إن كان العقل حكم بحجيته يدخل بالقيد، وإن كان إيجاب العمل
على طبقه عقلا لأجل كونه أحد أطراف العلم فيكون أمارة على
الواقع، وليس للظن من هذه الحيثية دخالة، وإن لا يجوز رفع اليد عنه.
ولم نكتف بأنه ما يمكن أن تقع كبرى استنتاج الوظيفة، لعدم كون ما
53

يستنتج منها وظيفة دائما كالأمثلة المتقدمة، وإن تنتهي إلى الوظيفة. و
لعل ذلك أسلم من سائر التعاريف، والامر سهل.
54

الأمر الثاني في الواضع وكيفية الوضع
لا شبهة في أن البشر في الأزمنة القديمة جدا كان في غاية سذاجة
الحياة وبساطة المعيشة، وبحسبها كان احتياجه إلى الألفاظ محصورا
محدودا، فوضعها على حسب احتياجه المحدود، ثم كلما كثر
احتياجه كثرت الأوضاع واللغات، فكثرة الألفاظ والمعاني و
الاحتياجات
في الحال الحاضر لا تدل على أن الواضع هو الله تعالى أو بوحيه و
إلهامه، بل الواضع هو البشر، لا شخص واحد، بل أشخاص كثيرة في
مر الدهور وتمادي الأزمنة، فما صدر عن بعض الأعاظم (1) في المقام
مما لا ينبغي أن يصغى إليه.
كما أنه لا إشكال في عدم العلاقة الذاتية بين الألفاظ والمعاني: (أما)
قبل الجعل فهو واضح.

(1) فوائد الأصول 1: 30.
55

وتوهم لزوم العلاقة - دفعا للترجيح بلا مرجح في الوضع، وجعل
هذا برهانا على لزوم كونه تعالى واضعا لعدم إحاطة البشر
بالخصوصيات والروابط بينها (1) - واضح الضعف لعدم لزوم كون
المرجح هو الرابطة بين اللفظ والمعنى لامكان أن يكون انتخاب لفظ
لترجيح فيه لدى الواضع، من قبيل سهولة الأداء، وحسن التركيب، إلى
غير ذلك، من غير أن يكون بين الألفاظ والمعاني أدنى مناسبة.
وبالجملة: دعوى المناسبة بين جميع الألفاظ والمعاني مما يدفعه
الوجدان.
ويمكن إقامة البرهان على دفعها بأن يقال: إذا وضع لمعنى بسيط من
جميع الجهات ألفاظ مختلفة في لغة أو لغات: فإما أن يكون
لجميعها الربط مع المعنى، أو لبعضها دون بعض، أو لا ربط لواحد منها
معه. لا سبيل إلى الأول للزوم تحقق الجهات المختلفة في البسيط
الحقيقي، وهو خلف، وعلى الثاني والثالث تبطل دعوى الخصم.
هذا، وأما عدم تحقق العلقة بينهما بعد الوضع - بمعنى أن الجاعل لم
يوجد علقة خارجية بينهما - فهو - أيضا - واضح لان تعيين اللفظ
للمعنى لا يعقل أن يكون موجبا لوجود العلقة الخارجية التكوينية، و
أما فهم المعنى من اللفظ فليس إلا للانس الحاصل من الاستعمال، أو
من العلم بأن المتكلم يعمل على طبق الوضع، من غير أن تكون علقة
زائدة على ما ذكر.
وما قيل: - من أن لازم ذلك انعدام هذه العلقة بانعدام المعتبرين و
العالمين،

(1) فوائد الأصول 1: 30 - 31.
56

كما أن القوانين الجعلية العلمية - التي قد يتعلق بها العلم وقد يتعلق
بها الجهل - لو كانت من الاعتبارات، ولم يكن لها وعاء غير
الاعتبار، يلزم الالتزام بانعدامها بالغفلة عنها، وهذا مما يأباه العقل
السليم (1) - ليس بشئ لعدم فساد تاليه، بل الامر كذلك بلا إشكال
في القوانين الجعلية، كقانون الزواج والملك وغيرهما، فإنه مع انعدام
المعتبرين ومناشئ اعتبارها ومحال كتبها لم يكن لها تحقق،
كما أن الألسنة القديمة المتداولة بين البشر المنقرضين بوجودها
العلمي والكتبي صارت منقرضة معدومة، وليس لها عين ولا أثر في
الخارج والذهن، وما لا وجود له في الخارج والعين فليس بشئ.
نعم، القوانين العلمية التي لها موازين واقعية كشف عنها العلم لم تنعدم
بانعدام المكاشفين، فقانون الجاذبة له واقع كشف أم لم يكشف،
بخلاف الجعليات، فلا ينبغي التأمل في أن الواضع لم يجعل علاقة
واقعية
بين اللفظ والمعنى، مع أن البرهان المتقدم يبطل تحقق هذه العلاقة
قبل الجعل وبعده.
ثم إن الوضع - على ما يظهر من تصاريفه - هو جعل اللفظ للمعنى و
تعيينه للدلالة عليه، وهذا لا ينقسم إلى قسمين لان التعيني لا يكون
وضعا وجعلا.
والاختصاص الواقع في كلام المحقق الخراساني (2) ليس وضعا بل
أثره.

(1) مقالات الأصول 1: 14 / سطر 2 - 23.
(2) الكفاية 1: 10.
57

كما أن التعهد - الذي وقع في كلام المحقق الرشتي (1) وتبعه شيخنا
الأستاذ (2) قائلا: إنه لا يعقل جعل العلاقة بين الامرين اللذين لا
علاقة بينهما أصلا، والذي يمكن تعقله هو أن يلتزم الواضع أنه متى
أراد وتعقله وأراد إفهام الغير تكلم بلفظ كذا - أيضا متأخر عن
الجعل والتعيين لان هذا التعهد هو الالتزام بالعمل بالوضع لا نفسه، و
ما قال: من أنا لا نعقل جعل العلاقة، هو حق إذا كان الوضع جعل
العلاقة الواقعية، وأما إذا كان عمل الواضع تعيين اللفظ للمعنى فهو
بمكان من الامكان، بل الواقع كذلك وجدانا، بل ربما يكون الواضع
غير المستعمل، فيكون الوضع للغير، ويكون الواضع غافلا عن هذا
الالتزام التعليقي، فالاختصاص والربط والتعهد كلها غير حقيقة
الوضع.

(1) انظر بدائع الأفكار: 36 - سطر 34، و 38 - سطر 27 - 28.
المحقق الرشتي: هو الشيخ ميرزا حبيب الله ابن الميرزا محمد علي
خان الگيلاني الرشتي، أصولي محقق وفقيه مدقق وعابد زاهد ورع.
ولد في قرية رانكوي من قرى رشت سنة (1234 ه). درس في رشت،
ثم هاجر إلى قزوين ليكمل دراسته، ثم هاجر إلى النجف الأشرف،
فدرس عند الشيخ صاحب الجواهر والشيخ الأنصاري، ولم يفته من
بحث الشيخ شي حتى وفاته، بعدها استقل بالتدريس. كان ذا بيان
عذب وسلاسة في التعبير، جذب إليه من الاعلام والفضلاء الجم
الغفير. له مصنفات عديدة أشهرها بدائع الأفكار.
توفي سنة (1312 ه)، ودفن عند أمير المؤمنين.
انظر نقباء البشر 1: 357، معارف الرجال 1: 204، الفوائد الرضوية:
93.
(2) درر الفوائد 1: 4.
58

الأمر الثالث في أقسام الوضع
ينقسم الوضع إلى عمومه وعموم الموضوع له، وخصوصهما، أو
عموم الأول، أو الثاني.
وما يقال: من عدم امتناع كون العام مرآة للخاص ووجها له دون
الخاص للعام (1)، غير صحيح لان العام - أيضا - لا يمكن أن يكون
مرآة للخاص بما أنه خاص لان الخصوصيات وإن اتحذت مع العام
وجودا، لكن يخالفها عنوانا وماهية، ولا يمكن أن يحكي عنوان إلا
عما بحذائه، فالانسان لا يحكي إلا عن حيثية الانسانية، لا
خصوصيات الافراد، فلا يكفي للوضع للافراد تصور نفس عنوان العام
الذي
ينحل الخاص والفرد إليه وإلى غيره، بل لا بد من لحاظ الخاص، ولا
يعقل الوضع إلا مع تصور الطرفين ولو بالاجمال، فلو تقوم الوضع
بمرآتية العنوان للموضوع له كان

(1) الكفاية 1: 10.
59

عموم الوضع وخصوص الموضوع له كالعكس محالا، وإلا - كما هو
الحق - يكون كلاهما ممكنين.
والتحقيق: أن تصور العام قد يكون موجبا لانتقال الذهن إلى مصاديقه
بوجه إجمالي، فيتصور العام ويوضع اللفظ بإزاء ما هو مصداقه،
ويكون هذا العنوان الاجمالي المشير آلة للوضع للافراد، ولا يحتاج
في الوضع إلى تصورها بخصوصياتها تفصيلا، بل لا يمكن ذلك،
لعدم إمكان الإحاطة بها تفصيلا، لعدم تناهي أفراد الطبيعي، وبهذا
المعنى يكون خصوص الوضع وعموم الموضوع له ممكنا.
نقل وتنقيح:
ربما يقال (1): إن لعموم الوضع والموضوع له معنى آخر غير ما هو
المشهور، بتوهم أن للطبيعي حصصا في الخارج متكثرة الوجود، و
لها جامعا موجودا في الخارج بالوجود السعي ملاصقا للخصوصيات،
واحدا بالوحدة الذاتية، بدليل انتزاع المفهوم الواحد منها، وتأثير
العلتين في معلول واحد، وللصور الذهنية للافراد - أيضا - جامعا
كذلك، وإلا لم يكن تام الانطباق على الخارج، ولازم ذلك عدم
مجئ
المعنى المشترك في الذهن إلا في ضمن الخصوصيات، فحينئذ
يمكن ملاحظة صورة هذه الجهة

(1) مقالات الأصول 1: 17 - 18.
60

المتحدة السارية في الخصوصيات المطابقة لما في الخارج بتوسيط
معنى إجمالي، ووضع اللفظ لها لا للخصوصيات، في قبال وضعه
للجامع المجرد عنها، وهذا - أيضا - من الوضع العام والموضوع له
كذلك، ولكن لازمه انتقال النفس في مقام الاستعمال إلى صور
الافراد، وهذا لا ينافي كون الطبيعي مع الافراد كالآباء مع الأولاد.
انتهى ملخصا.
وفيه ما لا يخفى على أهله فإن الجامع الخارجي بنعت الوحدة يساوق
الوجود الواحد بالوحدة العددية ضرورة مساوقة الوحدة للوجود،
وفساده أوضح من أن يخفى، وهو رحمه الله وإن فر من ذلك قائلا: إن
الحصص متكثرة الوجود لئلا يلزم الوحدة العددية، لكن كر عليه
بالالتزام بالجامع الموجود بالوجود السعي الذي توهم كونه منشأ
انتزاع المفهوم الواحد، وكونه مؤثرا عند اجتماع العلتين على معلوم
واحد، وإن سماه واحدا ذاتيا وسنخيا، وهذا رأي الرجل الهمداني، و
لعل منشأ توهمه - أيضا - ما توهم من قيام البرهان عليه.
وأما قضية عدم انتزاع مفهوم واحد إلا من منشأ واحد فهو كذلك، لكن
ليس معناه أنه يكون في الخارج أمر واحد جامع موجود بنعت
الوحدة ينتزع منه المفهوم، بل المراد منه أن الماهية اللابشرط
الموجودة في الخارج بنعت الكثرة المحضة، للعقل أن يجرد (أفرادها)
عن
اللواحق والمشخصات، فعند ذلك ينال من كل فرد ما ينال من الاخر.
فالانسان اللابشرط إنسان متكثر الوجود، واللابشرط يتكثر مع الكثرة،
61

لا بمعنى صيرورته حصصا منقسما متجزئا، كما يوهمه لفظ الحصص،
بل بمعنى كون كل فرد تمام حقيقة الانسان، فإنها لا تأبى الكثرة
في وعاء الخارج، والعقل بعد التخلية والتجريد يراها بنعت الوحدة،
لكن وعاء تحققها بالوحدة هو الذهن، فللماهية نشأة خارجية هي
نشأة الكثرة المحضة، ونشأة عقلية بعد التجريد هي نشأة الوحدة
الذاتية أو النوعية أو السنخية، وهذا مراد من قال: إن الطبيعي مع
الافراد كالآباء مع الأولاد، وما زعمه رحمه الله هو عين القول بكونه
كالأب مع الأولاد، ولازمه الوحدة العددية.
وأما حديث كون الجامع مؤثرا في العلل المستقلة إذا اجتمعت على
معلول واحد، متمثلا بعدة قضايا عرفية كالبنادق المؤثرات في قتل
حيوان، وكالشمس والنار المجتمعتين على تسخين ماء واحد، و
كاجتماع عدة أشخاص لرفع الحجر العظيم، فهو من غرائب الكلام، لا
يصدر إلا ممن لا يعلم كيفية تعلق المعلول بالعلة في الفاعل الإلهي إذ
لا يمكن اجتماع العلتين البسيطتين على معلول واحد قط حتى يلتزم
بتأثير الجامع، مع أن الواحد بالنوع والذات والسنخ كذلك لا يمكن أن
يكون مؤثرا ومتأثرا إلا بالعرض، والمؤثر والمتأثر دائما هو
الهوية الوجودية الواحدة بالوحدة الحقيقية، وموارد النقض كلها من
قبيل تأثير الكثير في الكثير عقلا، وإنما خلط الامر العرفي بالعقلي،
والأولى إيكال أمثال هذه المسائل إلى علمه وأهله، حتى لا يقع
الباحث في مفاسد عظيمة
62

من حيث لا يعلم، كدعوى كون السنخية بين العلة والمعلول من قبيل
الجامع الخارجي بينهما.
فتحصل مما ذكرنا - وأوكلنا تحقيقه إلى محله -: أن الجامع الخارجي
بين الافراد الخارجية غير معقول، وكذا لا جامع بين الافراد
الذهنية بنعت الوحدة بما هي موجودة في الذهن، ولكن للعقل أن
يجردها عن الخصوصيات وينال الجامع منها.
ثم مع تسليم تحقق الجامع الكذائي - لو فرض وضع اللفظ له - لا
يعقل إحضار الخصوصيات اللاحقة له خارجا في الذهن، لان الجامع
لم
يكن ذاته إلا نفس الماهية، والخصوصيات خارجة عنها، واتحادها
معها أو لصوقها بها - بزعمه - ولزومها لها خارجا لا يوجب
إحضارها في الذهن بلفظ موضوع لغيرها ما لم يكن بينهما لزوم ذهني،
وهو غير معلول للاتحاد أو الالتصاق، ومجرد كونها جامعا
بينها لو أوجب ذلك لزم إحضار الخصوصيات باللفظ الموضوع لنفس
الماهية لأنها - أيضا - موجودة بوجودها ومتحدة معها ولو
بنعت الكثرة. وبالجملة: الاتحاد الخارجي غير الانفهام من اللفظ.
وهم ودفع:
ولعلك تقول: إن عموم الوضع مطلقا محال، لان الملحوظ جزئي
حقيقي لوجوده في الذهن، وقطع النظر عن اللحاظ أو كونه
63

مغفولا عنه لا يوجب انقلابه كليا، بل الكلي القابل للصدق على
الكثيرين لا يمكن أن يتحقق مجردا عن الخصوصيات وبنعت الكلية
في
وعاء من الأوعية إذ لا تقرر للطبيعي إلا بالوجود، ومعه جزئي، فأين
لحاظ الكلي؟ فعموم الوضع خصوصه بحسب الواقع، وإن يتوهم
اللاحظ كونه عاما.
فيجاب: بأن المراد من الملحوظ حال الوضع هو الملحوظ بالعرض لا
بالذات، ضرورة أن اللفظ لم يوضع له في عموم الوضع والموضوع
له، ولا في خصوصهما، ولا لمصاديقه في خصوص الموضوع له
لعدم المصداق له، والملحوظية بالعرض تكفي للوضع وصيرورته
عاما
أو خاصا، وإلا يلزم امتناع الوضع للخارجيات مطلقا لعدم تصورها
بالذات، فالصورة الملحوظة بالذات في خصوص الوضع، والماهية
الملحوظة كذلك في عمومه، وسيلة للحاظ الخاص والعام كوساطة
الصورة الذهنية للمعدوم المطلق للاخبار بعدم الاخبار عنه، ومن
شريك الباري للاخبار بامتناعه.
تنبيه: في المراد بالعموم في المقام:
ربما يسبق إلى بعض الأذهان مقابلة الوضع العام والموضوع له كذلك
لخصوصهما، فيتوهم أن الموضوع له في الثاني هو الخاص بما أنه
خاص، أي المتشخص الخارجي بما هو كذلك، فلا بد وأن يكون في
الأول العام بما
64

عام، كما التزم به بعض المدققين. (1)
لكنه فاسد، بل المراد بالعموم هو نفس الطبائع والماهيات، كما يشهد
له (التمثيل) بأسماء الأجناس، ولا ريب في أنها نفس الطبائع لا
بما هي عامة ضرورة أنها كذلك آبية عن الحمل، فلو وضع اللفظ لها
لزم التجريد والتجوز

(1) نهاية الدراية 1: 15 - سطر 10 مع الهامش. 1 بعض المدققين هو
الشيخ محمد حسين بن محمد حسن معين التجار الأصفهاني، الشهير
بالكمپاني. ولد سنة (1296 ه)، ونشأ في ظل عائلة متدينة ووالد
تاجر محب للعلم والعلماء، من مشاهير تجار الكاظمية، فعاش في
كنفه
- وهكذا قضى عمره الشريف عزيزا مترفعا عما في أيدي الناس،
هاجر إلى النجف ليحضر الفقه والأصول عند علامة عصره الآخوند، و
اختص به حتى وفاته، فكان من أبرز تلاميذه، حضر عنده (13) عاما،
كتب خلالها القسم الأكبر من حاشيته على الكفاية (نهاية الدراية)،
كما حضر بحث السيد الفشاركي، ودرس الفلسفة لدى الميرزا باقر
الاصطهباناتي. استقل بالتدريس بعد رحيل أستاذه الأكبر المحقق
الخراساني، فبلغ في الفقه والأصول والحكمة والعرفان والأخلاق
أعلى الدرجات، كما كان ذا مواهب عديدة، فهو مضافا إلى فقاهته و
أصوليته وحكمته كان أديبا شاعرا في اللغتين العربية والفارسية، كما
كان خطاطا خطه في غاية الإناقة والجمال. له حاشية على
مكاسب الشيخ بمجلدين ضخمين هي خير الحواشي، وله (تحفة
الحكيم) أرجوزة فلسفية، وله منظومة كبرى في مراثي النبي وآله
صلوات الله عليه وعليهم - وفي مدائحهم، وله منظومة في
الاعتكاف، وأخرى في الصوم، وله ديوان شعر فارسي، وله رسالة
عملية، و
له مجموعة رسائل فقهية وأصولية وفلسفية. كان محبوبا خصوصا
عند تلامذته إلى حد التقديس، كما كان عارفا متألها منقطعا لله عز
وجل.
ارتحل عن هذه الدنيا مسأ الخامس من ذي الحجة عام (1361 ه).
انظر مقدمة الشيخ المظفر على حاشية المترجم له على مكاسب
الشيخ، نقباء البشر 2:
560 - 562، معارف الرجال 2: 263.
65

دائما، وهو كما ترى.
ومما ذكرنا يتضح تصور قسم آخر للوضع، وهو عموم الموضوع له بما
هو عام، لكن ثبوته محل منع. (1) (*)
(1) ثم اعلم أن لخصوص الموضوع له صورا:
منها: ما تقدم من عموم الوضع وخصوص الموضوع له.
ومنها: أن يكون الملحوظ شخصا والموضوع له كل ما كان من أمثاله،
فإنه - أيضا - من خصوصهما.
ومنها: خصوصهما بالمعنى المعروف.
ومنها: أن يكون الملحوظ جميع الافراد بنحو الاجمال والموضوع (له)
كذلك، فإنه - أيضا - من خصوصهما.
وبعد تصور ما ذكر، وإمكان الوضع الخاص وعموم الموضوع له، لا
طريق لنا في مورد عموم الموضوع له - الثابت بالتبادر وغيره -
لاثبات عموم الوضع، كما لا طريق لاثبات عمومه في مثل معاني
الحروف على فرض ثبوت خصوص الموضوع له فيها لامكان أن يكون
من قبيل الصورة الثانية أو الصورة الثالثة من صور خصوص الموضوع
له. نعم بناء على امتناع عموم الموضوع له وخصوص الوضع
يستكشف من عموم الأول عموم الوضع. ولا يذهب عليك أن العموم
والخصوص في المقام غيرهما في باب العام والخاص فالعام هاهنا
نفس الماهية، والخاص جزئي حقيقي، والعام هناك القضية
المحصورة ب (كل) ونحوه، والخاص ما كان أقل (إحاطة) ولو كانت
محصورة أيضا. ولعل الخلط في ذلك صار موجبا لغفلة بعض
المدققين. (منه قدس سره.)
(أ) نهاية الدراية 1: 15 / سطر 10 مع الهامش (*).
66

الأمر الرابع في أمثلة أقسام الوضع
لا إشكال في ثبوت عموم الوضع والموضوع له. قالوا: وكذا في ثبوت
خصوصهما، ومثلوا له بالأعلام الشخصية (1)، وفي كونها منه
إشكال، للزوم كون نحو: (زيد موجود) قضية ضرورية، كقولنا: (زيد
زيد)، وكون حمله عليه كحمل الشئ على نفسه، ومجازية مثل
قولنا:
(زيد معدوم)، وقولنا: (زيد إما موجود، وإما معدوم)، مع عدم الفرق
وجدانا بينه وبين قولنا: (زيد إما قائم، أو قاعد) في عدم العناية
فيه، فلا يبعد أن يلتزم بأنها وضعت للماهية الكلية التي لا تنطبق إلا
على الفرد الواحد.
وتوهم: أن الماهية الكذائية مغفول عنها حين الوضع بالوجدان.

(1) هداية المسترشدين: 29 / سطر 10 - 14، الفصول الغروية: 16 / سطر 3 - 6، الكفاية
1: 13، درر الفوائد 1: 5.
67

مدفوع: بأن الارتكاز مساعد لذلك كما نرى من إخبار العوام والنساء
بمعدومية المسميات في الاعلام وموجوديتها.
والموضوع في هذا الحكم ليس الماهية الكلية القابلة للانطباق على
الكثيرين، ولا الشخص الموجود بما هو كذلك، بل الماهية التي لا
تنطبق إلا على الفرد الخارجي، وهي متصورة ارتكازا، والاعلام
الشخصية موضوعة لها. وهذا أهون من الالتزام بمجازية كثير من
الاستعمالات الرائجة بلا عناية وجدانا. تأمل.
في معاني الحروف:
وأما الوضع العام والموضوع له الخاص فقد ذهب جمع (1) بأن وضع
الحروف كذلك، فلا بد من تحقيق معانيها أولا حتى يتضح ما هو
الحق، فنقول:
لا إشكال في أنه مع قطع النظر عن الوضع تكون الموجودات مختلفة
في أنحاء الوجود:
فمنها: ما تكون موجودة ومعقولة في نفسها كالجواهر.
ومنها: ما تكون موجودة في غيرها ومعقولة في نفسها كالاعراض.
ومنها: ما لا تكون في نفسها موجودة ولا معقولة كالنسب و
الإضافات.

(1) قوانين الأصول 1: 10 / سطر 3 - 7، الفصول الغروية: 16 / سطر 6 - 8، نهاية الدراية
1: 18 - 19.
68

ففي الجسم الأبيض يكون الجسم موجودا بوجود مستقل، ويكون له
ماهية معقولة بذاتها، وللبياض وجود خارجي غير مستقل أي يكون
وجوده في نفسه عين وجوده للجسم، فلا يمكن أن يتحقق في نفسه
مستقلا، ولكن له ماهية معقولة بذاتها من غير احتياجها إلى أمر آخر،
فنفس ذات البياض معقولة مع الغفلة عن وجود الجوهر وماهيته، لكن
في وجوده يحتاج إلى الموضوع.
وأما النسب والروابط بينهما فليس لها وجود مستقل، بل تكون
موجوديتها تبعا لهما، كما لا تكون لها ماهيات مستقلة بالمعقولية حتى
تتعقل بنفس ذاتها، بل يكون نحو تعقلها في الذهن كنحو وجودها في
الخارج تبعا للطرفين، فمثل هذه النسب والإضافات وكذا
الوجودات الرابطة لا يكون معدوما مطلقا بحيث يكون حصول
البياض للجسم كلا حصوله، ووقوع زيد في الدار كلا وقوعه، لكن
تكون
موجوديتها بعين موجودية الطرفين بنحو، ولا يكون لها ماهية معقولة
مستقلة في المعقولية كماهية الجواهر والاعراض.
نعم للعقل أن ينتزع منها مفهوما مستقلا بالمفهومية، كمفهوم النسبة و
الربط والإضافة وأمثالها، ويجعلها حاكية عنها بنحو من
الحكاية، لا كحكاية الماهية عن مصداقها الذاتي ضرورة عدم إمكان
تعقلها بنحو الاستقلال، لا بالذات ولا بالعرض، فليست نسبتها إليها
كنسبة الماهية إلى مصداقها، ولا كنسبة مفهوم الوجود أو العدم إليهما،
فلا يمكن استحضار
69

حقائق النسب في الذهن بذاتها بتوسط هذه العناوين، نعم يمكن
الاستحضار التبعي كالوجود الخارجي.
ثم إنا قد نعقل الخارج على ما هو عليه، فنعقل الجسم الذي له البياض
كما هو في الخارج، فيتحقق الجسم والبياض بصورتهما في الذهن
والإضافة بينهما تبعا لهما، من غير أن يكون لها صورة استقلالية
متصورة، ففي هذا النحو من التعقل تكون حقيقة النسبة والكون
الرابط متحققين في الذهن كتحققهما في الخارج، فيكون البياض و
الجسم مربوطين في الذهن والخارج بتوسط هذه المعاني الإضافية و
النسب فزيد في الخارج لا يكون مرتبطا بالدار ولا الدار به إلا بالإضافة
الحاصلة بينهما المتحققة بنحو الكون الرابط، وهو كونه في
الدار، لا كونه المطلق، وكذا في العقل. هذا إذا تعقلناه على ما هو في
الخارج أي بنحو الارتباط والانتساب بالحمل الشائع.
وأما إذا تعقلنا الربط والنسبة بالحمل الأولي فلا يمكن أن يكون ما به
الارتباط بين المعقولات، كما إذا تعقلنا مفاهيم الدار، والربط، و
الانسان، والابتداء، والسير، والبصرة، والانتهاء، والسير، والكوفة،
فإنها مفاهيم مفردة استقلالية لا يرتبط بعضها ببعض، كما لو
فرض وجود هذه الماهيات في الخارج من غير توسط الانتسابات و
الإضافات، فالربط التكويني بين الجواهر والاعراض إنما هو
بالنسب والإضافات والأكوان الرابطة، وكذا حال المعقولات فلا
يتحقق الربط بين الجواهر والاعراض المعقولة إلا بالنسب والإضافات
والأكوان الرابطة بالحمل الشائع، لا الأولي.
70

هذا حال العين والذهن مع قطع النظر عن الوضع والدلالة. وأما بالنظر
إليهما، فقد يريد المتكلم أن يحكي عن الخارج على ما هو عليه
من ارتباط الجواهر بالاعراض، وحصول الاعراض للجواهر، فلا بد له
من التشبث بألفاظ الحروف والهيئات، وسيأتي الفرق بينهما (1)،
كما أنه لو أراد الحكاية عن الصور المعقولة المرتبطة فلا محيص له إلا
التشبث بها، فلو قال: (زيد ربط قيام)، أو (زيد سير ابتدأ كوفة
انتهاء بصرة) مثلا، تكون ألفاظ مفردة غير مترابطة، غير حاكية عن
الواقع، ومن هذا يتضح أن هذا النوع من الحروف - أي (في) و
(على) و (من) و (إلى) - إنما هي حاكية حكاية تصورية عن
الارتباطات بين المعاني الاسمية.
مع أن الامر أوضح من ذلك ضرورة أنه لو حاول أحد تجزئة قولنا:
(سرت من البصرة إلى الكوفة)، وقاس كل لفظ منه إلى الواقع، لوجد
دلالة مادة الفعل على طبيعة السير، وهيئته على الانتساب
الصدوري إلى المتكلم، والبصرة والكوفة على البلدين، و (من) و
(إلى) على الابتداء والانتهاء المرتبطين بالسير والبلدين، والهيئة
على تحقق الارتباطات كما سيأتي بيانه (2)، فهذه الحروف حاكية عن
الارتباطات والإضافات بين الجواهر والاعراض - سوأ في
الخارج أو الذهن - وموقعة للارتباط بين ألفاظ الأسماء في الجمل تبعا
واستجرارا، لا ملحوظا بالاستقلال، فلو لا محكياتها ومعانيها

(1) في صفحة: 79 و 89.
(2) في صفحة: 89 و 92.
71

لم ترتبط الجواهر بالاعراض في الخارج، ولا الصور المعقولة الاسمية
الحاكية عن الخارج بعضها بالبعض، ولولا ألفاظها لم ترتبط
ألفاظ الأسماء، ولم تحصل الجمل، فتدبر.
بحث وتحقيق في بيان بعض أقسام الحروف:
ما ذكرنا من كون الحروف حاكيات عن الارتباطات ليس حكما كليا
للحروف، بل هو شأن بعضها، وبعض آخر منها ليس حاكيا عن
الواقع، بل موجد لمعناه، كحروف القسم والتأكيد والتنبيه و
التحضيض والردع وأمثالها، فإنها وضعت لان تكون آلة لإيجاد
معانيها،
وتستعمل استعمالا إيجاديا، كما أن شأن بعض الأفعال كذلك كما
يأتي (1) ضرورة أنه ليس للقسم والتأكيد والردع - مثلا - واقع
تحكي حروفها عنه، بل المتكلم ينشئ معانيها بالحروف، فلا شبهة في
تحقق هذين النحوين في الحروف.
ولست الان بصدد استقصاء أحوال جميع الحروف. ولا دعوى
حصرها فيهما، ولا بصدد أقسام النسب في القضايا البسيطة والمركبة
و
الايجابية والسلبية، بل بصدد بيان أن هذين النحوين من الحروف
يكونان في لسان العرب والفرس بل سائر الألسنة حسب مسيس
الاحتياج إليهما، ولا يكون جميعها إيجادية ولا حاكية، ولا ننحرف
عن هذه الطريقة المطابقة لوجدان كل صاحب لسان إلا ببرهان.

(1) في صفحة: 94 و 95.
72

في الخلط من بعض الأعاظم:
وسيأتي (1) حال ما زعم قيامه على امتناع الايجادية، لكن بعد التنبيه
على الخلط الذي وقع لبعض أعاظم العصر في المقام، فإنه قد قسم
المعاني المرادة من الألفاظ على قسمين:
إخطارية: وهي معاني الأسماء لان استعمال ألفاظها في المعاني
يوجب إخطار معانيها في ذهن السامع.
وإيجادية: وهي معاني الحروف لان استعمالها في معانيها يوجب
إيجاد معانيها، من دون أن يكون لها نحو تقرر مع قطع النظر عن
الاستعمال. (2)
ومراده من الايجادية - على ما صرح به - هو إيجاد الربط بين أجزأ
الكلام حيث قال (3): التحقيق: أن معاني الحروف كلها إيجادية حتى
ما أفاد منها النسبة لان شأن أدوات النسبة ليس إلا إيجاد الربط بين
جزأي الكلام لعدم الربط بين ألفاظ الأسماء كلفظ (زيد) و (القائم)
بما لهما من المعنى، وأدوات النسبة وضعت لإيجاد الربط بينهما على
وجه يصح السكوت (عليه) ثم بعد إيجاد الربط يلاحظ مجموع
الكلام من النسبة والمنتسبين، فإن كان له خارج يطابقه يكون صادقا، و
إلا فلا. انتهى ملخصا.

(1) في صفحة: 75 وما بعدها.
(2) فوائد الأصول 1: 37.
(3) نفس المصدر السابق 1: 42.
73

وأنت خبير بما فيه لان كون تلك الأدوات موقعة للربط مسلم، لكن
عدم شأن لها إلا ذلك صرف ادعاء من غير دليل.
مع أن الدليل على خلافه لان إيقاع الربط بالحروف فرع استعمالها بما
لها من المعنى ضرورة أن نفس الحروف بلا دلالة على المعنى
غير موقعة للربط، والتبادر والوجدان من أهل كل لسان حاكمان بأن
بعض الحروف حاك عن الإضافات والنسب، كما نبهنا عليه (1).
وما ذكر - من أن مجموع الكلام بعد إيقاع الربط حاك عن الواقع - كما
ترى ضرورة أنه لا وضع لمجموعه، إلا أن يرجع إلى ما
سنذكره (2) من أن هيئات الجمل التامة تدل على تحقق النسب،
فالحروف وضعت للإضافات التصورية، وهيئات الجمل (للدلالة)
على
تحققها.
وبما ذكرنا اتضح أنه لا مقابلة بين المعنى الاخطاري والايجادي كما
ذكره، بل إيجاديتها ملازمة لاخطاريتها بمعنى أن ألفاظ الحروف
المستعملة في معانيها موقعة للربط بين أجزأ الكلام.
وبعبارة أخرى: أن المتكلم إذا أراد الحكاية عن الواقع على ما هو عليه
من ربط الاعراض بالجواهر، وجعل كلامه حاكيا عنه، يصير بين
أجزأ كلامه ارتباط، وهذا واضح لمن راجع وجدانه، فالاخطارية و
الايجادية بهذا المعنى غير متقابلتين، كما أن الايجادية بالمعنى
المتقدم لا تقابل الاخطارية بمعنى

(1) في صفحة: 71.
(2) في صفحة: 89 و 92.
74

إخطار المعنى في الذهن فإن ألفاظ الحروف - سوأ كانت حاكيات
عن الواقع المقرر حكاية تصورية مع قطع النظر عن الاستعمال، أو
كانت موجدة لمعانيها كحروف القسم والنداء والتحضيض - إخطارية
موجبة لانتقال (السامع) من اللفظ إلى المعنى.
في كلام بعض المحققين:
ثم إن بعض المحققين (1) بعد تسليم إيجادية بعض الحروف أنكر كون
الفرد الموجود به معناه الموضوع له، واستدل عليه بوجوه:
أحدها: أن معنى اللفظ ومدلوله بالذات هو ما يحضر في الذهن عند
سماع اللفظ الموضوع له، ولا ريب أن الموجود الخارجي لا يمكن أن
يحضر في الذهن، فالخارج هو المدلول عليه بالعرض لفناء المدلول
عليه بالذات فيه.
وفيه أولا: أنه منقوض بالأعلام الشخصية، بناء على أنها من قبيل
خصوص الوضع والموضوع له كما هو المشهور، واعترف به، ولو
أنكر أحد كون الموضوع له فيها هو الوجود الخارجي، فلا ريب في
إمكان الوضع للموجود المتشخص في الخارج من غير لزوم محال،
أو اختلال في المحاورة والدلالة.
وثانيا: أن ما ذكره - من أن معنى اللفظ هو ما يحضر في الذهن بالذات
عند سماعه أي المعلوم بالذات هو الموضوع له - ادعاء من غير

(1) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 46 - 47.
75

إشفاعه بالدليل، والقائل بأن بعض الألفاظ موضوعة للموجود
الخارجي ينكر ذلك، ويدعي أن الموضوع له فيه هو المعلوم
بالعرض، و
الألفاظ وضعت للإفادة والاستفادة بإحضار المعاني في الذهن، سوأ
في ذلك العرضية والذاتية.
وثالثا: أن الموضوع له في كافة الأوضاع هو غير ما يحضر في الذهن
بالذات، بل هو ما يفهم من اللفظ ويتوجه السامع إليه عند سماع
اللفظ، ولا ريب أن الصورة الحاضرة في الذهن بالذات مغفول عنها
عند سماع اللفظ، وليست ما يفهم منه، بل تكون مرآة للمعنى
المفهوم الذي هو الموضوع له، وأنت إذا راجعت وجدانك ترى أنه
عند سماع اللفظ تنتقل إلى المعاني النفس الامرية، لا الموجودة في
ذهنك أو ذهن المتكلم، سوأ في الاعلام الشخصية وأسماء
الأجناس، وغيرها، فلفظ الانسان يدل على نفس الطبيعة، لا
الموجودة في
الذهن، نعم ينتقل السامع إلى المعنى الموضوع له بتوسط الصورة
الحاضرة في الذهن التي تكون مرآة له، ومغفولا عنها.
ثانيها: أن هذا الموجود الخارجي - الذي هو بالحمل الشائع ندأ - لا
يتحقق في الخارج إلا بنفس الاستعمال، فيكون متأخرا عنه تأخر
المعلول عن علته، ولا ريب في أن المستعمل فيه متقدم على
الاستعمال بالطبع، فإذا كان هذا الوجود هو المستعمل فيه يلزم تقدم
الشئ
على نفسه.
وفيه: أن القائل بكون الألفاظ على قسمين - إيجادية وحاكية - لا
يسلم
76

بلزوم تقدم المستعمل فيه على الاستعمال، إذ ليس معنى الاستعمال
إلا ذكر اللفظ لافهام المعنى، وطلب عمل اللفظ في المعنى، من غير
لزوم التقدم المدعى. ولعله أخذ بظاهر لفظة (في) الدالة على الظرفية،
فتوهم أن استعمال شي في شي يتوقف على وجود الظرف
قضاء لحق الظرفية، وإلا فأي دليل على تقدم المستعمل فيه على
الاستعمال؟ والتحقيق: أن الألفاظ قد تكون حاكيات عن المعاني
المقررة في نفس الامر، فيكون التكلم بها موجبا لاخطار معانيها في
الذهن، وقد تكون موجدة لمعانيها في الوعاء المناسب لها، ومع
ذلك موجبة لاخطار معانيها في الذهن ولو بالعرض، ولا يكون لها
واقع تطابقه أو لا تطابقه، فالمستعمل فيه لا يكون مقدما على
الاستعمال تقدما بالطبع حتى في الحاكيات لعدم ملاك التقدم، و
التقدم في بعضها اتفاقي، لا طبعي بملاكه.
ثالثها: أنه لا شبهة في استعمال أدوات النداء والتشبيه والتمني و
الترجي والطلب في غير ما يكون كذلك بالحمل الشائع، بل تستعمل
هذه الألفاظ بداعي التشوق أو السخرية أو التعجيز وأمثالها، ولا ريب
في أن الموجود بهذا الاستعمال لا يكون بالحمل الشائع ندأ و
تشبيها وطلبا، بل يكون تشوقا وتعجيزا إلى غير ذلك بهذا الحمل، فلا
بد إما من الالتزام بالمجازية، وهو مما لا يقول به المفصل، وإما
أن تكون مستعملة في معانيها الحقيقية بداعي ما ذكر، فما تكون
مستعملة فيه هو معانيها الحقيقية فيما إذا استعملت بداعي إفادة ما
وضعت له.
77

وفيه: أن العارف بموارد الاستعمالات ومحاسن الكلام يعلم أن هذه
الألفاظ في أمثال الموارد المتقدمة تستعمل استعمالا إيجاديا، لكن
بدواع أخر، فالقائل في قوله:
(يا كوكبا ما كان أقصر عمره) (1) يوجد فردا من النداء بالحمل الشائع، لكن بداع آخر، ويكون
الاستعمال فيما وضع له، وإنما الجد بخلافه، وإلا لصار الكلام خلوا
عن
الحسن ومبتذلا، وكذا غيره من الأمثلة، فما قال - من عدم كونها
مجازا - ممنوع، لكن في مطلق المجازات تستعمل الألفاظ في معانيها
الحقيقية، لكن بداعي التجاوز عنها إلى غيرها، وسيأتي تحقيق ذلك
في محله (2).
دفع وهم:
قد ذهب بعض المحققين إلى أن مدلول الحروف قسم من الاعراض
النسبية المعبر عن وجودها ووجود بقية الاعراض بالوجود الرابطي، ومداليل

(1) هذا صدر بيت عجزه:
. وكذاك عمر كواكب الأسحار
وهو من قصيدة للشاعر أبي الحسن التهامي يرثي بها ابنه مطلعها:
حكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار
وقد عرف الشاعر بهذه القصيدة، وله ديوان شعر.
ذكره ابن بسام في الذخيرة، وضياء الدين في نسمة السحر في ذكر من
تشيع وشعر، وأبلغ في الثناء عليه. عن كتاب تأسيس الشيعة
لعلوم الاسلام: 215 - 216.
(2) راجع " التحقيق في المجاز " صفحة: 104 - 107.
78

الهيئات هي الوجود الرابط، ففي مثل (زيد في الدار) تدل لفظة (في)
على مقولة الأين، والهيئة على ربطها بالموضوع، ضرورة دلالته
على مقولة الأين ولا دال عليها إلا هي.
وما قيل - من لزوم التكرار في الدلالة على الانتساب، لدلالة الحروف
الدالة على المقولة عليه، ولو دلت الهيئة عليه لزم التكرار -
مدفوع: بأنه من قبيل الاجمال والتفصيل، لدلالة الحرف على العرض
المنتسب لموضوع ما، والهيئة على ربطه بموضوع معين (1).
وفيه أولا: أنه بعد الاذعان بأن الاعراض النسبية من قبيل الوجود
الرابطي وتقع طرف الربط، لا مجال لجعلها مدلولا عليها بالحروف،
للزوم كون معاني الحروف مستقلات بالمفهومية وصيرورتها محكوما
بها، فإن الوجود الرابطي هو المحمولي، ومعاني الحروف غير
مستقلة بالمفهومية ولا يمكن جعلها طرف الربط.
وثانيا: أن في قولنا: (زيد له البياض)، و (الجسم له طول وعرض)، مما
يكون طرف الإضافة غير الاعراض النسبية، ليس المدلول عليه
بالحرف إلا نفس الربط، فهل اللام في أمثال ما ذكر تدل على عرض
نسبي، أو استعملت في غير ما وضعت له؟ والحل: أنها تفيد الإضافة
بينهما، والهيئة تدل على الوجود الرابط، وكذا حال سائر الحروف
الحاكية، فإنها بإزاء الإضافات والروابط، وسيأتي الكلام

(1) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 49 - 52.
79

في الهيئات (1).
وثالثا: أن الحروف الايجادية بالمعنى الذي ذكرناه، كحروف النداء و
القسم والردع، لا يكون لها واقع مقرر محكي بها، ضرورة أن
حروف النداء لا تحكي عن ندأ خارجي أو ذهني، ولا تستعمل في
مفهومه، بل يوجد بها النداء، فلا يعقل حكايتها عن عرض نسبي، و
كذا
حروف القسم فإنها آلة إيجاده، ولا يكون القسم من الاعراض النسبية (2)
بالضرورة. والعجب أنه - قدس سره - قال: إن الحروف كلها
حاكيات عن الاعراض النسبية، ولا يهمنا تشخيص كونها من أي
الاعراض، مع أن دعوى هذه الكلية بمكان من الفساد.
تكميل: في أن الوضع في الحروف عام والموضوع له خاص:
التحقيق في وضع الحروف عموم الوضع وخصوص الموضوع له، و
هذه الدعوى وإن كانت بينة بعد التأمل في معاني الحروف بما تقدم،
بعد عدم تعقل حصول الربط بالمفاهيم الكلية، وعدم تعقل جامع
ماهوي بينها كما تقدم (3)، لكن اللازم إبطال الدعاوي الاخر، حتى تدفع
المغالطات الواقعة في المقام:

(1) وذلك في الصفحة: 86 - 94 من هذا الجزء
(2) مقالات الأصول 1: 24 / سطر 9.
(3) في الصفحة: 69 من هذا الجزء
80

منها: عموم الوضع والموضوع له والمستعمل فيه، كما ذهب إليه
المحقق الخراساني رحمه الله قائلا: إن الخصوصية المتوهمة لا يمكن
أن
تكون قيدا للموضوع له ولا المستعمل فيه، سوأ كانت خارجية أو
ذهنية (1).
وفيه ما لا يخفى: بعد وضوح اختلاف معاني الأسماء والحروف ذاتا
وتعقلا ودلالة، وسيأتي (2) بيان أن الموضوع له هو الخاص حتى
في مورد نقضه من نحو قوله: (سر من البصرة إلى الكوفة) مما يتوهم
استعمالها كليا.
ومنها: ما في تقريرات بعض أعاظم العصر رحمه الله من عموم الوضع
والموضوع له، لا بالمعنى الذي في الأسماء، بل بمعنى أن الموجد
في الحروف في جميع مواطن الاستعمالات شي واحد بالهوية، وأن
الخصوصيات اللاحقة لها خارجة عن الموضوع له ولازمة لوجوده،
كالاعراض المحتاجة في الوجود إلى المحل مع أنه خارج عن هوية
ذاتها، من غير أن يكون الموضوع له معنى كليا قابلا للصدق على
الكثيرين كالكلية في الأسماء، فالاحتياج إلى الخصوصيات في موطن
الاستعمال لا يوجب الجزئية، كما أن كونها إيجادية وموضوعة
لإيجاد الربط لا يوجبها، بعد البناء على وجود الكلي الطبيعي، وأن
التشخص والوجود يعرضان له دفعة (3).
وفيه أولا: أن الهوية الواحدة التي ذكرها إن كانت شيئا في قبال الوجود

(1) الكفاية 1: 13 - 14.
(2) في الصفحة: 84 - 86 من هذا الجزء.
(3) فوائد الأصول 1: 57 - 58.
81

- كما قابلها به في قوله: إن وجود المعنى الحرفي خارجا يتقوم بالغير،
لا هويته وحقيقته - وفي قبال الماهية القابلة للصدق على
الكثيرين، ومع ذلك تكون أمرا واحدا موجدا للربط، فهو كما ترى لا
يستأهل جوابا.
وإن كانت وجودا سعيا مشتركا بين الروابط، أو ماهية كذلك لكن بنعت
الوحدة الخارجية، فهو فاسد، لعدم الجامع الخارجي بنعت
الوحدة بين الوجودات، لا من سنخ الوجود، ولا من سنخ الماهية: أما
سنخ الوجود فواضح، للزوم وحدة الروابط وجودا في جميع القضايا،
وأما الماهية فلما حقق في محله وأشرنا إليه سابقا (1) من أن الماهية في
الخارج موجودة بنعت الكثرة، ولا جامع اشتراك خارجي بنعت
الوحدة بين الافراد، فإن الوحدة تساوق الوجود، فلزم موجوديتها
بوجود واحد.
وأما تنظيره بالاعراض فمناقض لقوله، لان للاعراض ماهية مستقلة
مقولة على الكثيرين محمولة عليها.
وثانيا: أن ابتناء وجود معاني الحروف على القول بوجود الكلي
الطبيعي يناقض قوله: إن الكلية في معانيها ليست كالأسماء، لان نسبة
المعاني الحرفية إلى وجوداتها إن كانت كالطبيعي إلى أفراده فتكون
قابلة للصدق على الكثيرين، وإلا فلا معنى لابتناء وجودها على
وجود الطبيعي.
هذا، مضافا إلى ما عرفت من الاشكال في مبناه في باب معاني
الحروف.

(1) وذلك في الصفحة: 61 من هذا الجزء.
82

ومنها: ما اختاره بعض المحققين من عموم الموضوع له، لكن لا
بالمعنى المشهور (1) بل بالذي اختاره (2). وقد عرفت بطلان مبناه (3)، أي
وجود الجامع بين الموجودات الخارجية، مضافا إلى ما عرفت من
بطلان مختاره في باب معاني الحروف (4).
ومنها: ما نسب إلى بعض الفحول (5) من كون معانيها جزئيا إضافيا، و
ألجأه إليه توهم استعمالها كليا في مثل: (سر من البصرة إلى
الكوفة) و (كل عالم في الدار)، كما التجأ بعضهم إلى اختيار كونها
موضوعة للأخص من المعنى الملحوظ حال الوضع، وقال: إن القول
بوضعها للجزئي

(1) الكفاية 1: 13 - 15، درر الفوائد 1: 8 - 9.
(2) مقالات الأصول 1: 23 / سطر 10 - 12، نهاية الأفكار 1: 53 - 54.
(3) في الصفحة: 60 - 61 من هذا الجزء.
(4) وذلك في الصفحة: 78 - 79 من هذا الجزء.
(5) هداية المسترشدين: 30 - سطر 18 - 23. بعض الفحول: هو
الشيخ محمد تقي بن محمد رحيم الأصفهاني، من قرية (إيوان كيف)
بالقرب من طهران. وبعد إكماله للمقدمات هاجر إلى العراق، فحضر
عند السيد الأعرجي في الكاظمية، وعند الوحيد البهبهاني في
كربلا، وفي النجف حضر عند بحر العلوم والشيخ جعفر الكبير
ملازما للأخير مصاهرا إياه، وكان شيخنا المترجم له متقنا للعلوم
العقلية والنقلية معروفا بالنبوغ. عاد إلى أصفهان أستاذا عظيما، فحضر
درسه أربع مائة عالم وفاضل منهم أخوه الشيخ محمد حسين
صاحب الفصول، له مصنفات عديدة أشهرها حاشيته على المعالم
المعروفة ب (هداية المسترشدين). توفي سنة (1248 ه) في أصفهان.
انظر هدية الأحباب: 204، روضات الجنات 2: 123، الكرام البررة 1:
217.
83

الحقيقي خارجا أو ذهنا من قبيل إلزام ما لا يلزم (1)، وبعض آخر إلى أن
الكلية والجزئية فيها تبع لكلية الطرفين وجزئيتهما (2).
وهذه الآراء مستلزمة لتصور الكلية القابلة للصدق على الكثيرين في
معانيها، مع أنها مخالفة لحرفية المعاني وعدم استقلالها في
المفهومية والمعقولية والوجود، مضافا إلى أن كل ذلك من باب
الالجاء والاضطرار.
والتحقيق: أن الوضع فيها - مطلقا - عام والموضوع له خاص: أما
الحروف التي وضعت لإيجاد معانيها - كحروف النداء، والقسم، و
التنبيه، والردع، والتحضيض - فلا ينبغي توهم عموم الموضوع له
فيها، ضرورة عدم معنى لوضعها للكلي واستعمالها فيه، فإن مثلها
آلات لإيجاد المعاني، والوجود الايقاعي متشخص جزئي، فلفظة (يا)
توجد النداء بالحمل الشائع، كان المنادى واحدا أو كثيرا، ففي
قوله: (يا أيها الناس) ندأ واحد شخصي نادى به جميع الناس، وكذا
الحال في سائرها، فحروف القسم وضعت لايقاع القسم بالحمل
الشائع، كان المقسم به واحدا أو كثيرا.
وأما سائر الحروف مما يتوهم استعمالها في المعني الكلي، فلانه بعد
عدم تصور جامع ذهني أو خارجي بينها - إلا بعض العناوين
الاسمية التي لا تكون جامعا ذاتيا لها، ولا يمكن إيقاع الربط بها،
كمفهوم الابتداء اللئالي والربط والنسبة وأمثالها، مما لا تكون من
سنخ المعاني الحرفية - لا يمكن الالتزام فيها

(1) نهاية الدراية 1: 19 / سطر 21 - 23.
(2) مقالات الأصول 1: 23 / سطر 16 - 18.
84

بعموم الموضوع له بأي نحو من الأنحاء المتقدمة.
والتحقيق أن يقال: إن تلك الحروف لما كانت تابعة للأسماء في
التحقق الخارجي والذهني وفي أصل الدلالة على معانيها، كانت
تابعة
لها في كيفية الدلالة أي الدلالة على الواحد والكثير، فتكون دالة على
واحد عند كون الأطراف كذلك، وعلى الكثير إذا كانت الأطراف
كذلك. ففي قولنا: (كل عالم في الدار) يكون العالم دالا على عنوان
المتلبس بالعلم، والكل على أفراده، ولفظة (في) على الروابط
الحاصلة بينها وبين الدار، فيكون من قبيل استعمال اللفظ في المعاني
الكثيرة، لا استعماله في كلي منطبق على الكثيرين لعدم تعقل ذلك
وإمكان ما ذكرنا بل وقوعه.
وهذا النحو من الاستعمال في الكثير كالوضع له والحكاية عنه مما لا
مانع منه، ولو كان المستعمل فيه غير متناه لان تكثير الدلالة و
الاستعمال تبعي، فلا محذور فيه ولو قلنا بعدم جواز استعمال اللفظ
في أكثر من معنى في الأسماء لعدم جريان البرهان المتوهم (1) في
الحروف لما عرفت (2) من أن استعمالها ودلالتها وتعقلها وتحققها
تبعية غير مستقلة.
ففي قوله: (كل عالم في الدار) يدل (كل عالم) على الكثرة التفصيلية، و
لفظة (في) تدل على انتساب كل فرد إلى الدار لا بالاستعمال في
طبيعة كلية، وكذا في مثل: (سر من البصرة إلى الكوفة) تدل (من) و
(إلى) على

(1) الكفاية 1: 54، أجود التقريرات 1: 51 نهاية الأفكار 1: 108.
(2) في الصفحة: 68 - 69 من هذا الجزء.
85

نسبتي الابتدائية والانتهائية - بين طبيعة السير المقتطع من الطرفين -
دلالة تصورية مع قطع النظر عن ورود هيئة الامر، من غير
تكثير في محكيهما، فإذا دلت الهيئة على البعث إلى السير المقتطع
بالبصرة والكوفة من غير بعث استقلالي إلى الابتداء والانتهاء، و
انطبق السير المحدود على المتكثر، صارت الحدود متكثرة بالتبع، و
لفظتا (من) و (إلى) حاكيتان عنهما حكاية الواحد عن الكثير، لا
عن الواحد المنطبق عليه ضرورة عدم تعقل واحد قابل للانطباق على
محكيهما ذهنا أو خارجا.
ولو أنكرت جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، أو أنكرت كون
المقام من قبيله، فلنا أن نقول في مثل (سر من البصرة) أو (كل
عالم في الدار): إنه مستعمل في ربط جزئي يحلله العرف إلى الروابط،
لا كلي قابل للصدق.
وأنت إذا تأملت فيما ذكرنا من أول البحث إلى هاهنا - من امتناع
تصور جامع ذاتي فيها، واختلاف معانيها مع الأسماء في جميع
الشؤون، وتبعيتها لها فيها - يسهل لك تصديق ما ذكرنا مع مساعدة
الوجدان والبرهان عليه.
في حال بعض الهيئات:
ليس للهيئات - أيضا - ميزان كلي وضابطة واحدة كما سيتضح لك،
فلا بد من البحث عن مهماتها وتميز حال بعضها عن بعض:
فمنها: هيئة القضية الخبرية الحملية التي لا يتخللها الحروف مثل
(الانسان
86

حيوان ناطق)، و (زيد إنسان)، و (عمرو قائم)، فالهيئة فيها وضعت
للدلالة على الهوهوية التصديقية، ومفادها أن المحمول موضوع من
غير دلالة على إضافة أو نسبة مطلقا، لا في الشائعات من الحمل، ولا
في الأوليات منه، ولا في البسائط، ولا المركبات:
أما في الأوليات والبسائط فواضح لان النسبة بين المحمول و
الموضوع فيهما غير معقولة بحسب نفس الامر فإن الحد عين
المحدود، و
إنما هو تفصيل نفس حقيقة المحدود، فلا يعقل إضافة واقعية بينهما
في اعتبار تقرر الماهية، وكذا في الهليات البسيطة لا يمكن تحقق
الإضافة بين موضوعها ومحمولها، وإلا يلزم زيادة الوجود على
الماهية في الخارج، وكذا في حمل الشئ على نفسه كقولنا: (زيد
زيد)
و (الانسان إنسان) وهو واضح، وكذا فيما إذا حمل الشئ على
مصداقه الذاتي كقولنا: (البياض أبيض) و (زيد إنسان)، أو كمصداقه
الذاتي مثل (الوجود موجود) و (الله تعالى موجود)، فإن في شي مما
ذكر لا يتعقل نسبة وإضافة بحسب نفس الامر والخارج.
وأما القضية اللفظية بما أنها حاكية عن الواقع وتامة الانطباق عليه، فلا
يمكن أن تشتمل على شي زائد عن الواقع أو ناقص عنه ومع
ذلك تكون منطبقة عليه، فإذا اشتملت على الدال على الإضافة و
النسبة بين الموضوع والمحمول، فلا بد وأن يكون محكيها كذلك،
مع أن
الواقع خلاف ذلك، ولا معنى لتحقق إضافة في الكلام من غير حكاية
عن الواقع، فالهيئة الحملية
87

في مثل تلك القضايا تحكي عن الهوهوية وعينية الموضوع
للمحمول، فلا يعقل أن تشتمل على النسبة لمنافاة الهوهوية مع النسبة
و
الإضافة، وأما المعنى المفهوم من القضية فلا يعقل أن يكون أمرا زائدا
عما اشتملت عليه القضية اللفظية فالقضية اللفظية موجبة لاحضار
مفادها في الذهن، وكذا المعقول من نفس الامر لا يمكن أن يكون
زائدا على ما فيه، فلا تكون للنسبة واقعية في تلك القضايا، لا في
الخارج ونفس الامر، ولا في القضية اللفظية، ولا المعقول من الواقع،
ولا المفهوم من القضية.
وأما حديث تقوم القضية بالنسبة وأن الخبر ما كان لنسبته واقع تطابقه
(أو لا تطابقه) فمن المشهورات (1) التي لا أصل لها، وسنشير (2)
إلى ميزان قبول القضية لاحتمال الصدق والكذب.
وأما الشائعات من الحمل التي لا يحمل فيها المحمول على مصداقه
الذاتي مثل (زيد أبيض) و (عمرو عالم) فتدل الهيئة فيها - أيضا - على
الهوهوية، فحينئذ إن قلنا بأن الذات مأخوذة في المشتق فتكون حالها
كالحمل الشائع بالذات لعدم تعقل النسبة بين الذات والشي وبين
الموضوع خارجا، وإن قلنا ببساطة المشتق وأن الفرق بينه وبين
المبدأ باللابشرطية والبشرط لائية، فبلحاظ أن اللابشرط لا يأبى عن
الاتحاد مع غيره يكون الموضوع متحدا مع

(1) المطول: 37 / سطر 8 - 15، شرح مختصر المعاني: 31 / سطر 1 - 11، شروح
التلخيص 1: 163 - 166، نهاية الأفكار 1: 56 - 57.
(2) وذلك في الصفحة: 91 وما بعدها من هذا الجزء.
88

المحمول وتكون الهوهوية متحققة فيها والقضية حاكية عنها، وقضية
عرضية الحمل إنما هي بالنظر الدقيق البرهاني كموجودية
الماهية بالعرض.
فتحصل مما ذكرنا: أن تلك القضايا الحملية بجميع أقسامها حاكية عن
الهوهوية، وهيئتها وضعت للدلالة عليها بحكم التبادر.
ومنها: هيئة القضية الخبرية التي تتخللها الأداة مثل (زيد في الدار) و
(عمرو على السطح) و (الجسم له البياض)، وهذه القضايا ليست
حملية لكن تؤول إليها، فأن قوله: (زيد في الدار) يؤول إلى زيد حاصل
أو كائن أو مستقر فيها ولهذا يقال عنها: الحملية، فهذه القضايا
تحكي عن النسبة بين الجواهر والاعراض والموضوع والمحمول،
فقوله: (زيد له البياض) تحكي اللام عن نحو إضافة بين البياض و
زيد، والهيئة تدل على تحقق هذه الإضافة دلالة تصديقية، ولهذا ترى
أن في القضية السالبة المحصلة مثل (زيد ليس له البياض) تدل اللام
على الإضافة، وحرف السلب على سلب تحققها، فورود حرف
السلب عليها يدل على أنها لنفس الإضافة، لكن لا بمعنى كونها ماهية
كلية،
بل بمعنى نفس الإضافة الجزئية بين الشيئين، فحرف السلب يرد على
الكون الرابط، فإذا سلبه صارت الإضافة مسلوبة بالتبع، فأداة
الإضافة والنسبة تدل على معانيها في القضايا السالبة والموجبة على
السواء، لكن القضايا الموجبة تدل على تحققها دلالة تصديقية، و
السالبة على سلبه كذلك، وفي كلتيهما تكون الدلالة التصديقية لهيئة
الجمل الخبرية.
ومما ذكرنا يتضح حال السوالب فإن في حمليتها يدل حرف السلب
89

على سلب الهوهوية، فيرد على الحمل، (فيكون مفاد السوالب سلب
الحمل، لا حمل السلب أو حمل هو السلب كما يتوهم، فقولنا: (زيد
إنسان) حمل يدل على الهوهوية، و (زيد ليس بحجر) سلب حمل
يدل على نفي الهوهوية، وأما السوالب الحملية بالتأويل - كقولنا: (زيد
ليس في الدار) و (عمرو ليس له البياض) - فحرف السلب يرد على
الكون الرابط، فيسلب به الكينونة في الدار، وأما الجمل الفعلية
فسيأتي الكلام فيها في المشتق (1).
فاتضح مما ذكرنا: أن ما اشتهر بينهم - من أن الخبر ما كان لنسبته خارج
تطابقه (2) أو لا تطابقه - فاسد في الحمليات التي لا تتخللها
الأداة لعدم تعقل نسبة واقعية لجلها للزوم التوالي الفاسدة مع تحقق
النسبة من تخلل الإضافة بين الشئ ونفسه، وبين الماهية والوجود،
وبين الشئ ومصداقه الذاتي، ولزوم كون الوجود زائدا على الماهية
في الخارج، وكون الامكان والشيئية من الأمور العامة زائدين
على الموضوعات في الخارج، إلى غير ذلك مما برهن على امتناعه
في محله (3).
وما يتصور فيه النسبة كالهليات المركبة فلان القضية لا تحكي عن
النسبة بل عن الهوهوية، ويكون الحمل في لحاظ الوحدة، لا العروض
واعتبار النسبة بين الموضوع والمحمول، وسيأتي في المشتق (4)

(1) وذلك في الصفحة: 205 - 207 من هذا الجزء.
(2) مضى تخريجه قريبا.
(3) الأسفار 1: 43 و 397، شرح المنظومة - قسم الفلسفة -: 40 و 56 - 57.
(4) وذلك في الصفحة: 228 - 229 - من هذا الجزء.
90

ما يوضح ذلك.
وكذا ما ذكر فاسد في السوالب المحصلة مطلقا لان حرف السلب فيها
آلة لسلب الهوهوية في الحمليات الصريحة، ولسلب الكون الرابط
في الحمليات المؤولة، فلا يكون للسوالب نسبة بين الموضوع و
المحمول بحسب الواقع.
فعلم أن ما اشتهر (من) أن القضية متقومة بالنسبة (1)، وأن التصديق هو
الاذعان بالنسبة (2)، وأن المحمول متأخر عن الموضوع، مما لا
أصل لها.
تنبيه: في الجمل التامة وغير التامة:
إن الجمل تارة تكون تامة، وتارة تكون غير تامة، والتامة تارة تكون
محتملة للصدق والكذب، وتارة لا تكون كذلك.
أما الجمل الغير التامة فهي التي تحكي عن مفادها حكاية تصورية، و
يكون حالها حال المفردات من هذه الجهة ففي قوله: (غلام زيد)
تدل الهيئة على نفس الربط بين الغلام وزيد لا تحققه، وهو معنى
تصوري لا يتصف بالصدق والكذب ولا يحتملهما.

(1) شرح الشمسية: 68 / سطر 14 - 15 و 19 - السطر الأخير، البصائر النصيرية: 52
سطر 11 - 12.
(2) حاشية ملا عبد الله: 21، شرح المنظومة - قسم المنطق -: 8 / السطران الأخيران.
91

وأما التامة الخبرية فهي حاكية عن نفس الامر حكاية تصديقية أي
حكاية تحقق شي أو لا تحققه، أو كون شي شيئا أو لا كونه، حكاية
تصديقية، فيتصف بالصدق والكذب، فقوله: (زيد له القيام) دال بهيئته
على أن القيام حاصل له بحسب الواقع، وقيام زيد دال على إضافة
القيام إليه من غير حكاية عن تحققها، فهو معنى تصوري للانتساب بين
الطرفين، والأول معنى تصديقي إخباري عن حصوله بينهما.
ثم إن الجمل الغير التامة على ضربين:
أحدهما: ما تدل على الانتساب والإضافة التصورية، كجملة المضاف
والمضاف إليه.
وثانيهما: ما تدل على الهوهوية التصورية كجملة الصفة والموصوف،
فنحو (زيد الموجود) يدل على الاتحاد بينهما دلالة تصورية غير
محتملة للصدق والكذب، ولا يحكي عن الإضافة لعدم الإضافة
بينهما ولهذا ترى أن ما جعل صفة يمكن أن يحمل على الموصوف
من غير
تخلل حروف دالة على الإضافة، فيقال في (زيد العالم): (زيد عالم)، و
في (زيد الانسان):
(زيد إنسان)، بخلاف جملة المضاف والمضاف إليه حيث لا بد من
تخلل الأداة بينهما، فيقال في (غلام زيد): (زيد له الغلام) لا (زيد
غلام)، وفي (قيام زيد): (زيد له القيام). وهكذا، حتى في مثل (خاتم
فضة) تكون الإضافة بتقدير (من).
فاتضح مما ذكرنا ما في كلام بعض المحققين: من أن مدلول الهيئة ربط
92

العرض بموضوعه، وذلك هو المعبر عنه بالوجود الرابط (1) فإن فيه
وجوها من الخلط تظهر بعد التأمل فيما ذكرناه.
كما يظهر النظر فيما ذكر في وجه افتراق المركبات الناقصة عن التامة (2):
بأن الأولى تحكي عن النسبة الثابتة التي تعتبر قيدا مقوما
للموضوع أو المحمول، والثانية تحكي عن إيقاع النسبة، فإن المتكلم
وجدانا يرى الموضوع عاريا عن النسبة التي يريد إثباتها، وهو
بالحمل أو الانشاء يوقعها بين الموضوع والمحمول ولهذا يكون مفاد
التركيب الأول متأخرا عن الثاني تأخر الوقوع عن الايقاع. انتهى
ملخصا.
فإن المراد من النسبة الثابتة إن كان النسبة الواقعية - كما هو مقتضى
مقابلتها لايقاع النسبة - فلا ريب في أن المركبات الناقصة لا
تحكي عنها، فإن الحكاية عن الواقع تصديقية لا تصورية، وهي شأن
المركبات التامة الاخبارية.
مضافا إلى أن المركبات التامة الاخبارية لا تحكي عن إيقاع المتكلم
النسبة ذهنا أو لفظا كما ذكره، ولهذا لا ينتقل السامع إلا إلى
الثبوت الواقعي، والإيقاع مغفول عنه إلا باللحظ الثاني، وسيأتي حال
الانشائيات.
مع أن في الجمل الناقصة والتامة تكون النسبة بإيقاع المتكلم بوجه،
فإن إضافة (غلام) إلى (زيد) وتوصيف (زيد) بالعالم في الجمل
الناقصة إنما هو

(1) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 50 - 51.
(2) مقالات الأصول 1: 24 - 25، نهاية الأفكار 1: 54 - 56.
93

بفعل المتكلم، فلا تكون النسبة ثابتة في الكلام قبل إيقاعه.
هذا مضافا إلى أن تأخر الوقوع عن الايقاع إنما هو فيما إذا كان الأول
معلول الثاني لا مطلقا، وليست النسبة في الجمل الناقصة معلولة
لايقاع النسبة في التامة، فلا وجه للتأخر مع فقدان مناطه.
على أن إيقاع النسبة في القضية اللفظية متوقف على تصور الموضوع
استقلالا، مع أن القضية اللفظية مرآة الواقع، والعناوين المأخوذة
فيها لا تكون ملحوظة بالاستقلال حتى يرى خلوها منها ويمكن إيقاع
النسبة بينها، وما ذكرنا من إيقاعها بوجه إنما هو بنحو
الاستجرار تبعا للاخبار عن الواقع على ما هو عليه.
اللهم إلا أن يكون مراده ذلك، لكنه خلاف ظاهر كلامه أو نصه حيث
قال: إن المتكلم يرى الموضوع عاريا عن النسبة فيوقعها.
الكلام في الانشاء والاخبار:
أما الجمل الانشائية في باب العقود والايقاعات فهيئتها تكون آلة
لإيجاد شي من الاعتباريات التي يحتاج إليها البشر، ف (بعت)
الانشائي بهيئته آلة إيجاد مادتها أي حقيقة البيع التي تكون من الحقائق
الاسمية ذات الإضافة إلى الثمن والمثمن والبائع والمشتري، و
التاء تدل على كون الصدور منتسبا إلى المتكلم - أو الانتساب
الصدوري إليه - فيكون معنى الهيئة نفس الايجاد الذي هو صرف
التعلق
بالفاعل ومحض الإضافة بينه وبين الفعل بإزاء
94

التكويني، وهيئة (بعت) الخبري تحكي عن نفس هذا الايجاد، كهيئة
(ضربت) و (قتلت) الحاكية عن الايجاد التكويني، فهيئة (بعت)
الانشائي موجدة للبيع، وهيئة الاخباري تحكي عن هذا الايجاد، و
كلتاهما معنى حرفي غير مستقل بالمفهومية ولا بالموجودية، وكذا
حال جميع الهيئات في أبواب العقود والايقاعات.
في أنحاء الانشاء:
ثم إن الهيئات الانشائية مختلفة كاختلاف الهيئات في الجمل
الاخبارية كما تقدم، فقد ينشئ المتكلم الهوهوية كقوله: (أنت حر) و
(أنت
طالق) و (أنا ضامن) في مقام الانشاء، فإن الاعتبار في أمثالها هو إنشاء
الهوهوية وجعل الموضوع مصداق المحمول في وعاء الاعتبار،
فيصير بهذا الجعل مصداقا للمحمول لدى العقلا، فتترتب الآثار
عليها.
وقد ينشئ الإضافة والكون الرابط، كقوله: (من رد ضالتي فله هذا
الدينار) مشيرا إلى معين، فينشئ كون الدينار له، وقد ينشئ كون
شي على عهدته لشخص، كمن قال: (من رد ضالتي فله علي دينار)،
ومنه قوله:
(لله علي كذا)، فيجعل على عهدته شيئا لله تعالى فيكون هو تعالى
مطالبا له.
وقد ينشئ ماهية اعتبارية ذات إضافة كنوع العقود، فقوله: (بعتك) و
(آجرتك) ونحوهما الاعتبار فيه هو إيجاد نفس الطبيعة
الاعتبارية مضافة
95

إلى مضايفاتها، فالمؤجر يوجد ب آلية الهيئة إجارة البيت في مقابل
شي من شخص، إلى غير ذلك من الاعتبارات.
والمقصود من أنحاء الانشاءات وإن كان تحقق ما يحتاج إليه من الأمر الاعتباري
مما يترتب عليه أثر عند العقلا، لكن إنشاء الهوهوية
يغاير إنشاء الإضافة، وهما يغايران إنشاء الماهية ذات الإضافة.
هذا كله في الجمل الانشائية المستعملة في أبواب المعاملات، وأما
هيئة الأمر والنهي وسائر المشتقات فسيأتي - إن شاء الله - كل في
محله (1).
الكلام في ألفاظ الإشارات وأخواتها:
أما ألفاظ الإشارة وضمائر الغيبة: فالظاهر أنها موضوعة لإيجاد
الإشارة، إلا أن الأولى وضعت لإيجاد الإشارة إلى الحاضر وما هو
بمنزلته، والثانية إلى الغائب وما هو بمنزلته، ف (هذا) وأشباهه
كإصبع الأخرس، فكما أنه آلة لإيجاد الإشارة إلى مطلوبه فهي كذلك
وضعا، من غير فرق بينهما من هذه الجهة، ولا يكون المشار إليه بها
داخلا في معناها، بل معناها نفس الإشارة وإحضار المشار إليه في
ذهن السامع ليس إلا، كإحضار إشارة الأخرس المشار إليه في ذهنه من
غير أن تكون موضوعة له.
وكذا الكلام في ضمائر الغيبة، فإنها موضوعة للإشارة إلى الغائب، و
لهذا يشترط فيها أن يكون مرجعها مذكورا أو معهودا لتصح
الإشارة إليه، ومرجع

(1) وذلك في صفحة: 243 وما بعدها من هذا الجزء.
96

الضمير هو المشار إليه، ونسبته إليه كنسبة المشار إليه إلى اسم
الإشارة.
وبالجملة: أن هذه الألفاظ وضعت لنفس الإشارة، ولازمها إحضار
المشار إليه في ذهن السامع ولهذا قلنا: لم تقع تلك الألفاظ بما لها من
المعنى محكوما بها ولا عليها كسائر المعاني الحرفية، بل المحكوم به
وعليه هو المشار إليه بها، فقوله: (هذا زيد) و (هو قائم) ليس
المحكوم عليه والمخبر عنه معنى لفظة (هذا) و (هو) بل المشار إليه
بهما، كما أن الواقع كذلك، ففرق بين قولنا:
(زيد قائم) وبين (هذا - أو هو - قائم) فإن زيدا يحكي عن المحكوم
عليه حكاية اللفظ عن معناه الموضوع له، بخلافهما فإنهما يحضران
المحكوم عليه في ذهن السامع إحضار الإشارة بالإصبع إياه في ذهنه،
من غير أن تكون موضوعة له، ومن دون أن تكون حكاية اللفظ
عن معناه، ولهذا أدرجناها في الحروف لان الميزان في حرفية الألفاظ
كون معانيها غير مستقلة بالمفهومية والموجودية، وهي كذلك،
فإن نفس الإشارة بالحمل الشائع مما يتحصل ويتقوم بالمشير و
المشار إليه، ولا يمكن تعقلها بذاتها ولا إحضارها في ذهن السامع و
لا وجودها في الخارج كذلك.
وما ذكرنا - من كون ألفاظ الإشارات وضمائر الغيبة من سنخ واحد، و
الفرق بينهما بالحضور والغيبة - انما هو بحكم التبادر، فإنك
إذا راجعت وجدانك في لفظة (هذا) و (هو)، ومرادفهما في لسان
الفرس أي (أين) و (أو)، ترى أن ما ذكرنا موافق لوجدانك، ولا
يتبادر منهما إلا ما ذكرنا، وهو أصدق شاهد في هذه الأبواب.
97

وأما الموصولات: فيحتمل أن تكون موضوعة لإيجاد الإشارة إلى
مبهم متوقع رفع إبهامه بحيث يكون عملها أمرين: أحدهما أصل
الإشارة، وثانيهما إفهام المشار إليه المتوقع للتوصيف لا بما أنه مشار
إليه. ويمكن أن تكون موضوعة لنفس الإشارة إلى المبهم
الكذائي حتى تكون كأسماء الإشارة، وتفترق عنها بالمشار إليه، كما
تفترق أسماء الإشارة عن ضمائر الغيبة به. ولا يبعد أن يكون
الأول متبادرا وإن كان تصوره لا يخلو من صعوبة، لكنه غير ممتنع.
وأما ضمائر المخاطب والمتكلم: فالظاهر أن سنخها يغاير ألفاظ
الإشارة وضمائر الغيبة، فإن ضمير (أنا) و (أنت) وكذا المتصل منه
ليس للإشارة جزما، بل ضمير المتكلم موضوع لنفس المتكلم بهويته
الجزئية، وضمير المخاطب للمخاطب الجزئي كذلك، كما هو
المتبادر منهما، هذا حال معاني ما تقدم.
وأما الوضع فيها: فيكون عاما والموضوع له خاصا، وأما فيما يكون
معانيها من سنخ الحروف فلما ذكرنا فيها (1) من عدم تصور جامع
حرفي بينها لا ذهنا ولا خارجا، والعنوان الاسمي الحاكي عنها بنحو
من الحكاية متصور، لكن لا يمكن أن يعمل عمل الحروف في
الحكاية عن الروابط والإضافات والايجادات، فالحروف كالهيئات
في القضايا مطلقا لا يعقل فيها عموم الموضوع له، فيتطابق فيها
البرهان والوجدان.

(1) في صفحة: 68 - 69.
98

وكذا الحال في الإشارات وضمائر الغيبة والموصولات، سوأ قلنا
في الأخيرة بتضمنها معنى الحرف أو بكونها كأسماء الإشارة.
وأما ضمير المتكلم والمخاطب: - مما لم تكن معانيها حرفية - (فهما)
وإن يمكن فيهما عمومه، لكن التبادر على خلافه ضرورة فهم
نفس المخاطب والمتكلم بهويتهما الشخصية من حاق اللفظ، ولا
يكون (أنت) مرادفا لمفهوم المخاطب المذكر، ولا (أنا) لمفهوم
المتكلم. وهكذا، وهو واضح لمن راجع وجدانه.
في أن معاني الحروف ليست مغفولا عنها:
بقي شي: وهو أن ما اشتهر بينهم - من أن الحروف آلات لملاحظة
حال الغير، وأن معانيها مغفول عنها ولذا لا يخبر عنها وبها (1) -
ليس على ما ينبغي، أما دعوى كونها آلة ومغفولا عنها فواضحة الفساد
بعد أدنى تأمل في التراكيب الكلامية ضرورة أن عمدة مقاصد
المتخاطبين تفهيم المعاني الحرفية وتفهمها، وقلما يتعلق الغرض
بغير ذلك، فإن القضايا على أنواعها إما تفيد الهوهوية، أو الكون
الرابط، أو الإضافات والانتسابات بين المعاني الاسمية، فيكون غرض
المتكلم والمخاطب متعلقا بها، لا بالموضوع والمحمول،

(1) قوانين الأصول 1: 10 / سطر 3 - 4، هداية المسترشدين: 34 / 13 - 15،
الفصول الغروية: 12 / سطر 34 - 37، بدائع الأفكار: 36 / سطر 24 - 25، فوائد
الأصول 1: 45.
99

ففي قوله: (زيد موجود) ليس الغرض إفهام زيد ولا مفهوم الموجود،
بل إفهام كون زيد موجودا أي الهوهوية المفهمة بالهيئة، وفي
قوله: (زيد في الدار) و (عمرو على السطح) يكون الغرض إفهام الكون
الرابط.
وبالجملة: بعد كون المعاني الحرفية هي المهم في التفهيم والتفهم لا
معنى لكونها مغفولا عنها وآلة للحاظ غيرها، بل هي منظور فيها و
ألفاظها آلات للحاظ معانيها كالأسماء، لكن لما كانت معانيها على نحو
لا يمكن أن تتعقل إلا بتبع الغير يكون إفهامها تبعيا لا استقلاليا،
وفرق واضح بين تبعية شي لشئ في التعقل والتحقق وكونه مغفولا
عنه وآلة للحاظ الغير.
وبالتأمل فيما ذكرنا يتضح ما في دعوى عدم الاخبار عنها وبها، فإن
المراد به إن كان عدم الاخبار عنها وبها على وزان المعاني
الاسمية بحيث تقع مبتدأ مستقلا وخبرا كذلك، فلا شبهة فيه، لكن
الاخبار عن الشئ أعم من ذلك، وإن كان المراد به عدم الاخبار بقول
مطلق، كما يقال: المعدوم المطلق لا يخبر عنه، فهو واضح الفساد
ضرورة عدم المانع العقلي عنه وشهادة الوجدان بالخبر عنها وبها في
التراكيب الكلامية، لكن تبعا للمعاني الاسمية، فقوله: (ضربت زيدا في
الدار يوم الجمعة) و (ولد لعمرو مولود ساعة (كذا) يكون الغرض
(منهما) إفهام حدوث الضرب منه في محل كذا ويوم كذا وحدوث
ولادة ابن عمرو ساعة كذا، ويفهم من مثلهما هذا الغرض، ولا يكون
إلا لكون الحدوث بالمعنى الحرفي يمكن أن يخبر عنه وبه، فيصح
تقييد المعاني الحرفية وتعليقها واشتراطها، فإنكار الواجب
المشروط ومفهوم
100

الشرط وإرجاع القيود الكلامية - الظاهرة في الرجوع إلى الهيئة - إلى
المادة بدعوى عدم الامكان (1) مما لا ينبغي أن يصغى إليه.

(1) مطارح الأنظار: 45 - 46.
101

الأمر الخامس في المجاز
قد اشتهر بينهم: أن المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له
بعلاقة معتبرة مع قرينة معاندة (1). وخالفهم السكاكي (2) في
الاستعارة على ما

(1) مفتاح العلوم: 155، الطراز 1: 64، المطول: 353 / سطر 5 - 15، شروح التلخيص
4: 22 - 26، مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 77 و 80، قوانين الأصول 1: 13 /
سطر 5 - 6، الفصول الغروية: 14 / سطر 12.
(2) مفتاح العلوم: 156. السكاكي: هو يوسف بن أبي بكر بن محمد
الخوارزمي، المكنى بأبي يعقوب، والملقب بسراج الدين السكاكي.
كان خبيرا بالعلوم العربية عالما بارعا ب آدابها كتب اثني عشر متنا في
أهم العلوم وأودعها كتابه الشهير (مفتاح العلوم)، لخص منها
الخطيب القزويني علوم المعاني والبيان والبديع بكتابه المعروف ب
(التلخيص)، وشرح الأخير التفتازاني بشر حين:
(المطول) و (المختصر). توفي سنة (626 ه).
انظر روضات الجنات 8: 220، الكنى والألقاب 2: 284، شذرات
الذهب 5: 122.
102

هو المشهور من مذهبه من كون المجاز عقليا فيها مبنيا على ادعاء
فردية المشبه للماهية المشبه بها.
وفيه أولا: أن الادعاء لا يخرج الكلام عن المجاز اللغوي لان اللفظ
استعمل في غير ما وضع له على الفرض. هذا مضافا إلى أن استعمال
اللفظ الموضوع للطبيعة في مصاديقها الواقعية - أيضا - مجاز، فضلا
عن المصداق الادعائي، وأما مثل (زيد إنسان) فلم يستعمل الانسان
إلا في نفس الطبيعة، والحمل يفيد اتحادها معه خارجا ولم يستعمل
في الفرد.
وثانيا: أن ما ذكره لا يجري في الاعلام الشخصية مثل قوله: (رأيت
حاتما) إلا بتأويل بارد مقطوع الفساد.
فما ذكره وإن كان أقرب إلى الذوق السليم مما هو المشهور (1) لما قال
في وجهه (2) من صحة التعجب في قوله:
(شمس تظللني من الشمس)
(3) والنهي عنه في قوله: (لا تعجبوا من بلى (4)

(1) تقدم تخريجه آنفا.
(2) مفتاح العلوم: 157.
(3) وهو عجز ثاني بيتين ذكرهما في المفتاح، وهما:
قامت تظللني من الشمس نفس أعز علي من نفسي
قامت تظللني ومن عجب
(4) بلي الثوب بلى وبلا: أي خلق. مفردات الراغب: 79. والغلالة:
شعار يلبس تحت
الثوب، أو تحت درع الحديد. اللسان 11: 502.
103

غلالته (1) أضف إليه قوله تعالى: ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (2)
حيث نفى البشرية وأثبت الملكية، وهو لا يستقيم إلا مع ادعاء كونه
ملكا، لا إعارة لفظ (الملك) له.
وما قيل في رد السكاكي: (من) أن التعجب والنهي عنه فللبناء على
تناسي التشبيه قضاء لحق المبالغة (3).
فيه: أن تناسي التشبيه وقضاء حق المبالغة يقتضيان ما ذكره من
الادعاء، ومع عدمه لا التشبيه صار منسيا، ولا حق المبالغة مقضيا.
وأنت إذا كنت ذا طبع سليم، وتصفحت كلام خطباء العرب والفرس و
شعرائهم، لا تشك في عدم صحة ما ذهب إليه المشهور، لكن ما
ذهب إليه السكاكي - أيضا - غير تام.
التحقيق في المجاز:
والحق الحقيق بالتصديق هو ما اختاره بعض أجلة العصر رحمه الله في

(1) وهو صدر بيت، عجزه ما يلي:
. قد زر أزراره على القمر
(2) يوسف: 31.
(3) المطول: 362.
104

وقايته (1) وتبعه غيره (2): أن اللفظ في مطلق المجاز - مرسلا كان أو
استعارة أو مجازا في الحذف، مفردا كان أو مركبا - وكذا في
الكناية، مستعمل فيما وضع له لا غير، لكن يكون جده على خلاف
استعماله، وإنما يكون تطبيق المعنى الموضوع له على ما أراده جدا
بادعاء كونه مصداقه كما في الكليات وعينه كما في الاعلام
الشخصية.
فقوله: ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (3) استعمل (الملك) في
الماهية المعهودة من الروحانيين، وإنما حملها عليه بادعاء كونه من
مصاديقها، فالادعاء على مذهب السكاكي وقع قبل الاطلاق، فأطلق
اللفظ على المصداق الادعائي، دون هذا فإن الادعاء بناء عليه وقع بعد
الاستعمال وحين إجراء الطبيعة الموضوع لها اللفظ على المصداق
الادعائي، وفي قوله: (رأيت حاتما) أريد ب (حاتم) هو الشخص المعروف

(1) وقاية الأذهان: 103 - 112.
مؤلفها: هو أبو المجد الشيخ محمد رضا ابن الشيخ محمد حسين
الطهراني الأصفهاني - من ذرية المحقق الكبير الشيخ محمد تقي
الأصفهاني صاحب هداية المسترشدين - عالم كبير، وأديب بارع.
ولد في النجف سنة (1287 ه). حضر بحث المحقق الخراساني و
صاحب العروة وشيخ الشريعة والسيد الفشاركي. عرف بنبوغه و
تفوقه على أقرانه. له مصنفات بديعة منها وقاية الأذهان في علم
الأصول، ونقض فلسفة داروين في ثلاثة مجلدات، وله ديوان شعر.
انظر نقباء البشر 2: 747، الأعلام للزركلي 6: 127.
(2) نهاية الأصول 1: 24 - 25.
(3) يوسف: 31.
105

وادعي أن فلانا هو هو، فالادعاء لتصحيح إجراء المعنى على المعنى،
فحسن الكلام في باب المجازات إنما هو بتبادل المعاني والتلاعب
بها، لا بعارية الألفاظ وتبادلها، والشاهد على صحة هذا المذهب هو
الطبع السليم والذوق المستقيم.
ثم لا وجه لتخصيص ما ذكر بالاستعارة، بل هو جار في المجاز المرسل
أيضا، فلا يطلق العين على الربيئة (1) إلا بدعوى كونه نفس
العين لكمال مراقبته، لا بعلاقة الجزئية والكلية، ولا الميت على
المريض المشرف على الهلاك إلا بدعوى كونه ميتا، والمصحح
للدعوى
إشرافه عليه وانقطاع أسباب الصحة عنه، وفي قوله: واسأل القرية (2)
إلخ يدعى كون القضية بمثابة تجيب عنها القرية والعير، و
تقدير (الأهل) فيه يحط الكلام من ذروة البلاغة والحسن إلى حضيض
البرودة والسوقية.
وكذا الحال في المجاز المركب، فإذا قيل: (أراك تقدم رجلا وتؤخر
أخرى) للمتحير والمتردد لم تستعمل الألفاظ المفردة إلا في
معانيها الحقيقية، لكن ادعي كون المتردد والمتحير شخصا متمثلا
كذلك، وليس للمركب وضع على حدة - بحيث كانت أجزاؤه بمنزلة
حروف الهجاء في المفردات بالضرورة، ولعدم الاحتياج إليه ولغويته
- حتى يقال: إن اللفظ الموضوع لمعنى استعمل

(1) الربيئة من ربأ القوم يربؤهم رب ا، وربأ لهم: اطلع لهم على شرف،
والربيئة: الطليعة، وانما قيل له: عين لأنه يرعى أمورهم و
يحرسهم. اللسان 1: 82.
(2) يوسف: 82.
106

في غيره.
وهذا أقوى شاهد على ما قضى به الوجدان من أن حال المجازات ما
تقدم، وعليك بالتأمل والتدبر والفحص في لطائف محاورات
الخطباء والشعراء حتى تؤمن بما ذكر، فحينئذ يسقط البحث عن أن
المجاز هل يحتاج إلى رخصة الواضع أم لا؟ وأن العلاقات موضوعة
بالوضع الشخصي أو النوعي مما يعلم فساده لعدم استعمال اللفظ إلا
فيما وضع له، فتدبر جيدا.
في استعمال اللفظ في اللفظ:
لا شبهة في وقوع إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ومثله ونوعه وصنفه،
كما أنه لا شبهة في عدم كونه من قبيل استعماله فيما وضع له،
إنما الاشكال في كيفية إطلاقه فيها، وأنه في الجميع على منوال واحد
أولا؟ فلا بد من البحث عن كل واحد حتى يتضح الامر:
في إطلاق اللفظ وإرادة شخصه:
أما إطلاقه وإرادة شخصه: فالتحقيق صحته، لكن لا بمعنى كون اللفظ
دالا على نفسه ولا مستعملا في نفسه لامتناع اتحاد الدال و
المدلول، ولا يجدي التعدد الاعتباري المتأخر عن الاستعمال في صحته (1)
.

(1) الكفاية 1: 20.
107

مضافا (1) إلى أن كونه صادرا مغفول عنه حين الاستعمال، مع أنه لا بد
فيه من لحاظ اللفظ المستعمل ولو آليا، فيلزم كون المغفول عنه
غير مغفول عنه.
وأيضا يلزم الجمع بين اللحاظ اللئالي والاستقلالي في الشئ الواحد
ضرورة أن اللفظ في الاستعمال ملحوظ آليا والمعنى المراد
استقلاليا، فلا يمكن أن يكون هذا الاطلاق من قبيل استعمال اللفظ و
إرادة المعنى، ولا من قبيل إلقاء الموضوع في ذهن السامع ضرورة
أن الموضوع المتعلق للحكم فيما إذا أريد شخص اللفظ هو الذي صدر
من المتكلم، وهو الموجود الخارجي، ولا يمكن إلقاؤه في ذهن
السامع.
والتحقيق: أن المتكلم الذي بصدد الاخبار عن شخص اللفظ الصادر
منه يتلفظ به حتى يسمع المخاطب ويتصوره، فإذا حمل عليه ما
يكون من خواص هذا اللفظ أو أقام قرينة عليه، يرجع ذهن السامع من
الصورة المتصورة بالذات إلى اللفظ الصادر من المتكلم، فاللفظ
الصادر منه موجد في نفس السامع ما يصير في الان المتأخر حاكيا و
كاشفا عن لفظه، لا كحكاية اللفظ عن المعنى الموضوع له أو غير
الموضوع له ضرورة أن الصورة الذهنية لم تكن لفظا ولا موضوعا،
فاللفظ في هذا الاطلاق موجد لكاشفه في ذهن (السامع) ويصير
منكشفا في الان المتأخر، فلا يكون هذا الانكشاف من قيل الدلالة

(1) أشار المصنف - قدس سره - في الهامش بقوله: (بأيد تأمل شود)
إلى لزوم التأمل بالمطلب ابتدأ من قوله: (مضافا) وانتهاء بقوله:
(غير المغفول عنه).
108

الوضعية، ولا من قبيل إلقاء الموضوع في ذهن السامع، ولو قيل: ذلك
الايجاد - للكشف عن نفسه - دلالة حتى يكون اللفظ دالا بواسطة
إيجاد كاشفه، ومدلولا في الان المتأخر لانكشافه به فلا مانع منه ولا
مشاحة في الاصطلاح، كما أنه لو أطلق عليه الالقاء ببعض
الاعتبارات فلا مانع منه أيضا بعد وضوح الحقيقة.
إطلاق اللفظ وإرادة مثله:
وأما فيما إذا أريد مثله فإن أريد منه لفظ آخر في كلامه أو كلام غيره بأن
يقال: (زيد - في قولي هذا أو مكتوبي هذا: زيد قائم - مبتدأ)،
فلا يعقل فيه إلا استعمال لفظه في المماثل، فإن المفروض أن الحكم
له لا للفظ الصادر منه، فيكون اللفظ الصادر آلة للحاظ مماثله و
وسيلة لتصوره بالعرض بواسطة الصورة الذهنية الحاصلة بإيجاد
اللفظ، كدلالة اللفظ على معناه من هذه الجهة، وإن كان مفترقا عنها
باستعماله في غير ما وضع له، ولا يعقل فيه الالقاء لان الموضوع
الخارجي المحكوم بالحكم لا يمكن إحضاره في النفس بذاته، وما
يحضر هو صورته ب آلية اللفظ المستعمل، فالانتقال منه إليه ب آليته
كالانتقال في سائر الاستعمالات، وما أوجد المتكلم - أي اللفظ
الصادر عنه - لم يكن موضوع الحكم، كما في إطلاقه وإرادة شخصه،
فلا يكون هذا الاطلاق إلا استعمالا ودلالة.
نعم قد يريد إثبات حكم للصورة الحاصلة في ذهن المخاطب، مثل
قوله:
109

(زيد - الحاصل في ذهنك الان بقولي - معلومك بالذات)، ففي مثله
يكون تحقق الموضوع في ذهنه بالايجاد، فالاستعمال إيجادي لا
لمعنى اللفظ بل لصورته، وبهذا يفترق عن الاستعمالات الايجادية
التي مرت في باب الحروف، ولو سمي هذا إلقاء فلا مانع منه بعد
وضوح الامر.
إطلاق اللفظ وإرادة نوعه:
وأما إطلاق اللفظ وإرادة نوعه وصنفه فهو - أيضا - من قبيل
الاستعمال في المعنى الغير الموضوع له، فيكون اللفظ الصادر من
المتكلم
بواسطة القرينة أو المناسبة بين الحكم والموضوع حاكيا عن نوعه و
صنفه ودالا عليهما إذ ليس معنى الدلالة والحكاية إلا كون الشئ
بحيث يفهم منه المعنى، فاللفظ آلة للتوسل إلى إفهام نفس الطبيعة أو
صنف منها بتوسط إيجاد الصورة في الذهن، فإذا قال: (ضرب فعل
ماض) ينتقل المخاطب من لفظه المتصور بتبع صورته إلى طبيعي
اللفظ، وليس هذا إلا استعمال اللفظ في المعنى، لكن المعنى ليس
الموضوع له بل طبيعي اللفظ.
وما قد يقال: إنه من قبيل الالقاء لا الاستعمال، فإن السامع لما كان
حين سماعه لفظ (ضرب) يحصل في ذهنه صورة مع الغفلة عن
تشخصاتها الزمانية والمكانية والصدورية وغيرها، فتكون كلية، فإذا
بقيت الصورة على حالها تكون من قبيل إلقاء الكلي الطبيعي، و
إذا قيدها بدال آخر ويحكم على صنفه يكون من إلقاء الصنف، بل
يمكن أن يقال: إن المتكلم بعد إلقائه
110

الكلي في ذهن السامع بواسطة تذكار (1) بعض التشخصات يتشخص
الكلي بوجود مثله، فيكون حال إطلاق اللفظ وإرادة المثل حالهما أي
يكون من قبيل الالقاء لا الاستعمال (2).
مدفوع: بأن المراد من الكلي المذكور إن كان الصورة الحاصلة في ذهن
السامع بإيجاد المتكلم - أي المعلوم بالذات - فلا إشكال في أنه
جزئي حقيقي، والغفلة عن التشخصات لا توجب كلية ما هو
متشخص واقعا، وإن كان المراد أن المتكلم بواسطة هذه الصورة و
الغفلة
عن خصوصيتها يفهم بنحو نفس الطبيعة بالعرض، فهو حق، لكن لا
يكون ذلك من قبيل الالقاء، بل من قبيل الدلالة كسائر الدلالات،
فاللفظ الصادر من المتكلم يكون آلة لإيجاد الصورة في الذهن، و
وسيلة لانتقال المخاطب إلى ما هو المراد أي نفس الطبيعة.
لا يقال (3): يلزم من استعمال اللفظ في نوعه اتحاد الدال والمدلول لان
اللفظ المستعمل في نوعه إما أن يكون طبيعي اللفظ أو شخصه:
فعلى الأول لزوم اتحادهما واضح، وعلى الثاني يلزم ذلك فيما إذا كان
الحكم شاملا لموضوع القضية الملفوظة، مضافا إلى تباين
الشخص مع الطبيعي لأنه مركب منه ومن التشخص، والمركب من
المباين، مباين، فعلى فرض الامكان لا يصح

(1) التذكار يعني الذكر.
(2) نهاية الأصول 1: 28 - 29.
(3) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 89.
111

الاستعمال للمباينة.
فإنه يقال: اللفظ المستعمل لا يمكن أن يكون طبيعية في مقابل
الشخص بل هو شخصه، ولا يلزم اتحاد الدال والمدلول لان الدال هو
الشخص والمدلول هو نفس الطبيعي لا الاشخاص المنطبق عليها، فلا
تكثر في المدلول بوجه حتى يلزم ما ذكر. وأما قضية المباينة و
عدم صحة الاستعمال لأجلها ففيها غرابة ضرورة أن المصحح
للاستعمال هو المناسبة ولو بوجه، وهي حاصلة.
ثم إن هذا الاستعمال - أي استعمال اللفظ في نوعه ومثله - لم يكن
استعمالا حقيقيا، وهو واضح، ولا من قبيل المجاز المتعارف لما
عرفت (من) أن المجاز استعمال اللفظ فيما وضع له وتطبيق المعنى
على المصداق الادعائي، وفي هذا الاستعمال ليس كذلك، فهو
استعمال في غير ما وضع له من غير ادعاء ولا تأول، ولا اختلاف في
الإرادة الجدية والإستعمالية، بل المناسبة بين اللفظ ونوعه و
صنفه ومثله توجب إحضار المستعمل فيه في ذهن السامع، ولا يريد
المتكلم غير ذلك، من غير أن يكون بصدد حسن الكلام وبلاغته.
بل لو بنينا على أن المجاز استعمال في غير ما وضع له بمناسبة و
علاقة ولو ذوقية طبعية، لا يكون استعمال اللفظ في نوعه وصنفه و
مثله مجازا لان المناسبة هاهنا هي المشابهة الصورية بينها وبينه،
فتكون العلاقة هي المشابهة، مع أنها غير منظورة للمستعمل بداهة أن
القائل بأن (ضرب: فعل ماض) لا يخطر بباله تلك العلاقة.
112

الأمر السادس في أن الألفاظ موضوعة لذات المعاني
الحق أن الألفاظ موضوعة لذوات المعاني لا بما أنها مرادة، سوأ أريد
به تقيدها بها بالذات أو بالعرض - أي سوأ أريد أنها موضوعة
للمرادة بالذات أو بالعرض - تقيدا اسميا لان الإرادة لما كانت من
شؤون النفس لا يمكن أن تتعلق بالذات بما هو خارج عن إحاطتها،
فما تتعلق به بالذات هو الصورة القائمة بالنفس صدوريا (1) أو حلوليا
على المشربين، وأما الخارج فهو المراد بالعرض كما أنه المعلوم
بالعرض، وإن كان الخارج بوجه هو المطلوب والمراد، والصورة فانية
فيه وتكون ما بها ينظر.
فحينئذ إن وضعت للمراد بالذات يلزم منه عدم انطباقها على الخارج
حتى مع التجريد، مضافا إلى ورود ما يرد على الشق الثاني - أي
الوضع للمراد بالعرض - عليه. وإن وضعت للمراد بالعرض يلزم منه عدم صحة

(1) الأسفار 1: 287، شرح المنظومة - قسم الفلسفة - 28 / سطر 2 - 4 مع الحاشية.
113

الحمل إلا مع التجريد، مع صحته بدونه بالضرورة، مع لزوم كون
الوضع عاما والموضوع له خاصا في جميع الأوضاع، إلا أن يقال
بتقيدها بمفهوم الإرادة، وهو مقطوع الفساد، ولم يقل به أحد.
أو (1) أريد وضعها لذات المعنى المراد، لا بما أنها مرادة وملحوظة فيها
الإرادة، بل لذات ما تتعلق به من غير تقيد بها، بل للمتضيق
بواسطة تعلقها به، سوأ أريد - أيضا - ذات ما تعلق بها الإرادة بالذات
أو بالعرض: أما الأول فلورود بعض الاشكالات المتقدمة كعدم
صحة الحمل عليه، وأما الثاني (فهو) وإن سلم عن الاشكالات
المزبورة حتى لزوم خصوص الموضوع له - لان التخصص بالعرض لا
يوجب جزئية ما هو كلي - لكنه خلاف التبادر والوجدان، ورفع اليد
عنه يحتاج إلى دليل، وهو مفقود.
لا يقال: وضع اللفظ للمعنى بما أنه فعل اختياري لا بد له من غاية، و
هي إظهار مرادات المتكلمين، فلا محيص إلا أن يكون موضوعا
للمعنى المراد لان الغاية علة فاعلية الفاعل، ولما كانت الغاية إظهار
المرادات تحرك الواضع إلى وضعه للمعنى المراد لا مطلقا لان
المعلول يتضيق علته من غير تقيد، ولا يمكن أوسعية المعلول من
علته. هذا مضافا إلى لزوم اللغوية إذا وضع لذات المعنى بعد كون
الداعي إفادة المراد. (2)

(1) عطف على " سواء " المتقدم. [منه قدس سره].
(2) الفصول الغروية: 17 / سطر 34 - 35.
114

فإنه يقال: العلة الغائية للوضع إفادة المرادات، لكن لا بما أنها مرادات،
بل بما هي نفس الحقائق لان المتكلم بالألفاظ يريد إفادة نفس
المعاني لا بما أنها مرادة، والواضع وضع اللفظ لذلك، وأما كون
المعاني مرادة فهو مغفول عنه عند السامع والمتكلم، فدعوى كون
الغاية إفهام المرادات بما هي كذلك فاسدة، بل الغاية إفهام نفس
المعاني، وكونها مرادة إنما هو حين الاستعمال أو من مقدماته، ولا
ربط له بالوضع.
ومما ذكرنا يظهر النظر في الكلام المنسوب (1) إلى العلمين (2) لان لازم
كون الدلالة الوضعية تابعة للإرادة أن تكون الألفاظ موضوعة
للمعاني المرادة، ولما كان الوضع للمتقيد بها ظاهر البطلان لا بد من
صرف كلامهما إلى ما ذكر أخيرا من كون الوضع لذات المراد من
غير تقييد.
وأما توجيه المحقق الخراساني رحمه الله من الصرف إلى الدلالة
التصديقية أي دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها تبعية مقام
الاثبات للثبوت (3)، فلا يناسب ما نقل (4) عن المحقق الطوسي

(1) الفصول الغروية: 17.
(2) الشفاء 1: 42 - 43، شرح الإشارات 1: 32.
(3) الكفاية 1: 23.
(4) الجوهر النضيد: 8.
المحقق الطوسي: هو الفيلسوف الأعظم والحكيم المحقق نصير
الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي الجهرودي، ولد في 11
جمادى
الأولى سنة 597 بطوس ونشأ بها، وتلمذ على عدة من علماء عصره
منهم الشيخ كمال الدين بن ميثم البحراني، توفي يوم الغدير سنة
672 ه. انظر الكنى والألقاب 3: 250، مستدرك الوسائل 3: 464.
115

- قدس سره - فإنه صريح في الدلالة اللفظية الوضعية، وأن الجريان
على قانون الوضع يقتضي أن تكون دلالة اللفظ على معناه تابعة
لإرادة المتكلم، فراجع.
هذا مضافا إلى أن حمل كلامهما على ما ذكر حمل على معنى مبتذل
لا يناسب مقامهما.
116

الأمر السابع في الهيئات
لا إشكال في أن اللغات الراقية المتداولة كافلة لكافة احتياج البشر في
الإفادة والاستفادة، ومما يحتاج إليه احتياجا مبرما إفهام
المعاني التصديقية وما هو من شؤونها، بل أغراض المتكلمين تحوم
نوعا حول إفادتها، فلا يمكن إهمال ذلك في اللغات، ولم تكن تلك
الدالة إلا بالجعل والمواضعة، وإنما الكلام في الدال عليها:
فالمشهور (1) أن هيئات الكلام متكفلة بذلك، فهيئة (1) الجملة الحملية
تدل على الهوهوية التصديقية، وهيئة الجملة الحملية بالتأويل - على
ما سبق

(1) الفصول الغروية: 28 / سطر 5 - 7، الكفاية 1: 16، مقالات الأصول 1: 25 / سطر
19 - 21، نهاية الأفكار 1: 56 - 58.
(2) هذا التفسير مني، لا من المشهور لان هذا التفصيل غير مذكور في
كلامهم، بل خلافه مشهور. منه عفي عنه
117

منا (1) - تدل على تحقق الروابط وعلى الأكوان الرابطة، فللهيئات شأن
عظيم في الإفادة.
وأظن أن القول المقابل للمشهور (2) هو وضع مجموع الجملة لإفادة
المعاني التصديقية بأقسامها وخصوصياتها، فجملة (زيد قائم)
موضوعة لإفادة الهوهوية التصديقية، كما أن مفرداتها وضعت للمعاني
التصورية، فالاختلاف بين المشهور وغيره في أن الدال على
المعاني التصديقية هل هي الهيئات أو مجموع الجملة، كما يشهد به
كلام ابن مالك (3) الآتي؟ ولا أظن أن يكون مراد القائل بالوضع
للمجموع هو ما نسب إليه المتأخرون من وضع جديد له من غير إفادة
شي (4)، مما هو واضح الفساد.
نعم هنا احتمال آخر: هو كون المجموع موضوعا لإفادة ما تفيد الهيئة
على سبيل الترادف، ولا يرد على ما ذكرناه شي مما ذكروا إلا ما نقل عن

(1) وذلك في الصفحة: 88 - 89 من هذا الجزء.
(2) نسبه ابن مالك إلى بعض، كما في محاضرات الفياض 1: 111.
(3) هو الشيخ جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي
المالكي، المكنى بأبي عبد الله.
ولد سنة (600 ه). هاجر من الأندلس إلى دمشق، وسمع الحديث فيها
من أبي صادق الحسن بن صياح وأبي الحسن السخاوي وغيرهم، و
أخذ العربية من غير واحد من علماء دمشق، وكان إماما في القراءات،
صنف فيها قصيدة دالية. له كتب عديدة أشهرها الألفية في النحو و
الصرف. توفي سنة (672 ه).
انظر فوات الوفيات 2: 407، نفح الطيب 2: 425.
(4) الفصول الغروية: 28 / سطر 4 - 6، الكفاية 1: 24، نهاية الأفكار 1: 65.
118

ابن مالك في شرح المفصل من أن المركبات لو كان لها وضع لما كان
لنا أن نتكلم بكلام لم نسبق إليه إذ المركب الذي أحدثناه لم يسبق
إليه أحد، فكيف وضعه الواضع؟ انتهى.
وهذا إشكال متين لان الالتزام بالوضع لمجموع الجملة - هيئة ومادة
- مستلزم للالتزام بوضع كل جملة جملة على حدة بالوضع
الشخصي لعدم تصور الوضع النوعي إلا لهيئات الجمل، لا لمجموع
المادة والهيئة، ف (زيد قائم) و (عمرو قاعد) مشتركان في الهيئة لا
المادة، فلا يمكن الوضع النوعي للمجموع، فلا محيص عن الالتزام
بأن الجمل التي أحدثها المتكلم - مما تكون موادها مختلفة عن
السابقة
- غير موضوعة، وهو واضح البطلان.
فتحصل مما ذكرنا: أن الحق ما عليه المشهور من أن الدال على المعاني
التصديقية هي الهيئات، ولا وضع لمجموع الجملة.
ولا ينقضي تعجبي من بعض المدققين من المحشين على الكفاية
كيف ادعى أن كلام ابن مالك ظاهر في أن محل النزاع هذا الامر
البديهي البطلان، قائلا: إنه لا يخفى على مثل ابن مالك أن الوضع
نوعي لا شخصي (1) ولا أدري أنه ما فهم من كلامه وما موضع دلالته
على أن النزاع فيه؟

(1) نهاية الدراية 1: 26 / سطر 10 - 15.
119

تنبيه: في الموضوع له في الهيئات:
الحق أن هيئات الجمل الخبرية وضعت للهوهوية الواقعية إن كانت
حملية، مثل (زيد إنسان) أو (قائم)، وللأكوان الرابطة النفس الامرية
إن كانت حملية مؤولة، مثل (زيد في الدار) أو (له القيام)، لا للنسب
الذهنية من حيث كشفها عن الواقع كما اختاره صاحب الفصول (1)
ضرورة أنه لا فرق بينها وبين الألفاظ الموضوعة للمعاني النفس
الامرية، ودعوى وضع جميع الألفاظ حتى الاعلام الشخصية للصور
الذهنية الحاكية كما ترى، فإن تبادر نفس المعاني من الألفاظ من غير
خطور الصور الذهنية الحاصلة للمتكلم أقوى شاهد على المدعي.
هذا مضافا إلى أن الغرض من الوضع هو إفهام نفس الحقائق، فلا معنى
لجعل الألفاظ إلا لها، نعم في إفهامها يحتاج إلى التصور، وهذا
غير كون

(1) الفصول الغروية: 28 - سطر 6 - 7.
صاحب الفصول: هو الشيخ محمد حسين بن محمد رحيم الطهراني
الأصفهاني الحائري. ولد في قرية (إيوان كيف) ونشأ بها، درس
المقدمات في طهران، ثم انتقل إلى أصفهان ليحضر درس أخيه الشيخ
التقي صاحب هداية المسترشدين مدة طويلة، هاجر بعدها إلى
كربلا المقدسة، وبقي فيها حتى صار أستاذا قديرا وعالما نحريرا،
عرف بكتابه (الفصول الغروية) الذي صار فيما بعد مدارا لبحث
العلماء. توفي سنة (1254 ه) ودفن في جوار سيد الشهداء عليه
السلام.
انظر الكرام البررة 1: 390، الفوائد الرضوية: 501.
120

الموضوع له هو المتصور. ودعوى تبادر الصور الذهنية الحاكية في
الجمل الخبرية (1)، ممنوعة جدا.
وعمدة ما دعاه إلى الالتزام بذلك هو الاشكال المترأي وروده على
وضعها للنسبة النفس الامرية من لزوم أن لا يكون لها معنى في
الاخبار الكاذبة لانتفاء النسبة الواقعية فيها (2).
وفيه: أن ذلك وارد - أيضا - على فرض وضعها بإزاء النسبة الذهنية
الكاشفة عن الواقع ضرورة أن الكواذب لا تحقق لنسبها حتى
تكشف الصور الذهنية عنها، ولو قيل من حيث صلاحيتها للكشف،
فلا بد من الالتزام بوضعها للنسبة الذهنية من حيث هي، فإنها صالحة
له، وهو مقطوع الفساد، ولا يلتزم به القائل.
والتحقيق: أنها وضعت للواقعيات، والاشكال مدفوع بأن الاستعمال
ليس إلا طلب عمل اللفظ في المعنى بمعنى جعل اللفظ وسيلة
لانتقال
ذهن السامع إلى المعنى انتقالا بالعرض لا بالذات، وفي هذا الانتقال
بالعرض لا يلزم أن يكون المعنى محققا في الخارج، كما أن الامر
كذلك في الاخبار عن المعدوم المطلق بأنه لا يخبر عنه، وعن شريك
الباري بأنه ممتنع، فالمشترك المعتقد للشريك إذا أخبر عن
معتقده يخبر عن الواقع لا الشريك الذهني، ولهذا يكون مخطئا، و
المخبر بأن زيدا قائم يخبر عن الواقع ويريد أن يلقي في

(1) الفصول الغروية: 29 / سطر 21 - 22.
(2) نفس المصدر: 29 / سطر 23.
121

ذهن المخاطب قيامه واقعا، وهو لا يحصل إلا بالاستعمال.
وبالجملة: أن استعمال اللفظ في المعنى لا يتوقف على تحقق
المعنى، بل يتوقف على تصوره بالعرض، وهو لا يتوقف على وجوده.
فتحصل مما ذكرنا: أن هيئات القضايا موضوعة لنفس الهوهويات أو
الأكوان الرابطة النفس الامرية، وتكون آلة لاحضار معانيها في
ذهن السامع بالعرض، وقضية مطابقة الاخبار للواقع وعدمها أمر
خارج عن حريم الوضع والدلالة، كما أن إرادة المتكلم وانفهام
المعنى وفهم السامع كلها خارجة عنه.
هذا كله إذا قلنا بأن الموضوع له في الهيئات خاص كما هو التحقيق، و
أما مع اختيار عمومه فالامر أوضح لأنها دائما مستعملة في المعنى
الكلي، والتطبيق على الجزئيات إنما هو بدال آخر.
تتميم: في تقسيم اللفظ إلى المفرد والمركب:
قالوا: إن اللفظ إما مفرد أو مركب، والثاني ما دل جز لفظه على جز
معناه (1)، أو ما قصد بجز لفظه الدلالة كذلك (2)، والأول بخلافه.
أقول: إن كان اللفظ بمعنى الرمي، وإطلاقه على ما خرج من الفم
معتمدا على أحد المخارج باعتبار رميه منه، لم يكن تقسيم اللفظ إلى
المفرد والمركب صحيحا لان اللفظ مفردا كان أو مركبا لم يكن شيئا
خارجا من الفم، فإن

(1) شرح الكافية 1: 3 - 4، شذور الذهب: 11 - 12.
(2) شرح الشمسية: 24 - 25، حاشية ملا عبد الله: 32 - 33.
122

زيدا - مثلا - مركب من حروف، وكل حرف لفظ وملفوظ، والتركيب
منها اعتباري، فلم يكن المجموع لفظا ولا موجودا إلا في
الاعتبار، فما وضع للمعاني ليس لفظا، نعم ما لا جز له كهمزة
الاستفهام وكاف التشبيه لفظ موضوع.
وإن كان اللفظ موضوعا للكلمة أو منقولا إليها فتقسيمه إليهما - أيضا
- ليس بصحيح لان المركب ك (عبد الله) ليس بلفظ، بل لفظان
موضوعان لمعنيين، والمجموع ليس لفظا، والامر سهل.
123

الأمر الثامن في علائم الحقيقة والمجاز
في العلائم التي يمتاز بها المعنى الحقيقي من غيره: وليس الكلام
مقصورا على تشخيص المعنى الحقيقي من المجازي في موارد
الاستعمال إذا علم مراد المتكلم وشك فيهما حتى يقال: إن اللفظ في
المجاز - بناء على ما سلف - مستعمل في معناه الحقيقي، فالسامع
إذا استقر ذهنه على المعنى المراد، ولم يتجاوز منه إلى غيره، حكم
بأنه حقيقة، وإن تجاوز إلى غيره حكم بأن ذلك الغير مجاز كما
قيل (1)، بل من تلك العلامات أو غالبها عرفنا المعنى الحقيقي ولو لم
يكن استعمال ولم نكن بصدد تشخيص استعمال اللفظ في المعنى
الحقيقي أو المجازي، فلو شككنا في كون لفظ (الماء) موضوعا لهذا
الجسم السيال المعهود، يكون التبادر طريقا لاثباته استعمل أولا، بل
ربما يكون الاستعمال مرددا بين الحقيقة والغلط لا المجاز.

(1) نهاية الأصول 1: 32 - 33.
124

ثم إن هذه العلائم ليست علائم للوضع لما قدمنا (1) من أن الرابطة
الحاصلة بين اللفظ والمعنى بكثرة الاستعمال حتى صار حقيقة فيه
ليست وضعا، فتلك العلائم للربط الخاص بينهما أعم من كونه حاصلا
بالوضع أو بكثرة الاستعمال.
في التبادر:
ليس المراد منه ما (يفهم) من لفظه أي سبق المعنى بالنسبة إلى معنى
آخر في الذهن أو سرعة حصوله فيه، بل المراد منه هو حصول
المعنى من اللفظ في الذهن وظهور اللفظ بنفسه فيه من غير قرينة، و
هو من علائم الربط المعهود.
وقد استشكل عليه بوجوه عمدتها الدور المعروف (2).
وقد أجاب عنه بعض المحققين (3): بأنه لا وجه للاشكال بالدور فإن
العلم المستفاد بالتبادر غير العلم الذي يتوقف عليه التبادر حتى لو
قلنا بتوقفه على العلم التفصيلي لاختلاف الموقوف والموقوف عليه
بالشخص، وهو يكفي في رفع الدور، ولا شبهة في مغايرة العلم
الشخصي الحاصل بالتبادر مع العلم الشخصي الذي يتوقف عليه
التبادر. انتهى.
ولا يخفى ما فيه لان العلم بالشئ هو الكشف عنه، ولا يعقل الكشف

(1) في الصفحة: 57 من هذا الجزء.
(2) الكفاية 1: 25.
(3) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 97.
125

التفصيلي في حال واحد عن شي واحد مرتين، فمع العلم التفصيلي
بأن اللفظ الكذائي معناه كذا لا يعقل أن يكون التبادر موجبا لحصول
مصداق آخر منه في هذا الحال كما هو المفروض، ومع الذهول عن
التفصيل يرجع إلى الارتكاز، والظاهر وقوع الخلط بين الصور
الحاصلة في الذهن - أي المعلوم بالذات - وبين الكشف عن الواقع -
أي المعلوم بالعرض - فما يتكرر هو الأول، وما يتوقف عليه هو
الثاني.
والحق في الجواب عن الدور ما هو المعروف: من أن العلم التصديقي
التفصيلي بأن هذا اللفظ وضع لهذا المعنى يتوقف على التبادر، و
هو لا يتوقف على هذا العلم التصديقي المحتاج إلى تصور الموضوع و
المحمول (1).
ثم إنه إذا علم أن التبادر كان من نفس اللفظ من غير قرينة فهو، وإلا
فهل لاثباته طريق يمكن أن يتكل عليه؟ ربما يقال: إن الاطراد
طريق تشخيص نحو الانسباق وإحرازه، فإن كان انسباق المعنى مطردا
أحرزنا كونه مستندا إلى الوضع (2).
وفيه: أنه إن أريد منه أن الاطراد يوجب العلم بذلك، فمع ممنوعيته
خروج عن محط البحث، وإن أريد أنه مع عدم العلم منه يكون طريقا
شرعيا أو عقلائيا عليه فهو - أيضا - ممنوع: أما الشرعي فواضح، وأما
العقلائي فهو

(1) هداية المسترشدين: 45 / سطر طر - 12، الفصول الغروية: 33 / سطر 28 - 30، الكفاية
1: 25.
(2) مقالات الأصول 1: 30 / سطر 21 - 22
126

كذلك لعدم بناء العقلا على إثبات الوضع به، فالتبادر مع اطراده في
صورة الشك في كونه لقرينة مشهورة عامة بين المتخاطبين لا
يثبت به الربط المعهود، كما أن أصالة عدم القرينة الراجعة إلى عدم
اعتناء العقلا باحتمالها حجة عقلائية على المراد بعد العلم بالمعنى
الحقيقي، لا على إحرازه مع الشك فيه.
في صحة الحمل:
والتحقيق: أن صحة الحمل لا تكون علامة، لا الأولي منه ولا الشائع
لان الاستشهاد إما أن يكون بصحته عنده أو عند غيره:
فعلى الأول: يتوقف التصديق بصحة الحمل على التصديق بكون
اللفظ بما له من المعنى الارتكازي متحدا مع المعنى المشكوك فيه، و
مع
هذا لا يبقى شك حتى يرفع بصحة الحمل.
وبعبارة أخرى: أن التصديق بصحة الحمل الأولي يتوقف على العلم
باتحاد المعنى مع اللفظ بما له من المعنى الارتكازي مفهوما، وهذا
عين التصديق بوضع اللفظ للمعنى، فلا مجال لتأثير صحة الحمل في
رفع الشك.
وعلى الثاني: فلا يمكن الكشف عن كونه حملا أوليا إلا مع تصريح
الغير به، فيرجع إلى تنصيص أهل اللسان، لا صحة الحمل أو العلم
بوحدة المفهومين، فعاد المحذور السابق.
وأما الحمل الشائع فلما كان على قسمين بالذات وبالعرض، فمع
127

بينهما لا يمكن الكشف، ومع التميز عاد المحذور المتقدم فإن العالم
بأن الحمل بالذات عالم بالوضع للطبيعة المحمولة قبل الحمل.
ومما ذكرنا يعرف حال صحة السلب فإن العلم بصحته يتوقف على
العلم باختلافهما، ومعه لا شك حتى يرفع، والامر كذلك في عدم
صحة السلب.
وما قيل: من أن صحة الحمل والسلب الإرتكازيين موجبة للعلم
التفصيلي كما في التبادر (1) ليس بشئ لان الملتفت إلى المقصد -
المستشهد بصحة الحمل أو السلب للوضع - لا يمكن أن يكون غافلا
عن مقصده، ومع توجهه إليه يفصل الامر لديه قبل تصديق صحة
الحمل والسلب.
وقد يفصل (2) بين الحمل المتداول بين اللغويين، كحمل أحد اللفظين
المترادفين بما له من المعنى على الاخر، وبين الحمل المستعمل في
الحدود، كحمل الانسان على الحيوان الناطق، فيقال: إن الاستكشاف
لا يمكن في الثاني لامتناع أن يكون المفهوم المركب المفصل هو
مفهوم لفظ مفرد.
وفيه: أن المفهوم المفصل حاك عن الماهية البسيطة، والشك في
وضع اللفظ لها لا له، والتفصيل في الحد لا المحدود، والشك في
المحدود لا الحد، فلا إشكال من هذه الجهة.

(1) الفصول الغروية: 37 / سطر 33 - 36، الكفاية 1: 28.
(2) نهاية الأفكار 1: 68.
128

وقد يقال (1): إن العلامة في المقام إنما هي صحة السلب وعدمها، لا
بمعنى صحة سلب اللفظ بما له من المعنى، بل المراد صحة سلب
المعنى
عن اللفظ بما هو لفظ وعدمها، فإن اللفظ لما كان فانيا في المعنى و
صار وجودا لفظيا له تنفر الطباع عن سلبه عنه، بل تراه كسلب
الشئ عن نفسه، ولا تنفر عن سلبه عن غير معناه.
وأنت خبير بما فيه من الخلط فإن اللفظ بما أنه لفظ يصح سلبه عن
معناه، وما لا يصح سلبه عنه وينفر الطبع منه هو اللفظ بما هو مرآة
المعنى أي بما له من المعنى، فعاد المحذور السابق.
في الاطراد وعدمه:
وفي تقريرهما وجوه:
منها: أنه إذا اطرد إطلاق لفظ على أفراد كلي يكشف ذلك عن علاقة
الوضع بينه وبين الكلي لعدم الاطراد في علائق المجاز، كما أن عدمه
يكشف عن عدمها إذ معها يطرد، وإلا يلزم تخلف المعلول عن
علته (2).
والتحقيق: أن الاشكال المتقدم في صحة السلب والحمل وارد عليه
لان المراد باطراد الاطلاق: إن كان الاستعمال في الافراد
بخصوصياتها، فهو مع العلاقة مجاز، ومع عدمها غير صحيح.

(1) نهاية الأفكار 1: 35.
(2) نهاية الدراية 1: 30 / سطر 20 - 26.
129

وإن كان المراد منه صحة تطبيق المعنى المستفاد من اللفظ ارتكازا
على الافراد فيرجع إلى صحة الحمل وما بحكمه، فلا بد من تقدم
العلم بأن اللفظ بما له من المعنى قابل للانطباق على الافراد، وهو لا
يحصل إلا بالتبادر، وكذا في عدم الاطراد.
ومنها: أنه لا بد في المجاز من مصحح الادعاء ومن حسنه بعد
استعمال اللفظ فيما وضع له كما تقدم في المجاز (1)، وحسن الادعاء و
مصححه لا يطردان حتى في صنف العلائق، وأما الحقيقة فتطرد
لتوقفها على مجرد الوضع، فالأول علامة المجاز، والثاني علامة
الحقيقة (2).
وفيه: أن العلم بحسن الادعاء ومصححه، والعلم بصحة الاستعمال
مطردا، متوقفان على فهم المعنى الموضوع له وغيره.
وبالجملة: لا نرى غير التبادر علامة للوضع، وغيرها يرجع إليه أو
مسبوق به، كما يظهر بالتأمل.

(1) صفحة: 104 - 105 من هذا الجزء.
(2) نهاية الأصول 1: 36 / 37.
130

الأمر التاسع في تعارض الأحوال
قد ذكر في باب تعارض الأحوال (1) مرجحات ظنية لا دليل على
اعتبارها، والمتبع لدى العقلا هو الظهور، فإن حصل للفظ فهو، وإلا
فلا
يتبع.
نعم، يقع الكلام في أن ما لدى العقلا هو أصالة الظهور، أو أصالة عدم
القرينة، أو أصالة الحقيقة. والفرق بينها: أنه لو بنينا على الأولى
لاتبعنا الظهور ولو كان في الكلام ما يحتمل القرينية، لكن لا يكون
بحيث يصادم ظهور ذي القرينة بخلاف ما لو صادم، ولو بنينا على
أصالة الحقيقة تعبدا لحمل على الحقيقة معه أيضا، ولو بنينا على
أصالة عدم القرينة لم يكن حجة لعدم جريانها لدفع احتمال قرينية
الموجود، والتفصيل في محله (2).

(1) هداية المسترشدين: 61 - 73، الفصول الغروية: 40 - 42.
(2) يراجع بحث العام والخاص بحث القرينة المتصلة والمنفصلة.
131

ثم إنه قد ذكر في دوران الامر بين النقل وغيره أن المعول (عليه)
أصالة عدمه، وهي أصل عقلائي حجة مع مثبتاته.
والتحقيق: أن المتيقن من بناء العقلا هو عدم الاعتناء بالشك في
أصل النقل. وهل المعول عليه عندهم هو الاستصحاب العقلائي، أو
عدم
رفع اليد عن الظهور الثابت بمجرد الاحتمال؟ وجهان: أوجههما الثاني
لعدم التفات العقلا إلى جر العدم، مع أن الاستصحاب العقلائي
مطلقا مما لا أصل له. نعم قد يكون الشئ بحيث تطمئن النفس ببقائه،
ويكون الاحتمال المخالف لضعفه غير معتد به، وهو غير
الاستصحاب، ولو أريد به ذلك فلا مشاحة فيه.
هذا، وأما مع العلم بالنقل والشك في تقدمه على الاستعمال وتأخره
عنه، فالظاهر عدم بناء العقلا على التعويل على أصالة عدم النقل و
لو مع العلم بتاريخ الاستعمال، ولا أقل من عدم إحرازه.
وما أفاد شيخنا العلامة: من أن الوضع السابق عندهم حجة، فلا
يرفعون اليد عنها إلا بعد العلم بالوضع الثاني، (1) ففيه: أن الوضع بما هو
ليس بحجة بل الظهور حجة، ومع العلم بالوضع الثاني والشك في
التقدم والتأخر لا ينعقد للكلام ظهور، والأصل المذكور لا يوجب
انعقاده.
مضافا إلى أن لازم ما ذكر عدم رفع اليد عن الوضع الأول إلا مع العلم
بتأخر الاستعمال عن الوضع الثاني، لا مع العلم بالوضع، وإلا فهو حاصل،

(1) درر الفوائد 1: 18.
132

فحينئذ لا معنى للفرق بين أقسام مجهول التاريخ لعدم العلم بنقض
الوضع الثاني للوضع الأول حال الاستعمال.
ومما ذكرنا يظهر النظر في كلام بعض أجلة العصر (1) رحمه الله حيث
تشبث بأصالة عدم النقل في ظرف الاستعمال مع العلم بتاريخه
لاحراز استعمال اللفظ في المعنى الأول لحجية مثبتاتها، وحكم بلزوم
التوقف فيما علم تاريخ النقل وجهل تاريخ الاستعمال، فإنه ليس
للعقلاء بناء عملي على عدم الاستعمال، وكذا في مجهولي التاريخ
لعدم جريان الأصلين لان المانع في جميع صور مجهولي التاريخ هو
عدم إمكان إحراز موضوع الأثر بالأصل لان أصل العدم مطلقا مفاده
جر العدم في أجزأ الزمان، لا إثباته بالإضافة إلى أمر آخر، وعليه
لا يمكن إثبات عدم الوضع في حال الاستعمال بالأصل وإن كان
عقلائيا لان نفس القيد - أي الاستعمال - مشكوك فيه، فلا يمكن
إحراز
موضوع الأثر بالأصل وإن أمكن إحراز التقيد والمقارنة به، وإنما بنينا
على صحة الأصل مع كون الاستعمال معلوم التاريخ إذ بالأصل
والوجدان يتحقق موضوع الأثر، نعم لو كان مفاد الأصل جر العدم
بالإضافة إلى أمر آخر لأمكن إحراز الموضوع في المقام، لكنه خلاف
التحقيق. انتهى ملخصا.
وفيه وجوه من النظر:
منها: أن أصل عدم النقل إن كان الاستصحاب العقلائي - كما يظهر

(1) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 103 - 104.
133

منه - فأركانه موجودة في جميع الصور، فمع الشك في تأخر
الاستعمال مع العلم بتاريخ الوضع يستصحب عدم الاستعمال إلى
حال
الوضع، وبما أنه أصل عقلائي أمارة على الواقع يثبت به تأخر
الاستعمال عن الوضع، ويحرز كون الاستعمال في المنقول إليه مع
العلم
بهجر الوضع الأول في حال الوضع الثاني للزوم العقلي بعد الدوران
بينهما، وكذا الحال في مجهولي التاريخ.
ودعوى عدم بناء عملي على عدم الاستعمال، كدعوى عدم إمكان
إحراز موضوع الأثر، كما ترى بعد تمامية أركان الاستصحاب وكونه
أمارة أو مثلها في إثبات اللوازم.
وما قد يتوهم - من أن النقل لندرته يجري فيه الأصل دون الاستعمال
- واضح البطلان لان النادر أصل النقل لو سلم والكلام في تقدمه
وتأخره بعد العلم بتحققه.
ومنها: أن إجراء أصالة العدم في عمود الزمان إن لم يثبت نفس
الاستعمال لا يثبت استعمال اللفظ في المعنى الأول أيضا فإنه أمر
حادث
بمنزلة نفس القيد، وما يكون محرزا بالوجدان أصل الاستعمال، لا
الاستعمال في المعنى الأول، فإن يثبت به ذاك يثبت ذلك أيضا، كما
هو الحق على فرض جريانها لأنه من اللوازم العقلية.
هذا، مع أن أصل الاستعمال وجداني في كلتا الصورتين، والمستعمل
فيه مشكوك فيه في كلتيهما، فاستصحاب عدم الوضع إلى زمان
الاستعمال جار في كلتيهما.
134

ولو قيل: إن استصحاب العدم هو جر العدم فقط لا إلى كذا، فهو مع
بطلانه لازمه عدم الانتاج في الصورة الأولى أيضا لان جر العدم
مطلقا إذا لم يكن إلى زمان الاستعمال الوجداني لا ينتج شيئا، وإذا جر
إلى الزمان المعلوم يمكن جره إلى الزمان المعين واقعا المجهول
عندنا.
ومنها: أن ما ذكره - من إحراز الأصل والوجدان موضوع الأثر في
الصورة الأولى - غريب لأن عدم النقل ونفس الاستعمال ليسا في
شريعة موضوعا لاثر، وما هو الموضوع هو ما يثبت بالاستعمال - أي
المعنى المراد - ولو سلم ذلك فلا تفترق الصورتان - أيضا - لما
أشرنا إليه، فتدبر.
135

الأمر العاشر في الحقيقة الشرعية
اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية، والحق أن المراجع للكتاب و
السنة يطمئن بأن هذه الألفاظ من لدن أول البعثة استعملت في تلك
المعاني من غير احتفافها بالقرينة، ودعوى القرائن الحالية (1) كما ترى،
هذا هو القرآن المجيد ترى قوله في سورة المزمل المكية النازلة
- على المحكي (2) - في أوائل البعثة: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة و
أقرضوا الله قرضا حسنا (3)، وقوله في المدثر المكية كذلك: قالوا لم
نك من المصلين (4)، وقوله في القيامة المكية: فلا صدق ولا صلى (5)، و
في الأعلى المكية: وذكر اسم
(*)

(1) معالم الدين: 32 / سطر 6.
(2) مجمع البيان 10: 405.
(3) المزمل: 20.
(4) المدثر: 43.
(5) القيامة: 31.
136

ربه فصلى (1) وفي العلق المكية: أ رأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى (2).
إلى غير ذلك من المكيات، فضلا عن المدنيات، فلا إشكال في أن نوع
ألفاظ العبادات كانت مستعملة في عصر النبي صلى الله عليه وآله
في المعاني المعهودة، وكان المخاطبون يفهمونها منها من غير قرينة،
وأما في لسان التابعين ومن بعدهم فالامر أوضح من أن يذكر.
وأما الوضع التعييني بمعنى التصريح بالوضع فهو - أيضا - واضح
البطلان، فمن يرى طريقة المسلمين وحرصهم على حفظ سيرة النبي
صلى الله عليه وآله وجزئيات حياته حتى كيفية نومه ومشيه وقيامه
وقعوده وأكله وشربه وشمائله مما لا ربط له بالتشريع، ليقطع
بأنه لو صرح بوضع لفظة واحدة لنقل، فضلا عن وضع جميع الألفاظ
أو نوعها.
وأما الوضع بالاستعمال فليس بذلك البعد بعد إمكانه بل وقوعه.
وما يقال: من أن الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى، ومعه لا يمكن
الوضع به للزوم الجمع بين اللحاظ اللئالي والاستقلالي (3).
ففيه: أن كونه كذلك مطلقا ممنوع، فإمكان لحاظ اللفظ في حال
الاستعمال وجداني واضح، نعم كثيرا ما يكون اللافظ غير ملتفت إلى
ألفاظه. وأما مع تسليم كون الاستعمال كذلك فالظاهر امتناع الوضع به.

(1) الاعلى: 15.
(2) العلق: 9 - 10.
(3) أجود التقريرات 1: 33 - 34.
137

إلا أن يقال: إنه كناية عن الوضع وجعل الملزوم بجعل لازمه من غير
توجه إلى الجعل حين الاستعمال وإن التفت إليه سابقا أو بنظر
ثانوي، وهذا المقدار كاف في الوضع. وهو - أيضا - مشكل مخالف
للاستعمال الكنائي.
أو يقال: إن المستعمل شخص اللفظ والموضوع طبيعية، فلا يجتمع
اللحاظان في شي واحد، فجعل الاستعمال كناية عن وضع طبيعي
اللفظ للمعنى، وهو كاف في الوضع وإن (كان) لا يكفي في العقود و
الايقاعات نوعا أو جميعا، والامر سهل.
لكن إثبات أصل الوضع ولو بهذا النحو موقوف على إثبات كون
العبادات أو هي مع المعاملات من مخترعات شرعنا، ولم تكن عند
العرب - المتشرعة في تلك الأزمنة - ألفاظها مستعملة في تلك
الماهيات ولو مع اختلاف في الخصوصيات، وأنى لنا بإثباته؟ ولو
علم
إجمالا باختراع بعض العبادات في هذه الشريعة لم يثمر فيما نحن
بصدده، وأما المعاملات فالعلم بالاختراع (فيها) ولو إجمالا غير
حاصل حتى في مثل الخلع والمباراة، نعم لا يبعد كون المتعة
مخترعة، لكنها - أيضا - نحو من النكاح، وليست ماهية برأسها.
وبالجملة: ليست لهذا البحث ثمرة واضحة، وما ذكر من الثمرة (1)
فرضية، وإلا فالاستعمالات الواردة في مدارك فقهنا إنما هي في هذه المعاني

(1) معالم الدين: 26 - 29، الكفاية 1: 34، درر الفوائد 1: 17.
138

التي عندنا الان كما يقطع به المراجع، وأما الاستدلالات التي تشبث
بها القوم في إثبات المرام فمخدوشة لا تفيد شيئا.
139

الامر الحادي عشر في المبحث المعروف بالصحيح والأعم
ونذكر قبل المقصد مقدمات:
الأولى: في اختلاف كلماتهم في عقد البحث:
اختلفت تعبيراتهم في طرح هذا البحث: فقد يعبر عنه بأن ألفاظ
العبادات هل هي موضوعة للصحيحة أو الأعم منها (1)؟ فيخرج
الاختصاص
الحاصل بالتعين لما عرفت (2) من أنه ليس بوضع، فضلا عن
الاستعمالات المجازية ومذهب الباقلاني (3) فلا بد من إدخالها
بالمناط.

(1) درر الفوائد 1: 18.
(2) شرح العضدي على مختصر الأصول 1: 51 52.
(3) شرح العضدي على مختصر الأصول 1: 51 - 52.
والباقلاني: هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب المالكي الأشعري
البصري البغدادي الباقلاني. كان أصوليا متكلما على مذهب أبي
الحسن الأشعري، وكان مشهورا بالمناظرة
وسرعة الجواب. أخذ عن أبي بكر بن مالك القطيعي وأبي أحمد
الحسين النيسابوري، صنف كثيرا في الأصول والكلام، واشتغل
قاضيا
في بعض نواحي بغداد. توفي سنة (403 ه).
انظر تاريخ بغداد 5: 379، روضات الجنات 7: 3، وفيات الأعيان 4:
269، الكنى والألقاب 2: 55.
140

وقد يعبر (1) عنه بأنها أسام لها أو له، فيدخل الاختصاص التعيني فيه
دون البقية.
ويمكن أن يعبر عنه بأن الأصل في استعمال الشارع ما ذا؟ فيدخل فيه
الجميع حتى المجاز بناء على ما قوينا (2) من كونه استعمالا فيما
وضع له، ودعوى تطبيق المعنى على المصداق، فيقال: هل الأصل
هو ادعاء هذه أو هذا؟ فما يقال من إلغاء البحث بناء عليه ليس بشئ.
بل يمكن جريان البحث المثمر على مذهب الباقلاني - من غير ورود
ما أورده عليه بعض المدققين من أهل العصر حيث قال: إن القرينة
إن دلت على جميع ما يعتبر في المأمور به فلا شك ليتمسك
بالاطلاق، وإن دلت عليها بنحو الاهمال فلا إطلاق لفظي، والاطلاق
المقامي
جار على كلا القولين (3) - بأن يقال: هل الأصل في القرينة الدالة على
الاجزاء والشرائط هو إقامة القرينة المجملة على ما ينطبق عليها، فلا
يجوز التمسك بالاطلاق، أو عليه فيجوز؟

(1) الكفاية 1: 34، بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 109.
(2) وذلك في تحقيق المجاز، صفحة: 104 من هذا الجزء.
(3) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 110.
141

الثانية: في الاشكال على التعبير عن المبحث بالصحيح والأعم:
لا أرى لعقد البحث بأن الألفاظ موضوعة للصحيحة أو الأعم منها
وجها معقولا إلا سهولة التعبير عن الشئ بلازمه في الوجود، وهو -
أيضا - غير تام.
توضيحه: أنه لا إشكال في أنه ليس نزاعهم في أن الصلاة - مثلا - هل
هي موضوعة لمفهوم الصلاة المتقيد بمفهوم الصحة حتى يكون
الموضوع له هي الصلاة الصحيحة بالحمل الأولي، كما أن الالتزام
بكون النزاع في وضعها للصحيحة بالحمل الشائع (1) غير ممكن:
أولا: للزوم كون الوضع فيها عاما والموضوع له خاصا، لان ما هو
الصحيح بالحمل الشائع هي الصلاة الخارجية التي يتصادق عليها
العنوانان، وإلا فكل عنوان يباين الاخر في المفهومية، وهم لا يلتزمون
بذلك (2)، والالتزام بالجامع الخارجي (3) قد سبق (4) دفعه و
امتناعه.
وثانيا: أن الصحيح بالحمل الشائع هو الجامع لجميع الاجزاء و
الشرائط حتى ما يتأتى من قبل الامر، وغيره باطل فاسد بذاك الحمل،
مع
خروج مثلها عن محط البحث، كخروج ما يتأتى من قبل النهي في
العبادة، أو اجتماع الأمر والنهي مع تقديم جانب النهي على القول
بإيجابه الفساد.

(1) نهاية الدراية 1: 35 / سطر 20.
(2) الكفاية 1: 42، فوائد الأصول 1: 61 - 62.
(3) مقالات الأصول 1: 40 - 41.
(4) في الصفحة: 61 من هذا الجزء.
142

والقول بأن الصحة أمر إضافي فيكون الشئ صحيحا بملاحظة
الاجزاء فاسدا بملاحظة الشرائط (1)، مع عدم مساعدة العرف واللغة
(عليه)
لا يدفع به الاشكال لان الاجزاء مع فقد الشرائط لا تقع صحيحة، فلا
الماهية صحيحة ولا أجزاؤها الفاقدة للشروط، فأين الصحة حتى
تنسب إلى الماهية بالعرض والمجاز؟ وعلى فرضها يكون الانتساب
إلى نفس الماهية مجازا، وهو كما ترى، كالالتزام بالصحة التعليقية
أي إذا ضم إليها سائر الشرائط، وتوهم اصطلاح خاص للأصولي في
الصحة والفساد قبال العرف واللغة فاسد لا يلتزم به أحد.
ولعل هذه الشبهة ألجأتهم إلى التزام كون الصحة بمعنى التمامية (2)،
الظاهر منهم أن المفهومين متساوقان عرفا ولغة، وأن بين الصحة
والفساد تقابل عدم وملكة.
وهو غير جيد لعدم مساعدتهما عليه، بل الصحة والفساد كيفيتان
وجوديتان عارضتان للشئ في الوجود الخارجي، فيقال للشئ
الموجود المتصف بكيفية ملائمة لطبيعته النوعية إنه صحيح سالم، و
للمتصف بكيفية منافرة لها إنه فاسد. ويشبه أن يكون إطلاقهما
على الماهيات الاعتبارية بنحو من التوسع، فإن لتلك الماهيات وراء
الاجزاء هيئة اعتبارية إتصالية أو وحدة اعتبارية، لأجلها يقال: (قطع
صلاته وأفطر صومه) فيدعى لأجل فقد شي

(1) فوائد الأصول 1: 60.
(2) الكفاية 1: 35، مقالات الأصول 1: 37 / سطر 23 - 24.
143

معتبر فيها عروض الفساد لها كالموجود الخارجي الذي عرض له
الفساد، وكذلك في الصحة.
وأما التمام والنقض فيطلقان (عليه) باعتبار جامعيته للاجزاء و
الشرائط وعدمها، فإن أطلقا على الكيفيات والحقائق البسيطة فباعتبار
لحاظ الدرجات فيها، فيقال للوجود والنور: إنهما تامان وناقصان،
فالانسان الذي ليس له عين أو يد ناقص لا فاسد.
فمفهوم النقص والتمام يخالفان الصحة والفساد وبينهما تقابل العدم
والملكة، كما أن بين الصحة والفساد تقابل التضاد، كما أن
التمام والنقص إضافيان بمعنى أن الجامع للأجزاء دون الشرائط تام
بحسب الأجزاء ناقص بحسب الشرائط، لا مطلقا.
فمن اشتهى أن يبقى عنوان البحث على حاله فلا بد له من الالتزام
باستعمال الصحة والفساد في التام والناقص مجازا بنحو المشهور -
أي استعمال اللفظ الموضوع لمفهوم في مفهوم آخر - ثم يجري على
المنوال المعهود، مع أن هذا الاطلاق أشبه بالغلط من المجاز لعدم
العلاقة بين المفهومين، واتحاد مصداقهما خارجا لا يصحح العلاقة.
ولعمري إنه لا موجب لهذه التكلفات الباردة، ولا ملزم لابقاء العنوان
على حاله، فالأولى أن يقال في عنوان البحث: (في تعيين الموضوع
له في الألفاظ المتداولة في الشريعة)، أو (في تعيين المسمى لها)، أو
(في تعيين الأصل في الاستعمال فيها)، على اختلاف التعبيرات فيها
كما مر.
144

الثالثة: في تعيين محل النزاع:
قد ادعى بعضهم أن محل النزاع هو الاجزاء مطلقا والشرائط التي
أخذت في متعلق الأمر كالستر والقبلة والطهور، دون ما يأتي من قبله
كقصد الامر والوجه مما لا يمكن أخذه في المتعلق، ودون الشرائط
العقلية كاشتراط كونه غير مزاحم بضده الأهم أو غير منهي عنه (1).
وقد يدعى عدم إمكان دخولهما فيه، لتأخر رتبتهما عن رتبة المسمى
لان تعيين المسمى مقدم على الطلب المتقدم على قصده وقصد
وجهه، وكذا مقدم على ابتلائه بالضد أو تعلق النهي به (2).
بل قد يقال: إن النزاع مقصور على الأجزاء لان رتبة الشرائط متأخرة
عنها، فلا يمكن جعلهما في رتبة واحدة عند التسمية (3).
والحق إمكان جريان النزاع في جميع الشرائط: أما عند من يرى جواز
أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الامر في المتعلق (4) فواضح لتقدم رتبة
المسمى على الطلب، وأما مع القول بامتناعه (5) فلامكان دعوى كون
المسمى غير ما يتعلق به الطلب، وكون رتبته مقدمة على الطلب أول الكلام.

(1) فوائد الأصول 1: 60 - 61.
(2) نفس المصدر 1: 61.
(3) نهاية الأفكار 1: 76.
(4) نهاية الأصول 1: 111.
(5) الكفاية 1: 109، نهاية الأفكار 1: 188.
145

وأما حديث عدم إمكان تسوية الاجزاء والشرائط في الرتبة فظاهر
الفساد لان الاجتماع في التسمية غير الاجتماع في الرتبة في الواقع،
والمحال هو الثاني، واللازم هو الأول.
وقد يقال في جواب هذا الاشكال - بل الاشكال المتقدم - بإمكان
الوضع لنفس الاجزاء المقترنة بالشرائط أعني لتلك الحصة من مطلق
الاجزاء، فيجري فيها النزاع، فيقول الصحيحي: إن اللفظ موضوع
للحصة المقترنة بجميع الشرائط، فلا تصدق الصلاة - مثلا - مع فقد
بعضها، وينكره الأعمي (1).
وفيه: أن الاقتران: إما أن يؤخذ على سبيل الشرطية والقيدية، فيعود
المحذور، أو على سبيل الحينية، فلا تدخل في المسمى بوجه حتى لا
يصدق الاسم مع فقدها.
فتحصل مما ذكر: إمكان جريان النزاع في جميع الشرائط.
ثم بعد إمكانه هل النزاع مقصور على ما قالوا، أولا؟ الظاهر من كلماتهم
في الباب وكيفية استدلالاتهم: هو كون النزاع في مطلق
الشرائط، كالاشكال على الصحيحي: بأنه يلزم عليه تكرار معنى الطلب
في الأوامر المتعلقة بها لان الامر - حينئذ - يرجع إلى الامر
بالمطلوب، فيكون المعنى: اطلب مطلوبي، ويلزم الدور لتوقف
الطلب - حينئذ - على الصحة، والصحة على الطلب، والصحيحي لم
يدفع
الاشكال بأن محل

(1) مقالات الأصول 1: 38 / سطر 13 - 15.
146

النزاع غير تلك الشروط، فراجع الفصول (1).
بل الاستدلال بوحدة الأثر لكشف وحدة المؤثر - الظاهر منه أنه هو
المسمى (2) - يؤيد ما قلنا، بل يدل عليه فإن المؤثر هو الصحيح
الفعلي، وهو الجامع لجميع الشرائط، وتخيل كون الدعوى أن
المسمى بعض المؤثر أو المؤثر الاقتضائي أو التعليقي (3)، بعيد عن
الصواب.
والانصاف أن كلماتهم لا تخلو من تشويش واضطراب، والتحقيق:
- بعد ما قلنا من أن الصحيح والأعم غير دخيلين في النزاع، وإنما
النزاع في مسمى الألفاظ المستعملة في المعاني - أن يقال: إن سنخ
الشرائط مختلفة، فبعضها تكون من قيود الماهية المسماة بحيث تكون
بما هي كذلك منحلة إلى الاجزاء والتقيدات، وبعضها تكون من
شروط تحققها خارجا - أي صحتها - لا من قيود نفسها.
فحينئذ يقع النزاع: في أن الشرائط أيها من قيود نفس المسمى بحيث لا
يصدق على الفاقد، وأيها من شروط صحته حتى يصدق على
الفاقد ولو كان فاسدا مع فقدانه؟ وكلمات القوم مختلفة، لكن يشبه أن
يكون مثل قصد الوجه من شروط التحقق والصحة، ولا دخالة له
في الماهية (4) ومثل التزاحم والنهي من

(1) الفصول الغروية: 48 / سطر 14 - 17.
(2) الكفاية 1: 36.
(3) نهاية الأفكار 1: 76 - 77.
(4) الكلمة في المخطوطة غير واضحة، وقد أثبتناها استظهارا.
147

وموانعها غير دخيل فيها، وأما الشرائط الأخر فمورد البحث.
وأما الاجزاء فالبحث فيها في أنها مطلقا من مقومات الماهية أو بعضها
من أجزأ الموجود على فرض تحققه كالاجزاء المستحبة، و
المسألة لا تخلو من غموض وإشكال، كتعيين محل النزاع.
الرابعة: في لزوم تصوير الجامع:
لا بد للصحيحي والأعمي من تصوير الجامع، بعد وضوح فساد
خصوص الموضوع له في الماهيات المعهودة، أو تعدد الأوضاع
بالاشتراك اللفظي، فلا بد من بيان ما قيل أو يمكن أن يقال:
فمن الجوامع المتصورة للصحيح ما أفاده المحقق الخراساني (1) -
رحمه الله - قال: لا إشكال في وجوده بين الافراد الصحيحة، وإمكان
الإشارة إليه بخواصه وآثاره فإن الاشتراك في الأثر كاشف عن
الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكل فيه بذلك الجامع، فيصح تصوير
المسمى بلفظ الصلاة - مثلا - بالناهية عن الفحشاء (2) وما هو معراج
المؤمن (3) ونحوهما. انتهى.
وفيه: - بعد منع كون المقام موضوعا للقاعدة العقلية، وإنما
موضوعها الواحد من جميع الجهات والحيثيات - أنه بناء عليه يلزم أن تكون الصلاة

(1) الكفاية 1: 36.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)
العنكبوت: 45.
(3) إشارة إلى حديث: (الصلاة معراج المؤمن). الاعتقادات للشيخ
المجلسي: 39.
148

من متكثر الحقيقة فإن النهي عن الفحشاء، ومعراج المؤمن، ومقرب
كل تقي (1) وعمود الدين (2)، أمور مختلفة، فمع صدورها منها
يكون كل صادرا من حيثية.
مضافا إلى أن النهي عن الفحشاء ليس على ما هو ظاهره، فيرجع إلى
كونها دافعة ومانعة عنهما، والفحشاء أمر متكثر، فلا بد أن تكون
في الصلاة حيثيات، بكل حيثية دافعة لواحد منها، مع بعد التزامهم
بالجامع الذي له حيثيات متكثرة حسب تكثر ما ذكر.
ودعوى كون هذه الأمور ترجع إلى أمر واحد هو كمال حاصل للنفس
يوجب ذلك (3)، خروج عن الاستدلال بها، وإيكال إلى أمر مجهول
من غير بينة وبرهان.
وأما ما أورد عليه (4) من أن الملاكات من الدواعي لا الأسباب
التوليدية، فلا يصح تعلق التكليف بها، لا بنفسها ولا بأخذها قيدا
لمتعلق
التكليف، فكما لا يصح التكليف بإيجاد معراج المؤمن - مثلا - لا يصح
.

(1) الكافي 3: 265 - 6 باب فضل الصلاة من كتاب الصلاة، الفقيه 1:
136 - 16 باب 30 في فضل الصلاة، دعائم الاسلام 1: 133 ذكر
الرغائب في الصلاة والحض عليها، وقد ورد الحديث في هذه
المصادر بلفظ: (الصلاة قربان كل تقي).
(2) الكافي 3: 99 / 4 باب النفساء من كتاب الحيض، دعائم الاسلام 1: 133 ذكر
الرغائب في الصلاة والحض عليها، الوسائل 3: 23 / 13 باب 8 من أبواب أعداد
الفرائض ونوافلها.
(3) مقالات الأصول 1: 40 - 41، نهاية الأفكار 1: 84 - 85.
(4) فوائد الأصول 1: 72
149

التكليف بالصلاة المقيدة بكونها كذلك إذ يعتبر في التكليف أن يكون
المكلف به بجميع قيوده مقدورا عليه، والملاكات ليست كذلك،
فلم تصح أن تكون هي الجامع ولا معرفة وكاشفة عنه بداهة أنه يعتبر
في المعرف أن يكون ملازما للمعرف بوجه. انتهى بعض كلامه
المطول.
ففيه: أن المسمى هو ذات المكشوف من حيث هي لا مقيدة
بالملاكات، فإذا كان شي منشأ أثر وحداني، أو قائما به أثر وحداني، مما
يكشف منه وحدة الذات، يمكن أن يشار إليه بهذه الخواص والآثار، و
يوضع اللفظ لنفس المؤثر أو القائم به المصلحة لا بعنوانهما، فلا
يتعلق التكليف إلا به من غير تقييد بالملاك أو الأثر.
ومنها: ما صوره بعض المدققين من أهل العصر رحمه الله: بعد إيراد
إشكال على الكفاية من بعض محققي العصر رحمه الله: من أن الجامع
العنواني ممكن لكن لا يلتزم به أحد، والجامع المقولي الذاتي غير
ممكن لكون الصلاة مركبة من مقولات مختلفة، وهي متباينات، ولا
جامع فوق الأجناس العالية (1).
فأجاب عنه (2): بأن الجامع لا ينحصر فيهما، بل لنا فرض جامع آخر،
هو مرتبة خاصة من الوجود الجامع بين تلك المقولات المتباينة
ماهية،
فتكون الصلاة أمرا بسيطا خاصا يصدق على القليل والكثير لكون ما به
الاشتراك

(1) نهاية الدراية 1: 38 / سطر 1 - 7.
(2) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي 1: 116 - 118.
150

نفس ما به الامتياز فإن الوجود الخاص أخذ لا بشرط.
إلى أن قال: إن قلت: بناء على هذا يكون مفهوم الصلاة - مثلا - هو
تلك الحصة من الوجود الساري في المقولات المزبورة، وهو فاسد.
قلت: مفهوم الصلاة كسائر مفاهيم الألفاظ منتزع من مطابق خارجي، و
لكن عند التحليل نقول: إن معنى الصلاة هي الحصة المقترنة
بالمقولات الخاصة، نحو مفهوم المشتق، فإنه بسيط وعند التحليل
يقال:
مركب من ذات وحدث، وكمفهوم الانسان، فإنه بسيط ينحل إلى
حيوان ناطق، فاتضح مما تقدم أنه يمكن تصور جامع بسيط غير
عنواني ولا ماهوي، وهو مرتبة من الوجود الساري في جملة من
المقولات. انتهى ملخصا.
وأنت خبير بما فيه من الغرائب، فإن المرتبة من الوجود والحصة منه
إن كانت هي الوجود الخارجي، فكيف صار وجودات المقولات
المختلفة بالذات وجودا واحدا ساريا؟ وما معنى هذا السريان و
الوحدة؟ ولعله سمع اصطلاح أهل الذوق في بعض المقامات
فاشتهى
إيراده هاهنا، ومن له أدنى أنس باصطلاحاتهم يعلم أنه أجنبي عن مثل
المقام.
ثم إن الوجود الخارجي إذا كان جامعا ومسمى بالصلاة، فلازمه تعلق
الامر إما به أو بغير الصلاة، وفسادهما مغن عن البيان، بل لازمه
كون الصلاة (أمرا) متجزئا ويكون كل ما وجد جز منها لا نفسها لان
الحصة الخارجية
151

لا يمكن أن تنطبق على الافراد انطباق الكلي على المصاديق.
ثم إن كونها حصة من الوجود ينافي ما ذكره أخيرا من أن مفهومها كسائر
المفاهيم منتزع عن مطابقة الخارجي، إلا أن يراد بالحصة
الكلي المقيد، فلا محالة تكون من سنخ المفاهيم، فيكون مفهوم
الصلاة مساوقا لمفهوم الوجود المقيد الذي لا ينطبق إلا على
المقولات
الخاصة، وهو واضح البطلان، مع أن ذلك هو الجامع العنواني الذي فر
منه.
ثم إنه قاس الجامع في الصلاة بالكلمة والكلام، فقال: كما أن الجامع
بين أفراد الكلمة عبارة عن المركب من حرفين فما فوق بنحو يكون
ذلك المعنى المركب بشرط شي من طرف القلة ولا بشرط من طرف
الزيادة، كذلك الجامع بين أفراد الصلاة (1).
وهو فاسد فإن الكلمة عبارة عن لفظ موضع لمعنى مفرد، وهذا
يصدق على كل ما كان كذلك، كان حرفا واحدا أو حرفين فصاعدا، من
غير أن يكون بشرط شي في طرف القلة ولا بشرط في في طرف
الكثرة، وليست الصلاة على ما زعمها كذلك.
وبالجملة: لا أرى محملا صحيحا لكلامه الذي لا تلتئم أجزاؤه، وإن
هذا إلا لغموض المسألة وعجزه عن تصور جامع معقول.
ومنها: ما ذكره بعض المدققين (2)، وحاصله: أن سنخ المعاني والماهيات

(1) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي 1: 118.
(2) نهاية الدراية 1: 39 - 40.
152

بعكس الوجود، كلما كان الابهام فيه أكثر كان الاطلاق والشمول فيها
أوفر، فإن كانت الماهيات من الحقائق كان إبهامها بلحاظ
الطوارئ والعوارض مع حفظ نفسها، وإن كانت من الأمور المؤتلفة من
عدة أمور بحيث تزيد وتنقص كما وكيفا، فمقتضى الوضع لها
أن تلاحظ على نحو مبهم في غاية الابهام بمعرفية بعض العناوين الغير
المنفكة عنها.
فلفظ الصلاة مع الاختلاف الشديد بين مراتبها لا بد أن يوضع لسنخ
عمل معرفه النهي عن الفحشاء، بل العرف لا ينتقلون من سماع لفظها
إلى سنخ عمل خاص مبهم إلا من حيث كونه مطلوبا في الأوقات
الخاصة، وهذا غير النكرة، فإنه لم يؤخذ فيه خصوصية البدلية. انتهى.
وفيه: أن الابهام في نفس الذات لا يمكن إلا في الفرد المردد ونحوه،
فلا بد وأن تكون الصلاة شيئا متحصلا في مقام ذاته تخلصا عن
كونها من قبيل الفرد المردد، ويعرضها الابهام باعتبار العوارض و
الطوارئ، فحينئذ نسأل عن ذلك الجامع المعين هل هو من العناوين
الخارجية أو من المقولات؟ وكلاهما فاسدان كما اعترف به (1)، بل لا
تنحل العقدة بما ذكره لو لم نقل إنه نحو مصادرة.
وبالجملة: أن ماهية الصلاة تقال علي الافراد بالتواطؤ، فلا بد لها من
جامع صادق عليها يكون في ذاته أمرا متعينا ولو بالاعتبار، و
يعرضه الابهام بلحاظ الطوارئ.
(*)

(1) نهاية الدراية 1: 37 - 38.
153

ولعل ما ذكره يرجع إلى ما سنذكره بعد مقدمة، وهي أن محط البحث
للاعلام إنما هو تصوير جامع كلي قابل للانطباق على الافراد
المختلفة كيفية وكمية، فمرتبة فرض الجامع مقدمة على عروض
الفساد والصحة عليه لما عرفت (1) من أنهما من عوارض وجود العبادات
خارجا، وأنهما ليسا من الأمور الإضافية بحيث يكون ماهية صحيحة
من حيثية وفاسدة من أخرى.
نعم، ربما توجد ماهية من الطبائع الحقيقية يكون بعضها فاسدا بقول
مطلق وبعضها صحيحا كذلك، كبطيخ نصفه فاسد، لكن هذا غير
ممكن للصلاة وأمثالها، فالصلاة الموجودة مع فقدان شرط أو وجود
مانع فرد من الصلاة، وعرضه الفساد في الخارج لا الصحة، ولا
يكون صحيحا من حيث وفاسدا من حيث.
فحينئذ بعد كون بعض الشرائط الدخيلة في الصحة خارجا عن محط
البحث، فلا محالة تكون الماهية الموضوعة لها لفظة الصلاة ما إذا
وجدت في الخارج مجردة عن تلك الشرائط الخارجة عن محط
البحث تقع فاسدة لا صحيحة، فلا يكون نزاعهما في وضعها
للصحيحة أو
الفاسدة لتسالمهم على عدم الوضع للماهية المتقيدة بمفهوم
الصحة (2)، وعدم إمكان الوضع لماهية ملازمة لها من حيث تقرر
الماهية لان
مفهوم الصحة وحقيقتها غير

(1) في الصفحة: 44 من هذا لجزء.
(2) هداية المسترشدين: 111 / سطر 10 - 12، الفصول الغروية: 48 / سطر 17، نهاية
الأفكار 1: 74.
154

لازمين للماهية، وهو واضح، ولا لماهية إذا وجدت في الخارج تكون
صحيحة لخروج بعض الشروط الدخيلة في الصحة (1) عن محط البحث
كما تقدم، فلا تكون الماهية الموضوعة لها ملازمة في الخارج مع الصحة (2).
وإرجاع النزاع إلى أن الصحيحي يقول: إن اللفظ موضوع لماهية إذا
لحقت بها تلك الشروط تقع صحيحة والأعمي ينكره، لا يرجع إلى
محصل.
فالأولى إلقاء لفظي الصحيح والأعم، ويقال: هل لفظ الصلاة - مثلا -
موضوع لماهية تامة الاجزاء والشرائط الكذائية أو ما هو ملازم
لها، أو لا؟ ولعل نظر القوم إلى ذلك، وتخلل لفظ الصحيح والأعم
لإفادة المقصود في أبواب العبادات والمعاملات بلفظ جامع، والامر
سهل.
التحقيق في تصوير الجامع:
إذا عرفت ذلك، فاعلم أن المركبات الاعتبارية التي عرضتها وحدة ما
على قسمين:
أحدهما: ما يكون الكثرة فيها ملحوظة كالعشرة والمجموع، فإن
العشرة وإن لوحظت واحدة - فتكون مقابل العشرتين والعشرات و
مفردهما - لكن الكثرة فيها ملحوظة، وكذا المجموع، وفي مثلها يفقد
الكل بفقدان جز منها، فلا يصدق العشرة ولا المجموع إلا على
التام الأجزاء.

(1) في الصفحة: 147 من هذا الجزء.
(2) نهاية الأفكار 1: 74 - 75.
155

وثانيهما: ما تكون الكثرة (فيه) فانية في الوحدة والهيئة فنأ المادة
في صورتها، ففي مثلها تكون شيئية المركب الاعتباري بصورته -
التي هي الهيئة العرضية الاعتبارية، لا الصورة الجوهرية أو الحقيقية -
لا بمادته، وتكون المادة فانية في الهيئة، وهي قائمة بالمادة
متحدة معها ولهذا لا يضر اختلاف المواد - أي اختلاف عرض لها -
بشيئية المركب الكذائي، فالسيارة سيارة ما دامت صورتها وهيئتها
محفوظة من أي فلز كانت مادتها، فالمادة مأخوذة بنحو اللابشرط و
العرض العريض، لا بمعنى لحاظها كذلك فإنه ينافي اللا بشرطية،
بل بمعنى عدم اللحاظ في مقام التسمية إلا للهيئة والمواد فانية فيها.
ثم إن الهيئة قد تلاحظ بنحو التعين الخاص، وقد تلاحظ بنحو
اللابشرط والعرض العريض أيضا، كالدار والسيارة والبيت والمكائن
و
الساعات، وكل ما هو من قبيل المركبات الغير الحقيقية من سنخها،
فمثلها تكون موادها فانية في هيئاتها في مقام التسمية ومقام
استعمال ألفاظها فيها، وهيئاتها مأخوذة لا بشرط، فتصدق الدار على
المسكن الخاص بأية مادة صنعت وفي أية هيئة صيغت، لكن تكون
بينها جهة جامعة عرضية لا يمكن أن يعبر عنها إلا بمثل المسكن
الخاص لعدم الجنس والفصل لها كالحقائق حتى تحد بهما.
فالسيارة مركوب خاص لما صنعها صانعها سماها باسم، فانية موادها
في هيئتها، وغير ملحوظ فيها هيئة خاصة لا تتعداها، وهذا معنى
اللابشرط في الهيئة والمادة ولهذا تصدق على المركوب الخاص بأية
هيئة أو مادة كانت.
ثم إنه قد يعتبر في المركبات الاعتبارية مواد خاصة، ومع ذلك تكون
في
156

مقام التسمية فانية في الهيئة، وتؤخذ الهيئة لا بشرط من جهة أو
جهات، فيصدق الاسم مع تحقق سنخ المواد بنحو العرض العريض
مع
الهيئة كذلك، فلا يمكن التعبير عنها إلا بأمور عرضية.
فحينئذ نقول: يمكن أن يقال: إن الصلاة عبارة عن ماهية خاصة
اعتبارية مأخوذة على النحو اللابشرط فانية فيها مواد خاصة مأخوذة
كذلك، فمواد الصلاة: ذكر، وقرآن، وركوع، وسجود، على النحو
اللابشرط صادقة على الميسور منها، وهيئتها صورة إتصالية خاصة
نسبتها إلى المواد نسبة الصورة إلى المادة، لكن الهيئة - أيضا - أخذت
لا بشرط من بعض الجهات، كهيئة السيارة والدار والبيت، ولا
يمكن أن يعبر عنها إلا بعناوين عرضية كالعبادة الخاصة، كالتعبير عن
السيارة بالمركب الخاص، وعن البيت والدار بالمسكن الخاص،
من غير أن يكون لها جنس وفصل يمكن تحديدها بهما.
وبما ذكرنا يتضح: أن الشرائط مطلقا - سوأ ما يتأتى من قبل الامر أولا
- خارجة عن حقيقة الصلاة، ويشبه أن تكون الشرائط مطلقا -
خصوصا الآتية من قبل الامر - من شرائط صحة تلك الماهيات، لا من
قيودها المعتبرة في ماهيتها، فالصلاة اسم للهيئة الخاصة الحالة في
الاجزاء الخاصة، مأخوذة هي والهيئة لا بشرط، وتتحدان اتحاد المادة
والصورة.
ثم إنه بما ذكرنا سابقا يعلم أن فرض الجامع على الصحيحي وعلى
الأعمي مما لا معنى محصل له، فالتحقيق ما تقدم من فرض الجامع
بين
أفراد الماهية، ورجوع النزاع إلى أن المسمى هو الماهية التامة
الاجزاء، أو هي
157

والشرائط، أو لا؟ فتدبر جيدا.
الخامسة: حول جريان الأصل:
بناء على ما ذكرنا من الجامع تجري البراءة لدى الشك في الأقل و
الأكثر، دون ما ذكره المحقق الخراساني (1) رحمه الله.
توضيحه: أنه قد عرفت أن الصلاة عبارة عن الهيئة الخاصة لا بشرط
فانية فيها الكثرات والاجزاء، فبناء عليه تكون الصلاة حقيقة
وحدانية صادقة على الهيئة الحاصلة من تلك المواد من غير أن تكون
الكثرة ملحوظة فيها، ونسبة الهيئة إلى المادة ليست كنسبة المحصل
إلى المحصل، بل هما متحدان ذهنا وخارجا نحو اتحاد الصورة و
المادة، ويكون الامر المتعلق بالصلاة - مع كونه واحدا على ماهية
واحدة، لا أمرا بالاجزاء والكثرات - (يكون) ذلك الامر الوحداني
باعثا إلى الاجزاء التي تنحل الماهية إليها، فالامر بالواحد أمر
بالكثرات في لحاظ التحليل.
فإذا شك في حال الانحلال في جزئية شي أو شرطيته للمأمور به
يرجع الشك إلى أصل تعلق الامر به في لحاظ الكثرة بعد العلم بتعلقه
بسائرها فيه، وبعد العلم يتحقق المسمى في الخارج كما هو مذهب
الأعمي.
ولو قيل: إن الهيئة - بناء على ما ذكرت - أمر غير المواد، وهي متعلقة
للامر والمواد محصلة لها، فبعد التسليم تجري البراءة في نفس
الهيئة اللابشرط

(1) الكفاية 1: 36 - 37.
158

الصادقة على القليل والكثير والطويل والقصير لأن المفروض أن
المسمى صادق عليها، ومع صدقه إذا شك في شي آخر دخيل في
زيادة الهيئة كيفية أو كمية، يكون مرجعه إلى الشك في خصوصية
زائدة على أصل المسمى لصدقه عليه مع فقدانه، فالشك في تعلق
الامر
بهيئة حاصلة من مواد - كتسعة أجزأ أو عشرة - شك في الأقل و
الأكثر في الهيئة، فتكون مورد جريان البراءة.
هذا مع تسليم كون المواد بالنسبة إلى الهيئات كالمحصل، وإلا فهو في
معرض المنع.
وأما على ما ذكره المحقق الخراساني فلا تجري البراءة ولو قلنا باتحاد
الامر الانتزاعي مع الاجزاء (1) لان المدعي هو كون الصلاة أمرا
بسيطا مبدأ للأثر الخاص - أي معراجية المؤمن والنهي عن الفحشاء (2)
- فإذا شك في جز أو شرط يكون راجعا إلى تحقق هذا البسيط
لاحتمال أن لا يكون المأتي به مبدأ الأثر الخاص، ولا فرق في ذلك
بين كون المأمور به هو عنوان (معراج المؤمن)، أو عنوان (الصلاة)
التي تكون مبدأ لهذا الأثر، سوأ قيدت به أو لا، فلا محيص في مقام
الاتيان بالمأمور به عن حصول العلم بتحقق ما تعلق به الامر وقامت
عليه الحجة.
وان شئت قلت: لا ينحل المأمور به على ما ذكره إلى معلوم ومشكوك فيه،

(1) الكفاية 1: 37.
(2) نفس المصدر السابق 1: 36.
159

بل الامر قد تعلق بعنوان معلوم ولو بأنه مبدأ للأثر الكذائي، فلا بد من
اليقين بالفراغ منه، بخلاف ما ذكرنا كما عرفت.
وبما ذكرنا يتضح: أن لازم مذهب الصحيحي - بعد توجيهه بأن مراده
منه ما ينطبق على الموضوع له الصحيح بالحمل الشائع في الوجود
الخارجي - هو تصور الموضوع بعنوان لا ينفك عن الصحة في
الخارج، فلا محالة بعد تعلق الامر بذلك العنوان - على أي نحو فرض
-
يكون الأصل عند الشك فيه هو الاشتغال لما ذكرنا آنفا، كان العنوان
بسيطا قابلا للنقص والكمال والزيادة والنقصان أولا لأنه مع
الشك في الجز أو الشرط يكون الشك في تحقق المتعلق، ومعه لا
يمكن إحراز الفرد الملازم للصحة.
فيسقط ما ذكره بعضهم - من جريان البراءة، قائلا: إن المأمور به إذا كان
بسيطا ذا مرتب، يتحقق بعض مراتبه بتحقق بعض الأمور
المحصلة له، وشك في دخل شي آخر في تحقق مرتبته العليا، لكان
موردا للبرأة (1) - لان ذلك خروج عن مذهب الصحيحي لأنه مع
الشك في دخالة مرتبة من العنوان في المأمور به لا يعقل القطع بتحقق
المسمى المأمور به على وصف الصحة، ومع إحراز تحقق بعض
مراتبه والشك في صحته يكون المسمى - لا محالة - أعم من
الصحيح.
فتحصل مما ذكرنا: صحة جعل القول بالبرأة والاشتغال ثمرة للقول
بالأعم والصحيح.

(1) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 123 - 124.
160

نعم لو قلنا بأن ألفاظ العبادات وضعت بإزاء الماهية الجامعة لجميع
الاجزاء والشرائط، وإطلاقها على غيرها بعناية وعلاقة، كان
لجريان البراءة مجال، لكنه بعيد غايته.
كما أنه لو قيل: إن الموضوع له هو هذه العناوين أو ما يلازمها اقتضاء،
لكان لجريانها وجه (1) لكنه خروج عن مذهب الصحيحي.
في صحة التمسك بالاطلاق على الأعم:
وتظهر الثمرة بين القولين - أيضا - بصحة التمسك بالاطلاق على
الأعم دون الصحيح.
والاشكال تارة: بأنه ليس في الكتاب والسنة إطلاق في مقام البيان
حتى يثمر النزاع (2)، وأخرى: بأن المأمور به هو الصحيح على
القولين، والاخذ بالاطلاق بعد التقييد أخذ في الشبهة المصداقية (3).
مردود ضرورة مجازفة الدعوى الأولى كما يظهر للمراجع.
وأما ما قيل من كفاية الثمرة الفرضية للمسألة الأصولية (4)، فهو

(1) لكن التحقيق: عدم جريانها على جميع المسالك على الصحيح، و
تجري على جميع المسالك على الأعم لأنه على المسلكين لا بد من
إتيان المسمى يقينا، ولا يحصل ذلك إلا بإتيان المشكوك فيه على
الصحيح دون الأعم، كما لا يخفى. (منه قدس سره).
(2) مطارح الانظار: 10 سطر 25 - 32، نهاية الأفكار 1: 96.
(3) مطارح الانظار: 9 / سطر 34 - 35، أجود التقريرات 1: 46، فوائد الأصول 1: 78.
(4) أجود التقريرات 1: 45، بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 129
161

كما ترى.
وأما الدعوى الثانية ففيها: أن الأوامر متعلقة بنفس العناوين على
الأعم، ولا ينافي تقيدها بقيود منفصلة، فإذا ورد مطلق في مقام البيان
نأخذ بإطلاقه، ما لم يرد مقيد، ونحكم بصحة المأتي به، وأما توهم
تعلقها بعنوان الصحيح أو ما يلازمه، ففي غاية السقوط.
وأما ما قيل في جوابه: من أن المخصص لبي غير ارتكازي، وفي مثله
يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية (1)، ففيه منع لعدم الفرق
بين اللبي الغير الارتكازي واللفظي المنفصل في عدم جواز التمسك و
سقوط أصالة الجد لدى العقلا، والتحقيق موكول إلى محله (2).
في الاستدلال للصحيحي والأعمي:
في حال التبادر:
إذا عرفت ذلك، فقد تمسك كل من الصحيحي (3) والأعمى (4) بالتبادر
وغيره.
والعمدة هو التبادر، لكن دعواه للصحيح محل إشكال لان معنى
التبادر هو فهم المعنى من اللفظ، ولا يمكن أن يتبادر منه أمر زائد عن الموضوع له

(1) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 130.
(2) يراجع بحث العام والخاص المخصص اللبي.
(3) هداية المسترشدين: 101 - 105، الفصول الغروية: 46 - 47، الكفاية 1: 43 - 46.
(4) قوانين الأصول 1: 44 / سطر 2 - 3، درر الفوائد 1: 22.
162

من اللوازم الذهنية أو الخارجية للمعنى لعدم كونها معناه، نعم بعد
تبادر نفس المعنى ينتقل الذهن إلى لوازمه ولوازم لوازمه، وقد
ينتقل الذهن بواسطة جهات وأنس ذهني من المعنى إلى مصاديقه و
لوازمها الوجودية، بل إلى عوارضها الاتفاقية أحيانا.
فإذا كان الموضوع له للفظ الصلاة - مثلا - ماهية بسيطة مجهولة إلا
ببعض العناوين المتأخرة عن الموضوع له، كالناهي عن الفحشاء و
معراج المؤمن وغيرهما، فلا بد لمدعي التبادر أن يدعي تبادر نفس
المعنى من اللفظ مقدما على فهم تلك العناوين، سوأ كانت من
لوازم الماهية أو عوارض الوجود كما هو الحق فإن النهي عن الفحشاء
وغيره مما ذكر ليس من لوازم الماهية بالبداهة، ولا يمكن أن
يكون من آثار نفسها لعدم كونها منشأ للأثر، وإنما تلك الآثار من
وجودها الخارجي، كما أن الصحة والفساد من عوارضها الخارجية
أي عوارض وجودها.
فحينئذ يكون انتقال الذهن من لفظ الصلاة إلى ذات الموضوع له أولا،
وإلى مصاديقه ثانيا لأجل أنس الذهن، وإلى الصحة ثالثا بواسطة
الارتكاز العقلائي، وكذا إلى تلك العناوين بعد معرفية الشارع في
الرتبة المتأخرة أو الان المتأخر عن تبادر المعنى الموضوع له، فلا
يمكن أن تكون تلك العناوين مطلقا معرفة للمعنى لتصحيح التبادر
لتأخر رتبتها بمرتبة أو مرتبتين عنه، فحينئذ يبقى الموضوع له
مجهول العنوان والحقيقة في وعاء التبادر، فلا يمكن تبادر المجهول
المطلق.
163

واللوازم والعوارض وإن كانت من معرفات الشئ إنا، والشي يعرف
بمعاليله وآثاره وعوارضه، لكن لا يمكن أن تكون مصححة
للتبادر ومعرفة للمعنى لأجل تصحيحه لان فهم المعنى من اللفظ
سابق على فهم العناوين اللازمة للذات والعارضة للوجود.
فدعوى التبادر للصحيحي مما لا مصحح معقول لها، فما يتخيل أنه
يتبادر من لفظ الصلاة وهو الصحيحة منها فاسد، منشؤه الخلط بين
تبادر المعنى الذي لا يتصف بالصحة والفساد في مرتبة ذاته وماهيته،
وبين فهم الأمور الخارجة عن فهم المعنى مما هو من عوارض
المصاديق لأجل أنس الذهن، فتدبر.
في صحة السلب:
ومما ذكرنا يتضح الاشكال على صحة السلب عن الفاسدة لان
المدعي:
إما صحة سلب المعنى مع معرفيته بتلك العناوين المتأخرة وجودا و
علما، أولا. وكلاهما باطلان:
أما الثاني فواضح لان سلب المعنى المجهول مما لا محصل له.
وأما الأول فمصادرة لان مرجع صحة سلب ما هو معراج المؤمن
الملازم للصحة الفعلية إلى صحة سلب الصلاة الصحيحة عن الفاسدة،
و
هو أمر واضح، لكن لا تدل على أن المسمى هو الصحيحة، فسلب
نفس المعنى بما هو هو غير ممكن للجهل به، وسلب المعنى بمعرفية
هذه
العناوين غير مفيد،
164

فإنها معرفات الصحيحة، وللأعمى أن يدعي أن الصلاة المعرفة بهذه
العناوين قسم من المسمى.
ومن ذلك يعرف حال صحة الحمل الأولي، وأما الشائع فلا يفيد
أصلا.
في دفع الاشكال:
هذا، ويمكن أن (يدفع) أصل الاشكال بعد التنبه إلى مقدمة: وهي أن
وضع اللغات في جميع الألسنة لما كان على نحو التدريج حسب
الاحتياجات الماسة إليه، يشبه أن يكون - نوعا - من قبيل خصوص
الوضع وعموم الموضوع له بالمعنى الذي تقدم (1) من كون الخاص
ملحوظا حين الوضع ووضع اللفظ بإزاء الجامع الملحوظ بتبعه
إجمالا، عكس عموم الوضع وخصوص الموضوع له لان الانتقال حال
الوضع نوعا كان من بعض المصاديق إلى الجوامع بعنوان كونها جامعة
لها، من غير التفاوت إلى حقائقها وأجناسها وفصولها، فوضعت
الألفاظ بإزائها بمعرفية هذا العنوان.
فكلما عثر البشر على شي ورأى احتياجه إلى تسميته باسم، وضع
لفظا له من غير نظر إلى خصوصيته الشخصية، بل لجامعه وطبيعته
النوعية من غير اطلاع على جنسها وفصلها، بل بما أنه جامع بينه و
بين غيره من الافراد، لا لهذا العنوان، بل بمعرفيته لنفس الطبيعة
المعلومة بوجه.
ولو ادعى أحد القطع بأن ديدن الواضعين كان كذلك نوعا، خصوصا

(1) في صفحة: 59.
165

في المصنوعات والمخترعات، بل والطبائع التي اطلع البشر على
مصداقها في الأزمنة السابقة جدا، ووضع اللفظ لجامعها بنحو، لم يكن
مجازفا.
فإذا كان كيفية الوضع كذلك يمكن أن يكون التبادر وصحة السلب
كذلك أي بهذا المعنى الاجمالي، فيقال: يتبادر من لفظ الحنطة و
الشعير معنى إجمالي يعرف بأنه جامع لهما، فيدعي الصحيحي بأن
(الصلاة) بحسب ارتكاز المتشرعة يتبادر منه معنى إجمالي، هو
الجامع الذي لا ينطبق إلا على الافراد الصحيحة، كما أن الوضع كان
كذلك.
فالمتبادر من ألفاظ العبادات هو الجوامع المعلومة ببعض العناوين، لا
مثل ما ذكره المحقق الخراساني (1)، فإنها مغفول عنها حين سماع
لفظ الصلاة، بل مثل ما يكون جامعا للافراد الصحيحة على دعوى
الصحيحي، أو الأعم منها على الأعمي.
ثم إن ما ذكرنا هو تصحيح دعوى التبادر تصورا وثبوتا، وأما إثباتا فلا
إشكال في أن المتبادر من ألفاظ العبادات في عصرنا هو
نفس الطبائع بما هي، لا بما هي ملزومة اللوازم أو معروضة العوارض،
كما أن طريقة الواضع كذلك، فمن صنع السيارة وأراد تسميتها
باسم أشار إلى الشخص المصنوع الموجود بين يديه وسماه باسم، لا
بما أنه اسم لشخص خاص في زمان ومكان خاصين وغير ذلك
من المشخصات، بل يشير بالتوجه إليه إلى نفس الجامع من غير لحاظ
الخصوصيات من الصحة والفساد.

(1) الكفاية 1: 36.
166

والانصاف: أن إنكار تبادر نفس الطبائع في زماننا لا مجال له، كما أن
المراجع للاخبار والآثار يقطع بأن زمان الصادقين عليهما
السلام - عصر نشر الاحكام - كان كذلك، بل دعوى كون عصر النبي
صلى الله عليه وآله كذلك أيضا قريبة جدا.
في الاستدلال للأعم بصحة تعلق النذر:
وقد استدل للصحيح والأعم بأدلة غير تامة، لا داعي للتعرض لها إلا
لمورد واحد استدل به للأعم:
تقريره: أنه لا إشكال في صحة تعلق النذر بترك الصلاة في الأمكنة
المكروهة وحنث النذر بفعلها فيها، فلو كانت موضوعة للصحيحة
يلزم منه عدم قدرة المكلف على إتيانها، ومع عدم القدرة لا يمكن
توجه الامر بالوفاء بالنذر، فيلزم من صحة النذر عدم صحته (1).
ولا يخفى أن هذا الاشكال وارد على الأعمي أيضا فإن ما هو مكروه
في تلك الأمكنة هو الصلاة المكتوبة على المكلفين، لا الاتيان
بالصورة المعهودة، فما هو متعلق النذر هو هي، فحينئذ يرد الاشكال
عليه أيضا، فيكون أجنبيا عن نزاع الصحيحي والأعمي.
وأما دفع أصله، فالتحقيق فيه أن يقال: إن الامر بالصلاة تعلق بنفس

(1) قوانين الأصول 1: 51 / سطر 4 - 8، الفصول الغروية: 48 / سطر 28 - 32، مطارح
الأنظار: 16 / سطر 1 - 5، الكفاية 1: 48، درر الفوائد 1: 23.
167

الطبيعة من غير لحاظ الخصوصيات زمانية أو مكانية في متعلقه،
فوقوعها في الحمام والبيت والمسجد ليس بمأمور به، والامر
المتعلق
بعنوان لا يمكن أن يتجاوز منه إلى غيره، فخصوصية وقوعها في
الحمام غير مأمور به، وأما النهي التنزيهي فلم يتعلق بنفس الطبيعة
المتعلقة للامر، بل تعلق بإيقاعها في الحمام، فحينئذ يمكن أن يقال: إن
الصلاة صحيحة ومأمور بها، وإيقاعها في الحمام مكروه ومتعلق
النذر، فتصح صلاته ويحنث نذره. كذا أفاد شيخنا العلامة - أعلى الله
مقامه - في بحثه.
ولك أن تقول: إن الصلاة في الحمام بعد تعلق النذر بها ينطبق عليها
عناوين ثلاثة: عنوان الصلاة، وهو عنوان ذاتي لها، وهي مصداق
ذاتي له، وعنوان كونها في الحمام، وهو عنوان عرضي لها، وهي
مصداق بالعرض له، وعنوان كونها مخالفة للنذر، وهو - أيضا -
عنوان عرضي لها، وهي مصداق بالعرض له.
ولا منافاة بين تعلق الامر بذات الصلاة، والامر الآتي من قبل (أوف
بالنذر) فإن الثاني تعلق بعنوان الوفاء، والأول بعنوان ذاتها، فإذا
صلى في الحمام فعل ما هو مصداق تخلف النذر بالعرض، وهو
عنوان زائد على ذات الصلاة منطبق على مصداقها انطباقا عرضيا، فلو
فرض تعلق النذر بذات الصلاة في الحمام لم تصر محرمة، بل المحرم
عنوان تخلف النذر المنطبق عليها عرضا، فحينئذ كما لا يجتمع
الأمر والنهي والوجوب والحرمة في شي واحد، كذلك يمكن قصد
التقرب بذات
168

الصلاة الغير المحرمة وإن انطبق عليها عنوان محرم زائد على ذاتها،
تأمل. هذا حال العبادات.
في المعاملات:
وأما المعاملات فيتم الكلام فيها في ضمن أمور:
الأول: في عدم جريان النزاع على الوضع للمسببات:
إن المعروف عدم جريان النزاع بناء على وضعها للمسببات لان الامر
فيها دائر بين الوجود والعدم، لا الصحة والفساد (1) لأنهما أمران
عارضان على الماهية بعد وجودها أو على وجودها، وماهيات
المعاملات أمور اعتبارية متقومة به، فالشرع إما موافق للعرف فيها،
فتكون المعاملة العرفية بعد اجتماع شرائط تحققها محققة معتبرة عرفا
وشرعا، وعند عدم اجتماعها غير محققة ولا معتبرة، فلا معنى
للفساد فيها، وإما مخالف له كما في نكاح بعض المحارم والبيع
الربوي، فيرجع مخالفته إلى عدم اعتباره لها، وردعه إلى إعدام
الموضوع ونفي الاعتبار، فإن نفي الآثار مع اعتبار الموضوع مما لا
مجال له للزوم اللغوية باعتبار ما لا أثر له بوجه، ولو سلم جوازه
فمخالف لارتكاز المتشرعة لان نكاح المحارم غير واقع ولا مؤثر رأسا
عندهم كالبيع الربوي، فيدور أمر المعاملات المسببية بين
الوجود والعدم، لا الصحة والفساد.

(1) الكفاية 1: 49، درر الفوائد 1: 25، نهاية الدراية 1: 56 - 57.
169

إلا أن يقال: إن المعاملات المعتبرة عند العقلا لا يترتب عليها الآثار
في محيط التشريع، فباعتبار أنها محققة معتبرة لدى العرف ولا
يترتب عليها الآثار لدى الشرع يقال: إنها فاسدة، وأما مع لحاظ كل
محيط فالامر دائر بين الوجود والعدم.
وأما الالتزام بأن المسببات أمور واقعية كشف عنها الشارع، ويرجع
ردعه إلى عدم ترتيب الآثار - أي التخصيص الحكمي بعد تحقق
الامر الواقعي - فهو مقطوع الفساد.
وأما بناء على وضعها للأسباب فيجري النزاع فيها كالعبادات.
الثاني: في اختلاف الشرع والعرف في المقام:
بناء على كون الأسامي للصحيح من الأسباب يرجع اختلاف الشرع و
العرف إلى مفهومها، لا إلى المصاديق فقط كما التزم به في
الكفاية (1) لان الموضوع له إما العقد الصحيح بالحمل الأولي أو بالحمل
الشائع أي ما هو المؤثر خارجا، وهما واضحا البطلان، ولا أظنه
يلتزم بهما، فلا بد من القول بأنها وضعت لماهية إذا وجدت في
الخارج لا تنطبق إلا على الصحيح المؤثر، فحينئذ لا بد من الالتزام
بتضييق دائرة المفهوم حتى لا ينطبق إلا على المؤثر عنده، فإذا كان
الأثر مترتبا - مثلا - على الايجاب والقبول العربيين الوصول

(1) الكفاية 1: 49.
170

الماضويين مع تقدم الايجاب، ولدى العرف مترتبا عليهما مطلقا،
فيختلفان في المفهوم والماهية، ولا يعقل رجوع الاختلاف إلى
المصاديق مع الموافقة في المفهوم.
ومن ذلك يتضح أنه بناء على وضعها للأسباب الصحيحة يلزم إجمال
الخطاب وعدم جواز التمسك بالاطلاق لان ماهية ما هو المؤثر
لدى الشرع غير ما هو المؤثر لدى العرف، فإذا احتمل دخالة قيد أو
شرط فيها يرجع ذلك إلى الشك في الموضوع فتصير الشبهة
مصداقية، بخلاف ما إذا كانت أسامي للأعم أو للصحيح عرفا، فإنه
على الأول يؤخذ بالاطلاق بعد صدق الأعم، ويرفع الشك به حتى
بالنسبة إلى الشرائط العرفية على فرضها، وعلى الثاني يرفع الشك
بالنسبة إلى الشرائط الشرعية بعد إحراز الموضوع العرفي، فما
أفاده المحقق الخراساني (1) مما لا مجال لتصديقه.
الثالث: في حال التمسك بالاطلاق لو كانت الأسامي للمسببات:
قد يقال: بناء على كون الأسامي للمسببات يشكل الامر في التمسك
بالاطلاق، لان المسبب أمره دائر بين الوجود والعدم لا الصحة و
الفساد (2) كما عرفت. فحينئذ لو التزمنا بأن الأدلة الرادعة ترجع إلى نفي الآثار

(1) الكفاية 1: 50.
(2) بدائع الأفكار: 159 / سطر 4 - 6.
171

والتخصيص الحكمي، جاز التمسك بأدلة الامضاء للمسببات
المعتبرة بنظر العرف، فنأخذ بها حتى يرد دليل على الردع الراجع إلى
عدم
ترتيب الأثر على ما لدى العرف، ومع الشك في التقييد أو التخصيص
كان المرجع هو الاطلاق أو العموم، لكن التخصيص الحكمي مع
إمضاء الموضوع موجب للغوية ومخالف لارتكاز المتشرعة - كما
أشرنا إليه - فلا يمكن التزامه، فلا بد من الذهاب إلى رجوع الردع
إلى التخصص ورفع الموضوع وعدم اعتبار المسبب، فيشكل
التمسك بالاطلاق والعموم لدى الشك.
فإن قلت: بناء على كون الأسامي للمسببات لا يكون العرف والشرع
مختلفين في المفهوم، فإن مفهوم البيع لدى الكل هو المبادلة بين
المالين، والإجارة نقل المنفعة بالعوض. وهكذا، وإنما يرجع ردع
الشارع إلى عدم اعتبار المصداق وإعدام الموضوع، فعدم صدق
البيع على الغرري ليس لأجل تضييق في مفهوم المسبب، بل لعدم
تحقق المصداق بعد التخصيص الراجع إلى التخصص، فحينئذ لا مانع
من
التمسك بالاطلاق إلا مع إحراز التخصيص الكذائي، ومع الشك
تكون الحجة على العنوان قائمة لا ترفع اليد عنها إلا بالدليل.
قلت: التمسك بالاطلاق إنما ينتج إذا انطبق العنوان على المصداق و
لم يكن إجمال في الصدق، ومع الشك في اعتبار الشارع يشك في
الصدق، فلا ينتج الاطلاق.
وبعبارة أخرى: إذا رجع ردع الشرع إلى إعدام الموضوع، فمع إيقاع
البيع
172

المحتمل للردع عنه يشك في تطبيق عنوان البيع المأخوذ في دليل
الامضاء عليه ولو من جهة الشك في الاعدام وعدم الاعتبار لأنه مع
تكون الشبهة مصداقية.
هذا، لكن التحقيق جواز التمسك بإطلاق أدلة الامضاء، لأنها محمولة
على المعاني العرفية جارية على مصاديقها، كما هو الامر في جميع
الخطابات التي لها مصاديق عرفية، وأدلة الردع مخصصة حكما لأدلة
الامضاء لعدم إمكان التصرف فيها إلا بالتخصيص، فإن التصرف
في موضوعها غير ممكن لرجوعه إلى إعدام اعتبار العرف، وهو ليس
في قدرة التشريع، وعدم اعتبارها في محيط التشريع - كما
أشرنا إليه آنفا، وقلنا: إنه موافق لارتكاز المتشرعة - غير مربوط
بالتصرف في أدلة الامضاء، فالأخذ بأدلته مع الشك في التخصيص و
التقييد كسائر موارد الشك فيهما.
مضافا إلى إمكان التمسك بالاطلاق المقامي ولو في الشبهة
المصداقية لكشف حال الموضوع كما قيل (1)، وإن لا يخلو من إشكال و
بحث، فالمعول عليه الاطلاق اللفظي، فتدبر.
ثم إنه لو كانت الأسامي للأسباب فلا إشكال في كونها للأعم للتبادر، و
لما عرفت من كيفية الوضع (2)، وإن كان الأرجح كونها
موضوعة للمسببات أي لنفس التبادل الحاصل بالأسباب، لا للأسباب
المحصلة له،

(1) نهاية الأفكار 1: 100.
(2) راجع الصفحة: 165 - 166 من هذا الجزء.
173

ولا للنتيجة التي هي صيرورة المبيع ملكا للمشتري والثمن للبائع
ضرورة أن الأخير ليس بيعا ولا غيره، والأول منهما وإن كان
محتملا لكن التبادر يساعد على ما ذكرناه، تأمل (1)
الرابع: في تصوير جز الفرد في المركبات الاعتبارية:
لا إشكال في إمكان دخل شي وجودي - تارة بنحو الشرطية، و
أخرى بنحو الشرطية - في ماهية المأمور به، وأما الشئ العدمي فلا
يمكن إلا أن يرجع إلى دخالة شي وجودي، وإلا فالعدم بما هو لا
تأثير فيه بوجه.
إنما الكلام في تصوير جز الفرد وشرطه في المركبات الاعتبارية
كتصويرهما في الماهيات الحقيقية والمركبات التحليلية، فإن
الماهيات الحقيقية لما وجدت بالوجود وتشخصت به، تتحد معها
جميع لوازم الماهية وعوارضها وعوارض الوجود، فإن حقيقة الوجود
(تدور) مدار الوحدة وجمع الكثرات بنحو الوحدة والبساطة مع عدم
انثلام وحدتها، فالفرد الخارجي بجميع خصوصياته عين الماهية
وجودا، فصح فيها تصور مقومات الماهية وأجزأ الفرد.
وأما الماهيات الاعتبارية لما كانت غير متحققة في الخارج حقيقة، بل
التحقق للاجزاء، ومجموع الاجزاء ليس له وجود إلا اعتبارا،
فتصور علل

(1) وجهه: أن تقسيمها إلى الصحيحة والفاسدة بلا تأول، آية على كونها
موضوعة للأسباب لا المسببات. منه عفي عنه.
174

القوام فيها لا مانع منه.
وأما تصوير جز الفرد فقد يستشكل فيه: بأن كل ما وجد في الخارج
غير أجزأ الماهية يكون موجودا بحياله، وله تشخص خاص به
غير بقية الأجزاء، فلا يكون لماهية المركب وجود حقيقي يجمع
الكثرات، فلا يتصور فيها جز الفرد في قبال الجز المقوم للماهية، و
لو
اعتبر مجموعها باعتبار على حدة يكون ماهية اعتبارية أخرى، ويكون
المصداق الخارجي - أي مجموع الاجزاء - مصداقا لتلك الماهية،
والاجزاء بلا هذه الزيادة مصداقا للماهية الأولى، فلا يصير المجموع
مع الزيادة فردا للمجموع بغيرها (1).
والتحقيق أن يقال: إن لبعض المركبات الغير الحقيقية هيئة خاصة
يكون المركب متقوما بها كما عرفت (2) في تصوير الجامع، فالقصر و
الدار حقيقتهما متقومة بهيئة ما لا بشرط، لا تتحقق في الخارج إلا
بوجود مواد على وضع خاص.
فحينئذ نقول: كل ما له هيئة قائمة بأجزاء يكون حسن الهيئة وتفاضلها
فيه باعتبار التناسب الحاصل بين الاجزاء، فالحسن أينما حل
يكون مرهون التناسب، فحسن الصوت والخط عبارة عن تناسب
أجزائهما، فلا يقال للشعر: حسن، إلا إذا تناسبت جمله، ولا للدار إلا
إذا
تناسبت مرافقها وغرفاتها، فربما تكون غرفة في دار توجب حسنها لايقاعها

(1) نهاية الدراية 1: 61 / سطر 12 - 21.
(2) وذلك في الصفحة: 156 من هذا الجزء.
175

التناسب بين الاجزاء.
فالصلاة ليست نفس الأجزاء بالاسر، بل لها هيئة خاصة لدى
المتشرعة زائدة على الاجزاء، فيمكن أن يكون تفاضل أفرادها لأجل
تفاضل
التناسب بين أجزائها، وإن كان فهم التناسب بين أجزائها غير ميسور
لنا، فلا يبعد أن يكون للقنوت دخالة في حسن الهيئة الصلاتية،
فيوجد المصداق معه أحسن صورة منه مع فقدانه مع عدم دخالته في
تحقق الماهية، وهذا واضح لدى التأمل في الأشباه والنظائر.
ثم إنه قد أشرنا سابقا (1) إلى الموضوع له في الصلاة فلا نعيده، والظاهر
خروج الشروط قاطبة عنه، فراجع.

(1) في الصفحة: 157 من هذا الجزء.
176

الأمر الثاني عشر في الاشتراك
الحق إمكان الاشتراك ووقوعه في الجملة. وربما قيل بامتناعه (1) لان
الوضع جعل اللفظ مرآة للمعنى وفانيا فيه، ولا يمكن أن يكون
شي واحد مرآة لشيئين وفانيا في اثنين.
وفيه: منع كون الوضع إلا جعل اللفظ للمعنى وتسمية المعنى باسم، و
أما فنأ اللفظ في المعنى فأمر غير معقول، كما يأتي في المبحث الآتي (2).
وما قيل في جوابه: - بأن الوضع يوجب استعداد اللفظ للمرآتية و
بالاستعمال يصير فعليا (3) - إن كان مراده صيرورة اللفظ فانيا في المعنى

(1) ذكر هذا التقرير في بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 144.
(2) صفحة: 184.
(3) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 145.
177

فسيجئ بطلانه (1)، وإن كان صيرورته فانيا في لحاظ المتكلم أي آلة
للحاظ المعنى وملحوظا به لا فيه، فصيرورة اللفظ مرآتين كذلك
مما لم يقم على امتناعه برهان كما سيمر عليك (2)
وربما يقرر الامتناع: بأن الوضع عبارة عن جعل الملازمة الذهنية بين اللفظ والمعنى
أو عما يستلزمها، فحينئذ يلزم منه عند تصور اللفظ انتقالان مستقلان
دفعة واحدة، وهو محال (3).
وفيه: أنه إن كان المراد بالاستقلال عدم انتقال آخر معه فلا نسلم أن
يكون لازم الوضع هو الاستقلال، وإن كان المراد به هو الانتقال
الاستقلالي في مقابل الانتقال إلى معنى واحد منحل إلى اثنين،
كمفهوم اثنين حيث يكون الانتقال إلى الواحد في ضمنه، فلا نسلم
امتناعه،
بل يكون واقعا كما سيتضح (4) لك. (5)
فالحق عدم امتناعه وعدم وجوبه، بل إمكانه ووقوعه في الجملة،
ضرورة أنا نرى في لساننا ما يكون كذلك بحكم التبادر، لكن لا
طريق لنا إلى كيفية تحققه، فيحتمل قريبا أن يكون من تداخل اللغات
كما احتمل ذلك في

(1) في المبحث الآتي.
(2) في المبحث الآتي أيضا صفحة: 184.
(3) تشريح الأصول: 47 / سطر 19 - الأخير.
(4) وذلك في صفحة: 180 وما بعدها. (5) مضافا إلى منع لزومه إلا إذا استعمل في معنيين، وإلا فمع
الاستعمال في أحدهما وإقامة القرينة فلا يلزم الانتقالان. (منه قدس
سره)
178

الترادف أيضا (1)، ويحتمل أن يكون لحدوث الأوضاع التعينية
بالاستعمال فيما يناسب المعاني، إلى غير ذلك.

(1) أجود التقريرات 1: 51.
179

الأمر الثالث عشر في استعمال اللفظ في أكثر من معنى
الحق جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
ومحل البحث وما ينبغي أن يكون مورد النقض والابرام هو أنه: هل
يجوز أن يستعمل اللفظ الواحد في المتعدد بأن يكون المستعمل فيه
والمعنى الملقى إلى السامع متعددا؟ والظاهر أن هذا مرادهم من
الاستقلال والانفراد، فعليه يخرج عن محل البحث ما إذا استعمل في
معنى واحد ذي أجزأ أو ذي أفراد.
وذهب إلى امتناعه عقلا كثير من المحققين (1)، وإلى عدم جوازه لغة
بعضهم (2). وما يكون وجها للامتناع أمور:

(1) الكفاية 1: 54، مقالات الأصول 1: 48 / سطر 3 - 4، أجود التقريرات 1: 51.
(2) بدائع الأفكار: 163 / سطر 21 - 24.
180

الأول: ما ذكره المحقق الخراساني (1) رحمه الله وتبعه بعضهم (2):
من لزوم اجتماع اللحاظين الأليين في اللفظ، وهو محال.
ويمكن بيان الملازمة بوجهين:
أحدهما: ما يظهر منه، وهو أن الاستعمال هو جعل اللفظ فانيا في
المعنى، فيكون لحاظه تبعا للحاظه، فإذا استعمل في المعنيين يكون
تبعا لهما في اللحاظ، فيجتمع فيه اللحاظان التبعيان الأليان (3).
ثانيهما: أن في كل استعمال لا بد من لحاظ اللفظ والمعنى ضرورة أنه
مع الذهول عن واحد منهما لا يمكن الاستعمال، ففي الاستعمال في
معنيين لا بد من لحاظهما ولحاظ اللفظ مرتين، فاجتمع اللحاظان
الأليان فيه.
وبيان استحالة اجتماعهما فيه: هو أن تشخص الملحوظ بالذات إنما
هو باللحاظ، كما أن تعين اللحاظ بالملحوظ، فإذا اجتمع اللحاظان
في شي واحد يلزم أن يكون الشئ شيئين والموجود موجودين.
وبعبارة أخرى: أن العلم والمعلوم بالذات شي واحد ذاتا، ولحاظ
الشئ هو العلم به، وتعلق العلمين بمعلوم واحد مستلزم لكون
الواحد
اثنين والمعلوم معلومين.
ومنه يتضح عدم إمكان الجمع في الملحوظ بالعرض لأنه تابع
للملحوظ

(1) الكفاية 1: 54.
(2) أجود التقريرات 1: 51، مقالات الأصول 1: 47 - 48.
(3) الكفاية 1: 54 - 55.
181

بالذات في اللحاظ، فيلزم من اجتماع اللحاظين في الملحوظ بالذات
كون الملحوظ بالعرض معلوما في حال واحد مرتين ومنكشفا في
آن واحد انكشافين، وهو محال.
والجواب: هو منع الملازمة: أما على التقرير الأول: فلان المراد من
تبعية لحاظ اللفظ للمعنى إن كان بمعنى أن المتكلم يتصور المعنى
فينتقل منه إلى اللفظ، فلا نسلم أنه يجب أن ينتقل من تصور المعنيين
انتقالين مستقلين إلى اللفظ، بل ينتقل منهما إليه انتقالا واحدا،
كالانتقال من اللازمين لشئ واحد إليه، وكون الانتقال إلى الملزوم غير
آلي لا يوجب الفرق. هذا حال المتكلم.
وأما السامع فيكون انتقاله من اللفظ إلى المعنى وإن كان اللفظ آليا
منظورا به والمعنى مقصودا بالذات ومنظورا فيه، لكنه في هذا
الانتقال يكون المعنى تبعا متأخرا، فالسامع يسمع اللفظ ويحضر هو
في نفسه، ويدركه وينتقل منه إلى المعنى، ولا يعقل أن ينتقل إلى
المعنى قبل اللفظ، كما أن الناظر إلى الكتاب يدرك المكتوب أولا، و
منه يدرك المعنى وإن كان الأول آلة للثاني. فكما إذا سمعنا من
متكلمين دفعة لفظا ننتقل منه إلى معناه بالضرورة، ولا يلزم منه الجمع
بين اللحاظين المستقلين في المعنى، فكذلك في ناحية اللفظ.
وبالجملة: لا يلزم من تبعية الانتقال جمع اللحاظين والانتقالين في
اللفظ، كما لا يلزم في المعنى في المثال.
182

وإن كان المراد من التبعية سراية اللحاظ من المعنى إلى اللفظ، حتى
يكون في الاستعمال في المعنيين سرايتان، فهو ممنوع بل غير
معقول، للزوم انقلاب اللحاظ الاستقلالي، آليا.
وإن كان المراد أن اللفظ ملحوظ ثانيا وبالعرض حتى يكون لحاظ
واحد يستند إلى المعنى بالذات وإلى اللفظ بالعرض، فهو - مع
كونه خلاف الواقع وخلاف المفروض - لا يلزم منه اجتماع اللحاظين
لعدم اللحاظ في اللفظ حقيقة.
وأما على التقرير الثاني فلان غاية ما يكون لازما في الاستعمال أن لا
يكون اللفظ غير ملحوظ مطلقا ولو آليا، وأما لزوم ملحوظيته
في كل استعمال لحاظا على حدة فلم يدل عليه دليل، فجعل اللفظ آلة
لافهام المعنيين هو استعماله فيهما، ولا بد من لحاظ اللفظ آليا في
هذا الاستعمال، ولا يلزم منه اللحاظان ألا ترى أن قوى النفس
كالباصرة والسامعة آلات لادراكاتها، وتدرك بها المبصرات، وقد
تبصر الشيئين وتسمع الصوتين في عرض واحد، ولا يلزم منه أن
يكون للالة حضوران لدى النفس؟ الثاني من وجوه الامتناع: أن
الاستعمال هو جعل اللفظ بكليته قالبا للمعنى، ولا يمكن أن يكون مع
ذلك قالبا لمعنى آخر للزوم كون شي واحد شيئين (1).
وفيه: أن الاستعمال ليس إلا جعل اللفظ آلة لإفادة المعنى، فإن كان هذا

(1) حاشية المشكيني على الكفاية 1: 54 - 55.
183

هو المراد من جعله قالبا وفانيا ومرآة ووجها وعنوانا للمعنى إلى غير
ذلك من التعبيرات، فلا دليل على امتناع كون شي واحد قالبا
لشيئين أو فانيا فيهما، أي يكون اللفظ منظورا به والمعنيان منظورا
فيهما، وإن كان المراد شيئا آخر فلا بد من بيانه ووجه امتناعه.
وأما فنأ اللفظ بحسب وجوده الواقعي في المعنى بحيث لا يبقى
واقعا إلا شيئية المعنى فهو أمر غير معقول لان اللفظ له فعلية، وما كان
كذلك لا يمكن أن يفنى في شي، وما قرع بعض الأسماء من الفناء
في بعض الاصطلاحات (1) فهو أمر موكول إلى أهله، غير مربوط بمثل
المقام.
الثالث: أن حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللفظ لان
اللفظ وجود حقيقي لطبيعي اللفظ بالذات، ووجود تنزيلي للمعنى
بالجعل والتنزيل، وحيث إن الموجود الخارجي بالذات واحد فلا
مجال لان يقال: بأن وجود اللفظ وجود لهذا المعنى خارجا ووجود
آخر لمعنى آخر حيث لا وجود آخر ينسب إلى الاخر بالتنزيل (2).
وفيه: أن هذا أشبه بالخطابة من البرهان فإن معنى كون اللفظ وجودا
للمعنى أنه لفظ موضوع له ولا يلزم من وضعه للمعنيين أو
استعماله فيهما كونه موجودين وله وجودان.

(1) تعليقات على فصوص الحكم: 47.
(2) نهاية الدراية 1: 64 / سطر 8 - 12.
184

وإن شئت قلت: كون شي واحد وجودا تنزيليا لألف شي مما لا
مانع منه ولا يلزم منه التكثر في الوجود الواقعي.
وأما ما قيل (1) في وجه الامتناع: من استحالة تصور النفس شيئين و
استحالة كون اللفظ علة لحضور المعنيين في الذهن لامتناع صدور
الكثير من الواحد ففيه ما لا يخفى مع قيام الضرورة بجواز تصور شيئين
معا وإلا لصار التصديق والحكم بكون شي شيئا أو لشئ
ممتنعا ودلالة اللفظ على المعنى ليست من قبيل صدور شي عن
شي وهو واضح.
ثم إنه قد فصل بعض محققي العصر (2) رحمه الله بين ما إذا كان
الاستعمال في أكثر من معنى بنحو يكون كل واحد من المعنيين
ملحوظا
بلحاظ خاص به فاختار فيه الامتناع وقرر وجهه بما قرره المحقق
الخراساني (3) وقد مر الجواب عنه وبين ما إذا كان الاستعمال في
المعنيين بلحاظ واحد بنحو يكون اللفظ حاكيا عن مفهومين ملحوظين
بلحاظ واحد فاختار الجواز فيه.
ولا يخفى ما فيه فإن وحدة اللحاظ إن رجعت إلى لحاظ المعنيين
بعنوان واحد واستعمال اللفظ فيه فهذا ليس محل النزاع قطعا كما
اعترف به أيضا (3).

(1) نسبه إلى المحقق النائيني في " محاضرات في أصول الفقه " 1: 206.
(2) نهاية الأفكار 1: 106 - 108.
(3) الكفاية 1: 54.
(4) نهاية الأفكار 1: 104 - 106
185

وإن كان المراد أن المعنيين - مع كون كل واحد منهما ملحوظا و
مستعملا فيه - يكونان ملحوظين بلحاظ واحد كما هو ظاهر كلامه.
ففيه: أن اللحاظ والملحوظ هو العلم والمعلوم وكثرة المعلوم تستتبع
كثرة العلم فلا يمكن أن يكون الملحوظ بما هو ملحوظ متعددا و
اللحاظ واحدا للزوم موجودية المتكثر بما هو متكثر بوجود واحد فإن
لحاظ الشئ هو وجوده في الذهن ففرض كون الشيئين
موجودين في الذهن مع وحدة اللحاظ فرض توحيد الكثير مع كثرته.
نعم يمكن أن توجد عناوين كثيرة بوجود واحد لكنه غير مربوط
بما نحن فيه.
فتحصل مما ذكر: أن هذا التفصيل مما لا وجه له كما أن القول بالامتناع
- أيضا - كذلك. هذا مع وقوعه في كلمات الشعراء والبلغاء.
وأما المنع من قبل الواضع (1) أو الوضع (2) فجوابه واضح لا يحتاج إلى
التطويل.

(1) تشريح الأصول: 48 - 49.
(2) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 163 / سطر 21 - 23.
186

الأمر الرابع عشر في المشتق
اختلفوا في أن المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ في
الحال (1) أو الأعم منه ومما انقضى عنه (2). وقبل تحقيق المقام لا بد من
تقديم أمور:
الأول: في كون النزاع لغويا:
لا إشكال في أن النزاع في المشتق إنما هو في أمر لغوي أي في أن لفظ
المشتق هل وضع للمتلبس الفعلي أو الأعم منه؟ لا في أمر عقلي
ضرورة عدم احتمال أحد أن من كان عالما في زمان وانقضى عنه
المبدأ يكون بحكم العقل صادقا عليه عنوان العالم فلو لم يكن وضع لم يحتمل أحد تحقق

(1) قوانين الأصول 1: 76 / سطر 8 - 9، هداية المسترشدين: 88 / سطر 25 - 38،
تقريرات الشيرازي 1: 263، فوائد الأصول 1: 120.
(2) مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 67، إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد 3:
52.
187

حقيقة في ظرف عدمها.
فما ذكره بعضهم (1) في وجه الخلاف من ابتنائه على اختلاف نظرهم
في حمل المواطاة والاشتقاق كما ذكره بعض الأعاظم (2) في سر
اتفاقهم على المجاز في المستقبل وسر عدم جريان النزاع في أسماء
الذوات من الأجناس والأنواع والاعلام مما يظهر منه أن النزاع
عقلي ليس على ما ينبغي كما يأتي الكلام فيه (3).
الثاني: في العناوين الداخلة في محل النزاع:
إن العناوين الجارية على الذوات لا تخلو:
إما أن تكون منتزعة من نفسها من غير دخالة شي مطلقا كالذاتيات
المنتزعة منها ومنها عنوان الوجود والموجود بالنسبة إلى نفس
الوجودات الخارجية وبالجملة: كل عنوان بالقياس إلى مصداقه
الذاتي أو كمصداقه الذاتي.
وإما أن تكون منتزعة باعتبار شي وجودي كالعالم والأبيض أو
اعتباري كالامكان فإنه غير منتزع من نفس الذات بما هي بل
باعتبار تساوي نسبتي الوجود والعدم إليها وكالملكية والزوجية
والرقية وأمثالها أو باعتبار

(1) هو المحقق الطهراني - رحمه الله - في " محجة العلماء " كما في نهاية الدراية 1: 69 /
سطر 4 - 11.
(2) فوائد الأصول 1: 82 - 84.
(3) وذلك في صفحة: 189 وما بعدها.
188

أمر عدمي كالامكان لو قلنا بأنه سلب الضرورتين عن الذات سلبا
تحصيليا وكالأعمى والأمي.
ثم إن العنوان قد يكون ملازما للذات خارجا أو خارجا وذهنا وقد لا
يكون كذلك كالمفارقات من الاعراض. وأيضا قد تكون
العناوين من المشتقات كالناطق والممكن والموجود وقد لا تكون
كالانسان والماء والنار والزوج والرق.
لا إشكال في عدم جريان النزاع في العناوين الغير الاشتقاقية الصادقة
على الذوات بذاتها كالماء والنار والانسان والحيوان لا لما
ذكره بعض الأعاظم رحمه الله: من أن شيئية الشئ بصورته لا بمادته
فإذا تبدل الانسان بالتراب لم يبق ملاك الانسانية والمادة الباقية
ليست متصفة بالإنسانية (1) في وقت لان ذلك منقوض بمثل الخل و
الخمر والماء والجمد مما يرى العرف بقاء الذات وتغيرها في
الصفات.
مع أن البحث ليس عقليا حتى يأتي فيه ما ذكر وإلا فمع انقضاء المبدأ
لم يبق ملاك الاتصاف بالضرورة ومجرد الاتصاف في وقت لا
يصح الملاك ومع لغوية النزاع فلم لا يجوز أن يوضع لفظ الكلب -
مثلا - للهيولي الثانية المتلبسة بصورة الكلب في زمان وإن زال
عنوانه وبقيت الهيولي مع صورة أخرى؟ ألا ترى أن العرف والعقل
متفقان على أن الملح المنقلب إليه كان كلبا وصار ملحا.

(1) أجود التقريرات 1: 53، فوائد الأصول 1: 83 - 84.
189

فعدم الجريان فيها ليس لما ذكره بل لتسالم العرف وأهل اللغة على
كونها موضوعة لنفس تلك العناوين لا للذات المتلبسة بها ولو في
وقت بخلاف المشتقات فإنها محل بحث وكلام.
ولا ينبغي الاشكال في جريان النزاع في المشتقات - سوأ كانت
منتزعة من نفس الذات كالموجود من الوجود أو لا وسواء كان المبدأ
لازم الذات بحيث تنفي بانتفائه كالممكن أو مقوما للموضوع
كالموجود بالنسبة إلى الماهية أو لا - لان محل النزاع في المشتق هو
الهيئات ووضعها نوعي من غير لحاظ كل مادة مادة معها فزنة الفاعل
وضعت نوعيا للاتصاف الخاص - مثلا - من غير نظر إلى المواد
كل برأسها ومن غير أن تكون في كل مادة موضوعة على حدة ومن
غير نظر إلى خصوصيات المصاديق.
فالقول بأن مثل الناطق والضاحك والممكن والموجود خارج عن
محل البحث لان تلك العناوين ليس لها معنون باق بعد انقضاء المبدأ
عنه (1) - بعيد عن الصواب لان محل النزاع زنة الفاعل والمفعول و
غيرهما من المشتقات.
وأما العناوين العرضية التي تنتزع من الذات باعتبار أمر وجودي أو
اعتباري أو عدمي مما ليست اشتقاقية فميزان جريان البحث فيها
هو جواز بقاء الذات مع انقضاء المبدأ فيما إذا كان الوضع شخصيا

(1) أجود التقريرات 1: 52 - 53.
190

ومطلقا فيما إذا كان نوعيا كهيئة الانتساب مثل الحمامي والسلماني و
الطهراني وأمثالها.
كلام الفخر في الرضاع:
والدليل على جريان النزاع في مثل تلك العناوين الغير المشتقة: ما
حكي عن فخر المحققين (1) والشهيد (2) في مسألة من كانت له
زوجتان

(1) إيضاح الفوائد 3: 52.
فخر المحققين: هو فخر الاسلام محمد بن الحسن بن يوسف الحلي
المكنى بأبي طالب والملقب بفخر الدين وفخر المحققين. ولد في
عام
(682 ه) وتربى في كنف والده العظيم ودرس على يديه حتى صار
من وجوه الطائفة وكبار فقهائها وكان عظيم البر بوالده وكان
والده عظيم الحب والتبجيل له حتى كان يهدي ثواب بعض تصانيفه
له وكان يطلب منه تتميم بعض كتبه التي لم يتمها إشارة منه بنبوغ
ولده البار. وتلمذ على يديه الفقيه الأكبر الشهيد الأول رحمه الله. له
كتب عديدة أشهرها (إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد)
توفي رحمه الله سنة (771 ه).
انظر نقد الرجال: 352 أمل الآمل 2: 260 روضات الجنات 6: 330.
(2) مسالك الأفهام 1: 379 - سطر 32 - 41. الشهيد: هو الشيخ زين
الدين بن علي بن أحمد الجبعي العاملي المعروف بالشهيد الثاني كان
من أفاضل المتأخرين وكمل المتبحرين ومفتي طوائف المسلمين.
ولد سنة (911 ه) تربى في حجر والده وأخذ عنه أوليات العلوم و
بعد وفاته هاجر إلى (ميس) فاشتغل على الشيخ علي بن عبد العالي
ثم هاجر إلى (كرك نوح) وقرأ بها على السيد حسن بن جعفر
الأعرجي جملة من الفنون وبعدها ارتحل إلى دمشق فحضر درس
الفيلسوف المحقق شمس الدين محمد بن مكي.
كما هاجر إلى العراق والحجاز ثم إلى (قسطنطينية) طالبا للعلم مباحثا
للعلماء ذائدا عن
الحق حتى بلغ من العلم مداه ودرس آراء المذاهب الخمسة وصنف
تصانيفه المنيفة فأتقن وأبدع وكان أول من كتب في الدراية وكتبه
لا تزال مدار البحث والدرس بين العلماء والفضلاء وأشهر مصنفاته
(الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) و (مسالك الأفهام في
شرح شرائع الاسلام) استشهد - رضوان الله عليه - سنة (965 ه) بعد
ما قبض عليه في مكة بأمر السلطان سليم وبقي جسده الطاهر
مطروحا في العراء ثلاثا ثم ألقى الظالمون به في البحر.
انظر أمل الآمل 1: 85 لؤلؤة البحرين: 28 روضات الجنات 3: 352
رياض العلماء 2: 365 شهداء الفضيلة: 132.
191

كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة من ابتناء تحريم المرضعة الثانية على
النزاع في المشتق.
فعن الايضاح: أن تحريم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول
بإحدى الكبيرتين بالاجماع وأما المرضعة الأخيرة ففي تحريمها
خلاف
فاختار والدي المصنف (1) وابن إدريس (2) تحريمها لأن هذه يصدق عليها أنها أم

(1) القواعد 2: 11 - سطر 22 - 24.
المصنف: هو الامام العلامة الشيخ حسن بن يوسف الحلي الأسدي
ولد سنة (648 ه) أخذ عن والده والمحقق الحلي وغيرهم له عدة
مصنفات في التفسير والرجال والفقه والأصول توفي سنة (726 ه) و
دفن بجوار أمير المؤمنين عليه السلام. انظر الوافي بالوفيات 13:
85 الدرر الكامنة 2: 72 أعيان الشيعة 5: 396.
(2) السرائر 2: 556.
ابن إدريس: هو الشيخ فخر الملة والحق والدين أبو عبد الله محمد بن
إدريس العجلي الحلي ولد سنة (543 ه) قال عنه الصفدي كان
عديم النظير في الفقه له عدة كتب منها السرائر وخلاصة الاستدلال و
منتخب كتاب البيان توفي سنة (598 ه) انظر الوافي بالوفيات 2:
183 روضات الجنات 6: 274 تنقيح المقال 2: 77.
192

زوجته لأنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المشتق منه (1). هذا وقد
يقال: إن تسليم حرمة المرضعة الأولى والخلاف في الثانية مشكل
لاتحادهما في الملاك، وذلك لان أمومة المرضعة الأولى وبنتية
المرتضعة متضايفتان متكافئتان في القوة والفعلية، وبنتية المرتضعة
وزوجيتها متضادتان شرعا، ففي مرتبة حصول أمومة المرضعة تحصل
بنتية المرتضعة، وتلك المرتبة مرتبة زوال زوجية المرتضعة،
فليست في مرتبة من المراتب أمومة المرضعة مضافة إلى زوجية
المرتضعة حتى تحرم بسبب كونها أم الزوجة (2).
وأجيب عنه: بأن الرضاع المحرم علة لتحقق عنوان الأمومة والبنتية، و
عنوان البنتية للزوجة المرتضعة علة لانتفاء عنوان الزوجية عنها،
فانتفاء عنوان الزوجية عن المرتضعة متأخر رتبة عن عنوان البنتية لها،
ولا محالة أنها تكون زوجة في رتبة عنوان البنتية لاستحالة
ارتفاع النقيضين، ففي تلك المرتبة تجتمع الزوجية والبنتية وأمومة الزوجة (3).
أقول: الظاهر من فخر المحققين أن تحريم المرضعة الأولى و
المرتضعة ليس منوطا بالنزاع في المشتق لتحقق الاجماع على
حرمتهما
كان المشتق موضوعا للمتلبس أو الأعم منه، بل يمكن استفادة حرمتهما

(1) إيضاح الفوائد 3: 52.
(2) نهاية الدراية 1: 70 / سطر 13 - 17.
(3) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 161.
193

من صحيحتي محمد بن مسلم (1) عن أبي جعفر (2) عليه السلام و
الحلبي (3) عن أبي عبد الله (4) عليه السلام واللفظ من أولهما، قال: (لو
أن
رجلا تزوج جارية رضيعة، فأرضعتها امرأته فسد النكاح).
وأما حرمة الثانية فليست إجماعية، ولعله استشكل في النص الوارد
فيها - وهو (5) رواية ابن مهزيار (6) المصرحة بحرمة المرضعة الأولى دون الثانية -

(1) هو محمد بن مسلم بن رباح - أو رياح - الأوقص الطحان، أبو جعفر
الطائفي الكوفي. من أصحاب الصادقين عليهما السلام كان من
الفقهاء الاعلام ومراجع الفتيا والاحكام، ورعا من أوثق الناس. عدة
الإمام الصادق عليه السلام في رواية ممن أحيا ذكرهم عليهم السلام
وحفظ أحاديثهم، فهم حفاظ الدين والامناء على حلال الله وحرامه
له كتاب الأربعمائة مسألة في أبواب الحلال والحرام.
انظر تنقيح المقال 3: 184، نقد الرجال: 333، معجم رجال الحديث
17: 247.
(2) الفقيه 3: 306 / 10 باب 146 في الرضاع، الوسائل 14: 302 / 1 باب 10 من أبواب
ما يحرم بالرضاع.
(3) هو محمد بن علي بن أبي شعبة الحلبي، المكنى بأبي جعفر. كان
من وجوه أصحابنا وفقهائهم والثقة الذي لا يطعن عليه. قال الشيخ
الطوسي: محمد بن علي الحلبي له كتاب، وهو ثقة. وعده من
أصحاب الصادقين عليهما السلام وقال البرقي: هو كوفي. كان متجره
إلى
حلب. توفي في زمن الإمام الصادق عليه السلام.
انظر بهجة الآمال 6: 491، تنقيح المقال 3: 152، معجم رجال
الحديث 16: 302.
(4) الكافي 5: 444 / 4 باب نوادر في الرضاع، الوسائل 14: 302 / 1 باب 10 من أبواب
ما يحرم بالرضاع.
(5) الكافي 5: 446 / 13 باب نوادر في الرضا، الوسائل 14: 305 / 1 باب 14 من
أبواب ما يحرم بالرضا.
(6) هو علي بن مهزيار الأهوازي الدروقي الأصل، مولى كان نصرانيا،
أسلم وهو صغير،
ومن الله عليه بمعرفة هذا الامر. عاصر الإمام الرضا والجواد والهادي
عليهم السلام وأخذ عنهم. له مكانة عظيمة عند أهل البيت، وكلوه
في بعض نواحي الشيعة، وأثنوا عليه. وكان صحيحا في اعتقاده، ثقة
واسع الرواية، جليل القدر كثير العبادة محبا لاخوانه، تذكر له
كرامات في كتب التراجم المبسوطة.
قاموس الرجال 7: 66، جامع الرواة 1: 604، معجم رجال الحديث
12: 192.
194

بالارسال وضعف السند (1) فحينئذ تكون المسألة عنده غير
منصوصة ولا إجماعية، فتكون مبنية على النزاع في المشتق، ولم
يظهر
منه أن المسألة الأولى خارجة عن بحث المشتق لولا الاجماع و
النص، فالاشكال (2) عليه - بأن تسليم حرمة المرضعة الأولى والخلاف في
الثانية مشكل - كأنه في غير محله، ودعوى (3) وحدة الملاك غير
مسموعة. نعم، لولا الاجماع كانت الأولى - أيضا - من مصاديق محل
النزاع، ولا يدفع الاشكال بما تقدم، لان بنتية المرتضعة ليست علة
تكوينية لرفع الزوجية، بل لا بد في استفادة العلية أو التمانع بين
الزوجية والبنتية من الأدلة الشرعية، وظاهرها عدم اجتماع الزوجية
مع العناوين المحرمة، فقوله: حرمت عليكم

(1) أما الارسال في الرواية فلان علي بن مهزيار رواها عن أبي جعفر
عليه السلام والمراد به - حيث - يطلق - الباقر عليه السلام وابن
مهزيار لم يدركه، وإنما أدرك الجواد عليه السلام.
وأما ضعفها فبوقوع صالح بن أبي حماد في طريقها، كما في المسالك
(1: 379 - سطر 36 - 37). وصالح بن أبي حماد أبو الخير الرازي
كان أمره ملبسا يعرف وينكر. كما في النجاشي: 140.
(2) نهاية الدراية 1: 70 / سطر 13 - 17.
(3) المصدر السابق.
195

أمهاتكم (1). إلخ ظاهر في أن الام وغيرها من العناوين لا تصير زوجة،
وهذا ينافي اجتماعهما في آن أو رتبة.
وأما ما أفاده صاحب الجواهر (2) في دفع الاشكال: بأن آخر زمان
الزوجية متصل بأول زمان صدق الأمية، ولعل هذا كاف في الاندراج
تحت أمهات نسائكم (3).
ففيه: أن الصدق مسامحي لا حقيقي إلا بناء على وضع المشتق للأعم.
ثم إن الظاهر عدم وجود عنوان (أم الزوجة) في النصوص، بل
الموجود (أمهات النساء)، ولا إشكال في عدم جريان نزاع المشتق
فيه،
فالكلام ساقط من أصله.

(1) النساء: 23.
(2) جواهر الكلام 29: 330.
صاحب الجواهر: هو الشيخ محمد حسن ابن الشيخ باقر بن عبد
الرحيم ابن الآغا محمد الصغير النجفي. ولد عام (1202 ه) ونشأ في
النجف الأشرف، وأخذ عن علمائها، فدرس عند الشيخ جعفر النجفي
صاحب كشف الغطاء، وعند ولده الشيخ موسى، وعند السيد جواد
العاملي صاحب مفتاح الكرامة، وغيرهم، ثم استقل بالدرس، فكان
فقيه زمانه، عالما أصوليا متكلما، مربيا للعلماء، انتهت إليه رئاسة الإمامية
في عصره حتى قيل:
إنه كان يحضر مجلس بحثه قرابة (60) مجتهدا. له عدة مصنفات
أشهرها كتابه الشهير (جواهر الكلام) تلك الدورة الفقهية الاستدلالية
الكبرى التي طار صيتها في الآفاق وعكف عليها العلماء. توفي -
رضوان الله عليه - سنة (1266 ه) ومرقده في النجف مزار العلماء.
انظر أعيان الشيعة 9: 149، الكرام البررة 1: 310، الفوائد الرضوية: 452.
(3) النساء: 23.
196

الثالث: في خروج أسماء الزمان عن محط البحث:
الظاهر خروج اسم الزمان عن محط البحث لعدم بقاء الذات مع انقضاء
المبدأ فيه، وأجيب عن الاشكال بوجوه غير مقنعة:
منها: ما قال المحقق الخراساني: من أن انحصار مفهوم عام بفرد - كما
في المقام - لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام،
كالواجب الموضوع للمفهوم العام مع انحصاره فيه تعالى (1).
وفيه: أن الوضع إنما هو للاحتياج إلى إفهام المعنى، وليس له
موضوعية، فالوضع لمعنى غير محتاج إليه رأسا لغو، والواجب مفهوم عام
له مصاديق كثيرة لا ينحصر فيه تعالى، بل ما ينحصر فيه تعالى هو
الواجب بالذات، وهو غير موضوع، بل الموضوع هو المفردات، و
لفظ الجلالة علم لذاته تعالى، مع أنه على فرض وضعه للذات الجامعة
للكمالات لعله للاحتياج إلى الاستعمال أحيانا، وكذا في مثل لفظ
الشمس والقمر على فرض عدم كونهما علمين.
وأما الذات الباقية في الزمان مع انقضاء المبدأ عنها فلا يكون لها
مصداق خارجي، ولا يتصور له مصداق عقلي مع حفظ ذاته، فإنه
متصرم متقض بالذات، فلا احتياج لافهام ما لا يتصور له وجود ولا
يتعقل له مصداق.
وبالجملة: ماهية الزمان آبية عن البقاء مع انقضاء المبدأ، فلا تقاس بمفهوم

(1) الكفاية 1: 60 - 61.
197

الذات الجامعة للصفات، أو الشمس والقمر، فإن مفاهيمها بما هي لا
تأبى عن الكثيرين.
ومنها: ما قاله بعض الأعاظم: من أن اسم الزمان موضوع لمعنى كلي له
أفراد غير مجتمعة في الوجود، فالمقتل موضوع لزمان كلي
متصف بالقتل، وهو باق بوجود فرد آخر (1).
هذا، وهو لا يخلو من غرابة لان اسم الزمان موضوع لكل زمان يكون
وعاء الحدث، لا لكل زمان مطلقا، ومعلوم أن وعاءه هو الزمان
الخارجي، وهو غير باق، والموجود في عام آخر مصداق لعنوان آخر
مثل عاشر المحرم، وهو موجود آخر ولو اعتبارا (2) فالكلي
القابل للصدق على الكثيرين ليس وعاء للحدث، وما هو وعاؤه هو
الموجود الخارجي، وهو غير باق.
ومنها: ما قاله بعض آخر: وهو أن الزمان هوية متصلة باقية بالوحدة
الوجودية، وإلا لزم تتالي الانات وهو مستحيل كاستحالة
الجز (3)، وعليه يكون الزمان بهويته ووحدته باقيا وانقضى عنه
المبدأ، ولولا كون الألفاظ موضوعة للمعاني العرفية لقلنا بصدق اسم
الزمان على الهوهوية الزمانية إلى آخر الأبد، فكان مقتل يحيى و
الحسين عليهما السلام

(1)
أجود التقريرات 1: 56، فوائد الأصول 1: 89.
(2) وإنما قلنا: (اعتبارا) لان الزمان هوية متصلة إلى الأبد، وتقسيماته
إلى الأيام والشهور اعتبارية حسب احتياج البشر. منه عفي عنه.
(3) الظاهر أنه - قدس سره - يريد التنظير باستحالة الجزء الذي لا يتجزأ.
198

صادقا على الزمان إلى الأبد، لكن العرف بعد حكمه بأن للزمان بقاء و
وحدة قسمه إلى أقسام حسب احتياجاته أو العوارض الخارجية
كالنهار والليل والفصول، فحينئذ إذا وقع قتل في حد من حدود اليوم
يرى العرف اليوم باقيا إلى الليل ومتلبسا بالمبدأ ومنقضيا عنه
مع بقائه، فيطلق المقتل على اليوم بعد انقضاء التلبس، كإطلاقه
(العالم) على (زيد) بعد انقضاء العلم (1).
وفيه: أن العرف كالعقل كما يحكم بالوحدة الاتصالية للزمان يرى
تجدده وتصرمه وعدم اجتماع لاحقة بسابقة، فللزمان هوية إتصالية
لكنها متصرمة متقضية، فاليوم لدى العرف عبارة عن هوية باقية لكن
على نحو التصرم، لا بمعنى كون حده الأول باقيا إلى آخره، فيرى
أوله غير وسطه وآخره، فإذا حدثت في أول اليوم حادثة لا يرى زمان
الوقوع باقيا وقد زال عنه المبدأ، بل يرى اليوم باقيا وزمان
الوقوع منقضيا.
وبالجملة: البقاء الذي يعتبر في المشتق هو بقاء الشخص الذي يتلبس
بالمبدأ عينا، وهو غير باق في الزمان، والبقاء التصرمي التجددي
لا يدفع الاشكال. نعم لو كان في نظر العرف بقاء الزمان كالزماني كان
الاشكال مرتفعا، لكنه ليس كذلك عرفا ولا عقلا.
ومنها: ما احتمل بعضهم: من أن اسم الزمان موضوع لوعاء الحدث من
غير خصوصية الزمان والمكان، فيكون مشتركا معنويا للجامع
بينهما، فحينئذ

(1) نهاية الأصول 1: 64، الحاشية على كفاية الأصول 1: 118.
199

وضع الهيئة للأعم مما لا مانع منه، فيأتي النزاع فيه (1).
وفيه: أنه لا جامع ذاتي بين الزمان والمكان، وكذا بين وعائيتهما
للمبدأ، فإن الوقوع في كل على نحو يباين الاخر، فلا بد من انتزاع
جامع عرضي بينهما، كمفهوم الوعاء أو الظرف مثلا، والالتزام بوضعه
له، مع أنه خلاف المتبادر من أسماء الزمان والمكان ضرورة أنه
لا يفهم من لفظ المقتل مفهوم وعاء الحدث أو مفهوم ظرفه، بل لو كان
الوعاء جامعا ذاتيا بينهما - أيضا - لم يوضع اسمهما له لما ذكر.
فالظاهر أن أسماء الزمان والمكان مشتركة لفظا، بل يختلج في الذهن
أن الوعائية والظرفية بالنسبة إلى الزمان ليست على نحو
الحقيقة، بل أطلقت عليه بدعوى كون الزمان كالمكان محيطا بالزماني
إحاطة المكان بالتمكن.
فتحصل مما ذكرنا: أن أسماء الزمان خارجة عن محط البحث لعدم
ملاكه فيها.
الرابع: في وضع المشتقات:
وفيه جهات:
الأولى: في كيفية وضع المادة:
التحقيق: أن لمادة المشتقات السارية فيها وضعا مستقلا، ولا يمكن أن

(1) نهاية الدراية 1: 72 / سطر 4 - 5.
200

يكون المصدر أو اسمه مادة لها لتأبي هيئتهما عن ورود هيئة أخرى
عليهما، ولولا وضع المادة (لكان الوضع الشخصي لا بد منه) في
جميع الاشتقاقات، لعدم محفوظية ما يدل على المادة لولا وضعها، و
وضع المادة شخصي.
ولا مشاحة لو قيل - (بسبب) تطورها بالهيئات -: إن وضعها نوعي (1)،
والالتزام بالوضع الشخصي لها في جميع الهيئات خلاف الوجدان
والضرورة، بل يلزم اللغوية منه. مع أنا قد نعلم معنى مادة ونجهل
معنى الهيئة، كما لو فرض الجهل بمعنى هيئة اسم الآلة في (مضراب)
مع العلم بمعنى (الضرب)، فلا إشكال في أنا نفهم أن للضرب هاهنا
تطورا وشأنا، وليس هذا إلا للوضع.
كما أن دلالة الهيئة على معناها مع الجهل بمعنى المادة دليل على
وضعها مستقلا نوعيا، مع أن بعض المصادر قياسي، فلا بد له من مادة
سابقة.
لا يقال: إن المواد المجردة عن كافة الهيئات ليست من مقولة اللفظ
لعدم إمكان النطق بها، فلا معنى لوضعها.
مضافا إلى أن المادة إذا كانت موضوعة لنفس الحدث اللابشرط، يلزم
منه كون اسم المصدر الموضوع له بعينه، بل المصدر - على ما هو
المعروف بين أهل الأدب (2) الموافق للتبادر من كونه موضوعا للحدث
- غير مشتقين من

(1) نهاية الأفكار 1: 125.
(2) شرح الكافية 2: 191 / سطر 22 - 193 / سطر 7، الفوائد الضيائية: 308 /
سطر 12، شرح ابن عقيل 1: 557، البهجة المرضية: 93 / سطر 13 - 14.
201

المادة لان الهيئة لا بد لها من وضع وإفادة زائدين على المادة.
هذا مضافا إلى أنه على فرض وضع المادة المجردة عن كافة الهيئات،
أنه لو وجدت في ضمن هيئة غير موضوعة - أيضا - دلت على
معناها، مع أنه خلاف الواقع.
فإنا نقول: إن المواد موضوعة بالوضع التهيئي لان تتلبس بهيئة
موضوعة كذلك للإفادة والدلالة، ومثل ذلك لا يلزم أن يكون من
مقولة
اللفظ مستقلا وابتدأ، ولا مما يمكن به النطق كذلك، بل يكفي
الامكان ولو في ضمن هيئة ما.
وأما الفرق بينها وبين اسم المصدر - الدال على نفس الحدث - و
المصدر بناء عليه: أن هيئتهما يمكن أن تكون موضوعة لتمكين النطق
بالمادة لإفادة نفس الحدث من حيث هو في مقابل سائر المشتقات،
فالمادة موضوعة لنفس الحدث، لكن لا يمكن الإفادة بنفسها ولا
النطق بها، والناس قد يحتاجون إلى إفادتها، فوضعت هيئتهما لا
لمعنى من المعاني، بل لكونهما آلة للنطق بالمادة، فإفادة معنى
الحدث
إنما هي بالمادة المتحصلة بهذه الصورة، لا بمعنى أن التحصل بها
دخيل في إفادة المعنى حتى تكون المادة المقيدة دالة، بل بما ذكرناه.
ومما ذكرناه يتضح أنه يصح أن يقال: إن المصدر (1) أو اسمه أصل

(1) شرح الكافية 2: 191 - 192، شرح ابن عقيل 1: 559، البهجة المرضية: 94 /
سطر 2 - 4.
202

المشتقات، لأنهما كأنهما المادة من غير زيادة.
وأما لزوم دلالة المادة في ضمن أية هيئة ولو كانت لغوا، ففيه: أن
المادة بعد ما كانت موضوعة بالوضع التهيئي للازدواج مع الهيئات
الموضوعة للدلالة، يكون لها ضيق ذاتي، فلا تدل في ضمن غيرها، مع
أن في كيفية دلالتها كلاما يحل به الاشكال، يأتي عن قريب إن شاء
الله.
لا يقال: وضع المادة والهيئة مستقلا ينافي بساطة المشتقات، بل يلزم
منه دلالتها على معنيين مستقلين، وهو خلاف التحقيق بل الضرورة. (1)
فإنه يقال: هذا يلزم لو كانت المادة والهيئة موجودتين بوجودين
مستقلين، ودالتين على المعنى كذلك، وهو خلاف الواقع، فإن المادة
كما أنها مندكة في الصورة، وهي مزدوجة معها، فتركيبهما كأنه
اتحادي، تكون دلالتهما على المعنى كذلك، كما أن معانيهما كذلك،
فبين معاني المشتقات - كألفاظها ودلالتها - نحو كاتحاد، المادة و
الصورة، كما سنشير إليه. (2)
وبهذا يظهر دفع ما يتوهم من لزوم دلالة المادة في ضمن الهيئات
المهملة.
وأما ما (3) عن سيد مشايخنا المحقق الفشاركي - (4) رحمه الله تعالى -:

(1) وقاية الأذهان: 161.
(2) وذلك في صفحة: 221 - 222.
(3) ذكره في وقاية الأذهان: 161 - 162.
(4) هو العلامة المحقق السيد محمد بن الأمير قاسم الطباطبائي
الأصفهاني الفشاركي. ولد في قرية (فشارك) التابعة لأصفهان سنة
(1253 ه). هاجر إلى كربلا، وكان هناك أخوه السيد إبراهيم، فتلمذ
على يديه مدة، ثم ارتحل إلى النجف الأشرف، وحضر
بحث الامام المجدد السيد الشيرازي الكبير، ولازمه ملازمة الظل، و
لما هاجر إلى سامراء هاجر معه. قال السيد الصدر: كان السيد
شريكنا في الدرس عشرين سنة عند السيد المجدد، وكان أفضل
تلامذة سيدنا الأستاذ، وكان عالما محققا مدققا متبحرا ذا غور و
فكر يغوص على المطالب الغامضة، ويصل إلى حقائقها، وكان من
خواص أستاذه وأهل مشورته في الأمور العامة والمصالح الدينية. و
بعد رحيل الامام المجدد إلى جوار ربه رجع سيدنا المترجم له إلى
النجف الأشرف، واستقل بالدرس، فحضر مجلس بحثه كبار العلماء
وأفاضل المحققين ينتهلون من فيوضات فكره الثاقب وروحه
الطاهرة. كان - رضوان الله عليه - زاهدا في هذه الدنيا، عرضوا عليه
التصدي للمرجعية، فرفض قائلا بأني لست أهلا لذلك، لان الرئاسة
الشرعية تحتاج إلى أمور أخرى غير العلم بالفقه والاحكام. له
مؤلفات بقي منها بعض الرسائل. توفي - قدس الله روحه الزكية - سنة
(1316 ه)، ودفن في الصحن المطهر لأمير المؤمنين عليه السلام.
انظر أعيان الشيعة 9: 125، الفوائد الرضوية: 594
203

من أن المادة ملحوظة - أيضا - في وضع الهيئات، فيكون الموضوع
هي المادة المتهيئة بالهيئة الخاصة، وهو الوضع الحقيقي الدال على
المعنى، وليس الوضع الأول إلا مقدمة لهذا الوضع وتهيئة له، ولا
نبالي بعدم تسمية الأول وضعا، إذ تمام المقصود هو الوضع الثاني.
انتهى.
ففيه أولا: لا معنى لعدم دلالة المادة إذا كانت موضوعة للمعنى، و
مجرد كونه مقدمة لا يوجب عدم الدلالة، فحينئذ يلزم ما هو أفحش، و
هو التركيب مع تكرر الدلالة، لتكرر الوضع استقلالا وتبعا. تأمل.
وثانيا: أن الوضع الثاني إن كان مع كل هيئة يلزم منه الوضع الشخصي،
وهو مع بطلانه مغن عن وضع المادة مستقلا، ووضعها مع مادة ما - م
204

فساده في نفسه، لعدم وجود مادة ما بالحمل الشائع، والالتزام
بالحمل الأولي أفحش - لا يقطع الاشكال لولا الوضع في كل
بخصوصه.
فالتحقيق ما مر، فافهم واغتنم.
الثانية: في وضع الهيئات:
ولا يلزم من وضعها إمكان تصورها مجردة عن المادة، بل يكفي
تصورها في ضمن مادة وتعلق الوضع بها، فيقال: زنة فاعل أو مفعول
لكذا.
والمشتقات: فعلية واسمية، والفعلية منها حاكيات كالماضي و
المضارع، ومنها موجودات كالأوامر.
والتحقيق: أن هيئات الافعال حروف لها معان حرفية غير مستقلة
بالمفهومية ولا بالموجودية، ويكون وضعها كالحروف عاما و
الموضوع له خاصا على التفصيل الذي سبق في الحروف (1).
أما كون معانيها حرفية، فلان هيئة الماضي وضعت للحكاية عن تحقق
صدور الحدث من فاعل على ما هو عليه من (أن) الصدور وتحققه
يكون بتبع الفاعل، أو للحكاية عن الكون الرابط - أي حلول الحدث
في الفاعل - كبعض الافعال اللازمة، ك (حسن وقبح).
وبالجملة: الهيئات موضوعة لتحقق المعاني الربطية بالحمل الشائع.
والفرق بين الماضي والمضارع أن الأول يحكي عن سبق تحقق
الحدث،

(1) صفحة: 68 - 72.
205

والثاني عن لحوقه، لكن لا بمعنى وضع اللفظ بإزاء الزمان الماضي و
المستقبل، أو بإزاء السبق واللحوق، بل اللفظ موضوع لحصة من
التحقق الملازم للسبق أو اللحوق لزوما بينا، فإن الايجاد بعد الفراغ عنه
يكون سابقا لا محالة، وإذا لم يتحقق، لكن يصير متحققا، يكون
لاحقا لا محالة.
ولا يبعد دلالتهما على السبق واللحوق بالمعنى الحرفي، فإنهما
بالحمل الشائع من الإضافات التي لا تكون موجودة إلا بتبع مناشئها،
فيكون الماضي موضوعا للصدور السابق بالإضافة بالحمل الشائع، و
لا يخرج بذلك عن المعنى الحرفي، ولا يلزم التركيب.
ولكن التحقيق: أن دلالة الفعل على الحدث، وعلى سبق الصدور في
الماضي، أو على لحوقه في المضارع، أو على البعث إلى الصدور،
ليست دلالات مستقلة متعددة، بل لها وحدة بنحو، فكما أن المادة و
الهيئة كأنهما موجودتان بوجود واحد، كأنهما دالتان دلالة واحدة
على معنى واحد قابل للتحليل.
بيان ذلك: أن تحقق الصادر والصدور ليس تحققين، كما أن تحقق
الحال والحلول كذلك، لكنهما قابلان للتحليل، وفي ظرفه يكون كل
واحد منهما مستقلا بالملحوظية، والأسماء الموضوعة لما في ظرفه
مستقلة في الدلالة، كالربط والمربوط، والصادر والصدور، و
الحال والحلول، وأمثالها.
ولا يكون في ظرف التحليل ربط بين الفاعل والفعل والموضوع و
العرض، ولا تكون حكاية تلك الألفاظ عن الواقع على طبقه، لكن إذا
لوحظ الواقع
206

على ما هو عليه لا يكون تكثر في الصدور والصادر والحال والحلول،
ولا يكون في الخارج إلا الفاعل وفعله والموضوع وعرضه. ف
(زيد ضرب)، يحكيان عن زيد وفعله في ظرف حصوله، فلا تكون
لفظة (ضرب) دالة على الحدث والحدوث والانتساب إلى الفاعل و
سبق الصدور دلالات مستقلة متكثرة، بل لفظة واحدة ودلالة كذلك،
لكن قابلة للتحليل، فكما أن الجسم دال على معنى واحد، لكن
المعنى
مركب قابل للتحليل كذلك (ضرب)، والفرق بينهما: أن لفظ (ضرب)
كمعناه مركب من مادة وصورة، وكذا دلالته على معناه دلالة
واحدة منحلة، دون لفظ (الجسم) ودلالته عليه، فكما أن وحدة حقيقة
الجسم لا تنافي التحليل، كذلك وحدة فعل الفاعل ووحدة اللفظ
الدال عليه، فافهم واستقم.
الثالثة: في كيفية دلالة الفعل المضارع على الحال:
لا إشكال في اختلاف الفعل المضارع في الدلالة:
فمنه: ما يدل على المستقبل ولا يطلق على الحال، مثل: يقوم، و
يقعد، ويذهب، ويجئ، ويجلس، إلى غير ذلك، فلا تطلق على
المتلبس
بمبادئها في الحال.
ومنه: ما يطلق على المتلبس في الحال بلا تأول، مثل: يعلم، و
يحسب، ويقدر، ويشتهي، ويريد.
ومنه: الافعال التي مبادئها تدريجية الوجود.
207

وما يقال: من أن استعمال المضارع في التدريجيات باعتبار الاجزاء
اللاحقة (1) مع ممنوعيته، لعدم صحة إطلاق الماضي عليها، فلا يقال:
(صلى) لمن يصلي - لا يتم بالنسبة إلى الأمثلة المتقدمة مما كانت
مبادئها دفعية ولها بقاء، فلا فرق من حيث المبدأ بين (يقدر) و (يعلم)،
وبين (يقوم) و (يقعد)، والالتزام بتعدد الوضع بعيد.
ولا يبعد أن يقال: إن هيئة المضارع وضعت للصدور الاستقبالي، لكنها
استعملت في بعض المواد في الحال حتى صارت حقيقة فيه. و
هاهنا جهات أخرى من البحث مرتبطة بالمشتقات الاسمية، سيأتي
التكلم فيها في المشتق كالمباحث المرتبطة بهيئته يأتي كل في بابه.
الرابعة: في اختلاف مبادئ المشتقات:
اختلاف مبادئ المشتقات - من حيث كون بعضها حرفة وصنعة أو
قوة وملكة - لا يوجب اختلافا في الجهة المبحوث عنها، وإنما الفرق
في أنحاء التلبس والانقضاء، وهذا مما لا إشكال فيه، إنما الكلام في
وجه هذه الاختلافات، فإنا نرى أن مفهوم التاجر والصائغ و
الحائك وأمثالها يدل على الحرفة والصنعة، وأسماء الآلات والمكان
قد تدل على كون الشئ معدا لتحقق الحدث به أو فيه، فالمفتاح
مفتاح قبل أن يفتح به، والمسجد مسجد قبل أن يصلى فيه. وهكذا.

(1) درر الفوائد 1: 30.
208

قد يقال (1): إن هذه المشتقات مستعملات في المعاني الحدثية كسائر
المشتقات، وإنما الاختلاف في الجري على الذوات، فقولنا: هذا
مسجد، وهذا مفتاح، كقولنا: هذا كاتب بالقوة، حيث إن الكاتب
مستعمل في معناه لا في الكاتب بالقوة، وكذا الكلام في أسماء الأزمنة
و
الأمكنة والآلات، فإن الجري فيها بلحاظ القابلية والاستعداد.
وأما ما يدل على الحرفة، فسر الاطلاق (فيها) مع عدم التلبس أنه
باتخاذه تلك المبادئ حرفة كأنه صار ملازما للمبدأ دائما. انتهى
ملخصا.
وفيه: أن تلك المشتقات مع قطع النظر عن الجري والحمل تفيد
معاني غير معاني المشتقات المتعارفة، فالمساجد بمفهومه التصوري
يدل على المكان التهيئي للعبادة، وكذا المفتاح، ولفظ التاجر و
الحائك بمفهومهما التصوري يدلان على الحرفة، وإنكار ذلك مكابرة،
فدلالة هذه على تلك المعاني غير مرتبطة بالجري والحمل.
فلا محيص بعد عدم الالتزام بتعدد الأوضاع أن يقال:
أما في مثل التاجر والخياط - مما تدل على الحرفة والصنعة - فإنها
استعملت في تلك المعاني أولا بنحو المجاز فصارت حقيقة إما
باستعمال المواد في الصنعة والحرفة، أو استعمال مجموع المادة و
الهيئة مجازا، باعتبار أن المشتقات كأنها كلمة واحدة مادة وهيئة
كسائر العناوين البسيطة.
وهذا - أيضا - لا يخلو من بعد، وحيث إن المتبادر منها الحرفة والصنعة

(1) نهاية الدراية 1: 76 - 77.
209

لوحظت المناسبة بينها وبين المعنى الحقيقي، ولم تكن العناية
المصححة فرض الفترات كالاعدام ورؤية المبدأ الفعلي حاصلا، لكون
ذلك خلاف المتبادر، فإنا لا نفهم من التاجر ومثله إلا من كان حرفته
كذلك، لا المشتغل بفعل التجارة دائما كما هو واضح.
ومما ذكرنا يتضح الحال في أسماء المكان والآلات، مع إمكان أن
يقال:
إن في مثل المسجد والمنبر والمحراب وأمثالها، انقلبت الوصفية إلى
الاسمية، فكأنها أسماء أجناس لا يفهم العرف منها إلا ذات تلك
الحقائق، ولا ينسبق إلى الذهن المبادئ رأسا، وكذا في أسماء الآلات.
بل يمكن أن يقال: إن المفهوم العرفي من مكان السجدة وآلة الفتح
ليس إلا ما يعد لهما، لا المكان الحقيقي الذي اختلفت فيه آراء
الحكماء
والمتكلمين، ولا الآلة الفعلية للفتح، فحينئذ يمكن أن يلتزم بأن هيئة
اسم الآلة وضعت لها، وتكون هي في نظر العرف بمعنى ما يعد
لكذا، وهيئة اسم المكان لمكان الحدث، والمكان لدى العرف ما يعد
لتحقق الشئ فيه، لكنه لا يطرد ذلك بالنسبة إلى الثاني، وإن لا
يبعد بالنسبة إلى الأول.
وبعد فالمسألة لا تخلو من الاشكال.
الخامسة: في المراد من الحال:
بعد ما أشرنا إلى أن الكلام في المشتق إنما هو في المفهوم اللغوي
التصوري يتضح أن المراد بالحال في العنوان ليس زمان الجري و
الاطلاق،
210

ولا زمان النطق، ولا النسبة الحكمية، لان كل ذلك متأخر عن محل
البحث، ودخالتها في الوضع غير ممكن، وبما أن الزمان خارج عن
مفهوم المشتق لا يكون المراد زمان التلبس، بل المراد أن المشتق هل
وضع لمفهوم لا ينطبق إلا على المتصف بالمبدأ أو لمفهوم أعم منه؟
وإن شئت قلت: إن العقل يرى بين أفراد المتلبس فعلا جامعا انتزاعيا،
فهل اللفظ موضوع لهذا الجامع أو الأعم منه؟ ومما ذكرنا - من أن
محط البحث هو المفهوم التصوري - يدفع ما ربما يتوهم: (1) أن الوضع
للمتلبس بالمبدأ ينافي عدم التلبس به في الخارج، خصوصا إذا
كان التلبس ممتنعا كالمعدوم والممتنع، للزوم انقلاب العدم والامتناع
إلى الوجود والامكان.
وذلك لان التالي إنما يلزم - على إشكال فيه - لو كان المعدوم - مثلا
- وضع لمعنى تصديقي هو كون الشئ ثابتا له العدم، ومعه يلزم
الاشكال ولو مع الوضع للأعم أيضا، وسيأتي (2) أن مفاهيم المشتقات
ليست بمعنى (شي ثبت له كذا)، حتى يقال: إن ثبوت شي لشئ
فرع ثبوت المثبت له.
وعلى هذا لا نحتاج إلى التشبث بأن الكون الرابط لا ينافي الامتناع

(1) توهمه المحقق الشيخ هادي الطهراني رحمه الله في (محجة
العلماء) على ما جاء في نهاية الدراية 1: 79 - 80.
(2) وذلك في صفحة: 221 وما بعدها.
211

الخارجي للمحمول (1)، فإن الاشكال لا يدفع بما ذكر، لان الكون الرابط
وإن كان لا ينافي كون المحمول عدما أو ممتنعا - على تأمل فيه
- لكن لا يمكن تحققه إذا كان الموضوع معدوما أو ممتنعا كما فيما
نحن فيه، ففي مثل:
(زيد معدوم) و (شريك الباري ممتنع) لا يمكن تحقق الكون الرابط، و
هذه القضايا، في قوة المحصلات من القضايا السالبة.
السادسة: في لزوم فرض الجامع على القولين، وامتناع على الأعم:
لا بد للقائل بالوضع للأعم من فرض جامع بين المتلبس به والمنقضي
عنه، ومع عدم تصويره تسقط دعواه من غير احتياج إلى إقامة
البرهان، لان مدعي الأعمي هو الوضع لمعنى عام بنحو الاشتراك
المعنوي، دون اللفظي ودون عموم الوضع وخصوص الموضوع له،
فلا بد من جامع يكون هو الموضوع له.
مع أن الجامع الذاتي بينهما غير ممكن، لان المدعي أن الفاقد يصدق
عليه المشتق في حال فقدانه لأجل التلبس السابق لا الجري عليه
بلحاظ حال التلبس، فإنه لا نزاع في أنه حقيقة حتى فيما سيأتي، و
معلوم أن الجامع بين الواجد والفاقد مما لا يعقل.
والجامع الانتزاعي البسيط - أيضا - غير متصور، بحيث يدخل فيه
الواجد والفاقد الذي كان متلبسا، ويخرج منه ما سيتلبس.

(1) نهاية الدراية 1: 80 / سطر 2 - 3.
212

والجامع البسيط الذي ينحل إلى المركب - أيضا - غير معقول، لان
مثله إنما يتصور فيما إذا كان الواقع كذلك، فإنه مأخوذ منه.
فلا بد من الالتزام بالتركيب التفصيلي، وهو يرجع إلى الاشتراك
اللفظي ولو بوضع واحد، وذلك من غير فرق بين القول بأخذ الذات
في المشتق وعدمه، أو الزمان فيه وعدمه، لان الذات بما هي ليست
موضوعا لها، وكذا الزمان، فلا بد من تقييدهما بالتلبس وعدمه مع
انقضائه خارجا، ويعود محذور عدم الجامع مطلقا، والتركيب
التفصيلي الراجع إلى الاشتراك اللفظي.
فليس للقائل بالأعم وجه معقول يعتمد عليه، وظني أن القائل به لما
توهم صحة إطلاق بعض المشتقات على المنقضي عنه المبدأ التزم
بالأعم من غير توجه إلى أن لا جامع بينهما. إذا عرفت ما ذكر، اتضح
لك الامر من كون المشتق حقيقة في المتلبس، مع أن التبادر هو
الدليل الوحيد في مثل المقام الذي يكون البحث فيه لغويا لا عقليا، و
هو يساعد (على) المتلبس به لا الأعم.
وصحة السلب ترجع إليه كما تقدم (1)، وكذا ما يقال من تضاد الصفات
المأخوذة من المبادئ المتضادة على ما ارتكز لها من المعاني (2)،
فإنه لولا التبادر لما كان بينها تضاد ارتكازا.

(1) في الصفحة: 127 - 129.
(2) الكفاية 1: 69، فوائد الأصول 1: 123 - 124، نهاية الأفكار 1: 135 - 136.
213

في بعض ما يستدل به لخصوص المتلبس عقلا:
وقد يستدل بوجوه عقلية:
من أن الحمل والجري لا بد له من خصوصية، وإلا لزم حمل كل شي
على كل شي، وهي نفس المبادئ القائمة بالذوات، ولا يمكن
الحمل على الفاقد المنقضي عنه المبدأ، فلا بد للقائل بالأعم: إما إنكار
الخصوصية في الجري، وهو خلاف الضرورة، أو دعوى بقاء
الخصوصية بعد الانقضاء، وليس بعده شي إلا بعض العناوين
الانتزاعية. هذا.
وفيه: أن هذا الوجه إن رجع إلى التبادر فوجيه، بأن يقال: إن المشتق
يتبادر منه المتلبس بالفعل، وإلا فالحمل والجري متأخران عما
هو محل البحث، فلو وضع اللفظ لمعنى أعم يكون الحمل صحيحا
بعد الانقضاء على فرض تصوير الجامع.
ويتلوه ما قيل: من أن مفهوم الوصف بسيط: إما على ما يرى العلامة
الدواني (1) من اتحاد المبدأ والمشتق ذاتا واختلافهما اعتبارا، أو على نحو آخر،

(1) شرح التجريد للقوشجي - تعليقة الدواني: 85.
الدواني: هو المولى جلال الدين محمد بن أسعد الدواني، نسبة إلى
قرية (دوان) من قرى (كازرون) ولد سنة (830 ه) في (شيراز) تلمذ
على أبيه الشيخ سعد الدين أسعد وصفي الحق الإيجي وشهاب
الاسلام الكرماني وغيرهم. كان حكيما فاضلا شاعرا مدققا له كتاب
الأنموذج يحتوي على خلاصة من كل علم. كان له مناظرات مع علماء
زمانه كالأمير صدر الدين الدشتكي. له عدة رسائل في الحكمة و
الكلام، كما كتب في
التفسير. بلغت رسائله قرابة (84) رسالة.
انظر إحياء الدائر: 220، روضات الجنات 2: 239، الكنى والألقاب 2: 206.
214

ومعه لا يعقل الوضع للأعم، ثم أخذ في الاستدلال على الامتناع (1) و
فيه: أن بساطة مفهوم المشتق وتركيبه فرع الوضع، وطريق إثباته
التبادر لا العقل، وسيأتي الكلام (2) في الوجوه العقلية التي أقاموها على البساطة.
وبالجملة: هذه المسألة اللغوية الراجعة إلى مفهوم اللفظ لا طريق
لاثباتها إلا مباني إثبات سائر اللغات، والعقليات بمراحل عنها، إلا أن
يكون المقصود تقريبات لاثبات التبادر، والحق تبادر المتلبس، لا
المعنى الأعم على فرض تصويره.
في الوجوه التي استدل بها للأعم:
ثم إن الأعمي قد استدل بوجوه - وهي مع عدم تصوير الجامع مما لا
تغني من الحق شيئا، مع عدم تماميتها في نفسها -:
منها: دعوى التبادر في مثل (المقتول) و (المضروب)، حتى التجأ
بعض الأعاظم إلى إخراج اسم المفعول عن محط النزاع، قائلا: إن اسم
المفعول موضوع لمن وقع عليه الحدث، وهو أمر لا يعقل فيه
الانقضاء.
وفيه: منع التبادر، وإنما استعمال (المضروب) و (المقتول) وأمثالهما
بلحاظ حال التلبس، وإلا فالضاربية والمضروبية متضايفان
عرفا، فلا فرق

(1) نهاية الدراية 1: 81 - 82.
(2) وذلك في صفحة: 217 وما بعدها.
215

بينهما. مع أن لقائل أن يعارضه، ويقول: إن اسم الفاعل وضع لمن
صدر منه الضرب، وهو أمر لا يعقل فيه الانقضاء.
ثم العجب منه - رحمه الله - مع إشكاله في تصوير الجامع التزم بالأعم.
ومنها: التمسك بنحو قوله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا (1) إلخ و
السارق والسارقة فاقطعوا (1) إلخ، بتقريب: أن الجلد والقطع إنما
هما ثابتان للزاني والسارق، ولولا صدقهما على المنقضي عنه لا
موضوع لاجزائهما (3).
وفيه ما لا يخفى، فإن المفهوم من هذه الأحكام السياسية أن ما صادر
موجبا للسياسة هو العمل الخارجي، لا صدق العنوان الانتزاعي،
فالسارق يقطع لأجل سرقته، وفي مثله يكون (السارق) و (الزاني)
إشارة إلى من هو موضوع الحكم مع التنبيه على علته، وهو العمل
الخارجي لا العنوان الانتزاعي، فكأنه قال: الذي صدر منه السرقة تقطع
يده لأجل صدورها منه.
ومنها: استدلال الإمام عليه السلام بقوله تعالى: لا ينال عهدي
الظالمين (4) على عدم لياقة من عبد صنما لمنصب الإمامة (5)، ردا على
من
تصدى لها مع كونه عابدا للصنم مدة، والتمسك يصح مع الوضع
للأعم،

(1) النور: 2.
(2) المائدة: 38.
(3) مفاتيح الأصول: 17 / سطر 8 - 11، هداية المسترشدين: 84 / سطر 21 - 24.
(4) البقرة: 124.
(5) البرهان في تفسير القرآن 1: 151 / 11 في تفسير الآية.
216

فإنهم غير عابدين للصنم حين التصدي (1).
والجواب: أن الظلم يشمل المبادئ المتصرمة وغيرها، ومنصب
الإمامة أمر مستمر باق، فلا بد مع من كون الموضوع هو الاشخاص و
لو
تلبسوا بمثل المبادئ المتصرمة، فممن ظهر منه قتل أو سرقة فتاب
فورا تشمله الآية، فإنه ظالم في ذلك الحين، فهو غير لائق لمنصبها
الذي (هو) أمر مستمر، فلا بد أن يراد منها: أن المتلبس بالظم ولو آنا لا
يناله العهد مطلقا. تأمل.
ثم إن سوق الآية يشهد بأن الإمامة والزعامة والسلطنة على النفوس و
الاعراض والأموال أمر مهم، لا ينالها مثل إبراهيم خليل الرحمن -
مع رسالته وخلته - إلا بعد الابتلاء والامتحان والتمحيص وإتمامها،
فمناسبة الحكم والموضوع وسوق الآية يشهدان بأن الظالم ولو
آنا ما، والعابد للصنم ولو برهة من الزمان غير لائقين لها.
بقي أمور
الأول: في منشأ اختلافهم في البساطة والتركيب:
اختلف القوم في بساطة المشتق وتركيبه على أقوال ومنشأ الاختلاف
هو اشتمال المشتق على المادة والهيئة الموضوعتين:

(1) مفاتيح الأصول: 18 / سطر 11 - 18، هداية المسترشدين: 84 / سطر 26 - 30،
الكفاية 1: 77.
217

فمن رأي أنهما دالتان على المعنيين دلالة مستقلة مفصلة ذهب إلى
التركيب التفصيلي.
ومن رأي أن الهيئة وضعت لأجل قلت المادة من البشرط لائية و
تعصي الحمل إلى اللا بشرطية الغير المتعصية عنه، ذهب إلى البساطة
المحضة الغير القابلة للانحلال العقلي (1)
ومن رأي أنهما موضوعتان لمعنيين يكون نحو وجودهما في الخارج
والذهن ومقام الدلالة والدالية والمدلولية بنحو من الوحدة
القابلة للتحليل ذهب إلى البساطة القابلة له (2).
وظني أن المسألة ذات قولين، ولا أظن بأحد يرى التركيب التفصيلي.
ثم إن القائلين بالتركيب اختلفوا في أن تركيبه من الذات والحدث
والنسبة (3)، أو من الحدث والنسبة (4)، أو الحدث والذات (5) إلى غير ذلك.
والظاهر أن القول بالبساطة المحضة يرجع إلى التركيب الانحلالي وإن
غفل عنه قائله، فإن غاية ما يمكن أن يتصور في ذلك هو أن
الهيئة لم توضع

(1) شرح التجريد - حاشية المحقق الدواني: 85، الحاشية على كفاية الأصول 1: 140 و
142.
(2) الفصول الغروية: 61 / سطر 30 - 31، نهاية الأفكار 1: 144.
(3) الشواهد الربوبية: 43، نسبه إلى بعض المتكلمين، ولم نجده فيما توفر لدينا من كتبهم.
(4) مقالات الأصول: 1: 58 / سطر 20 - 23، نهاية الأفكار 1: 143.
(5) شرح المطالع: 11 / سطر 13 - 14، الشواهد الربوبية: 44.
218

لمعنى، بل موضوعة لقلب - المعنى - الذي هو بشرط لا - إلى لا
بشرط، كما احتملنا في هيئة المصدر من كونها موضوعة للتمكين من
النطق بالمادة، وصيرورة المادة الغير المتحصلة متحصلة قابلة للدلالة
المستقلة، وإلا فمفاد المصدر واسمه ليس إلا نفس طبيعة الحدث،
وهي بعينها معنى المادة، لكنها غير متحصلة ولا مستقلة في الدلالة،
وسيأتي مزيد توضيحه.
فمفاد المشتقات الاسمية القابلة للحمل شي بسيط واحد هو مفاد
المادة اللا بشرط.
هذا غاية توجيه القول بالبساطة المحضة مع كون المادة والهيئة
موضوعتين.
وفيه: أن اللا بشرطية والبشرط لائية ليستا من الاعتبارات الجزافية،
بحيث يكون زمامهما بيد المعتبر، فإن شاء اعتبر ماهية لا بشرط،
فصارت قابلة للحمل وإن لم تكن في نفسها كذلك، وبالعكس. بل
التحقيق في جل المعقولات الثانوية والأولوية أنها (نقشة) (1) لنفس
الامر والواقع، فالمفاهيم في كونها قابلة لحمل وعدمه تابعة لما في
نفس الامر، والألفاظ الموضوعة للمفاهيم تابعة لها ولنفس الامر.
فالاجناس والفصول مأخذهما المادة والصورة المتحدتان بحسب
الواقع، ولولا اتحادهما كان حمل أحدهما على الاخر ممتنعا ولو
اعتبرا ألف مرة لا بشرط، فالحمل هو الهوهوية، وهي حكاية عن
الهوهوية النفس الامرية

(1) أي: صورة.
219

فالجوهر والعنصر والمعدن والنبات والحيوان والناطق مأخذها و
محكيها هي الحقائق المتحدة بعضها مع بعض من المادة الهيولانية
المترقية في مدارج الكمالات إلى منزل الانسان، ففي كل منزل تكون
المادة متحدة مع الصورة، وهذا الاتحاد مناط صحة الحمل واللا
بشرطية في المفاهيم المأخوذة منهما، وللعقل أن يجرد المادة عن
الصورة ويراهما بحيالهما ومنحازة كل عن الأخرى، وفي هذا
اللحاظ التجريدي الانحيازي يكون مفهوم كل مستعصيا على الحمل.
كما أن الصور المتدرجة في الكمال إذا وقفت عند حد، تكون بشرط لا
بالنسبة إلى الحدود الأخرى، والمفهوم المأخوذ منها بشرط لا
بالنسبة إلى حدود اخر، وإن كان لا بشرط بالنسبة إلى مصاديقه،
فالشجر هو النبات الواقف، أي بشرط لا والنامي هو الحقيقة
المتدرجة في الكمال، أي لا بشرط، والتفصيل موكول إلى محله.
والمراد أن اللا بشرطية والبشرط لائية ليستا جزافيتين تابعتين لاعتبار
المعتبر، فحينئذ نقول: لا يمكن أن تكون الهيئة لنفس إخراج
المادة عن البشرط لائية إلى اللا بشرطية من غير أن تكون حاكية لحيثية
بها صار المشتق قابلا للحمل، فإن نفس الحدث غير قابل
للحمل، ولم يكن متحدا في نفس الامر مع الذات، فقابلية الحمل
تابعة لحيثية زائدة على الحدث المدلول عليه بالمادة فلمادة
المشتقات
معنى ولهيئتها معنى آخر به صار مستحقا للحمل، وهذا عين التركيب.
220

تحقيق المقام:
ثم إن التحقيق الموافق للارتكاز العرفي والاعتبار العقلائي: هو أن لفظ
المشتق الاسمي القابل للحمل على الذوات - كأسماء الفاعل و
المفعول وأضرابهما من أسماء المكان والزمان والآلة - موضوع لأمر
وحداني قابل للانحلال إلى معنون مبهم وعنوان دون النسبة،
كما يشهد به تسميتها باسم الفاعل واسم المفعول، ونعم التسمية.
فإنا إذا سمعنا لفظ (الأبيض والأسود والضارب والمضروب) لا يقع
في ذهننا إلا المعنون بها، لكن بنحو الوحدة، فنجد فرقا بين معنى
(الأبيض) وبين (الجسم)، وكذا بينه وبين شي له البياض، فكأنه أمر
متوسط بينهما:
فلفظ (الجسم) بسيط - دالا ودلالة ومدلولا - غير قابل للانحلال.
وقوله: شي له البياض أو شي معنون بالأبيضية، يدل بالدلالات
المستقلات المنفصلات على المعاني المفصلة المشروحة.
وأما (العالم) فيدل على أمر وحداني منحل في عالم الدلالة إلى معنون
وعنوان، كأنهما مفهومان بدلالة واحدة، فيكون لفظ (العالم) دالا
على المعنون بما هو كذلك، لا بنحو التفصيل والتشريح، بل بنحو
الوحدة، فالدلالة والدال والمدلول لكل منها وحدة انحلالية في عالم
الدلالة والدالية والمدلولية.
221

فانحلال الجسم إلى المادة والصورة إنما هو في ذاته لا بما أنه مدلول
لفظه، بخلاف العالم، فإن انحلاله إلى المعنون والعنوان انحلال
مدلوله بما أنه مدلوله، فكما أن المادة والهيئة في المشتقات كأنهما
موجودان بوجود واحد كذلك في الدلالة، كأن دلالتهما دلالتان في
دلالة واحدة والمفهوم منهما مفهومان في مفهوم واحد، وفي نفس
الامر - أيضا - كأنهما موجودان بوجود واحد، وهذا المفهوم - أي
المعنون بما هو كذلك - قابل للصدق على الذات والحمل على
الافراد، فزيد في الخارج متحد الوجود مع الضارب الذي مفاده
بحسب
التحليل المعنون بالضرب أو الضاربية.
وأما ما عن المحقق الشريف (1) من الذهاب إلى البساطة بالبرهان
المعروف، فمع إنه لا تثبت به البساطة - بل عدم أخذ الذات في
المشتق، وهو أيضا بصدد هذا، لا البساطة على ما ظهر من محكي
كلامه - أن الاشكال في جعل الناطق بماله من المعنى فصلا لا يرتفع
ببساطة المشتق، فإن المبدأ في

(1) شرح المطالع: 11 - سطر 1 من الحاشية العليا.
المحقق الشريف: هو السيد محمد بن علي الحسيني الحنفي
الجرجاني الاسترآبادي، المعروف بالمحقق الشريف. ولد سنة (740
ه) في
جرجان. درس عند قطب الدين الرازي، ثم انتقل إلى شيراز، وكان
مدرسا في دار الشفاء إلى أن احتل (تيمورلنك) بلاد فارس سنة
(789 ه) فأمر الشريف أن يهاجر إلى (سمرقند). له عدة مصنفات منها:
شرح المواقف وحاشية شرح المطالع وشرح الشمسية، وحواش
على المطول، وشرح الكافية. توفي في (شيراز) سنة (816 ه).
انظر الكنى والألقاب 2: 324، روضات الجنات 5: 300.
222

المشتق لا بد وأن يكون حدثا، أو ما بحكمه مما يجوز الاشتقاق منه
كالوجود وأمثاله على ما سيأتي (1)، فلا يمكن أن يكون المشتق بما له
من المعنى فصلا، بسيطا كان أو مركبا، فما يظهر منه - من أنه لو كان
بسيطا لارتفع الاشكال - ليس بشئ. ولو التزم بأن الناطق جعل
فصلا لا بماله من المعنى الاشتقاقي حقيقة، لم يتم مدعاه من عدم
أخذ الذات في المشتق.
ثم إن إشكاله - على فرض وروده - إنما يتم إذا كان مفهوم المشتق
مركبا تفصيليا من مثل الذات أو الشئ أو نحوهما دون ما ذكرنا.
توضيحه: أن الحد التام لا بد وأن يكون محددا ومعرفا للماهية على ما
هي عليه في نفس الامر، ولو تخلف عنها في حيثية من الحيثيات
لم يكن تاما، وماهية الانسان ماهية بسيطة يكون جنسها مضمنا في
فصلها وفصلها في جنسها لان مأخذهما المادة والصورة
المتحدتان، ولا بد أن يكون الحد مفيدا لذلك، فلو كانت أجزأ الحد
حاكية عن أجزأ الماهية في لحاظ التفصيل لم يكن تاما.
فلا محيص عن أن يكون كل جز حاكيا عن المحدود بما هو بحسب
الواقع من الاتحاد، وهو لا يمكن إلا بأن يكون الحيوان الناطق -
المجعول حدا - حاكيا عن الحيوان المتعين بصورة الناطقية أي المادة
المتحدة بتمام المعنى مع الصورة، فالذات المبهمة المأخوذة على
نحو الوحدة مع العنوان في المشتق صارت متعينة بالتعين الحيواني،
فكأنه قال: الانسان حيوان متلبس بالناطقية،

(1) أشار إليه في صفحة: 232.
223

وكانت الناطقية صورة لهما، وهي متحدة معهما، لا أنه شي والناطق
شي آخر، فتدبر جيدا.
وأما الشق الثاني من إشكاله، فمدفوع - أيضا - بما ذكرنا من أن الشئ
أو الذات أو المصاديق لم تؤخذ في مفهوم المشتق على نعت
التفصيل، بل المفهوم منه شي واحد، فالاخبار بقوله: (زيد ضارب)
إخبار عن ضاربيته، لا عن زيد وعن ضاربيته.
مع أنه لو أخذ تفصيلا - أيضا - لا يرد إشكاله لان قوله: (الانسان إنسان
له الضرب) قد يراد به إخباران: أحدهما عن إنسانيته، والثاني
عن ضاربيته، فيصير قضيتين ضرورية وممكنة، وأما لو لم يرد بذلك
إلا الاخبار بضاربيته، فلا يكون الكلام إلا مسوقا لاخبار واحد
هو حكاية ضاربيته، ومعلوم أن قوله: (زيد ضارب) يراد به الاخبار
بالضاربية.
ثم بعد اللتيا والتي ليس إشكال الشريف عقليا، بل هو تشبث بالتبادر
عند المنطقيين.
وقد يتمسك لاثبات البساطة: بأن الضرورة قاضية بأنه لو قيل:
(الانسان قائم) ثم قيل: (إنه شي - أو - ذات) ما فهم منه التكرار، ولو
قيل: (إنه ليس بشئ وذات) ما فهم منه التناقض، وكذا لو قيل:
(الانسان قائم) ثم قيل:
(إنه إنسان) ما فهم منه التكرار، ولو قيل: (إنه إنسان وليس بقائم) ما
فهم منه التناقض، وهذه آيات البساطة وعدم أخذ الذات أو
مصداقها فيه.
وفيه: - مضافا إلى عدم إثباتها البساطة - أن ذلك رد على من قال
بأخذ
224

الذات أو مصداقها تفصيلا، وأما على ما ذكرناه فلا ينقدح في الذهن
إلا عنوان واحد، وبعد التوجه الثاني ينحل إلى شي مبهم وغيره.
هذا مضافا إلى أن التناقض بين القضيتين فرع الاخبار، وقد عرفت أن
قوله: (زيد قائم) إخبار واحد بقيام زيد لا بشيئيته أو إنسانيته،
وكذا الحال لو أريد بالتكرار تكرار القضية، وإن أريد تكرار المفردات
فالجواب ما تقدم.
الثاني: في الفرق بين المشتق ومبدئه:
قال المحقق الخراساني (1) رحمه الله: الفرق بين المشتق ومبدئه
مفهوما: أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل لاتحاده مع الموضوع، بخلاف
المبدأ فإنه يأبى عنه، بل إذا قيس إليه كان غيره لا هو هو، وإليه يرجع
ما عن أهل المعقول (2) من أن المشتق يكون لا بشرط، والمبدأ
بشرط لا.
انتهى ملخصا.
أقول: لولا قوله: إلى بذلك يرجع إلخ، كان كلامه مجملا قابلا للحمل
على الصحة، وإن لم يكن مفيدا فإن قابلية حمل المشتق ليست
مجهولة، وكذا عدم قابلية المبدأ، فكان عليه بيان لمية قابلية حمل
ذاك، وعدم قابلية ذلك.
كما أن ما نسب إلى أهل المعقول لا تنحل به عقدة، مع عدم صحته في

(1) الكفاية 1: 83.
(2) الشواهد الربوبية: 43.
225

نفسه لان المادة إذا كانت بشرط لا، وهي مأخوذة في المشتق
اللابشرط، يجتمع فيه المتنافيان لاقتضاء أحدهما الحمل والاخر
عدمه.
ولو قيل: إن الهيئة تقلب المادة إلى اللابشرط، ففيه: أن ذلك لا يرجع
إلى محصل، إلا أن يراد به استعمال المادة في ضمن هيئة المشتق في
الماهية اللابشرط، وهو - مع استلزامه المجازية - يهدم دعوى الفرق
بين المادة والمشتق بما ذكر، إلا أن يراد بالمادة المصدر، وهو
كما ترى.
والتحقيق: أن مادة المشتقات موضوعة لمعنى في غاية الابهام و
اللا تحصلية، ويكون تحصله بمعاني الهيئات، كما أن نفس المادة -
أيضا
- كذلك بالنسبة إلى الهيئة، فمادة (ضارب) لا يمكن أن تتحقق إلا في
ضمن هيئة ما، كما أنه لا تدل على معنى باستقلالها، فهي مع هذا
الانغمار في الابهام وعدم التحصل، لا تكاد تتصف بقابلية الحمل ولا
قابليته بنحو الايجاب العدولي أو الموجبة السالبة المحمول. (1)
نعم، هي لا تكون قابلة للحمل بنحو السلب التحصيلي (2) لعدم شيئية
لها بنحو التحصل والاستقلال، فهي مع كل مشتق بنحو من التحصل.
نعم بناء على ما ذكرنا سابقا (3) من كون هيئة المصدر واسمه إنما هي

(1) (1) كذا، والأقرب: أو الايجاب مع سلب المحمول. أي ولا قابلية
الحمل بنحو الايجاب مع سلب المحمول.
(2) كذا، والظاهر أن الأقرب بحسب السياق: نعم، هي لا تكون قابلية
للحمل إلا بنحو السلب التحصيلي
(3) وذلك في صفحة: 202.
226

موضوعة للتمكين من النطق بالمادة، يكون المصدر كاسمه هو
الحدث المتحصل، ولأجل تحصله يأبى عن الحمل لحكايته عن
الحدث
المجرد عن الموضوع ولو بنحو من التحليل، بخلاف المادة فإنها
بنفسها لا تحصل لها ولا لمعناها.
فاتضح بما ذكرنا: أن مادة المشتقات مفترقة عن المصادر وأسمائها
بالتحصل واللا تحصل، وأما الفرق بينها وبين المشتقات القابلة
للحمل، فهو أن المشتقات موضوعة للمعنون بما أنه معنون، والمادة
موضوعة للعنوان المبهم لا بقيد الابهام، بل يكون نفسه مبهما، و
الهيئة موضوعة لإفادة معنونية شي ما بالمبدأ، فإذا تركب اللفظ من
المادة والهيئة كالتركيب الاتحادي، يدل على المعنون بالحدث بما
أنه معنون، لا بنحو الكثرة كما مر.
ولا يخفى أن مرادنا من التحصل ليس الوجود، فإنه واضح الفساد، بل
المراد به هو التحصل المستعمل في الماهيات النوعية مقابل الجنس،
فلا تغفل حتى لا تتوهم لزوم دلالة المصدر على معنى زائد عن نفس
الحدث، ولو اشتهى أحد أن يقول: إن حيثية تحصل الحدث - ولو
نوعيا - نحو من المعنى المدلول عليه بالهيئة، فلا مضايقة بعد وضوح
المطلب.
الثالث: كلام صاحب الفصول ومناقشته:
قال في الفصول (1) - ردا على من ذهب إلى أن الفرق بين المشتق

(1) الفصول الغروية: 62 / سطر 5 - 14.
227

ومبدئه هو الفرق بين الشئ لا بشرط وبينه بشرط لا - ما حاصله:
إن الحمل يتقوم بمغايرة باعتبار الذهن في لحاظ الحمل، واتحاد
باعتبار ظرف الحمل من ذهن أو خارج، ثم التغاير قد يكون اعتباريا
والاتحاد حقيقيا، وقد يكون حقيقيا والاتحاد اعتباريا، فلا بد فيه من
أخذ المجموع من حيث المجموع شيئا واحدا، وأخذ الأجزاء لا
بشرط، واعتبار الحمل بالنسبة إلى المجموع حتى يصح الحمل، و
العرض لما كان مغايرا لموضوعه فلا بد في حمله عليه من الاتحاد
على
النحو المذكور، مع أنا نرى بالوجدان عدم اعتبار المجموع من حيث
المجموع، بل الموضوع المأخوذ هو ذات الأشياء.
فيتضح من ذلك، أن الحمل فيها لأجل اتحاد حقيقي بين المشتق و
الذات، فلا بد أن يكون المشتق دالا على أمر قابل للحمل، وهو عنوان
انتزاعي من الذات بلحاظ التلبس بالمبدأ، فيكون المشتق مساوقا
لقولنا: ذي كذا ولذا يصح الحمل. انتهى بتوضيح وتلخيص منا.
وكلامه فيما هو راجع إلى ما نحن فيه لا يخلو من جودة، ويقرب مما
تقدم منا، مع فرق غير جوهري، ورد المحقق الخراساني (1) كأنه
أجنبي عن كلامه، خصوصا قوله: مع وضوح عدم لحاظ ذلك في
التحديدات. إلخ، فإن (الفصول) لا يدعي اعتبار المجموع في مطلق
الحمل، بل في حمل المتغايرين. نعم يرد عليه: أن ذلك الاعتبار لا
يصحح الحمل، وهو لا يضر

(1) الكفاية 1: 84 - 85.
228

بدعواه فيما نحن فيه، فراجع (الفصول).
ثم اعلم أن الحمل الهوهوي متقوم بالاتحاد بين الموضوع والمحمول،
فيريد المتكلم حكاية هذا الاتحاد، فلا تكون في نفس الامر - أي ما
هو ظرف الاخبار - مغايرة بينهما حتى بالاعتبار، فإن لحاظ التفكيك و
المغايرة يباين الاخبار بالاتحاد.
نعم، يكون الموضوع والمحمول في القضية اللفظية والمعقولة
متغايرين وجودا أو مفهوما أيضا، ففي مثل: (زيد زيد) لفظ (زيد)
بتكرره في ذهن المتكلم وكلامه وذهن المخاطب، موجودان حاكيان
عن هوية واحدة من غير اعتبار الكثرة في الواقع بين زيد و
نفسه، فإنه مخالف للواقع ومناف للاخبار بالوحدة، فالكثرة في القضية
اللفظية والذهنية المنظور بهما آليا، لا المنظور فيهما و
استقلاليا.
وأما حديث لزوم اعتبار التغاير - لئلا يلزم حمل الشئ على نفسه،
المساوق لوجود النسبة بين الشئ ونفسه، وهو محال (1) - ففيه: ما
تقدم في بعض المباحث (2): من عدم تقوم القضية بالنسبة، بل القضايا
الحملية التي مفادها الهوهوية مما لا نسبة فيها فراجع، فما يرى في
كلمات بعض المحشين (3) من التغاير الاعتباري الموافق لنفس الامر،
فليس بشئ.

(1) حاشية المشكيني على الكفاية 1: 84.
(2) كما في بحث " حال بعض الهيئات " صفحة: 86 وما بعدها.
(3) نهاية الدراية 1: 97 / سطر 11 - 12.
229

الرابع: في الاشكال على الصفات الجارية على ذاته تعالى:
قد يستشكل في الصفات الجارية على الله تعالى:
تارة: بأن المشتق بمفهومه يقتضي مغايرة المبدأ لما يجري عليه
المشتق، والمذهب الحق عينية الذات للصفات (1).
وأخرى: بأن المبدأ في المشتقات موضوع للحدث، وذاته تعالى
كصفاته فوق الجواهر والاعراض، فضلا عن الاحداث.
والتزم بعضهم بالنقل (2) والتجوز، وهو بعيد، مع أنا لا نرى بالوجدان
تأولا في حملها عليه تعالى، بل الوجدان حاكم بعدم الفرق بين
جريانها على ذاته تعالى وعلى غيره.
فهذا القول ضعيف، وإن لا يرد عليه: أن لازم النقل كون جريها عليه
لقلقة لسان، أو إرادة المعاني المقابلة، تعالى عن ذلك (3) وذلك لان
القائل به لما رأى أن مفاهيم المشتقات تقتضي زيادة المبادئ عن
الذات نزهه تعالى عنها، والتزم بالنقل إلى ما لا يلزم (منه) الزيادة،
فالعالم الجاري عليه تعالى هو نفس العلم، فهو تعالى علم وقدرة و
حياة، لا شي له هذه، فلا يلزم عليه ما ذكر.
(*)

(1) أجود التقريرات 1: 85.
(2) الفصول الغروية: 62 / سطر 28 - 29.
(3) الكفاية 1: 87 - 88.
230

وأما ما قال المحقق الخراساني: من كفاية المغايرة بين المبدأ وما
يجري عليه المشتق مفهوما، وبه صحح حملها على ذاته تعالى (1).
ففيه: أن الكلام في أن المشتق بهيئته ومادته يدل على تلبس الذات
بالمبدأ ولو تحليلا، وهو تعالى منزه عنه، فاختلافهما مفهوما كأنه
أجنبي عن الاشكال. مع أن اختلاف المبادئ مع ذاته تعالى ليس في
المفهوم بناء على أنه تعالى نفس العلم والقدرة، بل الاختلاف بينهما
هو الاختلاف بين المفهوم ومصداقه الذاتي.
وأما قوله: ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له تعالى
مفهوما قائما به عينا، لكنه بنحو من القيام، لا بأن يكون هناك
اثنينية وكان ما بحذائه غير الذات، بل بنحو الاتحاد والعينية، وعدم
فهم العرف مثل هذا التلبس لا يضر لكونه مرجعا في المفاهيم لا في
تطبيقها. (2)
ففيه: أن المدعى أن العرف يجري هذه الصفات عليه تعالى كما
يجريها على غيره تعالى (فكون) المرجع هو العرف في المفاهيم لا
التطبيق، أجنبي عن هذا. مع أن عدم مرجعيته في التطبيق - أيضا -
محل منع.
مضافا إلى أن العقل يرى عينية الصفات مع الذات غير قيامها بها، فلو
دل المشتق على قيام المبدأ بالذات لم يدفع الاشكال بذلك.
(*)

(1) الكفاية 1: 85.
(2) نفس المصدر السابق 1: 86 - 87.
231

فالتحقيق: أن المشتق لا يدل إلا على المعنون بعنوان المبدأ بما أنه
معنون، فلا يفهم من لفظ (العالم) إلا المعنون به من حيث هو كذلك، و
أما زيادة العنوان على المعنون وقيامه به فهو خارج عن مفهومه، لكن
لما كان الغالب فيه هو الزيادة، تنسبق المغايرة والزيادة إلى
الذهن لأجل التعارف الخارجي، لا لدلالة المفهوم عليها، فالمشتق
يدل على المعنون، والعينية والزيادة من خصوصيات المصداق.
وهو تعالى موصوف بجميع الصفات الكمالية ومعنون بهذه العناوين،
وهي جارية عليه بما لها من المعاني من غير نقل ولا تسامح، و
إنكار ذلك إلحاد في أسمائه على فرض، وخلاف المتبادر والارتكاز
العقلائي على آخر، فهو تعالى موصوف بكل كمال، وإن صرف
الوجود كل كمال. وتحقيق جمع صرف الوجود للأسماء - مع كونها
بحقائقها ثابتة له من دون شوب كثرة عقلية أو خارجية - موكول
إلى علمه (1).
وأما إشكال كون المبدأ في المشتق لا بد وأن يكون حدثا وعرضا و
هو تعالى منزه عنه، ففيه: أن ما هو مسلم أن المبدأ لا بد وأن
يكون قابلا للتصريف لو وردت الهيئات عليه، ولا دليل على كونه
حدثا وعرضا بالمعنى المنافي لذاته، والحقائق التي لها مراتب
الكمال والنقص والعلية والمعلولية - كحقيقة الوجود وكمالاتها -
قابلة للتصريف والتصرف، فإذا صدر منه تعالى وجود يصدق عليه
أن موجد، وعلى المعلول أنه موجد، ويجئ فيه

(1) الشواهد الربوبية: 38.
232

سائر التصرفات.
فالمشتق يدل على المعنون بعنوان من غير دلالة على الحدثية و
العرضية، فالعلم حقيقته الانكشاف من غير دخالة العرضية و
الجوهرية
فيه، فليس حقيقته إلا ذلك، وهو ذو مراتب وذو تعلق بغيره، لا نحو
تعلق الحال بالمحل.
وهو تعالى - باعتبار كونه في مرتبة ذاته كشفا تفصيليا في عين البساطة
والوحدة عن كل شي أزلا وأبدا - عالم، وباعتبار كون
ذاته منكشفة لدى ذاته يكون معلوما، فصدق المشتقات الجارية على
ذاته تعالى حقيقي من غير شوب إشكال. والحمد لله أولا وآخرا.
233

المقصد الأول في الأوامر
235

الفصل الأول فيما يتعلق بمادة الامر
وفيه أمور:
الأمر الأول في معنى مادة الامر
المعروف بينهم أن الامر مشترك لفظي بين الطلب وغيره (1)، والأول
معنى حدثي يصح منه الاشتقاق، ك (أمر يأمر)، والثاني ليس
كذلك، سوأ كان واحدا يساوق الشئ، أو الأخص منه كما هو الظاهر،
أو متعددا.
وفيه: أن الموضوع للمعنى الحدثي القابل للانتساب الذي منه يصح
الاشتقاق، هو المادة السارية في المشتقات كما هو شأن سائر مواد المشتقات،

(1) الفصول الغروية: 62 / سطر 35 - 37، الكفاية 1: 89 - 90، فوائد الأصول 1: 128،
نهاية الأفكار 1: 156.
237

والموضوع للمعنى الاخر أو المعاني الاخر هو لفظ الامر جامدا كلفظ
إنسان وشجر، فلا معنى للاشتراك فيه، ولعل من ذهب إليه كان
ممن يرى المصدر مادة المشتقات، وجرى غيره على منواله من غير
توجه إلى تاليه.
ومما ذكرنا يتضح فساد القول بالاشتراك المعنوي بين المعنى الحدثي
وغيره (1). مضافا إلى أن الجامع بينهما لا يكون حدثيا، فلا يمكن
منه الاشتقاق إلا بنحو التجوز، وهو كما ترى.
تنبيه:
المتبادر من مادة الامر المستعملة في المشتقات هو المعنى الجامع
بين هيئات الصيغ الخاصة بما لها من المعنى، لا الطلب - إلا أن يراد به
ما ذكرناه، وعليه فلا إشكال في الاشتقاق أصلا - ولا الإرادة المظهرة
ولا البعث وأمثالها.
ولا يبعد أن يكون المعنى الاصطلاحي مساوقا للغوي، أي لا يكون له
اصطلاح خاص، فإذا قال: (اضرب زيدا) يصدق على قوله (أمره)، و
هو غير (طلب منه) أو (أراد منه) أو (بعثه)، فإنها غير الامر عرفا.
فمادة الامر موضوعة لمفهوم اسمي منتزع من الهيئات بما لها من
المعاني، لا بمعنى دخول المعاني في الموضوع له، بل بمعنى أن
الموضوع له جامع الهيئات الدالة على معانيها، لا نفس الهيئات ولو
استعملت لغوا أو في غير معناها، فالمعنى مفهوم اسمي مشترك بين
الهيئات التي هي

(1) فوائد الأصول 1: 128، أجود التقريرات 1: 86 - 87.
238

الحروف الايجادية، وهذا المعنى بما أنه قابل للانتساب والتصرف
يصح منه الاشتقاق، كما أن الكلام واللفظ والقول مشتقات باعتبار
ذلك، فلا إشكال من هذه الجهة بوجه.
فلو سلم أن الامر لغة بمعنى الطلب، فالاشتقاق كما يمكن باعتباره
كذلك يمكن باعتبار المعنى الاصطلاحي - أي القول الخاص - لكن
باعتبار كونه حدثا صادرا من المتكلم.
فما يقال: من أن المعنى الاصطلاحي غير قابل للاشتقاق (1)، صحيح لو
جرى الاصطلاح على أن الامر بإزاء معنى متحصل لا يصدق إلا على
الصيغ المتحصلة، وهو غير معلوم.
الأمر الثاني في اعتبار العلو والاستعلاء فيها
المتبادر من الامر هو اعتبار العلو في معناه، فلا يكون من السافل و
المساوي أمرا عرفا، والعلو أمر اعتباري له منشأ عقلائي يختلف
بحسب الزمان والمكان، والميزان هو نفوذ الكلمة والسلطة والقدرة
على المأمور، فالسلطان المحبوس لا يكون إنشاؤه أمرا، بل طلبا
والتماسا، ورئيس المحبس يكون آمرا بالنسبة إليه.
والظاهر أن الاستعلاء - أيضا - مأخوذ فيه، فلا يكون استدعاء المولى من

(1) الفصول الغروية: 63 / سطر 6 - 7، الكفاية 1: 90.
239

العبد وإرشاده أمرا، كما أن الطلب من السافل ليس أمرا ولو استعلى.
هذا.
وقد يقال: إن العلو والاستعلاء لم يعتبرا في معنى الامر بنحو القيدية،
بل الطلب على قسمين، أحدهما ما صدر بغرض أنه بنفسه يكون
باعثا بلا ضميمة من دعاء والتماس، فيرى الامر نفسه بمكانة يكون
نفس أمره باعثا ومحركا، وهذا الامر لا ينبغي صدوره إلا من
العالي المستعلي، وهو غير الاخذ في المفهوم (1)
وفيه: أن مادة الامر
إذا كانت موضوعة لمفهوم مطلق - أي مطلق الطلب أو مطلق القول
الخاص - فلا معنى لعدم صدقه على الصادر من السافل أو المساوي،
فعدم الصدق معلول التقييد في المعنى، فبناء على كون الوضع في
الامر عاما والموضوع له كذلك، لا محيص عن الالتزام بتقييده بقيد
حتى لا يصدق إلا على العالي المستعلي فما ذكره - من أن الامر
الكذائي لا ينبغي صدوره خارجا إلا من العالي المستعلي من غير
تقييد في المفهوم - كأنه لا يرجع إلى محصل.
الأمر الثالث في أنها تدل على الايجاب أو لا؟
كون مادة الامر موضوعة للجامع بين الهيئات الصادرة عن العالي
المستعلي مطلقا، أو على سبيل الالزام والايجاب، محل تأمل.

(1) الحاشية على كفاية الأصول 1: 156، نهاية الأصول 1: 75.
240

لا يبعد رجحان الثاني، ويؤيده الآية (1) والروايات (2)، فإن قوله: (لولا
أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك) (3) ظاهر في أن الامر يوجب
المشقة والكلفة مع أن الاستحبابي لا يوجبهما، مضافا إلى أن الطلب
الاستحبابي وارد فيه، فلو كان أمرا لم يقل ذلك، والعمدة في الباب
التبادر لو تم، كما لا يبعد.
وأما ما قال بعض أهل التحقيق (4) - بعد اختياره كون لفظ الامر حقيقة
في مطلق الطلب - من أنه لا شبهة في ظهوره حين إطلاقه في
خصوص الطلب الوجوبي، ثم تفحص عن منشأ الظهور، أنه هل لغلبة
الاستعمال في الوجوب، أو هو قضية الاطلاق ومقدمات الحكمة، و
رد
الأول استشهادا بقول صاحب المعالم من كثرة استعماله في
الاستحباب (5) واختار الوجه الثاني، ثم حاول تقريبه بوجهين.
فهو بمكان من الغرابة، لخلطه بين مادة الامر الموضوعة لمفهوم كلي،
وبين صيغ الامر، فإن كثرة الاستعمال في كلام صاحب المعالم
إنما هي في الثاني

(1) وهي قوله تعالى: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب
أليم) النور: 63.
(2) سنن أبي داود 2: 270 / 2231 باب المملوكة تعتق من كتاب الطلاق.
(3) الفقيه 1: 34 / 16 باب 11 في السواك، الوسائل 1: 354 / 4 باب 3 من أبواب
السواك.
(4) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 196 - 197.
(5) معالم الدين: 48.
241

دون الأول، كما أن مورد التمسك بالاطلاق ومقدمات الحكمة كذلك،
وسيأتي في محله الكلام فيه (1).
ثم إن مبحث (الطلب والإرادة) بما هو عليه من طول الذيل لا يناسب
المقام، ولهذا أفرزته رسالة مفردة، وتركته هاهنا حذرا من التطويل.

(1) وذلك في صفحة: 252 وما بعدها.
242

الفصل الثاني فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه مباحث:
المبحث الأول صيغة الامر موضوعة للبعث والاغراء
قد ذكرنا معاني هيئات الفعل الماضي والمضارع والمشتقات الاسمية
سابقا (1)، وبقي بيان هيئة الامر: وهي - على ما يتبادر منها -
موضوعة للبعث والاغراء وتستعمل استعمالا إيجاديا لا حكائيا،
بخلاف هيئة الماضي والمضارع، فإنها موضوعة للحكاية.
فهيئة الامر كالإشارة البعثية والاغرائية، وكإغراء جوارح الطير و
الكلاب المعلمة، والفرق: أنها موضوعة لإفادة ذلك وإفهامه، فهي مع

(1) وذلك في الصفحة: 205 وما بعدها
243

إيجاد معناها مفهمة له وضعا، وأيضا إن انبعاث الحيوانات يكون
بكيفية الصوت والحركات والإشارات المورية لتشجيعها أو
تحريكها نحو المقصود، لكن انبعاث الانسان - بعد فهم بعث المولى
من أمره، وتحقق موضوع الإطاعة - لأجل مباد موجودة في نفسه
كالخوف والرجاء.
وما قيل - من عدم تصور كون اللفظ موجدا (1) - وجيه لو كان ما يوجد
به تكوينيا، لا مثل مفاد الهيئات والحروف الموجدة، فكما أن
حروف القسم والنداء موجدات بنحو من الايجاد لمعانيها كما تقدم (2)
وألفاظ العقود والايقاعات كذلك عند العقلا، كذلك هيئات
الأوامر وضعت لإيجاد الأغرأ والبعث، بل نرى أن بعض الألفاظ
المهملة مستعمل لاغراء بعض الحيوانات كالكلاب وغيرها، فهي
موجدة للاغراء والبعث بنحو لا بالوضع.
فما أفاده المحقق الخراساني - من كونها موضوعة لانشاء الطلب (3)،
الظاهر منه أنه غير البعث والاغراء - إن كان مراده الطلب الحقيقي
المتحد مع الإرادة على مذهبه (4) كما ذهب إليه بعض آخر (5)، حتى
يكون معنى (اضرب) أريد منك الضرب، فهو ممنوع، والسند التبادر.
وإن كان المراد الطلب الايقاعي، فلا نتصور غير البعث والاغراء شيئا آخر

(1) درر الفوائد 1: 40 و 42.
(2) وذلك في صفحة: 72 و 94 - 95.
(3) الكفاية 1: 102.
(4) نفس المصدر السابق 1: 93 - 95.
(5) الأصول: 109 / سطر 12 - 14، نهاية الأفكار 1: 173.
244

نسميه الطلب حتى ينشئه المتكلم بداعي البعث، ومع فرضه مخالف
للتبادر والتفاهم العرفي في كل لغة.
المبحث الثاني في معاني الهيئة
الظاهر أن المعاني الكثيرة التي عدت للامر - كالترجي والتمني و
التهديد إلى غير ذلك (1) - ليست معانيه، ولم توضع الهيئة لها، ولا
تستعمل فيها في عرض استعمالها في البعث والاغراء بل مستعملة
فيها على حذو سائر الاستعمالات المجازية، على ما سبق من
استعمال
اللفظ فيما وضع له، ليتجاوز منه إلى المعنى المراد جدا لعلاقة.
فهيئة الامر تستعمل: تارة في البعث ليحق (2) ذهن السامع عليه ويفهم
منها ذلك، فينبعث إلى المطلوب فيكون حقيقة.
وأخرى تستعمل فيه، لكن ليتجاوز ذهنه منه إلى المعنى المراد جدا
بعلاقة ونصب قرينة.
ففي قوله تعالى: أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات (3)
استعملت هيئة الامر في البعث، لكن لا لغرض البعث، بل للانتقال منه إلى

(1) مفاتيح الأصول: 110 / سطر 18 - 20، الكفاية 1: 101 - 102.
(2) أي ليثبت، و (حق عليهم القول)، أي ثبت. اللسان 10: 49. (2) هود: 13.
245

خطائهم في التقول على رسول الله صلى الله عليه وآله أو لتعجيزهم
عن الاتيان.
وقول الشاعر:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل. (1)
استعملت الهيئة في البعث - أيضا - للانتقال منه إلى تمنيه
للانجلاء، أو تحسره وتأثره من عدمه.
فاتضح أنه قد تستعمل الهيئة للانتقال إلى معنى إنشائي إيقاعي، فينشأ
تبعا لصيغة الامر كالتمني والترجي وقد تستعمل للانتقال إلى
معنى محقق في الواقع كما احتملنا في الآية الشريفة.
وبما ذكرنا يوجه الاستفهام والتمني والترجي وأمثالها الواردة في
كلام الله تعالى، فإن صدورها من المبادئ التي تكون مستلزمة
للنقص والجهل والانفعال ممتنع عليه تعالى دون غيرها، فيفرق بين
الجد والاستعمال، وإن كان للكلام في كيفية صدور القرآن
الكريم وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء طور آخر لا يساعد (عليه)
هذا المقام، وقد أشرنا إليها إجمالا في رسالة (الطلب والإرادة). (2)

(1) هذا صدر بيت عجزه:
بصبح وما الاصباح منك بأمثل
والبيت من معلقة امرئ القيس بن حجر الكندي.
ديوان امرئ القيس: 49.
(2) الطلب والإرادة: 47.
246

المبحث الثالث في أن الهيئة تدل على الوجوب أم لا؟
بعد ما عرفت أن الهيئة وضعت للبعث والاغراء، يقع الكلام في أنها
هل وضعت للبعث الوجوبي، أو الاستحبابي، أو القدر المشترك
بينهما، أو لهما على سبيل الاشتراك اللفظي؟ فلا بد في تحقيق ذلك
من مقدمات:
الأولى: أنه تختلف إرادة الفاعل فيما صدر منه قوة وضعفا حسب
اختلاف أهمية المصالح المدركة عنده، فالإرادة المحركة لعضلاته
لنجاة نفسه عن الهلكة أقوى من الإرادة المحركة لها للقاء صديقه، و
هي أقوى من المحركة لها للتفرج (1) والتفريح، فمراتب الإرادة قوة
وضعفا تابعة لادراك أهمية المصالح أو اختلاف الاشتياقات، و
اختلاف حركة العضلات سرعة وقوة تابع لاختلاف الإرادات كما هو
ظاهر.
فما في تقريرات بعض أعاظم العصر رحمه الله - من أن تحريك
النفس للعضلات في جميع الموارد على حد سوأ (2) - كما في
تقريرات
بعض المحققين (3) رحمه الله - من أن الإرادة التكوينية لا يتصور فيها
الشدة والضعف - مخالف للوجدان والبرهان:

(1) التفرج كالانفراج مطاوع الفرج والتفريج، بمعنى انكشاف الكرب و
ذهاب، الغم. اللسان 2: 343.
(2) فوائد الأصول 1: 135 - 136.
(3) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 213.
247

أما الأول فظاهر، ضرورة أقوائية إرادة الغريق لخلاص نفسه من إرادة
الفاعل لكنس البيت وشراء الزيت.
وأما الثاني: فلان اختلاف الآثار يدل على اختلاف المؤثرات، و
اختلاف حركة العضلات المشاهد كاشف عن اختلاف الإرادة المؤثرة
فيها، كما أن اختلاف الدواعي موجب لاختلاف الإرادات، فالداعي
لانجاء المحبوب من الهلكة موجب لإرادة الحتمية القوية، بخلاف
الداعي
إلى شراء اللحم، وهذا لا ينافي كون الإرادة بفعالية النفس كما هو
التحقيق.
وأما التفصيل بين الإرادة التكوينية والتشريعية، فلا يرجع إلى محصل.
الثانية: أن الإرادة لما كانت من الحقائق البسيطة كالعلم والوجود،
يكون التشكيك الواقع فيها خاصيا - ما به الافتراق بين مراتبها عين
ما به الاشتراك - ولا يكون الاختلاف بينها بتمام الذات المستعمل
في باب الماهيات، أو بعضها، أو خارجها (1) ضرورة عدم التباين
الذاتي بين الإرادة القوية والضعيفة، ولا يكون اختلافهما ببعض
الذات لبساطتها، ولا بأمر خارج، حتى تكونا في مرتبة واحدة و
الشدة،
والضعف لاحقان بها، فالإرادة كسائر الحقائق البسيطة يكون افتراق
مراتبها كاشتراكها بتمام الذات، وتكون ذات عرض عريض و
مراتب شتى.
الثالثة: أن صدور الامر من الامر - بما أنه فعل إرادي له كسائر أفعاله
الإرادية - مسبوق بمقدمات من التصور إلى الإرادة وتحريك العضلات، غاية

(1) أي: أو بأمر خارج عنها.
248

الامر أن العضلات فيه عضلات اللسان، وتكون الإرادة فيه - قوة و
ضعفا - تابعة لادراك أهمية الفعل المبعوث إليه، ضرورة أن الإرادة
الباعثة إلى إنجاء الولد من الغرق أقوى من الباعثة إلى شراء اللحم.
ثم إنه قد يظهر آثار الشدة في المقال، بل في كيفية تأدية الكلام شدة،
أو في الصورة علوا وارتفاعا، وقد (يقرن) أمره بأداة التأكيد و
الوعد والوعيد، كما أنه قد (يقرنه) بالترخيص في الترك، أو بما يفهم
منه الوجوب أو الاستحباب.
وبالجملة: أن الامر بما هو فعل اختياري إرادي صادر من الفاعل
المختار، كسائر أفعاله من حيث المبادئ وجهات الاختلاف، فقد
يحرك
الفاعل عضلات يده أو رجله لتحصيل مطلوبه مباشرة، وقد يحرك
عضلات لسانه لتحصيل مطلوبه بمباشرة الغير، لا لان الامر الذي
مفاده البعث هو الباعث بذاته، فإنه غير معقول، بل لأدائه بمقدمات
اخر - على فرض تحققها - إلى انبعاث المأمور، فإذا أمر المولى بشئ
ووصل إلى العبد وتصور أمره، فإن وجدت في نفسه مباد اخر كالحب
والمعرفة والطمع والخوف وأمثالها تصير هذه المبادئ داعية
للفاعل، فالامر محقق موضوعه الطاعة، لا المحرك بالذات.
الرابعة: قد ظهر مما مر (1) أن الامر بما هو فعل إرادي للفاعل تابع
(*)

(1) قد ذكرنا ما يفيد في المقام في التعليقة المستقلة (صفحة: 82)
فراجع.
(منه قدس سره)
(أ) لم نعثر في الصفحة المشار إليها من المخطوطة ما يخص المقام، والظاهر أنه - قدس سره -
يقصد بذلك هامشا كتبه في ورقة مستقلة فقدت من المخطوطة.
249

لإرادته، فهو كاشف عنها نحو كشف المعلول عن علته، فإن العقل
يحكم بأن كل فعل إرادي لا يتحقق من الفاعل المختار إلا بإرادته، و
بما أنه بعث نحو المبعوث إليه كاشف عن مطلوبيته، نظير كشف
المعلول عن علته بوجه، فإن الداعي إلى الامر مطلوبية فعل المأمور
به.
فدلالة الامر على الإرادة المتعلقة بصدوره وعلى مطلوبية الفعل
المأمور به ليست دلالة لفظية وضعية، بل دلالة عقلية كدلالة كل ذي
مبدأ
على تحقق مبادئه.
إذا عرفت ما ذكر يقع البحث في أن هيئات الأوامر هل تدل على
الوجوب أم لا؟ وعلى الأول: هل تكون الدلالة وضعية، أو بسبب
الانصراف، أو لا هذا ولا ذاك، بل بمقدمات الحكمة تكون ظاهرة فيه،
أولا تحتاج إليها - أيضا - فيه أو أنها كاشفة عن الإرادة الحتمية
الوجوبية كشفا عقلائيا ككاشفية الأمارات العقلائية؟ وعلى فرض
عدم وضعها للوجوب وعدم دلالتها عليه، فهل تكون حجة على
الوجوب بحكم العقل والعقلاء أولا؟ وجوه:
أما الدلالة الوضعية: فإن يرد منها أنها وضعت للبعث المتقيد بالإرادة
الحتمية، فهو ظاهر البطلان إن أريد التقيد بهذا المفهوم، ضرورة
عدم إمكان تقيد البعث بالحمل الشائع بمفهوم أصلا، وقد عرفت أن
الهيئة وضعت له.
250

وإن أريد التقيد بواقعها فلا يمكن، لان البعث متأخر عن الإرادة
بمراتب، فلا يعقل تقيدها بها، والمعلول لا يمكن أن يتقيد بعلته،
فضلا
عن علة علته، أو كعلة علته في التقدم، للزوم كون المتأخر متقدما أو
بالعكس.
نعم، يمكن أن يقال: إن الإرادة الحتمية لما كانت منشأ للبعث ب آلية
الهيئة، فللبعث المنشأ بها تحصل غير تحصل البعث المنشأ بالإرادة
الغير الحتمية بحسب نفس الامر، والواضع يمكن أن يتصور جامعا
عرضيا انتزاعيا بين أفراد البعث الناشئة من الإرادة الحتمية، فيضع
الهيئة بإزاء مصاديقه، فتكون هيئة الامر مستعملة استعمالا إيجاديا، و
يكون وضعها عاما والموضوع له خاصا، وهو إيجاد البعث
الخاص الناشئ من الإرادة الحتمية من غير تقيد بها.
وهذا التصوير وإن يدفع الاستحالة لكن التبادر والتفاهم العرفي
يضاده، ضرورة أن المتفاهم (به) من الهيئة ليس إلا البعث والاغراء،
كإشارة المشير لاغراء غيره، وكإغراء الجوارح من الطيور وغيرها،
فكأن لفظ الهيئة قائم مقام تلك الإشارة وذلك الأغرأ.
وأما دعوى الانصراف إلى البعث الناشئ من الإرادة الحتمية (1)، فلا
مجال لها، لان ملاك الانصراف الحاصل من أنس الذهن بكثرة
الاستعمال مفقود، وغيره ليس منشأ له.

(1) نهاية الدراية 1: 126 / سطر 16 - 18.
251

ومن ذلك يعلم ما في دعوى الكشف العقلائي (1)، فإن الامر وإن كان
كاشفا عن إرادة الامر في الجملة، لكن كشفه عن الإرادة الحتمية
من غير ملاك غير معقول، وليس ملاك معقول في المقام إلا كثرة
الاستعمال، بحيث صار غيره من النادر الذي لا يعتني به العقلا، وهو
مفقود.
وأما دعوى ظهوره في الوجوب بمقدمات الحكمة، فقد قررها بعض
محققي العصر - رحمه الله - بوجهين:
أحدهما: أن الطلب الوجوبي هو الطلب التام الذي لا حد له من جهة
النقص والضعف، بخلاف الاستحبابي، فإنه مرتبة محدودة بحد
النقص
والضعف، ولا ريب في أن الوجود الغير المحدود لا يفتقر في بيانه
إلى أكثر مما يدل عليه، بخلاف المحدود، فإنه يفتقر إلى بيان
حدوده وأصله، وعليه يلزم حمل الكلام الذي يدل على الطلب بلا
ذكر حد له على المرتبة التامة.
وهو الوجوب، كما هو الشأن في كل مطلق. هذا ملخص ما ذكر في
مادة الامر (2).
وقرره في المقام بأن مقدمات الحكمة كما تجري في مفهوم الكلام
لتشخيصه من حيث سعته وضيقه، كذلك يمكن أن تجري في
تشخيص الفرد الخاص فيما أريد بالكلام فردا مشخصا، كما لو كان
لمفهوم الكلام فردان في

(1) نهاية الدراية 1: 126 / سطر 6 - 8.
(2) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 197.
(3) نفس المصدر السابق 1: 214.
252

الخارج، وكان أحدهما يستدعي مئونة في البيان أكثر من الاخر،
كالإرادة الوجوبية والندبية، فإن الأولى تفترق عن الثانية بالشدة،
فيكون ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك، وأما الثانية فيفترق عن
الأولى بالضعف، فما به الامتياز فيها غير ما به الاشتراك،
فالإرادة الندبية تحتاج إلى دالين بخلاف الوجوبية. انتهى ملخصا.
وفيه محال أنظار:
منها: أن مقدمات الحكمة في المطلق لو جرت فيما نحن فيه، فنتيجتها
إثبات نفس الطلب الذي هو القدر المشترك بين الوجوبي و
الاستحبابي باعترافه، فإن المادة إذا وضعت للقدر الجامع لا يمكن أن
تفيد مقدمات الحكمة دلالتها على غيره مما هو خارج عن
الموضوع له.
ودعوى عدم الفرق بين القدر الجامع والطلب الوجوبي، واضحة
الفساد، ضرورة لزوم افتراق الفرد عن الجامع بخصوصية زائدة.
نعم هاهنا كلام، وهو أن نفس الطلب الجامع ليس له وجود إلا بوجود
أفراده، فلا يمكن أن تنتج مقدمات الحكمة ظهور الامر في نفس
الجامع، للقطع بحصوله مع أحد الفردين، لكن هذا يهدم جريان
المقدمات ولا يوجب إنتاجها ظهور الامر في أحد القسمين مع كونه
متساوي النسبة إليهما.
ومنها: أن كون ما به الاشتراك في الحقائق الوجودية عين ما به الامتياز،
لا يوجب عدم الاحتياج - في صرف الجامع إلى أحد القسمين -
إلى بيان زائد
253

عن بيان نفس الطبيعة، ضرورة إن الأقسام تمتاز عن المقسم بقيد زائد
في المفهوم ولو فرض عدم الزيادة في الوجود.
فالوجود المشترك مفهوما بين مراتب الوجودات لا يمكن أن يكون
معرفا لمرتبة منها، بل لا بد في بيانها من قيد زائد ولو من باب
زيادة الحد على المحدود، فنفس مفهوم الوجود لا يكون حاكيا إلا عن
نفس الحقيقة الجامعة بينها، ولا بد لبيان وجود الواجب من زيادة
قيد، كالتام، والمطلق، والواجب بالذات، ونحوها، فالإرادة القوية
كالضعيفة تحتاج إلى بيان زائد، وكذا نظائرها.
ومنها: أن ما ذكر - من أن ما به الاشتراك في طرف الناقص غير ما به
الامتياز - ليس على ما ينبغي، لان الإرادة الضعيفة ليست مركبة
من إرادة وضعف، كالإرادة القوية التي ليست مركبة منها ومن قوة، فما
به الاشتراك في الحقائق البسيطة عين ما به الامتياز في جميع
المراتب، قضاء لحق البساطة وكون الحقيقة ذات مراتب.
فالوجود الضعيف والإرادة الضعيفة وأمثالهما مرتبة من الحقيقة
البسيطة تكون بنفس ذاتها ممتازة عن القوية ففي الوجود الخارجي
تكون كلتا المرتبتين بسيطتين - ما به الاشتراك فيهما عين ما به الامتياز
- وتكون الحقيقة ذات عرض عريض، وفي مقام البيان و
التعريف يحتاج كلاهما إلى معرف غير نفس المفهوم المشترك.
وبالجملة: أن ما ذكره من عدم احتياج الطلب التام والإرادة التامة إلى
بيان
254

زائد عن أصل الطلب والإرادة غير وجيه.
الوجه الثاني (1): أن كل طالب إنما يأمر لأجل التوسل إلى إيجاد المأمور
به، فلا بد أن يكون طلبه غير قاصر عن ذلك وإلا فعليه البيان، و
الطلب الالزامي غير قاصر عنه، دون الاستحبابي، فلا بد أن يحمل
عليه الطلب.
وفيه ما لا يخفى من الوهن، فإن دعوى هذه الكلية: إن ترجع إلى أن
كل آمر بصدد تحصيل المأمور به على سبيل الحتم والالزام، فهي
مصادرة، مع كونها ممنوعة أيضا، فإن الأوامر على قسمين.
وإن ترجع إلى أن كل آمر بصدد إحداث الداعي وتحصيل المأمور به
في الجملة، فهي مسلمة، لكن لا تفيد، فإن بعثه أعم من الالزامي و
غيره.
وإن ترجع إلى أن الطلب الاستحبابي يحتاج إلى البيان الزائد دون
الوجوبي، فقد مر ما فيه، لرجوع هذا الوجه إلى الوجه الأول.
وأما ما أفاده شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - من أن الحمل على
الوجوب لعله لأجل أن الإرادة المتوجهة إلى الفعل تقتضي وجوده
ليس
إلا، والندب إنما يأتي من قبل الاذن في الترك منضما إلى الإرادة
المذكورة، فاحتاج إلى قيد زائد (2).
ففيه أن الإرادة في الوجوب والندب مختلفة مرتبة كما تقدم، ولا يمكن

(1) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي 1: 197.
(2) درر الفوائد 1: 43.
255

أن تكون الإرادة فيهما واحدة ويكون الاختلاف بأمر خارج، فحينئذ
فللارادة الحتمية نحو اقتضاء غيره في الغير الحتمية.
وأما ما أفاد: من عدم احتياج الحمل على الوجوب إلى مقدمات
الحكمة، نظير القضية المسورة بلفظة (كل) (1)، فقياسه مع الفارق، فإن
الألفاظ الدالة بالوضع على الاستغراق إذا استعملت لا محالة يكون
المتكلم بها في مقام بيان حكم الافراد المدخولة لها، فإنها بمنزلة
تكرار الافراد، فالقضية المسورة بها متعرضة لكل فرد فرد بنحو الجمع
في التعبير، فلا معنى لعدم البيان بالنسبة إليها، نعم أحوال
الافراد لا بد لها من مقدمات الحكمة.
فالحق أن الهيئات لا تدل بالدلالة الوضعية إلا على البعث والاغراء من
غير دلالة على الوجوب والاستحباب، بل لا معنى للدلالة عليهما و
لا لاستعمالها فيهما، فإن الوجوب والاستحباب إن كانا بلحاظ الإرادة
الحتمية وغيرها أو المصلحة الملزمة وغيرها، فهما من مبادئ
الاستعمال، ولا يعقل أن تكون مستعملة فيهما، وحتمية الطاعة و
عدمها منتزعتان بعد الاستعمال، فلا يعقل الاستعمال فيها.
وبعد اللتيا والتي: أن ما لا ريب فيه ولا إشكال يعتريه هو حكم العقلا
كافة بأن الامر الصادر من المولى واجب الإطاعة وليس للعبد
الاعتذار باحتمال كونه ناشئا من المصلحة الغير الملزمة والإرادة الغير
الحتمية، ولا يكون ذلك للدلالة لفظية، أو انصراف، أو مقدمات حكمة.

(1) المصدر السابق.
256

والدليل عليه: أن الأغرأ والبعث إذا صدر من المولى بأي دال كان،
لزم عند العقلا إطاعته، من غير فرق بين اللفظ والإشارة مع عدم
وضع لها، ولا تجري فيها مقدمات الحكمة، فنفس صدور البعث و
الأغرأ موضوع حكمهم بلزوم الطاعة من غير حكمهم بكشفه عن
الإرادة الحتمية، لعدم الملاك فيه كما عرفت. فكون الامر للوجوب
ليس إلا لزوم إطاعته عند العقلا حتى يرد منه ترخيص. ولعل ذلك
مغزى مرام شيخنا العلامة أعلى الله مقامه.
تتميم: في الجمل الخبرية المستعملة في مقام الانشاء:
لا إشكال في أن الجمل الخبرية المستعملة في مقام البعث والاغراء
كالهيئات في حكم العقلا بلزوم إطاعتها، لما عرفت من أن البعث -
بأي دال صدر من المولى - كان تمام الموضوع للزوم الاتباع، وإنما
الكلام في كيفية دلالتها على البعث.
والذي يمكن أن يقال: إنها مستعملة في معانيها الخبرية بدعوى
تحققها من المخاطب، مدعيا أن المخبر به أمر يأتي به المخاطب من
غير
احتياج إلى الامر، لوضوح لزوم إتيانه بحكم العقل، كما إذا قلت: (إن
ولدي يصلي) أو (إنه يحفظ شأن أبيه) بداعي إغرائه بذلك، فإنك
تستعمل الجملة في معناها بدعوى كون الامر بمكان من الوضوح لا
يحتاج إلى الامر، بل يأتي به بتميزه وعقله.
وما ذكرنا موافق للذوق السليم والمحاورات العرفية.
257

المبحث الرابع في التعبدي والتوصلي
وأن الأصل ما ذا يقتضي؟ ويتم البحث بتقديم أمور:
الأول: في معنى التعبدية والتوصلية:
إن الواجبات بل المستحبات في الشريعة على أقسام:
أحدهما: ما يحصل الغرض بها كيف ما تحققت، أي يكون المطلوب
فيها نفس التحقق والوجود بأي نحو حصل، كستر العورة، وإنقاذ
الغريق، والنظافة.
ثانيها: ما لا يحصل الغرض بها إلا مع قصد عناوينها من غير احتياج إلى
قصد التقرب والتعبد، كرد السلام وكالنكاح الواجب أو
المستحب.
ثالثها: ما لا يحصل بها بصرف قصد العناوين، بل لا بد في سقوط أمرها
من الاتيان بها متقربا إلى الله تعالى. وهذا على قسمين:
أحدهما: ما ينطبق عليه عنوان العبودية لله تعالى المعبر عنه في لغة
الفرس ب (پرستش) كالصلاة والحج والاعتكاف.
وثانيهما: ما ليس كذلك وإن كان قربيا، أي يعتبر فيه قصد التقرب و
الطاعة، كالزكاة والخمس بل والصوم، فإن إتيان الزكاة - مثلا
- وإن
258

فيه قصد التقرب، لكن لا تكون عبادة بالمعنى المساوق ل (پرستش)
ضرورة أن كل فعل قربي لا ينطبق عليه عنوان العبودية، ألا ترى
أنه لو أطاع أحد والديه أو السلطان بقصد التقرب إليهم لا تكون إطاعته
عبارة لهم، فستر العورة والاستبراء بقصد الامر والتقرب إلى
الله ليسا عبودية له، بل إطاعة لامره.
فالواجبات المعتبرة فيها القربة على قسمين: تعبدي وتقربي، فالأول
ما يؤتي به لأجل عبودية الله تعالى والثناء عليه بالمعبودية
كالصلاة التي (هي) أظهر مصاديقها، فإنها في الحقيقة ثناء عليه تعالى
وبعنوان العبودية، بخلاف الثاني، فإن اعطاء الزكاة إطاعة له
تعالى لا ثناء عليه بالمعبودية، فلا يجوز إتيان عمل بعنوان التعبد لغيره
تعالى بخلاف الاتيان بعنوان التقرب.
فحينئذ نقول: المراد بالواجب التعبدي - فيما نحن فيه - هو الواجب
التقربي بالمعنى الأعم من التعبدي بالمعنى المتقدم، وهو مالا يسقط
الغرض بإتيانه إلا بوجه مرتبط إلى الله تعالى سوأ قصد الامتثال له أو
التقرب إليه تعالى والتوصلي بخلافه، سوأ سقط الغرض بإتيانه
كيف ما اتفق أو احتاج إلى قصد العنوان.
واتضح مما ذكرنا وجه الخلل في تعريف التعبدي: بأنه الذي شرع
لأجل التعبد به لربه المعبر عنه بالفارسية ب (پرستش) (1)، فإن
الواجبات التعبدية بالمعنى المبحوث عنه أعم مما ذكر.

(1) فوائد الأصول 1: 137 - 138.
259

الثاني: في إمكان أخذ قصد الامر في متعلق الأمر:
الدواعي القربية على أنحاء مشتركة في ورود بعض إشكالات المقام
عليها، ويختص بعضها بإشكالات زائدة، فإن كان التقرب المعتبر
هو قصد امتثال الامر وإطاعته، ففي جواز اعتباره في متعلق الأمر
وجهان أقواهما الجواز، ويظهر وجهه بعد رفع الاشكالات المتوهمة،
وهي على أنحاء:
منها: دعوى امتناع أخذه في المتعلق امتناعا ذاتيا، أي التكليف
الكذائي محال.
ومنها: دعوى الامتناع بالغير لكونه تكليفا بغير المقدور.
ولكل منهما تقريبات.
في أدلة الامتناع الذاتي:
أما الأول: فقد يقرر وجه الامتناع فيه بلزوم تقدم الشئ على نفسه، بأن
يقال: إن الاحكام أعراض للمتعلقات، وكل عرض متأخر عن
معروضه، وقصد الامر والامتثال متأخر عن الامر برتبة، فأخذه في
المتعلقات موجب لتقدم الشئ على نفسه برتبتين.
وقد يقال: إن الامر يتوقف على الموضوع، والموضوع يتوقف على
الامر، لكون قصده متوقفا عليه، فيلزم الدور (1).
وقد يقال: إن ذلك موجب لتقدم الشئ على نفسه في مرحلة الانشاء

(1) درر الفوائد 1: 61، الحاشية على كفاية الأصول 1: 186.
260

والفعلية والامتثال: أما في مرحلة الانشاء، فلان ما أخذ في متعلق
التكليف في القضايا الحقيقية لا بد وأن يكون مفروض الوجود، سوأ
كان تحت قدرة المكلف أولا، فلو أخذ قصد الامتثال قيدا للمأمور به
فلا محالة يكون الامر مفروض الوجود في مقام الانشاء، وهذا ما
ذكرنا من لزوم تقدم الشئ على نفسه.
وأما الامتناع في مقام الفعلية والامتثال فيرجع إلى المقام الثاني، أي
الامتناع بالغير (1).
وهذه الوجوه كلها مخدوشة:
أما الوجه الأول: فمضافا إلى عدم كون الاحكام من قبيل أعراض
المتعلقات: أما في النفس فلان الإرادة قائمة بالنفس قيام المعلول
بعلته
ومضافة إلى المتعلقات إضافة العلم إلى المعلوم بالذات، وأما في
الخارج فلان الاحكام أمور اعتبارية لا خارج لها حتى تكون قائمة
بالموضوعات أو المتعلقات - أنه لو فرض كونها من قبيل الاعراض لم
تكن من الاعراض الخارجية، ضرورة أن الخارج ظرف سقوطها
لا ثبوتها، ولا ضير في كونها أعراضا ذهنية، سوأ كانت من قبيل
أعراض الوجود الذهني أو الماهية، فإن المتعلقات بقيودها ممكنة
التعقل ولو كان تحقق القيود متأخرا عن الوجود الخارجي، فالأوامر
متعلقة بالمعقول الذهني من غير توجه الامر إلى ذلك، والمعقول
بقيوده متقدم على الامر في الوجود الذهني، ولو كان في الوجود
(*)

(1) فوائد الأصول 1: 149 - 150
261

الخارجي على عكسه.
هذا مضافا إلى أن كلية القيود الخارجة عن ماهية المأمور به تحتاج في
تقييدها بها إلى لحاظ مستأنف، فقوله: (صل مع الطهور) تقييد
للصلاة بلحاظ آخر، فعليه فلا إشكال في إمكان تقييدها بقصد الامر و
الطاعة بلحاظ ثان مستأنف، ولا فرق في ذلك بين القيود مطلقا.
ومن ذلك يعلم ما في الوجه الثاني: لان توقف الموضوع في الخارج
على الامر صحيح، لكن الامر يتوقف على الموضوع في الذهن لا
الخارج، فيدفع الدور.
وأما الوجه الثالث: - فمضافا إلى منع لزوم أخذ مطلق المتعلقات و
متعلقاتها مفروض الوجود - أنه لو فرض لزومه لم يلزم محذور، لان
أخذ الامر مفروض الوجود فرضا مطابقا للواقع لا يلزم منه تقدم الشئ
على نفسه، بل يلزم منه فرض وجود الشئ قبل تحققه، وهذا أمر
غير مستحيل، بل واقع.
فقوله: (صل بقصد الامر) يجوز أن يكون أمره مفروض الوجود فرضا
مطابقا للواقع، لان معنى مطابقته له أن يكون متحققا في محله، و
هو كذلك، فكما أن قوله: (صل في الوقت) يكون معنى فرض وجوده
أنه فرض تحقق الوقت في محله، كذلك فيما نحن فيه - أيضا - يمكن
ذلك.
مضافا إلى ما سمعت من حال تقييد المأمور به بالقيود الخارجة عن
تقوم الماهية.
فتحصل مما ذكرنا: أن المحذور إن كان في عدم تعقل تصور الشئ
قبل
262

جوده فهو بمكان من الفساد، ضرورة أن كل فعل اختياري يكون
تصوره مقدما على وجوده. وإن كان في انشاء الامر على الوجود
المتصور فهو - أيضا - كذلك، لان الصورة الذهنية بقيودها متقدمة
على الامر، فلا يلزم منه تقدم الشئ على نفسه. وإن كان في فرض
وجود الشئ قبل وجوده، فهو - أيضا - بمكان من الامكان، فلا
محذور من هذه الجهات.
وقد يقرر وجه امتناعه الذاتي: بأن التكليف بذلك المقيد موجب
للجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي، لان الموضوع بقيوده لا بد وأن
يلحظ استقلالا، والامر بما أنه طرف إضافة القيد المأخوذ في
الموضوع لا بد من لحاظه - أيضا - استقلالا، وبما أنه آلة البعث إلى
المطلوب لا يلحظ إلا آلة إليه، فيجمع فيه بين اللحاظين المتنافيين (1).
وفيه: أن الموضوع مع قيد قصد امتثال الامر ملحوظ قبل الانشاء و
استعمال الامر آلة للبعث فالاستعمال الآلي لا يجتمع مع اللحاظ
الاستقلالي الذي لا بد منه قبل الانشاء.
وأما في مقام الانشاء فتقييد الموضوع يكون في الان المتأخر عن
الاستعمال الايجادي الآلي، فيلحظ ما هو آلة للبعث في الان المتأخر
بنحو الاستقلال، كما في جميع القيود الواردة على المعاني الحرفية،
بل الاسمية أيضا، ففي قوله: (زيد في الدار يوم الجمعة) يكون يوم
الجمعة ظرفا للكون الرابط الذي هو معنى حرفي، وهو ملحوظ في
الان المتأخر استقلالا، مع أنك

(1) نهاية الأصول 1: 99، الحاشية على كفاية الأصول 1: 184 - 185.
263

قد عرفت في باب المعاني الحرفية (1) أن تقييدها والاخبار عنها وبها لا
يمكن استقلالا، إلا أنه يمكن تبعا، فراجع.
وقد يقرر (2) وجه الامتناع ذاتا: بأن يلزم منه التهافت في اللحاظ و
التناقض في العلم، لان موضوع الحكم متقدم عليه في اللحاظ، وقصد
الامر متأخر عنه في اللحاظ، كما أنه متأخر عنه في الوجود، فيكون
متأخرا عن موضوع الامر برتبتين، فإذا أخذ جز من موضوع الامر أو
قيدا فيه، لزم أن يكون الشئ الواحد في اللحاظ الواحد متقدما في
اللحاظ ومتأخرا فيه، وهذا سنخ معنى في نفسه غير معقول وجدانا
إما
للخلف أو لغيره.
ثم أطال القائل الكلام بإيراد (إشكالات) وأجوبتها، وحاصلها: أن هذا
الاشكال غير الدور والتناقض في المعلوم والملحوظ، بل يرجع
إلى لزوم التهافت والتناقض في اللحاظ والعلم.
ولعمري إن ذلك لا يرجع إلى محصل فضلا عن كونه إشكالا، ضرورة
أن نفس اللحاظ بما هو لا حكم له حتى يقال: إنه بنفسه متهافت مع
غيره، بل التهافت لو كان فلأجل الملحوظ، وليس في الملحوظ فيما
نحن فيه حيثية توجب التهافت إلا تقييد الموضوع بما يأتي من قبل
الامر، فيرجع الكلام إلى أن لحاظ الشيئين المترتبين في الوجود في
رتبة موجب للتهافت في اللحاظ والتناقض في العلم، وهذا بمكان
من وضوح الفساد.

(1) وذلك في بحث " أن معاني الحروف ليست مغفولا عنها " صفحة: 100.
(2) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 229 - 231.
264

هذا كله في تقرير الامتناع الذاتي.
في أدلة الامتناع الغيري:
وأما الوجوه التي استدل بها للامتناع الغيري:
فمنها: أن فعلية الحكم الكذائي يلزم منها الدور، لان فعلية الحكم
تتوقف على فعلية موضوعه - أي متعلقات متعلق التكليف ضرورة أنه
ما
لم تكن القبلة متحققة لا يمكن التكليف الفعلي باستقبالها، وفعلية
الموضوع فيما نحن فيه تتوقف على فعلية الحكم، فما لم يكن أمر
فعلي
لا يمكن قصده، فإذا كانت فعلية الحكم ممتنعة يصير التكليف ممتنعا
بالغير، ضرورة أن التكليف إنما هو بلحاظ صيرورته فعليا ليعمل به المكلف (1).
وفيه: - بعد ما عرفت - أن انشاء التكليف على الموضوع المقيد لا
يتوقف إلا على تصوره، فإذا أنشأ التكليف كذلك يصير في الان
المتأخر فعليا، لان فعليته تتوقف على الامر الحاصل بنفس الانشاء.
وبعبارة أخرى: أن فعلية التكليف متأخرة عن الانشاء رتبة، وفي رتبة
الانشاء يتحقق الموقوف عليه.
بل لنا أن نقول: إن فعلية التكليف لا تتوقف على فعلية الموضوع توقف
المعلول على علته، بل لا بد في حال فعلية الحكم من فعلية
الموضوع، ولو صار فعليا بنفس فعلية الحكم، لان الممتنع هو
التكليف الفعلي بشئ لم يكن

(1) نهاية الدراية 1: 132 / سطر 17 - 20.
265

محققا بالفعل، وأما التكليف الفعلي بشئ يصير فعليا بنفس فعلية
التكليف، فلم يقم دليل على امتناعه.
ومما ذكرنا يظهر الجواب عما قيل: إن الامر يتوقف على قدرة
المكلف، وهي في المقام تتوقف على الامر، لان يتوقف على قدرة العبد
في مقام الامتثال، وفي مقامه يكون الامر متحققا (1).
ومنها: أن امتثال الامر الكذائي محال، فالتكليف محال لأجله.
بيان الاستحالة: أن الامر لا يدعو إلا إلى متعلقه، والمتعلق هاهنا هو
الشئ المقيد بقصد الامر، فنفس الصلاة - مثلا - لا تكون مأمورا بها
حتى يقصد المأمور امتثال أمرها، والدعوة إلى امتثال المقيد محال،
للزوم كون الامر داعيا إلى داعوية نفسه ومحركا لمحركية نفس،
وهو تقدم الشئ على نفسه برتبتين، وعلية الشئ لعلة نفسه (2).
وفيه: - بعد ما عرفت أن تصور هذا الموضوع المقيد قبل تحققه
بمكان من الامكان، وانشاء الامر وإيقاعه عليه كذلك ممكن - أن
الأوامر الصادرة من الموالي ليس لها شأن إلا إيقاع البعث وإنشاؤه، و
ليس معنى محركية الامر وباعثيته إلا المحركية الايقاعية و
الانشائية، من غير أن يكون له تأثير في بعث المكلف تكوينا، فما
يكون محركا له هو إرادته الناشئة عن إدراك لزوم إطاعة المولى،
الناشئ من الخوف أو الطمع أو شكر نعمائه أو المعرفة بمقامه إلى

(1) درر الفوائد 1: 62، نهاية الدراية 1: 133 / سطر 11 - 21.
(2) نهاية الدراية 1: 134 - 135 -
266

غير ذلك، فالامر محقق موضوع الطاعة لا المحرك تكوينا.
فحينئذ نقول: إن أريد من كون الامر محركا إلى محركية نفسه: أن
الانشاء على هذا الامر المقيد موجب لذلك، فهو ممنوع، ضرورة جواز
الايقاع عليه كما اعترف به المستشكل.
وإن أريد منه: أنه يلزم أن يكون الامر المحرك للمكلف تكوينا محركا
إلى محركية نفسه كذلك، فهو ممنوع أيضا، لان الامر لا يكون
محركا أصلا، بل ليس له شأن إلا انشاء البعث على موضوع خاص، فإن
كان العبد مطيعا للمولى لحصول أحد المبادئ المتقدمة في نفسه،
ورأى أن إطاعته لا تحقق إلا بإتيان الصلاة المتقيدة، فلا محالة يأتي بها
كذلك، وهو أمر ممكن.
وأما حديث عدم أمر للصلاة حتى يقصد امتثاله، فجوابه يظهر بعد
العلم بكيفية دعوة الامر إلى المتعلقات المركبة أو المقيدة، فنقول:
لا إشكال في أن المركبات المتعلقة للأوامر كالصلاة - مثلا -
موضوعات وحدانية ولو في الاعتبار، ولا أمر واحد من غير أن ينحل
إلى
أوامر عديدة، لا في الموضوعات المركبة ولا في المقيدة، فلا فرق
بينهما وبين الموضوعات البسيطة في ناحية الامر.
فالامر بعث وحداني سوأ تعلق بالمركب أو البسيط، فلا ينحل الامر
إلى أوامر، ولا الإرادة إلى إرادة كثيرة، فالانحلال في ناحية
الموضوع، لكن الموضوع المركب لما كان تحققه بإيجاد الاجزاء،
يكون الاتيان بكل جز جز بعين 2 لدعوة إلى الكل، والاجزاء
مبعوث
إليها بعين البعث إلى المركب، فكل
267

جز يأتي به المكلف امتثال للامر المتعلق بالمركب.
فإذا قال المولى لعبده: (ابن مسجدا)، وشرع في بنائه، لا يكون المأمور
به إلا واحدا والامتثال كذلك، لكن كيفية امتثاله بإيجاد أجزائه،
فلا تكون الاجزاء غير مدعو إليها رأسا، ولا مدعوا إليها بدعوة خاصة
بها، بحيث تكون الدعوة منحلة إلى الدعوات، بل ما يكون مطابقا
للبرهان والوجدان أنها مدعو إليها بعين دعوة المركب، فالامر واحد و
المتعلق واحد.
فحينئذ نقول: إن الصلاة المتقيدة بقصد الامتثال متعلقة للامر، فنفس
الصلاة المأتي بها إنما تكون مدعوا إليها بعين دعوة الامر المتعلق
بالمقيد، لا بأمر متعلق بنفسها، وهذا كاف في تحقق الإطاعة، فإذا علم
العبد أن الامر متعلق بالصلاة بداعي امتثال أمرها، ويرى أن
الاتيان بها بداعوية ذلك الامر موجب لتحقق المأمور به بجميع قيوده،
فلا محالة يأتي بها كذلك، ويكون ممتثلا لدى العقلا.
بل لنا أن نقول - بعد المقدمة: إن الامر لو كان محركا وباعثا وداعيا
بحسب الواقع والتكوين، لا يكون تعلقه بالموضوع الكذائي
ممتنعا، لان محركيته إلى نفس الصلاة غير ممتنعة، وإلى قيدها وإن
كانت ممتنعة لكن لا يحرك إليه، ولا يحتاج إلى التحريك إليه، لان
التحريك إلى نفس الصلاة بداعي امتثال الامر المتعلق بالمركب يكفي
في تحقق المتعلق، بل التحريك إلى القيد لغو بعد ما يكون حاصلا،
بل تحصيل للحاصل.
ومما ذكرنا يظهر النظر في كلام بعض محققي العصر في مقام الجواب،
268

من دعوى انحلال الامر إلى أوامر بعضها موضوع لبعض (1).
في تصحيح أخذ قصد الامر بأمرين:
بقي شي: وهو أنه على فرض امتناع تعلق الامر بموضوع كذائي، هل
يمكن تصحيحه بأمرين: تعلق أحدهما بنفس الطبيعة، والاخر
بإتيانها بداعي الامر بها؟ قد استشكل المحقق الخراساني رحمه الله:
- مضافا إلى القطع بأنه ليس في العبادات إلا أمر واحد كغيرها -
بأن الأمر الأول إن يسقط بمجرد موافقته ولو لم يقصد الامتثال، فلا
يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأول، فلا يتوسل الامر إلى
غرضه بهذه الوسيلة، وإن لم يسقط فلا يكون إلا لعدم حصول
الغرض، ومعه لا يحتاج إلى الثاني، لاستقلال العقل بوجوب الموافقة
بما
يحصل به الغرض (2).
وفيه أولا: أن دعوى القطع بعدم الامرين بهذا النحو ممنوعة، بل لولا
محذور عقلي يكون مدعي القطع بخلافه غير مجازف، ضرورة أن
ألفاظ العبادات موضوعة لمعنى غير مقيد بشرائط آتية من قبل الامر،
كما مر في الصحيح والأعم (3)، فحينئذ لا تكفي الأوامر المتعلقة بنفس الطبائع

(1) مقالات الأصول 1: 76 / سطر 4 - 6، نهاية الأفكار 1: 190.
(2) الكفاية 1: 111.
(3) وذلك في صفحة: 157 من هذا الجزء.
269

لإفادة مثل هذا القيد ولو قلنا بجواز أخذه في المتعلق، فلا بد للمولى
لإفادته:
إما من بيان متصل لو جاز، والمفروض عدم الجواز، بل مع جوازه ليس
منه في الأوامر المتعلقة بالطبائع عين ولا أثر.
(وإما من بيان منفصل، وقد) قام الاجماع بل الضرورة على لزوم قصد
التقرب أو الامر أو نحو ذلك في العبادات، وهو يكشف عن أمر
آخر لولا المحذور، ومعه لا بد من التشبث بشئ آخر.
وثانيا: بعد القطع بأن الأمر الأول لا يسقط بمجرد الاتيان، لقيام
الاجماع والضرورة على عدم صحة العبادات بلا قصد أمر أو تقرب أو
نحو ذلك وصحتها مع قصده - أن هذا الاجماع وتلك الضرورة
كاشفان عن تقيد الطبائع بمثل هذا القيد، ومع فرض عدم إمكان
الاخذ
في موضوع الامر المتعلق بها يعلم أن ذلك كان بأمر آخر وبيان
مستقل، ولولا هذا الاجماع والضرورة لكنا شاكين في اعتبار مثل
قصد الامتثال، ومعه كان على المولى بيان ما هو دخيل في غرضه و
موضوع حكمه.
إن قلت: إن العقل يستقل بالاشتغال، ومعه لا مجال لأمر مولوي.
قلت: - مضافا إلى جريان البراءة في المورد كما سيأتي بيانه (1) - إن
حكم العقل بالاشتغال لم يكن ضروريا، وإلا لما اختلفت فيه
الانظار والآراء ومعه يبقى للمولى مجال التعبد والمولوية ولو لردع
القائلين بالبرأة.
وثالثا: أن قوله: إن المولى لا يتوسل لغرضه بهذه الوسيلة.

(1) وذلك في صفحة: 279 وما بعدها.
270

مدفوع: بأن ترك الأمر الثاني ولو برفع موضوعه موجب للعقوبة،
فيحكم العقل بلزوم إطاعته، وليس للمولى وسيلة للتوصل إلى
أغراضه إلا الامر والايعاد بالعقاب على تركه. هذا.
إشكال ودفع:
وفي المقام إشكال آخر:
وهو أنه - بعد فرض كون الطبيعة مع قيد قصد الامتثال قامت بها
المصلحة، وكان المقيد بما هو مقيد محصل الغرض - لا يمكن أن
تتعلق الإرادة بالمجرد عن القيد ثبوتا ولا البعث الحقيقي إليه، فلا
يمكن أن يكون الامر المتعلق بنفس الطبيعة الخالية عن القيد صالحا
للباعثية، ومعه كيف يمكن الامر بإتيانها بباعثية الامر وداعويته؟ و
بالجملة: ما لا يمكن أن يكون باعثا كيف يمكن الامر بباعثيته؟ و
المفروض أن المجرد عن القيد لم تقم به المصلحة، ولا يسقط به
الغرض، فلا تتعلق به الإرادة، ولا يتعلق به البعث الحقيقي، فلا يمكن
أن
يأمر المولى بإتيانه بداعي أمره.
هذا، مضافا إلى أنه لو فرض جواز تعلق الامر به، لم يكن قصد الامر
الصوري - الذي لا يترتب عليه غرض، ولا يكون متعلقه ذا مصلحة و
حسن - مقربا، فقصده مع عدمه سوأ، فلا يصل المولى إلى مطلوبه
بهذه الوسيلة.
271

والجواب عنه: أن الممتنع هو تعلق الإرادة والبعث بالمجرد عن القيد
مع الاكتفاء به، وأما مع إرادة إفهام القيد بدليل آخر فلا، فكما
يجوز للامر الذي تعلق غرضه بإتيان مركب أو مقيد أن يأمر بهما، يجوز
له أن يأمر بالاجزاء واحدا بعد واحد مع إفهام أن الغرض متعلق
بالمركب، وأن يأمر بالخالي عن القيد ويأمر بالقيد مستقلا، وهذا مما
لا محذور فيه لا سيما في المقام الذي لا يمكن غير ذلك فرضا.
وأما عدم مقربية قصد الامر المتعلق بالمجرد عن القيد، فهو - أيضا -
ممنوع فيما نحن فيه، ضرورة أن تمام المحصل للغرض هو الصلاة
مع قصد أمرها.
نعم في الاجزاء والقيود التي لم تكن بتلك المثابة، لا يمكن قصد
أمرها.
نعم في الاجزاء والقيود التي لم تكن بتلك المثابة، لا يمكن قصد
أمرها فقط، ولا يكون قصده مقربا، لا في مثل المقام الذي يكون قصد
الامر قيدا متمما للغرض.
تتميم: في الاتيان بالفعل بداعي المصلحة:
هذا كله لو قلنا بأن المعتبر في العبادات هو قصد الامر، وأما لو قلنا بأن
المعتبر فيها هو إتيان الفعل بداعي المصلحة أو الحسن أو
المحبوبية، فقد ذهب المحقق الخراساني إلى أن أخذها بمكان من
الامكان، لكنها غير مأخوذة قطعا، لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال (1).
مع أن فيه - أيضا - نظير بعض الاشكالات المتقدمة، فإن داعوية

(1) الكفاية 1: 112.
272

المصلحة - مثلا - لما كانت مأخوذة في المأمور به، تصير الداعوية
متوقفة على نفسها، وداعية إلى داعوية نفسها، لان الفعل لا يكون
بنفسه ذا مصلحة حتى يكون بنفسه داعيا إلى الاتيان، بل بقيد
داعويتها، فلا بد أن يكون الفعل مع هذا القيد - القائم بهما المصلحة -
داعيا
إلى الاتيان، وهذا عين الاشكال المتقدم.
وأيضا لما كانت المصلحة قائمة بالمقيد يكون الفعل غير ذي
المصلحة، فلا يمكن قصدها إلا على وجه دائر، لان قصد المصلحة
يتوقف
عليها، وهي تتوقف على قصدها فرضا.
وأيضا أن الداعي مطلقا في سلسلة علل الإرادة التكوينية، فلو أخذ في
العمل الذي في سلسلة المعاليل لزم أن يكون الشئ علة لعلة نفسه،
فإذا امتنع تعلق الإرادة التكوينية امتنع تعلق التشريعية، لأنها فرع إمكان
الأولى.
ويمكن (دفع) الأول ببعض ما ذكرنا (1) في (دفع) الاشكال في قصد
الامر.
مضافا إلى أن يقال: إن الصلاة مصلحة بنحو الجز الموضوعي، ولما
رأى المكلف أن قصدها متمم للمصلحة فلا محالة يصير داعيا إلى
إتيانها بداعي المصلحة من غير لزوم كون الداعي داعيا.
وبهذا يجاب عن الاشكال الثاني ويقطع الدور، فإن قصد المصلحة - التي

(1) في صفحة: 261.
273

هي جز الموضوع - يتوقف عليها، وهي لا تتوقف على القصد، ولما
رأى المكلف أن هذا القصد موجب لتمامية الموضوع وحصول
الغرض، فلا محالة يدعوه ذلك إلى القصد إلى الفعل، نعم لا يمكن
قصد تلك المصلحة مجردة ومنفكة عن الجز المتم، وفيما نحن فيه
لا
يمكن التفكيك بينهما.
وأما الجواب عن الثالث: فبمثل ما سبق (1)، من أن الداعي والمحرك
إلى إتيان المأمور به بعض المبادئ الموجودة في نفس المكلف،
كالحب والخوف والطمع، وتصير هذه المبادئ داعية إلى إطاعة
المولى بأي نحو أمر وشاء.
فإذا أمر بإتيان الصلاة بداعي المصلحة تصير تلك المبادئ المتقدمة
داعية إلى إتيانها بداعي المصلحة من غير لزوم تأثير الشئ في علته،
ألا ترى أنك إذا أحببت شخصا حبا شديدا، فأمرك بإتيان شي
مبغوض أن تأتي به لأجله، صارت تلك المحبة داعية إلى إتيانه بداعي
إطاعته وطلبا لمرضاته من غير لزوم الدور.
الثالث: في مقتضى الأصل في المقام:
بعد ما عرفت جواز أخذ جميع القيود في المأمور به، يرفع الشك فيها
بإطلاق الدليل، ومقتضاه كون الأصل هو التوصلية.
فإن قلت: لا يمكن التمسك بالاطلاق هاهنا، لان دعوة الامر إلى
متعلقه

(1) في صفحة:. 266
274

من شؤونه ولوازمه التي لا تنفك عنه، وهو واضح، ولا عن متعلقه،
لان الداعي إلى الامر بالشئ هو جعل الداعي إلى الاتيان به، فمتعلق
الامر هو طبيعة الفعل التي جعل المولى داعيا للعبد إلى الاتيان بها، لا
مطلق طبيعته، ومعه كيف يتصور إمكان الاطلاق في متعلق الأمر
ليتمسك بإطلاق الخطاب في مورد الشك؟ قلت: لا شك في أن دعوة
الامر لا تنفك عن الامر ولا عن متعلقه، كان الامر توصليا أو تعبديا،
لكن الكلام في أن هذه الدعوة هل تعلقت بذات العمل، أو مع قيد
الدعوة، حتى يكون القيد مأخوذا في المتعلق قبل تعلق الدعوة، لا
جائيا
من قبلها ومنتزعا عن المتعلق بعد تعلقها به، ضرورة أن ما جاء من
قبلها لا يكون مدعوا إليه ولا العبد مأخوذا بإتيانه.
وبالجملة: أن البعث تعلق بنفس الطبيعة بلا قيد، وهذا معنى الاطلاق
المقابل للتقييد في المتعلق، وأما القيد الجائي من قبل البعث فلا
يكون مقابلا للاطلاق فيه، وهذا واضح جدا.
في كلام شيخنا العلامة أعلى الله مقامه:
ثم إن شيخنا العلامة رحمه الله قد رجع في أواخر عمره الشريف إلى
أصالة التعبدية، قائلا: (1) إن العلل التشريعية كالعلل التكوينية طابق النعل

(1) (1) الظاهر أنه مأخوذ من مجلس بحثه - قدس سره - ولم نعثر عليه في
كتبه المتداولة.
275

بالنعل، فكل ما هو من مقتضيات الأولى يكون من مقتضيات الثانية،
بتكثر المعلول بتكثر العلة، وكعدم انفكاك المعلول عنها، وغير
ذلك.
وإن من القيود اللبية ما يمكن أن يؤخذ في المأمور به على نحو القيدية
اللحاظية كالايمان والكفر في الرقبة.
ومنها ما لا يمكن كقيد الايصال في المقدمة على تقدير وجوبها، فإن
المطلقة غير واجبة والمقيدة غير ممكنة الوجوب، فالواجب ما ليس
بمطلق ولا مقيد وان لا ينطبق إلا على المقيد. وكالعلل التكوينية، فإن
تأثيرها ليس في الماهية المطلقة ولا المقيدة بقيد المتأثرة من
قبلها، فإنه ممتنع، بل يكون في الماهية التي لا تنطبق إلا على المقيد
بهذا القيد، فالنار إنما تؤثر في الطبيعة المحترقة من قبلها واقعا، لا
المطلقة ولا المقيدة.
وكذا العلل التشريعية، فإن الأوامر تحرك المكلف نحو الطبيعة التي لا
تنطبق إلا على المقيدة لبا بتحريكها إياه نحوها، لا نحو المطلقة و
لا المقيدة بالتقييد اللحاظي. فإذا أتى المكلف بالطبيعة من غير داعوية
الامر لا يكون آتيا بالمأمور به، لان المأمور به هو ما لا ينطبق إلا
على المقيد بداعوية الامر وباعثيته وإن كان آتيا بالطبيعة، لأنها قابلة
للتكثر، فعليه يكون مقتضى الأصل اللفظي هو التعبدية. انتهى
ملخص ما أفاد رحمه الله.
وفيه أولا: أن قياس علل التشريع بالتكوين مع الفارق، لان المعلول في
العلل التكوينية لا شيئية له ولا تشخص قبل تأثير علته، فبعلته
يصير موجودا متشخصا، وأما المبعوث إليه في الأوامر فتكون رتبته
مقدمة على
276

الامر، فلا بد للامر من تصور المتعلق بكلية قيوده حتى يأمر به، فإذا أمر
بنفس الطبيعة بلا قيد تكون هي المأمور بها لا غير، والقيود
المنتزعة من تعلق الامر بها لا تكون مأمورا بها ومبعوثا إليها، إلا أن
تؤخذ في المتعلق كسائر القيود.
وبالجملة: أن الامر التعبدي - بعد اشتراكه مع التوصلي في أن كل
واحد منهما إذا تعلق بشئ ينتزع منه بلحاظ عنوان المأمور به و
المبعوث إليه - يفترق عنه بأن المطلوب منه والمبعوث إليه فيه لم
يكون الطبيعة، بل هي مع قصد الامر أو التقرب أو نحوهما، فلا بد أن
يكون مثل تلك القيود موردا للبعث والتحريك، ولا يكون كذلك إلا
بأخذه في المتعلق، وإلا فصرف الامر بالطبيعة لا يمكن أن يكون
محركا إلى غيرها.
وثانيا: لقائل أن يقول: إنه على فرض تسليم كون التشريع كالتكوين لا
يلزم منه ما ذكره، لان النار المحرقة للقطن - مثلا - إنما تحرق
نفس الطبيعة لا ما لا ينطبق إلا على المقيد. نعم بتعلق الاحراق (بها)
تصير الطبيعة موصوفة بوصف لا يمكن (لأجله) أن تنطبق إلا على
المقيد، لكن هذا القيد والوصف بعد الاحراق رتبة وبعليته، ولا
يمكن أن يصير موجبا لضيق الطبيعة المتعلقة للاحراق.
وبما ذكرنا من عدم صحة قياس علل التشريع بالتكوين، يظهر حال
بقية استنتاجاته (1) منه، كاستفادة الفورية من الامر، وعدم تداخل الأسباب،

(1) (1) يحتمل انه استفيد من مجلس بحثه - قدس سره - إذ لم نعثر عليه
فيما بين أيدينا من كتبه.
277

كما حققنا في محله.
الرابع: في تحرير الأصل العملي:
لا إشكال في جريان البراءة في المقام بناء على جريانها في الأقل و
الأكثر مع جواز أخذ القيود في المأمور به، وأما مع امتناعه فقد
يفرق بينهما بأن هناك رجع الشك إلى مقام الثبوت، للشك في تعلق
الامر بالأكثر، وفي المقام إلى مقام السقوط، للعلم بتعلقه بالمجرد
عن القيد، وإنما الشك في سقوطه مع الاتيان بلا قصد الامر أو نحوه،
لأن الشك في الخروج عن عهدة التكليف (1).
وإن شئت قلت: إن تحصيل الغرض مبدأ للامر، فإذا علم أصل الغرض
وشك في حصوله للشك في كون المأتي به مسقطا أو مع قيد
التعبدية، فلا محالة يجب القطع بتحصيل الغرض بإتيان جميع ما له
دخل ولو احتمالا في تحصيله (2).
وفيه: انه - على فرض تماميته - من أدلة الاشتغال في الأقل والأكثر،
لا الفارق بينه وبين المقام، لان القائل بالاشتغال هناك يدعي أن
الامر بالأقل معلوم ونشك في سقوطه لأجل ارتباطية الاجزاء (3)، أو أن
الغرض المستكشف من الامر معلوم، ونشك في سقوطه بإتيان
الأقل، فيجب الاتيان

(1) نهاية الدراية 1: 139 / سطر 5 - 8.
(2) نفس المصدر السابق 1: 138 / سطر 20 - 24.
(3) الفصول الغروية: 357 / سطر 12 - 16.
278

بكل ما احتمل دخله في الغرض (1).
هذا مع أن الدليل غير تام، فإنا لا نفهم من سقوط الامر شيئا إلا الاتيان
بمفاده على ما هو عليه.
وبعبارة أخرى: أن الامر حجة على العبد فيما يبعثه إليه، ولا يعقل أن
يكون حجة على الزائد على المبعوث إليه، فمع الاتيان بجميع قيوده
المأخوذة فيه لا يعقل بقاؤه على صفة الحجية والدعوة، ويكون
العقاب على غير المأمور به وما قام عليه الحجة عقابا بلا بيان وقبيحا
عند العقلا، ومجرد احتمال الغرض لا يصير حجة على الواقع الغير
المبعوث إليه.
مع أن مجرد عدم إمكان تقييد المأمور به لا يوجب عدم إمكان البيان
مستقلا، فلو توقف حصول غرض المولى على أمر وراء المأمور به
فعليه البيان.
هذا حال البراءة العقلية.
وأما النقلية: فتارة يفرض الكلام فيما إذا جاز تقييد المأمور به بالقيود
الآتية من قبل الامر، وأخرى فيما إذا جاز البيان بأمر آخر فقط،
وثالثة فيما لا يجوز مطلقا، وعلى أي حال: تارة يفرض مع القول
بجريان البراءة العقلية، وأخرى مع القول بالاشتغال.
والحق جريانها في جميع الصور.
وقد يقال (2): بعدم الجريان مطلقا بناء على القول بالاشتغال، وفيما

(1) الكفاية 2: 232.
(2) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 243 - 245.
279

لا يمكن أخذ القيد في المأمور به ولو بأمر آخر حتى بناء على البراءة.
أما عدم الجريان على الاشتغال حتى فيما يمكن الاخذ في المأمور به
بأمر واحد، فلقصور أدلة البراءة عن شمول مثل المورد، فإن ملاك
البراءة النقلية هو كون الامر المشكوك فيه إذا لم يبينه المولى كان ناقضا
لغرضه، والمورد ليس كذلك، فإن القيد المزبور - على فرض
دخالته - يجوز للمولى الاتكال فيه على حكم العقل بالاشتغال، ولا
يوجب عدم البيان نقض الغرض، وإذا كان كذلك لا يكون مجرى
للبرأة.
وليس المدعى أن حكم العقل بالاحتياط بيان ناف لموضوع البراءة
حتى يستشكل بلزوم الدور، بل المدعى قصور أدلة البراءة عن مثل
المورد.
وأما فيما يمكن البيان بأمر آخر فقط، فلان جريان البراءة لا يثبت أن
متعلق الأمر الأول تمام المأمور به إلا على الأصل المثبت، بخلاف
ما إذا قلنا بإمكان أخذ القيد في متعلق الأمر الأول، فإن الشك يرجع
إلى انبساط الامر على الجز أو القيد المشكوك فيه، فمع جريان
البراءة يكون بنظر العرف باقي الاجزاء تمام المأمور به، فيكون من
قبيل خفاء الواسطة.
وأما مع عدم إمكان الاخذ مطلقا، فلان جريان مثل دليل الرفع موقوف
على كون المشكوك فيه قابلا للوضع والرفع شرعا، ومع عدم
جواز الاخذ لا يمكن الوضع فلا يمكن الرفع، ودخالته في الغرض
واقعية تكوينية غير قابلة للوضع والرفع التشريعيين.
وأما الاجزاء والقيود القابلة للاخذ فيه، فهي وإن كانت دخالتها في
280

تحصيل الغرض واقعية، لكنها لما كانت قابلة لهما فبدليل الرفع - ولو
كان أصلا - يكشف عن أنه ليس هناك أمر فعلي متعلق
بالمشكوك فيه.
والجواب عن الأول: أن هذه الدعوى ترجع إلى انصراف الأدلة عن
مورد يكون العقل فيه حاكما بالاشتغال، وهو ممنوع جدا، بل لو
ادعي عكس ذلك فله وجه، لان ظاهر الأدلة هو المولوية، ومع حكم
العقل بالبرأة تصير من قبيل الارشاد إلى حكم العقل، فمورد حكم
العقل بالاشتغال كأنه القدر المتيقن شمول الأدلة، فدعوى كون ملاك
الأدلة النقلية في غير مورده غريبة.
وعن الثاني: أولا: أنه لا ملزم لاثبات كون البقية تمام المأمور به أو تمام
المطلوب، حتى يقال: إنه لا يثبت إلا بالأصل المثبت، فإن عنوان
(تمام المطلوب) لا يكون مأمورا به، حتى يلزم على المكلف إحرازه،
وليس عليه إلا الاتيان بما قام عليه الحجة، وهو بقية الأجزاء، كانت
تمام المطلوب أو لا.
وثانيا: أن رفع الجز المشكوك فيه ملازم عقلا لكون البقية تمام
المطلوب، وهذا عين الأصل المثبت، من غير فرق بين وحدة الأمر و
تعدده.
وثالثا: أن مفاد الأمر الثاني ليس أمرا مستقلا، بل هو من قبيل تتميم
الجعل ناظرا إلى متعلق الأمر الأول وموجبا لتقييده، فلو كانت
الواسطة خفية لم يفرق بينهما.
وعن الثالث: أن دخالة شي في تحصيل الغرض ثبوتا، لا محالة تكون
على نحو (لو أمكن) بيانه إثباتا فعلى المولى بيانه، وذلك كاف في
جريان دليل الرفع،
281

فإن أمر وضعه بيد الشارع، ودعوى عدم إمكان ذلك - أيضا - كما
ترى.
المبحث الخامس في أصالة النفسية والعينية والتعيينية
إذا شك في كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا أو مقابلاتها، فالظاهر
لزوم الحمل عليها دون المقابلات، لان أمر المولى وبعثه بأي دال
كان - بلفظ أو إشارة أو غيرهما - تمام الموضوع عند العقلا لوجوب
الطاعة، ومعه يقطع عذر المكلف، كما مر (1) في باب دوران الامر
بين الوجوب والاستحباب.
فإن الهيئة وإن لم توضع إلا لمجرد البعث والاغراء، وما ذكر و
مقابلاته خارجة عن مدلولها، لكن مجرد صدور الامر عن المولى
موضوع لوجوب الطاعة، فإذا تعلق أمر بشئ يصير حجة عليه، فإذا
عدل المكلف إلى غيره باحتمال التخيرية أو تركه مع إتيان الغير
باحتمال الكفائية، أو تركه مع سقوط الوجوب عن غيره باحتمال
الغيرية، لا يكون معذورا لدى العقلا، لا لدلالة الهيئة وضعا على شي
منها، ولهذا لو أشار المولى بإتيان شي يجب عقلا إتيانه، والاعذار
المتقدمة ليست موجهة، مع أنه لا وضع لإشارة.
وأما قضية مقدمات الحكمة - مع إطلاق الامر - ذلك فمحل إشكال
ومنع، لان مقدمات الحكمة لا يمكن أن تنتج هاهنا، لأنه إما أن يراد:
أن تنتج مطلق البعث الجامع بين النفسي والغيري. وهكذا، فمع كونه خلاف

(1) في الصفحة: 256 - 257.
282

المقصود ممتنع، لعدم إمكان الجامع بين في المعاني الحرفية كما سبق
بيانه، هذا، مضافا إلى القطع بعدم إرادة الجامع في المقام.
أو تنتج الوجوب النفسي وأخواته - كما ذكر المحقق الخراساني (1) -
فلا يمكن أيضا، لان النفسية متباينة مع الغرية، كل منهما يمتاز عن
الاخر بقيد وجودي أو عدمي، فالنفسي ما يكون البعث إليه لذاته أو لا
لغيره، والغيري بخلافه، ويحتاج كلاهما في مقام التشريع و
البيان إلى قيد زائد ولو من باب زيادة الحد على المحدود.
وما يقال: إن النفسية ليست إلا عدم كون الوجوب للغير، وكذا البواقي
وعدم القرينة على القيود الوجودية دليل على عدمها، وإلا لزم
نقض الغرض، لا أن النفسية والغيرية قيدان وجوديان (2).
مدفوع، ضرورة امتناع كون النفسية عدم الغيرية على نعت السوالب
المحصلة الصادقة مع عدم الوجوب رأسا، مع أن الوجوب والوجود
لا يمكن أن يكونا نفس العدم، بل النفسية إما وجوب لذاته، أو لا لغيره
على نعت الموجبة المعدولة أو السالبة المحمول، فحينئذ كما أن
الوجوب لغيره يحتاج إلى بيان زائد على أصل الوجوب، كذلك
الوجوب لا لغيره.
مع أن التحقيق أن تعريف النفسي بالوجوب لا لغيره.
مع أن التحقيق أن تعريف النفسي بالوجوب لا لغيره (3) تعريف بلازمه،

(1) الكفاية 1: 116.
(2) نهاية الدراية 1: 141 / سطر 15 - 16.
(3) نفس المصدر السابق 1: 141 / سطر 19.
283

بل النفسية هو الوجوب لذاته والغيرية لغيره، وهما قيدان وجوديان،
وعلى أي حال لم يكن النفسي هو نفس الطبيعة والغيري هي مع
قيد، لا عقلا، وهو واضح، ولا عرفا، ضرورة أن تقسيم الوجوب إلى
النفسي والغيري صحيح بحسب نظر العرف، ومما ذكرنا يظهر
النظر فيما قرره بعض أعاظم العصر (1)
أيضا.
المبحث السادس في المرة والتكرار
الحق عدم دلالة الامر على المرة والتكرار، وقبل الخوض في
المطلوب نقدم أمورا:
الأول: في تحرير محل النزاع:
جعل في الفصول (2) محل النزاع في الهيئة، استشهادا بنص جماعة (3)
وبحكاية السكاكي (4) الاتفاق على أن المصدر المجرد من اللام و
التنوين لا يدل إلا على الماهية من حيث هي.
(*)

(1) أجود التقريرات 1: 168.
(2) الفصول الغروية: 71 / سطر 17 و 21 - 22.
(3) معالم الدين: 49 / سطر 2 - 3 و 50 / سطر 2 - 4، قوانين الأصول 1: 90 / سطر 22
و 91 / سطر 6، هداية المسترشدين: 173 / سطر 11 - 16.
(4) مفتاح العلوم: 93 / سطر 1 - 5، ونقله عنه في القوانين 1: 91 / سطر 8 - 9.
284

واستشكل عليه المحقق الخراساني، بأن ذلك لا يوجب كون النزاع
في الهيئة، ضرورة أن المصدر ليس مادة لسائر المشتقات (1).
وهذا الاشكال غير وارد عليه لان مادة المصدر عين مادة المشتقات،
ولو لم يكن المصدر مادة لها.
لكن يرد على الفصول: بأن ذلك لا يتم إلا إذا انضم إليه الاجماع على
كون المصدر أصل المشتقات، أو الاجماع على أن مادة مادتها، وهو
ممنوع، لوقوع الخلاف في مادة المشتقات، وفي وضعها نوعا و
شخصا.
ثم إن النزاع بحسب التصور يحتمل أن يكون في الهيئة وفي المادة،
بأن يقال: إن مادة الامر موضوعة بوضع على حدة، وفي المجموع
بأن يقال:
إن لمجموعهما وضعا خاصا.
لكن النزاع في الهيئة كأنه يرجع إلى النزاع في أمر غير معقول، لان
المادة إذا كانت موضوعة للماهية: فإما أن يقال: إن الهيئة وضعت
للبعث والاغراء، ولازم الأغرأ إلى الماهية هو إيجادها، لا أنه مدلولها
اللفظي، فالاغراءات إلى الماهية اللابشرط لا يمكن أن تكون
تأسيسية، لما عرفت سابقا: أن متعلق الإرادة والبعث إذا لم يكن
متعددا لا يمكن أن تتعدد الإرادة والبعث التأسيسيان إليه، لان الشئ
الواحد لا يمكن أن يكون مرادا ومشتاقا إليه مرتين،

(1) الكفاية 1: 117 - 119.
285

فكثرة الإرادة والحب والاشتياق تابعة لكثرة المتعلق، وكذا لا يمكن
تعدد البعث التأسيسي إلى شي واحد، ومعه يكون النزاع في
الهيئة هو النزاع في أمر غير معقول.
نعم بناء على ما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه - من أن علة
التشريع كالتكوين يكون المعلول في وحدته وكثرته تابعا لها - يكون
للنزاع فيها مجال، لكن قد عرفت (1) عدم كونه مرضيا.
وإما أن يقال: إنها وضعت لطلب الايجاد، بحيث يكون الايجاد
بالمعنى الحرفي مفادها اللغوي، فحينئذ وإن جاز النزاع في أنها وضعت
لطلب إيجاد أو إيجادات، لكن الوضع للعنوان المقيد موجب لإسمية
معنى الهيئة، وتقييد المعنى الحرفي في استعمال واحد مما لا يمكن،
فإن نفس الايجاد معنى حرفي، وتقييده لا يمكن إلا بلحاظ آخر، و
الجمع بينهما في استعمال واحد غير جائز.
وما ذكرنا في باب معاني الحروف (2) - من أن نوع الاستعمالات لإفادة
معاني الحروف، وجوزنا تقييدها - لا ينافي ما ذكرنا هاهنا،
لان المقصود هناك إمكان تقييدها في ضمن الكلام بلحاظ آخر، فلا
تغفل. فالنزاع في الهيئة مما لا مجال له.
إلا أن يقال: إن الهيئة يمكن أن توضع لطلب إيجادات بالمعنى الحرفي،

(1) وذلك في صفحة: 275 وما بعدها.
(2) وذلك في صفحة: 68 وما بعدها.
286

لا للايجاد المتقيد بالمرة والتكرار، فكما يجوز استعمال الحرف في
أكثر من معنى يجوز وضع الحرف للكثرة واستعماله فيها.
ولكنه على فرض إمكان العقلي مقطوع الخلاف.
فلا بد وأن يرجع النزاع إلى المادة، بدعوى أن مادة الامر موضوعة
مستقلة إما للدفعة أو الدفعات. أو يقال: إن المادة والهيئة
موضوعتان مستقلا بحيث يرجع القيد إلى الجز المادي لا الصوري.
الثاني: في معنى المرة والتكرار في المقام:
هل المراد من المرة والتكرار الدفعة والدفعات، أو الفرد والافراد؟ لا
يبعد أن يكون محل النزاع هو الثاني، نظرا إلى أن هذا النزاع
نشأ ظاهرا من النظر إلى اختلاف أحكام الشريعة، فإن منها ما يتكرر
كالصوم والصلاة، ومنها ما لا يتكرر كالحج، فصار موجبا
لاختلاف الانظار، ومعلوم أنه ليس في الاحكام ما يكون للدفعة و
الدفعات، وعلى أي حال يمكن النزاع على كلا المعنيين.
واختار صاحب الفصول كونه في المعنى الأول، نظرا إلى ظاهر اللفظ،
وأنهم لو أرادوا بالمرة الفرد لكان الأنسب أن يجعل هذا البحث
تتمة للبحث الآتي من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو الفرد، فيقال:
وعلى تقدير تعلقه بالفرد هل يقتضي تعلقه بالفرد الواحد أو المتعدد؟
ولم يحتج إلى إفراد كل منهما كما فعلوه، وأما على الدفعة فلا
علاقة
287

بين المسألتين (1)
ورد: بأن الامر إذا تعلق بالطبيعة أيضا يأتي فيه هذا
النزاع بالمعنيين، لان القائل بأن الامر تعلق بالطبيعة لا يقول: إنه
تعلق بالماهية من حيث هي، بل بما هي موجودة، وبهذا الاعتبار
كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين، فلا يكون هذا البحث
من تتمة البحث الآتي، بل بحث برأسه، لاختلاف الجهة المبحوث عنها فيهما (2).
والتحقيق أن يقال: بناء على تعلق الامر بالطبيعة: فإن قلنا بأن الهيئة
موضوعة لطلب الايجاد - كما عليه الفصول (3) - فلا محيص عن كون
متعلقه هو الطبيعة من حيث هي لان الايجاد أخذ في طرف الهيئة، فلو
أخذ الوجود في طرف المادة يصير معنى الامر بالصلاة، أوجد
وجود الصلاة، وهو كما ترى، فحينئذ يكون النزاع في استفادة المرة و
التكرار بالمعنيين راجعا إلى الهيئة، فيأتي الاشكال المتقدم في
الأمر الأول، فلا بد من إرجاع البحث إلى المادة تخلصا عن الاشكال،
فحينئذ لا مجرى للنزاع مع تعلق الامر بالطبيعة، سوأ أريد الفرد و
الافراد أو الدفعة والدفعات، ضرورة أنها خارجة عن الطبيعة، وأما مع
تعلق الامر بالفرد فللنزاع مجال.
وإن قلنا بأن الهيئة موضوعة للاغراء والبعث، ولازم الأغرأ إلى الطبيعة

(1) الفصول الغروية: 71 / سطر 25 - 31.
(2) الكفاية 1: 120.
(3) الفصول الغروية: 71 / سطر 39.
288

إيجادها، لان الماهية من حيث هي ليست مطلوبة، لكن الايجاد و
الوجود لم يكونا مدلول الهيئة ولا المادة، بل من اللوازم العقلية لتعلق
البعث بالطبيعة، فحينئذ يكون النزاع بناء على تعلق الامر بالطبيعة في
أمر عقلي لا لغوي، وهو خلاف ظاهرهم (1) فلا بد من اجراء النزاع
على فرض تعلق الامر بالفرد لا الطبيعة حتى يدفع الاشكال.
لكن بعد اللتيا والتي لا يصير هذا البحث من تتمة البحث الآتي بعد
كون الجهة المبحوث عنها مختلفة.
الثالث: في تعدد الامتثال وعدمه:
قد يقال: بناء على دلالة الامر على طلب الطبيعة لو أتى المكلف بعدة
أفراد معا يكون امتثالات بعدد الافراد، لان الطبيعة متكثرة
بتكثرها، ولا يكون فردان أو أفراد منها موجودة بوجود واحد، لان
المجموع ليس له وجود غير وجود الافراد، فكل فرد محقق
الطبيعة، ولما كان المطلوب هو الطبيعة بلا تقيد بالمرة والتكرار لو أتى
المكلف بأفراد متعددة أوجد المطلوب بإيجاد كل فرد، و
يكون كل امتثالا برأسه، كما هو موجودا برأسه (2)
.

(1) معالم الدين: 49، قوانين الأصول 1: 90 - 91، الفصول الغروية: 71 - 72، الكفاية
1: 117 و 120.
(3) نهاية الأصول 1: 11 - 112، الحاشية على كفاية الأصول 1: 210 - 211.
289

ونظير ذلك الواجب الكفائي، حيث إن الامر فيه متعلق بنفس الطبيعة،
ويكون جميع المكلفين مأمورين بإتيانها، فمع إتيان واحد منهم
يسقط عن الباقي، وأما لو أتى عدة منهم دفعة يكون كل ممتثلا، و
تحققت امتثالات لا امتثال واحد من الجميع (1).
وفيه: أن مناط وحدة الامتثال وكثرته بوحدة الطلب وكثرته ولو
بالانحلال بوجه، فلو تعلق أمر بإكرام كل فرد من العلماء، يكون
إكرام كل فرد واجبا برأسه. وله امتثال برأسه.
وأما مع تعلق الامر بنفس الطبيعة متوجها إلى مكلف واحد، فلا يعقل
أن يتكثر الامتثال بتكثر الافراد ولا بتكثر الطبيعة، فإن تكثرها لا
يوجب تكثر الطلب والوجوب ولو انحلالا، فلا يوجب تكثر الامتثال،
ولهذا لو ترك الطبيعة القابلة للكثرة لم يعاقب بعدد كثرة الافراد،
فلو تعلق الطلب بإكرام العالم بحيث لو أكرم واحدا منهم سقط الطلب،
فترك العبد الاكرام مطلقا، لم يكن له إلا عقاب واحد بالضرورة، و
معه كيف يمكن أن يكون له امتثالات مع الاتيان بإكرام عدة منهم؟
فالامتثال فرع الطلب، كما أن العقوبة فرع ترك المطلوب، فلا يمكن
الامتثالات مع وحدة الطلب، ولا استحقاق عقوبة واحدة مع كثرته.
ومما ذكرنا يظهر فارق قياسه بالواجب الكفائي، فإن الطلب هناك -
على فرض كون الكفائي كما ذكر - توجه إلى كل مكلف بإتيان
الطبيعة، فكل

(1) نهاية الأصول 1: 212، الحاشية على كفاية الأصول 1: 329.
290

فرد ممتثل مع الاتيان دفعة ومعاقب مع الترك رأسا، ومع إتيان واحد
منهم يسقط الطلب عن الباقي لرفعه موضوعه، فهناك طلبات
كثيرة فامتثالات كثيرة. بخلاف ما نحن فيه فلا تغفل. إذا عرفت ذلك،
فالحق عدم دلالة الامر على المرة والتكرار، لان المادة موضوعة
للماهية بلا شرط والهيئة للاغراء والبعث، أو لطلب الوجود، أو
الايجاد، وليس لهما وضع على حدة، ولا قرائن عامة تدل على واحد
منهما، كما لا يخفى.
المبحث السابع في الفور والتراخي
وبمثل ما ذكر في المرة يعلم أنه لا دلالة للامر على الفور والتراخي، إذ
ليس مفاده إلا البعث إلى نفس الطبيعة ولازمه إيجادها، أو
البعث إلى إيجادها، وأيا ما كان لا دلالة فيه على أمر زائد على ما ذكر.
في استدلال العلامة الحائري على الفورية:
لكن شيخنا العلامة (1) - أعلى الله مقامه - كان يقايس الأوامر بالعلل
التكوينية في اقتضائها عدم انفكاك معاليلها عنها، قال في كتاب
الصلاة: إن الامر المتعلق بموضوع خاص غير مقيد بزمان، وإن لم يكن
مدلوله اللفظي

(1) كتاب الصلاة: 573.
291

ظاهرا في الفور ولا في التراخي، ولكن لا يمكن التمسك به للتراخي
بواسطة الاطلاق، ولا التمسك بالبرأة العقلية لنفي الفورية، لأنه
يمكن أن يقال: بأن الفورية وإن كانت غير ملحوظة للامر قيدا للعمل،
إلا أنها من لوازم الامر المتعلق به، فإن الامر تحريك إلى العمل و
علة تشريعية له، وكما أن العلة التكوينية لا تنفك عن معلولها في
الخارج، كذلك العلة التشريعية تقتضي عدم انفكاكها عن معلولها في
الخارج، وإن لم يلاحظ الامر ترتبه على العلة في الخارج قيدا. انتهى.
أقول: العلة التامة التكوينية لا يمكن أن تنفك عن المعلول بالبرهان و
الضرورة، وأما الأوامر فكما يمكن أن تتعلق بالطبائع متقيدة
بالفور يمكن أن تتعلق بها متقيدة بالتراخي ويمكن أن تتعلق بها بلا
تقييد، ولا يمكن أن تدعو إلا إلى متعلقاتها، بل مقتضى الملازمة
بين الايجاب والوجوب أن الايجاب إلا تعلق بأي موضوع على أي
نحو كان تعلق الوجوب به لا بغيره، فإذا تعلق الامر بنفس الطبيعة لا
يمكن أن يدعو إلى أمر زائد عنها، فوزان الزمان وزان المكان وسائر
القيود الزائدة، فكما لا يمكن أن يكون البعث إلى نفس الطبيعة
بعثا إلى إيجادها في مكان خاص، كذلك بالنسبة إلى زمان خاص
حاضر أو غاير.
وبالجملة: القياس بين التكوين والتشريع كما وقع منه ومن غيره من
الأعاظم (1)، غير تام.

(1) فوائد الأصول 1: 272 - 273 و 280 - 281.
292

في الاستدلال على الفور بأدلة النقل (1):
ثم إنه قد يتشبث لاستفادة الفورية بأدلة النقل، مثل قوله تعالى -:
فاستبقوا الخيرات (2)، وقوله: سارعوا إلى مغفرة من ربكم (4).
وفيه: أن الظاهر من مادة (الاستباق) وهيئة (المسارعة) هو أن الامر
متوجه إلى تسابق المكلفين بعضهم مع بعض إلى فعل الخيرات، و
إلى مغفرة من ربهم، ومع حفظ هذا الظهور لا بد من حمل الخيرات و
أسباب المغفرة على ما لو لم يسبق المكلف إليه لفافته بإتيان غيره،
مثل الواجبات الكفائية والخيرات التي لا يمكن قيام الكل بإتيانها، و
معه يكون الامر للارشاد لا للوجوب، فإن الاستباق والمسارعة في
مثلها غير واجب بعد ما قام بأدائها شخص أو أشخاص.
وهذا الحمل أولى من رفع اليد عن ظهور الصدور والاخذ بظهور
الذيل ولا أقل من الاجمال مع عدم دلالة آية المسارعة على العموم.
وما قيل: من أن توصيف النكرة بقوله: من ربكم يفيد العموم (5)

(1) أورد الاستدلال للفورية بأدلة النقل في مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 102، ومعالم
الدين: 53، قوانين الأصول 1: 97 / سطر 17 - 20، الفصول الغروية: 75 - 76.
(2) البقرة 148، المائدة: 48.
(3) آل عمران: 133.
(4) أورده في الفصول: 76 / سطر 16 / 17.
293

كما ترى، ولهذا جرت في الآية احتمالات: ككون المراد كلمة
الشهادة (1)، أو أداء الفرائض (2) كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام (3) أو
التكبير الأول من الجماعة (4)، أو الصف الأول منها، أو التوبة (5) أو
الاخلاص، أو الهجرة قبل فتح مكة (6)، أو متابعة الرسول، أو الاستغفار،
أو الجهاد (7)، أو أداء الطاعات (8)، أو الصلوات الخمس (9).
وقد يورد (10) على التمسك بهما وجه عقلي، وهو إنه يلزم من وجوب
الاستباق إلى الخيرات عدمه.
بيانه: أن الاستباق بمفهومه يقتضي وجود عدد من الخيرات يتحقق
الاستباق بفعل مقدار منه، وينتفي في المقدار الاخر، ولا ريب أن
المقدار الذي لا يتحقق الاستباق فيه هو من الخيرات، وعلى فرض
وجوب الاستباق في الخيرات يلزم أن يكون المقدار الذي لا يتحقق به
الاستباق غير الخيرات،

(1) مجمع البيان 1: 503.
(2) جوامع الجامع: 68.
(3) مجمع البيان 1: 503، وعنه في تفسير نور الثقلين 1: 389.
(4) مجمع البيان 1: 503
(5) نفس المصدر السابق 1: 504.
(6) نفس المصدر السابق 1: 503.
(7) نفس المصدر السابق 1: 504
(8) مجمع البيان 1: 503، جوامع الجامع: 68.
(9) مجمع البيان 1: 503 - 504.
(10) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي 1: 252.
294

لمزاحمته للمقدار الذي يتحقق به، وإذا انتفى أن يكون من الخيرات،
لزم عدم وجوب الاستباق في المقدار الذي كان الاستباق يتحقق
فيه، فيلزم من وجوبه عدمه، وهو محال.
وفيه ما لا يخفى.
أما أولا: فلان معنى (استبقوا) هو بعث المكلفين إلى سبق بعضهم
بعضا في فعل، كما في السبق والرماية، وكما في قوله تعالى: واستبقا
الباب (1) في قضية يوسف عليه السلام لا سبق بعض الخيرات على
بعض، والخيرات مفعول لا فاعل.
وثانيا: أن الامر في التكاليف متعلق بالطبائع لا الافراد، حتى يلزم أن
يكون لكل خير مقدار متعلق للامر، فيلزم منه ما ذكر.
وثالثا: على فرض تعلق الامر بالافراد يمكن تعلقه بجميعها على سبيل
تعدد، المطلوب، فالتزاحم على فرضه إنما يقع في المطلوب
الاعلى.
ورابعا: على فرض وقوع التزاحم لا يخرج الواجب عن كونه خيرا، فإن
السقوط للمزاحمة، فحينئذ يبقى ظهور مفهوم الاستباق على حاله.
والانصاف: أن ما ذكره رحمه الله تجشم وتكلف، كما لا يخفى على
المتدبر.

(1) يوسف: 25.
295

الفصل الثالث في الاجزاء
وقبل الورود في البحث لا بد من ذكر مقدمات:
المقدمة الأولى في تحرير محل النزاع
اختلف كلماتهم في تحرير محل البحث:
فقد يعبر: بأن الامر بالشئ هل يقتضي الاجزاء إذا أتي به على وجهه أم لا (1)؟
وقد يعبر: بأن الاتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الاجزاء أم لا (1)؟
ولعل الفرق بينهما: أن النزاع في الأول في دلالة الامر، فصار المبحث من

(1) قوانين الأصول 1: 129 / سطر 20، الفصول الغروية: 116 / سطر 9 - 10.
(2) مطارح الانظار: 18 / سطر 23.
297

مباحث الألفاظ والدلالات، وفي الثاني في أن الاتيان علة للاجزاء
فصار عقليا، كذا قيل (1).
لكن كون النزاع في دلالة الامر بعيد عن الصواب، فإن الدلالة
المتوهمة:
إن كانت وضعية، فلا أظن بأحد يتوهم دلالة هيئة الامر أو مادته على
الاجراء إذا أتى المكلف بالمأمور به على وجهه، بحيث يكون جميع
هذه المداليل من دلالة الامر هيئة أو مادة.
(وإن كانت هذه الدلالة التزامية -) بأن يدل على أن المأمور به مشتمل
على غرض للامر، ولا محالة أن ذلك الغرض يتحقق في الخارج
بتحقق المأمور به، وحينئذ يسقط الامر لحصول الغاية الداعية إليه -
(فكذا لا يتوهمها أحد) فإن عد تلك القضايا العقلية المتكثرة من
دلالة الامر التزاما مما لا مجال للالتزام به، مع ظهور فساده، فحينئذ لا
يكون في دلالة الدليل.
وهذا من غير فرق بين إرجاع النزاع إلى الأوامر الاختيارية الواقعية أو
الاضطرارية والظاهرية، لان دلالة الامر لا تخرج عن مادته و
هيئته.
نعم يمكن أن يقال: إن النزاع يرجع بالاجرة إلى دلالة الأوامر
الاضطرارية والظاهرية على تنقيح موضوع الأوامر الاختيارية و
الواقعية
بنحو الحكومة، فيكون من مباحث الألفاظ، لكن هذا خلاف ظاهرهم (2)، وقضية

(1) نهاية الدراية 1: 145 / سطر 17 - 24.
(2) قوانين الأصول 1: 130 / سطر 4 - 5 و 131 / سطر 5 - 7، الفصول الغروية: 116 -
117.
298

تنقيح الموضوع بالحكومة أمر أحدثه المتأخرون (1)، فلا يجوز حمل
كلام القوم عليه.
وقد يقال: إن الجمع بين الاجزاء في الأوامر بالنسبة إلى نفسها و
الاجزاء بالنسبة إلى أمر آخر مما لا يمكن بعنوان واحد، لان البحث في
الأول عقلي صرف، وفي الثاني لفظي راجع إلى دلالة الأدلة، والجمع
بينهما لا يمكن بجامع واحد.
أقول: الأولى إبقاء البحث على حاله، بأن يقال: إتيان المأمور به على
وجهه هل يجزي أم لا؟ وهذا جامع يشمل جميع العناوين المبحوث
عنها، وإنما الاختلاف بينها في الأدلة القائمة على المطلوب، فيدل
دليل عقلي على بعض أقسام المقسم، وشرعي على بعض، ولا يكون
النزاع ابتدأ في دلالة الأدلة، بل في الاجزاء وعدمه، والدليل عليه قد
يكون عقلا، وقد يكون نقلا، والامر سهل.
المقدمة الثانية في المراد من الاقتضاء في عنوان البحث
ليس الاقتضاء بمعنى العلية والتأثير، لعدم تأثير لاتيان المكلف في
الاجزاء، سوأ فسر (2) بالمعنى اللغوي - وهو الكفاية - وهو واضح
فإنها عنوان

(1) فرائد الأصول: 432 - 433، الكفاية 2: 376 و 379.
(2) الكفاية 1: 125، معجم مقاييس اللغة 1: 455.
299

انتزاعي ليس موردا للتأثر والتأثير، والعجب من المحقق الخراساني
حيث جمع بين الالتزام بكون الاقتضاء بمعنى العلية، وبين القول
بأن الاجزاء هو الكفاية (1).
أو فسر بإسقاط الامر ونحوه (2)، فإن الاتيان ليس علة مؤثرة في
الاسقاط، وهو - أيضا - ليس شيئا قابلا لكونه أثرا لشئ.
وما يمكن أن يقال: إن الامر لما صدر لأجل غرض هو حصول المأمور
به، فبعد حصوله ينتهي اقتضاء بقائه، فيسقط لذلك، كما أن الحال
كذلك في إرادة الفاعل المتعلقة بإتيان شي لأجل غرض، فإذا حصل
الغرض سقطت الإرادة، لانتهاء أمدها لا لعلية الفعل الخارجي
لسقوطها.
والأولى في عنوان البحث أن يقال: إن الاتيان بالمأمور به هل مجز أم
لا؟
المقدمة الثالثة في معنى (على وجهه) في عنوان البحث
أن المراد من قولهم: (على وجهه) هو ما ينبغي أن يؤتى به، أي مع كل
ما يعتبر فيه ويكون دخيلا في تحصيل الغرض، لا قصد الوجه، ولا
ما ذكره المحقق الخراساني من أن المراد منه إفادة ما يعتبر فيه عقلا و
لا يمكن الاعتبار شرعا (3).

(1) الكفاية 1: 125.
(2) قوانين الأصول 1: 129 / سطر 21.
(3) انظر الكفاية 1: 124.
300

فإن عدم الامكان غير مسلم مع أن شبهة عدم إمكان أخذ ما يؤتى من
قبل الامر في المأمور به حدثت في هذه الأزمنة المتأخرة، وهذا
العنوان مقدم عليها.
المقدمة الرابعة في فارق المسألة عن المرة والتكرار
الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار واضح، سوأ كان
البحث في الثانية في دلالة الامر أو حكم العقل، فإن البحث هاهنا بعد
الفراغ عن مدلول الامر أو مقتضى العقل، ومعه لا يمكن وحدتهما،
فإذا فرغنا عن دلالة الامر أو اقتضائه المرة يقع البحث في أن الاتيان
بها مجز أم لا؟ كما أنه لو دل على التكرار يقع البحث في إجزاء الاتيان
بكل فرد.
وأما مسألة تبعية القضاء للأداء، فلا جهة اشتراك بينهما وبين هذه
المسألة، فإن الكلام هاهنا في أن الاتيان بالمأمور به هل مجز عن
الأداء والقضاء؟ وفي تلك المسألة يكون البحث في أن المكلف إذا لم
يأت بالمأمور به في الوقت فهل يدل الامر على الاتيان به بعده؟
فالموضوع هاهنا الاتيان وهناك عدمه فأي تشابه بينهما؟ والعجب أن
المحقق الخراساني تصدى لبيان الفارق بينهما، بأن البحث في
أحدهما في دلالة الصيغة دون الاخر. (1)

(1) الكفاية 1: 126.
301

المقدمة الخامسة في وحدة الأمر أو تعدده في المقام
هل محط البحث في إجزاء الأوامر الاضطرارية والظاهرية عن
الاختيارية والواقعية، هو أن هاهنا أمرين تعلقا بشيئين: أحدهما
بملاحظة
حال الاختيار والعلم، والاخر بملاحظة حال الاضطرار والجهل،
فيبحث في أنه هل يجزي الاتيان بمتعلق الاضطراري أو الظاهري عن
الاختياري أو الواقعي؟ أو أن محطه أنه ليس في المقام إلا أمر واحد
تعلق بالطبيعة، ولها أفراد مختلفة بحسب حال الاختيار والاضطرار
والعلم والشك، وقد أمر الشارع بإتيانها في حال الاختيار والعلم
بكيفية خاصة، وفي حال الاضطرار والجهل بكيفية أخرى، فوقع
البحث في أن الاتيان بالكيفية الاضطرارية أو الظاهرية موجب للاجزاء
عن الامر المتعلق بالطبيعة أولا؟ مثلا: إن قوله تعالى: أقم الصلاة
لدلوك الشمس إلى غسق الليل (1) يدل على وجوب الطبيعة في هذا
الوقت المضروب لها، ثم دل دليل على اشتراطها في حال الاختيار
بالطهارة المائية، وفي حال فقدان الماء بالترابية، وأما الشارع بإتيانها
في الحال الأول بكيفية وفي الاخر بكيفية أخرى، بحيث تكون
الكيفيات الطارية من خصوصيات المصاديق لا من مكثرات الطبيعة، و
لا يكون للطبيعة المتقيدة بكيفية أمر، وبأخرى أمر آخر.

(1) الاسراء: 78.
302

فوقع النزاع في أن الاتيان بمصداق الاضطراري للطبيعة هل يوجب
سقوط الامر عنها فيجزي (1)، أم لا (2)، وكذلك الحال في إجزاء الأوامر
الظاهرية (3)؟ ظاهر كثير (4) منهم هو الأول، كما أن مقتضى حكمهم
بجريان البراءة في المقام الثاني ذلك، وظاهر بعضهم وصريح آخر
هو الثاني.
ويمكن ابتناء هذا الخلاف على الخلاف في كيفية جعل الجزئية و
الشرطية والمانعية للمأمور به، فإن قلنا بعدم إمكان جعلها إلا تبعا
للتكليف، (5) فإذا أمر بجملة ينتزع من أبعاضها الجزئية للمأمور به، أو
أمر بمقيد ينتزع الشرطية من قيده، وأما إذا أمر بشئ ثم أراد
جعل شي آخر جز له أو شرطا، فهو غير معقول، فلا بد بعد ذلك
البناء من التزام أمرين: أحدهما تعلق بالصلاة المقيدة بالطهارة
المائية، والاخر بالمقيدة بالترابية للمضطر، وكذا الحال في الاجزاء و
الموانع لا بد من التزام الامرين وأما مع الالتزام بإمكان الجعل
المستقل فيها - كما هو الحق - فلا داعي لرفع

(1) الكفايگ 1: 130، درر الفوائد 1: 80، فوائد الأصول 1: 244 - 245، نهاية الأصول
1: 117.
(2) مفاتيح الأصول: 126 / سطر 7 - 11 حكاه عن القاضي عبد الجبار وأبي هاشم
وأتباعهما وعن أبي القاسم وكثير من المتكلمين.
(3) نهاية الأصول 1: 126 قال بالإجزاء، درر الفوائد 1: 5 - 51 قال بعدم الاجزاء.
(4) الفصول الغروية: 116 / سطر 32 - 33، نهاية الأصول 1: 114.
(5) فرائد الأصول: 350 / سطر 11، الكفاية 2: 304 - 305.
303

اليد عن الأدلة الظاهرة في جعل الشرائط والاجزاء والموانع مستقلا،
فنلتزم بأنه لا يكون للطبائع إلا أمر واحد، وقد أمر الشارع
بإتيانها في حال الاختيار بكيفية، وفي حال الاضطرار بأخرى، و
الاختلاف في الافراد والمصاديق.
هذا في باب الصلاة التي هي عمدة في الباب، وأما في بعض الأبواب
الأخرى - كباب كفارة الصيد وكفارة الظهار والقتل الخطائي و
أمثالها - فيكون الامر الاضطراري متعلقا بعنوان غير ما تعلق به الامر
الاختياري، فعليه لا بد من تعميم البحث لكلام الفرضين. إذا عرفت
ما ذكر فالكلام يقع في مواضع:
الموضع الأول: في إجزاء الاتيان بالمأمور به عن التعبد به ثانيا:
أن الاتيان بالمأمور به الواقعي أو الاضطراري أو الظاهري يجزي عن
التعبد به ثانيا بلا إشكال، لان الإرادة والبعث من الامر إنما تعلقا
بالطبيعة لأجل تحصيلها وحصول الغرض بها، فإذا أوجد المكلف
المأمور به على وجهه وبجميع قيوده فلا يمكن بقاؤهما، لحصول
الغرض الذي هو علة الإرادة بماهيته، وبحصوله ينتهي أمد الإرادة و
البعث، فبقاؤهما مستلزم لبقاء المعلول بلا علة.
في تبديل الامتثال بالامتثال:
ثم إنه وقع في المقام بحث آخر، وهو أنه هل يكون للعبد تبديل امتثال
304

بامتثال آخر أولا، أو يكون له فيما إذا لم يكن الفعل علة تامة لحصول
الغرض؟ التحقيق عدمه مطلقا، وتوضيحه يتوقف على مقدمة: وهي
أنه فرق بين تبديل امتثال بامتثال وتبديل مصداق المأمور به مصداق
آخر ولو لم يكن امتثالا، فإن تبديل الامتثال يتوقف على تحقق
امتثالين مترتبين، بمعنى أنه يكون للمولى أمر متعلق بطبيعة، فيمتثل
المكلف، ويبقى الامر، ثم يمتثل ثانيا، ويجعل المصداق الثاني -
الذي تحقق به الامتثال - بدل الأول الذي كان الامتثال تحقق به.
وأما تبديل مصداق المأمور به - الذي تحقق به الامتثال - بمصداق
آخر غير محقق للامتثال، لكن محصل للغرض اقتضاء مثل المصداق
الأول أو بنحو أوفى، فهو لا يتوقف على بقاء الامر، بل من قبيل تبديل
مصداق المأمور به بمصداق آخر لا بصفة كونه مأمورا به.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن محل كلام الاعلام إنما هو الأول (1)، أي
تبديل الامتثال بالامتثال، كما هو ظاهر العنوان، ولهذا تصدى المحقق
الخراساني لإقامة البرهان على بقاء الامر (2).
والتحقيق: عدم الامكان مطلقا فيما هو محل كلامهم، والجواز فيما

(1) أجود التقريرات 1: 194، فوائد الأصول 1: 242 - 243. مقالات الأصول 1: 85 /
سطر 22.
(2) الكفاية 1: 127.
305

ذكرنا إذا لم يكن المصداق الأول علة تامة لحصول الغرض.
أما الثاني: فلحكم العقل بحسن تحصيل غرض المولى ولو لم يأمر به،
ولزوم تحصيله إذا كان لازم التحصيل. أ لا ترى أنه إذا وقع ابن
المولى في هلكة، وغفل المولى عنه ولم يأمر عبده بإنجائه، لزم
بحكم العقل عليه إنجاؤه، ولو تركه يستحق العقوبة، وذلك لان الامر
وسيلة لتحصيل الغرض ولا موضوعية له، وبعد علم المكلف بغرض
المولى لا يجوز له التقاعد عنه مع لزوم تحصيله.
وكذا لو كان له غرض غير لازم التحصيل ولم يأمر بتحصيله واطلع
المكلف عليه يحسن له تحصيله، ومعه يصير مأجورا عليه وموردا
للعناية مع عدم كونه امتثالا، فلو أمره بإتيان الماء للشرب فأتى
بمصداق منه، ثم رأى مصداقا آخر أو في بغرضه فأتى به، ليختار
المولى
أحبهما إليه، يكون ممتثلا بإتيان الأول لا غير، وموردا للعناية لاتيانه ما
هو أوفى بغرض المولى، لا لصدق الامتثال وتبديل الامتثال
بالامتثال، وهذا واضح.
وأما عدم الامكان فيما هو محل كلامهم، فلعدم تعقل بقاء الامر مع
الاتيان بمتعلقه بجميع الخصوصيات المعتبرة فيه، لعين ما ذكر من
البرهان سابقا (1).
وما ذكره المحقق الخراساني إن رجع إلى ما ذكرناه - كما يوهمه بعض
عباراته - فلا كلام، لكنه لم يكن من تبديل الامتثال، وإن رجع
إلى بقاء

(1) وذلك في صفحة: 304.
306

الطلب والامر لبقاء الغرض المحدث للامر، ولهذا لو أهرق الماء يجب
عليه إتيانه، فهو خلط بين تبديل الامتثال وبين وجوب تحصيل
الغرض المعلوم للمولى، فما هو موجب لصحة العقوبة ليس عدم
امتثال أمره، بل تفويت غرضه ولو لم يكن أمر، مع أن الغرض من الامر
هو تمكين المولى من الشرب، وهو حاصل، وأما رفع العطش فهو
غرض أقصى مترتب على فعل العبد وفعله، فبقاء الامر مع تحصيل
الغرض المحدث له من قبيل بقاء المعلول بلا علة.
ومما ذكرنا يعلم إن قضية الصلاة المعادة ليست من قبيل تبديل
الامتثال بالامتثال، بل من قبيل إتيان مصداق من المأمور به وإتيان
مصداق آخر له خصوصية زائدة وإن لم يكن امتثالا للامر الواجب،
ضرورة سقوطه بإتيان الصلاة الجامعة للشرائط، ولا يعقل بقاء الامر
بعد الاتيان بمتعلقه.
ولهذا حكي (1) عن ظاهر الفقهاء (2) إلا من شذ من المتأخرين (3) تعين
قصد الاستحباب في المعادة للامر الاستحبابي المتعلق بها، وأما
قضية الايفاء بالغرض واختيار أحبهما إليه وأمثال هذه التعبيرات التي
تنزه عنها مقام الربوبية، فهي على طبق فهم الناس، ولا بد من
توجيهها.

(1) حكاه الشيخ الأعظم - قدس سره - في كتاب الصلاة: 294 / سطر 14 - 15.
(2) مدارك الأحكام: 264 / سطر 11 - 12، كفاية الأحكام: 31 / سطر 14، رياض
المسائل 1: 234 - 235.
(3) الذكري: 266 / سطر 24 - 25، روض الجنان: 372 / سطر 1 - 2، مسالك الأفهام
1: 34 / سطر 30 - 31.
307

ثم إن بعض محققي العصر رحمه الله بعد إنكار إمكان تبديل الامتثال
بالامتثال، وتقسيم متعلقات الأوامر إلى ما يكون علة تامة لحصول
الغرض، وما يكون مقدمة لتحصيله بفعل جوارحي من المولى كشرب
الماء، أو جوانحي كالصلاة المعادة قال ما حاصله (1): إذا كان فعل
العبد مقدمة لبعض أفعال المولى، فإن قلنا بوجوب المقدمة الموصلة
كان المتصف بالوجوب ما أوصل المولى إلى غرضه النفسي، وكان
الفعل الاخر الذي أتى به العبد امتثالا غير متصف بالوجوب لعدم
الايصال، فعليه لا يعقل تبديل الامتثال، وإن قلنا بالمقدمة المطلقة
فعدم
إمكانه في غاية الوضوح لسقوط الامر بإتيانه. انتهى.
وفيه أولا: أنه لو كان الوجوب المتعلق بشئ لأجل تحصيل غرض من
قبيل الوجوب المقدمي، كانت جميع الوجوبات النفسية من قبيل
المقدمي، وهو لا يلتزم به، فما نحن فيه من قبيل الوجوب النفسي، لا
المقدمي حتى يأتي فيه ما ذكر، وقد حققنا في محله (2) ميزان النفسية
والمقدمية وثانيا: على فرض التسليم لا يمكن الالتزام هاهنا بوجوب المقدمة الموصلة.
لان المقدمة الموصلة - بأي معنى فرضت - لا بد وأن تكون تحت
قدرة العبد حتى يتعلق الوجوب بها، وفي المقام لا يكون الايصال تحت قدرته، فإن

(1) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي 1: 263 - 264.
(2) وذلك في صفحة: 371 وما بعدها.
308

المفروض أن فعل المولى أو اختياره متوسط بين فعل العبد وحصول
الغرض فلا بد أن يتعلق الامر بنفس المقدمة من غير لحاظ
الايصال، أو تقيد به، أو الحصة الملازمة، أو بنحو القضية الحينية، و
أمثال ما ذكر، فإن الايجاب بنحو القضية الحينية - أيضا - إنما يتصور
فيما إذا كان الظرف موجودا، أو يكون إيجاده تحت قدرة المكلف، و
هما مفقودان هاهنا، فإن الوجوب حين وجود ذي المقدمة لا
يتصور، والمفروض أن إيجاده غير مقدور.
نعم، يمكن أن يقال: إن الواجب هو ما يتعقبه اختيار المولى بنحو
الشرط المتأخر، فلا يكون الواجب هو المقدمة الموصلة - ولو بنحو
القضية الحينية - على نحو الاطلاق، حتى يلزمه تحصيل القيد، بل
المشروط بالشرط المتأخر، فإذا أتى بها ولم يتعقبها اختياره يكشف
ذلك عن عدم وجوبها، فحينئذ يخرج عن موضوع تبديل الامتثال،
فتدبر.
الموضع الثاني: في أن الاتيان بالفرد الاضطراري مقتض للاجزاء:
وفيه مقامان:
أحدهما: في الإعادة في الوقت:
ولا بد من فرض الكلام فيما إذا كان المكلف مضطرا في بعض الوقت
فأتى بوظيفته الاضطرارية، ثم طرأ الاختيار، وأيضا موضوع
البحث ما إذا كان الامر بإتيان الفرد الاضطراري محققا، أي يكون
الاضطرار في
309

الوقت موضوعا للتكليف بالاتيان وصرف وجود الاضطرار كافيا.
وأما إذا دلت الأدلة على أن استيعاب الاضطرار مسوغ للاتيان، فهو
خارج عن موضوع البحث، لأنه مع عدم الاستيعاب لم يكن مأمورا
بالاتيان، ومحل البحث هو الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري، و
مع استيعابه وعدم طرو الاختيار في الوقت يخرج عن موضوع
الإعادة.
ثم إن الاجزاء بناء على أن محط البحث هو الوجه الثاني من الوجهين
المتقدمين في كمال الوضوح، لأن المفروض عدم تعدد الامر، وأن
الامر متعلق بالطبيعة التي لها مصاديق اختيارية واضطرارية، فإذا دل
الدليل على جواز الاتيان في حال الاضطرار بالفرد الاضطراري،
يصير العبد مخيرا - شرعا أو عقلا - بين الاتيان بالفرد الاضطراري في
حاله، وبين الانتظار إلى زمان طرو الاختيار والاتيان
بالاختياري، فإذا أتى بالفرد الاضطراري فقد أتى بالطبيعة المأمور بها
بجميع الخصوصيات المعتبرة فيها، ولا يعقل بقاء الامر مع
الاتيان بالمأمور به، والمفروض أن الفرد الاضطراري مصداق الطبيعة
المأمور بها، فلا مجال للتشكيك في الاجزاء.
ومما ذكرنا يعلم حال القضاء مع استيعاب العذر أيضا، لان وجوب
القضاء فرع الفوت، ومع الاتيان بالطبيعة المأمور بها لا موضوع له.
وأما بناء على الوجه الأول - أي تعلق أمرين: أحدهما بالطبيعة
المقيدة بالطهارة المائية مثلا للواجد، والثاني بالمقيدة بالترابية للفاقد
-
فحينئذ: إما أن يدل دليل على وحدة التكليف كما في الصلاة، فيستفاد
منه التخيير بين
310

إتيانها في حال العجز مع الطهارة الترابية، وبين الصبر إلى زوال العذر و
إتيانها مع المائية، فلا محالة يكون الاتيان بأحد طرفي
التخيير موجبا للاجزاء وسقوط التكليف.
وكذا الحال لو استفدنا من الأدلة أن تعلق الامرين بالواجد والفاقد
ليس لأجل كون الصلاتين مطلوبين مستقلين، بل لأجل إفادة
الشرطية أو الجزئية حيث فرض عدم إمكان جعلهما مستقلا، بل لا بد
من جعلهما تبعا للتكليف، فيكون المطلوب هو الصلاة الواحدة، لكن
شرطها في ظرف الاختيار شي وفي ظرف الاضطرار شي آخر،
فتعلق الامر المستقل بهما لضيق الخناق.
كما لو بنينا على عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في التعبدي في متعلق
أمره وإمكان إفادته بأمر آخر، فإن الامر بإتيان المأمور به مع
قصد امتثال أمره ليس لإفادة مطلوب مستقل، بل لإفادة خصوصيات
المطلوب الأول وما هو دخيل في الغرض، ففي هذه الصورة - أيضا
- مقتضى الأدلة هو الاجزاء.
وأما إذا بنينا على تعدد الطلب والمطلوب فلا بد من فرض كون الامر
المتعلق بالبدل من قبيل الترخيص لا الالزام، فحينئذ إن كان
للدليلين إطلاق فمقتضى إطلاق دليل المبدل عدم الاجزاء، ولا
يضاده إطلاق دليل البدل، لان مقتضاه ليس إلا جواز الاتيان به عند
طرو
العجز، وأما إجزاؤه عن المأمور به بأمر آخر فلا، قوله تعالى: فلم تجدوا
ماء فتيمموا
311

صعيدا طيبا (1) - على فرض إطلاقه - لا يدل إلا على جواز الاتيان
بالصلاة في ظرف فقدان الماء، فإذا فرض كون الصلاة مع الطهارة
الترابية متعلقة لأمر، ومع المائية لأمر آخر، فمقتضى إطلاق الأول
جواز البدار، ولازمه سقوط أمره، لا سقوط الامر المتعلق بالصلاة مع
المائية، كما أن مقتضى إطلاقه ليس استيفاء تمام مصلحة الصلاة
المشروطة بالمائية، أو استيفاء مقدار لم تبق معه مصلحة ملزمة، أو لم
يمكن معه استيفاؤها، فلا بد للاجزاء من التماس دليل آخر غير إطلاق
الأدلة.
هذا كله لو فرغنا عن دلالة أدلة الاضطرار على أنه أعم من العذر
المستوعب، كما هو مفروض الباب.
وأما مع إهمال الأدلة في المبدل منه والبدل، فمقتضى الأصل - بناء
على أن الامر واحد، وخصوصيات حال الاختيار والاضطرار ترجع
إلى أفراد المأمور به - هو الاشتغال، لان التكليف المتعلق بالطبيعة
متيقن ونشك في سقوطه بإتيان الفرد الاضطراري.
وأما بناء على الامرين بالنحو الأخير - بحيث يكون للفاقد أمر و
للواجد أمر آخر - فمقتضى الأصل البراءة، لان الفاقد يعلم بعدم توجه
تكليف الواجد إليه حين كونه فاقدا، ويحتمل كونه مرخصا في إتيان
الصلاة مع الطهارة الترابية، لاحتمال كون العجز المأخوذ في
موضوع تكليفه هو الغير المستوعب، فإذا أتى بالصلاة مع الترابية رجأ
يحتمل كونه آتيا بما هو

(1) النساء: 43، المائدة: 6.
312

وظيفته، وهو إتيان أحد طرفي التخيير، ومعه يشك في تعلق التكليف
به بالصلاة مع المائية عند وجدان الماء، فيكون شكه في حدوث
التكليف وتعلقه، لا في سقوطه بعد العلم به وما قلنا من كونه مخيرا
بين إتيانه للفرد الاضطراري حال الاضطرار وبين الصبر إلى زوال
العذر، ليس بمعنى تعلق تكليف المختار به ولو تعليقا في حال
اضطراره حتى يكون التخيير شرعيا.
هذا إذا قلنا بسقوط الامر في موارد الاضطرار، وأما إذا قلنا بعدمه
فالأصل الاشتغال كما لا يخفى.
وقد يقال: إن الموارد يكون من قبيل دوران الامر بين التعيين و
التخيير، لان المكلف يعلم بأنه إما يجب عليه الانتظار إلى آخر الوقت و
إتيان الصلاة مع الوضوء، أو مخير بين الاتيان بالترابية وبين الصبر إلى
وجدان الماء والاتيان بالمائية، ومعه تكون قاعدة الاشتغال
محكمة (1).
وفيه: أنه بناء على تعلق أمرين بعنوانين يعلم المكلف الفاقد بأنه ليس
مكلفا بتكليف الواجد، بل يحتمل كونه مرخصا في إتيان الصلاة مع
الترابية، ويحتمل كونه غير مكلف بالصلاة في الحال، وإنما يتعلق
التكليف به بالمائية حال وجدانه، بل لا يجب عليه الانتظار - أيضا -
لأنه غير متعلق لتكليف بالبداهة.
وبالجملة: لا يكون في حال الفقدان تكليف فعلي متوجه إليه بإتيان
الصلاة

(1) نهاية الأفكار 1: 230.
313

مع الطهارة المائية حتى يكون من قبيل التعيين والتخيير، ولا يكون
التخيير بين الاتيان في الحال والاتيان في الاستقبال من قبيل
تكليف شرعي تخييري، بل يكون من قبيل أمر انتزاعي من الترخيص
في إتيانها في الحال، ومن الايجاب في الاستقبال حين تعلق
التكليف به على فرض عدم الاتيان، ومثل ذلك لا يرجع إلى التعيين و
التخيير.
هذا إذا قلنا بعدم منجزية العلم الاجمالي في التدريجيات، لعدم العلم
بالتكليف الفعلي، وأما معها فالظاهر أن الأصل الاشتغال، لدوران
الامر بين التعيين والتخيير. هذا حال الإعادة.
وثانيهما: في القضاء خارج الوقت:
وأما القضاء فالأصل فيه البراءة، فإن وجوب القضاء فرع إحراز الفوت،
ومع الاتيان بالمحتمل يشك فيه، ولا يمكن إحرازه باستصحاب
عدم الاتيان بالفريضة إلا على القول بالأصل المثبت.
الموضع الثالث: في الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري:
وفيه مقامان:
المقام الأول: في أن الاتيان بمقتضى الامارات هل موجب للاجزاء؟
ومحل الكلام في المقام وكذا في المقام الآتي - أيضا - فيما إذا كان
314

المكلف مأمورا بمركب ذي شرائط وموانع، وقام دليل من أمارة أو
أصل على تحقق جز أو شرط أو عدم تحقق مانع ولم يكن الامر
كذلك، أو على نفي جزئية شي أو شرطية شي أو مانعية شي، وكان
المأمور به واقعا بخلاف ذلك، فيقع الكلام في أن الاتيان بمصداق
الصلاة - مثلا - مع ترك ما يعتبر فيها استنادا إلى الامارة أو الأصل هل
يوجب الاجزاء أم لا؟ أما إذا قامت أمارة أو أصل على عدم وجوب
شي، فتركه المكلف ثم تبين وجوبه، فلا يدخل في محط البحث، ولا
معنى للاجزاء فيه.
وكيف كان، فالامارة تارة تكون عقلائية ولم يرد من الشرع أمر باتباعها
ولكن استكشفنا إمضاءها من عدم الردع، وأخرى هذا
الفرض مع ورود أمر إرشادي منه باتباعها، وثالثة تكون تأسيسية
شرعية.
وظاهر عنوان القوم (1) خروج الفرض الأول عن محط البحث، بل الثاني
- أيضا - لان الامر الارشادي لم يكن أمرا حقيقة.
والتحقيق: عدم الاجزاء في الامارات مطلقا:
أما في الفرضين الأولين فلان المتبع فيهما هو طريقة العقلا، لعدم
تأسيس للشارع، ولا إشكال في أنهم إنما يعملون على طبق الامارات
لمحض الكشف عن الواقع، مع حفظه على ما هو عليه، من غير
تصرف فيه وانقلاب عما هو عليه، ومع تبين الخلاف لا معنى للاجزاء
بالضرورة.
وأما إذا كانت الامارة تأسيسية، فلان معنى الامارات هو الكاشف

(1) قوانين الأصول 1: 129 / سطر 20، الفصول الغروية: 116 / سطر 9 - 10.
315

عن الواقع، وإيجاب العمل على طبقها إنما هو لمحض الكاشفية عن
الواقع المحفوظ من غير تصرف فيه وانقلاب، وإلا لخرجت الامارة عن الأمارية.
وما قد يقال: إن لسان دليل الحجية في الامارات والأصول سوأ، وهو
وجوب ترتيب الأثر عملا على قول العادل، فمقتضى قوله: (صدق
العادل) هو التصديق العملي وإتيان المأمور به على طبق قوله، وهو
يقتضي الاجزاء كما يأتي في الأصول (1) غير تام، لان إيجاب تصديق
العادل لأجل ثقته وعدم كذبه وإيصال المكلف إلى الواقع المحفوظ،
كما هو كذلك عند العقلا في الأمارات العقلائية ولا يفهم العرف و
العقلا من مثل هذا الدليل إلا ما هو المركوز في أذهانهم من الامارات،
لا انقلاب الواقع عما هو عليه، بخلاف أدلة الأصول على ما سيأتي
بيانه (2).
وبالجملة: أن الاجزاء مع جعل الامارات وإيجاب العمل على طبقها -
لأجل الكشف عن الواقع كما هو شأن الامارات - متنافيان لدى
العرف والعقلاء، هذا من غير فرق فيما ذكرنا بين الامارات القائمة
على الاحكام أو الموضوعات.

(1) نهاية الأصول 1: 132 - 133.
(2) وذلك في صفحة: 317 وما بعدها.
316

المقام الثاني: في أن الاتيان بمؤدى الأصول هل يقتضي الاجزاء؟
والتحقيق: هو الاجزاء فيها مطلقا:
أما في مثل أصالتي الطهارة والحلية: فلحكومة أدلتهما على أدلة
الشرائط، لان قوله: (كل شي نظيف حتى تعلم أنه قذر) (1) محقق
لموضوع (لا صلاة إلا بطهور (2))، أي محقق للطهور في ظرف الشك.
وإن شئت قلت: مفاده جواز ترتيب آثار الطهارة على المشكوك فيه
بلسان تحققه فيفهم منه عرفا أن الصلاة المشروطة بالطهارة يجوز
الاتيان بها في حال الشك بهذه الكيفية، ويكون المأتي به مع هذه
الكيفية مصداقا للصلاة المأمور بها وواجدا لما هو شرطها، وهو معنى
الاجزاء.
لا يقال: هذا إذا لم ينكشف الواقع (3).
فإنه يقال: لا معنى لانكشاف الخلاف هاهنا، لان الأصل ليس طريقا
للواقع يطابقه تارة ويخالفه أخرى مثل الامارة، حتى يقال: انكشف
الخلاف.
وكذا الكلام في أصالة الحل، فإن قوله: (كل شي فيه حلال وحرام فهو لك

(1) التهذيب 1: 284 / 119 باب 12 في تطهير الثياب، الوسائل 2: 1054 / 4 باب
37 من أبواب النجاسات.
(2) الفقيه 1: 35 / 1 باب 14 فيمن ترك الوضوء أو بعضه أو شك فيه، دعائم الاسلام 1:
100، الوسائل 1: 256 / 1 و 6 من أبواب الوضوء.
(3) فوائد الأصول 1: 251.
317

حلال.) (1) إلخ حاكم على ما دل على عدم جواز الصلاة في محرم
الاكل، ويفهم منه عرفا كون الوظيفة في هذا الحال إتيان الصلاة بهذه
الكيفية، فيصير الصلاة المأتي به كذلك مصداقا للمأمور به تعبدا،
فيسقط الامر المتعلق بطبيعة الصلاة بإتيانها كذلك.
ولا يخفى أن المدعي حكومة أدلة الأصول على أدلة اعتبار الشرائط و
الموانع في المركبات، لا على أدلة النجاسات والمحرمات، حتى
يقال: إن الحكومة بينهما ظاهرية في طول المجعول الواقعي، لأن الشك
أخذ في موضوع الأصول، ولا تنتج تلك الحكومة تخصيصا.
وبعبارة أخرى: المجعول الظاهري إنما هو واقع في مرتبة إحراز الواقع
والبناء العملي عليه بعد انحفاظ الواقع على ما هو عليه، فلا
يمكن أن يكون موسعا أو مضيقا للمجعول الواقعي، وأيضا يلزم من
ذلك التزام طهارة ملاقي مشكوك الطهارة بعد انكشاف الخلاف، و
هو كما ترى (1).
ولا يخفى ما فيه من الخلط، فإن القائل بالاجزاء لا يدعي أن أصالة
الطهارة حاكمة على أدلة النجاسات وأنها في زمان الشك طاهرة، بل
يقول:
إنها محفوظة على واقعيتها، وملاقيها - أيضا - نجس حتى في زمان
الشك لكن يدعي حكومتها على أدلة الاشتراط، وأن ما هو نجس واقعا

(1) الكافي: 5: 313 / 39 باب النوادر من كتاب المعيشة، مع اختلاف يسير، الوسائل 12:
59 / 1 باب 4 من أبواب ما يكتسب به.
(2) فوائد الأصول 1: 250 - 251.
318

يجوز ترتيب آثار الطهارة عليه في زمان الشك، ومن الآثار إتيان الصلاة
المشروطة بها بلسان تحقق الطهارة، ولازمة تحقق مصداق
المأمور به لأجل حكومتها على أدلة الشرائط والموانع، والخلط بين
المقامين أوقع المستشكل فيما أوقعه.
وأما دعوى ان الحكومة إنما تستقيم إذا كانت الطهارة والحلية
الظاهريتان مجعولتين أولا، ثم قام دليل على أن ما هو الشرط في
الصلاة أعم منهما (1).
ففي غاية السقوط، ضرورة أن الحكومة من كيفية لسان الدليل، فقوله:
(المشكوك فيه طاهر) حاكم عرفا على أدلة اشتراط الطهارة، ولا يلزم
فيها التصريح بأن الشرط أعم من الواقعية والظاهرية، كما لا
يحتاج إلى جعل حكمين طوليين ظاهري وواقعي، بل يكفي جعل
الظاهري ويكشف منه عرفا أعمية الشرط من أول الأمر من الواقعي
كما هو واضح. هذا حال أصالتي الطهارة والحلية.
وكذا الكلام في حديث الرفع (2)، فإنه - بعد عدم جواز حمله على رفع
(ما لا يعلمون) واقعا في الشبهات الحكمية - يحمل على الرفع
الظاهري، أي ترتيب آثار رفع المشكوك فيه بلسان رفع الموضوع، فإذا
شك في جزئية شي

(1) فوائد الأصول 1: 249.
(2) التوحيد - للشيخ الصدوق -: 353 / 24 باب الاستطاعة، الخصال: 417 / 9 باب
التسعة، الوسائل 11: 295 - 296 / 1 باب 56 من أبواب جهاد النفس.
319

أو شرطيته أو مانعية شي، وكذا إذا شك في كون شي مانعا
موضوعا، فمقتضى حديث الرفع هو جواز ترتيب آثار الرفع ظاهرا، و
منها جواز إتيان المأمور به على مقتضاه في مقام الفراغ عن عهدته.
فإذا ورد من المولى: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل (1)، و
دلت الأدلة على اعتبار الاجزاء والشرائط، وورد منه قوله: (رفع. ما
لا يعلمون.) (2)، يفهم منه عرفا أن كيفية إطاعة الامر في حال الشك في
السورة هو الاتيان بالمأمور به بلا سورة مثلا، ومع الشك في
مانعية شي هو جواز الاتيان به معه، فإذا أتى به كذلك أتى بالمأمور
به، لحكومة دليل الرفع على أدلة الجز والشرط والمانع.
وأما الاستصحاب: فلان الظاهر من دليله - ولو بملاحظة مورده - و
هو عدم نقض اليقين بالشك، هو البناء العملي على بقاء المتيقن في
زمان الشك، أو وجوب ترتيب آثاره، ولو بضميمة الكبريات الكلية
التي هي المجعولات الأولية وانسلاك المستصحب بدليله وحكومته
في موضوعها على ما قررنا في محله (3)، وعلى أي حال يكون حاله
حال ما ذكرنا.
وأما قاعدة التجاوز والفراغ: فإن الظاهر من غالب أدلتها وجوب
المضي وعدم الاعتناء بالشك، وفي بعضها البناء العملي على وجود
المشكوك فيه

(1) الاسراء: 78.
(2) مر تخريجه آنفا.
(3) الرسائل للسيد الامام قدس سره رسالة الاستصحاب: 241 وما بعدها.
320

تعبدا كصحيحة حماد (1) وموثقة عبد الرحمن (2) ولازم ذلك
الاجزاء، سوأ قلنا بأنها أصل محرز، أو أنها أصل تعبدي غير محرز،
لان
(مقتضى) الامر بالبناء التعبدي على وجود المشكوك فيه، أو بالمضي
وعدم الاعتناء بالشك، هو جواز إتيان المأمور به أو لزومه بهذه
الكيفية، فيصير المأتي به مصداقا للمأمور به تعبدا، فيسقط الامر، ولا
نعني بالاجزاء إلا ذلك.
نعم على فرض استفادة الطريقية من أدلتها فلازمها عدم الاجزاء، لكنها

(1) (1) التهذيب 2: 151 - 51 باب 9 تفصيل ما تقدم ذكره.، الاستبصار
1: 358 - 5، الوسائل 4: 936 - 1 باب 13 من أبواب الركوع.
وحماد هو ابن عيسى الجهني البصري أبو محمد، من أصحاب الإمام
الصادق والكاظم والرضا صلوات الله عليهم، وكان صدوقا ثقة،
توفي سنة 209 ه في الجحفة، وقد عاش نيفا وتسعين سنة.
انظر مجمع الرجال 3: 228، تنقيح المقال 1: 366، معجم رجال
الحديث 6: 224.
(2) التهذيب 2: 151 - 54 باب 9 تفصيل ما تقدم ذكره.، الاستبصار
1: 358 - 8، الوسائل 4: 937 - 6 باب 13 من أبواب الركوع.
وعبد الرحمن هو ابن الحجاج البجلي، الكوفي، بياع السابري. سكن
بغداد، وكان ثقة ثبتا ومن وجوه الشيعة، عرف بكثرة عبادته.
روى عن الإمام الصادق عليه السلام وخاطبه الامام: (يا عبد الرحمن
كلم أهل المدينة، فإني أحب أن يرى في رجال الشيعة مثلك).
وكان وكيلا للإمام الصادق عليه السلام كما كان أستاذا لصفوان. قال
الشيخ المفيد:
هو من شيوخ أصحاب أبي عبد الله عليه السلام وخاصته وبطانته
وثاقته الفقهاء الصالحين. توفي في زمن الإمام الرضا عليه السلام.
انظر تنقيح المقال 2: 141، معجم رجال الحديث 9: 315.
321

ممنوعة، والتفصيل موكول إلى محله.
فتحصل من جمع ذلك: أن التحقيق عدم الاجزاء في الامارات و
الاجزاء في الأصول.
وأما حال تبدل رأي المجتهد بالنسبة إلى أعماله وأعمال مقلديه، فقد
تصدينا لتفصيله في بحث الاجتهاد والتقليد (1).

(1) الرسائل - للسيد الامام قدس سره -: 159 - 165.
322

الفصل الرابع في مقدمة الواجب
وقبل الخوض في المقصود ينبغي تقديم أمور:
الأمر الأول في مدار البحث في المقام
ما يمكن أن يكون محط البحث فيها هو تحقق الملازمة بين الإرادة
المتعلقة بذي المقدمة مع إرادة ما يرى المولى مقدمة، لا الملازمة بين
إرادة ذي المقدمة مع إرادة المقدمة، ويتضح ذلك بعد تصور إرادة
الفاعل ونحو تعلقها بذي المقدمة ومقدمته، فنقول:
لا إشكال في أن الإرادة من الفاعل إنما تتعلق بشئ بعد تصوره و
الاذعان بفائدته وسائر مقدماتها، ولا يمكن تعلقها به قبل تمام
المقدمات،
323

ولا يلزم أن يكون الشئ بحسب الواقع موافقا لغرضه وصلاحه، لان
ما يتوقف عليه تحقق الإرادة هو تشخيص الفاعل صلاحه وموافقته
لغرضه وتصديقه بذلك ولو كان مخالفا للواقع، فربما تتعلق إرادته بما
هو مخالف لصلاحه ومضر ومهلك له لسوء تشخيصه وخطائه.
ثم إنه قد تتعلق الإرادة بشئ لأجل نفسه وتشخيص صلاح فيه، وقد
تتعلق به لأجل غيره وتوقف الغير عليه، وفي هذا - أيضا - لا يمكن
تعلقها به إلا بعد تصوره والتصديق بكونه مقدمة لمراده النفسي، ولا
تتعلق بما هو في نفس الامر مقدمة، ضرورة امتناع تعلقها بالواقع
المجهول عنده، ولا بالمعلوم بجهات أخرى غير المقدمية، بل قد
تتعلق بما يراه مقدمة خطا، فميزان تعلق الإرادة هو تشخيص الفاعل، لا
الواقع.
ومعنى تبعية إرادة المقدمة لذي المقدمة ليس نشوؤها وتولدها منها،
بحيث تكون إرادة ذي المقدمة موجدة لارادتها كما هو ظاهر
تعبيراتهم (1)، بل معناها أن الفاعل بعد تشخيص التوقف يريد المقدمة
بعد تحقق مبادئها لأجل تحصيل ذي المقدمة لا لنفسها.
فاتضح: أن الملازمة في الإرادة الفاعلية إنما تكون بين إرادة ذي
المقدمة وإرادة ما يراه مقدمة، لا بمعنى كون إحداهما لازمة للأخرى،
بل بمعنى تحقق كل منهما بمبادئها، وتبعية إحداهما في تعلق الإرادة
بها لكونها غيرية ولا تكون الملازمة بين إرادة ذي المقدمة و
مقدمته الواقعية،

(1) فوائد الأصول 1: 262.
324

ضرورة عدم تعلق الإرادة بها، وعدم إمكان الملازمة الفعلية بين
الموجود والمعدوم.
فلا يمكن أن يقال بتحقق الملازمة بين إرادة ذي المقدمة وبين الإرادة
التقديرية، فإنها ليست بموجودة، والتلازم من التضايف المقتضي
للتكافؤ قوة وفعلا.
مع أن ذلك إن يرجع إلى دعوى الملازمة بين الإرادة الفعلية لذي
المقدمة وإرادة المقدمة على فرض تحققها فهي إنكار للملازمة، لان
مقتضى التلازم أن وجود أحدهما ملازم لوجود الاخر.
وإن يرجع إلى دعوى الملازمة بينها وبين قوة الإرادة فهي فاسدة، لان
قوة الإرادة متحققة في النفس من أول تحققها، فيلزم تحقق
ملزومها أو لازمها كذلك، وهو كما ترى.
وإن يرجع إلى ما ذكرنا بتعبير آخر فلا إشكال.
هذا حال الإرادة التكوينية من الفاعل.
وأما الكلام في إرادة الامر، فإن ما يمكن أن يقع محل البحث أحد
أمرين:
الأول: أنه هل تكون ملازمة بين إرادة بعث المولى عبده نحو ذي
المقدمة وبين إرادة بعثه نحو ما يراه مقدمة، أو لا، أو تكون ملازمة بين
إرادتهما، أو لا؟ وأما البحث عن الملازمة بين إرادة ذي المقدمة و
إرادة المقدمة الواقعية بالحمل الشائع فساقط، ضرورة عدم تعقل
الملازمة بينهما، لعدم تعلق الإرادة
325

بالواقع من غير تشخيص مقدميته وعدم إمكان تحقق الملازمة بين
الموجود والمعدوم.
ودعوى الملازمة التقديرية أو الفعلية بين المحقق والمقدر لا ترجع
إلى محصل، إلا أن ترجع إلى ما ذكرنا.
الثاني: أن يقع النزاع في الملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدمة أو
الإرادة المتعلقة به، وبين وجوب عنوان ما يتوقف عليه ذو المقدمة
أو عنوان ما يتوصل به إليه، أو الإرادة المتعلقة بأحد العنوانين.
وهذا يصح بناء على تعلق الوجوب بأحد العنوانين، وتكون حيثية
التوقف أو التوصل حيثية تقييدية، كما هو التحقيق في الأحكام العقلية،
وأما بناء على تعلق الوجوب بذات المقدمة، وما يتوقف عليه ذو
المقدمة بالحمل الشائع، وعدم رجوع الحيثيات التعليلية إلى
التقييدية -
كما يظهر من بعضهم (1) - فلا محيص عن الوجه الأول.
ثم إن ما ذكرنا من إمكان تخلف الواقع عن تشخيص المريد في الوجه
الأول إنما هو في غير الشارع، وأما فيه فلا يمكن التخلف كما هو
واضح، وفي الموالي العرفية إذا رأى المأمور تخلف إرادة الامر عن
الواقع لسوء تشخيصه لا يلزم - بل لا يجوز في بعض الأحيان -
اتباعه، بل يجب عليه تحصيل غرضه بعد العلم به.
ثم إنه لعلك قد علمت مما ذكرنا في خلال البحث، أن الملازمة المدعاة

(1) الكفاية 1: 191، فوائد الأصول 1: 288، نهاية الأفكار 1: 339 - 340.
326

ها هنا غير الملازمات واللوازم والملزومات العقلية الاصطلاحية مما
يكون الملزوم فيها علة اللازم إذا كان لازم الوجود، ويكون
المتلازمان معلولين لعلة واحدة، ضرورة أن إرادة المقدمة وكذا
وجوبها ليسا لازمين لإرادة ذي المقدمة ووجوبه، بل هي مثل إرادة
ذيها تحتاج إلى مباد نظير مبادئها من التصور والتصديق بالفائدة و
غيرهما، ومع عدم تمامية مبادئها لا تتحقق ولو تحققت إرادة
ذيها، وكذا الامر في الايجاب والوجوب.
الأمر الثاني في أن المسألة عقلية
إن المسألة - بناء على كون النزاع في الملازمة وعدمها - عقلية محضة
لا لفظية. ودعوى كون النزاع في الدلالة الالتزامية، وهي مع
كونها عقلية من الدلالات اللفظية بوجه (1)، مردودة:
أما أو لا: فلان في كون الدلالة الالتزامية من الدلالات اللفظية بحثا، لان
اللفظ لا يكون دالا لفظيا إلا على ما وضع له، ودلالة الالتزام دلالة
المعنى على المعنى، ولهذا لو حصل المعنى في الذهن بأي نحو
يحصل لازمه فيه.
وأما ثانيا: فلانه يشترط في الدلالة الالتزامية أن يكون اللازم لازما
للمعنى المطابقي أو له وللتضمني، فإذا دل اللفظ على المعنى ويكون
له لازم ذهني يدل عليه ولو بوسط، تكون الدلالة التزامية، وما نحن
فيه ليس كذلك، لان

(1) نهاية الأفكار 1: 261.
327

دلالة الامر على كون متعلقة مرادا للامر ليس من قبيل دلالة اللفظ بل
من قبيل كشف الفعل الاختياري عن كون فاعله مريدا له، فالبعث
المتعلق بشئ إنما هو كاشف عن كون فاعله مريدا له لأجل كونه فعلا
اختياريا له، لا لأجل كونه دالا عليه مطابقة، حتى يكون لازمه لازم
المعنى المطابقي، وتكون الدلالة من الدلالات اللفظية.
هذا مضافا إلى ما عرفت من أن هذا اللزوم ليس على حذو اللزومات
المصطلحة، مع أن اللزوم ليس ذهنيا، مع أن محل الكلام أعم من
المدلول عليه بالدلالة اللفظية.
ثم إنه بما عرفت في أوائل الكتاب (1) - من الميزان في المسائل
الأصولية - تكون المسألة أصولية.
وربما يقال: إنها من المبادئ الاحكامية وإن كان البحث عن الملازمة،
لان موضوع الأصول هو الحجة في الفقه، والبحث إذا كان عن
حجية شي يكون من العوارض، فيبحث في الخبر الواحد عن أنه
حجة في الفقه أولا، وكذا سائر المسائل، فعليه يكون البحث عن
الملازمات خارجا عن المسألة الأصولية، لعدم كون البحث في الحجة
في الفقه (2).
وفيه ما عرفت: في محله - بما لا مزيد عليه - من عدم تطبيق ما ذكر و
ما ذكروا في موضوع العلوم ومسائلها على الواقع، هذا هو الفقه،
فقد جعلوا

(1) وذلك في صفحة: 50، وانظر هامش رقم: 2 هناك.
(2) نهاية الأصول 1: 142.
328

موضوعة أعمال المكلفين (1)، وادعوا أن موضوع كل علم ما يبحث فيه
عن عوارضه الذاتية (2)، مع أن مسائل الفقه ليست كذلك حتى
الأحكام التكليفية، فإنها ليست من العوارض حتى يقال: إنها أعراض
ذاتية، ولو سلم فيها فكثير من مباحث الفقه لا ينطبق عليها هذا
العنوان، كالنجاسات، والطهارات، وأبواب الضمان، وأمثالها، وإن
ترجع بالآخرة إلى ثمرة عملية. وبالجملة: فالمسألة على ما ذكرنا
من الضابط أصولية.
الأمر الثالث في تقسيمات المقدمة
تنقسم المقدمة إلى أقسام:
منها: الداخلية والخارجية.
وقد أطالوا نقضا وإبراما في الداخلية، وربما لا يرجع جلها إلى
محصل.
والتحقيق أن يقال: إن المركب: إما حقيقي وهو بأقسامه خارج عن
محط بحثنا.
وإما غير حقيقي، وهو: إما صناعي، وهو ماله نحو وحدة وتركيب مع

(1) معالم الدين: 25 / سطر 7، بدائع الأفكار: 8 / سطر 6 - 7.
(2) هداية المسترشدين: 14 / سطر 9 - 10، الفصول الغروية: 10 / سطر 23،
بدائع الأفكار: 27 / سطر 30 - 31، الكفاية 1: 2، فوائد الأصول 1: 20.
329

قطع النظر عن اعتبار معتبر، كالبيت والمسجد، ومنه المعاجين و
الأدوية المركبة بالصناعة.
وإما اعتباري: وهو ما يكون تركيبه ووحدته بحسب الاعتبار، كالعشرة
والمائة والعسكر، ومنه الماهيات الاختراعية، كالصلاة و
الحج، فإن أمثال ذلك مركبات اعتبارية جعلية، فيكون الفوج من
العسكر ألفا أو عشرة آلاف إنما هو بحسب الجعل والاعتبار، والعشرة
مع قطع النظر عن اعتبار الوحدة ليست إلا الوحدات المستقلات، و
هكذا.
ثم إن الغرض قد يكون قائما بوجود كل واحد واحد من أشخاص أو
أشياء من غير ارتباط بين الوحدات، كمن كان له عدة أصدقاء
يشتاق لقاء كل واحد منهم مستقلا من غير ارتباط بعضهم ببعض، فعند
تصور كل واحد يريد لقاءه بإرادة مستقلة ولا يعقل أن يكون
اجتماعهم بما هو كذلك في هذا اللحاظ موردا لعلاقته وإرادته، بل
ربما يكون اجتماعهم مبغوضا عنده.
وقد يكون قائما بالمجموع لا بالافراد، كمن يريد فتح بلد لا يمكن
فتحه إلا بفوج من العسكر، فحينئذ يكون كل واحد واحد منه غير
مراد له ولا متعلقا لغرضه، وإنما قام غرضه بالفوج، فيتصوره ويشتاقه
ويريد إحضاره، ففي هذا التصور تكون الآحاد مندكة فانية
في الفوج، فلا يكون كل واحد واحد متصورا ولا مشتاقا إليه، ولا
يمكن أن تتعلق به إرادة نفسية، لعدم حصول الغرض به.
نعم، لو تصور كل واحد واحد، ورأى توقف الفوج على وجود
330

كل واحد، أراده لأجل غيره لا لنفسه، فالآحاد بنحو العام الاستغراقي
- أي كل واحد واحد - فيها ملاك الإرادة الغيرية لا النفسية، وفي
الفوج ملاك النفسية لا الغيرية، فكل واحد مقدمة وموقوف عليه
العسكر بالاستقلال، ولا يكون الاثنان - أو الثلاثة منها وهكذا -
مقدمة،
ولا فيها ملاك الإرادة الغيرية.
وبالجملة: ها هنا أمران: أحدهما: العسكر الذي يراه السلطان فاتحا
للبلد، ففيه ملاك الإرادة النفسية لا غير، وثانيهما: كل واحد واحد من
الافراد، ففي كل ملاك الإرادة الغيرية، لتوقف العسكر عليه. وأما في
اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة منها - وهكذا سائر التركيبات الاعتبارية
- فليس (موجودا فيها) ملاك الإرادة النفسية، وهو واضح، ولا
الغيرية، لعدم توقف العسكر عليها زائدا على توقفه على الآحاد، فزيد
موقوف عليه رأسا بالضرورة، وعمرو كذلك، لكن زيد وعمرو معا لا
يكونان موقوفا عليهما في مقابل كل من زيد وعمرو.
ثم لا يخفى أن الغرض قائم في المركبات الاعتبارية بالمجموع
الخارجي الذي يكون منشأ اعتبار الوحدة، لا بالاعتبار الذهني، ولا
بكل
فرد فرد، فيكون متعلق الغرض مقدما على رؤية الوحدة وعلى الامر
المتعلق به.
وأوضح مما ذكر المركبات الصناعية التي لها وحدة عرفية وتركيب
صناعي، فإن تصور البيت منفك عن تصور الاجزاء من الأخشاب و
الاحجار، فإذا تصور البيت يكون متعلقا لإرادته النفسية، وليس فيه
ملاك الإرادة الغيرية، وإذا رأى توقف البيت على كل من الاحجار و
الأخشاب وغيرهما،
331

يريدها لأجل تحصيل البيت، ويكون فيها ملاك الغيرية لا النفسية.
فإذا عرفت كيفية تعلق الإرادة الفاعلية يقع البحث في الإرادة الامرية،
بأنه هل تكون الإرادة الامرية المتعلقة بذي المقدمة - كالبيت و
العسكر - ملازمة للإرادة المتعلقة بما رآه مقدمة أو لا؟ من غير فرق من
هذه الجهة بين المقدمات الخارجية والداخلية، فإن كل واحد
واحد من الاجزاء في المركبات مما يتوقف عليه المركب، وليس
الاجزاء بالاسر شيئا برأسه في مقابل كل واحد، وبهذا يدفع الاشكال
الذي استصعبه المحققون (1).
وكأن وجه الخلط هو تخيل أن الاجزاء بالاسر مقدمة وذو المقدمة،
مع أنها ليست مقدمة، بل كل واحد مقدمة، وهو غير المركب
بالضرورة حقيقة لا اعتبارا، حتى يستشكل بما في كتب المحققين.
دفع وهم: في أنحاء الوحدة الاعتبارية:
قد يقال (2): إن الوحدة الاعتبارية قد تكون في الرتبة السابقة على الامر،
أعني في ناحية المتعلق، وقد تكون في الرتبة اللاحقة، بحيث
تنتزع من نفس الامر بلحاظ تعلقه بعدة أمور، فيكون تعلقه بها منشأ
لانتزاع الوحدة الملازمة لاتصافها بعنواني الكل والاجزاء، فالوحدة
الاعتبارية بالمعنى الثاني لا يعقل أن تكون سببا لترشح الوجوب من
الكل إلى الاجزاء بملاك المقدمية، لان الجزئية

(1) مطارح الانظار: 39 - 40، الكفاية 1: 140، فوائد الأصول 1: 265 - 268.
(2) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 315 / 316.
332

والكلية اللازمتين لهذه الوحدة ناشئتان من الامر فتكون المقدمية في
رتبة متأخرة عن تعلق الامر بالكل، ومعه لا يعقل ترشحه على
الاجزاء، فينحصر محل النزاع في الوحدة بالمعنى الأول. انتهى
ملخصا.
وأنت خبير بما فيه:
أما أولا: فلان الأغراض لا تتعلق بالواحد الاعتباري بما هو كذلك، بل
المحصل لها إنما هو الواقع، فحينئذ نقول: قد يتعلق الغرض
بالوحدات كل برأسها، وقد يتعلق بالمجموع بما هو كذلك ولو لم
يعتبره المعتبر، كسوق العسكر لفتح الأمصار، فإن الغرض لا يتعلق
بواحد واحد، بل الفاتح هو المجموع وسواد العسكر (1) الموجب
لارعاب أهلها.
فإذا كان الغرض من قبيل الأول لا يعقل أن يتعلق بالوحدات أمر واحد،
لعدم تعلق الغرض بالمجموع، كما أنه إذا كان من قبيل الثاني لا
يعقل أن يتعلق به إلا أمر واحد نفسي.
فإذا لاحظ المولى الموضوع - أي المجموع الذي هو موضوع غرضه
- ورأى أن غرضه قائم به، يكون كل واحد من الآحاد حين تعلق الامر
مغفولا عنه، ولو فرض عدم مغفوليته فلا إشكال في أنه لم يكن متعلق
غرضه ومحصله،

(1) (1) سواد العسكر: هو ما يشتمل عليه العسكر والآحاد وغيرها. اللسان
3:
225.
والظاهر أنه استعمل هنا بمعنى: سواد القوم أي معظمهم.
333

فالمجموع مورد تصوره وموضوع أمره، وهذا هو المراد بالواحد
الاعتباري، لا لزوم اعتبار الوحدة بالحمل الأولي.
فإذن لا يعقل أن تكون الوحدة تابعة لتعلق الامر، بل الموضوع - الذي
لوحظ بنحو الوحدة القائم به الغرض - متعلق لأمر واحد.
وثانيا: لو سلمنا تأخر اعتبار الوحدة عن الامر، لكن ذلك لا يوجب
خروجه عن محل النزاع، لان ملاك تعلق الإرادة بالمقدمة هو رؤية
توقف ذي المقدمة عليها في نفس الامر، وتوقف المركب على كل
جز من الاجزاء بحسب الواقع ضروري.
وما ذكر - من أن عنوان الجزئية والكلية ينتزع بعد تعلق الامر، وفي
مثله لا يعقل ترشح الوجوب من الكل إلى الاجزاء بملاك المقدمية -
ناشئ من الخلط بين عنوان الكلية والجزئية للمأمور به بما هو كذلك،
وبين ما هو ملاك تعلق الإرادة الغيرية، أي التوقف الواقعي
للمركب على كل جز من أجزائه.
وإن شئت قلت: إن عنوان الجزئية بالحمل الأولي لم يكن فيه ملاك
النزاع، بل هذا العنوان لا يتأخر عن عنوان الكلية، ضرورة أنهما
متضايفان، بل الموقوف عليه هو واقع كل جز جز، والموقوف هو
المجموع ولو لم يعتبر فيه الوحدة والكلية.
وأما ما ذكر في ضمن كلامه (1) وجرت به الألسن والأفواه (2)

(1) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 385.
(2) الكفاية 1: 144 و 158، فوائد الأصول 1: 285 و 287.
334

- من ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة - وهو الذي صار
منشأ للاشتباه والخلط، ففي غاية السقوط، لما أشرنا إليه سالفا من
أن الإرادة المتعلقة بذي المقدمة لم تكن مبدأ للإرادة المتعلقة
بالمقدمة بنحو النشو والرشح والايجاد، وإذا كان حال الإرادات
كذلك -
لما مر - فالوجوب أسوأ حالا، لأنه ينتزع من تعلق البعث بالشئ، ولا
يعقل أن يترشح بعث من بعث آخر كما هو واضح.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن المقدمات الداخلية كالخارجية داخلة
في محل النزاع.
هذا حال المقدمات الداخلية.
تتميم: في المقدمات الخارجية:
وأما الخارجية: فالتحقيق: كون ملاك البحث فيها مطلقا، من غير فرق
بين العلل التامة وغيرها، والأسباب التوليدية وغيرها.
وما يتوهم: من أن الامر في المسببات التوليدية يرجع إلى أسبابها (1) -
فمضافا إلى أنه على فرض صحة التوهم يكون الخروج من قبيل
التخصص، لا الاستثناء والتخصيص عن مورد البحث - فاسد.
فان ما يقال في وجهه - تارة: بأن المسببات غير مقدورة (2)، وأخرى:

(1) معالم الدين: 57 / سطر 2 - 8.
(2) معالم الدين: 58 / سطر 10 - 11.
335

بأن الامر إنما يتعلق بما يتعلق به إرادة الفاعل، ولا يعقل تعلقها بما
ليس من فعله (1) - فاسد.
لان ملاك صحة الامر عقلا وعند جميع العقلا هو كون الشئ مقدورا
ولو مع الواسطة، وإرادة الفاعل - أيضا - تتعلق بما هو مقدور مع
الواسطة، ضرورة تعلق إرادة القاتل بقتل عدوه، وإنما تتعلق إرادة
أخرى - تبعا - بأسبابه لأجل تحصيل مراده النفسي، وهذا كاف في
تعلق الأمر المولوي به، ومعه لا معنى لصرف الأوامر إلى الأسباب.
ومنها: تقسيمها إلى المقارن والمتقدم والمتأخر:
وقد استشكل في الأخيرتين بأن المقدمية تنافي المتقدم والتأخر،
لامتناع انفكاك المعلول عن علته وتقدمه عليها (2).
ولا يخفى أن هذا البحث إنما نشأ من توهم تأخر الشرط عن المشروط
في الشرعيات:
تارة: في شرائط المكلف به، كأغسال الليلة المستقبلة بالنسبة إلى صوم
المستحاضة، على ما أفتى بعض الفقهاء باشتراطه بها (3).
وأخرى: في شرائط الحكم الوضعي، كالاجازة على الكشف الحقيقي.

(1) درر الفوائد 1: 88.
(2) بدائع الأفكار: 31 / سطر 27 - 29.
(3) شرائع الاسلام: 10 / سطره، السرائر 1: 407.
336

وثالثة: في شرائط نفس التكليف، كالقدرة المتأخرة من المكلف
بالنسبة إلى التكليف المتقدم الصادر من المولى.
فقد تصدى المحققون لدفع الاشكال المتراءي بأجوبة فرارا عنه (1)، لا
تصحيحا للشرط المتأخر، وإن كان الظاهر من بعضهم التصدي
لتصحيحه أيضا.
وممن تصدى للجواب هو بعض أهل التحقيق، ومحصل كلامه (2):
أن التحقيق هو إمكان تقدم الشرط على المشروط في التكوين و
التشريع، لان المقتضي للمعلول هو حصة خاصة من المقتضي لا
طبيعيه،
فإن النار بحصتها الخاصة - وهي التي تماس الجسم المستعد
باليبوسة لقبول الاحراق - تؤثر في الاحراق، لا الحصص الأخرى،
فتلك
الخصوصية التي بها تحصصت الحصة لا بد لها من محصل في
الخارج، وما به تحصل خصوصية الحصة المقتضية يسمى شرطا، و
الخصوصية المزبورة عبارة عن نسبة قائمة بتلك الحصة حاصلة من
إضافتها إلى شي ما، فذلك الشئ المضاف إليه هو الشرط، و
المؤثر في المعلول هو نفس الحصة الخاصة، فالشرط هو طرف
الإضافة المزبورة، وما كان شأنه كذلك جاز أن يتقدم على ما يضاف
إليه أو يتأخر عنه أو يقترن به ثم حاول في تفصيل ما ذكر، وأجاب عن
الاشكال في الجميع بنهج

(1) الكفاية 1: 145 / 148، فوائد الأصول 1: 271 - 272.
(2) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 320 - 321.
337

واحد، فقال (1): إن شرطية شي للمأمور به ترجع إلى كون حصة من
الطبيعي متعلقة للامر، وهي تحصل بالتقييد، فكما يمكن التقييد بأمر
مقارن يمكن بالمتقدم والمتأخر، وكذا الحال في شرط التكليف و
الوضع، فإن قيود الوجوب دخيلة في اتصال الشئ بكونه صلاحا،
فالقدرة المتأخرة شرط بوجودها المتأخر للتكليف المتقدم، ومعنى
شرطيتها له ليس إلا كونها بحيث يحصل للشئ بالإضافة إليه
خصوصية يكون بها متصفا بكونه صلاحا، وهذا كما قد يحصل
بإضافة الشئ إلى المقارن يحصل بإضافته إلى المتقدم والمتأخر.
انتهى
ملخصا.
وفيه مواقع للنظر:
إما أولا: فلان إسرائيل الامر إلى التكوين مما لا مجال له، لان المؤثر
التكويني نحو وجود خاص متشخص لا يكون تشخصه بالإضافات
والاعتبارات، فما هو المؤثر ليس الحصة الحاصلة بالإضافة إلى
المقارن ولا إلى غيره، بل هو نحو وجود متشخص بتأثير علله
الفاعلية،
أو هو مع ضم القابل، فالنار بوجودها مقتضية لاحراق ما وقع فيها مما
هو قابل للاحتراق، من غير أن يكون الوقوع والتماس وقابلية
المتأثر محصلات للحصة المؤثرة، وهو أوضح من أن يحتاج إلى
البيان.
وأما ثانيا: فلان الإضافة إلى المعدوم مما لا يعقل، حتى الاعتباري
منها، لان الإضافة الاعتبارية نحو إشارة، ولا تمكن بالنسبة إلى
المعدوم، فما يتخيل أنه

(1) نفس المصدر السابق 1: 323 - 324.
338

إضافة إلى المعدوم لا يخرج من حد الذهن والتخيل، وأعني هو
تخيل الإضافة لا نفسها.
و إن شئت قلت: إن الإضافة إلى الشيئين ولو بنحو الاعتبار نحو إثبات
شي لهما، وهو إن لم يكشف عن الثبوت في ظرفه لا يكون إلا
توهما وتخيلا، ومع كشفه عنه يكون ثبوته له فرع ثبوت المثبت له،
فإذا تحققت الإضافة بين الموجود والمعدوم يكون المعدوم مضافا
ومضافا إليه في ظرف تحقق الإضافة، فلا بد من صدق قولنا:
(المعدوم مضاف ومضاف إليه في حال عدمه)، لتحقق الإضافة في
حاله، فلا
بد من تحقق المعدوم في حال عدمه قضاء لحق القضية الموجبة و
قاعدة الفرعية.
وبعبارة أخرى: إن المتضايفين متكافئان قوة وفعلا، حتى أن العلة لا
تكون في تقدمها على المعلول بالمعنى الإضافي متقدمة عليه، بل
هما في إضافة العلية والمعلولية متكافئان لا يتقدم أحدهما على
الاخر حتى في الرتبة العقلية.
نعم العلة متقدمة على المعلول تقدما عقليا.
وكذا الزمان لا يكون بين أجزائه الوهمية تقدم وتأخر بالمعنى
الإضافي، فإن ذلك محال ينافي قاعدة الفرعية، أو موجب لثبوت
المعدوم واتصافه بشئ وجودي، بل تقدم بعض أجزائه على البعض
بالذات فإن ذاته نفس التصرم والتدرج، وما كان كذلك بالذات
يكون ذا تقدم وتأخر لا بالمعنى الإضافي، وهذا بعد تصور الأطراف
بديهي لا يحتاج تصديقه إلى مئونة.
وأما ثالثا: فلان ما ذكره أخيرا - من أن شرائط التكليف كالقدرة دخيلة في
339

اتصاف الشئ بكونه صلاحا - خلط بين الشرائط الشرعية والعقلية،
فإن ما هو دخيل في المصلحة هي الشرائط الشرعية، وأما القدرة
التي هي شرط عقلي فغير دخيلة في اتصاف المتعلق بالمصلحة،
فإنقاذ الغريق ذو مصلحة كان المكلف قادرا أولا، ومع عدم القدرة
تفوت
المصلحة.
ومما ذكرنا اتضح أن ما أجاب به عن الاشكال لا يصلح للدفع، وكذا ما
هو على هذا المنوال، كالقول بأن الشرط في الفضولي عنوان
تعقب العقد بالإجازة، وهو حاصل (1)، لما عرفت أن هذا العنوان
الإضافي لا يمكن أن يكون حاصلا بالفعل للعقد، فإن الإجازة حين
العقد
معدومة، وهذا العنوان من العناوين الإضافية.
والتحقيق أن يقال: إن ما يتراءى من تقدم الشرط على المشروط ليس
شي منها كذلك:
أما في شرائط التكليف كالقدرة المتأخرة بالنسبة إلى التكليف المتقدم،
فلان ما هو شرط لتمشي الإرادة من الامر والبعث الجدي هو
تشخيص الامر قدرة العبد مع سائر شرائط التكليف في ظرف الاتيان
كانت القدرة حاصلة أولا، فإذا قطع المولى بأن العبد قادر غدا
على إنقاذ ابنه، يصح منه الإرادة والبعث الحقيقي نحوه، فإذا تبين
عجز العبد لا يكشف ذلك عن عدم الامر والبعث الحقيقي في
موطنه،
بل يكشف عن خطائه في التشخيص، وأن بعثه

(1) الفصول الغروية: 80 / سطر 33 - 37. وجعله أحسن ما قيل في فوائد الأصول 1:
281 - 282.
340

الحقيقي صار لغوا غير مؤثر. هذا حال الأوامر المتوجهة إلى
الاشخاص.
وأما الأوامر المتوجهة إلى العناوين الكلية، مثل: (أيها الناس) و (أيها
المؤمنون)، فشرط تمشي الإرادة والبعث الحقيقي هو تشخيص
كون هذا الخطاب صالحا لبعث من كان واجدا - من بين المخاطبين -
لشرائط التكليف، من غير لزوم تقييده بالقدرة وسائر الشرائط
العقلية، بل التقييد إخلال في بعض الموارد، فإذا علم المولى بأن انشاء
الامر على العنوان الكلي صالح لانبعاث طائفة من المكلفين كل في
موطنه، يصح منه التكليف والامر، فشرط التكليف حاصل حين تعلق
الامر.
ولعله إلى ذلك يرجع كلام المحقق الخراساني، وإن كان إلحاق الوضع
بالتكليف - كما صنعه (1) - ليس في محله.
وأما في شرائط المأمور به كصوم المستحاضة بناء على صحته فعلا
لحصول شرطه - وهو أغسال الليلة الآتية - في موطنه، وفي شرائط
الوضع كالاجازة بناء على الكشف الحقيقي، فتحقيقه يتضح بعد
مقدمة، وهي:
أن للزمان - بما أنه أمر متصرم متجدد متقض بذاته - تقدما وتأخرا
ذاتيا، لا بالمعنى الإضافي المقولي، وإن كان عنوان المتقدم و
المتأخر معنيين إضافيين، ولا يلزم أن يكون المنطبق عليه للمعنى
الإضافي إضافيا، كالعلة والمعلول، فإنهما بعنوانهما إضافيان، لكن
المنطبق عليهما، أي ذات المبدأ تعالى - مثلا - ومعلوله، لا يكونان
من الأمور الإضافية، وكالضدين، فإنهما مقابل

(1) الكفاية 1: 146.
341

المتضايفين، لكن عنوان الضدية من التضايف، وذات الضدين ضدان.
فالزمان - بهويته التصرمية - متقدم ومتأخر بالذات، والزمانيات
متقدمة بعضها على بعض بتبع الزمان، فإن الهوية الواقعة في الزمان
الماضي بما أن لها نحو اتحاد معه تكون متقدمة على الهوية الواقعة في
الزمان الحال، وهي متقدمة على الواقعة في الزمان المستقبل، و
هذا النحو من التقدم التبعي ثابت لنفس الهويتين بواسطة وقوعهما في
الزمان المتصرم بالذات، وليس من المعاني الإضافية و
الإضافات المقولية. فالحوادث الواقعة في هذا الزمان متقدمة بواقع
المتقدم - لا بالمفهوم الإضافي - على الحوادث الآتية، لكن بتبع
الزمان.
إذا عرفت ذلك يمكن لك التخلص عن الاشكال بجعل موضوع
الحكم الوضعي والمكلف به هو ما يكون متقدما بحسب الواقع على
حادث
خاص، فالعقد الذي هو متقدم بتبع الزمان على الإجازة تقدما واقعيا
موضوع للنقل، ولا يكون مقدما عليها بواقع التقدم التبعي إلا أن
تكون الإجازة متحققة في ظرفها، كما أن تقدم الحوادث اليومية إنما
يكون على الحوادث الآتية، لا على ما لم يحدث بعد من غير أن تكون
بينها إضافة كما عرفت.
وموضوع الصحة في صوم المستحاضة ما يكون متقدما تقدما واقعيا
تبعا للزمان على أغسال الليلة الآتية، والتقدم الواقعي عليها لا يمكن
إلا مع وقوعها في ظرفها، ومع عدم الوقوع يكون الصوم متقدما على
سائر الحوادث فيها، لا على هذا الذي لم يحدث، والموضوع هو
المتقدم على الحادث الخاص.
وبما ذكرنا يدفع جميع الاشكالات، وكون ما ذكر خلاف ظواهر الأدلة
342

مسلم لكن الكلام هاهنا في دفع الاشكال العقلي، لا في استظهار
الحكم من الأدلة.
وهاهنا طريق آخر لدفع الشبهة، وهو أن يقال:
إن موضوعات الاحكام وشرائطها كلها تكون عرفية لا عقلية، والعرف
لما يرى إمكان التقييد والإضافة بالامر المتأخر والمتقدم
كالمقارن، يكون موضوع النقل هو العقد المتقيد بنظره، والصوم
المتقيد كذلك، ولو كان العقل لا يساعد عليه والبرهان يضاده، كما
هو الحال في سائر الموضوعات الشرعية، وهذا الوجه يرجع إلى ما
ذهب إليه القوم.
نقل كلام: في تخصيص النزاع بشرائط المجعول:
إن بعض الأعاظم بعد إخراج الأمور الانتزاعية عن محط البحث، لأنها
تنتزع عما تقوم به من غير دخالة الطرف الآخر في الانتزاع، لان
السبق ينتزع من نفس السابق بالقياس إلى ما يوجد بعد ذلك، وكذا
اللحوق من اللاحق، ولا دخل لشئ منهما في انتزاع العنوان عن
صاحبه، فما فرض شرطا هو المقارن لا المتأخر.
وبعد إخراج شرائط المأمور به عنه، لبداهة أن شرطية شي له ليست
إلا بمعنى أخذه قيدا فيه، فيجوز التقييد بالمتأخر كالمقارن، بل لا
فرق بين الاجزاء والشرائط، فكما يمكن الامر بمركب ذي أجزأ من
غير إشكال يمكن بمقيد، بل لا يعقل تعلق الامر بالانتزاعيات، فلا بد
من إرجاعه إلى القيد،
343

فكما أن الامر بالمركب يتعلق بكل واحد من أجزائه، كذا الامر بالمقيد
يتعلق بقيده.
فامتثال أمر المقيد بقيد متأخر إنما يكون بإتيان الشرط المتأخر، كما أن
امتثال المركب التدريجي إنما هو بإتيان الجز الأخير، فلا
إشكال فيهما.
وبعد إخراج العلل الغائية، لأنها بوجودها العلمي مؤثرة في التشريع،
لا الخارجي، فشرائط الجعل - أيضا - خارجة عن محطه، لأنها
بوجودها العلمي مؤثرة في الجعل، فيكون الشرط مقارنا دائما.
خص النزاع (1) بشرائط الحكم المجعول (2)، وقال في توضيحه: (3)
إن القضايا: إما خارجية: فلا يتوقف الحكم فيها على غير دواعي
الحكم المؤثرة بوجودها العلمي - لا الخارجي - طابق الواقع أم لا، و
هي
أيضا خارجة عن محط الكلام، فإن الحكم فيها يدور مدار علم الحاكم،
كان المعلوم مقارنا أو مؤخرا.
وإما حقيقية: وهي التي حكم فيها بثبوت الحكم على الموضوعات
المقدر وجودها، فيحتاج الحكم فيها إلى أمرين:
أحدهما: ما يكون داعيا إلى جعل الحكم، وهو - أيضا - كالعلل
الغائية خارج عن البحث.

(1) قوله: " خص النزاع " خبر لقوله: " إن بعض الأعاظم " المتقدم.
(2) أجود التقريرات 1: 220 - 223. (3) نفس المصدر السابق 1: 223 - 226.
344

ثانيهما: ما يكون موضوعا له وأخذ مفروض الوجود في مقام الحكم،
ويدخل في ذلك الشرائط، لان شرائط الحكم ترجع إلى قيود
الموضوع، وهذا هو محل البحث.
والحق امتناع الشرط المتأخر فيه، سوأ قلنا بأن المجعول هو السببية و
أمثالها، أو المجعول هو الحكم عند وجود السبب:
أما الأول: فواضح، لأنه يرجع إلى تأخر أجزأ العلة العقلية عن
المعلول.
وأما الثاني: فللزوم الخلف والمناقضة من وجود الحكم قبل وجود
موضوعه، وقد عرفت أن الشرائط كلها ترجع إلى قيود الموضوع.
انتهى.
ملخصا.
وفيه مواقع للنظر، نذكر بعض مهماتها:
منها: ما ذكره في الأمور الانتزاعية من جواز الانتزاع عما تقوم به من غير
دخالة الطرف فيه: فإن أراد أنه ينتزع الامر الإضافي من غير
إضافة إلى الطرف الآخر فهو واضح البطلان، مع أنه مخالف لقوله:
بالقياس إلى ما يوجد بعد ذلك (1).
وإن أراد أنه ينتزع منه فعلا بالقياس إلى ما سيصير طرف الإضافة من
غير أن يكون طرفا فعلا، فهو - أيضا - واضح البطلان، لتكافؤ
المتضايفين قوة وفعلا، وهل هذا إلا دعوى جواز انتزاع الأبوة من
طفل نعلم أنه سيولد له ولد؟.

(1) نفس المصدر السابق 1: 221.
345

وإن أراد أن المعدوم مضاف فعلا فهو أوضح بطلانا.
ومنها: أن إخراج شرائط المأمور به مما لا وجه له، لان الكلام ليس في
جواز تعلق الامر بشئ مركب أو مقيد، بل في جواز اشتراط صحة
المأمور به بأمر متأخر، فاشتراط الصوم بأغسال الليلة المستقبلة -
بمعنى صحة صومها فعلا إذا أتت بالاغسال في الليلة المستقبلة - عين
محل النزاع والاشكال.
كما أنه يأتي الاشكال في أجزأ المركب - أيضا - إذا قيل بصحة الجز
الأول مشروطا بوقوع الاجزاء والشرائط التدريجية في محالها،
والجواب هو الجواب عن الشرط المتأخر.
ومنها: أن ابتناء الامتناع على حقيقية القضايا مما لا وجه له، ودعوى
رجوع جميع شرائط القضايا الخارجية إلى العلل الغائية - التي
تكون بوجودها العلمي لا العيني مؤثرة (1) - اغترارا ببعض الأمثلة
الجزئية، مما يكذبها الوجدان والبرهان، ضرورة أن الإجازة
بوجودها الخارجي دخيلة في صحة الفضولي، كانت القضية التي
أنفذته خارجية أو حقيقية، وإنما الاحراز شرط الجعل لا المجعول، و
الكلام فيه لا في الجعل. ومع كون القضايا حقيقية يمكن (دفع)
الاشكال بالوجهين المتقدمين.
فتحصل مما ذكرنا: أن محط البحث أعم من شرائط الجعل كالقدرة
المتأخرة، وشرائط المكلف به كإغسال الليلة المتأخرة، وشرائط
الوضع كالاجازة في الفضولي بناء على الكشف، والجواب ما مر.

(1) نفس المصدر السابق 1: 223.
346

الأمر الرابع في تقسيمات الواجب
منها: تقسيمه إلى المطلق والمشروط:
والاطلاق والاشتراط وصفان إضافيان كالاطلاق والتقييد في باب
المطلق والمقيد، فكل قيد يلاحظ ويقاس بالنسبة إلى الواجب، فإما
أن يكون وجوبه بالنسبة إليه مشروطا أولا، فيمكن أن يكون الواجب
مطلقا من جهة وبالنسبة إلى قيد، ومشروطا من أخرى.
والكلام في الواجب المشروط يتم في ضمن جهات من البحث:
الجهة الأولى: في تصوير الواجب المشروط:
لا إشكال في أن مقتضى القواعد العربية والتفاهم العرفي هو رجوع
القيد في مثل قولنا: (إن استطعت فحج) إلى الهيئة، فلا بد في رفع
اليد عن الظاهر من دليل، كامتناع الرجوع إليها، أو لزوم الرجوع إلى
المادة لبا كما نسب إلى الشيخ الأعظم (1).
والتحقيق: عدم لزوم هذا وعدم امتناع ذاك:
أما الثاني فسيأتي الكلام فيه.

(1) مطارح الانظار: 48 - 49.
347

وتوضيح الأول: أن لرجوع القيد إلى المادة وإلى الهيئة ميزانا بحسب
اللب، وليس ذلك بجزاف:
فالقيود الراجعة إلى المادة هي كل ما يكون بحسب الواقع دخيلا: في
تحصيل الغرض المطلق من غير أن يكون دخيلا في ثبوت نفس
الغرض.
مثلا: قد يكون الغرض اللازم التحصيل هو الصلاة في المسجد -
بحيث تكون الصلاة فيه متعلقة لغرضه الذي لا يحصل إلا بها، كان
المسجد متحققا أو لا - فلا محالة تتعلق إرادته بها مطلقا، فيأمر بإيجاد
الصلاة فيه، فلا بد للمأمور - إطاعة لامره - أن يبني المسجد على
فرض عدمه ويصلي فيه.
وقد يكون الغرض لا يتعلق بها كذلك، بل يكون وجود المسجد
دخيلا في تحقق غرضه - بحيث لو لم يكن ذلك لم يتعلق غرضه
بالصلاة
كذلك، بل قد يكون وجوده مبغوضا له، لكن على فرض وجوده تكون
الصلاة فيه متعلقا لغرضه - فلا محالة تتعلق إرادته بها على فرض
تحقق المسجد، ففي مثله يرجع القيد إلى الهيئة.
ثم إن للقيود الراجعة إلى الهيئة موارد أخر:
منها: أن تكون المصلحة في فعل مطلقا، لكن يكون في بعثه كذلك
مانع الجهة في المأمور كالعجز، فلو غرق ابن المولى فأمر عبده: بأنه
إذا قدرت فأنقذه، لم يعقل رجوع القيد إلى المادة، لأنها مطلوبة على
الاطلاق.
ومنها: أن يكون المطلوب مطلقا، لكن يكون للامر مانع من إطلاق
الامر،
348

فيأمر مشروطا.
ومنها: ما إذا لزم من تقييد المادة محال، كما في قول الطبيب:
(إن مرضت فاشرب المسهل)، فإن شربه لدفع المرض، ولا يعقل أن
يكون المرض دخيلا في صلاح شرب المستهل بنحو الموضوعية،
بحيث يرجع القيد إلى المادة.
ومن ذلك الكفارات في الافطار والظهار وحنث النذور وغيرها، فإن
الامر بها لرفع منقصة حاصلة لأجل ارتكاب المحرمات، ولا يعقل
أن يكون ارتكابها من قيود المادة إلى غير ذلك.
نقل وتحصيل: في ضابط قيود الهيئة والمادة:
ومن المحققين (1) من قال في الضابط في القيدين بحسب اللب: إن ما
يتوقف اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة على حصوله في الخارج
كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج، فإن قبل حصولها لا يتصف الحج
بعنوان الصلاح، ففي مثله يكون القيد راجعا إلى الهيئة، ويكون الامر
معلقا على تحققه، وأما قبل حصوله فلا يرى المولى مصلحة فيه.
وما تتوقف فعلية المصلحة وحصولها في الخارج على تحققه - فلا
تحصل المصلحة إلا إذا اقترن الفعل به كالطهارة والاستقبال و
الستر - يكون من قيود المادة. انتهى.

(1) نهاية الأفكار 1: 292 - 293.
349

وفي الشق الأول إشكال طردا وعكسا، فإن الصلاح الذي يتوقف على
حصول شي إذا كان لازم التحصيل مطلقا تتعلق الإرادة بتحصيله
على نحو الاطلاق، ويأمر بإتيان الفعل كذلك، وعلى المكلف أن يأتي
به ولو بإيجاد شرطه.
مثلا: إذا كان الحج لا يتصف بالصلاح إلا مع الاستطاعة، لكن يكون
للمولى غرض مطلق في تحصيل مصلحة الحج، فلا محالة يأمر عبده
بتحصيلها بنحو الاطلاق، فلا بد له من تحصيل الاستطاعة ليصير الحج
معنونا بالصلاح، ويأتي به لتحصيل غرضه المطلق، بل لو فرض
غرض للمولى لا يحصل إلا بتحصيل المصلحة التي في شرب المسهل
فيأمر عبده بتحصيلها، فلا بد له من إمراض نفسه وشربه.
وقد عرفت أن بعض القيود لا يكون دخيلا في اتصاف الموضوع
بالمصلحة، ومع ذلك يكون قيدا للهيئة، كالقدرة وسائر الأمثلة
المتقدمة.
ويرد على الشق الثاني: أن قيود المادة كالطهارة والستر والاستقبال
دخيلة في اتصاف الموضوع بالصلاح، فإن الصلاة بدون الطهارة
والقبلة لا مصلحة فيها، وليس حال تلك القيود كحال آلات الفاعل في
إيجاد موضوع ذي صلاح بالضرورة، فما ذكره في ضابط المطلق
والمشروط غير تام، إلا أن يرجع إلى ما ذكرنا، وهو خلاف ظاهره.
تذكرة: في أدلة امتناع رجوع القيد إلى الهيئة:
قد يقال بامتناع رجوع القيد إلى الهيئة، فإنها من الأمور الغير
350

في اللحاظ والاشتراط والتقييد متوقفان على اللحاظ الاستقلالي
للمشروط والمقيد. (1)
وفيه أولا: أن التقييد إنما هو باللحاظ الثاني حتى
في المعاني الاسمية، فإن (العالم) في قولنا: (رأيت العالم العادل) لا
يكون دالا إلا على معناه لا غير، ففي استعماله لا يكون إلا حاكيا عن
نفس معناه، فإذا وصف بأنه (العادل) يكون توصيفه بلحاظ ثان، وهذا
بعينه ممكن في المعاني الحرفية.
وثانيا: يمكن أن يكون تصور التوصيف والوصف والموصوف قبل
الاستعمال، سوأ في ذلك المعاني الاسمية والحرفية، وتصور
الحرفيات قبل استعمالها استقلالا وتصور توصيفها مما لا مانع منه، و
تأمل. والمانع لو كان إنما هو حين الاستعمال حرفا.
وثالثا: أن تقييد المعاني الحرفية ممكن، بل نوع المحاورات والتفهيم
والتفهمات لافهام المعاني الحرفية وتفهمها، وقلما يتعلق
الغرض بإفهام المعنى الاسمي فقط، فالمطلوب الأولي هو إفهام
المعاني الحرفية، فتكون هي ملحوظة بنحو يمكن تقييدها وتوصيفها.
وإن شئت قلت: إن الاخبار عنها وبها غير جائز، وأما تقييدها في
ضمن الكلام فواقع جائز.
وبالجملة: أن التقييد لا يحتاج إلى اللحاظ الاستقلالي، بل يكفي فيه ما
هو

(1) فوائد الأصول 1: 181، نهاية الدراية 1: 181 / سطر 24 - 26.
351

حاصل في ضمن الكلام الذي يحكي عن الواقع، مثلا: إذا رأى المتكلم
أن زيدا في الدار جالس يوم الجمعة، وأراد الاخبار بهذا الامر،
فأخبر عن الواقع المشهود بالألفاظ (التي هي قالب) للمعاني، يقع
الاخبار عن التقييد والقيد والمقيد من غير احتياج إلى غير لحاظ
المعاني الاسمية والحرفية على ما هي عليه واقعا.
هذا في الحروف الحاكيات. وأما غيرها - أي التي تستعمل استعمالا
إيجاديا - فالمتكلم قبل استعمالها يقدر المعاني والألفاظ في ذهنه،
ويرى أن مطلوبه لا يكون إلا مطلوبا على تقدير، فإذا تكلم بالألفاظ
(التي هي قال) لإفادة هذه المعاني الذهنية فلا محالة تكون الهيئة
مقيدة، من غير احتياج إلى نظر استقلالي حال الاستعمال، وأنت إذا
راجعت وجدانك ترى صدق ما ادعيناه.
وقد يقال في تقرير الامتناع: إن الهيئة موضوعة بالوضع العام و
الموضوع له الخاص، ومثله جزئي حقيقي غير قابل للتقييد (1).
والجواب: أن تعليق الجزئي وتقييده ممكن واقع، فزيد قابل للتقييد
بالنظر إلى طوارئه، ولهذا تجري فيه مقدمات الحكمة إذا وقع
موضوعا للحكم.
وقد يقال: إن الهيئة في الأمر والنهي من الحروف الايجادية كما سبق،
وتعليق الايجاد مساوق لعدم الايجاد، كما أن تعليق الوجود

(1) مطارح الانظار: 45 - 46.
352

مساوق لعدمه (1).
والجواب: أن الوجود الاعتباري والانشائي قابل للتعليق والتقييد و
معنى تعليقه أنه بعث على تقدير، وقياسه بالوجودات الحقيقية مع
الفارق.
الجهة الثانية: في توقف فعلية الوجوب على شرطه:
هل الوجوب في المشروط قبل تحقق شرطه فعلي أو لا يصير فعليا إلا
بعده؟ والتحقيق هو الثاني، وتوضيحه يتوقف على تحقيق حقيقة
الحكم، فنقول:
لا إشكال في أن الامر قبل انشاء التكليف يتصور المبعوث إليه، و
يدرك فائدته ولزوم حصوله (بواسطة) المأمور وصدوره منه، وبعد
تمامية مقدمات الإرادة يريد بعثه إليه، فيأمره ويبعثه نحوه.
إنما الكلام في أن الحكم عبارة عن الإرادة، أو الإرادة المظهرة بنحو من
الاظهار، أو نفس البعث الناشئ من إرادته، بحيث تكون الإرادة
كسائر المقدمات من مبادئ حصوله لا مقومات حقيقته؟ الحق هو
الأخير، لشهادة العرف والعقلاء بذلك، ألا ترى أنه بمجرد صدور الامر
من المولى يرى العبيد وجوب الاتيان من غير أن يخطر ببالهم كون
الامر ناشئا من الإرادة؟ فنفس البعث - بأي آلة كان - موضوع
لانتزاع الوجوب.
ولان الايجاب والوجوب واحد ذاتا مختلف بالاعتبار، والإرادة

(1) نهاية الأصول 1: 156.
353

لا تكون إيجابا وإلزاما بالضرورة، بل نفس العبث والاغراء إلزام و
إيجاب، وهو الحكم.
ولان الأحكام التكليفية قسيم الأحكام الوضعية وقرينتها، ولا إشكال
في أن الوضعيات لم تكن من قبيل الإرادات المظهرة، فالولاية و
الحكومة والقضاء والملكية وغيرها تنتزع من جعلها، ولا يمكن أن
يقال: هذا العناوين منتزعة عن الإرادة، أو عبارة عنها، وعن مقام
إظهارها، كما أن حكم السلطان والقاضي عبارة عن نفس الانشاء
الصادر منهما في مقام الحكومة والقضاء، لا الإرادة المظهرة.
والحاصل: أن الحكم مشتركة معنوي بين الوضع والتكليف إذا لوحظ
اسما، فلا بد وأن يكون الاعتبار فيهما واحدا، فنفس البعث عبارة
عن الحكم والايجاب أو هما منتزعان منه، والوجوب عين الايجاب
ذاتا.
نعم، لو لم ينشأ البعث من الإرادة الجدية لم ينتزع منه الوجوب و
الايجاب، وهو لا يوجب أن تكون الإرادة دخيلة في قوام الحكم، أو
تكون تمام حقيقته، ويكون الاظهار واسطة لانتزاع الحكم منها.
فما ادعى بعض أهل التحقيق - من كون الحكم عبارة عن الإرادة
التشريعية التي يظهرها المريد بأحد مظهراتها (1) - خلاف التحقيق.
إذا عرفت ذلك يسهل لك التصديق بأن الواجب المشروط قبل تحقق
شرطه ليس وجوبه فعليا كما هو مقتضى تعليق الهيئة، ومعلوم أن انشاء

(1) مقالات الأصول 1: 106 / سطر 2 - 8، نهاية الأفكار 1: 302.
354

البعث على تقدير لا يمكن أن يكون بعثا فعليا قبل حصول التقدير،
للزوم تخلف المنشأ عن الانشاء، كما أن انشاء الملكية على تقدير
الموت - في الوصية - لا يمكن أن يؤثر إلا في الملكية الفعلية بعد
الموت لا قبله.
بل لو قلنا بأن الإرادة دخيلة في الحكم لم تكن دخالتها إلا بنحو منشئية
الانتزاع، وأما كونها نفس الحكم ذاتا فهو خلاف الضرورة،
فحينئذ يمكن أن يقال: إن الإرادة المعلقة على شي لا ينتزع منها
الوجوب الفعلي، بل هي منشأ انتزاع الوجوب المشروط.
الجهة الثالثة: في إشكالات الواجب المشروط على المشهور:
ربما يستشكل على الواجب المشروط على مسلك المشهور بوجوه:
منها: ما أورده بعض أهل التحقيق (1)، وهو أنه لا ريب في أن انشاء
التكليف من مقدمات التوصل إلى تحصيل المكلف به، والواجب
المشروط على المشهور ليس بمراد للمولى قبل تحقق شرطه، فكيف
يتصور أن يتوصل العاقل إلى تحصيل ما لا يريده فعلا؟ فلا بد أن
يلتزم المشهور بوجود غرض نفسي في انشاء التكليف المشروط، وهو
كما ترى.
وأما على مذهبنا فلا يرد الاشكال، لفعلية الإرادة قبل تحقق الشرط،
فتوصل المولى إلى ما يريده فعلا، وإن كان على تقدير. انتهى.
وهذا من عجيب الكلام، فإن الانشاء وإن كان للتوصل إلى المبعوث إليه،

(1) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 346 - 347.
355

لكن في المشروط يتوصل المولى إليه على تقدير حصول الشرط فإذا
قال:
(حج إن استطعت) يكون انشاء الايجاب أو البعث على تقدير
الاستطاعة للتوصل إليه على هذا التقدير لا قبله.
بقي الكلام في فائدة هذا الانشاء قبل حصول الشرط، وهي متصورة
في الانشاء المتوجه إلى مكلف جزئي، وأما الحكم التشريعي
القانوني المتعلق بالعناوين الكلية فلا يمكن أن ينشأ إلا على هذا النحو
كما لا يخفى.
وبالجملة: أن انشاء البعث المشروط للتوصل به إلى المبعوث إليه
على تقدير حصول الشرط، سوأ في ذلك مذهب المشهور وغيره.
ومنها: أن وجوب المقدمة قبل وجوب ذي المقدمة ممتنع، لان
وجوبها ناشئ من وجوبه، وعلى فرض التلازم بين الإرادتين تكون إرادة
المقدمة ناشئة من إرادة ذي المقدمة، فلا يعقل وجود المعلول قبل
علته وأحد المتلازمين قبل صاحبه (1).
ولعل بعض أهل التحقيق فرارا من مثل الاشكال ذهب إلى أن الحكم
عبارة عن الإرادة المظهرة (2)، بتخيل أنه معه يرفع الاشكال عنه، و
سيتضح ما فيه.
والجواب عن الاشكال: أن وجوب المقدمة لا يكون ناشئا من وجوب
ذي المقدمة - إذا قلنا بأن الوجوب هو البعث أو المنتزع منه -
ضرورة عدم التلازم بين البعث إلى شي والبعث إلى مقدمة، بل غالبا
لا يكون للمولى بعث إلى المقدمات.

(1) نهاية الأفكار 1: 301 - 302.
(2) نفس المصدر السابق.
356

وأما التلازم بين الإرادة المتعلقة بذي المقدمة مع إرادة مقدمته، فليس
بمعنى نشوء إرادة من إرادة، بحيث تكون إرادة ذي المقدمة علة
موجودة لها، لما عرفت سابقا من أن الامر - على فرض الملازمة - لما
رأى توقف ما هو مطلوبه على شي فهو يريد البعث إليه لأجل
تحصيله، وهذا معنى الإرادة الغيرية، فللارادة مطلقا مقدمات لا
تتحقق بدونها، ولا تكون إرادة ناشئة من أخرى.
فهاهنا نقول: إن الملاك في إرادة المقدمة هو علمه بتوقف التوصل إلى
ذي المقدمة عليها، فإذا كان ذو المقدمة مرادا فعليا فلا محالة
تتعلق إرادة بما يراه مقدمة بملاك التوصل، بناء على الملازمة.
وأما إذا فرض عدم تعلق إرادة فعلا بتحصيل ذي المقدمة فعلا، لكن
يعلم المولى أنه عند حصول شرطه مطلوب له لا يرضى بتركه، و
يرى أن له مقدمات لا بد من إتيانها قبل حصول الشرط، وإلا يفوت
الواجب في محله بفوتها، فلا محالة تتعلق إرادة آمرية بتحصيلها
لأجل التوصل بها إليه في محله، وبعد تحقق شرطه، لا لشئ آخر.
بل إذا علم المكلف بأن المولى أنشأ البعث على تقدير يعلم حصوله، و
يرى أنه يتوقف على شي قبل تحقق شرطه، بحيث يفوت وقت
إتيانه، يجب عليه عقلا إتيانه، لحفظ غرض المولى في موطنه.
فإذا قال: (أكرم صديقي إذا جاءك) ويتوقف إكرامه على مقدمات
يكون وقت إتيانها قبل مجيئه، يحكم عقله بإتيانها لتحصيل غرضه، بل
لو
357

كان المولى غافلا عن مجئ صديقه لكن يعلم العبد مجيئه وتعلق
غرض المولى بإكرامه على تقديره وتوقفه على مقدمات كذائية،
يحكم
العقل بإتيانها لحفظ غرضه، ولا يجوز له التقاعد عنه.
فتحصل: أنه على فرض الملازمة لا محيص عن تعلق الإرادة بها، و
توهم لزوم تحقق المعلول قبل علته ناشئ من توهم كون الإرادة
المتعلقة بالمقدمات ناشئة من إرادة ذي المقدمة أو كونهما متلازمتين
بالمعنى المصطلح، وهما بمكان من الفساد.
ثم إنه مع قطع النظر عما ذكرنا يرد الاشكال حتى على القول بأن
الحكم عبارة عن الإرادة المظهرة، لان الإرادة المعلقة على شي، كما
أنها لا تؤثر في البعث نحو ذي المقدمة للاشتراط بشئ غير حاصل، لا
يمكن أن تؤثر في البعث نحو المقدمة مطلقا، فالاشكال يأتي على
المذهبين، والجواب ما تقدم.
فتدبر.
المعلق والمنجز:
ومن تقسيمات الواجب: تقسيمه إلى المعلق والمنجز: وهذا تقسيم
في. الفصول أبداه لدفع إشكال وجوب المقدمة قبل وجوب ذي
المقدمة (1)، وبعد تصوير وجوبها قبل وجوبه لا وقع لهذا التقسيم.

(1) الفصول الغروية: 79 - 80.
358

وقد استشكل على الواجب المعلق بأمور:
أهمها ما حكاه المحقق الخراساني (1) عن بعض أهل النظر وفصله و
قرره بعض المدققين في تعليقته (2)، ولم يأت بشئ مقنع مع طوله، و
تلخيصه:
أن الإرادة هي الشوق البالغ حد نصاب الباعثية، وهي جز أخير للعلة
التامة لتحريك العضلات، فلا يمكن تعلقها بأمر استقبالي، للزوم
انفكاك العلة التامة عن المعلول.
نعم الشوق المتعلق بالمقدمات بما هي مقدمات من الشوق إلى ذي
المقدمة، لكن في المقدمات يصل إلى حد الباعثية لعدم المزاحمة،
دون
ذي المقدمة فإن فيه يبقى بحاله إلى أن يرفع المانع، فيصل إلى حد
النصاب.
وأما الإرادة التشريعية فلا يمكن أن تتعلق بأمر استقبالي، لعدم إمكان
انبعاث المكلف، ومعه لا يمكن البعث، لأنه لغرض جعل الداعي.
ثم شرع في إن قلت قلت مما لا داعي لذكرها.
والجواب: أما عن الإرادة التكوينية، فغاية ما يمكن أن يقال في بيان
كونها علة تامة لحركة العضلات: إن القوى العاملة للنفس وآلاتها
المنبثة هي فيها، لما كانت تحت سلطان النفس وقدرتها، بل هي من
مراتبها النازلة وشئونها، فلا يمكن لها التعصب على إرادتها، فإذا
أرادت قبضها تنقبض أو بسطها

(1) الكفاية 1: 161 - 162.
(2) نهاية الدراية 1: 185 - 188.
359

تنبسط، من غير تعص وتأخر مع عدم آفة للألات، هذا أمر برهاني و
وجداني، لكن كون القوى تحت إرادة النفس وإطاعتها أنها إذا
أرادت تحريكها في الحال تحركت، لا عدم إمكان تعلق الإرادة بأمر
استقبالي.
فما اشتهر بينهم - من أن الإرادة علة تامة للتحريك، ولا يمكن تخلفها
عن المراد (1)، حتى أخذوه كالأصول الموضوعة، ونسجوا على
منواله ما نسجوا - مما لم يقم عليه برهان إلا ما ذكرنا، ولازم ذلك هو
ما عرفت من أن الإرادة إذا تعلقت بتحريك عضلة في الحال ولم
يكن مانع في البين تتحرك إطاعة للنفس.
وأما عدم إمكان التعلق بأمر استقبالي فيحتاج إلى برهان مستأنف، و
لم يقم عليه، لو لم نقل بقيامه على إمكانه، وقضاء الوجدان
بوقوعه، كيف وإرادة الله تعالى قد تعلقت أزلا بإيجاد (ما لم يكن
موجودا) على الترتيب السببي والمسببي من غير إمكان التغير و
الحدوث في ذاته وإرادته كما برهن عليه في محله (2).
ولا يمكن أن يقال في حقه تعالى: كان له (شوق ثم بلغ حد النصاب
فصار إرادة) وما قرع سمعك: أن الإرادة فيه تعالى هو العلم بالنظام
الأصلح (3): إن أريد به اتحاد صفاته تعالى فهو حق، وبهذا النظر كلها

(1) نهاية الدراية 1: 185 / سطر 5 - 22.
(2) الاسفار 6: 346 و 350.
(2) الاسفار 6: 346 و 350.
(3) الاسفار 6: 343 - 345، الكفاية 1: 99.
360

يرجع إلى الوجود الصرف التام وفوق التمام.
وإن أريد نفي صفة الإرادة فهو إلحاد في أسمائه تعالى، ومستلزم
للنقص والتركيب والامكان، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وأما الإرادة فينا فليست شوقا مؤكدا كما تمور به الألسن مورا (1)، فإن
الشوق من الصفات الانفعالية للنفس، والإرادة من صفاتها الفعالة،
والشوق لا يبلغ حد الباعثية وإن بلغ ما بلغ في الشدة، والإرادة هي
تصميم العزم وإجماع النفس والهمة، بل قد لا يكون الشوق من
مبادئها، فيريد المكروه ولا يريد المشتاق إليه، كمن يشرب الدواء
البشيع لتشخيص الصلاح فيه مع النفرة والكراهة الشديدة، ويترك
شرب الماء البارد مع شدة عطشه واشتياقه لشربه تسليما لحكم العقل
بأنه مضر للاستسقاء. (2)
ثم إن الإرادة كالشوق تتعلق بالامر الحالي والاستقبالي، وليست
كالعلل الطبيعية، ولم تكن مطلق الإرادة علة تامة لمطلق حركة
العضلات، بل العضلات بما هي تابعة للنفس تكون تحت سلطانها،
فإذا أرادت إيجاد أمر في المستقبل لا تتعلق الإرادة بتحريك العضلات
في الحال، بل إن بقيت الإرادة إلى زمان العمل تتعلق إرادة أخرى
بتحريك العضلات، لرؤية توقف الايجاد على حركتها، لا لان إرادة
الايجاد محركة للعضلات.

(1) الكفاية 1: 96، فوائد الأصول 1: 132، نهاية الدراية 1: 185 / سطر 5 - 6.
(2) السقي: ماء أصفر يقع في البطن. يقال: سقى بطنه يسقي سقيا، و
استسقى بطنه استسقاء، أي اجتمع فيه ماء أصفر. اللسان 14: 394.
361

مثلا: إرادة شرب الماء لا يمكن أن تكون محركة لعضلات اليد للبطش،
بل لما ترى النفس توقف الشرب على تحرك العضلات، تريد
حركتها للتوصل إلى مطلوبها، فالإرادة المتعلقة بتحريك العضلات غير
الإرادة المتعلقة بإيجاد المطلوب نوعا، ألا ترى أن المطلوب
مراد لذاته وتحريك العضلات توصلي وغير مشتاق إليه أصلا ولا
مراد بالذات؟ وما تقدم منه - أن الاشتياق يتعلق بالمقدمة من ذي
المقدمة (1) - غير مطرد، كما عرفت آنفا أن الاشتياق لم يكن من
مقدمات الإرادة في جميع الموارد، وفي كثير من الموارد يريد الشئ
مع
شدة كراهته له، والحاكم هو الوجدان.
فحينئذ نقول: في مثل هذه الأفعال لا يمكن أن يقال: إن الإرادة تتعلق
بمقدماتها من غير تصميم العزم بإتيان ذي المقدمة.
ولا أن يقال: إن حالتنا الوجدانية بالنظر إلى هذا الفعل وغيره بالنسبة
إلى المستقبل سوأ، لقضاء الوجدان بخلافه.
ولا أن يقال: إن الحالة الوجدانية هو العلم بالصلاح فقط، فإنه - أيضا -
خلاف الوجدان.
وبالجملة: الوجدان أصدق شاهد بأن الانسان قد يشتاق الامر
الاستقبالي كمال الاشتياق، لكن لا يريده ولا يكون عازما على إتيانه،
و
قد يريده ويقصده من غير اشتياق، بل مع كمال كراهته، ففي الفرض
الثاني يتصدى لاتيان

(1) نهاية الدراية 1: 186 / سطر 15 - 16.
362

مقدماته دون الأول، ولم يقم برهان يصادم هذا الوجدان، وما قالوا من
لزوم انفكاك العلة عن المعلول (1) قد عرفت ما فيه.
هذا كله في الإرادة التكوينية.
وأما التشريعية: فإمكان تعلقها بأمر استقبالي أوضح من أن يخفى ولو
سلمنا امتناعه في التكوينية، فإنها وإن تتعلق بالامر لغرض
البعث، ومعه لا بد وأن يكون الانبعاث ممكنا، لكن يكفي إمكانه على
طبق البعث في إمكانه وصحته، والبعث إلى أمر استقبالي يقتضي
إمكان الانبعاث إليه لا إلى غيره، والاغراض المتعلقة للبعث في الحال
كثيرة، بل قد عرفت أن البعث القانوني لا يمكن إلا بهذا النحو، فلا
ينبغي الاشكال فيه.
ومن الاشكالات في المقام: ما أورده بعض الأعاظم - رحمه الله - مع
تطويل وتفصيل، ولم يأت بشئ، إلا أن القيود الغير الاختيارية لا
بد وأن تؤخذ مفروضة الوجود وفوق دائرة الطلب، سوأ كان لها
دخل في مصلحة الوجوب أو الواجب، وسواء أنت القضايا حقيقية أو
لا،
وعليه بنى بطلان الواجب المعلق قائلا:
إن كل حكم مشروط بوجود الموضوع بما له من القيود من غير فرق
بين الموقتات وغيرها، وأي خصوصية في الوقت حيث يقال بتقدم
الوجوب عليه دون سائر القيود من البلوغ والاستطاعة مع اشتراك
الكل في كونها قيدا للموضوع؟ وليت شعري ما الفرق بين
الاستطاعة في الحج

(1) نهاية الدراية 1: 185 / سطر 8 - 18.
363

والوقت في الصوم؟ بل الامر في الوقت أوضح، لأنه لا يمكن إلا أخذه
مفروض الوجود، لعدم تعلق القدرة به، ولا يمكن أن تتعلق إرادة
الفاعل به من وجوده (1).
وفيه: أن قيود المتعلق والموضوع - أي ما رجعت إلى المادة - ممتازة
عما رجعت إلى الهيئة في نفس الامر، لا يمكن التخلف عما هي
عليه، فإذا كان محصل الغرض هو المتقيد بأي قيد كان، لا يمكن تعلق
الإرادة بالمجرد عنه، لفقدان الملاك فيه، كما أنه لو كان الملاك في
المطلق لم يمكن تعلق الإرادة بالمقيد، فسؤال الفرق بين الاستطاعة و
التقيد بالزمان على فرض كونه دخيلا في تحصيل الغرض، عجيب
مع وضوحه.
وظني أن عمدة ما أوقعه في الاشكال هو دعوى أن القيود في
المقيدات تحت الامر والبعث، ولما رأى عدم إمكان البعث إلى الامر
الغيري الاختياري أنكر المعلق (2)، وهي بمكان من الضعف، فإن الامر
المتعلق بالمقيد لا يمكن أن يتعدى من متعلقه إلى أمر آخر، والقيد
خارج عن المتعلق والتقيد داخل، فالامر إنما يتعلق بالمقيد لا بالقيد،
والعقل يحكم بتحصيل القيد إذا لم يكن حاصلا، وأما مع حصوله
بنفسه فلا، فإذا أمر المولى بالصلاة تحت السماء لا يكون ذلك أمرا
بإيجاد السماء، بل بإيجاد الصلاة تحتها، وهو أمر مقدور، كذلك الامر
بإيجاد صلاة المغرب ليس أمرا

(1) فوائد الأصول 1: 186 - 187.
(2) نفس المصدر 1: 183.
364

بإيجاد المغرب.
نعم، لا يمكن الامر بمقيد لا يصير قيده موجودا في ظرفه، ولا يكون
تحت اختيار العبد، وأما إذا كان موجودا في ظرف الاتيان أو كان
تحت اختياره، فالامر بالمقيد ممكن، والواجب مطلق لا مشروط.
تتمة: في دوران القيد بين الهيئة والمادة:
لو دار أمر قيد بين رجوعه إلى الهيئة أو المادة، فمع اتصاله بالكلام لا
إشكال في صيرورة الكلام مجملا، مع عدم ظهور لغوي أو
انصراف وقرينة. ومع انفصاله أيضا كذلك، إذ لا مرجح لرجوعه إلى
أحدهما إلا ما عن المحقق صاحب الحاشية - نقلا عن بعض -: من أن
الرجوع إلى الهيئة مستلزم لرجوعه إلى المادة دون العكس، فدار الامر
بين تقييد وتقييدين (1).
وهو كما ترى.
وإلا ما عن الشيخ الأعظم من وجهين:
أحدهما: أن إطلاق الهيئة شمولي كالعام، وإطلاق المادة بدلي، و
تقييد الثاني أولى (2).
وقرر بعض الأعاظم (3) وجه تقديمه: بأن تقديم الاطلاق البدلي يقتضي

(1) هداية المسترشدين: 196 / سطر 28 - 33.
(2) مطارح الانظار: 49 / سطر 19 / 21.
(3) أجود التقريرات 1: 161 - 162.
365

رفع اليد عن الاطلاق الشمولي في بعض مدلوله، بخلاف تقديم
الشمولي، فإنه لا يقتضي رفع اليد عن الاطلاق البدلي، فإن المفروض
أنه
الواحد على البدل، وهو محفوظ، غاية الأمر أن دائرة كانت وسيعة
فصارت ضيقة.
وببيان آخر: أن البدلي يحتاج زائدا على كون المولى في مقام البيان
إلى إحراز تساوي الافراد في الوفاء بالغرض، حتى يحكم العقل
بالتخيير، بخلاف الاطلاق الشمولي، فإنه لا يحتاج إلى أزيد من ورد
النهي على الطبيعة الغير المقيدة، فيسري الحكم إلى الافراد قهرا،
فمع الاطلاق الشمولي لا يحرز تساوي الافراد، فيكون الشمولي حاكما
على البدلي. انتهى.
أقول: التحقيق أن تقسيم الاطلاق إلى الشمولي والبدلي غير صحيح،
لا في المقام ولا في باب المطلق والمقيد، وأما هناك فلان اللفظ
الموضوع للطبيعة أو لغيرها لا يمكن أن يدل ويحكي عن شي آخر
وراء الموضوع له، وخصوصيات الافراد أو الحالات لا بد لإفادتها
من دال آخر، ومقدمات الحكمة لا تجعل غير الدال دالا وغير الحاكي
حاكيا.
فلا يستفاد من مقدمات الحكمة إلا كون ما جعل موضوعا تمام
الموضوع للحكم من غير دخالة قيد آخر فيه، وهذا ليس من قبيل دلالة
اللفظ، ففي قوله: أحل الله البيع (1) بعد مقدمات الحكمة يحكم العقلا
بأن الطبيعة من غير دخالة شي فيها محكومة بالحلية لا أفرادها،
فإنها ليست مفاد اللفظ، ولا مفاد الاطلاق ومقدمات الحكمة.

(1) البقرة: 275.
366

فالاطلاق الشمولي مما لا معنى محصل له، كما أن الامر كذلك في
الاطلاق البدلي أيضا فإن قول: (أعتق رقبة) لا يستفاد منه البدلية، لا من
اللفظ (ولا من التنوين) فإن الرقبة وضعت لنفس الطبيعة، والتنوين إذا
كان للتنكير يدل على تقيدها بقيد الوحدة الغير المعينة (1) لكن
بالمعنى الحرفي، وذلك غير البدلية كما يأتي في العام والخاص
توضيحه. وأما كونها تمام الموضوع فيستفاد من مقدمات الحكمة لا
الوضع.
فما هو مفاد الاطلاق في المقامين شي واحد هو كون ما جعل
موضوعا تمام الموضوع من غير تقييد، وأما الشمول والبدلية فغير
مربوطين بالاطلاق رأسا، بل هما من تقسيمات العام، فدوران الامر
بين الاطلاق الشمولي والبدلي مما لا معنى محصل له، حتى يتنازع
في ترجيح أحدهما.
وأما استفادة الشمول والبدلية من دليل لفظي فغير مربوطة بما نحن
فيه، ومع التسليم فتقديم أحدهما على الاخر مما لا وجه له.
وأما دعوى أن تقييد الشمولي تصرف في الدليل، دون البدلي، فإنه
على مفاده وإن صارت دائرته مضيقة، فمن غريب الدعاوي، فإن
التضييق تصرف وتقييد، ومعه كيف لا يرفع اليد عن الدليل؟ كدعوى
أن البدلي يحتاج إلى أمر زائد عن مقدمات الحكمة لاثبات تساوي
الافراد، بخلاف الشمولي، فإن نفس تعلق النهي يكفي للسراية،

(1) يحتمل في المخطوطة: " المتعينة "، لكن الأقرب ما أثبتناه.
367

ضرورة أن المستفاد من مقدمات الحكمة هو عدم دخالة قيد في
موضوع الحكم، وهذا معنى تساوي الافراد.
وأما دعوى كفاية نفس تعلق الحكم للسراية إلى الافراد بخصوصياتها،
فممنوعة حتى بعد جريان مقدمات الحكمة، لان التحقيق - كما
يأتي في محله - أن الحكم في الاطلاق لا يسري إلى الافراد، لا شموليا
ولا بدليا.
هذا كله في غير المقام.
وأما فيه مما تعلق البعث بالطبيعة كقوله: (أكرم عالما) فإطلاق
الشمولي في الهيئة والبدلي في المادة - بعد تسليم صحتهما في غير
المقام - مما لا يعقل، فإن معنى الشمولي أن يكن البعث على جميع
التقادير عرضا، كما مثلوا له بالعام (1)، بحيث يكون في كل تقدير
إيجاب ووجوب، ومعه كيف يمكن أن يكون إطلاق المادة بدليا؟
فهل يمكن أن تتعلق إرادات أو إيجابات في عرض واحد بفرد ما؟
والقول بأن المراد من الشمولي هو كون البعث واحدا لكن من غير تقييد
بقيد، فالمراد من وجوبه على كل تقدير أنه لا يتعلق الوجوب
بتقدير خاص، رجوع عن الاطلاق الشمولي، فحينئذ لا فرق بين
إطلاق المادة والهيئة، فإن المادة - أيضا - مطلقة بهذا المعنى.
والانصاف أن الاطلاق الشمولي والبدلي مما لا معنى محصل لهما، وفيما

(1) مطارح الانظار: 49 / في التصحيح التابع لسطر 20، الكفايگ 1: 168.
368

نحن فيه غير معقولين، ومع معقوليتهما لا وجه له لتقديم التقييد في
أحدهما على الاخر.
الوجه الثاني: أن تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الاطلاق في المادة،
بخلاف العكس، وكلما دار الامر بين التقييدين كذلك كان تقييد ما لا
يوجب ذلك أولى.
أما الصغرى: فإنه لا يبقى مع تقييد الهيئة محل بيان لاطلاق المادة،
لأنها لا تنفك عن وجود قيد الهيئة، بخلاف تقييد المادة، فإن محل
الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله، فيمكن الحكم بالوجوب على
تقدير وجود القيد وعدمه.
وأما الكبرى: فلان التقييد خلاف الأصل، ولا فرق بينه وبين ما
يوجب بطلان محله في الأثر (1).
وفيه: - بعد معلومية أن قيود كل من الهيئة والمادة لا ترجع إلى
صاحبتها، وأن لكل موردا خاصا ثبوتا - أن تقييد كل منهما يوجب نحو
تضييق لصاحبتها وإبطالا لمحل إطلاقها، فإن إطلاق (أكرم زيدا)
يقتضي الوجوب بلا قيد، كما يقتضي وجوب نفس طبيعة الاكرام من
غير تقييد.
فإذا رجع قيد إلى الهيئة - نحو (إن جاء زيد فأكرمه) - تكون الهيئة
مقيدة دون المادة، أي يجب على فرض مجيئه نفس طبيعة الاكرام بلا
قيد، لكن يوجب ذلك تضييقا قهريا في الاكرام أيضا، لا بمعنى التقييد،
بل بمعنى إبطال

(1) مطارح الانظار: 49 / سطر 22 - 31.
369

محل الاطلاق.
وكذلك إذا ورد قيد على المادة نحو (أكرمه إكراما حال مجيئه)، فإن
الهيئة مطلقة ولو من جهة تحقق المجئ ولا تحققه كما في الواجب
المعلق، لكن مع ذلك لا تدعو إلى نفس الاكرام بلا قيد، ف (أكرم)
بعث إلى نفس الطبيعة، و (أكرم إكراما حال مجيئه) بعث إليها مقيدة لا
مطلقة، فدائرة البعث في الفرض الأول أوسع منها في الثاني.
فقوله في بيان بقاء محل الاطلاق في طرف الهيئة - من إمكان الحكم
بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه (1) - لا يخلو من خلط، فإن
الواجب المعلق وإن كان مطلقا من حيث تحقق القيد وعدمه، لكن
دائرة دعوته أضيق من المطلق من القيد، فبالنسبة إلى غير محل القيد
يبطل محل إطلاقه وإن لم يصر مقيدا، فلا فرق بين تقييد الهيئة و
المادة، لا من جهة أن تقييد كل لا يوجب تقييد الاخر، ولا من جهة أن
تقييده يوجب إبطال محل إطلاقه، ففرق بين البعث قبل وجود القيد و
بينه وبالنسبة إلى المقيد لا المطلق.
وبما ذكرنا يتضح عدم تمامية ما في تقريرات بعض المحققين: من أن
تقييد المادة معلوم تفصيلا، لأنها إما مقيدة ذاتا، أو تبعا، وتقييد
الهيئة مشكوك فيه بدويا، فيصح التمسك بإطلاقها لالغائه (2) لأنه يرد
عليه: - مضافا إلى ما ذكرنا في بيان عدم الفرق بينهما - أن إبطال
محل الاطلاق غير التقييد ولو

(1) نفس المصدر السابق.
(2) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 366.
370

تبعا، فلا يكون تقييدها متيقنا.
ثم إنه - مع تسليم الصغرى - لمنع الكبرى - أيضا - مجال، لعدم
الدليل على الترجيح المذكور.
ومنها: تقسيمه إلى نفسي وغيري:
ولا يخفى أن إرادة الفاعل والامر لشئ وإن كانت لأغراض متصاعدة
إلى. (أن تبلغ مقصودا) بالذات، لكن تقسيم الواجب إلى أقسامه
ليس باعتبار الإرادة أو الغرض، فإنهما خارجان عن اعتبار الوجوب و
الواجب، بل تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري باعتبار تعلق
البعث والوجوب، فقد يتعلق البعث بشئ لأجل التوصل إلى مبعوث
إليه فوقفه وتوقفه عليه، وقد يتعلق به من غير أن يكون فوقه
مبعوث إليه، فالأول غيري، والثاني نفسي.
ولا يرد على هذا ما قد يقال: من أن الواجبات مطلقا (مطلوبة) لأجل
التوصل إلى أغراض ولأجل حصول ملاكات، فتكون كلها غيريات (1)،
وذلك لان التقسيم باعتبار الوجوب والبعث من غير دخالة الأغراض
والملاكات فيه. فإذا أمر المولى ببناء مسجد ولم يكن فوق ذلك
أمر متوجه إلى المأمور يكون ذلك نفسيا وإن كان لأجل غرض، وإذا
أمر ذلك المأمور بإحضار

(1) مطارح الانظار: 66 / سطر 21 - 22.
371

الاحجار والاخشاب لأجل التوصل إلى ذلك المبعوث إليه وتوقفه
عليها يكون غيريا، لكن إذا صدر منه أوامر ابتدأ إلى أشخاص، فأمر
شخصا بشراء الاحجار، وآخر بإحضارها، وثالثا بتحجيرها وتنقيشها،
تكون تلك الأوامر نفسية، وإذا أمر لأجل التوصل إلى تلك
المبعوث إليها يكون غيريا، مع أن كلها لأغراض، وهي ترجع إلى
غرض أقصى فوقها، والامر سهل.
مقتضى الأصل اللفظي في المقام:
ثم إذا شككنا في واجب بأنه نفسي أو غيري يحمل على النفسي
لأجل الانصراف كما لا يبعد لا بمعنى انصراف جامع إلى أحد أقسامه،
فإن
التحقيق أن الموضوع له في الهيئة خاص، وأنها في النفسي والغيري لا
تستعمل إلا استعمالا إيجاديا لنفس البعث والاغراء، والنفسية و
الغيرية انتزاعيتان، لا من مقوماته، بل لما كان البعث لأجل الغير نادرا،
لا يعتني باحتماله العقلا.
ويمكن أن يقال: إن البعث المتعلق بشئ حجة على العبد، ولا يجوز
التقاعد عن طاعته باحتمال كونه مقدمة لغيره إذا سقط أمره.
وأما ما قيل: من أن الاطلاق يرفع القيد الزائد (1) فغير تام، لان كلا من
النفسية والغيرية متقوم بقيد زائد على فرض كون البعث موضوعا
لجامعهما، مع أنه خلاف التحقيق.

(1) مطارح الانظار: 67 / سطر 10 - 12، الكفاية 1: 173.
372

وقد يقال (1): إن الوجوب الغيري لما كان مترشحا عن وجوب الغير كان
وجوبه مشروطا بوجوب الغير، كما أن الغير يكون مشروطا
بالواجب الغيري، فيكون وجوب الغير من المقدمات الوجوبية
للواجب الغيري، ووجوب الواجب الغيري من المقدمات الوجودية
لذلك
الغير، كالصلاة والوضوء فهي مشروطة به ووجوبه مشروط بوجوبها،
فحينئذ يرجع الشك في كون وجوب غيريا إلى شكين: أحدهما:
الشك في تقييد وجوبه بوجوب الغير، وثانيهما: الشك في تقييد مادة
الغير به، فيرفع الشكان بإطلاق المادة والهيئة، بل إطلاق أحدهما
كاف لرفعهما، لحجية مثبتات الأصول اللفظية. انتهى ملخصا.
وفيه: - مضافا إلى أن تقييد المادة إنما يكون في بعض الواجبات
الغيرية كالشرائط، لا في جميعها كنصب السلم بالنسبة إلى الصعود -
أن الوجوب الغيري إذا كان مترشحا من النفسي - كما هو ظاهرهم (2) -
يكون معلوله، ولا يمكن أن يكون المعلول متقيدا ومشروطا
بعلته، بحيث يكون المعلول هو المشروط بما هو كذلك، فإن الوجوب
الغيري على فرض المعلولية يكون بحقيقته وهويته معلولا، و
اشتراط الشئ فرع وجوده، ضرورة أن المعدوم لا يمكن أن يشترط
بشئ، فلا بد وأن يكون الواجب الغيري متحققا قبل تحققه حتى
يكون المشروط بما هو مشروط معلولا.
وبالجملة: تقييد المعلول بوجود علته مستلزم لوجوده قبل وجودهما

(1) فوائد الأصول 1: 220 - 222.
(2) الكفاية 1: 164، فوائد الأصول 1: 220، نهاية الأفكار 1: 303.
373

أو اشتراط المعدوم في حال عدمه، وأما المعلولية وتوقف وجود
شي على وجود شي آخر فغير اشتراطه به، واستناد المعلول إلى
العلة وضيقه الذاتي غير التقيد والاشتراط، فالتمسك بإطلاق الهيئة
لرفع الشك مما لا مجال له.
هذا حال الأصول اللفظية.
في الأصل العملي في المقام:
أما الأصل العملي، فقد قال بعض الأعاظم فيه: إن الشك في الوجوب
الغيري على أقسام.
الأول: إذا علم بوجوب الغير والغيري من دون اشتراط وجوب الغير
بشرط غير حاصل، كما إذا علم بعد الزوال بوجوب الوضوء و
الصلاة، وشك في وجوب الوضوء أنه غيري أو نفسي، ففي هذا
القسم يرجع الشك إلى تقييد الصلاة بالوضوء، فيكون مجرى البراءة،
لكونه من صغريات الأقل والأكثر الارتباطيين، وأما الوضوء فيجب
على أي حال نفسيا كان أو غيريا (1).
وفيه إن إجراء البراءة في الصلاة غير جائز بعد العلم الاجمالي
بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب الصلاة المتقيدة به، والعلم
التفصيلي
بوجوب الوضوء الأعم من النفسي والغيري لا يوجب انحلاله إلا على وجه محال

(1) فوائد الأصول 1: 222 - 223.
374

كما اعترف به القائل في الأقل والأكثر، فراجع كلامه في بابهما (1).
ثم قال: القسم الثاني: ما إذا علم بوجوب الغير والغيري، لكن كان
وجوب الغير مشروطا بشرط غير حاصل، كالوضوء قبل الوقت بناء
على اشتراط الصلاة بالوقت، ففي هذا القسم لا مانع من جريان البراءة،
لعدم العلم بالوجوب الفعلي قبل الوقت (2).
وفيه: أن ذلك يرجع إلى العلم الاجمالي بوجوب الوضوء نفسا، أو
وجوب الصلاة المتقيدة به بعد الوقت، والعلم الاجمالي بالواجب
المشروط إذا علم تحقق شرطه أو الواجب المطلق في الحال منجز
عقلا، فيجب عليه الوضوء في الحال، والصلاة مع الوضوء بعد حضور
الوقت.
نعم، لو قلنا بعدم منجزية العلم الاجمالي المذكور كان إجراء البراءة في
الطرفين بلا مانع، لكنه خلاف التحقيق، وقد اعترف بتنجيز
العلم الاجمالي في التدريجيات ولو كان للزمان دخل خطابا وملاكا،
فراجع كلامه في الاشتغال (3).
ثم قال: القسم الثالث: ما إذا علم بوجوب ما شك في غيريته ولكن
شك في وجوب الغير، كما إذا شك في وجوب الصلاة في المثال
المتقدم وعلم بوجوب الوضوء، ولكن شك في كونه غيريا حتى لا
يجب لعدم وجوب الصلاة ظاهرا بمقتضى البراءة، أو نفسيا حتى
يجب، ففي هذا القسم

(1) نفس المصدر السابق 4: 159 - 162.
(2) نفس المصدر السابق 1: 223.
(3) نفس المصدر السابق 4: 110 - 112.
375

يجب الوضوء دون الصلاة، لأنه من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين،
حيث إن العلم بوجوب ما عدا السورة مع الشك في وجوبها يقتضي
وجوب امتثال ما علم، ولا يجوز إجراء البراءة فيه، مع أنه يحتمل كون
ما عدا السورة واجبا غيريا، وكون المقام من قبيل المقدمات
الخارجية وهناك من (قبيل) الداخلية لا يوجب فارقا (1).
وفيه: أن العلم التفصيلي بوجوب الوضوء وتردده بين الوجوب
النفسي والغيري، لا يمكن إلا مع العلم الاجمالي بوجوب الصلاة
المقيدة
بالوضوء نفسيا، وهذا العلم الاجمالي لا ينحل الا بوجه محال كما
عرفت.
وتصور الشك البدوي للصلاة مع العلم التفصيلي الكذائي بوجوب
الوضوء جمع بين المتنافيين، والعجب منه حيث قال: وعلم بوجوب
الوضوء، ولكن شك في كونه غيريا حتى لا يجب (2) پ‍. كيف جمع بين
العلم بالوجوب والشك فيه؟ ثم إن الفرق بين المقام والأقل والأكثر
في الاجزاء واضح، اعترف به في باب الأقل والأكثر (3)، وأوضحنا
سبيله، فإن المانع من الانحلال هو الدوران بين النفسية والغيرية، و
في الاجزاء ليس الدوران بينهما، والتفصيل موكول إلى محله.

(1) نفس المصدر السابق 1: 223 - 224. (2) نفس المصدر السابق 1: 223. (3) نفس المصدر السابق 4: 156 - 157.
376

بقي في المقام تنبيهات
التنبيه الأول: في كيفية الثواب والعقاب الأخرويين:
اختلفت الانظار في كيفية الثواب والعقاب الأخرويين:
فذهب بعض: إلى أنها من قبيل التمثل الملكوتي عملا وخلقا و
اعتقادا، وأن النفس بواسطة الأعمال الحسنة تستعد لاعطاء كمال تقدر به
على تمثيل الصور الغيبية البهية، وإيجاد الحور والقصور، وكذا في
جانب الأعمال السيئة، وكذا الحال في الأخلاق والعقائد على ما
فصلوا في كتبهم (1).
وذهب آخر: إلى أنهما بحسب الجعل، كالجعل في الجعالة، و
كالجزئيات العرفية في الحكومات السياسية، كباب الحدود، كما هو
ظاهر
الكتاب والسنة، كقوله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن
جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها (2) إلى غير ذلك (3).
وذهب آخر: إلى أنهما بالاستحقاق وجزأ العمل (4)، بمعنى أنه لو أمر
الله تعالى بشي فعمله أحد وتركه الاخر، يكون المطيع مستحقا من

(1) الاسفار 9: 293 - 296.
(2) الانعام: 160.
(3) ثواب الأعمال: 56.
(4) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 322 - 323، اللوامع الإلهية في المباحث
الكلامية: 384 - 385، إرشاد الطالبين: 413
377

الله تعالى أجر عمله، ولا يجوز له تعالى التخلف عنه عقلا، والعاصي
مستحقا للعقوبة، لكن يجوز له العفو.
ثم إنه - بناء على المسلك الأول - يكون الاستحقاق واللا استحقاق
بمعنى غير ما هو المعروف لدى الناس، وأما بناء على جعلية الثواب
فلا إشكال في قبح تخلفه بعد الجعل، للزوم الكذب لو أخبر عنه مع
علمه بالتخلف، وتخلف الوعد والعهد مع الانشاء، وقبحهما و
امتناعهما عليه تعالى واضحان، ولا كلام فيهما.
وإنما الكلام في أن إطاعة أوامره تعالى هل توجب الاستحقاق، أولا، و
يكون الاعطاء على سبيل التفضل؟ والحق: أن من عرف مقامه
تعالى ونسبته إلى الخلق ونسبة الخلق إليه، وتأمل في قوى العبد و
أعضائه ونسبتهما إلى بارئهما - جل شأنه - لا يتفوه:
بأن صرف بعض نعمه في طريق طاعته تعالى موجب للاستحقاق، و
الأولى إيكال هذه المباحث إلى أهلها ومحلها.
في استحقاق الثواب على الواجب الغيري:
ثم إنه بعد البناء على الاستحقاق في الواجبات النفسية، هل يكون
الواجب الغيري مثلها فيه أم لا؟ وأما بناء على المسلك الأول - من
كون
الثواب والعقاب من قبيل اللوازم والتمثلات الملكوتية - فالعلم
بخصوصياتها وتناسب الافعال وصورها الغيبية
378

لا يمكن لأمثالنا.
نعم، لا شبهة في أن الاتيان بالمقدمات لأجل الله تعالى موجب لصفاء
النفس وتحكيم ملكة الانقياد والطاعة، ولها - بحسب مراتب النيات
وخلوصها - تأثيرات في العوالم الغيبية.
وبناء على مسلك الجعل فالثواب تابع للجعل، فقد يجعل على ذي
المقدمة، وقد يجعل عليها - أيضا - كما في زيارة مولانا أبي عبد الله
الحسين - عليه السلام - حيث ورد الثواب على كل خطوة لمن زاره
ماشيا (1). وهذا المسلك غير بعيد في الجملة، ومعه لا إشكال في
الثواب الوارد على المقدمات، والالتزام بكونها عبادة بنفسها بعيد عن
الصواب.
وأما بناء على المسلك الأخير، فالتحقيق عدم الاستحقاق على
الغيريات، لان الاستحقاق إنما هو على الطاعة، ولا يعقل ذلك في
الأوامر
الغيرية، لأنها لا يمكن أن تبعث نحو متعلقاتها، فإن المكلف بذي
المقدمة: إما أن يكون عازما على إتيانه ويكون أمره داعيا إليه، أولا:
فعلى الأول: تتعلق - لا محالة - إرادته بما يراه مقدمة.
وعلى الثاني: لا يمكن أن تتعلق إرادته بها من حيث مقدميتها، فلا
يمكن أن يكون الامر الغيري بما هو كذلك داعيا وباعثا مطلقا، وما
هو كذلك لا يعقل

(1) كامل الزيارات: 132 - 134 / 1 - 9 باب 49 في ثواب من زار الحسين - عليه السلام -
راكبا أو ماشيا، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: 115 / 25 و 116 - 117 / 31.
33 ثواب من زار قبر الحسين - عليه السلام -.
379

استحقاق الثواب عليه.
وأما استحقاق الثواب عليها باعتبار الواجب النفسي فهو - أيضا - غير
صحيح، فإن الآتي بالمقدمات لأجل الاتيان بالواجب النفسي، لو لم
يأت به لعذر أو لغيره لم يأت بمتعلق الامر النفسي، ومعه لا يعقل
الاستحقاق بالمعنى الذي هو مورد البحث - أي كون ترك الثواب
ظلما
وقبيحا - لان استحقاق من لم يأت به: إما للامر الغيري فقد عرفت
حاله، وإما للامر النفسي فمع عدم الاتيان بمتعلقه لا وجه للاستحقاق.
فلو أمر شخص أحدا برد ضالته، فتحمل المشقة الكثيرة ولم يوفق إلى
ردها ورجع صفر الكف، فطالب بالاجر، فهل تراه محقا أو
مبطلا؟ لا أظنك - بعد تشخيص محل النزاع - أن تشك في عدم
الاستحقاق.
نعم، إذا كان لذي المقدمة مقدمات كثيرة وتحصيلها مستلزم
للمشتقات، يكون أجر نفس العمل بحسب المقدمات مختلفا، لا
بمعنى
التقسيط عليها، بل يكون التفاوت بلحاظها، فالآتي بالحج، من البلاد
النائية بأمر شخص يكون أجرته أكثر (من أجرة الآتي بالحج) من
غيرها، ولو أتى بجميع المقدمات ولم يأت بالحج، فليس له استحقاق
للأجرة، لعدم الاتيان بمتعلق الامر، فكذا الحال في أوامره تعالى
بناء على الاستحقاق.
وظني أنهم خلطوا بين الاستحقاق وممدوحية العبد، بمعنى إدراك
العقل صفاء نفسه، وكونه بصدد إطاعة أمره، وكونه ذا ملكة فاضلة و
سريرة حسنة، ضرورة أن الآتي بالمقدمات مع عدم توفيقه لاتيان ذي المقدمة
380

لا مستحق للاجر بالمعنى المتقدم.
وأما ما ربما يقال: من أن الآتي بالمقدمة بقصد التوصل إلى ذي
المقدمة مشتغل بامتثال الواجب النفسي ومستحق للمدح والثواب،
وهما
من رشحات الثواب الذي للواجب النفسي (1).
ففيه: أن الاشتغالات بالواجب النفسي لا يكون إلا بالشروع فيه نفسه لا
مقدماته، ولو أطلق عليه لا يكون إلا من باب التوسع، وهو لا
يوجب شيئا.
مع أن مجرد الاشتغال بالنفسي - أيضا - لا يوجب الاستحقاق،
فالاشتغال بالصلاة لا يوجب استحقاق الاجر عند الله، ولا الأجرة
على
الامر أو المستأجر، وإنما الاجر والأجرة على الاتيان بمتعلق الامر، و
لا يكون ذلك إلا بإتمام الواجب، والامر لا يقسط على أجزأ
المتعلق كما مر في الصحيح والأعم (2).
وأما رشح ثواب الواجب النفسي على المقدمات، فمما لا يرجع إلى
محصل ومعنى معقول، مع أنه على فرض صحته لازمه عدم كثرة
الثواب مع كثيرة المقدمات، لان ثواب الواجب النفسي على الفرض
مقدار محدود يترشح منه إلى المقدمات، فكلما كثرت المقدمات
يقسط ذلك الثواب عليها، فيكون الثواب مقدارا محدودا لا يتجاوزه
قلت المقدمات

(1) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 375 - 376.
(2) وذلك في صفحة: 158.
381

أو كثرت.
إلا أن يقال: إن كثيرة المقدمات توجب كثرة الثواب بلحاظها على ذي
المقدمة، ثم يترشح منه إليها، وهذا خيال في خيال.
التنبيه الثاني: الاشكال في الطهارات الثلاث ودفعه:
قد استشكل في الطهارات الثلاث التي جعلت مقدمة للعبادة بوجوه:
الأول: أنه لا إشكال في ترتب الثواب عليها، مع أن الواجب الغيري لا
يترتب عليه ثواب (1).
ويمكن (دفعه:) بأن الثواب جعلي ليس باستحقاقي، وهو تابع
للجعل، وقد يجعل على المقدمات، لكن سيأتي (دفعه) بوجه آخر.
الثاني: لزوم الدور، فإن الطهارات بما هي عبادات جعلت مقدمة، و
عباديتها تتوقف على الامر الغيري، ولا يترشح الوجوب الغيري إلا
إلى ما هو مقدمة، فكل من الامر الغيري والعبادية يتوقف على صاحبه (2).
وقد يقرر الدور: بأن الامر الغير لا يدعو إلا إلى ما هو مقدمة، والمقدمة
ها هنا ما يؤتى بها بداعوية الامر الغيري، فإن نفس الافعال
الخاصة لم تكن مقدمة بأي نحو اتفقت، فيلزم أن يكون الامر داعيا إلى
داعوية نفسه.
ويمكن (دفعه:) بأن ذات الافعال - بما هي - لما كانت مقدمة تكون

(1) مطارح الانظار: 70 / سطر 17 - 19.
(2) فوائد الأصول 1: 227، نهاية الأفكار 1: 329.
382

مأمورا بها بناء على الملازمة، وقيدها - أي إتيانها بداعوية أمرها -
أيضا مأمور به بملاك المقدمية. مع أن إشكال الدور مطلقا قد دفع
في محله (1)، والامر هاهنا أهون، لما عرفت من أن ذوات الافعال مأمور
بها لأجل المقدمية، لكن هذا الجواب إلزامي، وإلا فقد عرفت أن
الامر الغيري لا يصلح للداعوية، والداعي لاتيان المقدمة بما هي
كذلك لا يكون إلا الامر النفسي المتعلق بذي المقدمة، وسيأتي الجواب
عن جميع الاشكالات إن شاء الله.
والثالث - وهو العمدة -: أن الأوامر الغيرية توصلية لا يعتبر في
سقوطها قصد التعبد، مع أن الطهارات معتبر فيها قصده بلا إشكال (2).
والتحقيق: أن الطهارات الثلاث بما هي عبادات جعلت مقدمة للصلاة
وغيرها، وعباديتها لا تتوقف على الامر الغيري حتى ترد
الاشكالات المتقدمة، بل التحقيق: أن المعتبر في صحة العبادة ليس
الامر الفعلي النفسي أيضا، بل مناط الصحة صلوح الشئ للتعبد به، و
هذا مما لا يمكن الاطلاع عليه غالبا إلا بوحي الله تعالى، وبعد ما علم
صلوح شي للتعبد به وأتي به بقصد التقرب إليه تعالى يقع صحيحا
قصد الامر أولا، بل لا يبعد دعوى ارتكاز المتشرعة في إتيان الواجبات
التعبدية بقصد التقرب إليه تعالى مع الغفلة عن الامر بها - تأمل
- فلو فرض سقوط الامر بواسطة عروض شي، فأتى به متقربا،

(1) وذلك في صفحة: 260 وما بعدها.
(2) مطارح الانظار: 70 - 71، الكفاية 1: 177، فوائد الأصول 1: 226.
383

تكون العبادة صحيحة.
فإن قلت: إن ذلك لا يتم في التيمم، فإنه ليس عبادة نفسية، و
الاستشهاد (1) لعباديته بظواهر بعض الأخبار - (2) على فرض التسليم -
ليس في محله، لاعراض الأصحاب عنها.
قلت: يمكن أن يقال: إنه عبادة في ظروف خاص، وهو حال كونه مأتيا
به بقصد التوصل إلى الغايات.
ويمكن أن يقال: إنه صالح ذاتا للعبادية، لكن في غير ذلك الظرف
ينطبق عليه عنوان مانع عن عباديته الفعلية.
فإن قلت: إذا أتى المكلف بالطهارات بداعوية الامر الغيري ولأجل
التوصل إلى الغايات مع الغفلة عن الأوامر النفسية أو عباديتها في
نفسها تقع صحيحة، بل في ارتكاز المتشرعة إتيانها لأجل الغير لا
لأجل رجحانها النفسي.
قلت: كلا، فإنه لو أتى بها لصرف التوصل إلى الغايات من غير قصد
التعبد والتقرب بها تقع باطلة قطعا، وارتكاز المتشرعة على خلاف
ما ذكرت، بل كل متشرع يرى من نفسه أن إتيانه للستر وغسل الثوب لأجل
.

(1) أجود التقريرات 1: 175، منتهى الأصول 1: 209.
(2) كقوله عليه السلام: (التيمم أحد الطهورين) بضميمة الاطلاقات
الدالة، على استحباب الطهر في نفسه كقوله تعالى: إن الله يحب
التوابين ويحب المتطهرين البقرة:
222، راجع الوسائل 2: 994 - 995 باب 23 من أبواب التيمم
384

التوصل إلى الصلاة مخالف لاتيانه بالطهارات لأجل التوصل إليها، فإن
فيها يقصد التعبد بها ويجعل ما هو عبادة وسيلة للتوصل إلى
الغايات، فيأتي بالوضوء المتقرب به إليه تعالى للصلاة، وإن كان غافلا
عن أمره النفسي، لكنه غير غافل من التعبد والتقرب به، ولا
يحتاج في عبادية الشئ ووقوعه صحيحا - زائدا عن قصد التقرب
بما هو صالح للتعبد به - إلى شي آخر، فالامر النفسي المتعلق بذي
المقدمة يدعو إلى الوضوء بقصد التقرب، فإنه مقدمة للصلاة، فلا
محالة يأتي المكلف به كذلك.
وبما ذكر ينحل جميع الشبهات المتقدمة، لان ترتب الثواب لأجل
إتيانها على وجه العبودية، وشبهة الدور إنما تردد لو قلنا بأن
عباديتها موقوفة على الامر الغيري.
ثم إن هاهنا أجوبة غير تامة في نفسها أو غير دافعة لجميع الشبهات، لا
داعي لذكرها وما فيها بعد تحقيق الحق.
وما ذكرنا يقرب مما ذكره المحقق الخراساني (1)، وإن اختلف معه من
بعض الجهات، ويسلم عن بعض المناقشات الواردة عليه.
التنبيه الثالث: في منشأ عبادية الطهارات:
قد ظهر مما مر: أن الطهارات بما هي عبادات جعلت مقدمة للصلاة و
أما صيرورتها عبادة بواسطة الامر الغيري أو النفسي المتعلق بذي المقدمة

(1) الكفاية 1: 177 - 178.
385

فغير صحيحة:
أما الغيري: فلانه - بعد تسليم إمكان داعويته، والغض عما تقدم من
الاشكال فيه - أن دعوته ليست إلا إلى إتيان المقدمة للتوصل إلى
ذي المقدمة، وليست له نفسية وصلاحية للتقرب، ولم تكن المقدمة
محبوبة للمولى، بل لو أمكنه أن يأمر بإتيان ذي المقدمة مع عدم
الاتيان بمقدمته لأمر أحيانا، فالامر بها - على فرضه - من جهة
اللابدية، ومثل ذلك لا يصلح للمقربية، ولهذا لو أتى بالمقدمة بناء
على
وجوب المقدمة المطلقة بانيا على عدم إتيان ذي المقدمة لم يصر
مقربا.
وأما بواسطة الامر النفسي المتعلق بذي المقدمة: فلان الامر النفسي لا
يدعو إلا إلى متعلقه، ولا يعقل أن يدعو إلى المقدمات، لعدم تعلقه
بها، فلا يكون الاتيان بها إطاعة له، بل مقدمة لها، وما قيل: من أنه نحو
شروع في الواجب النفسي قد تقدم ما فيه.
فالاتيان بالمقدمة: إما يكون بحكم العقل، وإما بداعوية الامر الغيري
على القول به، والظاهر وقوع الخلط بين حكم العقل وداعوية
الامر.
وما يقال: إنه يكفي في عبادية الشئ أن يؤتى به لأجل المولى ولو
بمثل هذه الداعوية (1).
مقدوح فيه، فإن العبادية فرع صلوح الشئ للتقرب، والمقدمة لا
تصلح لذلك ولو قلنا بتعلق الامر الغيري بها، مع أنه ممنوع أيضا.

(1) نهاية الأفكار 1: 325 - 326.
386

ثم إن الوضوء قبل الوقت بداعوية أمره النفسي صحيح يجوز الدخول
معه في الصلاة بعد حضور الوقت، كما أنه لو لم يكن للمكلف داع
إلى إتيان الوضوء الاستحبابي قبل الوقت، لكن لما رأى أن الصلاة في
الوقت مشروطة به، فصار ذلك داعيا إلى إتيانه لله، يقع صحيحا
أيضا.
وأما بعد الوقت، فإن أتى به بداعي أمره الغيري لكن متقربا به إلى الله،
يقع صحيحا، لصلوح الموضوع للتقرب، وهو كاف في الصحة.
وأما بداعي أمره الاستحبابي فصحته فرع بقاء أمره، وهو فرع أن يكون
الوضوء بما هو مأمور به بالامر النفسي مقدمة، ولم نقل
بانحلاله إلى الذات والقيد، وتكون الذات - أيضا - متعلقة للامر
الغيري، وإلا فلا يبقى الامر النفسي مع الغيري، وسيأتي التحقيق في
متعلق الأمر الغيري حتى يتضح عدم المنافاة بينه وبين الامر
الاستحبابي، لتعدد العنوان.
وأما الاتيان به لأجل التوصل إلى الغير من دون قصد التقرب فلا
يوجب الصحة كما تقدم.
الأمر الخامس ما هو الواجب في باب المقدمة؟
بناء على الملازمة هل الواجب هو مطلق المقدمة، أو المقدمة التي
أريد الاتيان بصاحبها، أو التي قصد بها التوصل إليه، أو المقدمة
الموصلة،
أو التي في حال الايصال؟ أقوال:
387

في مقالة صاحب المعالم:
نسب (1) إلى صاحب المعالم أنه قال: باشتراط وجوبها بإرادة ذي
المقدمة. ورد بأن المقدمة تابعة لصاحبها في الاطلاق والاشتراط،
فيلزم أن يشترط وجوب الشئ بإرادة وجوده، وهو واضح البطلان (2).
لكن عبارة المعالم خالية عن ذكر الاشتراط، بل نص في أن الوجوب
في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها (3)، وهو وإن
كان غير صحيح، لكن لم يكن بذلك الوضوح من الفساد.
نعم يرد عليه: أن حال إرادة ذي المقدمة غير دخيلة في ملاك وجوبها،
مع أنه حال إرادته لا معنى لايجاب مقدمته، لأنه يريدها لا محالة.
في مقالة الشيخ الأعظم في المقام:
ونسب (4) إلى الشيخ الأعظم: أن الواجب هو المقدمة بقصد التوصل
إلى ذي المقدمة.
وهذه النسبة غير صحيحة جدا، فإن كلامه من أوله إلى آخره يأبى عن

(1) مطارح الانظار: 72 / سطر 1 - 3.
(2) نفس المصدر السابق: 72 / سطر 5 - 6.
(3) معالم الدين: 74 / سطر 3 - 5.
(4) الأفكار 1: 181 - 182
388

ذلك (1)، بل يستشم من أول كلامه في رد توجيه كلام صاحب المعالم
إنه أنكر قيد قصد التوصل، بل مطلق القيود، وظاهر كلامه - في
خلال الرد على مقالة صاحب الفصول (2) - وجوب ذات المقدمة بما
هي مقدمة، حيث قال:
إن الحاكم بوجوب المقدمة - على القول به - هو العقل، وهو القاضي
فيما وقع من الاختلافات، ونحن بعد ما استقصينا التأمل لا نرى
للحكم بوجوب المقدمة وجها إلا من حيث إن عدمها يوجب عدم
المطلوب، وهذه الحيثية هي التي يشترك فيها جميع المقدمات. -
إلى أن
قال -: فملاك الطلب الغيري في المقدمة هذه الحيثية، وهي مما
يكفي في انتزاعها عن المقدمة ملاحظة ذات المقدمة (3).
ثم إن كلام المحقق المقرر وإن كان مشوشا، لكن لا يحتمل فيه ما
احتمله بعض المحققين من الاحتمالات الكثيرة (4)، بل محتمل كلامه
أمران - بعد الفراغ عن أن كلامه ليس في نفس الملازمة بين وجوب
ذي المقدمة وبين وجوبها، بل كلامه في وقوع المقدمة على صفة
الوجوب في الخارج -:
أحدهما: أن الامتثال بالواجب لا يحصل إلا بقصد التوصل إلى ذي
المقدمة، كما صرح به في خلال كلامه من تخصيص النزاع بما أريد
الامتثال بالمقدمة.

(1) انظر مطارح الانظار: 72 - 73.
(2) الفصول الغروية: 86 / سطر 12 - 24.
(3) مطارح الانظار: 75 - 76.
(4) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 385 - 387.
389

وقد برهن على ذلك: بأن الامتثال لا يمكن إلا أن يكون الداعي إلى
إيجاد الفعل هو الامر، ولما كان الامر لا يدعو إلا إلى متعلقه فلا بد
في الامتثال من قصد عنوان المأمور به، والمأمور به هاهنا هو المقدمة
بالحيثية التقييدية، لان الكاشف عن وجوب المقدمة هو العقل
بالملاك العقلي، والعقل يحكم بوجوب المقدمة من حيث هي
مقدمة، فلا بد من كشف الحكم الشرعي بذلك الملاك على الحيثية التقييدية،
ولما كان القصد بهذه الحيثية لا ينفك عن القصد بالتوصل إلى ذي
المقدمة - للزوم التفكيك للتناقض - فلا بد في امتثال أمر المقدمة من
قصد التوصل إلى صاحبها.
هذا، ولا يخفى أنه لا يرد على هذا الاحتمال شي مما وقع في كلام
بعض المحققين:
تارة: بإنكار رجوع الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية إلى
التقييدية (1)، وذلك لان إنكاره مستلزم لاسراء حكم العقل من
موضوعه
إلى غيره بلا ملاك، فإن الظلم - مثلا - إذا كان قبيحا عقلا، فوقع عمل
في الخارج معنونا بعنوان الظلم وعناوين اخر، فحكم العقل بقبحه
إذا لم يرجع إلى حيثية الظلم، فإما أن يرجع إلى حيثيات اخر، وهو كما
ترى، أو إلى الذات بعلية الظلم بحيث تكون الذات قبيحة، لا الظلم
وإن كان هو علة لقبحها، فهو - أيضا - فاسد وخلف، فإن الذات تكون
قبيحة بالعرض، فلا بد وأن يكون الظلم قبيحا بالذات، فيصير
الظلم موضوعا - بالحقيقة - للقبح، وهذا معنى

(1) نفس المصدر السابق 1: 387.
390

رجوع الحيثيات التعليلية إلى التقييدية.
وأخرى: بإنكار رجوعها إليها فيما كان الوجوب بحكم الشرع ولم يكن
للعقل دخل فيه إلا بنحو الكاشفية.
وفيه: أن العقل إذا كشف عن حكم بملاكه العقلي لا يمكن أن يكشف
أوسع أو أضيق من ملاكه، ولا في موضوع آخر غير حيثية الملاك، و
هذا واضح جدا.
والاحتمال الثاني - الذي يشعر به صدر كلامه ويظهر من ذيله -: أن
وقوع المقدمة على صفة الوجوب مطلقا يتوقف على قصد التوصل،
لكن لا تظهر الثمرة في غير العباديات إلا في المقدمات المحرمة، فمع
عدم قصد التوصل يبقى الفعل على حكمه السابق، فيحرم الدخول
في ملك الغير مع عدم قصد التوصل، وصريح كلامه أنه لا يختص
النزاع بالمقدمة المحرمة، لكن تظهر الثمرة في غير العباديات فيها (2).
وكيف كان يرد عليه: أن وقوع الفعل على صفة الوجوب في
التوصليات لا يتوقف على القصد، وإن كان الوقوع على صفة الامتثال
موقوفا عليه، فإذا كان غسل الثوب واجبا متعلقا لإرادة المولى، فغسله
بلا توجه إلى وجوبه وإن لم يعد امتثالا لامره، لكن يقع في
الخارج مصداق ما هو واجب ومتعلق إرادته، ولا نعني بالوقوع على
صفة الوجوب إلا ذلك

(1) المصدر السابق.
(2) مطارح الانظار: 72 - 73.
391

ثم إن قيدية قصد التوصل في وجوب المقدمة ممنوعة، أما كونه شرطا
للوجوب فواضح، وأما كونه قيدا للواجب، بحيث يكون قصد
التوصل - أيضا - متعلقا للبعث، ويكون الامر داعيا إلى المقدمة
بقصد التوصل إلى صاحبها، فهو وإن لم يكن محالا، لان القصد قابل
لتعلق البعث به كقيديته في العباديات، لكن قصد المكلف غير دخيل
في ملاك المقدمية قطعا، فتعلق الوجوب به يكون بلا ملاك، وهو ممتنع.
في مقالة صاحب الفصول:
وقد ذهب إلى أن الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة، وصرح
بأن الايصال قيد للواجب، لا شرط في الوجوب (1).
وقد أوردوا عليه بأمور:
منها: لزوم الدور، لان وجود ذي المقدمة يتوقف على وجود المقدمة،
وبناء على قيدية الايصال وجوب المقدمة يصير متوقفا على وجود صاحبها (2).
وفيه: أن وجود ذي المقدمة يتوقف على ذات المقدمة لا بقيد
الايصال، واتصافها بالموصلية يتوقف على وجود ذي المقدمة،
فالموقوف
غير الموقوف عليه.
وبعبارة أخرى: أن صاحب الفصول يدعي أن متعلق الوجوب أخص

(1) الفصول الغروية: 86 / سطر 12 - 18.
(2) فوائد الأصول 1: 290.
392

من الموقوف عليه، فلا تكون المقدمة بقيد الايصال موقوفا عليها، فلا
يرد الدور.
ومما ذكرنا يظهر النظر في تقرير شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه -
للدور:
بأن مناط وجوب المقدمة ليس إلا التوقف، فحينئذ يكون اعتبار قيد
الايصال لملاكه، فيلزم توقف كل من المقدمة وذيها على الاخر (1).
والجواب: أن مناط الوجوب ليس التوقف على مسلكه، بل التوصل
إلى ذي المقدمة، فمتعلقه أخص من التوقف، بل دعوى بداهة كون
المناط هو التوقف مساوقة لدعوى بداهة وجوب المقدمة المطلقة، و
هي تنافي ما ذهب إليه من وجوبها حال الايصال.
وأما تقرير الدور: بأنه يلزم بناء عليه أن يكون الواجب النفسي مقدمة
للمقدمة واجبا بوجوب ناشئ من وجوبها، وهو يستلزم الدور،
لان وجوب المقدمة ناشئ من وجوب ذي المقدمة، فلو ترشح
وجوب ذي المقدمة من وجوبها لزوم الدور (2).
ففيه ما لا يخفى: لان وجوب ذي المقدمة - الناشئ منه وجوب
المقدمة - لم ينشأ من وجوب المقدمة حتى يدور.
ومنها: لزوم التسلسل، بأن يقال: إن المقدمة الموصلة تنحل إلى ذات و
قيد، وفي كل منهما مناط الوجوب للتوقف، فعلى وجوب المقدمة الموصلة يجب

(1) درر الفوائد 1: 86.
(2) أجود التقريرات 1: 237 - 238.
393

أن تكون الذات بقيد الايصال واجبة، وقيد الايصال - أيضا - بقيد
الايصال واجبا، فيتقيد كل منهما بإيصال آخر، وهكذا.
وفيه: أن الواجب هو المقدمة بقيد هذا الايصال لا إيصال آخر، ولا
معنى لفرض إيصال زائد على الايصال، بل لا يتعقل إيصال آخر، لأنه
حقيقة لا يمكن تكررها، فالواجب هو المقدمة الموصلة بهذا الايصال،
وأما الايصال فلا يكون فيه ملاك المقدمية حتى يتقيد بإيصال آخر،
بل لا يمكن أن يكون للايصال إيصال.
وقد يقرر التسلسل: بأن المقدمة الموصلة تنحل إلى ذات وقيد،
فتكون الذات مقدمة لحصول المقدمة المقيدة، فلا بد من اعتبار قيد
الايصال فيها، وهكذا.
وفيه: أن الواجب هو المقدمة الموصلة إلى ذي المقدمة لا إلى
المقدمة، فالا (1) ت لم تكن واجبة بقيد الايصال إلى المقيد، بل واجبة
بقيد
الايصال إلى ذي المقدمة، وهو حاصل بلا قيد زائد.
ومنها: لزوم كون ذي المقدمة مقدمة لمقدمته، فيتعلق به الوجوب
الغيري، بل وجوبات غيرية بعدد المقدمات، بل يلزم أن يجب ذو
المقدمة الموصل إلى نفسه ولو بوسط، وهو أفحش (2).
وجوابه: أن القائل بهذه المقالة يقول: إن ما يتعلق به الوجوب الغيري

(1) فوائد الأصول 1: 290.
(2) درر الفوائد 1: 86، نهاية الأصول 1: 180.
394

هو المقدمة مع قيد الايصال إلى ذي المقدمة، فلا بد فيه من جهتين:
الأولى كونه موقوفا عليه، والثانية كونه موصلا إلى ذي المقدمة، و
نفس ذي المقدمة لا يكون موقوفا على نفسه، ولا يكون موصلا إلى
نفسه، فلا يتعلق به الوجوب الغيري، وتوقف وصف المقدمة على
وجوده لا يوجب تعلق الوجوب به.
ومنها: أن الايصال ليس أثر كل مقدمة، فلا بد من الالتزام إما
باختصاص الوجوب بالأسباب التوليدية، أو الالتزام بوجوب الإرادة، و
هو
التزام بالتسلسل.
والجواب: أن المراد بالايصال أعم من الايصال مع الواسطة، فالقدم
الأول بالنسبة إلى الحج قد يكون موصلا ولو مع الوسائط إليه، أي
يتعقبه الحج، وقد لا يكون كذلك، والواجب هو الأول.
وأما الاشكال بالإرادة ففيه:
أولا: أن الإرادة قابلة لتعلق الوجوب بها كما في الواجب التعبدي.
وثانيا: أن الاشكال فيها مشترك الورود، إذ بناء على وجوب المقدمة
المطلقة تكون الإرادة غير متعلقة للوجوب لو لزم منه التسلسل.
ومنها: أن الاتيان بالمقدمة بناء على وجوب الموصلة لا يوجب
سقوط الطلب منها إلا أن يترتب الواجب عليها، مع أن السقوط بالاتيان
واضح، فلا بد وأن يكون بالموافقة (1).

(1) الكفاية 1: 186.
395

وفيه: أن الامر غير ساقط بعد فرض تعلقه بالمقيد، وهو لا يتحقق إلا
بقيده كما في المركبات، فإن التحقيق فيها أن الامر بها لا يسقط إلا
بإتيان تمام المركب، وليس للاجزاء أمر أصلا، فبناء على المقدمة
الموصلة ليست ذات المقدمة متعلقة للامر، بل للمتقيدة أمر واحد لا
يسقط إلا بإتيان قيدها، فدعوى وضوح سقوطه في غير محلها.
في حال وجوب المقدمة حال الايصال:
قد تخلص شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - عن الاشكالات: بأن
الواجب هو المقدمات في لحاظ الايصال لا مقيدة به، فإذا تصور المولى
جميع المقدمات الملازمة لوجود المطلوب يريدها بذاتها، لأنها بهذه
الملاحظة لا تنفك عن المطلوب الأصلي، ولو لاحظ مقدمة منفكة عما
عداها لا يريدها جزما، فإن ذاتها وإن كانت موردا للإرادة، لكن لما
كانت المطلوبية في ظرف ملاحظة باقي المقدمات، لم يكن كل
واحدة منها مرادة بنحو الاطلاق، بحيث تسري الإرادة إلى حال
الانفكاك، وهذا موافق للوجدان من غير ورود إشكال عليه (1).
ومراده من لحاظ الايصال ليس دخالة اللحاظ فيه، بل كونه مرآة إلى ما
هو الواجب، فالواجب هو ذات المقدمات في حال ترتبها وعدم
انفكاكها عن ذي المقدمة، لا مطلقة ولا مقيدة، وإن لا تنطبق إلا على المقيدة.

(1) درر الفوائد 1: 86.
396

وقريب منه ما في تقريرات بعض أهل التحقيق: من أن الواجب هو
المقدمة في ظرف الايصال بنحو القضية الحينية، أي الحصة من
المقدمة
التوأمة مع وجوب سائر المقدمات الملازمة لوجود ذي المقدمة (1).
مناقشة العلمين: الحائري والعراقي:
ويرد على شيخنا العلامة: أن حال عدم انفكاك المقدمات عن
المطلوب إن لم تكن دخيلة في وجوب المقدمة يكن تعلق الوجوب
بها في
هذه الحالة من باب الاتفاق لا الدخالة، فلا يعقل رفع الوجوب عنها مع
زوال تلك الحالة، ولا توقف تعلقه عليها، لان تمام الموضوع
للوجوب إذا كان ذات المقدمة من غير دخالة شي آخر، فمع بقائها
على ما هي عليه لا يمكن انفكاك الحكم عنها.
وعلى المحقق المتقدم - مضافا إلى ذلك - أن الطبيعة لا يعقل أن
تصير حصة إلا بانضمام قيد إليها، ومعه تصير مقيدة، والتوأمية إذا
صارت موجبة لصيرورتها حصة خاصة، تصير قيدا لها، وهو يفر منه.
وغاية ما يمكن أن يوجه به كلامهما: أن المقدمة واجبة لغاية التوصل
إلى ذي المقدمة، فالموصلية من قبيل العلة الغائية لتعلق الوجوب
بالمقدمة، فلا يمكن أن تكون واجبة مطلقا، لان الوجوب إذا تعلق
بشي لغاية لا يعقل أن يسري إلى ما لا تترتب عليه تلك الغاية، للزوم
أن يكون التعلق بلا علة غائية ولا فاعلية، لان

(1) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 389.
397

الغاية علة فاعلية الفاعل، وكذا لا يمكن أن تكون المقدمة المقيدة
واجبة، لان الغاية متقدمة على ذي الغاية ماهية وتصورا، ومتأخرة عنه
وجودا وتحققا، وما يكون كذلك لا يمكن أن يصير قيدا لما لا يكون
في رتبته، للزوم التجافي عن المرتبة، فالواجب لا يكون مطلقا ولا
مقيدا وإن لا ينطبق (إلا) على المقيد.
وعليه يمكن تصوير الحصة - أيضا - بتبع تعلق الوجوب المعلول لعلة
خاصة.
وفيه: أن الوجوب هاهنا مستكشف من حكم العقل، ولا يمكن تخلفه
عما هو مناطه في نظره، ضرورة أن العقل إذا أدرك حيثية تكون
تمام المناط لتعلق حكم مولوي يكشف (عن كون) الحكم متعلقا
بتلك الحيثية من غير دخالة شي آخر جز للموضوع أو تمامه.
فحينئذ نقول: إن وجوب المقدمة إذا كان لأجل التوصل إلى ذي
المقدمة، تكون تلك الحيثية - أي التوصل إلى ذي المقدمة - تمام
الموضوع لمناط حكم العقل، فيكشف (عن ثبوت) الحكم على
المقدمة بهذه الحيثية لا غيرها، فاللازم هو وجوب المقدمة المتحيثة
بها من
حيث هي كذلك، ولا يمكن أن تصير تلك الحيثية علة لسراية الحكم
إلى غيرها.
نعم يمكن تعلق بعث مولوي بشي لأجل غاية، بحيث يكون البعث
متوجها إلى عنوان تترتب عليه الغاية، لكن الكلام في الوجوب
المنكشف بحكم العقل، ولا يمكن كشف العقل (عن ثبوت) حكم
على غير ما هو المناط ذاتا، فتكون الأحكام الشرعية متعلقة بالعناوين
لأجل المصالح والمفاسد،
398

لا يكون نقضا على ما ذكرنا لو أعطي التدبر حقه.
مناقشة المحقق الأصفهاني:
ومما ذكرنا يظهر النظر في كلام بعض أهل التدقيق في تعليقته على
الكفاية، فإنه لأجل الفرار عن الاشكالات المتقدمة على المقدمة
الموصلة وجه كلام القائل بها:
تارة: بأن الغرض الأصيل حيث يترتب على وجود المعلول، فالغرض
التبعي من أجزأ علته هو ترتب وجوده على وجودها إذا وقعت على
ما هي عليه من اتصاف السبب بالسببية والشرط بالشرطية، فوقوع كل
مقدمة على صفة المقدمية الفعلية ملازم لوقوع الأخرى على تلك
الصفة ووقوع ذيها في الخارج، فالواجب هو المقدمة الفعلية التي لا
تنفك عن ذيها.
وأخرى: بأن متعلق الغرض التبعي هو العلة التامة، حيث إنها محصلة
لغرضه الأصيل، لا كل ما له دخل وإن لم يكن محصلا له، وإنما
تعلقت بالعلة التامة إرادة واحدة لوحدة الغرض، وهو حصول ذيها.
ويرد عليهما: أن الغاية لوجوب المقدمة إذا كانت التوصل إلى ذيها،
يكون المتعلق بالذات للإرادة هو المقدمة بهذه الحيثية لا بحيثيات
اخر، فالسبب الفعلي بما هو كذلك لا تتعلق به الإرادة بهذه الحيثية بل
بحيثية الموصلية، وكون حيثية فعلية السبب ملازمة للمطلوب
خارجا لا يوجب أن

(1) نهاية الدراية 1: 205 - 206.
399

تكون مطلوبة بالذات، وكذا الحال في العلة التامة وسائر العناوين و
الحيثيات الملازمة للمطلوب بالذات.
والعجب منه حيث اعترف أن الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية
كلها ترجع إلى التقييدية، وأن الغايات عناوين للموضوعات (1)، ومع
ذلك ذهب إلى ما ذكر وارتضاه.
ويرد على ثانيهما: - مضافا إلى ما تقدم - أن العلة التامة إذا كانت
مركبة من شرط ومعد وسبب وعدم مانع مما لا يكون بينها جامع
ذاتي، ولا تكون من قبيل التوليديات لا تتعلق بها إرادة واحدة، ومع
أن العقل إذا فصل بينها ورأى أن في كل منها مناط الوجوب و
التوصل إلى ذي المقدمة، فلا محالة تتعلق إرادته به، فلا معنى لتعلق
إرادة واحدة بالمجموع بعد كون المناط في كل منها، وشأن العقل
تفصيل الأمور وتحليلها، لا رؤية المجموع وإهمال الحيثيات.
ولعمري: إن توهم ورود الاشكالات ألجأهم إلى تلك التكلفات.
في الدليل العقلي على المقدمة الموصلة:
ثم إن صاحب الفصول استدل على مذهبه بأمور، عمدتها هو ما ذكره
أخيرا من الوجه العقلي: وهو أن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل
بها إلى الواجب وحصوله، فلا جرم يكون التوصل بها إليه وحصوله معتبرا

(1) نهاية الدراية 1: 204 / سطر 11 - 12.
400

في مطلوبيتها (1).
ومقصوده بتوضيح منا يرجع إلى مقدمتين:
إحداهما: أن ملاك مطلوبية المقدمة ليس مجرد التوقف، بل ملاكها هو
حيثية التوصل بها إلى ذي المقدمة، فذات المقدمة وحيثية توقف
ذي المقدمة عليها لا تكونان مطلوبتين بالذات، وهذه مقدمة وجدانية
يرى كل أحد من نفسه أن المطلوبية الغيرية إنما هي لأجل الوصول
إليه، بل لو فرض انفكاك التوقف عن التوصل خارجا كان المطلوب هو
الثاني لا الأول.
وثانيتهما: أن الغايات عناوين الموضوعات في الأحكام العقلية، و
الجهات التعليلية فيها ترجع إلى التقييدية، وهذه مقدمة برهانية كما
تقدم بيانها (2).
ونتيجتهما وجوب المقدمة الموصلة.
وبما ذكرنا يدفع الاشكال الذي أورده المحقق الخراساني على كلتا
المقدمتين (3).
فتحصل مما مر: أن التحقيق وجوب المقدمة الموصلة على فرض
وجوب المقدمة.

(1) الفصول الغروية: 84 / سطر 18 - 19 و 86 / سطر 12 - 24.
(2) وذلك في صفحة: 390.
(3) الكفاية 1: 188 - 191.
401

في ثمرة القول بالمقدمة الموصلة:
بقي شي: وهو أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة تصحيح العبادة التي
يتوقف على تركها فعل الواجب، بناء على كون ترك الضد مقدمة
لفعل ضده، فإن نقيض الترك الموصل ترك هذا الترك، وهو مقارن
لفعل الضد، ومجرد المقارنة لا يوجب سراية الحكم إلى مقارنه.
وبعبارة أخرى: أن نقيض ترك الصلاة هو فعل الصلاة، لان النقيضين
هما المتقابلان إيجابا وسلبا، أو نقيض الشئ رفعه، أو كونه
مرفوعا به، فإذا وجب الترك حرمت الصلاة، فتصير باطلة.
وأما نقيض الترك الموصل فلا يمكن أن يكون الفعل والترك المجرد،
لان نقيض الواحد واحد، وإلا لزم إمكان اجتماع النقيضين و
ارتفاعهما، فلا محالة يكون نقيض الترك الموصل ترك هذا الترك
المقيد، وهو منطبق على الفعل بالعرض، لعدم إمكان انطباقه عليه
ذاتا للزوم كون الحيثية الوجودية عين الحيثية العدمية، والانطباق
العرضي لا يوجب سراية الحرمة، فتقع صحيحة.
مناقشة العلمين: الأنصاري والخراساني:
وبما ذكرنا يدفع ما أورد عليه: بأن فعل الضد لازم لما هو من أفراد
النقيض، فإن نقيض الترك الخاص رفعه وهو أعم من الفعل و
الترك الاخر المجرد، وهذا
402

يكفي في إثبات الحرمة (1).
وجه الدفع: أن رفع الترك الخاص لا يمكن أن ينطبق عليه ذاتا، فلا
يكون الفعل مصداقا ذاتيا له، والانطباق العرضي لا يكفي في الحرمة،
وسيأتي الاشكال في الانطباق العرضي أيضا.
وأما ما أورد عليه المحقق الخراساني: بأن الفعل وإن لم يكن عين ما
يناقض الترك المطلق مفهوما، لكنه متحد معه عينا وخارجا،
فيعانده وينافيه، وأما الفعل في الترك الموصل فلا يكون إلا مقارنا لما
هو النقيض من رفع الترك المجامع له أحيانا بنحو المقارنة، و
مثله لا يوجب السراية (2).
ففيه أولا: أن الفعل عين النقيض في الترك المطلق، فإن بينهما تقابل
الايجاب والسلب.
وثانيا: لو قلنا بأن نقيض الترك رفعه، فلا يمكن أن يتحد مع الفعل
خارجا اتحادا ذاتيا، فلو كفى الاتحاد الغير الذاتي في سراية الحكم
يكون متحققا في الترك الموصل بالنسبة إلى الفعل، فإنه - أيضا -
منطبق عليه بالعرض.
وقوله: إنه من قبيل المقارن المجامع له أحيانا.
مدفوع: بأن الفعل مصداق الترك الموصل ومنطبق عليه دائما من غير
انفكاك بينهما، نعم قد لا يكون المصداق متحققا، وعدم الانطباق
بعدم الموضوع لا يوجب المقارنة، ضرورة أن العناوين لا تنطبق على مصاديقها

(1) مطارح الانظار: 78 / سطر 27 - 28.
(2) الكفاية 1: 193 - 194.
403

الذاتية - أيضا - حال عدمها.
مناقشة الأصفهاني في تفسيره للمقدمة الموصلة:
وقد يقال (1): إن المراد بالمقدمة الموصلة: إما العلة التامة، وإما
المقدمة التي لا تنفك عن ذيها.
فعلى الأول: تكون المقدمة الموصلة (للإزالة) ترك الصلاة ووجود
الإرادة، ونقيض المجموع من الامرين مجموع النقيضين، وإلا فليس
لهما معا نقيض، لان المجموع ليس موجودا على حدة حتى يكون له
نقيض، فحينئذ يكون نقيض ترك الصلاة فعلها، ونقيض إرادة ذي
المقدمة عدمها، فإذا وجب مجموع العينين بوجوب واحد حرم
مجموع النقيضين بحرمة واحدة، ومن الواضح تحقق مجموع الفعل و
عدم
الإرادة عند إيجاد الصلاة.
وعلى الثاني: فالمقدمة هو الترك الخاص، وحيث إن الخصوصية
ثبوتية فالترك الخاص لا رفع لشئ ولا مرفوع بشي، فلا نقيض له
بما هو، بل نقيض الترك هو الفعل، ونقيض الخصوصية عدمها،
فيكون الفعل محرما لوجوب نقيضه، ومن الواضح أن الفعل مقترن
بنقيض الخصوصية المأخوذة في طرف الترك. انتهى.
وفيه: بعد الغض عما مر من الاشكال في كون الواجب هو العلة التامة،

(1) نهاية الدراية 1: 210 / سطر 9 - 24.
404

أو المقدمة الفعلية الغير المنفكة - أن العلة التامة إذا كانت متعلقة
للإرادة الواحدة، فلا محالة تكون ملحوظة في مقام الموضوعية بنعت
الوحدة، وإلا فالمتكثر بما هو كذلك لا يمكن أن تتعلق به إرادة
واحدة، لان تشخص الإرادة بالمراد وتكثرها تابع لتكثره، فالموضوع
للحكم إذا كان واحدا يكون نقيضه رفعه، وهو رفع الواحد الاعتباري
في المقام، لا فعل الصلاة وعدم الإرادة، ضرورة أن نقيض كل
شي رفعه، أو كونه مرفوعا به، والصلاة لم تكن رفع هذا الواحد
الاعتباري ولا مرفوعة به:
أما عدم كونها رفعا فواضح، وأما عدم كونها مرفوعة به فلان أمر
وجودي لا يمكن أن يكون رفعا، فرفعه عدمه المنطبق على الصلاة
عرضيا، وعلى الترك المجرد.
وكذا الحال في المقدمة الخاصة - أي الترك الغير المنفك - فإنه في
مقام الموضوعية للإرادة الواحدة غير متكثر، وعدم هذا الواحد
نقيضه، والمفردات في مقام الموضوعية غير ملحوظة حتى تلاحظ
نقائضها، نعم مع قطع النظر عن الوحدة الاعتبارية العارضة للموضوع
يكون نقيض الترك هو الفعل، ونقيض الخصوصية عدمها، ولم يكن
للخاص - بما هو - وجود حتى يكون له رفع، وكذا المجموع في
الفرض الأول، فالخلط إنما هو من أجل إهمال الحيثيات والوحدة
الاعتبارية اللاحقة لموضوع الحكم الذي هو محط البحث.
وبما ذكرنا يتضح الاشكال في كلام بعض المحققين - على ما في
تقريرات
405

بحثه (1) - مع بعض الإضافات، تركناها مخافة التطويل.
ومنها تقسيمه إلى الأصلي والتبعي:
والظاهر أن هذا التقسيم بحسب مقام الاثبات ولحاظ الخطاب، وهو
تقسيم معقول في مقابل سائر التقسيمات، وإن لا يترتب عليه أثر
مرغوب فيه.
والمحقق الخراساني (2) أرجعه إلى مقام الثبوت: بأن الشئ إذا كان
متعلقا للإرادة والطلب مستقلا - للالتفات إليه بما هو عليه مما يوجب
طلبه، سوأ كان طلبه نفسيا أو غيريا - يكون الطلب أصليا، وإذا كان
متعلقا لها تبعا لإرادة غيره لأجل كون إرادته لازمة لإرادته من
دون التفات إليه بما يوجب إرادته يكون تبعيا.
ولما (3) ورد عليه: أن الاستقلال إن كان بمعنى الالتفات التفصيلي
يكون في مقابله الاجمال والارتكاز، لا عدم الاستقلال بمعنى التبعية،
فيكون الواجب النفسي - أيضا - تارة مستقلا، وتارة غير مستقل، مع
أنه لا شبهة في أن إرادته أصلية لا تبعية، وإن كان بمعنى عدم
التبعية فلا يكون الواجب الغيري مستقلا، سوأ التفت إليه تفصيلا أولا.

(1) نهاية الأفكار 1: 340 - 342.
2) الكفاية 1: 194.
(3) الجار والمجرور (لما) متعلقلن بقوله بعد أسطر: (تشبث بعض
محققي المحشين)، أي لأجل ما ورد من الاشكال تشبت.
406

تشبث بعض محققي المحشين للتقسيم في مقام الثبوت في مقابل
الواجب النفسي والغيري: بأن للواجب - وجودا ووجوبا - بالنسبة
إلى
مقدمته جهتين من العلية:
إحداهما: العلية الغائية، حيث إن المقدمة إنما تراد لمراد آخر، دون
ذي المقدمة.
والثانية: العلية الفاعلية، وهي أن إرادة ذي المقدمة علة لإرادة
مقدمته، ومنها تنشأ وتترشح عليها الإرادة.
والجهة الأولى مناط الغيرية، والجهة الثانية مناط التبعية (1).
وأنت خبير بما فيه من التكلف، مع أن الإرادة المتعلقة بذي المقدمة
ليست علة فاعلية لإرادة المقدمة، بحيث تنشأ منها، وإلا لصارت
متحققة من غير لزوم مقدمات اخر: من التصور، والتصديق بالفائدة، و
سائر المبادئ، ولا شبهة في أن الإرادة لا تتعلق بها إلا مع هذه
المبادئ كما يحتاج إليها ذو المقدمة بلا افتراق بينهما من هذه الجهة، و
سيأتي مزيد بيان لهذا، فالجهة الثانية مما لا أصل لها حتى يكون
التقسيم بلحاظها، بل كلامه لا يخلو من تهافت.
ثم إنه لا أصل لتنقيح الأصلية والتبعية، سوأ كانتا وجوديتين أو
عدميتين أو مختلفتين، وسواء قلنا بأن المناط في التقسيم هو ما ذكره

(1) نهاية الدراية 1: 212 / سطر 1 - 5.
407

المحقق الخراساني (1) أو المحقق المحشي (2) أو غيره، لأن عدم
تفصيلية القصد والإرادة لاحراز التبعية، وعدم ترشح الإرادة من إرادة
أخرى لاحراز الأصلية، إنما هي من قبيل الموجبات المعدولة أو
الموجبة السالبة المحمول، وفي مثلها لا يجري الأصل كما في أصالة
عدم
القرشية، والتفصيل موكول إلى محله.
تتميم: في ثمرة بحث المقدمة:
الحق: أنه لا ثمرة في هذه المسألة، لان الوجوب المقدمي - على
فرضه - وعدمه سوأ، لأنه وجوب غير قابل للباعثية، ولا يترتب عليه
ثواب وعقاب، ولزوم الاتيان بالمقدمة عقلي، كانت واجبة أو لم تكن،
والثمرات التي ذكروها (3) ليست ثمرة في المسألة الأصولية.
وأما ما ذكره بعض محققي العصر (4) - بعد الاعتراف بأن وجوب
المقدمة ليس بنفسه ثمرة عملية -: من أنه يمكن تحقق الثمرة بتطبيق
كبريات اخر عليها، فإنه على فرض الوجوب يمكن تحقق التقرب
بقصد أمرها، كما يمكن التقرب بقصد التوصل بها إلى ذي المقدمة،
فيتسع بذلك نطاق التقرب بها، وأيضا إذا أمر شخص بما له مقدمات -
كبناء البيت - فأتى بالمقدمات

(1) الكفاية 1: 194.
(2) نهاية الدراية 1: 211 / سطر 21 - 27.
(3) الفصول الغروية: 87 - 88، مطارح الانظار: 80 - 81.
(4) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 397.
408

المأمور بها ولم يأت بذي المقدمة، فعلى فرض تعلق الامر بها يكون
ضامنا للمأمور أجرة المقدمات المأمور بها.
ففيه: أن الامر الغيري - على ما سبق - غير صالح للباعثية والاطاعة،
لان المكلف إن كان مريدا لاتيان ذي المقدمة، ويكون أمره باعثا
له، فلا محالة تتعلق إرادته بمقدماته، فيكون البعث التبعي غير صالح
للباعثية، ومع عدم باعثية أمر ذي المقدمة لا يمكن أن يكون أمر
المقدمة الداعي إلى التوصل به باعثا، ومعه لا يمكن التقرب به،
مضافا إلى أنه على فرض باعثيته غير قربي، كما مر.
وبما ذكرنا يظهر ما في الثمرة الثانية، لأن الضمان الآتي من قبل الامر
فرع إطاعته، وإلا فلو أتى بمتعلق الامر بلا باعثية له لم يستحق
شيئا كما لو كان جاهلا بأمره، فمع عدم صلوح الامر المقدمي للباعثية
لا يوجب الضمان.
هذا، مع أن مبنى المستدل وجوب المقدمة الملازمة لوجود ذي
المقدمة، وهو ينافي ما ذكره هاهنا. اللهم إلا أن يكون المفروض بعد
تسليم وجوب المقدمة المطلقة. نعم لو كان لهذا وجه صحة كان ثمرة
بين المقدمة المطلقة والموصولة.
هذا كله مضافا إلى كون ما ذكر ثمرة للمسألة الأصولية ممنوعا.
ثم إنه لا أصل في المسألة: أما بالنسبة إلى الملازمة، فلانها وإن كانت
بين إرادة ذي المقدمة وبين إرادة ما يرى مقدمة - لا بنحو لازم
الماهية أو لازم الوجود، بمعنى المعلولية والعلية - لكن ليس لها حالة
سابقة معلومة، بل لو
409

كانت معلومة بنحو الليس الناقص لما جرى الأصل، لعدم ترتب حكم
عليها بلا توسط أمر عقلي، لان الملازمة لم تكن موضوعة لحكم
شرعي، بل العقل يحكم بعدم الوجوب على فرض عدم الملازمة، و
بتحققه على فرض تحققها.
وأما الأصل الحكمي، فلان جريانه فرع الأثر الشرعي، وقد عرفت أنه
لا أثر لهذا الوجوب ولا نفيه.
وأما الاشكال: بأن جريانه مستلزم للتفكيك بين المتلازمين، لكونه من
قبيل لوازم الماهية أو الوجود (1)
ففيه: - مع ما في دعوى كونه من قبيلهما - أنه لا يلزم التفكيك
الواقعي، والظاهري منه لا إشكال فيه. مع أنه لو سلم يلزم احتمال
التفكيك، وهو لا يمنع جريان الأصل، لعدم جواز رفع اليد عن الأدلة
الشرعية بمجرد احتمال الامتناع.
إذا عرفت ما تقدم فالتحقيق: عدم وجوب المقدمة وعدم الملازمة
بين الإرادتين، ولا بين البعثين:
أما الثاني: فأوضح من أن يخفى، لان الهيئات الدالة على البعث لا
يمكن أن تبعث إلا إلى متعلقاتها، وهي الواجبات النفسية، وكون
البعث
إلى المقدمات من قبيل لوازم الماهيات ضروري الفساد، وكونه علة
للبعث إليها - بحيث يكون نفس البعث، أي الهيئة بما لها من المعنى،
علة فاعلية لبعث المولى بالنسبة إلى المقدمات، بحيث يكون مؤثرا
قهرا في المولى -

(1) نهاية الأصول 1: 181 - 182.
410

أوضح بطلانا.
ودعوى لا بدية البعث إلى المقدمات بعد العلم بمقدميتها (1) كما ترى،
ضرورة عدم البعث إلى المقدمات من الموالي غالبا، مع أن البعث
إلى المقدمة لغو، وما يرى وقوعه: إما إرشاد إلى الشرطية كالوضوء والغسل،
وإما بعث إلى ذي المقدمة بنحو الكناية تأكيدا، أو إرشاد
إلى حكم العقل كالأمر بإطاعة الله.
وأما بين الإرادتين: فكون إرادة المقدمة من قبيل لازم الماهية ضروري
الفساد، لان لوازمها اعتبارية، وكونها معلولة لها، بمعنى كون
إرادة ذي المقدمة علة فاعلية لارادتها من غير احتياج إلى مباد أخر،
كالتصور والتصديق بالفائدة وغيرهما، فهو - أيضا - مثله في
وضوح الفساد، وكفاية صرف تصور المقدمية أو هو مع التصديق
بكونها مقدمة من غير التصديق بالفائدة، خلاف الوجدان، فتعلق
الإرادة بها كتعلقها بسائر المرادات من الاحتياج إلى المبادئ و
الغايات.
فحينئذ نقول: إن غاية تعلق الإرادة المولوية بها هو التوصل إلى ذي
المقدمة، وبعد إرادة ذي المقدمة والبعث نحوه، لما رأى المولى أن
إرادة المقدمات مما لا فائدة لها، ولا يمكن أن تكون تلك الإرادة
مؤثرة في العبد ولو بعد إظهارها، وبعد البعث نحو (ذي) المقدمة -
كما سنشير إليه - يكون تعلقها بها لغوا بلا غاية، وفي مثله لا يعقل تعلقها.

(1) نهاية الأفكار 1: 352.
411

وما قيل: من أن التعلق قهري لا يحتاج إلى الغاية (1)، في غاية السقوط،
كما تقدم.
كما أن ما قيل: - من أن الإرادة التشريعية تابعة للتكوينية إمكانا و
امتناعا، ووجودا وعدما، فكل ما يكون موردا للإرادة التكوينية عند
تحققها من نفس المريد، يكون موردا للتشريعية عند صدورها من غير
المريد (2) - مما لا برهان عليه، بل البرهان على خلافه، لان
المريد لإيجاد الفعل لما رأى توقفه على المقدمة، فلا محالة يكون
جميع مبادئ إرادة المقدمة موجودة في نفسه، من التصور، والتصديق
بالفائدة، والاشتياق التبعي في بعض الأحيان، والغاية هي التوصل
إلى ذي المقدمة.
وأما الإرادة التشريعية، فليست إلا إرادة البعث إلى الشئ، وأما إرادة
نفس عمل الغير فغير معقولة، لان عمل كل أحد متعلق إرادة نفسه
لا غيره.
نعم يمكن اشتياق صدور عمل من الغير، لكن قد عرفت مرارا أن
الاشتياق غير الإرادة التي هي تصميم العزم على الايجاد، وهذا مما لا
يتصور تعلقه بفعل الغير.
فإرادة البعث لا بد لها من مباد موجودة في نفس المولى، (وهي)
بالنسبة إلى ذي المقدمة موجودة، لان غاية البعث هو التوصل إلى
المبعوث إليه ولو إمكانا وهو حاصل.

(1) فوائد الأصول 1: 284 - 285.
(2) أجود التقريرات 1: 230.
412

وأما إرادة البعث إلى المقدمات فمما لا فائدة لها ولا غاية، لان البعث
إلى ذي المقدمة إن كان مؤثرا في نفس العبد، فلا يمكن انبعاث
فوق الانبعاث، وإلا فلا يمكن أن يكون البعث الغيري موجبا لانبعاثه
مع كونه لنفس التوصل إلى ذي المقدمة، ومع عدم ترتب أثر عليه
من الثواب والعقاب، فحينئذ تكون إرادة البعث من دون تمامية
المبادئ من قبيل وجود المعلول بلا علة تامة. نعم، يمكن تعلقها بها
إرشادا، أو لتأكيد ذي المقدمة كناية.
هذا، مع أن الضرورة قاضية بعدم إرادة البعث نحو المقدمات، لعدم
تحقق البعث في غالب الموارد، فيلزم تفكيك الإرادة عن معلولها،
فإرادة البعث غير حاصلة.
والتأمل الصادق فيما ذكرنا يوجب التصديق به، والمظنون أن كل ما
صدر عن الأعاظم (1) من دعوى الوجدان والبرهان نشأ من قياس
الإرادة التشريعية بالإرادة الفاعلية، كما تقدم التصريح به من بعضهم (2).
وأما ما نقل (3) عن أبي الحسن البصري (1) فلا يستأهل الجواب، مضافا

(1) مطارح الانظار: 83 / سطر 18 - 20، الكفاية 1: 200.
(2) أجود التقريرات 1: 230 - 231.
(3) مطارح الانظار: 83 / السطر الأخير، الكفاية 1: 201.
(4) هكذا ورد في المخطوطة وفي الكفاية، وأبو الحسن البصري ليس
له كتاب معروف في أصول الفقه، لكن هناك أبو الحسين
البصري، له كتاب (المعتمد في الأصول) وهو كتاب متداول، لذا
يرجع في النظر أن ما في الكناية تصحيف، والصحيح: أبو الحسين
البصري.
ويدعم رأينا هذا ما ورد في مطارح الانظار: 83 - السطر الأخير.
وأبو الحسن البصري: هو علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري
البصري. ينتسب إلى أبي موسى الأشعري. له في الكلام مذهب
مشهور
يعرف بالمذهب الأشعري. توفي في عام (324 ه)، ودفن بين الكرخ
وباب البصرة ببغداد.
انظر البداية والنهاية 11: 187، تاريخ بغداد 11: 346، وفيات الأعيان
3: 284.
وأما أبو الحسين البصري: فهو محمد بن علي بن الطيب البصري،
المتكلم، شيخ المعتزلة، انتقل إلى بغداد، ودرس فيها علم الكلام
حتى
وفاته عام (436 ه).
انظر تاريخ بغداد 3: 100، شذرات الذهب 3: 529، وفيات الأعيان 4:
609.
413

إلى أنه منقوض بالمتلازمين، لان برهانه آت فيهما، مع أن تعلق الإرادة
بملازم ما فيه المصلحة مع خلوه عنها مما لا يعقل، للزوم تعلقها بلا
ملاك وهو ممتنع.
وأما التفصيل بين السبب وغيره (1) فليس تفصيلا.
وأما بين الشرط الشرعي وغيره فقد استدل على الوجوب فيه: بأنه لولا
وجوبه شرعا لما كان شرطا، حيث إنه ليس مما لا بد منه عقلا
أو عادة (2).
ففيه: أنه إن أريد مما ذكر توقف الشرطية ثبوتا على الامر الغيري، فهو
دور واضح.
وإن أريد أنه لولا وجوبه لم يكن في مقام الاثبات دليل عليها، فالعلم
بالشرطية يتوقف على الوجوب الغيري.
ففيه: أن الوجوب التبعي الغيري - بما هو محل البحث في المقام - لا
يمكن أن يكون كاشفا عن الشرطية، لان الملازمة الواقعية بين
الإرادتين بنحو الكبرى الكلية لا يمكن أن تكون كاشفة عن الصغرى، وكذا بين البعث

(1) ذكر شهرة نسبته إلى السيد المرتضى - ولم يرتضها - في المعالم: 57 / سطر 3 - 5.
(2) الكفاية 1: 203.
414

إلى ذي المقدمة والبعث التبعي إلى مقدمته، فلا بد للكشف عن
الشرطية من دليل: إما بعث نفسي إلى ذي المقدمة مقيدا بالشرط،
كقوله:
(صل متطهرا)، أو بعث إرشادي إلى المقدمة، كقوله: إذا قمتم إلى
الصلاة فاغسلوا وجوهكم (1). إلخ، وبعد هذا الكشف تكون المقدمة
عقلية لا شرعية.
في مقدمة الحرام:
ومما ذكرنا من البرهان على عدم وجوب مقدمة الواجب يظهر حال
مقدمة الحرام، وأنها ليست بحرام، كانت من التوليديات أولا.
وقد فصل المحقق الخراساني بينهما، فاختار الحرمة في التوليديات -
لعدم توسط الاختيار بينهما وبين الفعل - دون غيرها لتوسطه،
فيكون المكلف متمكنا من ترك الحرام بعد حصوله، كما كان متمكنا
قبله، فلا ملاك لتعلق الحرمة بها، وأما الاختيار فلا يمكن أن يتعلق
به التكليف، للزوم التسلسل (2).
وفيه: أن النفس لما كانت فاعلة بالآلة في العالم الطبيعي، لا يمكن أن
تكون إرادتها بالنسبة إلى الافعال الخارجية المادية جز أخيرا
للعلة، بحيث لا يتوسط بينها وبين الفعل الخارجي شي حتى من
آلاتها، وتكون النفس خلاقة

(1) المائدة: 6.
(2) الكفاية 1: 203 - 205.
415

بالإرادة، بل هي مؤثرة في الآلات والعضلات بالقبض والبسط، حتى
تحصل الحركات العضوية، وترتبط بواسطتها بالخارج، وتتحقق
الافعال الخارجية.
مثلا: إذا أمر المولى بشرب الماء، فالشرب عبارة عن بلع الماء وإدخاله
في الباطن بتوسط الحلقوم، ولم يحصل هذا العنوان بمجرد
الإرادة، بل تتوسط بينه وبينها حركات العضلات المربوطة بهذا
العمل، وهي أمور اختيارية للنفس وتوليدية للشرب، فالمتوسط بينها
وبين الشرب والضرب والمشي والقيام وهكذا، تحريكات اختيارية
وأفعال إرادية قابلة لتعلق التكليف بها، فالمشي - مثلا - لا يتحقق
بنفس الإرادة، بحيث تكون هي مبدأ خلاقا له بلا توسط الآلات و
حركاتها وتحريك النفس إياها بتوسط القوى المنبثة التي تحت
اختيارها. نعم لا يتوسط بين الإرادة والمظاهر الأولية لنفس في عالم
الطبيعة متوسط.
وما ذكره رحمه الله: وإن يصح بنظر العرف، لكن المسألة لما كانت
عقلية لا بد فيها من الدقة وتحصيل المقدمات والمتوسطات بين
الإرادة والافعال.
فتحصل مما ذكرنا: أن التفصيل الذي ذكره غير مرضي.
ومما ذكرنا: يظهر النظر فيما أفاده شيخنا العلامة (1) - أعلى الله مقامه -
حيث فصل بين ما هو محرم بعنوانه من غير تقييده بالاختيار
فتحرم مقدمته، وبين ما هو مبغوض إذا صدر عن إرادة واختيار فلا تحرم المقدمات

(1) درر الفوائد 1: 98 - 99.
416

الخارجية، لان الإرادة على الثاني تكون من أجزأ العلة، فلا تتصف
الأجزاء الخارجية بالحرمة، لعدم صحة استناد الترك إلا إلى عدم
الإرادة، لأنه أسبق رتبة من سائر المقدمات الخارجية، لما عرفت من
أن إرادة الفعل ليست جز أخيرا للعلة، بل الجز الأخير فعل
اختياري للنفس، وهو بمنزلة الفعل التوليدي.
فإذا حرم الشرب العمدي الارادي يتوقف تحققه على الشرب و
الإرادة المتعلقة به، فإذا أراد الشرب يتحقق جز من الموضوع، و
جزؤه
الاخر يتوقف على أفعال اختيارية، منها تحريك عضلات الحلقوم و
قبضها حتى يتحقق الازدراد، والجز الأخير لتحقق الموضوع هو هذا
الفعل الاختياري، فتتعين الحرمة فيه بعد تحقق سائر المقدمات
المتقدمة عليه.
وأما قضية استناد الترك إلى عدم إرادة الفعل، فصحيحة في الأفعال الاختيارية
، لكن الكلام في مقدمات وجوب المبغوض، وأن الإرادة
التشريعية إذا تعلقت بالزجر عنه فهل تتعلق إرادة بالزجر عن
المقدمات الخارجية أم لا؟ ومع كون بعض المقدمات الخارجية
متوسطا
بين إرادة الفعل وتحققه الخارجي - وهو من الأفعال الاختيارية
للنفس - فلا محالة على الملازمة يصير مبغوضا بعد تحقق سائر
المقدمات.
ثم إنه بناء على الملازمة هل يحرم جميع المقدمات، كما تجب جميع
مقدمات الواجب، أو يحرم الجز الأخير إذا كانت أجزأ العلة مترتبة،
وأحد الاجزا إذا كانت عرضية؟
417

التحقيق: هو الثاني، لمساعدة الوجدان عليه، ولان الزجر عن الفعل
مستلزم للزجر عما يخرج الفعل من العدم إلى الوجود، لا عن كل ما
هو دخيل في تحققه، لان وجود سائر المقدمات وعدمها سوأ في
بقاء المبغوض على عدمه، والمبغوض هو انتقاض العدم بالوجود، و
ما
هو سبب لذلك هو الجز الأخير في المترتبات، بمعنى أن وجود سائر الأجزاء
مع عدم هذا الجز لا يوجب انتقاض العدم وتحقق
المبغوض، فلا ملاك لمبغوضيتها، وفي غير المترتبات يكون
المجموع كذلك، وعدمه بعدم جز منه، وقياس مقدمات الحرام
بالواجب
مع الفارق.
وما في تقريرات بعض محققي العصر: من أن مقوم الحرمة هو
مبغوضية الوجود، كما أن مقوم الوجوب محبوبيته، ومقتضاه سراية
البغض إلى علة الفعل المبغوض، فيكون كل جز من أجزأ العلة -
التوأم مع وجود سائر الأجزاء بنحو القضية الحينية - مبغوضا بالبغض
التبعي، وحراما بالحرمة الغيرية (1).
ففيه: - مضافا إلى أن المبغوضية لا يمكن أن تكون مقومة للحرمة، ولا
المحبوبية للوجوب، لأنهما في الرتبة السابقة على الإرادة المتقدمة
على البعث والزجر المنتزع منهما الوجوب والحرمة - أن مبغوضية
الفعل لا يمكن أن تكون منشأ لمبغوضية جميع المقدمات، لعدم
المناط فيها على نحو العام الاستغراقي، لان البغض لشئ يسري إلى
ما هو محقق وجوده وناقض عدمه،

(1) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 403.
418

وغير الجز الأخير من العلة أو مجموع الاجزاء في المركب الغير
المترتب، لا ينقض العدم.
وقوله: - إن الجز التوأم مع سائر الأجزاء مبغوض - من قبيل ضم ما
ليس بالدخيل إلى ما هو الدخيل، فإن المجموع بما هو مجموع وإن
كان مبغوضا، لأنه العلة التامة لتحقق الحرام، لكن كل واحد ليس كذلك
بنحو القضية الحينية، لعدم الملاك فيه.
هذا، مع أنه قاس الإرادة التشريعية بالتكوينية في مقدمات الواجب (1)،
ومقتضى قياسه عدم الحرمة هاهنا، ضرورة أن من أراد ترك
شي لا تتعلق إرادته بترك كل واحد من مقدماته، بل تتعلق بترك ما هو
مخرج مبغوضه إلى الوجود، وهذا واضح.
انتهى الجز الأول من الكتاب حسب تجزئتنا ويليه إن شاء الله تعالى
الجز الثاني منه بحول الله وقوته وصلى الله على محمد وآله
الطاهرين.

(1) بدائع الأفكار (تقريرات العراقي) 1: 399.
419