الكتاب: مناهج الوصول إلى علم الأصول
المؤلف: السيد الخميني
الجزء: ٢
الوفاة: ١٤١٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: شوال ١٤١٤ - ١٣٧٣ ش
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قده) - قم
ردمك:
ملاحظات:

مناهج الوصول الجزء الثاني
6

الفصل الخامس في اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده
هل الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده أم لا؟ فيه أقوال.
وتحقيق الحال يستدعي رسم أمور:
الأمر الأول في أصولية المسألة
جمع بعض الأعاظم بين كون المسألة أصولية وأنها من المسائل
العقلية الغير المستقلة - أي يكون البحث فيها عن الملازمات - وبين
تعميم الاقتضاء في العنوان إلى كونه على نحو العينية، أو التضمن، أو
الالتزام بالمعنى الأخص، أو الأعم. وعلل التعميم بأن لكل وجها بل
قائلا (1).

(1) فوائد الأصول 1: 301.
7

ولا يخفى ما فيه من التهافت لو قلنا بأن المسائل اللغوية - كالمشتق -
خارجة عن الأصولية، لان في الجميع بين الأصولية والتعميم كذلك
تهافتا، لان التعميم لأجل إدخال تمام المذاهب والوجوه في العنوان،
والقول بالعينية والتضمن على بعض الوجوه والآراء يرجع إلى
الدلالة اللغوية الوضعية، بل الامر كذلك مع الدلالة الالتزامية بناء على
المشهور من كونها لفظية (1). نعم، لو قلنا بأن كون المسألة لغوية لا
ينافي الأصولية مع اختلاف الجهة المبحوث عنها - كما هو الحق -
فيدخل المشتق وبعض المباحث اللغوية، كدلالة الأمر والنهي في
الأصولية، لم يرد هذا الاشكال.
وكذا في الجمع بين كون المسألة عقلية وبين ذلك التعميم تهافت، لان التعميم لأجل إدخال مذهب القائل بإحدى الدلالات اللفظية.
الأمر الثاني في معنى الاقتضاء في عنوان المسألة
الاقتضاء في عنوان البحث ليس بمعناه الحقيقي في المقام على أي حال، ولا جامع بين المعاني التي ذكروها (2) في مقام التعميم حتى
يكون مستعملا فيه، مضافا إلى أن الاقتضاء بمعنى العينية مما لا محصل له رأسا.
فالأولى إسقاط بعض المذاهب والوجوه التي
[هي]
واضحة البطلان،

(1) الشفاء 1: 43، شرح المنظومة للسبزواري - قسم المنطق: 13 / سطر 7 - 10.
(2) الكفاية 1: 205، فوائد الأصول 1: 301.
8

كالقول بالعينية والتضمن (1)، وجعل المسألة أصولية عقلية، ومعه يمكن إبقاء الاقتضاء وإرادة الاستلزام منه ولو بنحو من المسامحة، أو
تبديله بالاستلزام فيقال: هل الامر بالشئ مستلزم للنهي عن ضده؟ أو يقال: هل إرادة الشئ مستلزمة لإرادة ترك ضده؟
الأمر الثالث في المهم من الأقوال في المسألة
إن الأقوال في المسألة كثيرة، لكن ما يعتد به من بينها هو القول بالاقتضاء في الضد الخاص، والأولى صرف الكلام إليه، فأقول:
قد استدل عليه بوجهين:
الوجه الأول: وهو العمدة من جهة المقدمية، وهي تتم بإثبات أمور:
أحدها: مقدمية ترك الضد لفعل ضده.
ثانيها: إثبات وجوب المقدمة.
ثالثها: إثبات اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده العام، أي نقيضه، فإنه المراد بالضد العام وجوديا كان أو عدميا، ولا مشاحة في
الاصطلاح بعد وضوح المراد.
فمع عدم تمامية واحد منها لا يثبت المطلوب.

(1) معالم الدين: 63 / سطر 3.
9

واستدل لاثبات المقدمية بأن الضدين متمانعان، وعدم المانع من المقدمات (1).
وأجيب عنه بوجوه:
الأول: أن التمانع لا يقتضي تقدم ترك أحدهما على الاخر، وحيث لا منافاة بين أحد العينين ونقيض الاخر وبديله - بل بينهما كمال
الملامة - كان أحد العينين مع نقيض الاخر في رتبة واحدة (2).
وأنت خبير بأن كمال الملامة لا يوجب اتحاد الرتبة.
ويمكن أن يقال في تقريره: إن نقيض أحد العينين يحمل على عين الاخر بالحمل الشائع ولو عرضيا، وهو يقتضي الاتحاد، ولا يعقل أن
يكون المتحدان مختلفين في الرتبة.
بيان صدق أحد النقيضين على عين الاخر: أن السواد لا يصدق على البياض، وإلا اجتمع الضدان، ومع عدم صدقه لا بد وأن يصدق عليه
نقيضه، وإلا ارتفع النقيضان، والصدق يقتضي الاتحاد، وهو ينافي التقدم والتأخر رتبة، فثبت اتحادهما رتبة.
والجواب: أن نقيض صدق البياض على السواد عدم صدقه عليه على أن يكون السلب تحصيليا، لا صدق عدمه عليه بنحو الايجاب العدولي
أو الموجبة

(1) أورده في الكفاية 1: 206 وأجاب عنه.
(2) الكفاية 1: 206 - 207.
10

السالبة المحمول، فالبياض إذا لم يصدق عليه أنه سواد صدق عليه أنه ليس بسواد بالسلب التحصيلي، وهو نقيض الايجاب، لا صدق عدم
السواد، لان نقيض صدق الشئ عدم صدقه، لا صدق عدمه حتى يلزم اتحادهما في الوجود ولو بالعرض.
وأما توهم صدق قولنا: إن البياض لا سواد أو عدم سواد، فهو فاسد إن أريد أن الامر العدمي والباطل المحض ثابت وصادق على شي
ومتحد معه، لأنها أوصاف وجودية لا يمكن ثبوتها للعدم.
وما يقال: من أن للاعدام المضافة حظا من الوجود (1)، كلام مسامحي لا يعول عليه، فإن حيثية العدم لا يمكن أن تكون ذات حظ من
الوجود، بل الإضافات الواقعة بينها وبين غيرها إنما هي في الذهن، وفي وعائه تكون الاعدام المطلقة - أيضا - موجودة بالحمل الشائع
وإن كانت أعداما بالحمل الأولي، فلا حقيقة للعدم - أي عدم كان - حتى يتصف بوصف وجودي أو اعتباري أو عدمي، فالعدم لا يثبت له
العدم أيضا.
وما يقال: من أن ثبوت شي لشئ فرع ثبوت المثبت له لا الثابت، ليس المراد منه أن الجهات العدمية - بما هي كذلك - يمكن أن تثبت
لشئ بحيث يكون التصادق والاتحاد بينهما كاتحاد شي مع شي، وإلا يلزم كذب قاعدة الفرعية أيضا، لان ثبوت الثابت بهذا النحو
إثبات صفة ثبوتية له، فيلزم صدق قولنا: العدم ثابت للوجود وصادق عليه، وهو

(1) الأسفار 1: 344.
11

فرع ثبوت المثبت له.
وبالجملة: ليس للعدم حيثية، والقضايا الصادقة في باب الاعدام لا بد وأن ترجع إلى السالبات المحصلات، وإن كانت بحسب الظاهر
موجبات.
الثاني من وجوه عدم تقدم الترك (1): دعوى وحدة الرتبة بين ترك الضد ووجود ضده أيضا، بأن يقال: إن النقيضين في رتبة واحدة، و
الضدين كذلك، ولازم ذلك كون أحد الضدين مع نقيض الاخر في رتبة واحدة، لان ما يتحد رتبة مع أحد المتحدين كذلك يتحد مع
الاخر أيضا.
أما كون النقيضين في رتبة واحدة فلان نقيض الشئ بديله، فنقيض شي في زمان أو رتبة عدمه الذي في ذلك الزمان وتلك الرتبة، و
إلا يلزم اجتماع النقيضين، فالمعلول معدوم في رتبة العلة، وموجود في رتبة متأخرة، فنقيض الوجود في رتبة العلة العدم في رتبتها، و
بهذا البيان يلزم أن يكون الضدان في رتبة واحدة.
وأما المقدمة الثالثة فمر بيانها.
والجواب: منه كون النقيضين في رتبة واحدة، لان نقيض كل شي رفعه، فنقيض البياض في المرتبة رفعه على أن يكون القيد للمسلوب
لا للسلب، فإذا لم يصدق كون المعلول في رتبة علته صدق عدم كونه في رتبتها بنحو السلب التحصيلي مفاد الهلية المركبة، أو بنحو
السلب المحمولي للمقيد على أن يكون القيد للمسلوب، وإن كذب كون عدمه في رتبتها، فنقيض كون

(1) الكفاية 1: 207.
12

المعلول في رتبة العلة عدم كونه في رتبتها، لا كون العدم في رتبتها.
وأما لزوم كون الضدين في رتبة واحدة فهو أوضح فسادا، لأنهما يمتنع اجتماعهما في الوجود الخارجي، ولا ربط للرتبة العقلية في
ذلك، فلو فرض أن البياض والسواد مختلفا الرتبة عقلا كان اجتماعهما الوجودي في موضوع واحد محالا، فهل ترى إمكان علية سواد
لبياض في الموضوع الذي هو فيه؟ ولو سلم كون النقيضين والضدين في رتبة واحدة فلانكار لزوم كون أحد العينين في رتبة نقيض
الاخر مجال واسع، لعدم البرهان على أن الرتب العقلية حكمها حكم الزمان في الخارج، بل البرهان على خلافه، لان للرتب العقلية
ملاكات خاصة ربما يكون الملاك موجودا في الشئ دون متحدة في الرتبة، ألا ترى أن ما مع علة شي لا يكون مقدما عليه رتبة، لفقدان
ملاك التقدم فيه، وهو كون وجوب الشئ من وجوبه، ووجوده من وجوده؟ الثالث: أنه لو توقف وجود الضد على عدم ضده لزم الدور،
لان التوقف لأجل التمانع من الطرفين، فعدم أحد الضدين - أيضا - متوقف على وجود الاخر توقف العدم على وجود مانعه (1).
وفيه: أن التمانع إذا اقتضى توقف وجود أحد الضدين على عدم الاخر توقف الشئ على عدم المانع، يقتضي - بمقتضى المقابلة - توقف
وجود الضد الاخر على عدم ضده أيضا، لا توقف عدمه على وجوده، لان العدم ليس

(1) الكفاية 1: 207 - 208.
13

بشي حتى يتوقف تحققه على شي.
والتحقيق: أن التوقف مطلقا باطل فيهما، لان العدم ليس بشي بل باطل محض، فلا يمكن أن يكون دخيلا في تحقق شي أو متأثرا من
شي، فما لا شيئية له يسلب عنه بالسلب التحصيلي جميع الأمور الثبوتية، ولا شك أن التوقف من طرف الموقوف والموقوف عليه
ثبوتي، وثبوته له فرع ثبوت المثبت له، بل ثبوت كل شي لشئ فرع ثبوته، فما لا شيئية له لا تقدم له ولا تأخر ولا مقارنة، فكل
الحيثيات مسلوبة عنه سلبا تحصيليا، لا بمعنى سلب شي عن شي، بل السلب عنه من قبيل الاخبار عن المعدوم المطلق: بأنه لا يخبر عنه،
لأجل التوسل بالعناوين المتحصلة في الذهن.
وما في بعض التعليقات: من أن عدم الضد من مصححات قابلية المحل لقبول الضد، لعدم قابلية الأبيض للسواد ولا الأسود للبياض، وأن
القابليات والاستعدادات والإضافات وأعدام الملكات وإن كان لا مطابق لها في الخارج، لكنها من الأمور الانتزاعية وحيثيات وشئون
لأمور خارجية، وثبوت شي لشئ لا يقتضي أزيد من ثبوت المثبت له بنحو يناسب ثبوت الثابت (1).
فيه ما لا يخفى، لان قابلية المحل من شؤونه في وجوده من غير دخالة عدم شي فيها، فالجسم قابل للسواد - كان موصوفا بالبياض أو لا
- ولا يتوقف قابليته له على عدمه، وعدم قبوله في حال اتصافه به لأجل التمانع بين

(1) نهاية الدراية 1: 220 / سطر 5 - 20.
14

الوجودين، لا لتوقف القابلية على عدم الضد، ضرورة أن العدم واللا شي لا يمكن أن يكون مؤثرا في تصحيح القابلية، بل لا يكون شأن
الأمور الخارجية ولا منتزعا منها، فما اشتهر بينهم - من أن للاعدام المضافة حظا من الوجود (1) - كلام مسامحي، لان العدم لا يمكن أن
يكون مضافا ولا مضافا إليه، والإضافة بينه وبين الوجود إنما هي في ظرف الذهن بين عنوان العدم والوجود، لا بين العدم حقيقة و
الوجود.
وما هو المعروف في لسان أهل الفن
[من]
أن عدم المانع من أجزأ العلة، فليس مرادهم منه أن العدم حقيقة علة وله جزئية لشئ، بل من
قبيل التسامح في التعبير بعد وضوح المطلب لديهم، فعبروا عن مزاحمة المقتضيات والتمانع بين الوجودات بأن عدم المانع كذلك، وإلا
فلا شبهة في أنه لا يتصف بالجزئية، ولا يصير علة ولا جزها.
وما في كلام المحشي المحقق - من التسوية بين القابليات والاستعدادات والإضافات وأعدام الملكات (2) - لم يقع في محله، كيف؟ و
القابليات والاستعدادات بل والإضافات لها نحو وجود، بخلاف أعدام الملكات، فإن لملكاتها نحو تحقق، لا لحيثية الاعدام.
فتحصل مما ذكرنا: بطلان تقدم الترك على فعل الضد، وكذا فعل الضد على الترك.

(1) الأسفار 1: 344.
(2) مر تخريجه آنفا.
15

هذا كله حال أول الأمور المتقدمة، وقد مر بطلان الأمر الثاني - أي وجوب المقدمة - في محله.
وأما ثالثها: - أي اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن نقيضه - فللمنع فيه مجال: أما مع بقاء البحث على ظاهره فواضح، لان البعث لا يكون
عين الزجر ولا متضمنا له.
وأما كون النهي عن النقيض لازما للامر، كما قد يقال: إن نفس تصور الوجوب والالزام يكفي في تصور النهي عن الترك والحرمة (1).
ففيه: أنه إن أريد الانتقال التصوري فمع ممنوعيته لا يفيد، وإن أريد اللزوم الواقعي، بأن يدعى أن المولى إذا أمر بشي فلازمه أن ينهى
عن نقيضه، فهو واضح الفساد، ضرورة أن الصادر من المولى ليس إلا الامر.
ومع عدم بقاء البحث على ظاهره، بأن يقال: إن الإرادة المتعلقة بشي مستلزمة للإرادة المتعلقة بترك تركه، فإن أريد العينية والتضمن
فهو - أيضا - واضح الفساد، ضرورة أن ترك الترك ليس عين الشئ بالحمل الأولي، ولا جزه المقوم له، وانطباقه عليه في الخارج -
مع فساده في نفسه - لا يفيد.
وأما الاستلزام بالمعنى الذي قيل في باب المقدمة (2)، بأنه إذا تعلقت إرادة تشريعية بشي، فمع الالتفات إلى تركه تتعلق إرادة تشريعية
بتركه، فهو

(1) فوائد الأصول 1: 303.
(2) فوائد الأصول 1: 262 و 303.
16

وإن كان أسلم من غيره، لكنه - أيضا - غير تام، لأنه بعد تعلق الإرادة التشريعية الالزامية بشي لا معنى لتعلق إرادة أخرى بترك تركه،
لعدم تحقق مبادئ الإرادة وغايتها، فإن غايتها التوصل إلى المبعوث إليه، ومع إرادة الفعل والبعث إليه لأجله لا معنى لبعث إلزامي آخر
لأجله، فلا غاية للإرادة التشريعية.
نعم بناء على ما ذكروا في المقدمة (1) - أن تعلقها بها قهري - فله وجه، لكن المبني فاسد كما مر.
فتحصل مما ذكرنا: بطلان اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده الخاص من ناحية المقدمية، واتضح ضمنا، عدم اقتضائه للنهي عن ضده
العام أيضا.
الوجه الثاني: من جهة الاستلزام، وهو - أيضا - يبتني على ثلاث مقدمات:
إحداها: أن وجود كل من العينين مع عدم ضده متلازمان.
ثانيها: أن المتلازمين محكومان بحكم واحد لا محالة.
ثالثها: أن الامر بالشئ مقتض للنهي عن ضده العام.
والدليل على الأولى: أن الضد لا يصدق مع ضده لبطلان اجتماعهما، فإذا لم يصدق هو لا بد من صدق نقيضه لبطلان ارتفاع النقيضين، و
لما لم يمكن الصدق الذاتي بين الوجود والعدم فلا بد وأن يكون عرضيا، بنحو التلازم في الصدق، وهو المطلوب.
والجواب عنه: أن نقيض صدق إحدى العينين على الأخرى عدم صدقها

(1) أجود التقريرات 1: 230 - 231.
17

عليها على نعت السلب التحصيلي لا الايجاب العدولي، وإلا لزم ارتفاع النقيضين، ضرورة كذب الايجاب العدولي أيضا، للزوم كون
العدم صادقا على الوجود ومتلازما معه فيه.
هذا، مع أنه لا شيئية له حتى يكون ملازما لشئ.
مضافا إلى أن التلازم في الوجود يقتضي عروض الوجود للمتلازمين، فيلزم اجتماع النقيضين، فالغلط ناش من عدم اعتبار الحيثيات و
تقديم الحمل على السلب وعدم
[التفريق]
بين السوالب المحصلة والموجبات المعدولة، وكم له من نظير.
والدليل على الثانية: أن المتلازم مع وجوب ملازمه إن لم يكن واجبا، فلا بد وأن يكون محكوما بحكم آخر، لعدم خلو الواقعة عن حكم،
والجامع بين ما عدا الوجوب هو جواز الترك، ومع جوازه يلزم إما خروج الواجب عن كونه واجبا، وإما التكليف بما لا يطاق.
والجواب أما أولا: أن العدم ليس من الوقائع، فإنه بطلان محض لا يمكن أن يكون - بما هو - محكوما بحكم، وما ترى من نسبة الحكم
إلى بعض الاعدام لا بد من إرجاعه إلى مقابلاته، كوجوب تروك الاحرام وتروك المفطرات.
وثانيا: لم يقم دليل على عدم خلو الواقعة عن الحكم، بل الدليل على خلافه، فإن الواقعة لو لم يكن لها اقتضاء أصلا، ولم يكن لجعل الإباحة
- أيضا - مصلحة، فلا بد وأن لا تكون محكومة بحكم،
18

والإباحة العقلية غير الشرعية المدعاة، ومع خلوها عن الجواز الشرعي لا يلزم المحذور المتقدم.
هذا، مع أنه لو سلم فلزوم ما ذكر ممنوع.
وقد مر الجواب عن الثالثة.
ثم إنه ربما يفرق بين الضدين اللذين لا ثالث لهما وبين غيرهما، بدعوى الاقتضاء فيهما عرفا، لأن عدم السكون هو الحركة في الخارج
عرفا، وإن لم يكن كذلك عقلا، ويكون الامر بأحدهما عين الامر بالآخر، ولا يرى العرف فرقا بين (تحرك) و (لا تسكن) (1).
وفيه: أنه إن كان المدعى أن العرف لا يفرق بين الحركة وعدم السكون، بحيث يكون في نظره الحركة حيثية عدمية، أو حيثية العدم
عين حيثية الوجود، ولم يفرق بين الأمر والنهي، ويكون في نظره (تحرك) عين (لا تسكن)، فهو ظاهر البطلان، مع أنه غير منتج، وإن
كان المدعى أنه لا يفرق بينهما نتيجة، فالعقل - أيضا - كذلك، ولكن لا ربط له بما نحن فيه، لعدم لزوم ذلك اقتضاء الامر بالحركة
النهي متعلق بالسكون لا عرفا، ولا عقلا.
واعلم أن ما ذكرنا من الدليلين وابتناء أولهما على ثلاث مقدمات إنما هو بناء على وجوب المقدمة المطلقة، وأما بناء على وجوب
الموصلة فلا بد من مقدمة أخرى في الدليل الأول، وهو لزوم كون المتلازمين محكومين بحكم

(1) فوائد الأصول 1: 304.
19

واحد، لما عرفت في باب المقدمة (1) من أن نقيض الترك الموصل هو ترك هذا الترك المقيد، فإذا وجب الترك الموصل يحرم تركه
بمقتضى المقدمة الثالثة، ولا يلزم حرمة الفعل إلا مع تمامية دليل الاستلزام، لان ترك الترك المقيد ملازم للوجود، فحينئذ لا يتم الدليل
الأول إلا بضم الثاني إليه، وهو موجب لسقوط أحدهما، فلا يكون في الباب دليلان مستقلان.
الأمر الرابع في ثمرة المسألة
تظهر الثمرة في أن نتيجة المسألة - وهي النهي عن الضد بناء على الاقتضاء - بضميمة أن النهي في العبادات يقتضي الفساد، فساده إذا
كان عبادة.
ويمكن إنكارها، فإن اقتضاء النهي للفساد: إما لأجل كشفه عن مفسدة في المتعلق، أو لأجل أن الاتيان بمتعلق النهي مخالفة للمولى و
مبعد عن ساحته، فلا يمكن أن يقع مقربا، والنهي فيما نحن فيه لا يكشف عن المفسدة، بل العقل يحكم بتحقق المصلحة الملزمة في الضد
المزاحم، لعدم المزاحمة بين المقتضيات.
وأيضا النهي الاستلزامي الذي يكون من جهة ملازمة شي للمأمور به بالامر المقدمي لا يكون موجبا للبعد عن ساحة المولى، فلا يوجب
الفساد،

(1) وذلك في صفحة: 402 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
20

فالثمرة ساقطة.
وأما الشيخ البهائي (1)
فأنكرها بدعوى كفاية عدم الامر للفساد.
ورد بوجوه:
الوجه الأول: كفاية الرجحان والمحبوبية الذاتية في صحة العبادة (2).
الوجه الثاني (3): أن ذلك صحيح في المضيقين، وأما إذا كان أحدهما موسعا، فتظهر الثمرة، لامكان الامر بالموسع والمضيق، فحينئذ، إن
اقتضى الامر بالشئ النهي عن الضد لا يمكن أن يقع مصداق الموسع صحيحا، وإلا يقع صحيحا.
وتوضيح الامكان: أن الأوامر متعلقة بالطبائع، والخصوصيات الشخصية

(1) زبدة الأصول: 82 - 83.
الشيخ البهائي: هو بهاء الدين والملة محمد بن الحسين بن عبد الصمد الجبعي العاملي، الحارثي، نسبة إلى الحارث الهمداني أحد خواص
أمير المؤمنين عليه السلام. ولد سنة (953 ه‍) في بعلبك. انتقل مع أبيه إلى إيران وهو صغير. وكانت عليه مخايل النبوغ، حتى إذا بذ
أقرانه في مختلف العلوم التي تعلمها وبلغ الذروة، فوضت إليه أمور الشريعة وولي منصب (شيخ الاسلام) ثم زهد بهذه المشيخة فتركها
وساح في البلدان ثلاثين سنة، ثم عاد إلى إيران. صنف في مختلف العلوم فأبدع فيها. توفي عام (1031 ه‍) ودفن في مدينة مشهد
المقدسة.
انظر رياض العلماء 5: 88 - 97، روضات الجنات 7: 56، سلافة العصر: 289، الكنى والألقاب 2: 89.
(2) الكفاية 1: 212.
(3) فوائد الأصول 1: 313.
21

كلها خارجة عن متعلقها، لعدم دخالتها في الغرض، وما هو كذلك لا يمكن أن يؤخذ في المتعلق ولا يمكن سراية النهي إليه، وما هو
مضاد للمأمور به هو المصداق لا الطبيعة، وما هو المأمور به هي الطبيعة لا المصداق.
وهذا من غير فرق بين الافراد العرضية والطولية، ولا بين صيرورة الوقت مضيقا أو لا، فإن الامر لا يتجافى عن متعلقه بصيرورة
الوقت مضيقا. نعم في آخر الوقت ومع انحصار الفرد يحكم العقل بإيجادها فورا، وفي ضمنه من غير تغيير في ناحية الامر، فيمكن قصد
الامر المتعلق بالطبيعة مع الاتيان بالفرد المنحصر وفي الوقت المضيق ولو زاحم الضد الأهم.
هذا، ويمكن أن يقال: إن ملاك استحالة الامر بالضدين - وهو التكليف بالمحال - موجود مع تضييق الوقت أو انحصار الفرد أو كون
الافراد طولية، فإن معنى تعلق الامر بالطبيعة هو البعث إلى إيجادها، والامر وإن تعلق بنفس الماهية، لكن البعث إليها هو البعث إلى
إيجادها، فمضيق الوقت إن كان البعث إلى إيجادها فعليا، وكذلك إلى ضد مصداقها، ينتهي الامر إلى التكليف بالمحال، لان إيجاد
الطبيعة، وضد المصداق مما لا يمكن في الوقت المضيق، وكذا الحال مع انحصار المصداق، بل مع كون الافراد طولية، فإن فعلية الامر
بالطبيعة في وقت يكون فردها مبتلى، بالضد الواجب لازمها التكليف بالمحال.
هذا، لكن سيأتي (1) تحقيق الحال بما يدفع الاشكال، فانتظر.

(1) وذلك في الصفحة: 38 - 40 من هذا الجزء.
22

الوجه الثالث: ما سلكناه في هذا المضمار، وهو تصوير الامر بالأهم والمهم في عرض واحد بلا تشبث بالترتب، وهو يبتني على
مقدمات:
المقدمة الأولى: أنه سيأتي في محله (1) أن الأوامر متعلقة بالطبائع، وأن الخصوصيات الفردية مطلقا خارجة عن المتعلق وإن كانت
متحدة معها خارجا.
المقدمة الثانية: أن الاطلاق بعد تمامية مقدماته يباين العموم في أن الحكم فيه لم يتعلق إلا بنفس الماهية أو الموضوع من غير دخالة فرد
أو حال أو قيد فيه، وليس الحكم متعلقا بالافراد والحالات والطوارئ، ففي قوله: (أعتق الرقبة) تكون نفس الطبيعة - لا أفرادها أو
حالاتها - موضوعا للحكم، فإن الطبيعة لا يمكن أن تكون حاكية ومرآة للافراد والخصوصيات وإن كانت متحدة معها خارجا، وهذا
بخلاف العموم، فإن أداته وضعت لاستغراق أفراد المدخول، فيتعلق الحكم فيه بالافراد المحكية بعنوان الكل والجميع، وسيأتي في محله
توضيح الحال فيه (2).
المقدمة الثالثة: أن التزاحمات الواقعة بين الأدلة بالعرض، لأجل عدم قدرة المكلف على الجمع بين امتثالها، كالتزاحم بين وجوب إزالة
النجاسة عن المسجد ووجوب الصلاة، حيث تكون متأخرة عن تعلق الحكم بموضوعاتها وعن ابتلا المكلف بالواقعة، لم تكن ملحوظة
في الأدلة، ولا تكون الأدلة

(1) وذلك في الصفحة: 65 من هذا الجزء.
(2) وذلك في الصفحة: 23 من هذا الجزء.
23

متعرضة لها، فضلا، عن التعرض لعلاجها، فقوله: (أزل النجاسة عن المسجد) - مثلا - لا يكون ناظرا إلى حالات الموضوع - كما عرفت
في المقدمة المتقدمة - فضلا عن أن يكون ناظرا إلى حالاته مع موضوع آخر ومزاحمته معه، فضلا عن أن يكون ناظرا إلى علاج
المزاحمة، فاشتراط المهم بعصيان الأهم - الذي هو من مقدمات الترتب - لا يمكن أن يكون مفاد الأدلة إن كان المراد شرطا شرعيا
مأخوذا في الأدلة، ولا يكون بنحو الكشف عن الاشتراط، لما سيأتي (1) من عدم لزومه بل عدم صحته، وسيأتي حال حكم العقل.
المقدمة الرابعة: أن الأحكام الشرعية القانونية المترتبة على موضوعاتها على قسمين:
أحدهما: الاحكام الانشائية، وهي التي أنشئت على الموضوعات ولم تبق على ما هي عليه في مقام الاجراء، كالاحكام الكلية قبل ورود
المقيدات والمخصصات ومع قطع النظر عنهما، أو لم يأن وقت إجرائها، كالاحكام التي بقيت مخزونة لدى ولي العصر عجل الله فرجه و
يكون وقت إجرائها زمان ظهوره، لمصالح
[تقتضيها]
العناية الإلهية.
ثانيهما: الأحكام الفعلية، وهي التي آن، وقت إجرائها، وبلغت موقع عملها بعد تمامية قيودها ومخصصاتها، ف‍ (أوفوا بالعقود) (2) بهذا
العموم حكم إنشائي، والذي بقي بعد ورود المخصصات عليه بلسان الكتاب والسنة هو

(1) وذلك في الصفحة: 30 من هذا الجزء.
(2) المائدة: 1.
24

الحكم الفعلي، ونجاسة بعض الطوائف المنتحلة للاسلام وكفرهم حكمان إنشائيان في زماننا، وإذا بلغا وقت إجرائهما يصيران
فعليين.
وأما الفعلية والشأنية بما هو معروف - من أن الحكم بالنسبة إلى الجاهل والغافل والساهي والعاجز يكون شأنيا، وبالنسبة إلى
مقابليهم يصير فعليا - فليس لهما وجه معقول، لان الاشتراط الشرعي في بعضها غير معقول، مع عدم الدليل عليه في جميعها، والتصرف
العقلي غير معقول، كما سيتضح لك.
وبالجملة: إن الاحكام المضبوطة في الكتاب والسنة لا يعقل فيها غير هاتين المرتبتين، فقوله: (لله على الناس حج البيت.) (1) إلخ لا يختلف
بالنسبة إلى الجاهل والعالم، ولا معنى للفعلية والشأنية في هذا الحكم المجعول المنضبط، وكذا لا يعقل تغيير إرادة الله تعالى الصادع
بالشرع، لامتناع تغيرها، كما هو معلوم لدى أهله.
وأما الاقتضاء والتنجز فليسا من مراتب الحكم: أما الأول فواضح، وأما الثاني فلانه حكم عقلي غير مربوط بمراتب الأحكام المجعولة، و
معنى تنجزه قطع عذر المكلف في المخالفة، وعدمه كونه معذورا فيها، من غير تغيير وتبديل في الحكم ولا في الإرادة.
المقدمة الخامسة: أن الاحكام الكلية القانونية تفترق عن الاحكام الجزئية من جهات، صار الخلط بينهما منشأ لاشتباهات:

(1) آل عمران: 97.
25

منها: حكمهم بعدم منجزية العلم الاجمالي إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء، بتوهم أن الخطاب بالنسبة إليه مستهجن (1).
وقد ذكرنا في محله (2) أن الاستهجان ليس في الخطابات الكلية المتوجهة إلى عامة المكلفين، فراجع.
ومنها: توهم أن الخطاب لا يعقل أن يتوجه إلى العاجز والغافل والساهي، ضرورة أن الخطاب للانبعاث، ولا يعقل انبعاث العاجز و
مثله (3).
وهذا - أيضا - من موارد الخلط بين الحكم الكلي والجزئي، فإن الخطاب الشخصي إلى العاجز ومثله لغو ممتنع صدوره من الملتفت، و
هذا بخلاف الخطابات الكلية المتوجهة إلى العناوين الكلية، كالناس والمؤمنين، فإن مثل تلك الخطابات تصح من غير استهجان إذا كان
فيهم من ينبعث عنها، ولا يلزم أن تكون باعثة أو ممكنة البعث بالنسبة إلى جميعها في رفع الاستهجان.
أ لا ترى أن الخطاب الشخصي إلى من كان عاصيا، أو الكلي إلى عنوان العصاة، مستهجن غير ممكن الصدور من العاقل الملتفت، ولكن
الخطاب العمومي غير مستهجن بل واقع، لان الضرورة قائمة على أن الخطابات والأوامر الإلهية شاملة للعصاة، وأن
[بناء]
المحققين
على أنها شاملة

(1) فرائد الأصول: 250 - 251، الكفاية 2: 218، فوائد الأصول 4: 50 - 51.
(2) ذلك في صفحة: 213 - 218 من الجزء الثاني من أنوار الهداية.
(3) فرائد الأصول: 308 / سطر 23.
26

للكفار أيضا، مع أن الخطاب الخصوصي إلى الكفار المعلومي الطغيان من أقبح المستهجنات، بل غير ممكن لغرض الانبعاث، فلو كان
حكم الخطاب العام كالجزئي فلا بد من الالتزام بتقييد الخطابات بغيرهم، وهو كما ترى.
وكذا الحال في الجاهل والغافل والنائم وغيرهم مما لا يعقل تخصيصهم بالحكم، ولا يمكن توجه الخطاب الخصوصي إليهم، وإذا صح
في مورد فليصح فيما هو مشترك معه في المناط، فيصح الخطاب العمومي لعامة الناس من غير تقييد بالقادر، فيعم جميعهم، وإن كان
العاجز والجاهل والناسي والغافل وأمثالهم معذورين في مخالفته، فمخالفة الحكم الفعلي قد تكون لعذر كما ذكر، وقد لا تكون
كذلك.
والسر فيما ذكرنا: هو أن الخطابات العامة لا ينحل كل
[منها]
إلى خطابات بعدد نفوس المكلفين، بحيث يكون لكل منهم خطاب متوجه
إليه بالخصوص، بل يكون الخطاب العمومي خطابا واحدا يخاطب به العموم، وبه يفترق عن الخطاب الخصوصي في كثير من الموارد.
هذا، مضافا إلى أن الإرادة التشريعية ليست إرادة إتيان المكلف وانبعاثه نحو العمل، وإلا يلزم في الإرادة الإلهية عدم انفكاكها عنه و
عدم إمكان العصيان، بل هي عبارة عن إرادة التقنين والجعل على نحو العموم، وفي مثله يراعى الصحة بملاحظة الجعل العمومي
القانوني، ومعلوم أنه لا تتوقف صحته على صحة الانبعاث بالنسبة إلى كل الافراد، كما يظهر
27

بالتأمل في القوانين العرفية.
المقدمة السادسة: أن الأحكام الشرعية غير مقيدة بالقدرة لا شرعا ولا عقلا.
أما شرعا فظاهر، فإنه ليس في الأدلة ما يوجب التقييد بالقدرة العقلية، ولو فرض التقييد الشرعي للزم الالتزام بجواز إيجاد المكلف
العذر لنفسه، ولا أظن التزامهم به، وللزم جريان البراءة عند الشك في القدرة، ولا يلتزمون به، وليس ذلك إلا لعدم تقييد شرعي. و
من ذلك يعلم عدم كشف التقييد الشرعي عقلا.
وأما التقييد العقلي - بمعنى تصرفه في الأدلة - فهو لا يرجع إلى محصل، بل تصرف العقل في إرادة المولى أو جعله مما لا معنى معقول
له، والتقييد والتصرف لا يمكن إلا للجاعل لا لغيره.
نعم للعقل الحكم في مقام الإطاعة والعصيان، وأن مخالفة الحكم في أي مورد توجب استحقاق العقوبة، وفي أي مورد لا توجب
لمعذورية العبد، وليس للعقل إلا الحكم بأن الجاهل والعاجز ونظيرهما معذورون في ترك الواجب أو إتيان الحرام، من غير تصرف
في الدليل.
المقدمة السابعة: أن الامر بكل من الضدين أمر بالمقدور الممكن، والذي يكون غير مقدور هو جمع المكلف بين الاتيان بمتعلقهما، وهو
غير متعلق للتكليف، فإذا أمر المولى بإزالة النجاسة عن المسجد وأمر بالصلاة لا يكون له إلا أمر بهذه وأمر بتلك، ومجموع الامرين
ليس موجودا على حدة، والامر
28

بالجمع أو المجموع غير صادر من المولى، وقد تقدم (1) أن الامر لا يتعلق إلا بنفس الطبائع، من غير نظر إلى الخصوصيات والحالات
الطارئة وجهات التزاحم وعلاجه.
إذا عرفت ما ذكر فاعلم: أن متعلقي التكليفين قد يكونان متساويين في الجهة والمصلحة، وقد يكون أحدهما أهم.
فعلى الأول لا إشكال في حكم العقل بالتخيير، بمعنى أن العقل يرى أن المكلف مخير في إتيان أيهما شاء، فإذا اشتغل بأحدهما يكون في
مخالفة الامر الاخر معذورا عقلا من غير أن يكون تقييد واشتراط في التكليف والمكلف به، ومع عدم اشتغاله بذلك لا يكون معذورا
في ترك واحد منهما، فإنه قادر على إتيان كل واحد منهما، فتركه يكون بلا عذر، فإن العذر عدم القدرة، والفرض أنه قادر على كل
منهما، وإنما يصير عاجزا عن عذر إذا اشتغل بإتيان أحدهما، ومعه معذور في ترك الاخر، وأما مع عدم اشتغاله به فلا يكون معذورا
في ترك شي منهما، والجمع لا يكون مكلفا به حتى يقال:
إنه غير قادر عليه، وهذا واضح بعد التأمل.
وأما إذا كان أحدهما أهم: فإن اشتغل بإتيان الأهم فهو معذور في ترك المهم، لعدم القدرة عليه مع اشتغاله بضده بحكم العقل، وإن
اشتغل بالمهم فقد أتى بالمأمور به الفعلي، لكن لا يكون معذورا في ترك الأهم فيثاب بإتيان المهم ويعاقب بترك الأهم.

(1) وذلك في صفحة: 23 من هذا الجزء.
29

فقد اتضح مما ذكرنا أمران:
أحدهما: أن الأهم والمهم كالمتساويين في الأهمية، كل منهما مأمور به في عرض الاخر، والامران العرضيان فعليان متعلقان بعنوانين
كليين من غير تعرض لهما لحال التزاحم وعجز المكلف، والمطاردة التي تحصل في مقام الاتيان لا توجب تقييد الامرين أو أحدهما أو
اشتراطهما أو اشتراط أحدهما بحال عصيان الاخر لا شرعا ولا عقلا، بل تلك المطاردة لا توجب عقلا إلا المعذورية العقلية عن ترك
أحد التكليفين حال الاشتغال بالآخر، وعن ترك المهم حال اشتغاله بالأهم.
فظهر: أن الامر بالشئ لا يقتضي عدم الامر بضده في التكاليف الكلية القانونية كما فيما نحن فيه. فما ادعى شيخنا البهائي (1) ليس على
ما ينبغي، كما أن ما أجابوا عنه بنحو الترتب وتصوير الامر بالمهم مشروطا بعصيان الأهم مما لا أساس له، كما سيتضح لك.
وثانيهما: أن المكلف مع ترك الأهم والمهم يستحق عقابين، لما تقدم تفصيله.
ولو تأملت فيما تقدم تأملا صادقا، وتدبرت فيه تدبرا أكيدا، يسهل لك التصديق بما ذكرنا، والله ولي الأمر.
الوجه الرابع: تصوير الامر بالمهم بنحو الترتب: ولقد تصدى الأعاظم (2)

(1) زبدة الأصول 82 - 83.
(2) فوائد الأصول 1: 336 - 357.
30

لبيانه وتوضيحه، وبالغوا في الفحص والتحقيق حوله بتقديم مقدمات كثيرة، ونحن نتعرض لبعضها الذي
[هو]
أمتن ما في الباب، وهو
ما عن السيد المجدد الشيرازي (1) - طاب ثراه - وشيد أركانه سيد أساتيذنا المحقق الفشاركي (2) - رحمه الله - وبالغ في تنقيحه و
تثبيته بعض أعاظم العصر (3) - رحمه الله - ونحن نذكر خلاصة مقدماته وبعض محال الانظار فيها:
المقدمة الأولى: أن المحذور إنما ينشأ من إيجاب الجمع بين الضدين المستلزم للتكليف بما لا يطاق، ولا بد من سقوط ما هو موجب
لذلك لا غير، فإذا كان الخطابان طوليين لا يلزم منه ذلك، فيقع الكلام في أن الموجب لذلك هو نفس الخطابين حتى يسقطان، أو
إطلاقهما حتى يسقط إطلاق خطاب المهم فقط مشروطا بعصيان الأهم؟ ثم قال: والعجب من الشيخ الأنصاري مع إنكاره الترتب (4) ذهب
في تعارض الخبرين - على السببية - إلى ما يلزم منه الالتزام بخطابين مترتب كل منهما على عدم امتثال الاخر، فليت شعري لو امتنع
ترتب أحد الخطابين على عدم امتثال الاخر، فهل ضم ترتب إلى مثله يوجب ارتفاع المحذور؟ إلا أن الاشتباه من الأساطين غير عزيز (5).

(1) درر الفوائد 1: 107.
(2) نفس المصدر.
(3) أجود التقريرات 1: 286 - 302.
(4) مطارح الأنظار: 56 - 57.
(5) أجود التقريرات 1: 287، فوائد الأصول 1: 338 - 339.
31

أقول: هذه المقدمة بصدد بيان محط البحث، ولا إشكال فيها من هذه الجهة، إلا أن الاعتراض على الشيخ الأعظم من أغرب الأمور، ناش
من عدم التأمل في كلامه، ونحن نذكره لكي يتأمل فيه:
قال - قدس سره (1) - بعد إيراد شبهة في وجوب الاخذ بأحد المتعارضين بناء على السببية: إن الحكم بوجوب الاخذ بأحد المتعارضين
في الجملة وعدم تساقطهما، ليس لأجل شمول اللفظ لأحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم المنتزع، لان ذلك غير ممكن كما تقدم
وجهه في بيان الشبهة، لكن لما كان امتثال التكليف فيهما كسائر التكاليف الشرعية والعرفية مشروطا بالقدرة، والمفروض أن كلا
منهما مقدور في حال ترك الاخر وغير مقدور مع إيجاد الاخر، فكل منهما مع ترك الاخر مقدور يحرم تركه ويتعين فعله، ومع إيجاد
الاخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه فوجوب الاخذ بأحدهما نتيجة أدلة وجوب الامتثال والعمل بكل منهما بعد تقييد وجوب الامتثال
بالقدرة، وهذا مما يحكم به بديهة العقل. إلخ انتهى.
وأنت إذا تأملت فيه تجد أن مقصوده أن العقل يتصرف في مقام الامتثال، بلا تصرف في نفس الأدلة كما عرفت فيما تقدم من تحقيقه، و
أن التقييد العقلي إنما هو في وجوب الامتثال، وهو حكم عقلي ليس للشارع تصرف فيه وتعبد بالنسبة إليه، وهو أجنبي عن الترتب
المتقوم باشتراط التكليف بعصيان بالآخر، فضلا عن الترتبين مما تحكم بديهة العقل بامتناعهما، للزوم

(1) فرائد الأصول: 438 / سطر 17 - 22.
32

تقدم الشئ على نفسه.
هذا، مع أن الترتب يتقوم باشتراط الامر بعصيان الاخر، وما ذكره الشيخ لو فرض أن نظره التصرف في الأدلة يكون التصرف بتقييد
كل من الدليلين بعدم إتيان متعلق الاخر، لا بعصيانه، وفرق بين بينهما، لان الثاني مناط الترتب، والأول نتيجة التخيير، والعجب من
الخلط بينهما، إلا أن الاشتباه من الأساطين غير عزيز.
المقدمة الثانية: أن الواجب المشروط لا يخرج إلى المطلق بعد حصول شرطه، لان شرائط التكليف كلها ترجع إلى قيود الموضوع، و
الحكم المجعول على موضوعه لا ينقلب عما هو عليه، ولا يخرج الموضوع عن كونه موضوعا.
والسر فيه: أن القضايا الشرعية على نهج القضايا الحقيقية لا الخارجية، فالقائل بالانقلاب قوله مساوق للقول بأن الموضوع بعد وجوده
ينسلخ عن موضوعيته، ولا يبعد أن يكون ذلك من جهة خلط موضوع الحكم بداعي الجعل وعلة التشريع، بتوهم أن شرط التكليف خارج
عن موضوعه، بل هو من قبيل الداعي لجعل الحكم على موضوعه، فبعد وجوده يتعلق الحكم بموضوعه ولا يبقى للاشتراط مجال.
وقد بينا أن كون شرط الحكم من قبيل دواعي الجعل يبتني على أن تكون القضايا المتكفلة لبيان الأحكام الشرعية من قبيل الاخبار عن
انشاء تكاليف عديدة يتعلق كل واحد منها بمكلف خاص عند تحقق شرطه، وهذا الخلط وقع في جملة من المباحث منها ما نحن فيه، فإنه
توهم فيه أنه بعد عصيان
33

الامر بالأهم يكون الامر بالمهم مطلقا (1).
أقول أولا: عدم خروج الواجب المشروط إلى المطلق حق لا يحتاج إلى تبعيد المسافة وإرجاع شرائط الحكم إلى الموضوع، من غير فرق
بين حقيقيات القضايا أو خارجياتها، لان صيرورة الحكم المشروط مطلقا: إما بتبدل الإرادة إلى إرادة أخرى، وذلك مستحيل، لامتناع
تغير إرادته تعالى، بل يمتنع تبدل إرادة إلى أخرى مطلقا، فإنها بسيطة، والبسائط لا يمكن أن يدخلها التبدل.
وإما بأن تتعلق إرادة جديدة بالحكم رأسا، وهو - أيضا - مستحيل، لامتناع تجدد الأحوال فيه تعالى، مع أنه خروج عن فرض صيرورة
المشروط مطلقا.
وإما بأن تتبدل إرادة التشريع بأخرى، وذلك - أيضا - مستحيل لما ذكر، ولانتهاء أمد التشريع بتحققه، فلا تبقى إرادة تشريعية حتى
تتبدل، لو فرض جواز هذه الأمور في حقه تعالى.
وإما بتبدل الحكم المنشأ على نحو المشروط إلى الاطلاق، وهو مستحيل أيضا، لان ما شرع لا ينقلب عما هو عليه.
وإما بإنشاء حكم آخر مطلق بعد حصول الشرط، وهو خلاف المفروض والواقع.
فخروج الحكم المجعول عما هو عليه مما لا معنى معقول له، نعم قبل تحقق

(1) أجود التقريرات 1: 287 - 288، فوائد الأصول 1: 339 - 341.
34

الشرط لم يأن (1) آن امتثاله، وبعده يصير وقته، ويصير حجة على العبد مع كونه مشروطا، فعدم صيرورة المشروط مطلقا لا يتوقف
على ما ذكره.
وثانيا: ما ذكره من رجوع جميع شرائط التكليف إلى الموضوع لم يقم
[عليه]
دليل بعد اختلاف الواجب المشروط والمطلق ثبوتا، كما
ذكرنا في محله (2)، وبعد كون الواجب المشروط من الاعتبارات المعتبرة لدى العقلا، بل لا يجوز الارجاع بعد كونه معتبرا عقلا ولدى
العقلا واختلاف الآثار بينهما في الاحكام أحيانا.
وما قيل: من أن لازم ذلك كون السبب أو الشرط أمرا تكوينيا مؤثرا في المسبب والمشروط تكوينا وخروج زمام أمرهما من يد
الشارع (3)، واضح الفساد، لان جعل السببية والشرطية تشريعا لشئ لا يوجب انقلاب التشريع إلى التكوين ولا خروج الامر عن يد
الجاعل، كما هو واضح.
هذا لو قلنا بجعل السببية والشرطية.
وأما لو قلنا بجعل الحكم مترتبا على شي فالامر أوضح.
وبالجملة: لا وجه لرفع اليد عن ظواهر الأدلة من غير دليل واضح.
وثالثا: أن ما ذكره - من توهم الخلط بين موضوع الحكم وبين داعي الجعل وعلة التشريع، بتوهم أن شرط التكليف من قبيل الداعي
لجعل الحكم - واضح

(1) أنى يأني أنيا وإني: أي حضر ودنا.
(2) وذلك في صفحة: 347 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
(3) انظر أجود التقريرات 1: 288.
35

البطلان، لان شرط التكليف غير قيود الموضوع وغير دواعي الجعل، بل هو رحمه الله خلط بين شرائط المجعول ودواعي الجعل، مع
أنهما مفترقان، لان دواعي الجعل هي غايات جعل الاحكام، وضعية كانت أو تكليفية مطلقة أو مشروطة، وشرائط التكليف - أي
المجعول - ما يكون الحكم معلقا عليه ومنوطا به، وهي غير مربوطة بقيود الموضوع ودواعي الجعل.
واتضح مما ذكرنا: أن ما أتعب نفسه به في هذه المقدمة غير تام في نفسه، وغير محتاج إليه لاثبات المطلوب.
ثم إن كون القضايا حقيقية لا خارجية أجنبي عن المطلب، كما أن القول بالانقلاب لا يساوق انسلاخ الموضوع عن موضوعيته، وإرجاع
الشرائط كلها إلى قيود الموضوع إنكار للواجب المشروط، والتفصيل يوجب الملال.
المقدمة الثالثة: التي هي من أهم المقدمات وعليها يدور رحى الترتب، وإن ظن المستدل أنها غير مهمة، وهي أن الواجب المضيق على
قسمين:
قسم أخذ فيه الشئ شرطا للتكليف بلحاظ حال الانقضاء، كالقصاص والحدود، فإن القصاص مترتب على مضي القتل وانقضائه ولو آنا
ما.
وقسم أخذ فيه الشئ شرطا بلحاظ حال وجوده، فيثبت التكليف مقارنا لوجود الشرط، ولا يتوقف ثبوته على انقضائه، بل يتحد زمان
وجود الشرط وزمان التكليف وزمان الامتثال كأغلب الواجبات المضيقة كالصوم.
ففي مثله يستحيل تخلف التكليف عن الشرط ولو آنا ما، لما عرفت من
36

رجوع كل شرط إلى الموضوع، ونسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول، فلازم التخلف: إما عدم موضوعية ما فرض
موضوعا للحكم، أو تخلف الحكم عن موضوعه.
وكذا يستحيل تخلف زمان الامتثال عن التكليف، لان التكليف يقتضي الامتثال، فنسبة اقتضاء التكليف للحركة كنسبة اقتضاء حركة
اليد لحركة المفتاح.
نعم الفرق بين المقام والعلل التكوينية هو دخل العلم والإرادة في الامتثال، دون العلل التكوينية.
وبالجملة: مقتضى البرهان هو أن لا يتخلف التكليف عن الشرط ولا الامتثال عن التكليف زمانا، بل يتقارنان في الزمان وإن كان
بينهما تقدم وتأخر رتبيان (1).
ثم شرع في الاشكال والجواب إلى أن قال:
إذا عرفت ذلك ظهر لك دفع بعض الاشكالات في المقام:
منها: أنه يتوقف صحة الخطاب الترتبي على صحة الواجب المعلق.
وأجاب عنه: بأن ذلك مبني على مبنى فاسد، وهو لزوم تأخر زمان الامتثال عن الامر. وقد عرفت فساده.
ومنها: أن خطاب المهم لو كان مشروطا بنفس عصيان الأهم لزم خروج المقام عن الترتب، ولو كان مشروطا بعنوان انتزاعي - أي
كون المكلف ممن

(1) أجود التقريرات 1: 288 - 291، فوائد الأصول 1: 341 - 343.
37

يعصى - لزم الامر بالجمع بين الضدين، وهو محال.
وأجاب عنه: بأنا نختار الشق الأول، وتوهم استلزامه تأخر طلب المهم عن عصيان الامر بالأهم زمانا إنما يتم على القول بلزوم تأخر
الخطاب عن شرطه، وأما على ما حققناه من مقارنة الخطاب لوجود شرطه، فلا بد من فعلية خطاب المهم في زمان عصيان خطاب الأهم
بلا تقدم وتأخر بينهما خارجا.
أو نختار الشق الثاني، ولا يلزم منه طلب الجمع بين الضدين، بداهة أن عنوان المتعقب بالمعصية إنما ينتزع من المكلف بلحاظ تحقق
عصيانه في ظرفه المتأخر، فإذا فرض وجود المعصية في ظرفها وكون التعقب بها شرطا لخطاب المهم، يكون الحال فيه بعينه الحال
في فرض كون نفس العصيان شرطا لطلب المهم.
وبالجملة: فرض تحقق امتثال طلب الأهم في ظرفه هادم لشرط خطاب المهم، فكيف يمكن أن يكون المهم مطلوبا في ظرف وجود
الأهم، ليرجع الامر إلى طلب الجمع بين الضدين (1)؟ أقول: ما ذكره من عدم تأخر الحكم عن شرطه زمانا متين، سوأ رجعت الشرائط إلى
قيود الموضوع أولا، ولو سلمنا المقدمة الثانية أيضا - وهي عدم إمكان تخلف البعث عن اقتضاء الانبعاث زمانا - وأنكرنا الواجب
التعليقي، لما
[أجدته]
المقدمتان، لان كل شرط إنما يتقدم على مشروطه رتبة في

(1) فوائد الأصول 1: 346 - 348.
38

ظرف تحققه، لا حال عدمه.
وبعبارة أخرى: أن وجود الشرط يتقدم على المشروط تقدما رتبيا، فقبل وجود الشرط لا يمكن تحقق المشروط بالضرورة، فحينئذ
يلاحظ فإن كان الشرط أمرا زمانيا فلا بد من تحققه في زمانه حتى يتحقق بعده مشروطه بلا تخلل آن بينهما، وكذا لو كان غير زماني.
فإذا فرضنا واجبين، مضيقين أحدهما أهم، كإنقاذ الابن في أول الزوال وإنقاذ العم في أوله، ويكون ظرف إنقاذ كل منهما ساعة بلا
نقيصة ولا زيادة، فمع أمر المولى بإنقاذ الابن مطلقا لا يعقل تعلق أمره بإنقاذ العم مشروطا بعصيان أمر الأهم، لان العصيان عبارة عن
ترك المأمور به بلا عذر في مقدار من الوقت يفوت به الاتيان به، ولا محالة يكون ذلك في زمان، ولا يعقل أن يكون الترك في غير
الزمان - أي في ظرفه - محققا للمعصية، لعدم محققية الفوت به، ففوت الأهم المحقق لشرط المهم لا يتحقق إلا بمضي زمان لا يتمكن
المكلف من إطاعة أمره، ومضي هذا الزمان كما أنه محقق لفوت الأهم، محقق لفوت المهم أيضا، فلا يعقل تعلق الامر بالمهم في ظرف
فوته، ولو فرض الاتيان به قبل عصيان الأهم يكون بلا أمر، وهو خلاف مقصود القائل بالترتب.
وبالجملة: قد خلط المحقق المتقدم بين عدم تخلف الشرط عن التكليف، والتكليف عن اقتضاء البعث، وبين لزوم كون الشرط بوجوده
مقدما على المشروط، وظن أن التقدم الرتبي يدفع الاشكال غفلة عن أن العصيان ما
39

لم يتحقق لا يعقل تعلق الامر بالمهم، لامتناع تحقق المشروط قبل شرطه، وبتحققه يفوت وقت الأهم والمهم في المضيقين، ولو فرض
زمان إطاعة المهم بعد زمان عصيان الأهم يخرج عن فرض الترتب.
والعجب أنه تنبه للاشكال، وأجاب بما هو أجنبي عن دفعه، وتخيل أن التأخر الرتبي يدفعه، مع أنه لا يدفع إلا بصيرورة العصيان غير
زماني، وأنت خبير بأن لا معنى للعصيان الرتبي، لان ترك المأمور به بمقدار يفوت به ذلك من الأمور الزمانية، لا الرتب العقلية، مع أنه
لا يعقل بقاء التكليف على فعليته مع عصيانه، وأن كونه رتبيا.
وهذا الاشكال يهدم أساس الترتب، سوأ في مضيقين، أو مضيق وموسع:
أما الأول: فقد عرفت.
وأما الثاني: فبعين ما ذكرنا، لأنه إذا فرض كون أحدهما موسعا، لكن يكون أول زمانه أول الزوال الذي
[هو]
ظرف إتيان المضيق، لا
يعقل تعلق الامر بالموسع أول الزوال مشروطا بعصيان المضيق، لما عرفت من أن العصيان ترك المأمور به في مقدار من الزمان يفوت
به الأهم، فلا بد من تعلق الامر بالموسع بعد مضي زمان يتحقق به العصيان، وهو هدم أساس الترتب.
وكذا الحال لو فرض أن العصيان آني الوجود، لأنه قبل مضي هذا الان لا يتحقق شرط المهم، فيكون ظرف تحقق أمر الأهم فقط، و
بتحققه سقط أمر الأهم بحصول العصيان ومضي أمد اقتضائه، ولا يعقل بقاؤه على فعليته بعد
40

عصيانه ومضي وقته، فتفويت متعلق الأهم في رتبة متقدمة أو آن متقدم على تعلق أمر المهم، وسقوط أمر الأهم وثبوت أمر المهم في
رتبة واحدة أو آن واحد، فأين اجتماعهما؟ وإن شئت قلت: إن اجتماعهما مستلزم لتقدم المشروط على شرطه، أو بقاء فعلية الامر بعد
عصيانه ومضي وقته، وهما باطلان.
هذا كله إذا كان العصيان بوجوده الخارجي شرطا كما أصر عليه المستدل.
وأما إذا كان العنوان الانتزاعي - ك (الذي يعصي) - شرطا، فلا إشكال في لزوم مفسدة طلب الجمع، لان العنوان الانتزاعي ثابت
للمكلف من أول الأمر، ففي أول زمان ظرف الامتثال يكون أمر المهم فعليا لحصول شرطه، ولا يكون أمر الأهم ساقطا، لعدم الامتثال
والعصيان وعدم مضي وقته، فلا محالة يتوجه إلى المكلف أمران فعليان: أحدهما: بعنوان (الذي يعصي)، فيأمره بإنقاذ العم في أول
الزوال، وثانيهما: بعنوان آخر، فيأمره بإنقاذ الابن فيه.
ومجرد أخذ العنوان الانتزاعي من العاصي بلحاظ ظرف العصيان لا يدفع التضاد، لان ملاك دفع التضاد بين الامر المشروط بالعصيان
وأمر الأهم ليس إلا عدم اجتماعهما في آن واحد، لا كونهما في رتبتين، كما تخيل المستدل، وسيأتي فساده في المقدمة الرابعة.
المقدمة الرابعة: التي عدها أهم المقدمات وأن عليها يبتني أساس الترتب،
41

وسيتضح عدم دخالتها في دفع الاشكال، ومحصلها: أن انحفاظ كل خطاب بالنسبة إلى ما يتصور من التقادير على أنحاء:
النحو الأول: ما يكون انحفاظه بالاطلاق والتقييد اللحاظيين، وذلك بالنسبة إلى كل تقدير يمكن لحاظه عند الخطاب، وهي التقادير
المتصورة في المتعلق مع قطع النظر عن الخطاب، كقيام زيد وقعوده حيث يكون الامر بالصلاة محفوظا عنده بالاطلاق اللحاظي، و
كالوقت حيث يكون الامر محفوظا معه بالتقييد اللحاظي.
النحو الثاني: أن يكون الانحفاظ بنتيجة الاطلاق والتقييد، كالتقادير التي تلحق المتعلق بعد تعلق الخطاب به، كالجهل والعلم بالخطاب،
فلا يمكن فيها الاطلاق والتقييد اللحاظيان، بل لا بد إما من نتيجة الاطلاق، كما في العلم والجهل بالحكم بعد قيام الضرورة والأدلة على
اشتراك العالم والجاهل بالأحكام وامتناع الاهمال الثبوتي، وإما أن يكون الملاك محفوظا في تقدير خاص، فلا بد من نتيجة التقييد.
النحو الثالث: ما كان انحفاظ الخطاب لا بالاطلاق والتقييد اللحاظيين ولا بنتيجة الاطلاق والتقييد، وذلك في التقدير الذي يقتضيه
نفس الخطاب، وهو الفعل والترك، حيث يكون انحفاظ الخطاب في حالتي الفعل والترك بنفسه، لا بإطلاقه لحاظا أو نتيجة، إذ لا يعقل
الاطلاق والتقييد بالنسبة إليهما، بل يؤخذ المتعلق معرى عن حيثيتهما، لأنه مع التقييد بالفعل يلزم طلب الحاصل، وبالترك طلب الجمع
بين النقيضين، ومع الاطلاق كلا المحذورين،
42

فليس في الخطاب بالنسبة إليهما إطلاق وتقييد مطلقا، ولكن مع ذلك يكون الخطاب محفوظا بالاقتضاء الذاتي في كلتا الحالتين ما لم
يتحقق العصيان والطاعة.
والفرق بين هذا القسم والسابقين من وجهين:
الوجه الأول: أن نسبة تلك التقادير السابقة إلى الخطاب نسبة العلة إلى المعلول، لمكان رجوعها إلى قيود الموضوع، وهي تتقدم على
الحكم تقدم العلة على المعلول، والاطلاق - أيضا - يجري مجرى العلة، من حيث إن الاطلاق والتقييد في رتبة واحدة، فالاطلاق في رتبة
علة الحكم، وهذا بخلاف تقديري فعل المتعلق وتركه، فإن التقدير معلول الخطاب، لان الخطاب يقتضي فعل المتعلق وطرد تركه.
الوجه الثاني: أن الخطاب في التقادير السابقة يكون متعرضا لبيان أمر آخر غير تلك التقادير، غايته أنه تعرض لوجوده عند وجودها،
وهذا بخلاف تقديري الفعل والترك، فإن الخطاب بنفسه متكفل لبيان هذا التقدير، حيث إنه يقتضي فعل المتعلق وعدم تركه.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه يترتب على ما ذكرناه طولية الخطابين، وذلك لان خطاب الأهم يكون متعرضا لموضوع خطاب المهم، و
مقتضيا لهدمه ورفعه تشريعا، لان موضوع خطاب المهم هو عصيان خطاب الأهم، فالأهم يقتضي طرد موضوع المهم، والمهم لا
يتعرض لموضوعه، وليس بينهما مطاردة، وليسا في رتبة واحدة، بل خطاب الأهم مقدم على خطاب المهم برتبتين أو ثلاث،
43

ومع هذا الاختلاف في الرتبة لا يعقل عرضيتهما (1).
أقول: في هذه المقدمة مواقع للنظر، نذكر مهماتها:
الأول: ما ذكر من الفرق بين الاطلاق والتقييد اللحاظيين وما هو نتيجتهما - وأن الثاني لا يمكن فيه الاطلاق والتقييد، ولا بد لاثبات
نتيجة الاطلاق من التشبث بدليل آخر، ولا يمكن التمسك بالاطلاق لاثبات الحكم للجاهل والعالم - فمنظور فيه، لان معنى الاطلاق ليس
إلا جعل طبيعة - مثلا - متعلقا أو موضوعا للحكم من غير تقييدها بقيد، وهو - بما أنه فعل اختياري للمتكلم الملتفت - كاشف عن كونها
تمام الموضوع، وهذا ليس من الدلالات اللفظية، ولا يتقوم باللحاظ وبإمكانه في هذا اللفظ الصادر منه.
فإذا قال: (يجب على المظاهر عتق رقبة) ولم يقيدها بشي، يحكم العقلا بأن تمام الموضوع للوجوب على المظاهر عتق الرقبة من غير
دخالة شي فيه، وأن الظهار سبب لوجوب العتق من غير قيد، فموضوع احتجاج العقلا هو أخذ شي بلا قيد - موضوعا أو متعلقا أو
سببا وهكذا - مع إمكان بيان القيد ولو بدليل آخر، فلو سلم عدم إمكان تقييد الموضوع أو غيره بما يتأخر عن الحكم في هذا الكلام لم
يضر بجواز التمسك بالاطلاق بعد إمكان بيان القيد بدليل آخر، فالتمسك بإطلاق الأدلة لاثبات الاحكام للعالم والجاهل، مما لا ينبغي
الاشكال فيه.

(1) أجود التقريرات 1: 293 - 297، فوائد الأصول 1: 348 - 352.
44

وما قد يقال في بيان الفرق بين ما يمكن التقييد في اللفظ وبين غيره: من أن الأول إطلاق لفظي والاخر حالي - مع أنه لا يرجع إلى
محصل، ضرورة أن الاطلاق ليس من المفاهيم الدال عليها اللفظ، فليس الاطلاق في كلا القسمين إلا معنى واحدا - لا يضر بالمطلوب،
لجواز التمسك بالاطلاق الحالي لرفع احتمال القيد.
هذا، مضافا إلى منع عدم إمكان التقييد في مثل الجهل والعلم بالخطاب، فإن التقييد غالبا يكون بلحاظ مستقل ونظر مستأنف، فإذا
قال: (أعتق رقبة مؤمنة) لا تكون إفادة التقييد بنفس الرقبة، بل بقيد المؤمنة، وهو منظور إليه استقلالا، ولا إشكال في إمكان النظر
المستأنف إلى الحكم المجعول في الكلام وتقييده بقيد الجهل والعلم، ولا فرق بين قوله: (أعتق رقبة مؤمنة) و (أعتق رقبة معلومة
الحكم) في جواز التقييد ولا جوازه، وقد فرغنا من جواز أخذ ما يأتي من قبل الامر في متعلقه في باب التعبدي والتوصلي، فهذا التقسيم
مما لا يترتب عليه أثر.
نعم، فيما لا يمكن التقييد مطلقا - مثل الاتيان والترك - لا يجوز التمسك بالاطلاق والاحتجاج العقلائي، لا من باب أن الاطلاق لا يمكن،
كما زعم المستدل أن الاطلاق مستلزم لطلب الحاصل وطلب الجمع بين النقيضين، ضرورة بطلان ما ذكر، لان الاطلاق ليس الجمع بين
التقييدين حتى يلزم ما ذكر، بل هو عبارة عن عدم التقييد بقيد أمكن تقييده أم لا.
وأما ما تكرر في كلامهم من أن الاطلاق عدم التقييد فيما من شأنه
45

التقييد (1)، فهو صحيح في محله، لان موضوع كلامهم في باب المطلق والمقيد هو الاطلاق الذي يحتج به على المتكلم والمخاطب، وقد
عرفت أن موضوع الاحتجاج إنما هو قسم من الاطلاقات، أي ما يمكن تقييده، وليس المقصود أن ما لا يمكن تقييده ليس إطلاقا، بل هو -
أيضا - إطلاق ويتقابل مع التقييد تقابل الايجاب والسلب، لا العدم والملكة.
وبالجملة: لا يلزم من الاطلاق في القسم الثالث شي من المحذورات المتوهمة إلا أن يرجع الاطلاق إلى التقييدات، وهو كما ترى.
الثاني: أن الدافع لطلب الجمع ليس كون أمر الأهم والمهم في رتبتين (2)
بل الدافع هو سقوط أمر الأهم بعصيانه ومضي وقته، وعدم
ثبوت أمر المهم إلا بعد سقوط الأهم أو مساوقا له.
ولو كان نفس ترتب الامرين دافعا لذلك لوجب الدفع من الاشتراط بإطاعة الأهم، فإنها متأخرة عن أمره، ولو جعلت شرطا تصير
مقدمة على أمر المهم تقدم الموضوع على حكمه، مع أن ذلك يقتضي الجمع على مبناه، فيكشف ذلك عن أن مناط دفع الطلب الضدين أمر
آخر غير نفس الترتب، وهو ما ذكرنا، وسيأتي (3) مزيد بيان له إن شاء الله.
الثالث: أن العصيان لا يكون متأخرا رتبة عن الامر، لعدم ملاك التأخر

(1) نهاية الدراية 1: 241 / سطر 4 - 5.
(2) يحتمل أن تقرأ الكلمة في المخطوطة: " مرتبتين "، والأقرب ما أثبتناه.
(3) وذلك في صفحة: 52 - 53 من هذا الجزء.
46

الرتبي فيه، فإنه إما من ناحية العلية والمعلولية، أو كون شي جز للعلة أو جز للماهية أو شرطا للتأثير أو التأثر، وكلها مفقود بالنسبة
إلى العصيان.
لا يقال: إن إطاعة كل أمر متأخرة عن الامر رتبة، لأنها عبارة عن الانبعاث عن البعث، ولا إشكال في تأخر الانبعاث عن البعث رتبة
تأخر المعلول عن علته أو عن جزئها، والعصيان عبارة عن ترك الامتثال بلا عذر، وهو مصداق نقيض الإطاعة، والماهية ومصداقها
ليسا في رتبتين، لمكان اتحادهما الذاتي، فالعصيان في رتبة نقيض الإطاعة، ونقيض الإطاعة في رتبتها، لان النقيضين في رتبة واحدة،
وما مع المتأخر رتبة متأخر كذلك، فينتج أن العصيان متأخر عن الامر.
وأيضا: إن الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده العام، فالامر بالأهم دافع للعصيان وعلة لرفعه، وعلة الشئ مقدمة عليه، والعصيان و
رفعه في رتبة واحدة، لكونهما نقيضين، وما مع المعلول مؤخر عن العلة.
فإنه يقال: كون النقيضين، في رتبة واحدة ممنوع، مر الكلام فيه، وكون ما مع المتأخر متأخرا رتبة ممنوع أيضا، لان مناط التأخر
الرتبي هو ما قدمناه، ومع فقدانه لا وجه للتأخر، وقياس التأخر الرتبي الذي يدركه العقل لأجل بعض المناطات بالتأخر الزماني
الخارجي، مع الفارق. فاتضح الجواب عن الشبهتين، وقد أغمضنا عن بعض الشبهات الواردة عليهما.
نعم، العصيان يتأخر عن الامر زمانا لو أغمض عن الاشكال الآتي، وهو غير التأخر الرتبي.
47

هذا، مضافا إلى أن العصيان عبارة عن ترك المأمور به بلا عذر، وهو معنى عدمي لا يمكن أن يتصف بحيثية وجودية مطلقا، وقد تكرر
منا (1): أن القضايا الصادقة التي موضوعاتها أمور عدمية لا بد وأن تكون من السالبة المحصلة أو ترجع إليها، والموجبات مطلقا لا تصدق
في الاعدام إلا بتأول وفي بعض القضايا الغير المعتبرة، كقوله: (العدم عدم)، فالعصيان بما أنه عدمي لا يمكن أن يتأخر عن شي أو
يتقدم، ولا يمكن أن يكون موضوعا لحكم ولا شرطا لشئ أو مانعا عنه.
وبما ذكرنا ينهدم أساس الترتب، لأنه مبني على التقدم و التأخر الرتبيين، وهما بين الامر وإطاعته - على تأمل فيه أيضا - لا بينه و
بين عصيانه. اللهم إلا أن يجعل الموضوع
[هو]
الذي لا يأتي بالمأمور به بلا عذر، لكن مع ذلك لا يكون التقدم رتبيا.
المقدمة الخامسة: الموضوع للحكم إما غير قابل للوضع والرفع التشريعيين، كالعقل، والبلوغ، أو قابل لهما، والثاني إما قابل للدفع و
الرفع، أو قابل للدفع فقط، وعلى التقديرين إما أن يكون قابلا للرفع الاختياري للمكلف - أيضا - أو لا، والرفع التشريعي إما أن يكون
بنفس التكليف أو بامتثاله.
ومحل البحث في الأهم والمهم هو هذا الأخير، وهو ما إذا كان امتثال التكليف رافعا لموضوع الاخر حيث يتحقق اجتماع كل من
الخطابين في الفعلية، لأنه ما لم يتحقق امتثال أحد الخطابين - الذي فرضنا أنه رافع لموضوع

(1) وذلك في صفحة: 12 من هذا الجزء.
48

الاخر بامتثاله - لا يرتفع الخطاب الاخر، فيجتمع الخطابان في الزمان والفعلية بتحقق موضوعهما.
والتحقيق: أن اجتماع مثل هذين الخطابين لا يوجب إيجاب الجمع، ولا بد أولا من معرفة معنى الجمع وما يقتضي إيجابه، فنقول:
أما الجمع فهو عبارة عن اجتماع كل منهما في زمان امتثال الاخر، بحيث يكون ظرف امتثالهما واحدا، وأما الذي يوجب الجمع فهو أحد
أمرين: إما تقييد كل من المتعلقين أو أحدهما بحال إتيان الاخر، وإما إطلاق كل من الخطابين كذلك.
والدليل على عدم إيجاب الجمع أمور:
الأمر الأول: أنه لو اقتضيا إيجاب الجمع والحال هذه للزم المحال في طرف المطلوب، لان مطلوبية المهم إنما تكون في ظرف عصيان
الأهم، فلو فرض وقوعه على صفة المطلوبية في ظرف امتثاله - كما هو لازم إيجاب الجمع - لزم الجمع بين النقيضين، إذ يلزم أن لا
يكون مطلوبا قبل العصيان ومطلوبا قبله.
الأمر الثاني: أنه يلزم المحال في طرف الطلب، لان خطاب الأهم يكون من علل عدم خطاب المهم، لاقتضائه رفع موضوعه، فلو اجتمع
الخطابان في رتبة لزم اجتماع الشئ مع علة عدمه، أو خروج العلة عن العلية، أو خروج العدم عن كونه عدما، وكل ذلك خلف محال.
49

الأمر الثالث: أن البرهان المنطقي - أيضا - يقتضي عدم إيجاب الجمع، فإن الخطاب الترتبي بمنزلة المنفصلة المانعة الجمع في النسبة
الطلبية في جانب المهم والنسبة التلبسية في جانب الأهم، فصورة القضية، هكذا: إما أن يكون الشخص فاعلا للأهم، وإما أن يجب عليه
المهم، ومعه كيف يعقل إيجاب الجمع (1)؟.
أقول: - بعد الغض عن الاشكال ببعض ما ذكره - أن ما ذكره من عدم اقتضاء هذين الخطابين الجمع مما لا إشكال فيه، إنما الكلام في
مناط عدم الاقتضاء، فلا بد من استقصاء العناوين التي يتصور أخذها شرطا لخطاب المهم أو موضوعا له، حتى يتضح موارد اقتضاء
الجمع وعدم اقتضائه والمناط فيهما، فنقول:
الشرط إما أن يكون العصيان الخارجي، أو التلبس بالعصيان والاخذ والشروع فيه، كما تشبث به المستدل في خلال كلامه، أو العنوان
الانتزاعي من العاصي، ك (الذي يعصي) أو (الذي يتعقبه العصيان). وتلك العناوين إما يكون ظرف تحققها أو انتزاعها ظرف تحقق
العصيان، أو ظرف الشروع فيه، أو قبلهما:
فإن كان العصيان الخارجي أو ما يساوقه خارجا - أي عنوان كان - يلزم الخروج عن بحث الترتب وإن لم يلزم إيجاب الجمع، وذلك
لأنه ما دام عدم تحقق العصيان لا يكون أمر المهم فعليا، وبتحقق العصيان يسقط أمر الأهم

(1) فوائد الأصول 1: 352 - 363، أجود التقريرات 1: 298 - 307.
50

بخروج متعلقه عن إمكان الاتيان به، إذ مع إمكانه لا يتحقق العصيان، ومع عدم إمكانه لا يعقل بقاء الامر الفعلي، من غير فرق بين كون
العصيان زماني التحقق أو آنية، ففي الثاني - أيضا - قبل تحقق الان ظرف أمر الأهم فقط، وبتحققه يتحقق العصيان، ويسقط أمر الأهم،
ويثبت أمر المهم، فأين اجتماعهما؟ فلازم اجتماعهما في الفعلية: إما تخلف المشروط عن شرطه بتقدمه عليه إن تعلق أمر المهم قبل
تحقق المعصية، أو بقاء أمر الأهم مع تحقق المعصية وعجز المكلف عن الاتيان به، وهما محالان.
وأما توهم كون العصيان في الرتبة العقلية فواضح الفساد، لان العصيان ترك المأمور به بلا عذر خارجا، ولا ربط له بالرتبة العقلية.
وهذا الاشكال وارد - أيضا - على جعل الشرط ما يكون مساوقا للعصيان خارجا طابق النعل بالنعل.
وأما إن جعل الشرط التلبس بالعصيان بمعنى الاخذ والشروع فيه - فمضافا إلى أن العصيان فيما نحن فيه ليس من الأمور الممتدة أو
المركبة مما يتصور فيه الاخذ والشروع، بل إذا ترك المأمور به إلى حد سلب القدرة ينتزع منه العصيان في حين سلب القدرة، ولا
ينتزع قبله، فتحقق العصيان آني وإن كان محتاجا في بعض الأحيان إلى مضي زمان حتى تسلب القدرة، فالعصيان بنفسه لا يكون
متدرج الوجود حتى يأتي فيه الشروع والختم.
51

يرد عليه: أن الشروع فيه: إما محقق العصيان، أولا، ولا ثالث لهما.
فالأول هو القسم الأول بعينه، ويرد عليه ما تقدم، والثاني يأتي حكمه في القسم الآتي.
وإن جعل الشرط أمرا انتزاعيا من العصيان الخارجي فلازمه طلب الجمع، لان الامر الانتزاعي متحقق قبل وقت امتثال الأهم وقبل
عصيانه، فأمر المهم صار فعليا باعثا نحو المأمور به، وأمر الأهم لم يسقط وبقي على باعثيته قبل تحقق العصيان، فهذا باعث نحو إنقاذ
الابن - مثلا - أول الزوال بعنوان (المكلف)، وذاك إلى إنقاذ الأب كذلك بعنوان (الذي يكون عاصيا فيما بعد)، والمكلف الذي يكون
عاصيا فيما بعد مبعوث فعلا نحو ذلك وذلك، وغير قادر على ذلك، ومجرد اختلاف العنوانين وطولية موضوع الامرين لا يدفع طلب
الجمع، ألا ترى أن عنوان المطيع - أيضا - مؤخر عن الامر، فلو جعل شرطا يكون مقدما على أمر المهم، فيصير أمر الأهم مقدما عليه
برتبتين، ومع ذلك لا يدفع ذلك طلب جمع الضدين.
وبذلك يتضح أن التقدم الرتبي ليس مناطا لدفع التضاد، والعصيان إذا جعل شرطا مع عدم تأخره عن أمر الأهم - كما مر - يدفع به
التضاد، لا للتقدم، بل لعدم جمع الامرين الفعليين، لما عرفت من أن ثبوت أمر المهم مساوق لسقوط أمر الأهم، وهذا هو تمام المناط
لرفع التضاد وطلب الجمع، وهو هدم أساس الترتب، وكذا يتضح حال سائر العناوين المساوقة لهذا الامر الانتزاعي.
52

فتحصل من جميع ما ذكرناه: أن ما يدفع به التضاد وطلب الجمع خارج عن أساس الترتب رأسا.
وما قد يقال: من أن المكلف لو جمع بين الأهم والمهم لم يقعا على صفة المطلوبية، وهذا آية عدم الامر بالجمع (1).
مدفوع: بأن الذي يعصي يمتنع عليه الجمع بينهما، للزوم اجتماع النقيضين، وإلا فلو فرض جواز الجمع - بمعنى أن العاصي مع كونه
عاصيا أتى بالأهم - وقع كل منهما على صفة المطلوبية، لان الذي يعصي مع كونه عاصيا في ظرفه مطلوب منه الاتيان بالأهم، لعدم
سقوط أمره بالضرورة، ما لم يتحقق العصيان خارجا، والفرض أن شرط المهم حاصل أيضا، فيكون مطلوبا.
إن قلت: أدل دليل على إمكان الشئ وقوعه، وقد وقع في الشرعيات ما لا محيص عن الالتزام به، مع أنها من الخطاب الترتبي:
منها: ما لو فرض حرمة الإقامة على المسافر من أول الفجر إلى الزوال، فلو فرض أنه عصى هذا الخطاب وأقام، فلا إشكال في وجوب
الصوم عليه، فيكون في الان الأول الحقيقي من الفجر قد توجه إليه كل من حرمة الإقامة ووجوب الصوم، لكن مترتبا، يعني أن وجوب
الصوم يكون مترتبا على عصيان حرمة الإقامة، ففي حال الإقامة يجب عليه الصوم مع حرمة الإقامة بالخطاب الترتبي.

(1) فوائد الأصول 1: 363.
53

ومنها: لو فرض وجوب الإقامة على المسافر من أول الزوال، فيكون وجوب القصر عليه مترتبا على عصيان وجوب الإقامة، حيث إنه لو
عصى ولم يقصد الإقامة توجه إليه خطاب القصر، وكذا لو فرض حرمة الإقامة، فإن وجوب التمام مترتب على عصيان حرمة الإقامة.
ومنها: وجوب الخمس المترتب على عصيان خطاب أداء الدين إذا لم يكن الدين من عام الربح، إلى غير ذلك (1).
قلت فيه أولا: أن الخطابات التي فرض ترتبها على عصيان خطابات اخر تكون فعليتها بعد تحقق العصيان، وبتحقق العصيان خارجا
تسقط تلك الخطابات، فلا يمكن اجتماع الخطابين الفعليين في حال من الأحوال، فلا يعقل تعلق خطاب الصوم المترتب على عصيان
الإقامة إلى الزوال في الأول الحقيقي من الفجر، فإن أول الفجر لم يكن ظرف العصيان، ومع عدم تحققه لا يعقل فعلية المشروط به، و
كذا الحال في سائر الفروع المفروضة.
وثانيا: أن خطاب الصوم والاتمام والقصر لم يترتب على عصيان حرمة الإقامة أو وجوبها، بل مترتب على عزم الإقامة وعدمه، ومع
عزمها لا يعقل إيجاب الخروج وإيجاب الصوم عليه، للزوم طلب الضدين، وكذا الامر بالصلاة فعلا تماما والخروج أمر بالضدين.
وثالثا: أن خطابات الصوم وإتمام الصلاة وقصرها لم تكن مترتبة على عصيان حرمة الإقامة أو وجوبها، بل على عزم الإقامة - كما
تقدم - أو نفسها

(1) فوائد الأصول 1: 357 - 359.
54

فرضا، وليس شي منهما متأخرا عن تلك الخطابات، فإن المتأخر عن الامر أو النهي - بعد التسليم - عصيانهما، دون ذات الإقامة أو
عزمها، لعدم ملاك التأخر فيهما، فالعصيان لا ينتزع من نفس الإقامة بما هي، بل من حيثية زائدة عليها، وهي كونها مصداقا عرضيا
لمخالفة المأمور به أو المنهي عنه، وهذه الحيثية متأخرة عن الأمر والنهي، لا ذات الإقامة بما هي أو عزمها بما هو، فالنقوض كلها أجنبية
عن باب الترتب (1).
وأما وجوب الخمس فلم يكن مترتبا على عصيان وجوب الدين في آية أو رواية، بل الخمس إنما يتعلق بالغنيمة أو الفائدة الزائدة عن
مئونة السنة، ومع أداء الدين لم تبق فائدة حتى يتعلق بها الخمس، من غير أن يكون خطابه مترتبا على عصيان خطاب آخر، فإيفاء الدين
رافع لموضوع الخمس، لا أن خطابه مترتب على عصيانه.
ومما ذكرنا من الايراد على الترتب يظهر النظر في تقرير آخر لعدم المطاردة بين الامرين، وهو:
أن اقتضاء كل أمر لطاعة نفسه في رتبة سابقة على طاعته، وهي رتبة أثره، فإن كل علة منعزلة عن التأثير في رتبة أثرها، وإنما
اقتضاؤه في مرتبة ذاته، ولما كان العصيان نقيض الطاعة فيجب أن يكون في رتبتها، فيلزم تأخره عن الامر، فإذا أنيط أمر بعصيان هذا
الامر فلا تعقل المزاحمة بينهما، إذ في رتبة

(1) هذا كله مع الغض عن أن تلك العناوين ليست بذاتها واجبة أو محرمة، ومع تعلق النذر وشبهه
[بها]
لم تصر واجبة أو محرمة كما مر
نظيره.
[منه قدس سره].
55

تأثير أمر الأهم لا وجود لأمر المهم، وفي رتبة الامر بالمهم لا يكون اقتضاء للامر بالأهم، فلا يقتضي مثل هذين الامرين إلقاء المكلف
فيما لا يطاق (1).
وفيه: أن الإناطة بالعصيان وإن ترفع التضاد والمزاحمة بينهما، لكن لا لمناط التقدم الرتبي، بل لسقوط فعلية الامر بالأهم لأجل
العصيان وعدم فعلية أمر المهم إلا بعد العصيان، فلا يجتمع الأمران في حين من الأحيان، وهذا هدم أساس الترتب.
هذا، مع ورود ما يرد على التقرير المتقدم - من عدم تأخر العصيان عن الامر - على هذا أيضا.
وقد قرر عدم المطاردة بعض مدققي العصر (2) رحمه الله بعد الإشارة إلى الترتب وتصديقه بأنه في غاية المتانة، والنظر فيه: بأن ذلك
لا يقتضي طولية الامر واشتراط أحدهما بعصيان الاخر، قائلا: بأنه لا إشكال في حكم العقل بالتخيير في صورة تساوي المصلحتين، و
ليس مرجع التخيير إلى اشتراط وجوب كل بعصيان الاخر، للزوم تأخر كل عن الاخر رتبة، وليس مرجعه - أيضا - إلى اشتراط كل أمر
بعدم وجود غيره، إذ في مثل ذلك وإن لم يلزم المحذور المتقدم ولا محذور إيجاب الضدين بنحو المطاردة في ظرف عدم الضدين،
إذ لازم الاشتراط أن لا يقتضي كل أمر إيجاد مقتضاه حال وجود الاخر، ولم يخرج الطلب المشروط عن كونه مشروطا، لكن مع ذلك لا داعي

(1) نهاية الدراية 1: 233 / سطر 16 - 23.
(2) مقالات الأصول 1: 119 - 120.
56

[إلى]
تقييد الطلب وإناطته بعد إمكان توجه الطلب الناقص إلى سائر الجهات، الملازم لتحقق الجهة الملازمة لعدم الاخر من باب الاتفاق،
فيرجع ما ذكرنا إلى أن كل طلب في ظرف المزاحمة يقتضي المنع عن بعض أنحاء التروك، قبال الطلب التام المقتضي لجميع أنحائه، مع
اشتراكهما في إطلاق الطلب.
فلنا أن نقول: إن الطلب بالنحو المزبور إذا لم يكن بينهما مطاردة لنقص فيهما، كذلك لم يكن بينهما مطاردة لو فرض نقص الطلب من
طرف واحد ولو لم يشترط الناقص بعصيان التام، إذ مقتضى الطلب الناقص حفظ سائر الجهات في ظرف انسداد الباب الملازم لوجود
الضد، فكيف يقتضي الطلب التام طرد هذا المقتضي، إذ نتيجة طرده منع انسداد تلك الجهة، وفي ظرفه لا اقتضاء للطلب الناقص؟ فأين
المطاردة من طرف واحد، فضلا عن الطرفين؟ انتهى.
ولا يخفى أنه يرد عليه ما يرد على الوجهين المتقدمين، لاشتراكه معهما في نقطة الضعف وإن فارقهما في جهة أخرى، فنقول:
إنه قبل تحقق إطاعة الطلب التام وعصيانه لا شبهة في اقتضائه البعث نحو متعلقه فعلا، لعدم سقوطه بهما، فطلب الناقص هل يؤخذ على
نحو يكون في هذا الحين باعثا نحو متعلقة، أو لا؟ فعلى الأول: يلزم طلب الجمع بين الضدين.
وعلى الثاني: يخرج عن محط البحث، ويكون باعثية المهم بعد سقوط أمر
57

الأهم، وأما قبله فلما لم تكن الجهة الملازمة لعدم الاخر من باب الاتفاق متحققة لم يكن أمر المهم فعليا.
وبعبارة أخرى: أن الطلب الناقص المتوجه إلى سائر الجهات الملازم لتحقق الجهة الملازمة لعدم الاخر - من باب الاتفاق - قبل تحقق
هذه الجهة الملازمة لعدم الاخر لم يكن باعثا فعلا، وأمر الأهم في هذا الحال باعث فقط، وإذا تحققت الجهة الملازمة لعدم الاخر خارجا -
أي صار العصيان متحققا - خرج أمر الأهم عن الفعلية، وصار أمر المهم فعليا، وعدم المطاردة بهذا المعنى لا إشكال فيه، لكنه خارج عن
محط البحث وهادم لأساس الترتب.
ولو أخذ النقصان لا من هذه الجهة، بل من الجهة الملازمة لكون الاخر معدوما في محله - أي بعنوان انتزاعي - ورد عليه: لزوم
المطاردة، فرفع المطاردة مرهون بتحقق العصيان خارجا، وهو ملازم لسقوط أمر الأهم، وهادم لأساس الترتب، وكذا لأساس ما أفاد
ذلك المحقق.
وبالجملة: هذا الوجه عين الوجه الأول وجها وإيرادا، ومفترق عنه بجهات، منها كون الأول مشتملا على التطويل الممل، وهو على
التقصير المخل.
58

الفصل السادس في جواز الامر مع انتفاء الشرط
هل يجوز أمر الامر مع علمه بانتفاء شرطه؟ في تقرير محط البحث احتمالات، بعضها مناف لعنوان البحث، كاحتمال كون الجواز بمعنى
الامكان الذاتي، لان علم الامر غير ممكن الدخل في الامكان الذاتي وامتناعه، وبعضها معلوم العدم، كاحتمال ذكره في الفصول (1)، و
تبعه المحقق الخراساني (2) - رحمه الله - وجعله وجه التصالح بين الفريقين، ضرورة أن أدلتهما تنافي ذلك التصالح، وإن كان بعضها لا
يخلو من مناسبة لما ذكر.
ولا يبعد أن يكون هذا البحث من تتمة بحث الطلب والإرادة، فإن

(1) الفصول الغروية: 109 / سطر 19.
(2) الكفاية 1: 220.
59

الامامية لما اختاروا بطلان الكلام النفسي وجعلوا الإرادة مبدأ للطلب - أي طلب كان - ذهبوا إلى امتناع توجه الإرادة إلى ما لا يمكن
تحققه، إما لفقدان شرط المأمور به أو لعدم قدرة المكلف.
والأشاعرة لما جعلوا الطلب غير الإرادة ولم يجعلوها من مبادئه جوزوا ذلك، وقالوا: قد يطلب المولى شيئا ولا يريده، وقد ينهى عنه
وهو يريده.
ثم إن البحث قد يقع في الأوامر الشخصية، كأمره تعالى للخليل عليه السلام وقد يقع في الأوامر الكلية القانونية، فعلى الأول فلا إشكال
في امتناع توجه البعث لغرض الانبعاث إلى من علم الامر فقدان شرط التكليف فيه، بل لا يمكن ذلك بالنسبة إلى من يعلم أنه لا ينبعث و
لو عصيانا، بل إلى من يعلم أنه آت بنفسه بمتعلق الطلب ولا يكون الطلب مؤثرا فيه بوجه، ضرورة أن البعث لغرض الانبعاث إنما يمكن
فيما يحتمل أو يعلم تأثيره فيه، ومع العلم بعدم التأثير لا يمكن البعث لغرض الانبعاث، وكذا الحال في الزجر والنهي.
ولا يخفى أن مناط امتناع إرادة البعث لغاية الانبعاث في هذه الموارد واحد، وهو عدم تحقق مبادئ الإرادة، من غير فرق بين امتناع
الانبعاث ذاتا أو وقوعا أو إمكانه مع العلم بعدم وقوعه. هذا كله في الإرادة الشخصية المتوجهة إلى أشخاص معينين.
وأما الإرادة التشريعية القانونية فغايتها ليست انبعاث كل واحد واحد، بل الغاية فيها - بحيث تصير مبدأ لها - هي أن هذا التشريع بما
أنه تشريع قانوني
60

لا يكون بلا أثر، فإذا احتمل أو علم تأثيره في أشخاص
[غير معينين من المجتمع]
في
[كافة]
الاعصار والامصار، تتحقق الإرادة التشريعية
على نعت التقنين، ولا يلزم فيها احتمال التأثير في كل واحد، لان التشريع القانوني ليس تشريعات مستقلة بالنسبة إلى كل مكلف، حتى
يكون بالنسبة إلى كل واحد بعثا لغرض الانبعاث، بل تشريع واحد متوجه إلى عنوان منطبق على المكلفين، وغرض هذا التشريع
القانوني لا بد وأن يلحظ بالنسبة إليه، لا إلى كل واحد مستقلا، وإلا لزم عدم تكليف العصاة والكفار، بل والذي يأتي
[بمتعلق الامر]
و
يترك متعلق النهي بإرادته بلا تأثير لتكليف المولى فيه، وهذا مما لا يمكن الالتزام به، وقد عرفت أن مناط الامتناع في البعث الشخصي
في العاجز والقادر العاصي واحد، فإذن ما لا يجوز أمر الامر مع العلم بانتفاء الشرط فيه هو الأوامر الشخصية المتوجهة إلى أشخاص
معينين، وأما الأوامر الكلية القانونية المتوجهة إلى عامة المكلفين، فلا تجوز مع فقد عامتهم للشرط، وأما مع كون الفاقد والواجد
[غير
معينين مع وجودهما]
في كل عصر ومصر - كما هو الحال خارجا - فلا يلزم تقييد التكليف بعنوان الواجد مثلا، وإلا يلزم تقييده بعنوان
غير العاصي وغير
[الجاهل]
وغير النائم، وهكذا، وهو كما ترى.
وإن شئت قلت: لا يكون الخطاب العام خطابات مستقلة لكل منها غاية مستقلة، فتدبر.
61

الفصل السابع في متعلق الأوامر والنواهي
هل الأوامر والنواهي تتعلق بالطبائع أو الافراد؟ لا تخلو كلمات القوم في تحرير محل النزاع من اضطراب، فيظهر من بعضها أن المسألة
عقلية صرفة أو مبنية عليها، وأن الإرادة والاشتياق والطلب لا يمكن أن تتعلق بما لا يكون منشأ للآثار، فعلى القول بأصالة الوجود لا بد
من تعلقها به، وعلى القول بأصالة الماهية لا بد أن تتعلق بها (1).
أو أنها مبنية على وجود الطبيعي وعدمه (2)، فعلى الأول تتعلق بها، وعلى الثاني بالفرد، لامتناع تعلقها بما لا وجود له.

(1) الكفاية 1: 223 - 224.
(2) أجود التقريرات 1: 210، فوائد الأصول 2: 416، نهاية الدراية 1: 248
سطر 6 - 7.
63

ويظهر من بعضها: أن النزاع في أنها تتعلق بالطبائع أو بالوجود الخارجي، حيث أبطل الثاني بأنه طلب الحاصل (1).
ومن بعضها: أنها مسألة لغوية، حيث تشبث بالتبادر في إثبات تعلقها بالطبائع (2).
ومن بعضها: أن النزاع في سراية الإرادة للخصوصيات اللاحقة للطبيعة في الخارج وعدمها (3)، إلى غير ذلك (4).
والتحقيق: أن محط البحث ليس في تعلقها بالكلي الطبيعي أو أفراده مما هو المصطلح في المنطق، فإن الماهيات الاعتبارية المخترعة
كالصلاة والحج ليست من الكليات الطبيعية، ولا مصاديقها مصاديق الكلي الطبيعي، فإن الماهيات المخترعة وكذا أفرادها، ليست
موجودة في الخارج، لان المركب الاختراعي - كالصلاة والحج - لم يكن تحت مقولة واحدة، ولا يكون لمجموع أمور وجود حتى يكون
مصداقا لماهية وكلي طبيعي.
وبه يظهر أن المسألة أجنبية عن أصالة الوجود والماهية، بل المراد من الطبيعي هاهنا هو العنوان الكلي، سوأ كان من الطبائع الأصيلة
أم لا.
ولا يختص البحث بصيغة الأمر والنهي، بل الكلام في متعلق الطلب بأي دال كان، ولو بالجملة الاخبارية في مقام الانشاء.

(1) نهاية الأفكار 1: 380 - 382.
(2) الفصول الغروية: 107 / سطر 37.
(3) فوائد الأصول 2: 417، نهاية الأفكار 1: 384 - 386.
(4) هداية المسترشدين: 159 / سطر 4 - 7.
64

ثم لا يبعد أن يكون محط البحث: أن الامر إذا تعلق بماهية بالمعنى المتقدم، هل يسري إلى الافراد والمصاديق المتصورة بنحو الاجمال
منها، بحيث تكون الطبيعة وسيلة إلى تعلقه بالمصاديق الملحوظة بنحو الاجمال، لا بما هي ملحوظة ومتصورة بل بنفس ذاتها، كما في
الوضع العام والموضوع له الخاص، فيكون معنى (صل): أوجد فردها ومصداقها، لا الفرد الخارجي ولا الذهني، بل ذاته المتصورة
إجمالا، فإن الافراد قابلة للتصور إجمالا قبل وجودها، كما أن الطبيعة قابلة له قبله، وما ذكرنا نزاع معقول.
والتحقيق: أن الأوامر والنواهي مطلقا متعلقة بالطبائع، بمعنى أن الامر قبل تعلق أمره بشي يتصوره بكل ما هو دخيل في غرضه، و
يبعث المكلف نحوه ليوجده في الخارج، ضرورة أن البعث الحقيقي لا يمكن أن يتعلق بما هو أوسع أو أضيق مما هو دخيل في الغرض،
للزوم تعلق الإرادة والشوق بغير المقصود أو به مع الزيادة جزافا، فإذا لم تكن للخصوصيات الفردية دخالة في غرض الامر لا يمكن أن
يبعث نحوها، لان البعث تابع للإرادة التشريعية التابعة للمصالح، وتعلقها بما هو غير دخيل في تحصيلها ممتنع، كتعلقها ابتدأ بأمر بلا
غاية.
وتوهم تعلقها تبعا بما هو من ملازمات المراد باطل، لأنه مع خروجه عن محط البحث - لان الكلام ليس في استلزام إرادة لإرادة أخرى
كباب المقدمة، بل في متعلق الأمر - قد فرغنا عن بطلانه.
وإن شئت قلت: إن الطبيعة - أية طبيعة كانت - لا يعقل أن تكون
65

مرآة لشئ من الخصوصيات الفردية اللاحقة لها في الخارج، ومجرد اتحادها معها خارجا لا يوجب الكشف والدلالة، فلا يكون نفس
تصور الماهية كافيا في تصور الخصوصيات، فلا بد للامر من تصورها مستقلا بصورة أو صور غير صورة الطبيعي ولو بالانتقال من
الطبيعي إليها، ثم تتعلق
[بها مستقلا إرادة أخرى]
غير الإرادة المتعلقة بنفس الطبيعة، وهذه الإرادة جزاف محض.
بل يمكن أن يقال: إن تصور الافراد غير تصور الطبيعة، ضرورة أن تصور الخاص الجزئي من شؤون القوى النازلة للنفس، وتعقل
الطبيعة من شؤون العاقلة بعد تجريد الخصوصيات، فربما يتصور الافراد مع الغفلة عن نفس الطبيعة وبالعكس.
فالامر إذا أراد توجيه الامر إلى الطبيعة لا بد من لحاظها في نفسها، وإذا أراد الامر بالافراد لا بد من لحاظها: إما بعنوان إجمالي، وهو
مباين لعنوان الطبيعة في العقل، وإما تفصيلا مع الامكان، وهو - أيضا - غير لحاظ الطبيعة.
فإذا فرض كون الطبيعة ذات مصلحة ولو بوجودها الخارجي، فلا بد للامر من تصورها وتصور البعث إليها وإرادته، ففي هذا اللحاظ لا
تكون الافراد ملحوظة لا إجمالا ولا تفصيلا، ولا تكون ملازمة بين اللحاظين، وصرف اتحاد الخصوصيات الخارجية مع الطبيعة خارجا
لا يوجب الملازمة العقلية، فلا بد لتعلق الامر بها من لحاظ مستأنف وإرادة مستأنفة جزافا.
ثم إن البعث نحو المأمور به، سوأ كان بصيغة الامر أو بدال آخر، وكذا
66

الزجر في النهي، هل هو عبارة عن طلب الوجود في الامر، وطلب تركه أو الزجر عنه في النهي، بمعنى وضع الهيئة لطلب الايجاد أو
الوجود - مثلا - أو استعمالها فيه.
أو أن البعث يتعلق بوجود الطبيعة، بمعنى أن الهيئة موضوعة لنفس البعث، ولما كان البعث إلى الطبيعة لا معنى له قدر الوجود.
أو لا ذا ولا ذاك، بل البعث إلى الطبيعة لازمه العقلي أو العرفي تحصيلها في الخارج، فقوله: (صل) يفيد البعث إلى الطبيعة، ولكن الطبيعة
لا تكون طبيعة حقيقة وبالحمل الشائع إلا بوجودها الخارجي، فنفس الطبيعة ليست بشي، وفي الوجود الذهني ليست هي هي حقيقة،
فيكون البعث المتعلق بنفس الطبيعة بعثا إلى تحصيلها، وهو لا يكون إلا بإيجادها خارجا عقلا وعرفا. وبعبارة أخرى: أن إطاعة
التحريك نحو الطبيعة والانبعاث عن البعث إليها بإيجادها وتحصيلها خارجا؟ وجوه.
الظاهر هو الأخير، لان الهيئة لم توضع إلا لايقاع البعث نحو المادة بحكم التبادر، والمادة هي الطبيعة، والمتفاهم عرفا من الامر هو
طلب المأمور به، أي البعث نحو المادة، ولهذا لا يفهم من مثل (أوجد الصلاة) إيجاد وجود الصلاة، بل يفهم منه البعث إلى الايجاد.
تنبيه: في كيفية تعلق الامر بالماهية:
هل يتعلق الامر بنفس الماهية، أو بما هي ملحوظة مرآة للخارج باللحاظ
67

التصوري وإن كان اللاحظ يقطع بخلافه بالنظر التصديقي؟ قد يقال: إن محط البحث في تعلق الامر بالطبيعة هو الطبيعة على النحو
الثاني، وأما نفس الطبيعة فلا يعقل تعلق الامر بها، لأنها من حيث هي ليست إلا هي، لا تكون مطلوبة ولا مأمورا بها، فلا بد أن تؤخذ
الطبيعة، بما هي مرآة للخارج باللحاظ التصوري، حتى يمكن تعلق الامر بها (1).
ولا يخفى أن هذا ناش من الغفلة عن معنى قولهم: الماهية من حيث هي ليست إلا هي، ولهذا زعم أن الماهية لا يمكن أن يتعلق بها أمر أو
يحلقها شي آخر، مع أن الامر ليس كذلك، بل معنى هذا أن الأشياء كلها منتفية عن مرتبة ذات الماهية، ولم يكن شي عينا لها ولا جز
مقوما، وأن كل ما ذكر يلحق بها وخارج عن ذاتها وذاتياتها، وهذا لا ينافي لحوق شي بها، فالماهية وإن كانت من حيث هي ليست إلا
هي - أي في مرتبة ذاتها لا تكون إلا نفس ذاتها - لكن تلحقها الوحدة والكثرة والوجود وغيرها من خارج ذاتها، وكل ما يلحقها ليس
ذاتا ولا ذاتيا لها، أي ذاتي باب إيساغوجي.
فالامر إنما يتعلق بنفس الماهية من غير لحاظها متحدة مع الخارج، بل لما رأى المولى أن الماهية في الخارج منشأ الآثار - من غير توجه
نوعا إلى كون الآثار لوجودها أو لنفسها في الخارج - ولم تكن موجودة، يبعث المأمور إلى إيجادها وصيرورتها خارجية، فالمولى
يرى أنها معدومة، ويريد

(1) نهاية الأفكار 1: 380 - 381.
68

بالامر إخراجها من المعدومية إلى الموجودية بوسيلة المكلف. فلحاظ الاتحاد التصوري مع القطع بالخلاف تصديقا - مع كونه لا محصل
له رأسا - لا يفيد شيئا، ومع الغفلة عن القطع بالخلاف مناف لتعلق الامر وتحريك المأمور نحو الايجاد.
وبالجملة: هذا التكلف ناش من توهم عدم إمكان تعلق الامر بالماهية، لتخيل منافاة ذلك لما اشتهر بينهم من القول المتقدم، مع أنه
أجنبي عنه.
فالتحقيق الذي يساعد عليه الوجدان: أن الامر متعلق بنفس الماهية في حين توجه الامر إلى معدوميتها، ويريد بالامر سد باب إعدامها،
وإخراجها إلى الوجود بوسيلة المكلف.
هذا كله، مع أن مرآتية الماهية للافراد غير معقولة، كما مر مرارا.
نقد وتحصيل: في المراد من وجود الطبيعي خارجا:
قد استأنف بعض المحققين (1) - بعد بنائه على تعلق الامر بالطبيعة - فصلا محصله: أنه إذا تعلق الامر بعنوان على نحو صرف الوجود،
فهل يسري إلى أفراده تبادلا، فتكون الافراد بخصوصياتها تحت الطلب، أم لا؟ وعلى الثاني فهل يسري إلى الحصص المقارنة للافراد
كما في الطبيعة السارية، أم لا، بل الطلب يقف على نفس الطبيعة؟

(1) نهاية الأفكار 1: 380 - 388.
69

قال: توضيح المراد يحتاج إلى مقدمة: وهي أن الطبيعي حسب أفراده يتحصص، وكل فرد منه مشتمل على حصة منه مغايرة للحصة
الأخرى، باعتبار محدوديتها بالمشخصات الفردية، ولا ينافي ذلك اتحاد تلك الحصص بحسب الذات، وهذا معنى قولهم: إن نسبة
الطبيعي إلى أفراده نسبة الآباء إلى الأولاد (1)، وإن مع كل فرد أبا من الطبيعي غير الاخر، ويكون الآباء مع اختلافها بحسب المرتبة
متحدة ذاتا.
ثم قال: التحقيق يقتضي وقوف الطلب على نفس الطبيعة، وأقام عليه دليلين، ثم قال: لا يخفى أن عدم سراية الطلب إلى الحصص إنما هو
بالقياس إلى الحيثية التي تمتاز بها الحصص الفردية بعضها عن البعض الاخر المشترك معه في الجنس والفصل القريبين، وأما بالنسبة
إلى الحيثية الأخرى التي بها تشترك تلك الحصص، وتمتاز بها عن أفراد النوع الآخر المشاركة لها في الجنس القريب، وهي الحيثية
التي بها قوام نوعيتها، فلا بأس بدعوى السراية إليها، بل لعله لا محيص عنها من جهة أن الحصص بالقياس إلى تلك الحيثية واشتمالها
على مقومها العالي، ليست إلا عين الطبيعي، ونتيجة ذلك كون التخيير بين الحصص شرعيا لا عقليا.
إن قلت: إن الطلب تعلق بالعناوين والصور الذهنية، لا المعنونات الخارجية، فيستحيل سرايته إلى الحصص الفردية، حيث إنها تباين
الطبيعي ذهنا، وإن كان كل من الحصص والطبيعي ملحوظا بنحو المرآتية.

(1) الأسفار 2: 8.
70

قلت: إن المدعى هو تعلق الطلب بالطبيعي بما هو مرآة للخارج، ولا ريب في أن وجود الطبيعي في الخارج لا يمتاز عن وجود الحصص،
بل هو الجهة المشتركة الجامعة بين الحصص، والمرئي بالطبيعي الملحوظ مرآة للخارج ليس إلا تلك الجهة الجامعة بين الحصص، وهذا
مرادنا من سراية الطلب من الطبيعي إلى حصصه، بل التعبير بها مسامحي، إذ بالنظر الدقي يكون الطلب المتعلق بالطبيعي الملحوظ
مرآة متوجها إلى الجهة الجامعة بين الحصص، فمتعلق الطلب في الحقيقة هي تلك الجهة الجامعة بعينها. انتهى بطوله.
الظاهر أنه أشار في تحقيق الكلي الطبيعي إلى ما اشتهر بين تلامذته نقلا عنه: من أن الحصص بالنسبة إلى الافراد كالآباء والأولاد، و
الطبيعي هو أب الآباء، وهو الجهة المشتركة بين الحصص، ويكون الطبيعي مرآة لهذه الجهة المشتركة الخارجية.
وزعم أن المراد بقول بعض أهل فن المعقول: - إن الطبيعي بالنسبة إلى الافراد كالآباء والأولاد - هو حصصه، وافترض آباء هي
الحصص، وأب الاباء وهو القدر المشترك بينها الذي يكون الطبيعي مرآة له، غفلة عن أن ما ذكروا - من أن نسبة الطبيعي إلى الافراد
نسبة الاباء إلى الأبناء - فرار عن الأب الواحد الذي التزم به الرجل الهمداني الذي صادف الشيخ الرئيس، ففي الحقيقة جمع هذا المحقق
بين الالتزام بمقالة الرجل الهمداني وبين ما ذكر جوابا له، غفلة عن حقيقة الامر.
71

ولما كان ذلك منشأ لاشتباه كثير منهم في كثير من المباحث، فلا بأس بالإشارة الاجمالية إلى مراد الرجل الهمداني، ومراد القوم في
مقابله، فنقول:
زعم الرجل أن معنى وجود الطبيعي في الأعيان هو أن ذاتا واحدة بعينها مقارنة لكل واحد من المقارنات المختلفة موجودة بنعت الوحدة
في الخارج، وأن ما به الاشتراك الذاتي بين الافراد متحقق خارجا بما هو الجهة المشتركة.
وكأنه توهم - من قولهم: إن الاشخاص تشترك في حقيقة واحدة هي الطبيعي، وقولهم: إن الكلي الطبيعي موجود في الخارج - أن
مقصود القوم هو موجودية الجهة المشتركة بما هي كذلك في الخارج، قائلا: هل بلغ من عقل الانسان أن يظن أن هذا موضع خلاف بين
الحكماء؟ على ما حكي عنه (1).
وربما يستدل لما توهمه الرجل تارة: بأن الطبيعي معنى واحد منتزع من الخارج، ولا يمكن أن يكون الكثير بما هو كثير منشأ لانتزاع
الواحد، فلا بد من جهة اشتراك خارجي بنعت الوحدة، حتى يكون الطبيعي مرآة لها ومنتزعا منها.
وأخرى: بأن العلل المختلفة إذا فرض اجتماعها على معلول واحد، لا بد فيها من جهة وحدة خارجية مؤثرة في الواحد بمقتضى قاعدة
لزوم صدور الواحد عن الواحد.

(1) الأسفار 1: 273.
72

وربما يمثل لذلك بأمثلة جزئية، كتأثير بندقتين (1) في قتل شخص، وتأثير قوى أشخاص في رفع حجر، وتأثير النار والشمس في
حرارة الماء (2) إلى غير ذلك من هوساتهم.
وهذا معنى كون الطبيعي كأب واحد بالنسبة إلى الأبناء، أي يكون بنعت الوحدة والاشتراك موجودا في الخارج.
وفي مقابلة قول المحققين (3)، وهو أن الطبيعي موجود في الخارج لا بنعت الوحدة والنوعية واشتراك الكثرة فيه، بل من حيث طبيعته
وماهيته، وأن العموم والاشتراك لاحق له في موطن الذهن، والجهة المشتركة ليس لها موطن إلا العقل، والخارج موطن الكثرة، و
الطبيعي موجود في الخارج بوجودات متكثرة، وهي متكثرة حسب تكثر الافراد والوجودات، لا بمعنى تحصصه بحصص، فإنه لا محصل
له، بل بمعنى أن كل فرد متحد في الخارج مع الطبيعي بتمام ذاته، لان ذاته غير مرهونة بالوحدة والكثرة، فهو مع الكثير كثير
[ومع
الواحد واحد
.]
فزيد إنسان، لا حصة منه، وعمرو إنسان آخر، لا حصة أخرى منه، وهكذا، وإلا لزم كون زيد بعض الانسان لا الانسان، وعمرو كذلك،
وهو

(1) البندقة: واحدة البندق والبنادق، وهو ما يرمى به. مجمع البحرين 5: ص 141 مادة
" بندق ".
(2) درر الفوائد - طبعة جماعة المدرسين - 1: 192 هامش 1.
(3) الأسفار 1: 272 - 274، نهاية الأفكار 1: 385.
73

ضروري الفساد.
فلو وجدت الجهة المشتركة في الخارج لزم أن تكون موجودة بنعت الوحدة، لان الوجود مساوق للوحدة، فلزم إما وحدة جميع الافراد
وجودا وماهية، أو كون الواحد كثيرا، وكون كل فرد موجودا بوجودين: أحدهما بحيثية الجهة المشتركة، فيكون كل الافراد واحدا في
الوجود الخارجي من هذه الحيثية، وثانيهما وجوده بالحيثية
[المميزة له عن]
قرنائه.
وهذا - أي كون الانسان غير موجود بنعت الوحدة والاشتراك بل بنعت الكثرة المحضة - مرادهم من أن الطبيعي مع الافراد كالاباء مع
الأولاد، لا الأب مع الأبناء.
وهذا الفاضل الأصولي لما لم يصل إلى مغزى
[كلامهم]
جمع بين الاباء والأب، فجعل للافراد أبا وجدا هو أب الاباء، ولهذا تراه صرح في
جواب (إن قلت): بأن وجود الطبيعي في الخارج هو الجهة المشتركة، وأن المرئي بالطبيعي الملحوظ مرآة للخارج ليس إلا تلك الجهة
الجامعة بين الحصص، وهذا بعينه قول الرجل الهمداني الذي أفرد شيخ المشائين رسالة لرده.
وقد نقل نص الشيخ (1) بأن الانسانية الموجودة كثيرة بالعدد، وليست ذاتا واحدة، وكذلك الحيوانية، لا كثرة باعتبار إضافات مختلفة،
بل ذات الانسانية المقارنة لخواص زيد هي غير ذات الانسانية المقارنة لخواص عمرو، فهما إنسانيتان: إنسانية قارنت خواص زيد، و
إنسانية قارنت خواص عمرو،

(1) الأسفار 1: 374.
74

لا غيرية باعتبار المقارنة حتى تكون حيوانية واحدة تقارن المتقابلات من الفصول. انتهى.
وهذه العبارة - كما ترى - ناصة على خلاف ما زعم هذا المحقق، مع أن البرهان قائم على خلافه.
وأما ما أيدنا به قول الهمداني من حديث انتزاع الواحد عن الواحد، فبعد الغض عن أن الطبيعي ليس من الانتزاعيات - بل من الماهيات
المتأصلة الموجودة في الخارج تبعا للوجود تحققا وتكثرا، وأن معنى موجوديتها موجوديتها ذاتا تبعا للوجود، لا موجودية منشأ
انتزاعها، وأن كثرة الوجود منشأ تكثرها خارجا، لأنها بذاتها لا كثيرة ولا واحدة، فالكثرة تعرضها خارجا، بمعنى صيرورة ذاتها
كثيرة بتبع الوجود خارجا، والوحدة تعرضها في العقل عند تجريدها عن كافة اللواحق - أن الانتزاع هاهنا ليس إلا عبارة عن إدراك
النفس من كل فرد بعد تجريده عن المميزات ما تدرك من فرد آخر.
فإذا جردت النفس خصوصيات (زيد) تدرك منه معنى الانسان أي طبيعيه من غير اتصافه بنعت الوحدة المشتركة النوعية، وكذا إذا
جردت خصوصيات (عمرو) تنال منه ما تنال من (زيد) بلا تفاوت، وبعد لحاظ كونه مشتركا بين الافراد تحكم بأنه الجهة المشتركة،
فالوحدة تعرضه في العقل عند التحليل والتجزئة، لا في الخارج ولا في حاق الذهن.
وأما حديث تأثير الواحد في الواحد ففي غاية السقوط، منشؤه مقايسة الفاعل الإلهي البسيط بالفواعل الطبيعية، مع عدم التأمل فيها أيضا،
ضرورة
75

أن العلة البسيطة الإلهية يكون معلولها عين التعلق بها، و
[ما]
يكون بتمام هويته وحقيقته ربطا محضا بعلته، لا يمكن أن يكون له حيثية
غير مرتبطة بها، وإلا لزم الاستغناء الذاتي، وهو ينافي الامكان، وفي مثله لا يمكن أن يجتمع عليه علتان حتى يبحث في كيفيته، ولا
يعقل تفويض الفاعل الإلهي أثره إلى غيره، أو تعلق المعلول بالذات بغير علته الخاصة به.
وبالجملة: لا يعقل ربط المعلول البسيط تارة بهذه العلة، وأخرى بهذه، وثالثة بالجامع بينهما، للزوم الانقلاب الذاتي في البسيط.
وأما الفواعل الطبيعية، فهي بالنظر إلى شخص الأثر الخاص بها كذلك، فإن شخص الحرارة القائمة بشعاع الشمس لا يمكن أن يكون
متعلقا بالنار وبالعكس، فإذا اجتمعت الشمس والنار على التأثير في ماء واحد يكون كل منهما مؤثرا فيه بقدر أثره الخاص به، فإن الماء
غير بسيط، بل مركب ذو امتداد يتأثر من هذه وهذه، ولا إشكال في تأثر مثل هذا الواحد الطبيعي - القابل للتجزئة والتركيب -
بعلتين، فأثر كل علة غير أثر الأخرى، وتأثر الماء بكل غير تأثره ب آخر.
وهكذا الامر في اجتماع أشخاص على رفع الحجر، فإن كل واحد يؤثر فيه أثرا خاصا به، حتى يحدث في الحجر - بواسطة القواسر
العديدة - ما يغلب على ثقله الطبيعي أو جاذبة الأرض، وهذا واضح جدا.
إذا عرفت ذلك اتضح لك الخلل فيما زعمه - رحمه الله - من البناء على هذا المبنى الفاسد.
76

وأما ما ترى في خلال كلامه: من أن الحيثية التي تشترك بها هذه الحصص، وتمتاز عن أفراد النوع الآخر، هي الحيثية التي بها قوام
نوعيتها، وهي متحدة مع الطبيعي (1).
ففيه: أن الطبيعي لا يمكن أن يتحصص بنفس ذاته، بل التحصص يحصل عن تقيده بقيود عقلية، مثل الانسان الأبيض والأسود. وبالجملة:
لا يمكن التحصص - على فرضه - بلا لحوق شي للطبيعي، فحينئذ لا يمكن أن تكون الحصص نفس الطبيعي في اللحاظ العقلي، والاتحاد
الخارجي كما يكون بين الحصص والطبيعي، يكون بين الافراد والطبيعي، والاتحاد الخارجي لا يوجب سراية الامر، وما به الامتياز -
بين حصص نوع مع حصص نوع آخر - ليس الفصل المقوم فقط، بل به وبالتقيدات الحاصلة من القيود اللاحقة المحصلة للحصص، و
الامتياز بالفصل المقوم فقط إنما يكون بين نوع ونوع آخر، لا حصصهما.
فتحصل مما ذكرنا: أن الامر المتعلق بالطبيعي لا يمكن أن يسري إلى الافراد، ولا إلى الحصص التي تخيلت للطبيعي.

(1) نهاية الأفكار 1: 386.
77

الفصل الثامن في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب
إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز؟ والكلام يقع في مقامات:
المقام الأول في إمكان بقائه عقلا
قد يقال بإمكانه، بدعوى أن الوجوب وإن كان بسيطا، إلا أنه يتضمن مراتب عديدة، وهي: أصل الجواز، والرجحان، والالزام، فيمكن
أن يرتفع بعض المراتب ويبقى الاخر. وبما أن الوجوب حقيقة ذات تشكيك فلا حاجة في إثبات مرتبة بعد ارتفاع الأخرى إلى دليل على
الفصل، فإنه بعد ذهاب مرتبة منه يتحدد قهرا بالأخرى، نظير الحمرة الشديدة التي تزول مرتبة
79

منها فتبقى مرتبة أخرى (1).
وفيه أولا: أن الوجوب أمر انتزاعي من البعث الناشئ من الإرادة الحتمية، والأمور الانتزاعية ليست ذات مراتب حتى يأتي فيها ما ذكر و
التفاوت بين البعث الالزامي والاستحبابي ليس في نفس البعث، بل في منشئه الذي هو الإرادة.
نعم لو كان الوجوب هو الإرادة المظهرة، فباعتبار الإرادة يكون ذا مراتب، لكن المبنى فاسد.
وثانيا: لو كان بسيطا وذا مراتب لم يلزم منه إمكان ذهاب مرتبة وبقاء الأخرى، لان معنى كون البسائط ذات مراتب ليس أن كل مرتبة
منها كذلك. مثلا: أن الوجود - عند أهله - حقيقة ذات تشكيك، وليس لازمه أن الوجود الواجبي - أيضا - ذو مراتب، والوجود العقلي
كذلك، بل المراد أن نفس الحقيقة تصدق على الواجب - الذي هو مرتبة بسيطة كاملة منها عندهم - وعلى المراتب الاخر دونه، صدقا
مشككا، لا أن كل هوية ذات مراتب.
فنقول: كون الوجوب في المقام ذا مراتب معناه أن مرتبة منه الوجوب، ومرتبة منه الوجوب الأكيد، وأخرى آكد منهما وهكذا، و
مفهوم الوجوب يصدق عليها صدقا مشككا، لا أن كل وجوب ذو مراتب.
نعم ينتزع من الوجوب الجواز بالمعنى الأعم والرجحان بمعناه، لا بمعنى

(1) نهاية الأفكار 1: 389.
80

وجودهما في ضمنه، بل بمعنى أن طبيعي الجواز والرجحان موجود بعين وجود الوجوب، فالوجوب هو الجواز والرجحان، ومع ذهابه
يذهبان بعين ذهابه.
وثالثا: لو فرضنا أن المنظور من الوجوب ومراتبه هو الإرادة المظهرة فهي في الحيوان والانسان وإن يتطرق إليها الشدة والضعف،
لكونها من شؤون المادة، لكن لا يمكن ذلك في المبادئ العالية.
فالحق: عدم إمكان بقاء الجواز أو الرجحان - أي الاستحباب - مع رفع الوجوب.
المقام الثاني في مقتضى الأدلة إثباتا بعد فرض إمكانه
والحق عدم دلالة شي من الناسخ والمنسوخ عليه، لان دليل الوجوب ليس له ظهورات حتى يبقى بعضها مع سقوط بعض، بل البعث
الالزامي لا يكون له ظهور إلا في نفس البعث، ويفهم الالزام من أمر آخر، كحكم العقلا، بكونه تمام الموضوع لوجوب الطاعة، إلا أن
يقوم دليل على الترخيص، ولو فرض ظهوره في الوجوب وضعا لا يكون له إلا ظهور واحد، فمع قيام الدليل على النسخ لا يبقى ظهور له.
ولو قيل: إن الطلب الالزامي كما يكشف عن الإرادة الالزامية يكشف عن الرجحان الفعلي وعن أصل الجواز، فإذا سقطت كاشفيته
بالنسبة إلى
81

الالزام بقيت بالنسبة إلى غيره.
قلت أولا: إن الطلب لا يكشف إلا عن الإرادة الحتمية، لكن العقل يحكم بأن الرجحان والجواز بمعناهما الأعم موجودان بوجوده، ومع
سقوط كشفه عن الإرادة الحتمية لا يبقى منكشف ولا كاشف.
وثانيا: لو فرضنا كون المنكشف متعددا، لكنه طولي لا عرضي، لان الطلب الالزامي يكشف عن الإرادة الحتمية، وهي تكشف عن
الرجحان والجواز، ومع الطولية لا يمكن بقاء الكاشفية.
بل لو فرض العرضية لم يمكن ذلك أيضا، لأنه مع سقوط الكاشف لا مجال للكشف. نعم لو كان في المقام كواشف فبسقوط أحدها لا
يسقط الاخر، لكنه كما ترى.
وبما ذكرنا سقط ما قيل: من أن القدر المتيقن من دليل النسخ رفع خصوص الالزام، وفيما عداه يؤخذ بدليل المنسوخ، نظير ما إذا ورد
دليل ظاهر في الوجوب، ودليل آخر على عدمه، فيجمع بينهما، ويؤخذ بظهور دليل الوجوب في مطلق الرجحان، ويرفع اليد عن
ظهوره في الالزام، فليكن المقام كذلك (1).
ضرورة أن الجمع بين الامر الظاهر في الوجوب والنص المرخص في تركه - بحمل الامر على الاستحباب - ليس أخذا ببعض مراتب
الظهور وترك بعض مراتبه، بل هو تحكيم النص على الظاهر وحمله على خلاف ظاهره. هذا لو

(1) نهاية الأفكار 1: 390.
82

فرضنا ظهور الامر في الوجوب، وإلا فالكلام فيه غير ذلك.
وأما ما نحن فيه، فبعد العلم بأن الامر للوجوب، والعلم برفع الوجوب، فلا مجال لبقاء الاستحباب، إلا إذا فرض مراتب للظهور، وهو
بمكان من الفساد، فالقياس مع الفارق، والمقيس عليه ليس كما توهم (1).
المقام الثالث في استصحاب الجواز عند الشك في بقائه
لو فرض الشك في بقاء الجواز، هل يمكن استصحابه، بتقريب: أن طبيعي الجواز كان موجودا بوجود الوجوب، ومع رفعه نشك في بقاء
أصل الجواز مع مصداق آخر، فيستصحب؟ قلت: الحق عدم جريانه هنا ولو سلمنا جريانه في القسم الثالث من الكلي، لان من شرائط
جريانه أن يكون المستصحب موضوعا ذا أثر شرعي، أو حكما مجعولا كنفس الوجوب والاستحباب، والمقام ليس كذلك:
أما الأول: فواضح.
وأما الثاني: فلان الجواز - الجامع بين الوجوب والجواز بالمعنى الأخص والاستحباب - ليس مجعولا وحكما شرعيا، بل الجعل إنما
تعلق بكل منها، والعقل ينتزع من الجعل المتعلق بها الجواز بالمعنى الأعم، وهذا الامر الانتزاعي ليس حكما شرعيا ومجعولا شرعا، فلا
مجال لاستصحابه.

(1) نفس المصدر السابق.
83

الفصل التاسع في الواجب التخييري
لا إشكال في وقوع ما هو بظاهره الواجب التخييري في الشرع والعرف، إنما الكلام في إمكانه ثبوتا حتى يؤخذ بظاهر الأدلة، أو عدمه
حتى يترك ظاهرها ويوجه بنحو، كالالتزام بتعلق التكليف بالجامع تعيينا وأن التخيير عقلي، أو تعلقه بالجامع الانتزاعي، أو غيرهما.
ما يمكن أن يقال في وجه الامتناع: أن الإرادة التكوينية لا يمكن أن تتعلق بما هو مردد واقعا، فكذلك التشريعية.
والسر في عدم الامكان: أن الوجود - أي وجود كان - مساوق للتشخص والتعين الواقعي، والتردد النفس الامري مضاد للموجودية،
فلا يمكن أن يكون وجود مترددا واقعا بين شيئين ترديدا بحسب نفس الامر، سوأ كان وجودا خارجيا أو ذهنيا.
85

ولا إشكال في أن الإرادة - سوأ كانت تكوينية أو تشريعية - من الأوصاف الحقيقية ذات الإضافة، ولا يمكن تحققها بلا إضافة إلى
شي، فلا بد من مضاف إليه موجود، فلا يعقل أن تكون الإرادة بحسب نفس الامر مرددة التعلق، ولا متعلقها كذلك، للزوم أن يكون
الموجود مترددا واقعا، وهو يرجع إلى التردد فيما هو بذاته متعين متشخص.
وكذا الكلام في البعث، فإنه يقع بلفظ - كهيئة الامر - مضاف إلى شي هو المبعوث إليه، فيكون لكل من آلة البعث ومتعلقها وجود ذهنا
أو خارجا، مما لا يمكن أن يتطرق إليه الترديد الواقعي، فالواجب التخييري لازمه التردد الواقعي في الإرادة التشريعية ومتعلقها، وفي
البعث اللازم منه التردد في آلته ومتعلقها، وكل ذلك محال، لاستلزامه الابهام الواقعي في المتشخصات والمتعينات الواقعية (1).
وفيه: منع لزوم ما ذكر من الابهام والتردد الواقعي في شي من المذكورات، لان المولى إذا رأى أن في شي أو أشياء مصلحة ملزمة،
واف كل منها بغرضه، بحيث يكون كل من الطرفين أو الأطراف محصله، ولم يكن جامع بينها قابل لتعلق الامر به - على فرض لزوم
الجامع على مبنى بعضهم (2) - فلا محالة يتوسل لتحصيل غرضه بهذا النحو بإرادة بعث متعلق بهذا وإرادة بعث آخر متعلق بذاك، مع تخلل
لفظة (أو) وما

(1) فوائد الأصول 1: 232.
(2) فوائد الأصول 1: 234.
86

في معناها بينهما، لافهام أن كل واحد منهما محصل لغرضه، ولا يلزم الجمع بينهما.
فهاهنا إرادة متعلقة بمراد، وبعث متعلق بمبعوث إليه، كلها معينات مشخصات لا إبهام في شي منها، وإرادة أخرى متعلقة بمراد آخر،
وبعث آخر إلى مبعوث إليه آخر، كلها معينات مشخصات، وبتخلل كلمة (أو) وما يرادفها يرشد المأمور إلى ما هو مراده، وهو إتيان
المأمور بهذا أو ذاك، وبالضرورة ليس في شي من الإرادة والمراد وغيرهما إبهام بحسب الواقع ونفس الامر.
وأنت إذا راجعت وجدانك في أوامرك التخييرية ترى أن الواقع هو ما ذكرنا، فلا تكون الإرادة في الواجب التعييني والتخييري سنخين،
ولا البعث والواجب.
لكن الفرق بينهما بحسب الثبوت هو كون الواجب التعييني بنفسه محصلا للغرض ليس إلا، بخلاف التخييري، ويكون البعث في التعييني
متعلقا بشي بلا تعلقه بشي آخر، وفي التخييري يكون بعثان متعلقان بشيئين مع تخللهما بما يفيد معنى التخيير في إتيانه.
ويمكن أن يكون كل من الطرفين في التخييري محصلا لغرض غير الاخر، لكن يكون حصول كل غرض هادما لموضوع الاخر، فيتوسل
المولى إلى حصول غرضه بما ذكر.
ثم ليعلم: أن تقسيم الواجب إلى التعييني والتخييري كتقسيمه إلى النفسي
87

والغيري، إنما هو بلحاظ البعث المنتزع منه الوجوب، فحديث الأغراض والمصالح الواقعية ومحصلها ولزوم صدور الواحد عن
الواحد (1) - على فرض صحته في أمثال المقام - أجنبي عن محط التقسيم، فكما أن تقسيمه إلى النفسي والغيري لا ينافي كون الواجبات
لمصالح واقعية كما تقدم، كذلك كون الجامع مؤثرا في تحصيل الغرض الواحد لا ينافي تقسيمه إلى التعييني والتخييري، فتدبر.
تنبيه: في التخيير بين الأقل والأكثر:
هل يمكن التخيير بين الأقل والأكثر أم لا؟ محط البحث والاشكال إنما هو في الأقل الذي أخذ لا بشرط، وأما المأخوذ بشرط لا فهو من
قبيل المتباين مع الأكثر، ولا إشكال في جوازه.
فحينئذ نقول: قد يقال بامتناعه: أما في التدريجيات: فللزوم تحصيل الحاصل.
وأما في الدفعيات: فلان الزائد يجوز تركه لا إلى بدل، وهو ينافي الوجوب.
وبعبارة أخرى: أن الزائد يكون من قبيل إلزام ما لا يلزم، وإيجابه بلا ملاك، وهو محال (2).

(1) الكفاية 1: 225 - 226، فوائد الأصول 1: 234.
(2) نهاية الدراية 1: 255 / سطر 18 - 19.
88

أقول: إن الأقل والأكثر قد يكونان من التدريجيات، وقد يكونان من الدفعيات، وعلى أي تقدير قد يكون كل منهما محصلا لغرض
واحد، وقد يكون كل محصلا لغرض غير الاخر، وعلى التقدير
[الأخير]
قد تكون بين الغرضين مزاحمة بحسب الوجود، وقد لا تكون.
لا إشكال في امتناع التخيير بينهما في التدريجيات، لان الأقل يتحقق دائما قبل الأكثر، فيستند إليه الأثر، ويسقط الوجوب بوجوده، ولا
يعقل إيجاب الأكثر الذي لا يمكن امتثاله.
إن قلت: التخيير ممكن إذا كان الأقل والأكثر تحت طبيعة واحدة تكون بحسب الوجود مشككة، ويكون ما به الاشتراك بين الافراد
عين ما به الامتياز، كالخط القصير والطويل، لان تعين الخط لفردية الطبيعة إنما يكون إذا صار محدودا، وأما ما دام الاستمرار
التدريجي فلا يتعين للفردية، بل كأنه مبهم قابل لكل تعين.
فمحصل الغرض إذا كان فردا منها لا يصير القصير فردا لها
[ومحصلا للغرض]
إلا إذا صار محدودا، فالفردان وإن تفاوتا بالأقلية و
الأكثرية، لكن صيرورتهما فردين لها ومحصلين للغرض لا تمكن إلا بتحقق الفردية، وهي متقومة بالمحدودية بالحمل الشائع.
وكذا يمكن فيما إذا كانا محصلين لعنوان آخر يكون ذلك العنوان محصلا للغرض، مثلا: صلاة الحاضر والمسافر مع كونهما مختلفتين
بالأقلية والأكثرية، لكن يكون كل منهما محصلا لعنوان - كالتخشع الخاص - يكون
89

ذلك العنوان محصلا للغرض، ففي مثله يجوز التخيير بينهما.
قلت: نعم، هذا ما قرره بعض سادة العصر (1) - دام بقاؤه - لكن فيه خلط نشأ من الخلط بين اللا بشرطية والبشرط لائية، لان الخط الذي
لا يتعين بالمصداقية للطبيعة هو الخط المحدود بحد القصر الذي هو بشرط لا، وأما نفس طبيعة الخط بمقدار الذراع - مثلا - بلا شرط
بالمحدودية وغيرها، فلا إشكال في تحققها إذا وصل الخط المتدرج إلى مقدار الذراع وإن لم يتوقف عند ذلك الحد، ضرورة أن الخط
الموجود في الخارج لا يمكن أن لا تصدق عليه طبيعة الخط، وإذا وصل إلى ذراع لا يمكن عدم موجودية الذراع اللا بشرط.
فما هو الموجود يصدق عليه طبيعة الذراع من الخط وإن لم يصدق عليه الخط المحدود، ومورد الكلام هو الأول، أي اللا بشرط المتحقق
مع المحدود وغيره.
فقوله: - لا يصير الفرد القصير فردا لها إلا مع محدوديته - إن أراد به أن اللا بشرط لا يتحقق، فهو مدفوع بما ذكرنا.
وإن أراد أن المحدود بالقصر لا يتحقق، فهو خارج عن محط البحث.
ومما ذكرنا يتضح النظر في الفرض الثاني، لان الأقل اللا بشرط إذا وجد يكون محصلا للعنوان الذي هو محصل للغرض، فلا يبقى
مجال لتحصيل الأكثر ذلك العنوان المحصل له. هذا كله في التدريجيات.
وأما الدفعيات: فإن كان هنا غرض واحد يحصل بكل منهما، فلا يعقل

(1) لم نعثر عليه، ولعله استفاده من مجلس بحثه.
90

التخيير بينهما - أيضا - لان الغرض إذا حصل بنفس ذراع من الخط بلا شرط، كان التكليف بالزيادة بلا ملاك، فتعلق الإرادة والبعث
بها لغو ممتنع، ومجرد وحدة وجود الأقل بلا شرط مع الأكثر خارجا، لا يدفع الامتناع بعد كون محط تعلق الامر هو الذهن،
[الذي هو]
محل تجريد طبيعة المطلوب عن غيره من اللواحق الزائدة.
وإن كان لكل منهما غرض غير ما للاخر: فإن كان بين الغرضين تدافع في الوجود لا يمكن اجتماعهما، أو يكون اجتماعهما مبغوضا
للامر، فلا يعقل التخيير أيضا، لان الأقل بلا شرط موجود مع الأكثر، فإذا وجدا دفعة لا يمكن وجود أثريهما للتزاحم، أو يكون اجتماعهما
مبغوضا، فلا يعقل تعلق الامر بشي لأجل غرض لا يمكن تحصيله أو يكون مبغوضا.
وأما إذا كان الغرضان قابلين للاجتماع، ولا يكون اجتماعهما مبغوضا وإن لم يكن مرادا أيضا، فالتخيير بينهما جائز، لان الأقل
مشتمل على غرض مطلوب، والأكثر على غرض آخر مطلوب، فإذا وجد متعلق الغرضين كان للمولى أن يختار منهما ما يشأ.
91

الفصل العاشر في الواجب العيني والكفائي
ينقسم الواجب إلى عيني وكفائي، وهذا مما لا إشكال فيه. إنما الكلام في الفرق بينهما:
فقيل: لا فرق بينهما إلا في المكلف به، فإن الكفائي متعلقه نفس الطبيعة، والعيني
[الطبيعة]
مقيدة بمباشرة كل مكلف بالخصوص (1).
وقيل: إن الفرق في المكلف - بالفتح - فإنه في العيني كل الآحاد مستغرقا، وفي الكفائي صرف وجود المكلف (2).
والتحقيق: إن للكفائي صورا:
منها: ما لا يمكن له إلا فرد واحد، كقتل المرتد.

(1) نهاية الأصول 1: 210 - 211.
(2) منتهى الأصول 1: 227.
93

ومنها: ما يمكن، وحينئذ:
تارة: يكون المطلوب فيه فردا من الطبيعة، وأخرى: يكون صرف وجودها.
فعلى الأول: إما أن يكون الفرد الآخر مبغوضا، أو لا يكون مبغوضا ولا مطلوبا.
لا يمكن أن يكون المكلف جميع المكلفين في الصورة الأولى، فإن التكليف المطلق لهم في عرض واحد بالنسبة إلى ما لا يمكن فيه كثرة
التحقق لغرض انبعاثهم، مما لا يمكن. وهذا واضح.
وكذا الحال في الثانية والثالثة: فإن انبعاثهم وإن كان ممكنا، لكن مع مبغوضية الزائد من الفرد الواحد أو عدم مطلوبيته، لا يمكن
بعثهم إليه، لأدائه إلى البعث إلى المبغوض في الأولى، وإلى غير المطلوب في الثانية.
وأما الصورة الرابعة: فلازم بعثهم إليه بنحو الاطلاق هو اجتماعهم في إيجاد الصرف، وكون المتخلف عاصيا.
ومما ذكرنا يظهر: أن التكليف بصرف وجود المكلف غير جائز في بعض الصور، فلا بد من القول بتعلق التكليف فيه بفرد من المكلفين
بشرط لا في بعض الصور، ولا بشرط في الأخرى.
وما قيل: - من أن الفرد الغير المعين لا وجود له (1) - حق لو قيد بعنوان غير المعين، وأما عنوان فرد من المكلفين فمما له وجود في
الخارج، فإن كل واحد

(1) نهاية الدراية 1: 255 / سطر 4 و 13 - 14، و 3: 284 / سطر 22 - 25.
94

منهم مصداقه، ومع ذلك لا يلزم بعث الجميع في عرض واحد، حتى يلزم المحذور المتقدم.
وكذا يجوز التكليف بالفرد المردد بنحو التخيير، كالتخيير في المكلف به.
وما قيل: من أن المردد لا وجود له، ولا يجوز البعث التخييري (1)، لا يصغى إليه، ضرورة صحة التكليف التخييري بين الفردين فصاعدا،
ولم يكن عنوان الترديد قيدا، حتى يقال: لا وجود له، والاشكال العقلي في الواجب التخييري مر دفعه.
ويمكن في بعض الصور أن يكون المكلف به صرف الوجود، وكذا المكلف، ولازمه عصيان الجميع مع الترك، وإطاعتهم مع إتيانهم
عرضا، والسقوط عن الغير مع إتيان البعض.

(1) نفس المصدر السابق.
95

الفصل الحادي عشر في تقسيم الواجب إلى المطلق والموقت
وينقسم الواجب إلى المطلق والموقت، لان الزمان: إما غير دخيل في المتعلق ويكون المأمور به نفس الطبيعة، وإما دخيل، وهو
يتصور على وجهين، فإن الغرض: إما يحصل من وقوع الطبيعة في الزمان مطلقا، أو في زمان معين، فالأول منهما لا يكون موقتا وإن
كان للزمان دخالة في حصول الغرض، لكن لا يلزم، بل لا يجوز للمولى توقيت المتعلق، للزوم اللغوية، فالموقت ما عين له وقت، و
المطلق بخلافه.
ثم إن تقسيم الموقت إلى الموسع والمضيق مما لا إشكال فيه.
والاشكال في الموسع: بأن لازمه ترك الواجب في أول وقته بلا بدل، وهو ينافي الوجوب (1).

(1) معالم الدين: 75 / سطر 9 و 77 / سطر 9 - 10، حقائق الأصول 1: 339.
97

مدفوع: بأن ترك الواجب الموسع بتركه في تمام الوقت، وأما تركه في بعض الوقت فلا ينافي وجوبه.
وفي المضيق بأن الانبعاث لا بد وأن يكون متأخرا عن البعث، فلا بد من فرض زمان يسع البعث والانبعاث ولازمه زيادة زمان
الوجوب على زمان الواجب (1).
مدفوع أولا: بأن الانبعاث لا يلزم أن يتأخر زمانا عن البعث، بل تأخره عنه طبعي، لا زماني.
وثانيا: لو فرض لزوم تأخره زمانا أمكن تصور المضيق بنحو الوجوب التعليقي، فيكون البعث قبل زمان الواجب.
ثم إنه لا إشكال في أن التخيير في الواجب الموسع بين الافراد الطولية يكون عقليا، ولا يمكن التخيير الشرعي، لان ما هو دخيل في
تحصيل الغرض في الموسع، هو حصول الطبيعة بين المبدأ والمنتهى، فلا بد وأن يتعلق بالامر بما هو محصل للغرض، ولا يجوز تعلقه
بالزائد، فتعلق الامر بالخصوصيات لغو جزاف.
ومن هنا يعلم أنه لا يتضيق بتضييق وقته، لان الامر المتعلق بطبيعة لا يمكن أن يتخلف إلى موضوع آخر، فالواجب لا يخرج عن كونه
موسعا بتضييق وقته، وإن حكم العقل بلزوم إتيانه في آخر الوقت.

(1) فوائد الأصول 1: 236، نهاية الدراية 3، 286 / سطر 15 - 16.
98

تتميم: في الاتيان بالموقت خارج الوقت:
لا دلالة للامر بالموقت على وجوب الاتيان في خارج الوقت، كما أن الامر كذلك في سائر التقييدات، لان كل أمر لا يدعو إلا إلى متعلقه،
فبعد خروج الوقت لا داعوية للامر، لان الدعوة إلى الموقت بعد خروج الوقت محال، لامتناع إتيانه، وإلى غير الموقت كذلك، لعدم
كونه متعلقا له، ودعوة الامر إلى الطبيعة في ضمن المقيد لا توجب دعوته إليها مطلقا ولو مع
[لخلو عن]
القيد.
وأما التفصيل الذي أفاده المحقق الخراساني - من أن التوقيت إذا كان بدليل منفصل لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت، وكان لدليل
الواجب إطلاق، يؤخذ بإطلاقه، ويتقيد بمقدار المتيقن (1) - فخروج عن محط البحث، فإن محطه هو دلالة الموقت بعد كونه موقتا.
ثم إنه لو شككنا بعد الوقت في وجوب الطبيعة، فلا مجال للاستصحاب، لعدم وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها، وذلك لان
العناوين الكلية كلها مختلف
[بعضها]
مع الاخر - مطلقها ومقيدها، ومقيدها مع مقيد آخر أو مجرد عنه - فالرقبة عنوان، والرقبة
المؤمنة عنوان آخر، والصلاة الموقتة غير نفس الصلاة وغير الصلاة الغير الموقتة، فالقضية المتيقنة هي وجوب الصلاة الموقتة، و
المشكوك فيها هي نفس الصلاة أو الصلاة خارج الوقت،

(1) الكفاية 1: 230.
99

فإسراء الحكم من المتقيدة إلى
[الخالية من القيد]
في القضايا الكلية إسراء من موضوع إلى موضوع آخر.
لا يقال: إن المقيد إذا وجب ينسب الوجوب إلى المهملة، فتكون نفس الطبيعة واجبة، فشك في بقائه.
فإنه يقال: متعلق الوجوب إذا كان مقيدا أو مركبا يكون واحدا لوجوب واحد، فالواجب هو المقيد بما هو كذلك، وليس للمهملة وجوب
حتى يستصحب. وما قيل من الوجوب الضمني فلا أصل له، ولا ينحل الوجوب إلى وجوب متعلق بنفس الطبيعة ووجوب متعلق بقيدها
كما اشتهر في الألسن، فالمتيقن هو وجوب المقيد، وهو ليس بمشكوك فيه، فلا يجري الاستصحاب.
100

المقصد الثاني في النواهي
101

الفصل الأول في متعلق النهي
ذهب المحقق الخراساني إلى أن النهي كالأمر في دلالته على الطلب، إلا أن متعلق الطلب فيه العدم (1).
والتحقيق: امتناع ذلك ثبوتا، ومخالفته للظواهر إثباتا، ضرورة أن العدم ليس بشي، ولا يمكن أن يكون ذا مصلحة تتعلق به إرادة و
اشتياق ولا بعث وتحريك وطلب.
وما قيل: من أن للاعدام المضافة حظا من الوجود (1)، ليس على ما ينبغي.
وما يتوهم: - من تعلق الطلب ببعض الاعدام وجدانا - خطأ لدى التفتيش،

(1) الكفاية 1: 232.
(2) الأسفار 1: 344.
103

فليس للعدم شيئية، ولا يمكن أن يتصف بصفة، وأن يصير متعلقا لشئ. نعم قد يكون وجود شي مبغوضا لفساد فيه، فتنسب المحبوبية
إلى عدمه عرضا بعد تصوره بالحمل الأولي.
هذا، مع أن النهي كالأمر ينحل إلى مادة وهيئة، والمادة نفس الماهية كمادة الامر، ومفاد الهيئة هو الزجر عنها أو عن وجودها بالمعنى
الحرفي، كما سبق في الامر، فالبعث والزجر متعلقان بالماهية، وليس في النهي ما يدل على العدم لا اسما ولا حرفا، فقوله: (لا تضرب)
كمرادفه في الفارسية (نزن) ليس مفاده عرفا وتبادرا إلا ما ذكر، مع أنه لو صرح بطلب العدم لا بد من تأويله، لما تقدم.
وبما ذكرنا - من أن متعلق النهي كالأمر هو الماهية أو وجودها، وأن النهي زجر لا طلب - يسقط النزاع في أن متعلق الطلب فيه الكف
أو نفس أن لا تفعل (1).
ثم إنه لا إشكال في أن مقتضى النهي لدى العرف والعقلاء يخالف مقتضى الامر (2) بأن الامر إذا تعلق بطبيعة يسقط بأول مصداقها،
بخلاف النهي، فإن مقتضاه ترك جميع الافراد، فهل ذلك من ناحية اللغة، أو حكم العقل، أو العرف؟ ذهب المحقق الخراساني إلى أن
مقتضى العقل أن الطبيعي يوجد بوجود

(1) معالم الدين: 94 - 95.
(2) تعرض له الآراكي في المرة والتكرار.
[منه قدس سره.]
104

فرد ما، وينعدم بعدم جميع الافراد (1).
وفيه منع، فإن مقتضى وجود الطبيعي بوجود فرد ما هو تكثر الطبيعي بكثرة الافراد، فيكون له وجودات، ومعه لا يعقل أن يكون له
عدم واحد، لان لكل وجود عدما بديله، فإذا عدم الفرد عدم الطبيعي بعدمه، فيكون الطبيعي موجودا ومعدوما، وذلك جائز في الواحد
النوعي. هذا حكم العقل.
وأما اللغة: فلا دلالة وضعا للنهي بمادته وهيئته عليه، ضرورة أن ما تعلقت به هيئة الامر عين ما تعلقت به هيئة النهي، وهو نفس الطبيعة
لا بشرط، والهيئة لا تدل إلا على الزجر مقابل البعث، وليس للمجموع وضع على حدة.
نعم، الظاهر أن ذلك حكم العرف، لان الطبيعة لدى العرف العام توجد بوجود فرد، وتنعدم بعدم جميع الافراد، و
[عليه]
تحمل
المحاورات العرفية، فإذا تعلق نهي بطبيعة يكون حكمه العقلائي أن امتثاله بترك جميع الافراد.
لكن لازم ذلك أن يكون للنهي امتثال واحد ومعصية واحدة، لعدم انحلاله إلى النواهي، مع أن العرف لا يساعد عليه كما ترى أنه لو
خولف يرى العرف أن النهي بحاله.
ويمكن أن يقال: إن الانحلال إلى النواهي - أيضا - من الاحكام العرفية،

(1) الكفاية 1: 233.
105

وهو قريب.
وقد يقال (1): إن المنشأ حقيقة ليس شخص الطلب المتعلق بعدم الطبيعة كذلك، بل سنخه الذي لازمه تعلق كل فرد من الطلب بفرد من
طبيعة العدم عقلا، بمعنى أن المولى ينشئ النهي بداعي المنع نوعا عن الطبيعة بحدها الذي لازمه إبقاء العدم بحده على حاله، فتعلق كل
فرد من الطلب بفرد من العدم - تارة بلحاظ الحاكم وأخرى بحكم العقل - لأجل جعل الملازمة بين سنخ الطلب وطبيعي العدم بحده.
انتهى.
وفيه: - بعد الغض عن أن النهي ليس طلبا، والمتعلق ليس عدما - أن ما يدعى من انشاء سنخ الطلب إن كان لأجل اتحاد السنخ والطبيعي
مع الشخص، فبجعله يصير مجعولا، ففيه: أنه لا يفيد، لان الطبيعي في الخارج ليس إلا الفرد، فلا يكون قابلا للانحلال.
وإن كان لأجل جعل طبيعي الطلب القابل للكثرة ملازما لطبيعي العدم، بحيث يصير قابلا للانحلال، ففيه: إن هذا يحتاج إلى لحاظ غير
انشاء الطلب، ويحتاج إلى قرينة تجوز.
ومع الالتزام به فالأهون ما ذهب إليه بعض الأعاظم: (2) من الالتزام بالعموم الاستغراقي في جانب المتعلق، حتى ينحل النهي بتبعه، وإن
كان خلاف التحقيق، لعدم استعمال المادة في الافراد وجدانا، كما لم تستعمل

(1) نهاية الدراية 1: 262 / سطر 1 - 5.
(2) فوائد الأصول 2: 395.
106

الهيئة في الطبيعي على ما ادعاه المدعي.
وقد يقال: إن النهي لما تعلق بالطبيعة بلا شرط، ويكون مفاده الزجر لا الطلب، فلازمه العرفي ترك جميع الافراد كما تقدم، وكذا عدم
سقوطه بالمعصية، لان السقوط أينما كان إنما هو لأجل حصول تمام المطلوب، ففي الامر لما كان تمام المطلوب هو نفس الطبيعة لا بد
من سقوطه بحصولها، لحصول تمام المطلوب، وأما النهي فلا معنى لسقوطه ا لا بترك المنهي عنه في زمان، ولا بمخالفته:
أما في جانب الترك: فلان إطاعة النهي بترك جميع الافراد مطلقا بعد إطلاق الطبيعة وكونها لا بشرط.
وأما في ناحية المخالفة فلانها لا يعقل أن تكون مسقطة، إلا أن تتقيد الطبيعة بأول فرد، ويكون المنهي عنه ذلك، فإن لازمه سقوط
النهي لأجل عدم الموضوع، فالسقوط لا يكون في شي من الموارد - حتى في الأوامر - بالمخالفة، ولا بالموافقة بما هي، بل بحصول
تمام المطلوب، فمخالفة المنهي عنه في زمان لا توجب سقوط النهي بعد مبغوضية نفس الطبيعة بنحو الاطلاق.
وبعبارة أخرى: إن لازم مبغوضية الطبيعة بلا شرط هو مبغوضيتها أينما تحققت، ونتيجة ذلك هو العموم الاستغراقي وإن لم يكن
نفسه.
وفيه: أن ذلك دعوى فهم العرف، وهو مسلم ولكن المنظور سر ذلك.
وما ذكر من أن الافتراق لأجل كون مفاد النهي هو الزجر و
107

المنع لا الطلب.
مدفوع: بأن المولى لو صرح بطلب ترك شرب الخمر كان الحكم العقلائي والعرفي عينا كالزجر عن الشرب، بل لو فرض تعلق الزجر
بصرف الوجود - أي ناقض العدم - لسقط النهي مع العصيان، لانتهاء اقتضائه، كما لو نهاه عن ذكر الله في الملا لغرض عدم معروفيته،
فمع ذكره يسقط، لا لأجل تعلقه بأول الوجود كما أفيد، بل لأجل تعلقه بصرف الوجود.
فالأولى أن يتشبث في مثل المقام بذيل فهم العرف ولو مع عدم كشف سره.
108

الفصل الثاني في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه
اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه على أقوال (1)، وقبل الخوض في المقصود لا بد من تقديم أمور:
الأمر الأول في تحرير محل النزاع
محط البحث في الباب هو أنه هل يجوز تعلق الأمر والنهي بعنوانين متصادقين على واحد؟ فحينئذ يكون المراد بالواحد هو الواحد
الشخصي، لأنه الذي تتصادق

(1) قوانين الأصول 1: 140 / سطر 5 - 21، مطارح الأنظار: 129 / سطر 8 - 21، الكفاية
1: 233.
109

عليه العناوين، وأما الواحد الجنسي فلا تتصادق عليه، بل يكون جنسا لها، مع أن النزاع في الواحد الجنسي - مع قطع النظر عن التصادق
على الواحد الشخصي - مما لا معنى له، ضرورة أن الحركة في ضمن الصلاة يمكن أن يتعلق بها الامر، وفي ضمن الغصب أن يتعلق بها
النهي مع قطع النظر عن تصادقهما خارجا على الواحد الشخصي، ومعه يكون محط البحث هو ما ذكرنا، لأنه المنشأ لقول الامتناعي.
ومما ذكرنا يتضح: أن الأولى في عقد البحث أن يقال: هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على واحد، أو لا؟ ويكون
حينئذ النزاع كبرويا، لا صغرويا كما زعموا (1).
وأما إبقاء العنوان على ظاهره فمما لا يمكن، سوأ أريد بالواحد الشخصي، أو الجنسي، أو الأعم، أما الجنسي فلما عرفت، وأما الشخصي
فلان الأمر والنهي لا يتعلقان به، لان الخارج لا يمكن أن يكون ظرف ثبوت التكاليف، فاجتماع الأمر والنهي فيه مما لا معنى له.
الأمر الثاني في الفرق بين المقام وبين النهي في العبادة
بناء على ما ذكرنا - من عقد البحث - يكون الفرق بينه وبين النهي في العبادة في غاية الوضوح، لاختلاف موضوعهما ومحمولهما، و
اختلاف

(1) فوائد الأصول 1: 399 - 400، نهاية الأفكار 1: 408 - 409.
110

المسائل إنما هو بهما أو بأحدهما، لان ذات المسائل متقومة بهما، والاختلاف بالذاتي هو المميز بين الشيئين في المرتبة المتقدمة على
الاختلاف بالعرض، فضلا عن الاختلاف بالاغراض، والجهات التعليلية - على فرض رجوعها إلى التقييدية عقلا - متأخرة عن مقام الذات،
فيكون الاختلاف بالذات مميزا قبلها.
وأما ما أفاد المحقق الخراساني (1): من أن الاختلاف بالجهة المبحوث عنها، وهي تعدد الوجه في الواحد يوجب تعدد المتعلق أو لا؟ ففيه:
أن الجهة المبحوث عنها ليس ما ذكر كما تقدم، فلا وجه للعدول عن جواز الاجتماع ولا جوازه إلى شي آخر هو من مبادئ إثبات
المحمول للموضوع وبرهان المسألة، حتى يلجأ إلى إرجاع البحث من الكبروية إلى الصغروية، ويحتاج إلى التكلفات الباردة. هذا إذا
أراد الجهة المبحوث عنها محط البحث ومورد النزاع، كما هو الظاهر.
وإن أراد علل ثبوت المحمول للموضوع أو الغاية للبحث، فلا إشكال في أن اختلاف المسائل ليس بهما كما تقدم.
الأمر الثالث في أصولية المسألة
إن المسألة بما هي معنونة - أي جواز الاجتماع - لا يمكن أن تكون فقهية،

(1) الكفاية 1: 234.
111

وذلك واضح، وتغييرها إلى قضية أخرى - أي صحة الصلاة في الدار المغصوبة - غير مربوطة بهذه المسألة، مما لا وجه له.
وكذا لا تكون كلامية (1)،
[لأنه ليس كل مسألة عقلية]
كلامية، وإلا كانت مسائل المنطق وكليات الطب كلامية، وتغييرها إلى الحسن و
القبح
[بالنسبة له]
تعالى قد عرفت حاله.
وليست من المبادئ التصديقية (2)، لأنها البراهين القائمة في كل فن لاثبات المحمولات للموضوعات أو نفيها
[عنها]
أو لاثبات وجود
الموضوعات على إشكال في الأخير، وهذه المسألة ليست كذلك.
وما يظهر من بعض الأعاظم (3): من كونها من المبادئ التصديقية - لرجوع البحث فيها إلى البحث عما يقتضي وجود الموضوع لمسألة
التعارض والتزاحم - ليس على ما ينبغي، لان كون بحث محققا لموضوع بحث آخر لا يوجب أن يكون من المبادي التصديقية، وبراهين
إثبات وجود الموضوع لو سلم كونها من المبادئ غير علل وجوده، والله تعالى علة وجود الموضوعات ومحققها، وليس من المبادئ
التصديقية لشئ من العلوم، مع أن في كون المسألة محققة لوجود الموضوع لمسألة التعارض كلاما وإشكالا سيأتي (4) في خلال المباحث
الآتية التعرض له.

(1) قوانين الأصول 1: 140 / سطر 19.
(2) فوائد الأصول 2: 400.
(3) نفس المصدر السابق.
(4) وذلك في صفحة: 116 - 118 من هذا الجزء.
112

فالتحقيق: أن المسألة - بما حررنا - أصولية، لصحة وقوعها في طريق الاستنباط، وإن جعلنا موضوع علم الأصول الحجة في الفقه، لان
جعل موضوعه كذلك لا يستلزم البحث عن عوارض العنوان بالحمل الأولي، بل المراد من كون مسألة حجة في الفقه أنها حجة بالحمل
الشائع، أي يستنتج منها نتيجة فقهية، وهي كذلك.
الأمر الرابع في اعتبار قيد المندوحة
لا إشكال في عدم اعتبار قيد (المندوحة) بناء على كون البحث صغرويا، وأن الجهة المبحوث عنها هي أن تعدد الوجه يرفع غائلة
اجتماع الضدين أولا، فإن البحث - حينئذ - يصير جهتيا، والبحث من هذه الحيثية لا يتوقف على قيدها.
وأما على ما حررناه من كبروية النزاع، وأن محط البحث هو جواز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على موضوع واحد،
فقد يقال:
إن قيد (المندوحة) معتبر، لان النزاع في اجتماع الحكمين الفعليين لا الانشائيين، ضرورة عدم التنافي في الانشائيات، فمحط البحث
جواز اجتماع الفعليين وامتناعه، كان الامتناع لأجل التكليف المحال، أو التكليف بالمحال، ومع عدم المندوحة لا ريب في كون التكليف
بهما تكليفا بالمحال.
هذا، لكن لاحد أن يقول: إنه إن أريد بقيد (المندوحة) حصول المندوحة
113

لكل واحد من المكلفين فهو غير لازم، لان الكلام في جواز تعلق الحكمين الفعليين بعنوانين، ولا يتوقف ذلك على المندوحة لكل واحد
منهم، فإن الاحكام المتعلقة بالعناوين لا تنحل إلى إنشاءات كثيرة ومجعولات متعددة حسب تعدد المكلفين كما سبق في بعض المباحث
السالفة، فالحكم الفعلي بالمعنى المتقدم فعلي على عنوانه وإن كان بعض المكلفين معذورا في امتثاله وإتيانه لعجز أو جهل أو ابتلا
الحكم بمزاحم أقوى.
وإن أريد بقيد (المندوحة) كون العنوانين مما ينفكان بحسب المصداق، وإن لم يكن كذلك بحسب حال بعض المكلفين - أي لم يكن
عنوان المأمور به ملازما للمنهي عنه - فاعتبار (المندوحة) لازم البحث من غير احتياج إلى التقييد به، فإن تعلق الحكم الفعلي بعنوان
ملازم لمنهي عنه فعلا، مما لا يمكن، للغوية الجعل على العنوانين، بل لا بد للجاعل من ملاحظة ترجيح أحد الحكمين على الاخر، أو الحكم
بالتخيير مع عدم الرجحان.
فتقييد العنوان بالمندوحة غير لازم على التقديرين.
الأمر الخامس في جريان النزاع مع تعلق الأمر والنهي بالافراد
الظاهر أن النزاع لا يبتني على تعلق الأمر والنهي بالطبائع، بل يجري في بعض فروض تعلقهما بالافراد.
كأن يراد بتعلقهما بها تعلقهما بالعنوان الاجمالي منها، بأن يقال: معنى
114

(صل) أوجد فرد الصلاة، فيكون عنوان فرد الصلاة غير عنوان فرد الغصب، فيجري النزاع فيهما.
أو يراد به تعلقهما بالطبيعة الملازمة للعناوين المشخصة، أو أمارات التشخص، كطبيعي الأين، والمتى، والوضع، وهكذا، فيجري النزاع
لاختلاف العنوانين.
أو يراد به تعلقهما بعنوان وجودات الصلاة والغصب في مقابل (الوجود السعي)، فإنه لا يخرج به عن العنوانين المختلفين.
نعم، لو أريد من الفرد هو الخارجي منه فلا إشكال في عدم جريانه فيه، لكنه بديهي البطلان، وإن يظهر من بعضهم أنه مراد القائل به.
وكذا لو أريد به الطبيعة مع كل ما يلازمها ويقارنها حتى الاتفاقيات منها، كما قيل: إن الامر متعلق بالصلاة المقارنة لكل ما يشخصها و
يقارنها حتى وقوعها في محل مغصوب، وأخذت هذه العناوين في الموضوع، فلا يجري النزاع فيه أيضا، لكنه بمكان من الفساد.
فتحصل: أن النزاع جار على القول بتعلقها بالافراد على الفروض التي تصح أن تكون محل النزاع.
الأمر السادس في عدم ابتناء النزاع على إحراز المناط
لا إشكال في عدم ابتناء النزاع على إحراز المناط في متعلقي
115

الايجاب والتحريم، سوأ حرر محل النزاع بما اختاره المحقق الخراساني (1) وهو واضح، لان النزاع حيثي، أو كما حررناه لان النزاع
في إمكان تعلق الحكمين بعنوانين كذائيين لا في وقوعه، ولا يبتني هذا النزاع الكبروي على إحراز المناط.
والظاهر: أن مراد المحقق الخراساني (2) مما أفاد في الأمر الثامن والتاسع ليس ذلك، ولعل مراده التفرقة بين ما كان من باب اجتماع
الأمر والنهي واقعا، وبين ما كان من باب التعارض، دفعا لاشكال ربما يرد على القوم، وهو أنهم عنونوا مسألة جواز الاجتماع، ومثلوا
له بالعامين من وجه (3)، واختار جمع الجواز (4)، وأنه لا تعارض العامين من وجه أحد وجوه التعارض، ولم يجمع بينهما أحد بجواز
الاجتماع.
فأجاب عنه: بأن الميزان الكلي في باب الاجتماع هو إحراز المناطين حتى في مورد التصادق، فكل ما كان دلالة على ثبوت المقتضي في
الحكمين كان من مسألة الاجتماع، وإلا فهو من باب التعارض (5).

(1) الكفاية 1: 239.
(2) الكفاية 1: 241 - 246.
(3) قوانين الأصول 1: 155 / سطر 23 و 140 - 141، مطارح الأنظار: 128 / سطر 23.
(4) قوانين الأصول 1: 140 / سطر 20 - 21، ونسبه فيه إلى جماعة: 140 / سطر
12 - 18، وكذا في مطارح الأنظار: 129 / سطر 10 - 14.
(5) الكفاية 1: 245 - 246.
116

وأنت خبير: بأن موضوع باب التعارض هو الخبران المختلفان، والمناط في الاختلاف هو الفهم العرفي، والجمع هناك عرفي لا عقلي،
بخلافه هاهنا، فإن المسألة عقلية صرفة، فلا ربط بين البابين رأسا.
فما ادعى من المناط غير تام طردا وعكسا، لان الخبرين إذا كانا مختلفين عرفا، ولم يكن بينهما جمع عرفي، يندرجان تحت أخبار
التعارض، ولا بد من
[إعمال]
التعارض بينهما مطلقا، والجمع العقلي في باب الاجتماع ليس من وجوه الجمع في باب التعارض.
والسر فيه: أن رحى باب التعارض تدور على العمل بالأخبار الواردة فيه، وموضوعها مأخوذ من العرف، كموضوع سائر ما ورد في
الكتاب والسنة، فكلما يحكم العرف باختلاف الخبرين وتعارضهما يعمل بالمرجحات، وكلما يحكم بعدمه لأجل الجمع العرفي أو عدم
التناسب بين الدليلين لم يكن من بابه، فقوله: (صل) و (لا تغصب) غير متعارضين عرفا، لان الحكم على العنوانين، وهما غير مرتبطين،
فليس بينهما اختلاف عرفا ولو لم نحرز المناطين، كما أن قوله: (أكرم كل عالم) معارض عرفا - في الجملة - لقوله:
(لا تكرم الفساق)، بناء على كون العامين من وجه من وجوه التعارض، لأنهما يدلان على إكرام الجمع وعدم إكرامه، لان الحكم فيهما
على الافراد، وليس بينهما جمع عرفي، ولو فرض حصول المناطين في مورد الاجتماع وقلنا بجواز الاجتماع حتى في مثله.
وبالجملة: الجمع والتعارض في باب تعارض الأدلة عرفيان لا عقليان،
117

فجمع باب الاجتماع الذي هو بحكم البرهان العقلي غير مربوط به، كما أن التزاحم في نظر العقل لا ينافي التعارض العرفي المناط في
بابه، فلا تغفل.
ومما ذكرنا يظهر النظر فيما قال بعض الأعاظم: من أن هذه المسألة محققة لموضوع مسألة التعارض (1)، لما عرفت من أنها أجنبية عن
تلك المسألة، كما يظهر النظر فيما ادعى: - من أن المائز بين البابين: أن التركيب في باب الاجتماع انضمامي، وفي باب التعارض
اتحادي (2) - فإنه لا يرجع إلى محصل لو لم يرجع إلى ما ذكرنا.
الأمر السابع في المعيار الكلي للصحة والفساد في المقام
قد يقال: إنه لا ملازمة بين القول بالجواز والقول بصحة العبادة مع الاتيان بالمجمع، لوجود ملاك آخر للبطلان في بعض الموارد،
كالصلاة في الدار المغصوبة، لان التصرف في مال الغير بلا إذنه في الخارج عين الحركة الصلاتية، والمبعد عن ساحة المولى لا يمكن أن
يكون مقربا، نعم مع جهله بالموضوع أو الحكم قصورا تصح صلاته بلا إشكال.
والمعيار الكلي في الحكم بالصحة والفساد: هو أنه كلما كانت الخصوصية العبادية في المصداق غير الخصوصية المحرمة وجودا - وإن
جمعهما

(1) فوائد الأصول 2: 422.
(2) فوائد الأصول 2: 427 - 428.
118

موضوع واحد - تصح العبادة من غير إشكال، لان المكلف يتقرب بالجهة المحسنة، وليست فيها جهة مقبحة على الفرض - وإن قارنتها
ولازمتها، لأنهما لا يضران بعباديتها - وكلما كان العنوانان موجودين بوجود واحد وخصوصية فاردة، لا يمكن التقرب به وإن جاز
الاجتماع، فإن التقرب بما هو مبعد فعلا غير ممكن.
هذا، لكن سيأتي تحقيق المقام (1)، فانتظر.
وقد يقال (2) - في الصلاة في الدار المغصوبة -: إنها من قبيل الفرض الأول، وأن الحركة الصلاتية غير الحركة الغصبية خارجا، لأن الغصب
من مقولة الأين، والصلاة من مقولة الوضع، وإن قلنا بأن الركوع - مثلا - هو فعل المكلف، ويكون الهوي إليه داخلا في الصلاة،
فإن الهوي عبارة عن أوضاع متلاصقة، والمقولات متباينات وبسائط، يكون ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك، وإن الحركة لم
تكن من المقولات، بل هي مع كل مقولة عينها، ولم تكن الحركة جنسا للمقولتين، وإلا يلزم تفصل الواحد بالفصلين المتباينين في عرض
واحد، ويلزم التركيب فيهما، ولا معروضا لهما، وإلا يلزم قيام العرض بالعرض، وهو محال.
فالحركة الغصبية تكون من مقولة مباينة للحركة الصلاتية، وليس المراد من الحركة هو رفع اليد أو وضعها أو رفع الرأس أو وضعه، بل
المراد الحركة

(1) وذلك في صفحة: 123 وما بعدها من هذا الجزء.
(2) فوائد الأصول 2: 424 - 428.
119

الصلاتية والغصبية، وهما حركتان كما عرفت، فتكون حيثية الصلاتية غير حيثية الغصبية وجودا وماهية، فيجوز اجتماع الأمر والنهي
فيهما ويكون المقرب غير المبعد.
والشاهد على ما ذكرنا من اختلافهما وجودا: أن نسبة المكان إلى المكين والإضافة الحاصلة بين المكين والمكان لا يعقل أن تختلف في
الجوهر والعرض، فكما أن كون زيد في الدار المغصوبة لا يوجب كونه غصبا، فكذلك كون الصلاة فيها، فالتركيب بينهما انضمامي لا
اتحادي. انتهى ملخصا.
وفيه موارد كثيرة للنظر نعد مهماتها:
منها: أن عد الصلاة من مقولة الوضع واضح الفساد، لأنها من الماهيات الاختراعية المركبة من عدة أمور اعتبارية ومقولية، ومثل ذلك لا
يمكن أن يندرج تحت مقولة، ولا يكون من الماهيات الأصيلة. هذا إن أريد بالصلاة نفسها.
وإن أريد أجزاؤها فهي لا تكون من مقولة الوضع فقط، بل الركوع - مثلا - إذا كان من فعل المكلف، ويكون الهوي جزه، فلا محالة
يكون عبارة عن الحركة من الاستقامة إلى انحناء خاص تعظيما، ويكون نفس الانحناء بالمعنى المصدري من قبيل الحركة في الأين، و
يكون من مقولته، بناء على كون الحركة في كل مقولة من هذه المقولة.
فماهية الركوع إذا كانت الانحناء الخاص تعظيما لا تندرج تحت مقولة،
120

لان كونه تعظيما من مقوماتها، وهو خارج عن ماهية المقولة، وجزؤها من مقولة الأين.
وبالجملة: الفعل الصادر من المكلف هو الحركة من الاستقامة إلى الانحناء، وتبديل الأوضاع لازمه، وما هو جز الصلاة - على الفرض -
هو الفعل الصادر منه، لا الأوضاع المتلاصقة على زعمه (1)، مع ما في تلاصق الأوضاع من المفاسد.
ومنها: أن الغصب ليس من المقولات، لأنه هو الاستيلاء على مال الغير عدوانا، وهو من الأمور الاعتبارية، ولا يكون عبارة عن الكون
في المكان، بل استقلال اليد عليه غصب، سوأ كان الغاصب فيه أولا، وهذا واضح.
مع أنه لو سلم أنه الكون في المكان الذي للغير عدوانا، لم يصر من مقولة الأين:
أما أولا: فلان المقولة ليست نفس الكون في المكان، بل هيئة حاصلة منه.
وأما ثانيا: فلان ماهية الغصب متقومة بكون المكان للغير، وبكون إشغاله عدوانا، وهما غير دخيلين، في ماهية المقولة، فعلى هذا
الفرض الباطل تكون المقولة جز ماهية الغصب.
ومنها: أن عدم صحة الصلاة ليس لأجل الغصب، بل لأجل التصرف في مال الغير بلا إذنه، وهو عنوان آخر غير الغصب، لأنه قد يكون
التصرف

(1) فوائد الأصول 2: 426.
121

في ماله بلا إذن ولا يتحقق عنوان الغصب، أي استقلال اليد عليه، وقد يتحقق الغصب بلا تصرف خارجي في ماله، فبطلان الصلاة في
الدار المغصوبة - على فرضه - ليس لأجل استقلال اليد على ملك الغير، لأنه اعتباري لا ينطبق على الصلاة، بل لأجل التصرف فيه، لان
الحركة الركوعية والسجودية عين التصرف فيه، بل السجود على سبعة أعظم، والكون الركوعي والقيامي وغيرهما تصرف ومبعد،
فلا يجوز التقرب به على الفرض، قيل بجواز الاجتماع أولا، وسيأتي (1) أن جواز الاجتماع لا يتوقف على كون الحيثيات تقييدية و
التركيب انضماميا، كما بنى عليه هذا القائل.
ومما ذكرنا يعلم حال ما ذكره من قياس كون (زيد في الدار) بكون (الصلاة في الدار) (2)، فإن الصلاة لما كانت فعل المكلف يكون
الاتيان بها تصرفا في مال الغير، بخلاف (زيد)، فإنه ليس فعلا حتى يكون تصرفا.
نعم، كونه في الدار غصب على فرضه، وتصرف على ما كرنا، وزيد غاصب ومتصرف، كما أن صلاته باعتبار كونها من أفعاله و
أكوانه غصب وتصرف، وهو غاصب ومتصرف، فالامر أوضح من أن يحتاج إلى البيان.

(1) وذلك في صفحة: 127 - 128 من هذا الجزء.
(2) فوائد الأصول 2: 427.
122

الأمر الثامن في مناط الصحة والفساد في المقام
بناء على الامتناع وترجيح جانب الامر تصح الصلاة في الدار المغصوبة إذا لم تكن مندوحة، وأما معها فلا ملاك لتقييد النهي بلغ ملاك
الصلاة ما بلغ، لعدم دوران الامر بينهما، بل مقتضى الجمع بين الفرضين تقييد الصلاة عقلا أو شرعا بغير محل الغصب، فإطلاق كلام
المحقق الخراساني (1) مخدوش.
وأما بناء على ترجيح جانب النهي، فمع العمد والعلم أو الجهل بالحكم تقصيرا لا تصح.
وأما مع القصور فصحتها تتوقف على أمرين:
أحدهما: إثبات وجدانها في مورد الاجتماع للملاك التام.
وثانيهما: كون الملاك المرجوح قابلا للتقرب.
والامر الأول: محل إشكال بناء على كون الامتناع لأجل التكليف المحال، وذلك للتضاد بين ملاكي الغصب والصلاة، فإن رفع تضادهما
باختلاف الحيثيتين رفع التضاد بين الحكمين أيضا، فلا محيص عن القول بالجواز، فالقائل بالامتناع لا بد له من الالتزام بأن الحيثية التي
تعلق بها الامر عين ما تعلق به النهي، حتى يحصل التضاد، ومع

(1) الكفاية 1: 239.
123

وحدة الحيثية لا يمكن تحقق الملاكين، فلا بد وأن يكون المرجوح بلا ملاك، فعدم صحتها لأجل فقدانه، ومعه لا دخالة للعلم والجهل في
البطلان والصحة.
وبالجملة: متعلق الأمر والنهي بالذات عين حامل الملاك، وهو مع وحدته غير معقول لحمل الملاكين، ومع كثرته يوجب جواز الاجتماع
ولو قيل بتعلقهما بما هو فعل المكلف خارجا، فتصور الحيثيتين الحاملتين للملاك الرافعتين للتضاد يناقض القول بالامتناع من جهة
التكليف المحال.
وأما الأمر الثاني - بعد تصوير الملاك - فلا إشكال فيه، لان الحيثية الحاملة لملاك الصلاة غير الحيثية الحاملة لملاك الغصب، فأتمية
ملاكه
[من]
ملاكها - وترجيح مقتضاه على مقتضاها - لا يوجب تنقيصا في ملاكها، فملاكها تام، لكن عدم انشاء الحكم على طبقه لأجل
المانع، وهو أتمية ملاك الغصب، وفي مثله لا مانع من صحتها بعد عدم تأثير النهي للجهل قصورا، لكفاية الملاك التام في صحتها مع
قصد التقرب وكون الموضوع مما يمكن التقرب به.
بل يمكن أن يقال بصحتها حينئذ مع العلم والعمد - أيضا - لعين ما ذكر وإمكان التقرب بها مع تمامية الملاك، فعدم الامر هاهنا كعدم
الامر في باب الضدين المتزاحمين.
وربما يقال بالفرق بين البابين، لان باب الضدين من قبيل تزاحم الحكمين في مقام الامتثال بعد انشاء الحكمين على الموضوعين، و
باب الاجتماع
124

من قبيل تزاحم المقتضيين لدى المولى، فلا تأثير لعلم المكلف وجهله هاهنا، بخلافه هناك.
وبالجملة: يكون المقام من صغريات باب التعارض، ومع ترجيح جانب النهي ينشأ الامر على الصلاة في غير المغصوب، والتقييد هاهنا
كسائر التقييدات، فالصلاة في المغصوب ليست بمأمور بها (1).
وفيه - مضافا إلى ما عرفت من عدم انسلاك المقام في صغريات باب التعارض -: أن الكلام هاهنا في صحة الصلاة بحسب القواعد، و
هي غير منوطة بالامر الفعلي، وإلا تبطل في المقامين، والملاك التام الموجب لصحتها موجود فيهما، ومجرد عدم انشاء الحكم هاهنا
لأجل المانع وإنشائه هناك - لو سلم لا يوجب الفرق بعد تمامية الملاك وعدم الاحتياج إلى الامر بعد إحرازها.
ودعوى عدم تماميته هاهنا - لان الملاك مكسور بالتزاحم (2) - ممنوعة، لان مقتضى أتمية ملاك الغصب وإن كان عدم جعل الحكم على
الصلاة، لكن ليس مقتضاها صيرورة ملاكها ناقصا.
فإن أريد بمكسورية الملاك صيرورته ناقصا فهو ممنوع، لان الملاكين القائمين بحيثيتين لا معنى لانكسار أحدهما بالآخر، وأرجحية
أحدهما غير مكسورية الاخر.

(1) فوائد الأصول 2: 431.
(2) نفس المصدر السابق.
125

وإن أريد بها أن الحكم بعد تزاحمهما يصير تابعا للأقوى، فهذا مسلم لكن لا يوجب نقصا في ملاك المهم، فهو على ملاكه مطلقا، فلا مانع
من الصحة وجواز التقرب به بعد كفاية الملاك التام، فتدبر.
الأمر التاسع في شروط جريان النزاع في المقام
لا كلام في عدم جريان النزاع في المتباينين والمتساويين، والظاهر جريانه في الأعم والأخص المطلقين إذا كان المنهي عنه أخص، و
لم يؤخذ مفهوم الأعم في الأخص، وتكون الأعمية بحسب المورد لا المفهوم، وذلك لان المناط - وهو اختلاف العنوانين - متحقق.
وأما العام والخاص بحسب المفهوم ففي جريانه فيهما إشكال، من حيث إن المطلق عين ما أخذ في المقيد، ووصف الاطلاق ليس بشي،
بل المطلق عبارة عن نفس الطبيعة بلا شرط، والمقيد هو هذه مع قيد، فلا يمكن أن تكون الطبيعة موردا لحكمين مختلفين، فلا يجري
فيهما، ومن حيث إن المقيد بما هو كذلك عنوان غير المطلق، وليس الحكم فيه على المطلق مع قيده، بل على المقيد بما هو كذلك، وهو
غير المطلق، والامر الضمني لا أساس له، فيجري فيهما.
والمسألة محل إشكال وتأمل، وإن كان عدم جريانه أشبه.
وأما العامان من وجه فلا إشكال في جريانه فيهما، إلا إذا أخذ مفهوم
126

أحدهما في الاخر، كقوله: (صل الصبح) و (لا تصل في الدار المغصوبة)، فيأتي فيه الاشكال المتقدم.
وقد يقال (1): إن جريان النزاع في العامين من وجه يتوقف على أمور:
منها: أن تكون النسبة بين نفس الفعلين الصادرين من المكلف بإرادة واختيار، كما في الصلاة والغصب، وأما إذا كانت بين الموضوعين
- كما في العالم والفاسق - فهو خارج عن محل النزاع، لان التركيب بينهما اتحادي لا انضمامي، ولازمه تعلق الامر بعين ما تعلق به
النهي، فلا بد فيهما من إجراء قواعد التعارض.
ومما ذكرنا علم عدم جريانه فيما إذا كان للفعل عنوانان توليديان تكون النسبة بينهما العموم من وجه، كما لو أمر بإكرام زيد، ونهى
عن إكرام عمرو، فقام المكلف لأجل إكرامهما تعظيما، فإن القيام يتولد منه التعظيمان، وهما وإن كانا بحيثيتين انضماميتين، لكن
الامر بهما أمر بالسبب، فينجر إلى تعلقه بشي واحد وجودا وإيجادا.
ومنها: أن يكون بين الفعلين تركيب انضمامي لا اتحادي، فيخرج مثل (اشرب) و (لا تغصب) إذا كان الماء مغصوبا، فإن نفس الشرب هو
الغصب، فالتركيب اتحادي لا يجري فيه النزاع. انتهى.
وفيه: أن قضية التركيب الانضمامي والإتحادي أجنبية عن مسألة اجتماع الأمر والنهي، ولا يبتني الجواز على التركيب الانضمامي، فإن
التركيب

(1) فوائد الأصول 2: 410 - 412.
127

الخارجي - اتحاديا أو انضماميا - غير مربوط بمقام متعلقات الأوامر والنواهي التي هي العناوين على ما سيأتي بيانه، فيجري النزاع في
مثل: (أكرم العالم) و (لا تكرم الفاسق)، وكذا في مثل: (اشرب) و (لا تغصب) مع كون الماء غصبا.
وكذا في الافعال التوليدية وإن قلنا بتعلق الامر بالأسباب، فإن قوله:
(أكرم زيدا) و (لا تكرم عمرا)، كقوله: (قم لزيد) و (لا تقم لعمرو) عنوانان مختلفان يجوز تعلق الامر بأحدهما والنهي بالآخر، سوأ في
ذلك السبب والمسبب
[التوليديان]
مع أن المبني - أي رجوع الامر إلى السبب التوليدي - محل منع. إذا عرفت ذلك فالتحقيق: هو الجواز،
ويتضح بتقديم أمور:
الأول: أن كل حكم - أمرا كان أو نهيا - إذا تعلق بعنوان لا يمكن أن يتخلف عنه ويتجاوز إلى ما ليس بمتعلقه، فإن تجاوزه عنه إلى ما لا
دخالة له في تحصيل غرضه جزاف بلا ملاك.
فتعلق الامر بطبيعة الصلاة - مثلا - لا يمكن إلا إذا كانت بجميع الخصوصيات المأخوذة فيها دخيلة في تحصيل المصلحة، فكما لا يمكن
تعلقه بالفاقد لها لا يمكن تعلقه بالخصوصية الغير الدخيلة في تحصيلها، كانت مقارنة أو ملازمة للمأمور به في الوجود الخارجي أو
الذهني، فلا يتعدى الامر عن عنوان الصلاة إلى عنوان آخر، ولا النهي عن عنوان الغصب أو التصرف في مال الغير بلا إذنه إلى غيره
مطلقا، فوزان
128

الإرادة التشريعية كوزان التكوينية فيه، فكما أن الثانية تابعة لادراك الصلاح فكذلك الأولى.
الثاني: المراد بالاطلاق المقابل للتقييد هو كون الماهية تمام الموضوع للحكم، بحيث لا يكون شي آخر دخيلا في الموضوع، كان متحدا
معه في الخارج أو لا، ملازما له أو مقارنا أو لا.
فالرقبة في قوله: (إن ظاهرت أعتق رقبة) مطلقة بمعنى أنها تمام الموضوع لوجوب العتق من غير دخالة قيد فيها، وليس معنى الاطلاق
كون شي بتمام حالاته ولواحقه موضوعا للحكم، حتى يكون معنى (أعتق رقبة):
أعتقها سوأ كانت عادلة أو فاسقة، عالمة أو جاهلة. وهكذا، لعدم دخالة هذه القيود في موضوع الحكم أولا، وعدم إمكان كون الماهية
آلة للحاظ تلك الخصوصيات ثانيا، فلا بد للحاظها من دال آخر، والفرض عدمه، ومعه يكون عموما لا إطلاقا.
فإطلاق الصلاة عبارة عن تعلق الحكم بها بلا دخالة شي آخر في الموضوع، وإطلاق قوله: (لا يجوز التصرف في مال الغير بلا إذنه) (1)
عبارة عن كون ذاك العنوان تمام الموضوع للحرمة، فلا يمكن أن يكون الأول ناظرا إلى الصلاة في الدار المغصوبة، ولا الثاني إلى
التصرف الصلاتي.

(1) الاحتجاج 2: 480 توقيعات الناحية المقدسة، الوسائل 17: 309 / 3 باب 1 من أبواب
الغصب، بتفاوت يسير.
129

الثالث: الماهية اللا بشرط وإن تتحد مع ألف شرط في الوجود الخارجي مما هو خارج عن ذاتها ولاحق بها، لكن لا تكون كاشفة ودالة
عليه وآلة للحاظه، لان الشئ لا يمكن أن يكون كاشفا عن مخالفاته بحسب الذات والمفهوم، وإن اتحد معها وجودا.
فالأبيض والبياض لا يمكن أن يكونا كاشفين عن الانسان والمتكمم وإن اتحدا معهما وجودا، كما أن الماهية لا تكشف عن الوجود و
إن اتحدا خارجا.
فالصلاة وإن اتحدت أحيانا مع التصرف في مال الغير بلا إذنه، لكن لا يمكن أن تكون مرآة له وكاشفة عنه، فالاتحاد في الوجود غير
الكشف عما يتحد به، وهو واضح.
الرابع: وهو العمدة في هذا الباب - أن متعلق الاحكام ليس الوجود الخارجي، لان تعلق الحكم بالوجود الخارجي أو الايجاد بالحمل
الشائع لا يمكن إلا في ظرف تحققه، والبعث إلى إيجاد المتحقق تحصيل للحاصل، كما أن الزجر عما وجد خارجا ممتنع، ولا الوجود
الذهني بما هو كذلك، لأنه غير ممكن الانطباق على الخارج، فلا محالة يكون المتعلق نفس الطبيعة، لكن لما كانت الطبيعة لا يمكن أن
تصير متعلقة لحكم إلا أن تصير متصورة، والتصور هو الوجود الذهني، فلا محالة يكون ظرف تعلق الحكم بها هو الذهن، فالطبيعة
متعلقة للحكم في الذهن، لا بما هي موجودة فيه، ولا بما هي موجودة في الخارج، ولا بما هي مرآة للوجود
130

الخارجي، بل بما هي هي.
فمتعلق الهيئة في قوله: (صل) هو الماهية اللا بشرط، ومفاد الهيئة هو البعث والتحريك إلى تحصيلها، ولازم امتثاله إيجادها، كما مر
الكلام فيه سالفا (1)، وقلنا: إن تعلق البعث بنفس الطبيعة لا ينافي قولهم: الماهية من حيث هي ليست إلا هي، ولا يلزم من ذلك كونها بما
هي مؤثرة في تحصيل الغرض، بل المولى لما رأى أن إتيان الصلاة ووجودها خارجا محصل لغرض، فلا محالة يتوسل إليه بوسيلة، ولا
يكون ذلك إلا بالتشبث بالامر بالطبيعة، ليبعث العبد إلى إيجادها، فمتعلق الامر هو الطبيعة، والهيئة باعثة نحو إيجادها، إما لأجل
دلالتها على طلب الوجود - أي العنواني - ليحصل الخارجي، أو لأجل حكم العقل به كما عرفت.
وما قد يقال: - من أن التكليف يتعلق بالطبيعة باعتبار مرآتيتها عن الوجود (2) - غير تام، لان المقصود من هذا التكلف إن كان إثبات
تعلقه بالمرئي فهو مستلزم لتحصيل الحاصل، مضافا إلى أن الطبيعة لا يمكن أن تكون مرآة للوجود، لما عرفت من أن الاتحاد في
الوجود غير الكاشفية.
إذا عرفت ما تقدم يسهل لك تصديق المدعي، أي جواز تعلق الأمر والنهي بعنوانين متصادقين على واحد شخصي خارجي، لان الامر
متعلق بعنوان الصلاة مثلا، ولا يمكن تجاوزه عن متعلقه إلى ما يلحقه أو يلازمه أو

(1) وذلك في صفحة: 243 وما بعدها من الجزء الأول من هذا الكتاب.
(2) فوائد الأصول 1: 401.
131

يتحد به في الخارج، وكذا النهي بحكم المقدمة الأولى.
ولا يكون معنى الاطلاق إلا كون الطبيعة تمام الموضوع، ولا تكون الملحقات والمتحدات معها ملحوظة ومتعلقة للحكم بحكم الثانية.
والطبيعة اللا بشرط وإن اتحدت مع العناوين الأخر في الخارج، لكن لا تكون كاشفة عنها، ولا يكون الحكم المتعلق بها ساريا إلى
غيرها بحكم الثالثة.
ومتعلق الحكم في الأمر والنهي هو نفس الطبيعة، لا الوجود الخارجي ولا الذهني بحكم الرابعة.
فكيف يمكن أن يسري حكم أحد العنوانين إلى الاخر، مع أن في مقام ثبوت الحكمين يكون العنوانان متعددين ومتخالفين، فعنوان
الصلاة غير عنوان الغصب مفهوما وذاتا؟ فلا يمكن أن يسري حكم أحدهما إلى الاخر، والخارج - الذي هو ظرف اتحادهما - لم يكن
ظرف ثبوت الحكم كما تقدم، فظرف الاتحاد غير ظرف المتعلق، وفي ظرف المتعلق لا يمكن الاتحاد، فأين اجتمع الحكمان؟ ومن هنا
يتضح الجواب عن سائر إشكالات الباب، كلزوم كون شي واحد متعلقا للإرادة والكراهة، وكون شي واحد محبوبا ومبغوضا، وذا
صلاح وفساد، ومقربا ومبعدا.
أما بالنسبة إلى المراحل المتقدمة على الأمر والنهي - أي مبادئهما الموجودة في نفس المولى - فواضح، لان المتصور من كل من طبيعة
الغصب
132

والصلاة، وكذا الوجود العنواني منهما، غير المتصور من الاخر، ومورد تصديق المصلحة غير مورد تصديق المفسدة، ومورد تعلق
إرادة البعث غير مورد تعلق إرادة الزجر، فصورة الصلاة وعنوانها في تمام المراحل غير الغصب، فلا تتحد معه، وإنما الاتحاد في
خارج الذهن الذي ليس ظرف تعلق الأمر والنهي، ولا ظرف تحقق مبادئهما، وكذا الوجود العنواني من كل غير الاخر لو فرض تعلقهما
به.
وأما لزوم كون الموجود الخارجي محبوبا ومبغوضا فلا محذور فيه، لان المحبوبية والمبغوضية ليستا من الصفات القائمة بالموضوع
خارجا، كالسواد والبياض، حتى يكون المحبوب متصفا بصفات خارجية بعدد المحبين والله تعالى محبوب الأولياء، ولا يمكن حدوث
صفة حالة فيه بعددهم، فالمحبوبية والمبغوضية من الصفات الانتزاعية التي يكون لهما منشأ انتزاع، فلا بد من لحاظ المنشأ، فإن
المنتزع تابع لمنشئه في الوحدة والكثرة.
فنقول: منشأ انتزاع المحبوبية هو الحب القائم بالنفس المتعلق بالطبيعة التي
[هي]
وجه الخارج، أو الوجود العنواني كذلك، أو الصورة
التي في الذهن كذلك، لان الحب من الصفات الإضافية، ولا بد في تشخصه وتحققه من متعلق، ولا يمكن أن يكون الموجود الخارجي
مشخصا له، لأنه من الكيفيات النفسانية، فلا بد من أن يتشخص بما هو حاضر لدى النفس بالذات، وهو الصورة الحاصلة فيها، ولما
كانت الصورة وجها وعنوانا للخارج تضاف المحبوبية إليه، ولهذا قد تنسب المحبوبية إلى ما ليس موجودا في الخارج، مع
133

امتناعه لو كان مناط الانتساب قيام صفة خارجية بالموضوع، كما أن الامر كذلك في العلم والقدرة، فيصير الشئ قبل تحققه معلوما و
مقدورا.
فإذا كان الامر كذلك يمكن أن يتعلق الحب بعنوان والبغض ب آخر، فيكون الموجود الخارجي محبوبا ومبغوضا، مع كون العنوانين
موجودين بوجود واحد، ألا ترى أن البسائط الحقيقية معلومة لله تعالى ومقدورة ومرضية ومعلولة له، وهكذا.
بل يمكن أن يكون شي بسيط معلوما ومجهولا بجهتين، كالحركة الخاصة الركوعية في الدار المجهول غصبيتها، فإنها مع وحدتها
معلومة أنها ركوع، ومجهولة أنها تصرف في مال الغير، فلو كانت المعلومية والمجهولية كالبياض والسواد من الصفات الخارجية
لامتنع اجتماعهما في واحد، فسر اجتماعهما أنهما من الانتزاعيات كما عرفت.
فتحقق مما ذكرناه: أن الشئ الواحد بحسب الوجود الخارجي يمكن أن يكون محبوبا ومبغوضا.
وأما حديث قيام المصلحة والمفسدة بشي واحد فهو - أيضا - لا محذور فيه، لأنهما - أيضا - لا يجب أن يكونا من الاعراض الخارجية
القائمة بفعل المكلف. مثلا: التصرف
[في]
مال الغير بغير إذنه ظلم قبيح له مفسدة، لان ذلك موجب للهرج والمرج والفساد، من غير أن
تكون هذه العناوين أوصافا خارجية قائمة بالموضوع، والخضوع لله تعالى والركوع له قيام بأمر العبودية، وله حسن ومصلحة، و
موجب لأداء حق العبودية، من غير أن تكون
134

هذه العناوين أعراضا خارجية، بل هي ومقابلاتها من الوجوه والاعتبارات التي يمكن أن يتصف شي واحد بهما.
فمس رأس اليتيم في الدار المغصوبة من جهة أنه رحمة به، حسن ذو مصلحة، ومن جهة أنه تصرف في مال الغير، قبيح ذو مفسدة، من
غير أن يكون ذلك من اجتماع الضدين بالضرورة.
ومما ذكرنا يتضح: إمكان أن يكون شي واحد مقربا ومبعدا، لأنهما - أيضا - من الوجوه والاعتبارات التي يمكن اجتماعها في شي
واحد بجهات مختلفة، ضرورة أن العقل يدرك الفرق بين من ضرب ابن المولى في الدار المغصوبة ومن أكرمه فيها، فحركة اليد لاكرام
ابن المولى من جهة أنها إكرام، محبوبة وصالحة للمقربية، ومن جهة أنها تصرف في مال الغير عدوانا، مبغوضة ومبعدة، فالحركة
الصلاتية في الدار المغصوبة من جهة أنها مصداق الصلاة محبوبة ومقربة، ومن جهة أنها مصداق الغصب مبغوضة مبعدة.
وقد عرفت: أن الشئ الواحد يمكن أن يتصف بمثل هذه الانتزاعيات، فإذا أمكن أن يكون شي واحد محبوبا من جهة ومبغوضا من جهة
أخرى، أمكن أن يكون مقربا ومبعدا من غير لزوم تضاد وامتناع، ولا يلزم أن تكون الجهتان موجودتين بوجودين، ويكون التركيب
بينهما انضماميا.
ومما ذكرنا يظهر النظر فيما تكلفه بعض الأعاظم في تصوير التركيب الانضمامي بين الصلاة والغصب ومبادئ المشتقات، وبنى جواز
الاجتماع
135

وعدمه على التركيب الانضمامي والإتحادي (1)، فإنه أجنبي عن المسألة، بل هي مبتنية على ما تقدم.
نعم، بناء على تعلق الاحكام بالوجود الخارجي وما هو فعل المكلف بالحمل الشائع كان لتكلفه وجه، لكن - مع بطلان هذا البناء - لا
محيص له عن القول بالامتناع كان التركيب انضماميا أولا، مع أن التركيب الانضمامي بين الصلاة والغصب أو التصرف العدواني لا وجه
صحة له كما تقدم.
ثم إن تسمية ما ذكر بالتركيب الانضمامي والإتحادي مجرد اصطلاح، وإلا فليس انطباق العناوين على شي من قبيل التركيب.
تنبيه: في التضاد بين الأحكام الخمسة:
وبما ذكرنا في وجه الجواز تحسم مادة الاشكال، كان بين الاحكام تضاد أولا، لكن لما كان التضاد بينها معروفا بينهم (2)، وإن خالفهم
بعض مدققي المتأخرين (3) فلا بأس بتحقيق المقام.
فنقول: عرف الضدان: بأنهما أمران وجوديان لا يتوقف تعقل أحدهما على الاخر، بينهما غاية الخلاف، يتعاقبان على موضوع واحد، لا
يتصور

(1) فوائد الأصول 2: 406 - 407.
(2) قوانين الأصول 1: 142 / سطر 14، هداية المسترشدين: 338 / سطر 15، مطارح
الأنظار: 132 / سطر 33 - 34، الكفاية 1: 249.
(3) نهاية الدراية 1: 270 / سطر 23 - 24.
136

اجتماعهما فيه (1).
قالوا: ومن شرط التضاد أن تكون الأنواع الأخيرة التي توصف به داخلة تحت جنس واحد قريب (2)، فلا يكون بين الأجناس ولا بين
صنفين من نوع واحد ولا شخصين منه تضاد.
وهذا التعريف لا يصدق على الأحكام الخمسة، سوأ جعلت الإرادات المظهرة أو نفس البعث والزجر، لأنه ان جعلت الإرادات فلم تكن
الاحكام أنواعا مختلفة تحت جنس قريب: أما الواجب والمستحب وكذا الحرام والمكروه فواضح، لان الإرادة الوجوبية والاستحبابية
مشتركتان في حقيقة الإرادة، وممتازتان بالشدة والضعف، وكذا الحال في الحرمة والكراهة، لان المبدأ القريب للزجر - تحريميا
كان أو تنزيهيا - هو الإرادة، فإذا أدرك المولى مفسدة شرب الخمر يتوسل إلى سد بابه بزجر العبيد تشريعا، فيريد الزجر التشريعي،
فيزجرهم عنه، فإرادة الزجر المظهرة إذا كانت إلزامية ينتزع منها التحريم على هذا المبنى، وإذا كانت غير إلزامية ينتزع منها
الكراهة، فالإرادة مبدأ الزجر والبعث والإباحة الشرعية.
وما اشتهر بينهم: من تقابل الإرادة والكراهة، وجعلوا الكراهة مبدأ للنهي، والإرادة للامر (3)، ليس على ما ينبغي، لان الكراهة لصدور
الفعل من

(1) الفصول الغروية: 91 / سطر 33 - 34.
(2) الأسفار 2: 111 - 113.
(3) نهاية الدراية 1: 259 / سطر 10 - 16.
137

المكلف ليست في مقابل إرادة البعث، بل مقابلة للاشتياق إلى صدوره منه، فكما أن استحسان عمل والاشتياق إلى صدوره من المكلف
صار مبدأ لإرادة بعثه نحو الفعل، فكذا استقباح عمل وكراهة صدوره منه صارا مبدأ لإرادة الزجر التشريعي والنهي عنه، فنفس
الكراهة ليست بمبدأ قريب للنهي، ضرورة مبدئية الإرادة لصدور جميع الأفعال.
فبناء على انتزاع الحكم من الإرادة المظهرة لا فرق بين الوجوب وغيره في كون مبدئها الإرادة، فلا تكون الاحكام أنواعا مختلفة
مندرجة تحت جنس قريب، فلا تضاد بينها، ومطلق عدم الاجتماع لا يوجب الاندراج تحت تقابل التضاد، مع أن غاية الخلاف - لو اعتبرت
فيه - لا تتحقق في جميع الأحكام، بل التعاقب على موضوع واحد - المراد به الموضوع الشخصي لا الماهية النوعية - مما لا معنى له فيها،
لان متعلقاتها لا يمكن أن تكون الموجود الخارجي، فلا معنى للتعاقب وعدم الاجتماع فيه.
وبهذا يظهر عدم التضاد بينها، بناء على أن الاحكام عبارة عن البعث والزجر المنشأين بوسيلة الآلات الموضوعة لذلك، كهيئة الامر و
النهي وغيرهما، ولا شك في أنهما - حينئذ - من الأمور الاعتبارية، فلم تكن وجودية ولا حالة في الموضوع الخارجي، بل قائمة بنفس
المعتبر قياما صدوريا، فالتضاد بين الاحكام مما لا أساس له، فتدبر.
ثم إن المجوزين استدلوا بوقوع نظيره في الشرع، كالواجبات المكروهة أو
138

المستحبة، مع أن التضاد بين جميع الأحكام (1)، وهذا الاستدلال ضعيف، لكن لا بأس بالتعرض إلى كيفية العبادات المكروهة، فنقول:
أما ما تعلق الأمر والنهي
[فيه]
بعنوانين مجتمعين في الوجود بينهما عموم من وجه، فنحن في فسحة منه، وكذا في العامين المطلقين بناء
على دخولهما في محل البحث والقول بالجواز.
فالعمدة: هو الجواب عما تعلق النهي بذاتها ولا بدل لها كصوم يوم عاشوراء والصلوات المبتدأة عند غروب الشمس وطلوعها، فلا يبعد
فيها أن يكون النهي متعلقا بعنوان آخر منطبق على الصوم، كالتشبه ببني أمية وبني مرجانة - لعنهم الله - فالمأمور به هو ذات الصوم و
المنهي عنه التشبه بهم، ولما انطبق العنوان عليه وكان ترك التشبه أهم من الصوم المستحب، نهي عنه إرشادا إلى ترك التشبه.
هذا لو قلنا بصحة الصوم يوم عاشوراء كما نسب إلى المشهور (2)، وإلا فللاشكال فيها مجال بالنظر إلى الاخبار.
ونسب إلى المشهور (3) في الجمع بين الاخبار بأن الصوم حزنا مستحب، وشكرا مكروه (4)، وفيه ما فيه.

(1) قوانين الأصول 1: 142 / سطر 13 - 15، مطارح الأنظار: 131 / سطر 3 - 4.
(2) أذكر الإجماع عليه في الغنية - الجوامع الفقهية -: 573 / سطر 20 - 21، والجواهر 17:
108، وخالف فيه من المتأخرين صاحب الحدائق 13: 375 - 376، فقال بحرمته.
(3) الحدائق 13: 369 - 370.
(4) مجمع الفائدة والبرهان 5: 188 - 189.
139

وجمع جمع بينها باستحباب الصوم الناقص، أي صورة الصوم إلى العصر، وبطلان التام (1)، وللكلام فيه محل آخر.
وكذا الحال في الصلوات في أوقات خاصة - كقبل طلوع الشمس وغروبها على فرض كراهتها، فإنها - أيضا - محل مناقشة، لكن يمكن
أن يكون لانطباق عنوان آخر مكروه عليها، كالتشبه بعبدة الأوثان على ما قيل.
وأما ما ذكره المحقق الخراساني: من انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، يكون أرجح من الفعل، أو ملازمة الترك لعنوان كذائي (2).
ففيه: أن الترك عدمي
[لا يمكن انطباق]
عنوان وجودي عليه، ولا يمكن أن يكون ملازما لشئ، فإن الانطباق والملازمة من الوجوديات
التي لا بد في ثبوتها لشئ من ثبوت ذلك الشئ، نعم يمكن اعتبار شي من بعض الاعدام الخاصة المتصورة بنحو من التصور.
ثم إن بعض الأعاظم (3) قد تصدى للجواب عن هذا القسم بتقديم مقدمة نافعة على زعمه، وهي: أن النذر إذا تعلق بعبادة مستحبة يندك
الامر الاستحبابي في الامر الوجوبي من قبل النذر، لوحدة متعلقهما، فيكتسب الامر النذري الوجوبي التعبدية من الاستحبابي، والامر
الاستحبابي يكتسب

(1) جامع المقاصد 3: 86.
(2) الكفاية 1: 256.
(3) أجود التقريرات 1: 365.
140

اللزوم من الوجوبي، فيتولد منهما أمر وجوبي عبادي.
وأما إذا كانت العبادة المستحبة متعلقة للإجارة، كان متعلق الأمر الاستحبابي مغايرا لما تعلق به الامر الوجوبي، لان متعلق الأول ذات
العبادة، ومتعلق الثاني إتيان العبادة بداعي الامر المتوجه إلى المنوب عنه وبوصف كونه مستحبا للغير، لان الشخص صار أجيرا
لتفريغ ذمة الغير، فلا تكون العبادة من دون قصد النيابة تحت الإجارة، فلا يلزم اجتماع الضدين، ولا يندك أحدهما في الاخر، وما
نحن فيه من هذا القبيل، لان الامر تعلق بذات العبادة، والنهي التنزيهي تعلق بالتعبد بها، لما فيه من
[التشبه]
بالأعداء. انتهى.
وفيه أولا: أن الامر في النذر إنما تعلق بعنوان الوفاء به، وهو عنوان مغاير لعنوان الصلاة والصوم وغيرهما، وإنما يجتمع معها في
الخارج الذي لم يكن ظرف تعلق الامر، فإذا نذر أن يأتي بصلاة الليل يجب عليه الوفاء بالنذر، فالاتيان بالصلاة
[المستحبة]
مصداق لوفاء
النذر في الخارج وللصلاة، وهما عنوانان منطبقان على الخارج كما تقدم، وكذا الكلام في الإجارة، فإن الامر الوجوبي تعلق بعنوان
الوفاء بالعقد، والاستحبابي بالصلاة المستحبة، أو أمر وجوبي آخر بالصلاة الواجبة على الولي أو الميت، فافتراق موضوعهما يكون من
هذه الجهة.
وثانيا: لا معنى معقول لهذا الاكتساب والتولد المذكورين، فبأي دليل وأية جهة يكتسب الامر الغير العبادي العبادية والغير الوجوبي
الوجوب؟
141

وما معنى هذه الولادة والوراثة؟ بل لا يعقل تغيير الامر عما هو عليه لو فرض وحدة متعلقه مع الاخر، ولعمري إن هذا أشبه بالشعر منه
بالبرهان.
وثالثا: أن الامر فيما نحن فيه، وكذا في باب العبادات الاستئجارية، لم يتعلق بذات الصلاة والصوم، وإلا يلزم أن يكون توصليا، بل
تعلق بها بقيد التعبد ولو بدليل آخر، فلا يكون موضوعهما شيئين.
ورابعا: بعد تسليم جميع ما ذكر لا ينفع ذلك للتخلص عن الاشكال، لان حاصله يرجع إلى أن الامر الاستحبابي تعلق بصوم يوم
عاشوراء، وصومه بما هو مستحب مكروه، وهذا واضح البطلان، لأنه يلزم منه أن يكون موضوع الحكم مضادا لحكمه.
وما قال في خلال كلامه: - من أن التعبد بالصوم مكروه لأجل التشبه بالأعداء - إن رجع إلى ما ذكرنا لا يحتاج فيه إلى تلك التكلفات.
تنبيه: في توسط الأرض المغصوبة:
قد وقع الخلاف في أن المتوسط في أرض مغصوبة إذا كان دخوله غصبا ويكون التخلص منحصرا بالتصرف فيها بغير إذن صاحبها،
هل يكون ذلك التصرف منه واجبا وحراما (1)، أو واجبا مع جريان حكم المعصية عليه (2)،

(1) اختاره في قوانين الأصول 1: 153 / سطر 21 - 23، ونسبه إلى أبي هاشم وأكثر أفاضل
متأخرينا وظاهر الفقهاء.
(2) الفصول الغروية: 138 / سطر 25.
142

أو بدونه (1)، أو حراما فعليا (2)، أو لا يكون حراما ولا واجبا مع جريان حكم المعصية عليه (3)؟ على أقوال:
أقواها: أنه حرام فعلي، ولا يكون واجبا:
أما عدم الوجوب: فلعدم دليل عليه بعنوان الخروج من الأرض المغصوبة، أو التخلص عن الغصب، أو رد المال إلى صاحبه، أو ترك
التصرف في مال الغير.
نعم دل الدليل على حرمة الغصب وحرمة التصرف في مال الغير بلا إذنه، والعناوين الاخر لا دليل على تعلق الوجوب بها، وما في بعض
الروايات: من أن (المغصوب كله مردود) (4) لا يدل على وجوب الرد بعنوانه، بل لما كان الغصب حراما يرد المغصوب تخلصا عن الحرام
عقلا، فهو إرشاد إليه.
نعم، بناء على أن النهي عن الشئ مقتض للامر بضده العام، ووجوب مقدمة الواجب، يمكن القول بوجوب بعض تلك العناوين، لان
التصرف في مال الغير إذا كان حراما يكون ترك التصرف واجبا، والخروج عن الدار مقدمة لتركه على إشكال، لكن المقدمتين
ممنوعتان كما سبق في

(1) مطارح الأنظار: 153 / سطر 33.
(2) ذكره في فوائد الأصول 2: 447.
(3) الكفاية 1: 263.
(4) الكافي 1: 453 / 4 باب الفئ والأنفال، التهذيب 4: 128 / 2 باب 37 قسمة الغنائم،
الوسائل 17: 309 / 3 باب 1 من كتاب الغصب و 6: 365 / 4 باب 1 من أبواب
الأنفال.
143

محله (1)، وسيأتي الكلام بناء على تسليمهما.
وأما حرمة التصرف الخروجي فعلا: فلما تكرر منا من أن الاحكام المتعلقة بالعناوين الكلية - كقوله: (لا يحل لاحد أن يتصرف في مال
غيره بغير إذنه) (2) - فعلية على عناوينها من غير لحاظ حالات كل واحد من المكلفين، وصحة الخطاب العمومي لا تتوقف على صحة
الباعثية بالنسبة إلى جميع الافراد، وأن الخطابات لم تكن مقيدة بالقادر العالم الملتفت، لا من ناحية الحكم، ولا من ناحية العقل كشفا أو
حكومة، لكن العقل يحكم بمعذورية المكلف في بعض الأحيان.
فالحكم بعدم جواز التصرف في مال الغير فعلي على عنوانه غير مقيد بحال من الأحوال، لكن العقل يحكم بمعذورية العاجز إذا طرأ
[عليه
لا بسوء]
اختياره، وأما معه فلا يراه معذورا في المخالفة.
فالحكم الفعلي بالمعنى المتقدم قد يخالف بلا عذر، وقد يخالف معه، وما نحن فيه من قبيل الأول، وإن حكم العقل بلزوم التخلص
لكونه أقل المحذورين، وهكذا الحال في جميع الموارد التي سلب المكلف قدرته اختيارا.
فإذا أمر المولى بإنقاذ الغريق، فسلب العبد عن نفسه القدرة،

(1) وذلك في صفحة: 15 من هذا الجزء وصفحة: 223 وما بعدها من الجزء الأول.
(2) كمال الدين وتمام النعمة 2: 520 / 49، الوسائل 17: 309 / 4 باب 1 من أبواب
الغصب.
144

لا يكون معذورا لدى العقل والعقلاء، ولو ساعدناهم في سقوط الامر لم تمكن المساعدة في عدم إجراء حكم المعصية بشهادة الوجدان
والعقل.
ثم إنه لو سلم بوجوب رد المال إلى صاحبه، أو وجوب التخلص عن التصرف، أو ترك التصرف، وكون التصرف الخارجي مقدمة
للواجب، فإن قلنا بجواز تعلق النهي بالتصرف - كما عرفت - فيقوى قول أبي هاشم (1)
وإلا فقول صاحب الفصول (2).
وما قيل من لزوم تعلق الأمر والنهي بشي واحد (3) ممنوع، لان النهي متعلق بعنوان التصرف في مال الغير، والامر المقدمي بحيثية ما
يتوقف عليه ذو المقدمة، أو ما يتوصل به إليه، وهما بما لهما من العنوان قابلان لتعلق الأمر والنهي بهما، لا بما هما كذلك بالحمل
الشائع، لأنهما بالحمل الشائع - أي الوجود الخارجي - لا يمكن تعلق الأمر والنهي بهما، فاتحاد مقدمة الواجب

(1) نقله عنه في قوانين الأصول 1: 153 / سطر 22.
أبو هاشم: هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي، من كبار علماء المعتزلة، ولد سنة (247) وإليه وإلى أبيه تنسب الجبائية و
البهشمية - من فرق المعتزلة - وهما من معتزلة البصرة. انفردا عن أصحابهما بمسائل، وكذا الابن عن الأب، له عدة كتب منها: الشامل
في الفقه، وتذكرة العالم، والعدة في الأصول، توفي سنة (321) ببغداد.
انظر تاريخ بغداد 11: 55، الأعلام للزركلي 4: 7، الملل والنحل 1: 78، وفيات الأعيان 3: 183.
(2) الفصول الغروية: 138 / سطر 25.
(3) فوائد الأصول 2: 448.
145

مع التصرف في مال الغير في الوجود الخارجي دون وعاء تعلق التكليف، فحينئذ إن قلنا بأن قيد (المندوحة) لا يعتبر في باب اجتماع
الأمر والنهي، فلا محيص عن قول أبي هاشم، وإلا فعن قول صاحب الفصول.
ثم إن بعض الأعاظم (2) اختار ما نسب إلى الشيخ الأعظم (2): من وجوب الخروج وعدم الحرمة لا خطابا ولا عقابا، وبنى المسألة على
دخول المقام في كبرى قاعدة (الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار) وعدمه، واختار العدم، واستدل عليه بأمور غير خالية عن الخلل.
مع أن القاعدة أجنبية عما نحن فيه، لأنها في مقابل قول من توهم (3) أن قاعدة (الشئ ما لم يجب لم يوجد، وما لم يمتنع لم يعدم) منافية
للاختيار في الافعال، فيلزم أن يكون الواجب تعالى فاعلا موجبا - بالفتح - فإن الواجب والممتنع خارجان عن
[دائرة]
الاختيار.
فأجابوا عنه (4): بأن الايجاب السابق من ناحية العلة وباختياره، لا ينافي الاختيار، وأنه تعالى فاعل موجب - بالكسر - والايجاب
بالاختيار كالامتناع بالاختيار - أي جعل الشئ ممتنعا بالاختيار - لا ينافي الاختيار، بل يؤكده، وما نحن فيه غير مرتبط بهذه القاعدة.
هذا، مضافا إلى أن الامتناع الحاصل بترك المقدمة - كترك المسير إلى الحج

(1) فوائد الأصول 2: 447.
(2) مطارح الأنظار: 153 / سطر 33 - 34.
(3) نسبه إلى الأشاعرة في الكفاية 1: 271.
(4) نهاية الدراية 1: 292 / سطر 1 - 23.
146

إلى وقت يمتنع إدراكه - ينافي الاختيار بالضرورة وإن شئت قلت: إن الايجاب والامتناع السابقين الحاصلين بإرادة الفاعل لا ينافيان
الاختيار، بخلاف ما هو اللاحق له باعتبار تحققه ولا تحققه، وفقدان مقدمات وجوده، فإنه ينافي الاختيار.
ثم إن ما نحن فيه تحت قاعدة أخرى، وهي أن الاضطرار إلى فعل الحرام أو ترك الواجب إذا كان بسوء الاختيار هل هو عذر عند العقلا
ولدى العقل، ويقبح العقاب عليه، أوليس بعذر ويصح؟ الأقوى هو الثاني، فمن ترك المسير إلى الحج بسوء اختياره حتى عجز عنه،
يصح عقابه وإن كان ينافي الاختيار، وكذا من اضطر نفسه إلى التصرف في مال الغير بلا إذنه - كالتصرف الخروجي المضطر إليه
بحكم العقل - لا يكون معذورا عقلا، كمن سلب قدرته عمدا عن إنقاذ الغريق، فتدبر. هذا حال الحكم التكليفي.
وأما الوضعي - أي صحة الصلاة حال الخروج - فقد تقدم (1) شطر من الكلام فيه في الصلاة في الدار المغصوبة، وشطر منه مربوط
بالفقه، وهو حال الصلاة في ضيق الوقت وكيفيتها.

(1) و ذلك في صفحة 118 وما بعدها من هذا الجزء.
147

الفصل الثالث في دلالة النهي على الفساد
في أن النهي عن الشئ هل يكشف عن فساده؟ وقبل تحقيق المقام يقدم أمور:
الأمر الأول في الاختلاف في عنوان البحث
تختلف تعبيرات القوم في عقد المسألة:
فقد يقال: إن النهي عن الشئ هل يقتضي الفساد (1)؟ وقد يقال: إن النهي عنه هل يدل عليه (2)؟

(1) الكفاية 1: 282، نهاية الأفكار 2: 450.
(2) قوانين الأصول 1: 154 / سطر 21، الفصول الغروية: 139 / سطر 28.
149

ولا يخلو كلا التعبيرين عن المسامحة، فإن الاقتضاء بالمعنى المتفاهم به عرفا لا يناسب المقام، لان النهي لا يكون موجبا ومؤثرا في
الفساد، بل إما أن يكون دالا عليه كما يدعي بعضهم (1)، أو كاشفا عن مبغوضية متعلقه، وهي تنافي الصحة، كما يدعي الاخر (2)، من دون
أن يكون النهي بما له من المعنى مقتضيا لذلك، اللهم إلا أن يراد بالاقتضاء معنى آخر.
وكذا لا يناسب التعبير بالدلالة، لان الدلالة اللفظية - كما هو ظاهر العنوان - ولو بنحو الالتزام على فرض كون الدلالة الالتزامية
لفظية، لا تشمل الملازمات الخفية العقلية، بل لا بد في الالتزام من اللزوم الذهني. مضافا إلى أن المدعي في اقتضاء النهي ليس مقصورا
على الدلالة اللفظية.
اللهم إلا أن يراد بها مطلق الكشف ولو بنحو اللزوم الخفي، ولهذا غيرنا عنوان البحث إلى الكشف، حتى يعم الدلالات اللفظية واللوازم
العقلية الخفية، والامر سهل.
الأمر الثاني في كون المسألة عقلية لفظية
الأولى تعميم عنوان البحث بحيث يشمل العقلي واللفظي، حتى يناسب استدلالات القوم، فإنهم تشبثوا: تارة بالدلالة العرفية، وأخرى
بالعقلية،

(1) مقالات الأصول 1: 135 / سطر 1 - 2.
(2) درر الفوائد 1: 157، نهاية الأفكار 2: 452.
150

فجعله ممحضا في أحدهما (1) غير مناسب، بل مع جعله كذلك يبقى
[في عهدة الأصولي]
بحث آخر، فلو تمحض في العقلية لبقي البحث عن
الدلالة اللفظية وبالعكس، فالمسألة ليست عقلية محضة، ولا لفظية كذلك.
ثم إن المسألة الأصولية تقع كبرى لاستنتاج الفرعية الكلية، وقد أشرنا (2) إلى الفرق بينها وبين المسألة المتقدمة هناك.
الأمر الثالث في تحرير محل النزاع
الظاهر أن محط البحث أعم من النهي التحريمي (3) والتنزيهي والنفسي والغيري (4) والاصلي والتبعي، ولا وجه لاختصاصه بأحدها، لان
كلها محل النزاع ولو عند من ادعى أن عدم الامر يكفي في الفساد (5)، وينكر الامر الترتبي، ومجرد كون قوله خلاف التحقيق عند آخر
لا يوجب خروجه عن محط البحث.
ودعوى تعلق النهي التنزيهي في الشريعة بالخصوصيات اللاحقة

(1) فوائد الأصول 2: 455، نهاية الأفكار 2: 452.
(2) وذلك في صفحة: 43 - 45 من أنوار الهداية الجزء الأول.
(3) خص الشيخ الأعظم البحث بالتحريمي في مطارح الأنظار: 157 / سطر 36.
(4) أخرج النهي الغيري والتنزيهي عن محل النزاع في فوائد الأصول 2: 455 - 456.
(5) نهاية الأفكار 2: 452.
151

بالعبادات لا بنفسها (1)، أجنبية عما نحن بصدده على فرض صحتها، لان الكلام في فرض تعلقه بها، كما أن تأويل الكراهة بأقلية الثواب لا
يوجب الخروج عن محط البحث، فدعوى خروج النهي الغيري والتنزيهي عنه (2) ضعيفة.
نعم النهي الارشادي المسوق لبيان المانعية خارج، لأنه بعد إحرازه لا يبقى مجال للنزاع، لكن كون النواهي المتعلقة بالعبادات و
المعاملات إرشادية محل النزاع.
الأمر الرابع في المراد من العبادات والمعاملات
المراد بالعبادات هو العناوين الواردة في الشريعة مما لا يسقط أمرها - على فرض تعلقه بها - إلا إذا أتيت بوجه قربي، أو كان عنوانها
عبادة ذاتا، وبالجملة: مطلق القربيات مع قطع النظر عن النهي.
وأما المعاملات: فمطلق ما يتصف بالصحة تارة وبالفساد أخرى، لا ما يترتب عليه أثر على وجه ولا يترتب على آخر، لان القتل قد
يترتب عليه القصاص، وقد لا يترتب كقتل الأب ابنه، ولا يتصف بالصحة والفساد، ومثله خارج عن البحث، والظاهر أن أبواب الضمان
من هذا القبيل، ولو

(1) فوائد الأصول 2: 456.
(2) فوائد الأصول 2: 455 - 456.
152

فرض انفكاك الأثر عن أسبابه أحيانا.
الأمر الخامس في مساوقة الصحة والفساد للنقص والتمام
قالوا: الصحة والفساد أمران إضافيان، بينهما تقابل العدم والملكة، مساوقان معنى للتمام والنقص لغة وعرفا، وكذا في نظر الفقهاء و
المتكلمين، واختلاف تعبير الفريقين لأجل ما هو المهم في نظرهما (1).
أقول: أما مساوقتهما للتمام والنقص عرفا ولغة فهو واضح الفساد، لاختلاف مفهومهما وموارد استعمالهما، فلا يقال لانسان فاقد
لبعض الأعضاء: إنه فاسد، ويقال: ناقص، والدار التي بعض مرافقها ناقصة لا يقال:
إنها فاسدة، ولا لما تمت مرافقها: إنها صحيحة بهذا الاعتبار.
فالتمام والصحة عنوانان بينهما عموم من وجه بحسب المورد، فالنقص بحسب الاجزاء غالبا، والتمام مقابله.
وأما الصحة فغالب استعمالها في الكيفيات المزاجية أو الشبيهة بها، ومقابلها الفساد، وهو كيفية وجودية عارضة للشئ منافرة
لمزاجه، ومخالفة لطبيعته النوعية، فالفاكهة الفاسدة ما عرضتها كيفية وجودية منافرة لمزاجها تتنفر عنها الطباع غالبا، فبين الصحة
والفساد تقابل التضاد لو سلم كون الصحة وجودية، وبين النقص والتمام تقابل العدم والملكة. هذا بحسب

(1) الكفاية 1: 287، فوائد الأصول 2: 457.
153

اللغة والعرف.
وأما في العبادات والمعاملات، فلا إشكال في استعمال الصحة والفساد فيها مع فقد جز أو شرط أو وجود مانع، فكأنهما مساوقان
للتمام والنقص أو قريبان منهما، لكن يمكن أن يكون بوضع جديد، وهو بعيد عن الصواب، ويمكن أن يكون باستعمالهما مجازا ثم
بلغا إلى حد الحقيقة.
فالصحة في الماهيات المخترعة صفة لمصداق جامع لجميع الاجزاء والشرائط، مطابق للمخترع والقانون، والفساد مقابلها، وبينهما في
هذا المورد تقابل العدم والملكة، وبهذا المعنى يمكن أن يقال: إنهما أمران إضافيان، لامكان أن يكون عبادة تامة الاجزاء ناقصة
الشرائط، وبالعكس.
وأما الصحة بالمعنى المتعارف فليست كذلك، إلا بالإضافة إلى حالات المكلفين.
وأما اختلاف الانظار في صحة عبادة وعدمها فلا يوجب إضافيتهما، لان الانظار طريق إلى تشخيص الواقع، فكل يخطئ الاخر، فما في
كلام المحقق الخراساني (1) - من إثبات إضافيتهما بذلك - غير تام.
تنبيه: في جعل الصحة والفساد:
هل الصحة والفساد مجعولتان مطلقا أولا، أو مجعولتان في المعاملات

(1) تقدم تخريجه آنفا.
154

دون العبادات، أو الصحة الظاهرية مجعولة دون الواقعية؟ فيه أقوال:
أقواها: عدم إمكان مجعوليتهما مطلقا، وذلك لان الصحة - سوأ كانت منتزعة من مطابقة الخارج للمخترع أو للامر، أو بمعنى التمامية
- أمر تكويني عقلي لا ينالها الجعل.
ومجرد جعل الآثار في المعاملات (1) - على فرض صحته - لا يوجب كونهما مجعولين فيها، لعدم اتصاف الماهيات المخترعة بالصحة و
الفساد، كما هو واضح، بل المتصف بهما هو الموجود الخارجي أو الاعتباري بلحاظ انطباق الماهيات عليه ولا انطباقها، وهما عقليان لا
يتطرق الجعل بالنسبة إليهما.
وكذا جعل الصحة الظاهرية بنفسها لا معنى له، لان جعل مطابقة المأتي به للمأمور به بلا تصرف في منشأ الانتزاع غير معقول ولو في
ظرف الشك وبحسب الظاهر.
نعم، جواز ترتيب أثر الصحة أو وجوبه قابلا للجعل، لكنه غير جعل الصحة بنفسها، بل الظاهر أن جواز ذلك أو إيجابه بدون رفع اليد
عن الشرط أو الجز غير ممكن، ومعه يكون التطبيق قهريا، ولعل القائل بالجعل هاهنا خلط بين الامرين.

(1) الكفاية 1: 290.
(2) نفس المصدر السابق.
155

الأمر السادس في تحقيق الأصل في المقام
لا أصل في المسألة الأصولية لدى الشك في دلالة النهي على الفساد لفظا أو كشفه عنه عقلا، لعدم العلم بالحالة السابقة، لا في الدلالة، ولا
في الملازمة:
أما الأولى: فلان اللفظ قبل وضعه وإن لم يكن دالا، لكن في هذه الحالة لم يكن إلا الحروف المقطعة، وعند عروض التركيب له إما وضع
لما يستفاد منه الفساد أو لغيره، فلا حالة سابقة له بنحو الكون الناقص إلا أن يقال:
عروض التركيب لطبيعي اللفظ في ذهن الواضع كان قبل الدلالة والوضع زمانا، أو يقال: إن الدلالة تحققت بعد الوضع زمانا.
وأما الملازمات: فليست لها حالة سابقة مفيدة، سوأ قلنا بأنها أزلية كما قيل (1)، وهو واضح، أو قلنا بأن تحققها عند تحقق المتلازمين،
لان قبل تحققهما وإن لم تكن الملازمة بنحو الكون التام متحققة، لكنه لا يفيد استصحابها إلا على الأصل المثبت، وبنحو الكون الناقص
لا حالة سابقة حتى يستصحب.
ثم إنه لو سلم تحقق الحالة السابقة في المقامين لم يجر الاستصحاب، لأجل عدم أثر شرعي للمستصحب، لعدم كون الدلالة أو الملازمة موضوعا

(1) فوائد الأصول 2: 462.
156

لحكم شرعي، وصحة الصلاة لدى تحقق المقتضيات وعدم الموانع عقلية لا شرعية.
هذا حال الأصل في المسألة الأصولية.
وأما حاله في الفرعية، فلا بد أولا من فرض الكلام في مورد تعلق النهي بالعبادة أو المعاملة وشك في اقتضائهما الفساد، فإجراء
القواعد الأخر مثل:
رجوع الشك إلى الأقل والأكثر - إن كان المراد منه رجوع الشك إلى تعلقه بهما أو بالخصوصية، ككونها في مكان كذا - أو إجراء
قاعدة التجاوز، فأجنبي عن المقام، فإن الكلام ليس في مانعية شي عن الصلاة أو شرطيته لها، بل الكلام في الشك في اقتضاء النهي
الفساد.
والتحقيق أن يقال: أما في المعاملات فمقتضى الأصل الفساد، وأما في العبادات فإن كان الشك في فسادها بعد الفراغ عن إحراز الملاك
كما في النهي عن الضد، فالأصل يقتضي الصحة، لان الملاك كاف فيها، فيرجع الشك إلى كون النهي إرشادا إلى الفساد لأجل أمر آخر
غير فقدان الملاك، فيرجع بالآخرة إلى الشك في مانعية النهي عن العبادة، وهو مجرى البراءة.
ولا يخفى عليك الفرق بين ما تقدم آنفا - من أن إجراء البراءة أجنبي عن المقام - وبين المقام من إجراء البراءة، فلا تغفل.
وأما إذا كان الشك في تحقق الملاك - أيضا - فالأصل يقتضي الفساد، لان صحة الصلاة تتوقف إما على إحراز الامر، أو الملاك، والامر
لا يجتمع مع
157

النهي في عنوان واحد، ومع عدمه لا طريق لاحراز الملاك. إذا عرفت ذلك فيقع الكلام: تارة في دلالة النهي عرفا إذا تعلق بعبادة أو
معاملة مع عدم إحراز كونه للتحريم أو التنزيه أو غيرهما، وأخرى في الاقتضاء عقلا إذا أحرز التحريم أو غيره.
في دلالة النهي على الفساد عرفا:
أما المقام الأول: فلا ينبغي الاشكال في ظهوره عرفا إذا تعلق بالمعاملات في الارشاد إلى الفساد لا تحريم السبب، فإن الأسباب آلات
لتحقق المسببات، ولا نفسية لها حتى يتعلق بها النهي، مضافا إلى بعد تعلق النهي والحرمة بالتلفظ بألفاظ الأسباب. وأما المسبب فهو
اعتبار شرعي أو عقلائي لا معنى لتعلقه به.
وأما الآثار المترتبة عليها فتعلقه بها ذاتا بعيد، لأنه مع تأثير السبب لا معنى للنهي، ومع عدمه يكون التصرف في مال الغير ووطء
الأجنبية وأمثالهما محرمة لا تحتاج إلى تعلقه بها، فلا بد من حمله على الارشاد، وأن الزجر عن الايقاع لأجل عدم الوقوع.
وبالجملة: المتفاهم به عرفا في النهي عن معاملة خاصة أو إيقاعها على نحو خاص، هو الارشاد إلى أن الأثر المتوقع منها لا يترتب عليها،
فتكون فاسدة.
وأما ما يقال: من أن النهي فيها منصرف إلى ترتيب الآثار، فقوله:
158

لا تبع المجهول - مثلا - منصرف إلى حرمة ترتيب الآثار على بيعه، ومنه يستفاد الوضع.
فغير سديد، لمنع الانصراف، ولا داعي لرفع اليد عن ظاهر العنوان، بل الظاهر أن النهي متعلق بإيقاع الأسباب، لكن لا إلى ذاتها بما هي،
بل بداعي الارشاد إلى عدم التأثير.
وأما العبادات: فلا يبعد دعوى ذلك فيها أيضا، لان المكلفين بحسب النوع إنما يأتون بالعبادات لأجل إسقاط الامر والإعادة والقضاء،
فإذا ورد من المقنن نهي عن كيفية خاصة، تنصرف الأذهان إلى أن الاتيان بها مع هذه الكيفية غير مسقط للامر، وأنه لأجل الارشاد إلى
فسادها.
فقوله: (لا تصل في وبر ما لا يؤكل لحمه) (1) ظاهر - في نظر العرف - في أن الطبيعة المتعلقة للامر لا تتحقق بهذه الكيفية، وأن الصلاة
كذلك لا يترتب عليها الأثر المتوقع، أي سقوط القضاء والإعادة وسقوط الامر لأجل الامن من العقاب.
وكذا الحال لو تعلق بصنف خاص كصلاة الأعرابي، أو في حال خاص كالصلاة أيام الأقرأ، أو مكان خاص كالحمام، فمع عدم الدليل
تحمل تلك النواهي على الارشاد كالأوامر الواردة في الاجزاء والشرائط، وهذه الدعوى قريبة.

(1) علل الشرائع: 442 / 1 باب 42، الوسائل 3: 251 / 7 باب 2 من أبواب لباس المصلي،
بتفاوت في ألفاظه.
159

في مقتضى النهي عقلا:
وأما المقام الثاني، أي إذا أحرزنا حال النهي:
فتارة: يكون تحريميا نفسيا متعلقا بعبادة، فلا شبهة في اقتضائه الفساد عقلا، فإنه كاشف عن المبغوضية والمفسدة، ومعهما كيف
يمكن صلاحيته للتقرب والتعبد؟ وأما إتعاب شيخنا العلامة - طاب ثراه - نفسه الشريفة في تصوير تعلق النهي بأمر خارج، وإدراج
المسألة تحت اجتماع الأمر والنهي (1)، فلا يخلو من غرابة، لان الكلام هاهنا بعد الفراغ عن تعلقه بنفس العبادة.
وأما النهي التنزيهي: فمع بقائه على تنزيهيته ودلالته على مرجوحية متعلقه، فلا يجتمع مع الصحة، لكن يقع البحث - حينئذ - في أن النهي
التنزيهي ملازم للترخيص، وكيف يمكن الترخيص في التعبد بأمر مرجوح؟ وهل هذا إلا الترخيص بالتشريع؟ فلا بد بعد إحراز
المرجوحية من التخلص عن هذا الاشكال، بأن يقال: إن الترخيص حيثي، مفاده عدم كون عنوان العبادة محرما ذاتا، ولا يتنافى ذلك مع
الحرمة من قبل التشريع على فرضها.
وأما النهي الغيري: - كالنهي عن الضد بناء على القول به - فلا يقتضي الفساد عقلا، لعدم دلالته على مبغوضية المتعلق، لأنه لم يكن إلا

(1) درر الفوائد 1: 151 - 152.
160

للالزام بإتيان غيره، كما أن الامر المقدمي لا يكشف عن المحبوبية، لأنه إلزام لأجل غيره، فمع القول بكفاية الملاك في صحة العبادة لا
إشكال فيها.
وما قيل: - من أن إتيان الفعل المنهي عنه تجر على المولى، فيكون الفاعل بعيدا عن ساحته به، فلا يمكن التقرب به - بعيد عن الصواب.
أما أولا: فلان فاعل الضد عاص بترك الضد الأهم، لا فعل المهم، فليس في فعله تجر.
وأما ثانيا: فعلى فرضه لا دليل على أن التجري موجب لفساد العمل، لان المبغوضية لا تسري إليه، وكون الفاعل جريئا على المولى لا
يوجب بعده بعمله، بل بجرأته وجسارته، وهو عنوان آخر لا تسري المبغوضية منه إلى الفعل. هذا حال العبادات.
وأما المعاملات: فلا إشكال في عدم دلالة النهي التنزيهي والغيري فيها على الفساد.
وأما النهي التحريمي: فإن تعلق بالفعل المباشري - أي صدور هذا اللفظ بنفسه، أو صدوره بعنوان إيقاع المعاملة - فلا يدل على الفساد،
لعدم المنافاة بين مبغوضيتهما والتأثير في المسبب والصحة، وكذا لو تعلق بها لأجل مبغوضية مسببها، كبيع المسلم من الكافر إذا كان
المبغوض مملوكيته له، لعدم المنافاة أيضا.
ويظهر من الشيخ الأعظم: التفصيل بين كون الأسباب عقلية كشف
161

عنها الشارع، فتصح المعاملة، وإن أجبر الكافر على إخراجه عن ملكه، وبين كون الأسباب شرعية، فيبعد جعله السبب مع مبغوضية
مسببه (1).
أقول: الظاهر أن الأسباب نوعا عقلائية، لا عقلية ولا شرعية، والظاهر أن مراده من العقلية ما ذكر، تأمل.
فيقع الكلام: في أن النهي عن السبب لأجل مبغوضية المسبب، هل يكون رادعا عن المعاملة العقلائية أم لا؟ الأقوى هو الثاني، لعدم المنافاة
بينهما، بل لو فرض مجعولية السبب شرعا لم يرفع اليد عن أدلة السببية لأجل مبغوضية المسبب، وما استبعده (2) ليس ببعيد، لان جعل
القانون الكلي الذي يشمل المورد لا بعد فيه، وإن كان اختصاص المورد بالجعل بعيدا، وليس الامر كذلك.
وكذا الكلام لو تعلق النهي بالتسبب بسبب خاص إلى المسبب بحيث لا يكون المسبب مبغوضا، بل التوسل إليه بذاك السبب مبغوضا،
فإنه - أيضا - لا يدل على الفساد، لعدم المنافاة كما مر.
وما قيل: - من أنه مع مبغوضية حصول الأثر بذاك السبب لا يمكن إمضاء المعاملة، وهو مساوق للفساد (3) - فيه منع، كالحيازة بالآلة
الغصبية، تأمل.

(1) مطارح الأنظار: 163 / سطر 28 - 35.
(2) مطارح الأنظار: 163 / سطر 35.
(3) أجود التقريرات 1: 406.
162

فأية منافاة بين تحقق الوضع والحرمة التكليفية؟ مضافا إلى أن المعاملات عقلائية، لا بد فيها من الردع، ومجرد ذلك لا يكون رادعا،
كما لا يكون مخصصا أو مقيدا لما دل على تنفيذ الأسباب. نعم لو تعلق النهي بالمعاملة لأجل مبغوضية ترتيب الآثار المطلوبة عليها لفهم
منه الفساد عرفا، لان حرمة ترتيب الأثر على معاملة مساوقة لفسادها عرفا.
هذا كله لو أحرز تعلقه بأحد العناوين، ومع عدمه فلا ينبغي الاشكال في ظهوره في النحو الأخير.
فإذا ورد (لا تبع ما ليس عندك) وأحرزت حرمة النهي، يفهم منه أنها متعلقة بالبيع باعتبار ترتيب الآثار، والمبغوض هو العمل على
طبقه، كسائر معاملاته، ولا ينقدح في ذهن العرف حرمة التلفظ بالألفاظ الخاصة، لأنها آلات لا ينظر إليها، ولا حرمة المسبب الذي هو
أمر اعتباري لا يكون مبغوضا نوعا، ولا التسبب بها إلى المسبب، بل ما ينقدح في أذهانهم هو الزجر عن المعاملة على نحو سائر
المعاملات من ترتيب الأثر عليها، فالنهي متوجه إلى المعاملة باعتبار ترتيب الآثار، وهو مساوق للفساد.
ومنه يظهر ما في كلام الشيخ الأعظم: من دعوى ظهور تعلقه بصدور الفعل المباشري (1)، مع أنه أبعد الاحتمالات لدى العرف والعقلاء،
فتدبر.

(1) مطارح الأنظار: 163 - 164.
163

في التمسك بالروايات على فساد المعاملة المنهي عنها:
ثم إنه قد يتمسك بروايات لاثبات الفساد لو تعلق النهي بعنوان المعاملة:
منها: صحيحة زرارة المروية في نكاح العبيد والإماء عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: (سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده، فقال:
ذاك إلى سيده، إن شاء أجازه، وإن شاء فرق بينهما. قلت: أصلحك الله إن الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إن
أصل النكاح فاسد، ولا يحل إجازة السيد له، فقال أبو جعفر: إنه لم يعص الله، إنما عصى سيده، فإذا أجازه فهو له جائز) (1).
ومنها: ما عن زرارة (2) عن أبي جعفر عليه السلام قال: (سألته عن رجل تزوج عبده امرأة بغير إذنه، فدخل بها، ثم اطلع على ذلك مولاه،
قال: ذاك لمولاه، إن شاء فرق بينهما. إلى أن قال -: فقلت لأبي جعفر: فإنه في أصل

(1) التهذيب 7: 351 / 63 باب 30 في العقود على الإماء.، الوسائل 14: 523 / 1 باب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء.
الحكم بن عتيبة: وقيل (عيينة) أبو محمد الكندي الكوفي، من أصحاب السجاد والباقر والصادق عليهم السلام، توفي سنة 114 ه‍ وقيل
115 ه‍. انظر رجال الشيخ الطوسي:
86 و 114 و 171، الوافي بالوفيات 13: 111، معجم رجال الحديث 6: 173.
إبراهيم النخعي: هو إبراهيم بن يزيد بن قيس أبو عمران النخعي الكوفي، روى عن علقمة، ومسروق، وخاله الأسود بن يزيد وغيرهم،
توفي سنة 96 ه‍ وقيل سنة 95 ه‍ وله تسع وأربعون سنة. انظر الوافي بالوفيات 6: 169، حلية الأولياء 4: 219.
(2) التهذيب 7: 351 / 62 باب 30 في العقود على الإماء، الوسائل 14: 523 / 2 باب
24 من أبواب نكاح العبيد والإماء.
164

النكاح كان عاصيا، فقال أبو جعفر: إنما أتى شيئا حلالا، وليس بعاص لله، إنما عصى سيده، ولم يعص الله، إن ذلك ليس كإتيان ما حرم
الله عليه من نكاح في عدة وأشباهه).
بتقريب: أن الظاهر منهما أن النكاح لو كان معصية الله لكان باطلا، وإنما نفى الصغرى.
وربما يستشكل بأن عصيان السيد عصيان الله، لحرمة مخالفته شرعا، فكيف قال: (إنما عصى سيده ولم يعص الله)؟ فهرب كل مهربا،
ولم يأتوا بشي مقنع غير مخالف للظاهر.
والتحقيق أن يقال: إن مورد السؤال والجواب النكاح بما له من المعنى المتعارف، أي ما صنعه العبد بلا إذن مولاه، هو عصيان سيده، و
ليس بعصيان الله: أما عصيان السيد، فلان ارتكابه هذا الامر المهم بلا إذنه مخالفة لسيده، وخروج عن رسم العبودية، وأما عدم كون
النكاح عصيان الله تعالى فلان ما حرم الله تعالى على العبد هو عنوان مخالفته لمولاه، ومتعلق النهي هذا العنوان، ولا يكاد يتجاوز عنه
إلى عنوان آخر كالنكاح والطلاق.
فالتزويج الخارجي مصداق لعنوان محرم هو مخالفة المولى، وعنوان غير محرم بل محلل هو النكاح، فالتزويج بعنوانه حلال ليس
بمحرم، ولا تسري حرمة مخالفة المولى إلى ذلك العنوان في وعاء من الأوعية، وإنما يتحد مصداق النكاح مع مصداق المخالفة في
الخارج الذي لم يكن
165

ظرف تعلق الحكم، كما مر الكلام فيه (1) في باب الاجتماع وفي النذر المتعلق بالنافلة.
ويشهد على ذلك قوله في الرواية الثانية (2): (فقلت لأبي جعفر عليه السلام: فإنه في أصل النكاح كان عاصيا، فقال أبو جعفر: إنما أتى
شيئا حلالا، وليس بعاص لله، إنما عصى سيده)، ترى كيف صرح بأن أصل النكاح شي حلال ليس بمعصية الله، ومع ذلك عصى سيده،
أي في النكاح، فالتزويج عصيان السيد، ومخالفة السيد عصيان لله، وهي بعنوانها غير النكاح، وإن اتحدا خارجا.
ويشهد له - أيضا - تعليله بأن ذلك ليس كإتيان ما حرم الله عليه من نكاح في عدة وأشباهه مما تعلق الحرمة بنفس الطبيعة، ووجه
الافتراق ليس إلا ما ذكرنا.
ويشهد - أيضا - له صحيحة منصور بن حازم (3) عن أبي عبد الله:

(1) وذلك في صفحة: 109 - 110 من هذا الجزء.
(2) مر تخريجها آنفا.
(3) الكافي 5: 478 - 5 باب المملوك يتزوج بغير إذن مولاه، الوسائل 14: 522 / 2 باب 23 من أبواب نكاح العبيد والإماء.
منصور بن حازم: أبو أيوب البجلي الكوفي، من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ومن أهل سره، صدوق في الحديث، عين في الشيعة،
من فقهاء آل البيت، له كتب منها:
أصول الشرائع.
انظر رجال النجاشي: 413، تنقيح المقال 3: 248، معجم رجال الحديث 18: 345.
166

(في مملوك تزوج بغير إذن مولاه، أعاص لله؟ قال: عاص لمولاه قلت: حرام هو؟ قال:
ما أزعم أنه حرام، وقل له: أن لا يفعل إلا بإذن مولاه).
[انظر]
كيف صرح بعدم حرمة التزويج، ومع ذلك نهاه عن إتيانه بلا إذن مولاه، و
ليس له وجه إلا ما تقدم من أن النكاح ليس بحرام، لكن إتيانه منطبق عنوان (1) آخر محرم، هو مخالفة المولى.
تذنيب: في دعوى دلالة النهي على الصحة:
حكي (2) عن أبي حنيفة (3) والشيباني (4) دلالة النهي على الصحة، لان النهي زجر عن إتيان المبغوض، ومع عدم قدرة المكلف يكون لغوا،
فالنكاح في العدة وصوم يوم النحر - مما لا يمكن للمكلف إتيانهما - يكون

(1) أي: مصداق عنوان.
(2) مطارح الأنظار: 166 / سطر 15 - 16.
(3) أبو حنيفة: هو النعمان بن ثابت بن زوطي الكوفي مولى تيم الله بن ثعلبة. ولد سنة (80 ه‍) إليه ينسب المذهب المعروف وهو أحد
المذاهب الأربعة، وهو صاحب الرأي والقياس في الفقه. بدأ دراسته في الكوفة، وأخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان وغيره، نقله أبو
جعفر المنصور إلى بغداد، وتوفي فيها سنة (150 ه‍).
انظر وفيات الأعيان 5: 405، الكنى والألقاب 1: 50.
(4) الشيباني: هو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد، الشيباني ولا، الفقيه الحنفي.
ولد سنة (132 ه‍) أصله من الشام، نشأ في الكوفة، وأخذ عن أبي حنيفة ثم من أبي يوسف القاضي. اشتغل قاضيا لهارون الرشيد، توفي
في الري سنة (189 ه‍).
انظر وفيات الأعيان 4: 184، شذرات الذهب 1: 321، الكنى والألقاب 2: 356.
167

النهي عنهما لغوا، لتعلقه بأمر غير مقدور.
فأجاب عنه المحقق الخراساني (1) - في المعاملات -: بأن النهي عن المسبب أو التسبب يدل على الصحة، لاعتبار القدرة في متعلقه، وأما
إذا كان عن السبب فلا، لكونه مقدورا وإن لم يكن صحيحا. انتهى.
ولا يخفى أن نظرهما إلى المعاملات العقلائية على ما هي رائجة بينهم لولا نهي الشارع، فإيقاع السبب - بما أنه فعل مباشري - ليس
معاملة، ولا مورد نظرهما، ولا متعلقا لنهي في الشريعة في مورد من الموارد.
وادعى بعض المدققين (2): سقوط قولهما على جميع التقادير، بما محصله: أن ذات العقد الانشائي غير ملازم للصحة، فمقدوريته لذاته لا
ربط لها بمقدوريته من حيث هو مؤثر فعلي، وإيجاد الملكية عين وجودها حقيقة، غيرها اعتبارا، والنهي عنه وإن دل عقلا على
مقدوريته، لكن لا يتصف هو بالصحة، لان الاتصاف إن كان بلحاظ حصول الملكية فهي ليست أثرا له، لان الشئ ليس أثرا لنفسه، وإن
كان بلحاظ الأحكام المترتبة على الملكية المعبر عنها ب آثارها، فنسبتها إليها نسبة الحكم إلى موضوعه، لا المسبب إلى سببه ليتصف
بلحاظه بالصحة.
انتهى.
وأنت خبير بأن محط نظرهما هو النهي المتعلق بالمعاملة على نحو أو جده

(1) الكفاية 1: 299 - 300.
(2) نهاية الدراية 1: 318 / سطر 26 - 27.
168

العقلا - أي العقد المتوقع ترتب المسبب عليه - فلا يرد عليهما هذا الاشكال، ولو سلم تعلق النهي بإيجاد الملكية، فلا محالة يكون
إيجادها مقدورا، كما اعترف به المستشكل.
فمقدوريته كاشفة عن صحة المعاملة، لا عن صحة الايجاد، حتى يقال: إنه لا يتصف بها، فالحق معهما إذا أحرز أن النهي تكليفي لا
إرشادي، وإلا فظهوره في الفساد لا ينبغي أن ينكر.
هذا إذا لم نقل بأن النهي إذا تعلق بمعاملة لأجل مبغوضية ترتيب الآثار المطلوبة عليها، يدل على الفساد في نظر العقلا، وإلا فيصير
نظير الارشاد إلى الفساد. تدبر.
وأما العبادات: فكلامهما فيها خال عن التحصيل على أي تقدير:
أما على قول الأعمي، فواضح.
وأما على الصحيحي فهو - أيضا - كذلك، لان الصحيحي لم يكن قائلا بالصحيح حتى من قبل الشرائط الآتية من قبل الامر على ما قيل (1).
وأما لو قلنا بالصحة الفعلية، فلان العبادة تتقوم بالامر أو الملاك، وشي منهما لا يتعقل مع النهي: أما الامر فواضح، لان العنوان واحد،
[وأما الملاك]
فلا يمكن أن يكون عنوان واحد مبغوضا ومحبوبا وذا صلاح وفساد، فلا يجتمع النهي مع الصحة الفعلية مطلقا.

(1) نهاية الأفكار 1: 464.
169

تنبيه: في اقتضاء النهي عن الجز أو الشرط أو الوصف للفساد:
قد مر الكلام في تعلق النهي بنفس العبادة كائنة ما كانت (1) فبعد البناء على فسادها بتعلقه بها، فهل يوجب تعلقه بجزئها أو شرطها أو
وصفها اللازم أو المفارق فسادها أم لا؟ ومحط البحث: هو اقتضاء الفساد من هذه الحيثية لا الحيثيات الاخر، مثل تحقق الزيادة في
المكتوبة، أو كون الزائد المحرم من الكلام الادمي، إلى غير ذلك مما هو أجنبي عن محل الكلام.
ولا يخفى أن كلام المحقق الخراساني (2) في الأمر الثامن من المقدمات لا يخلو من اضطراب.
والتحقيق: عدم إيجاب الفساد مطلقا:
أما الجز: فلان حرمته لا توجب حرمة العبادة المشتملة عليه ولا أجزائها الاخر بالضرورة، ومحل الكلام ما إذا تعلق بالجز، لا ما إذا
تعلق لأجله بالكل، وما يقال: - من أن تحريم الجز يستلزم أخذ العبادة بالإضافة إليه بشرط لا - ممنوع، لعدم
[قيام]
دليل عليه، مع أنه
خارج عن محل البحث.
وأما الوصف اللازم كالاجهار بالقراءة، فلان عنوان الصلاة مع القراءة يخالف عنوان الاجهار بها، ومعلوم أن الاجهار بها غير القراءة
جهرا، ومحط

(1) أي: ولو كانت جزا أو شرطا أو غيرهما.
[منه قدس سره].
(2) الكفاية 1: 292.
170

البحث هو الأول، ولا مانع من تعلق الامر بعنوان القراءة أو الصلاة مع القراءة، وتعلق النهي بإجهارها في الصلاة، فإنهما عنوانان غير
مأخوذ أحدهما في الاخر، وإضافة الاجهار إلى القراءة من قبيل زيادة الحد على المحدود، واتحادهما خارجا غير مضر، كما مر في باب
الاجتماع.
ولا يخفى أن المراد بالوصف اللازم ليس بوجه لا تكون مندوحة في البين، ضرورة امتناع تعلق الامر بشي والنهي بلازمه الغير المنفك
عنه، بل المراد منه كلزوم الجهر للقراءة، حيث لا يمكن سلبه عنها مع بقائها، وإن أمكن إيجادها في ضمن صنف آخر.
ومما ذكرنا ظهر حال الوصف الغير اللازم.
وأما الشرط: كما لو تعلق الامر بالصلاة متسترا، وتعلق النهي بالتستر في الصلاة بوجه خاص أو شي خاص، لا النهي عن التستر فيها
مطلقا، فإنه ممتنع مع الامر بها متسترا، وكيف كان، فلا يلزم من النهي عن التستر الخاص مبغوضية الصلاة، ومبغوضية التستر بنحو
خاص لا تنافي محبوبية الصلاة متسترا، فإن التقيد بالتستر المأخوذ فيها أمر عقلي ليس كالاجزاء، فيمكن أن يتقرب بالصلاة مع التستر
بستر منهي عنه، ولا يلزم اجتماع المبغوض والمحبوب.
هذا كله بحسب حكم العقل دون الاستظهار من الأدلة، فلا مضايقة في دلالتها على الفساد أحيانا.
171

المقصد الثالث في المفاهيم
173

مقدمة في تعريف المفهوم
قد عرف المفهوم بتعاريف (1) لا داعي لذكرها والنقض والابرام في أطرافها، لكن لا بد من التنبيه على أمر: وهو أن المفهوم على بعض
الوجوه من مسلك المتأخرين - القائلين باستفادته من دلالة أداة الشرط (2) أو القضية الشرطية وضعا (3) أو إطلاقا (4) على العلية المنحصرة
- يكون من اللوازم البينة للمعنى الموضوع له أو المفهوم من القضية المنطوقة، لان العلية المنحصرة وإن لم تكن بمفهومها الاسمي
مدلولا عليها في القضية، ضرورة أن معاني الأداة حرفية، لكن دلت أداة الشرط - على فرض إفادة المفهوم - على تعليق

(1) راجع القوانين 1: 167 / سطر 22، الفصول الغروية: 145 / سطر 19، مطارح الأنظار:
167 / سطر 14.
(2) هداية المسترشدين: 282 / سطر 6 - 8، مطارح الأنظار: 170 / سطر 35 - 36.
(3) الفصول الغروية: 148 / سطر 2 و 150 / سطر 17.
(4) فوائد الأصول 2: 481، نهاية الأفكار 2: 481.
175

الجزاء على العلة المنحصرة، ولازمه الانتفاء عند الانتفاء، فتكون الدلالة على الحصر لفظية بناء على الوضع له، وعلى المفهوم دلالة
التزامية.
وأما على مسلك القدماء - على ما نسب إليهم بعض أجلة العصر (1) -
من أن المفهوم مستفاد من وجود القيد، وأن الظاهر من إتيان القيد
بما أنه فعل اختياري للمتكلم دخالته في الموضوع، وأنه مع انتفائه ينتفي الحكم، فتكون دلالته عليه بغير الدلالات اللفظية الالتزامية، كما
هو كذلك عند المتأخرين بناء على استفادة الحصر من الاطلاق، وسيتضح الفرق بينهما.
ويمكن انطباق تعريف الحاجبي (2) على كل من المسلكين، فإنه عرف

(1) نهاية الأصول 1: 270، الحاشية على كفاية الأصول 1: 438 - 441 و 463 - 464.
بعض أجلة العصر: هو السيد حسين ابن السيد علي الطباطبائي البروجردي، أحد كبار زعماء الامامية، أستاذ العلماء والفقهاء. ولد عام
(1292 ه‍ -) في (بروجرد) درس عند والده مبادئ العلوم ثم هاجر إلى أصفهان فحضر عند كبار علمائها، وبعدها هاجر إلى عاصمة
العلم النجف الأشرف، فحضر بحث المحقق الخراساني وشيخ الشريعة الأصفهاني.
وبعد أن نال من العلم حظا وافرا عاد إلى بلاده، وطلب منه علماء (قم) وطلبتها أن يقيم عندهم فأجاب، وذلك في سنة (1364 ه‍) وبعد
وفاة السيد أبي الحسن الأصفهاني صار المرجع الأكبر للشيعة، له عدة مصنفات قيمة أهمها، جامع أحاديث الشيعة.
توفي عام (1380 ه‍) ودفن في جوار السيدة معصومة - عليها السلام - في المسجد الأعظم الذي بناه.
انظر طبقات أعلام الشيعة 2: 605، الأعلام للزركلي 2: 250.
(2) مطارح الانظار: 167 - سطر 33 - 34.
الحاجبي: هو عثمان بن عمر بن أبي بكر أبو عمرو، ويعرف بابن الحاجب، المالكي. ولد سنة (570 ه‍) في (إسنا) بلدة صغيرة في صعيد
مصر، نشأ في القاهرة، تفقه على مذهب.
مالك، برع في عدة علوم منها: العربية، وعلم الأصول.
له عدة مؤلفات منها: الأمالي، والكافية، والشافية، ومختصر الأصول، وغيرها.
توفي سنة (646 ه‍) في الإسكندرية.
انظر وفيات الأعيان 3: 248، روضات الجنات 5: 184، الكنى والألقاب 1: 244.
176

المنطوق بما دل عليه اللفظ في محل النطق، والمفهوم بما دل عليه اللفظ لا في محل النطق.
فيمكن أن يقال: أراد من دلالته في محل النطق دلالة المطابقة، أو هي مع التضمن، ومن دلالته لا في محله دلالة الالتزام، حيث إن اللفظ دال
على اللازم بواسطة دلالته على المعنى المطابقي، مع عدم كون الدلالة عليه في محل النطق، فإذا أخبر المتكلم: بأن الشمس طالعة، دل
لفظه على طلوع الشمس في محل النطق، أي كان لفظه قالبا للمعنى المطابقي، ودل على وجود النهار مع عدم النطق به.
أو يقال: أراد من محل النطق الدلالات اللفظية مطلقا، ومن غيره دلالة اللفظ - بما أنه فعل اختياري للمتكلم - على دخالته في موضوع
الحكم، فدل على الانتفاء عند الانتفاء.
وأنت خبير بأن ظاهر الحاجبي هو الأول، ولهذا يمكن أن يكون مراد القدماء - أيضا - موافقا للمتأخرين، مضافا إلى بعد دعواهم
استفادة المفهوم من صرف وجود القيد، مع كونه ظاهر الفساد.
وبالجملة: في صحة النسبة المتقدمة إلى القدماء تردد.
وكيف كان، فالمفهوم هو قضية غير مذكورة مستفادة من المذكورة، وهذا
177

ينطبق على المسلكين، فإن طريق الاستفادة قد يكون بدلالة اللفظ، وقد يكون بأصل عقلائي كما سيجئ (1).
ثم إن كون المفهوم من صفات الدلالة أو المدلول، ربما يكون بحسب الاعتبار والإضافة، فالدلالة على المعنى المطابقي دلالة منطوقية، و
على الالتزامي مفهومية، وكذا في جانب المدلول، فإنه إما منطوق يفهم من محل النطق أو مفهوم، وإن كان الأشبه كونه من صفات
المدلول.
ثم إن النزاع صغروي على كلام المسلكين.
أما على مسلك المتأخرين: فلان النزاع في أن القضية الشرطية - مثلا - هل تدل على المفهوم لأجل دلالتها على انحصار العلة أم لا؟ وأما
بعد فرض الدلالة فلا إشكال في حجيته.
وأما على المسلك المنسوب إلى القدماء: فقد يقال: إنه كبروي، فإن المفهوم على هذا لما لم يكن في محل النطق، وليس من المدلولات
اللفظية، يقع النزاع في أنه هل يمكن الاحتجاج عليه، أو لا يمكن، لأجل عدم النطق به، فإذا قال: (إذا جاءك زيد فأكرمه) يفهم منه: أنه إذا لم
يجئ لا يجب الاكرام، لكن لا يمكن الاحتجاج على المتكلم بأنك قلت كذا، وإذا قيل له: ما فائدة القيد؟ له أن يعتذر بأعذار.
أقول: النزاع عليه صغروي - أيضا - لان القائل بالمفهوم يدعي أن إتيان القيد الزائد يدل بما أنه فعل اختياري على كون القيد ليس

(1) وذلك في صفحة: 181 وما بعدها من هذا الجزء.
178

إلا موضوع الحكم، ومع عدمه لا ينوب منابه شي، والمنكر إنما ينكر هذه الدلالة لا حجيتها بعد تسليم الدلالة، كما هو ظاهر استدلال
النافين من نفي الدلالات، بل ظاهر كلام السيد المرتضى أيضا، فإن قوله: - إن تأثير الشرط إنما هو تعليق الحكم به، وليس يمتنع أن
يخلفه وينوب منابه شرط آخر (1) - ظاهر في أن المستفاد من الشرط دخالته، لا عدم دخالة شرط آخر، حتى يفيد المفهوم، فهو ينكر
المفهوم لا حجيته بعد ثبوته، كما يظهر منه أن مدعي المفهوم يدعي دلالة الكلام على عدم نيابة قيد آخر مناب القيد المذكور، وهو عين
مسلك المتأخرين، فتدبر.

(1) الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 406.
179

الفصل الأول في دلالة الجمل الشرطية على المفهوم
هل الجمل الشرطية تدل على الانتفاء عند الانتفاء مع الخلو عن القرينة؟ فيها خلاف:
قد نسب إلى المتقدمين (1): أن النكتة الوحيدة في دلالة القضايا على المفهوم شرطية كانت، أو وصفية، أو غيرهما، هي شي واحد غير
مربوط بالدلالات اللفظية، كما تقدم، مع الترديد في صحة النسبة.
وتوضيحه: أن الأصل العقلائي في كل فعل صادر من شاعر مختار - ومنه الكلام بما أنه فعله - الحمل على أنه صدر لغرض، لا لغوا.
ثم في الكلام أصل آخر، وهو صدوره للتفهيم لا لغرض آخر، لأنه آلته،

(1) نهاية الأصول 1: 270، الحاشية على الكفاية 1: 438 - 441 و 463 - 464.
181

واستعماله لغيره خلاف الأصل، ثم بعد ذلك لو شك في الاستعمال الحقيقي يحمل عليه.
ولا إشكال في جريان الأصل العقلائي في القيود الزائدة في الكلام، فإذا شك في قيد أنه أتي به لغوا أو لغرض يحمل على الثاني، وإذا
شك أنه للتفهيم أو غيره حمل على الأول. وما يكون القيود آلة لتفهيمه هو دخالتها في الموضوع، وأن جعله مقيدا لأجل كون الموضوع
هو الذات مع القيد، وهذا ليس من قبيل الدلالات اللفظية كما مر.
فتحصل من ذلك: أن إتيان القيد يدل على دخالته في الحكم، فينتفي عند انتفائه، من غير فرق بين الشرط والوصف وغيرهما. هذا
حاصل ما قرر بعض الأجلة (1).
وأنت خبير بأن ذلك لا يفيد ما لم يضم إليه شي آخر، وهو أن عدم الاتيان بشي آخر في مقام البيان يدل على عدم القرين له، وبه يتم
المطلوب، وإلا فصرف عدم لغوية القيود لا يدل على المفهوم ما لم تفد الحصر.
فإثبات المفهوم إنما هو بإطلاق الكلام، وهو أحد الطرق التي تشبث بها المتأخرون، مما يأتي تقريره والجواب عنه (2)، ومحصله:
أن غاية ما يقتضي الدليل المذكور أن القيد دخيل في الحكم، وليس

(1) تقدم تخريجه آنفا.
(2) انظر الصفحة التالية وما بعدها.
182

الحكم متعلقا بذات الموضوع بلا قيد، وإلا لزم اللغوية، وأن الموضوع مع هذا القيد تمام الموضوع للحكم، فيترتب على المقيد به الحكم
بلا انتظار قيد آخر، وهو مقتضى الاطلاق، أي عدم التقيد بقيد آخر.
وأما عدم تعلق سنخ هذا الحكم بموضوع آخر - وهو ذات الموضوع مع قيد آخر - فلا يكون مقتضى إتيان القيد، ولا إطلاق الموضوع.
مثلا: قوله: (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شي) (1) يدل باعتبار التقييد بالكر
[على]
أن ذات الماء ليست موضوعة للحكم، وإلا لكان القيد
لغوا، وأن هذا الموضوع المقيد تمام الموضوع للحكم، ولا يكون قيد آخر دخيلا فيه، وإلا كان عليه البيان.
وأما عدم نيابة قيد آخر عن هذا القيد، وعدم صدور حكم آخر سنخه متعلقا بالجاري أو النابع، فلا يكون مقتضى التقييد، ولا مقتضى
الاطلاق.
وسيأتي تتمة له عن قريب (2) إن شاء الله.
وأما المتأخرون فقد ذكروا وجوها كلها مخدوشة، مثل التبادر، والانصراف (3). ولا يخفى ما فيهما.

(1) الكافي 3: 2 / 1 باب الماء الذي لا ينجسه شئ من كتاب الطهارة، التهذيب 1:
39 - 40 / 46 - 48 باب 3 في آداب الأحداث.، الوسائل 1: 117 / 1 - 2 باب 9 من
أبواب الماء المطلق، باختلاف يسير.
(2) انظر الصحيفة الآتية وما بعدها.
(3) قوانين الأصول 1: 17 / سطر 15، الفصول الغروية: 147 / سطر 15، الكفاية 1: 304،
نهاية الأفكار 2: 481.
183

ومثل التمسك بإطلاق أداة الشرط لاثبات الانحصار، كإطلاق صيغة الامر لاثبات الوجوب النفسي التعييني.
وقد مر الاشكال في المقيس عليه (1)، ويرد نظيره هاهنا، مع أن القياس مع الفارق.
والتمسك بإطلاق الشرط، بتقريب: أنه لو لم يكن بمنحصر لزوم تقييده، ضرورة أنه لو قارنه أو سبقه الاخر لما أثر وحده أو مطلقا، و
قضية إطلاقه أنه يؤثر كذلك مطلقا (2).
وفيه: أن ذلك ليس قضية الاطلاق، فإنها - كما مر - ليست إلا أن ما جعل شرطا هو تمام الموضوع لإناطة الجزاء به، وإلا لكان عليه
بيانه، كما هو الحال في جميع موارد الاطلاق.
وبعبارة أخرى: أن الاطلاق في مقابل التقييد، ودخالة شي آخر في موضوع الحكم، وكون شي آخر موضوعا للحكم أيضا، لا يوجب
تقييدا في الموضوع بوجه.
وأما قضية الاستناد الفعلي إلى الموضوع - مع عدم كون قرين له قبله وبعده - فهو شي غير راجع إلى الاطلاق والتقييد، فإن الاستناد
واللا استناد في الوجود الخارجي بالنسبة إلى المقارنات الخارجية، غير مربوط بمقام جعل الاحكام على العناوين، فإن في ذلك المقام
لم يكن الدليل ناظرا إلى كيفية

(1) وذلك في صفحة: 282 وما بعدها من الجزء الأول من هذا الكتاب.
(2) الكفاية 1: 305، فوائد الأصول 2: 481، نهاية الأفكار 2: 484.
184

الاستناد في الوجود، فضلا عن النظر إلى مزاحماته فيه.
وكيف كان، فالاطلاق غير متكفل بإحراز عدم النائب، وإن كان كفيلا بإحراز عدم الشريك، أي القيد الاخر.
ولو فرض إحراز كون المتكلم بصدد بيان العلة المنحصرة، أو الموضوع المنحصر، فهو غير مربوط بمفهوم الشرط، بل مع هذا يفهم
الحصر مع اللقب أيضا، لكنه لأجل القرينة، لا لأجل المفهوم المورد للنزاع.
ومما ذكرنا يظهر الاشكال فيما تمسك به بعض الأعاظم (1)، وهو إطلاق الجزاء - بعد الاشكال على جواز التمسك بإطلاق الشرط، تارة:
بأن مقدمات الحكمة إنما تجري في المجعولات الشرعية، والعلية والسببية غير مجعولة.
وأخرى: بما استشكل غيره أيضا - فقال ما حاصله:
إن مقدمات الحكمة تجري في ناحية الجزاء من حيث عدم تقييده بغير ما جعل في القضية من الشرط مع كونه في مقام البيان، ويحرز
كونه في مقامه من تقييد الجزاء بالشرط.
ودعوى كونه من هذه الجهة في مقام البيان لا تسمع، وإلا لا نسد باب التمسك بالاطلاق.
ومقتضى كونه في مقامه، وعدم تقييده الجزاء بتقيد آخر، هو أن الجزاء مترتب على ذلك الشرط فقط من دون أن يشاركه شرط آخر،
أو ينوب عنه.
انتهى.

(1) فوائد الأصول 2: 483.
185

وأنت خبير بما فيه بعد الإحاطة بما تقدم آنفا، فلا نعيده.
وأما الاشكال في إطلاق الشرط من أجل انحصار جريان المقدمات بالمجعولات الشرعية، ففيه: - مضافا إلى منع عدم مجعولية السببية و
العلية على ما حققنا في محله - أن إجراءها لا ينحصر بها، بل الغالب جريانها في غيرها مما له أثر شرعي مثلا: إذا قال: (إن ظاهرت
فأعتق رقبة)، وشك في اعتبار قيد في الرقبة، تجري المقدمات في نفس الرقبة التي جعلت موضوع الحكم، وكذا لو شك في كيفية العتق
يتمسك بإطلاق المادة لرفع الشك، مع عدم كونهما مجعولين شرعا.
فكما يقال في مثل ما ذكر: إن ما جعل موضوعا أو متعلقا هو تمامهما، وإلا لكان عليه البيان، فكذا يقال في المقام: لو كان شي آخر
دخيلا في الشرط لكان عليه البيان، وهذا غير مربوط بجعل العلية والسببية.
وهنا وجه آخر لاثبات الانحصار تمسك به بعضهم، وهو: أن مقتضى ظاهر الشرطية أن يكون المقدم - بعنوانه الخاص - علة، ولو لم
تكن العلة منحصرة لزم استناد التالي إلى الجامع بينهما، وهو خلاف ظاهر الترتب على المقدم بعنوانه (1).
وفيه أولا: أن استفادة العلية من القضية الشرطية في محل المنع، بل لا يستفاد منها إلا نحو ارتباط بين المقدم والتالي ولو كان على نحو
الاتفاق، مثلا: لو فرض مصاحبة الصديقين غالبا في الذهاب والإياب، صح أن يقال:

(1) نهاية الأصول 1: 269 - 270.
186

(إن جاء أحدهما يجي الاخر) من غير ارتكاب تجوز وتأول بلا إشكال. نعم لا يصح استعمال الشرطية فيما لا ربط بينهما بلا تأول، مثل
ناهقية الحمار وناطقية الانسان، فلا تستفاد العلية حتى يقال ذلك.
وثانيا: أن العلية والمعلولية، في المجعولات الشرعية ليست على حذو التكوين، من صدور أحدهما من الاخر، حتى يأتي فيها القاعدة
المعروفة، فيجوز أن يكون الكر - بعنوانه - دخيلا في عدم الانفعال، والجاري والمطر بعنوانهما، كما هو كذلك. فقياس التشريع
بالتكوين باطل، ومنشأ لاشتباهات كثيرة.
وثالثا: أن لجريان القاعدة موردا خاصا وشرائط، وما نحن فيه ليس بمورده.
ورابعا: أن طريق استفادة الاحكام من القضايا هو الاستظهارات العرفية، لا الدقائق الحكمية.
بقي أمور:
الأمر الأول الاشكال بوقوع الجزاء معنى حرفيا
لا إشكال في انتفاء شخص الحكم بانتفاء شرطه أو قيده عقلا، من غير أن يكون لأجل المفهوم. فإذا وقف على أولاده العدول، أو إن
كانوا عدولا، فانتفاؤه مع سلب العدالة ليس للمفهوم، بل لعدم الجعل
187

لغير مورده.
كما أنه لا إشكال - فيما إذا كان مفاد الجزاء حكما كليا، كقوله: (إذا جاء زيد يكون إكرامه واجبا)، مما عبر عنه بالمعنى الاسمي - في أن
انتفاءه لأجل المفهوم.
لكن وقع الاشكال في مثل: (إذا جاء فأكرمه) مما يكون الجزاء معنى حرفيا، فقيل بعدم دخوله في محل النزاع، لان انتفاء الانشاء الخاص
بانتفاء بعض القيود عقلي (1).
ودفعه المحقق الخراساني: بأن معاني الحروف كليات (2). وقد سبق (3) في بابها أن الموضوع له في مطلق الحروف خاص.
ولكن مع ذلك يمكن دفع الاشكال بأن ظاهر القضايا بدوا وإن كان تعليق الوجوب على الشرط، لكن حكم العقل والعقلاء في مثل تلك
القضايا، أن الطبيعة المادة مناسبة مع الشرط تكون سببا لتعلق الهيئة بها، فيكون الايجاب المتعلق بالمادة في الجزاء متفرعا على
التناسب الحاصل بينها وما يتلو أداة الشرط، فإذا قال: (إن أكرمك زيد أكرمه) يفهم العرف والعقلاء منه أن التناسب الواقعي بين إكرام
زيد إياه وإكرامه دعا المولى لإيجابه عند تحققه، فالايجاب متفرع على التناسب الواقعي، وإلا كان لغوا،

(1) ذكره في مطارح الأنظار: 173 / سطر 16 - 17.
(2) الكفاية 1: 13 - 15.
(3) وذلك في صفحة 180 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
188

فإذا فرض دلالة الأداة على انحصار العلة تدل على أن التناسب بينهما يكون بنحو العلية المنحصرة، ففي الحقيقة يكون التناسب بين
طبيعة ما يتلو أداة الشرط ومادة الهيئة، فإذا دلت الأداة على الانحصار تتم الدلالة على المفهوم، وإن كان مفادها جزئيا.
ولك أن تقول: إن الهيئة وإن كانت جزئية، لكن تناسب الحكم والموضوع يوجب إلغاء الخصوصية، وجعل الشرط علة منحصرة لنفس
الوجوب وطبيعيه، فبانتفائه ينتفي طبيعي الوجوب.
الأمر الثاني في تعدد الشرط واتحاد الجزاء
إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء، فبناء على ظهور الشرطية في المفهوم يقع التعارض بينهما إجمالا، فهل التعارض بين المنطوقين أولا و
بالذات، أو بين مفهوم كل منهما ومنطوق الاخر؟ الظاهر هو الأول، سوأ قلنا بأن المتبادر من الشرطية هو العلية المنحصرة، أو قلنا
بانصرافها إليها، أو بأن ذلك مقتضى الاطلاق:
أما على الأول: فلان حصر العلية بشي ينافي إثباتها لشئ آخر، فضلا عن حصرها به، ضرورة التنافي بين قوله: (العلة المنحصرة للقصر
خفاء الاذان) وقوله: (العلة المنحصرة له خفاء الجدران). وكذا لو قلنا بانصرافها إلى العلة المنحصرة فيقع التعارض بينهما لأجله. وكذا
على الأخير، لوقوع
189

التعارض بين أصالتي الاطلاق في الجملتين.
ثم بعد وقوع التنافي بينهما يقع الكلام في التوفيق بينهما فنقول: تختلف كيفية التوفيق باختلاف المباني في استفادة المفهوم:
فلو قلنا: بأن استفادة الحصر تكون لأجل الوضع، فيقع التعارض بين أصالتي الحقيقة في الجملتين، ومع عدم الترجيح - كما هو
المفروض - تصيران مجملتين، لعدم ترجيح بين المجازات، وكون العلة التامة أقرب إلى المنحصرة واقعا، لا يكون مرجحا في تعيينه،
لان المعين له هو الانس الذهني بحيث يرجع إلى الظهور العرفي.
وإن قلنا: بأن استفادته لأجل الانصراف، فحينئذ إن قلنا بأن الأداة موضوعة للعلة التامة ومنصرفة إلى المنحصرة، فمع تعارض
الانصرافين تكون أصالة الحقيقة في كل منهما محكمة بلا تعارض بينهما. وكذا لو قلنا بوضعها لمطلق اللزوم، أو الترتب، أو غيرهما.
وإن قلنا: بأن استفادته مقتضى الاطلاق، فحينئذ إن قلنا: بأن الأداة موضوعة للعلة التامة، فمع تعارض أصالتي الاطلاق يؤخذ بأصالة
الحقيقة بلا تعارض بينهما.
وإن قلنا: بأن العلية التامة - أيضا - مستفادة من الاطلاق، فمقتضى إطلاق قوله: (إذا خفي الاذان فقصر) (1) هو عدم الشريك وعدم
العديل، فإذا ورد:

(1) ورد بهذا المضمون عدة روايات، التهذيب 4: 230 / 50 باب 57 في حكم المسافر والمريض في الصيام، الوسائل 5: 506 / 3 باب 6
من أبواب صلاة المسافر.
190

(إذا خفي الجدران فقصر) (1) فكما يحتمل أن يكون خفاء الجدران قيدا لخفاء الاذان يحتمل أن يكون عدلا له، فيقع التعارض بين
أصالتي الاطلاق، أي من جهة نفي الشريك، ومن جهة نفي العديل، ومع عدم المرجح يرجع إلى الأصول العملية.
لكن لاحد أن يقول: إن العلم الاجمالي بورود قيد - إما على الاطلاق من جهة نفي الشريك، وإما عليه من جهة نفي البديل - منحل بالعلم
التفصيلي بعدم انحصار العلة، إما لأجل تقييد الاطلاق من جهة البديل، وإما من جهة تقييده لأجل الشريك الرافع لموضوع الاطلاق من
جهة البديل، فيشك في تقييد الاطلاق من جهة الشريك بدوا، فيتمسك بأصالة الاطلاق.
اللهم إلا أن يقال: إن العلم الاجمالي بورود قيد - إما على الاطلاق من جهة الشريك، أو من جهة العديل - مولد للعلم التفصيلي بعنوان
الاخر، وهو عدم انحصار العلة، وفي مثله لا يعقل الانحلال، لان العلم التفصيلي معلول للعلم الاجمالي الفعلي، فكيف يمكن أن يكون رافعا
له؟ وإن شئت قلت: إن الانحلال - أينما كان - يتقوم بالعلم التفصيلي بأحد الأطراف والشك في الاخر، كما في الأقل والأكثر، وفيما
نحن فيه لا يكون كذلك، لان العلم الاجمالي محفوظ، ومنه يتولد علم تفصيلي آخر، وفي

(1) ورد بهذا المضمون عدة روايات، الكافي 3: 434 / 1 باب من يريد السفر أو يقدم. من كتاب الصلاة، الوسائل 5: 505 باب 6 من
أبواب صلاة المسافر.
191

مثله يكون الانحلال محالا، فيجب الرجوع إلى قواعد اخر.
هذا حال كل من الدليلين مع صاحبه، فهل يدلان على عدم مدخلية شي آخر شريكا معهما، أو عديلا لهما؟ الظاهر ذلك لو قلنا بأن الدلالة
على المفهوم وكذا الدلالة على الاستقلال بالاطلاق، للزوم رفع اليد عن أصالة الاطلاق بمقدار الدلالة على القيد، بخلاف ما لو قلنا: إنها
بالوضع أو الانصراف، لعدم الدليل عليه بعد رفع اليد عن المعنى الحقيقي والانصرافي.
الأمر الثالث في تداخل الأسباب والمسببات
إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء، فهل
[يلزم]
الاتيان بالجزاء متعددا حسب تعدد الشرط، أو يكتفي بإتيانه دفعة واحدة؟ ينبغي تقديم
مقدمات:
الأولى: في تحرير محل النزاع:
إن البحث قد يقع قبل الفراغ عن إحراز استقلال الشروط، كما إذا احتمل أن الشروط ترجع إلى شرط واحد، ويكون كل جز للسبب. و
هذا ليس محط البحث في تداخل الأسباب والمسببات.
192

وقد يقع بعد الفراغ عن إحراز أن كل شرط مستقل لو لم يكن معه غيره، وشك في حال اجتماعها في التداخل وعدمه، كالجنابة و
الحيض والنفاس، فإن كلا منها سبب مستقلا، ويقع البحث في حال اجتماعها في كفاية غسل واحد. وهذا هو محط الكلام في باب
التداخل.
الثانية: في المراد من تداخل الأسباب والمسببات:
المراد من تداخل الأسباب هو عدم اقتضائها إلا جزأ واحدا حال اجتماعها، فإذا اجتمع الجنابة والحيض وغيرهما لا تقتضي إلا غسلا
واحدا، فلا تكون تكاليف متعددة مجتمعة في مصداق واحد، بل يكون تكليف واحد وإن تعددت الأسباب، ولهذا يكون التداخل عزيمة لا
رخصة.
والمراد من تداخل المسببات - بعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب، وأن كل سبب يقتضي مسببا -: أن الاكتفاء بمصداق واحد جائز في
مقام الامتثال لاسقاط التكاليف العديدة. فحينئذ إن كانت العناوين المكلف بها قهرية الانطباق على المصداق، وتكون من التوصلي،
يكون التداخل عزيمة، وإلا فرخصة.
الثالثة: اختصاص النزاع في الماهية القابلة للتكثر:
محط البحث ما إذا كان الجزاء ماهية قابلة للتكثر كماهية الغسل
193

والوضوء، وأما مع عدم قبول التكثر فلا محيص عن التداخل، كقتل زيد، ومثله خارج عن محل النزاع.
وقد يقال (1): إن الجزاء الغير القابل للتكثر إن كان قابلا للتقييد يكون داخلا في النزاع، كالخيار القابل للتقيد بالسبب، كالتقيد
بالمجلس والحيوان والعيب وغيرها، مع أنه أمر واحد هو ملك فسخ العقد وإقراره - ومعنى تقيده بالسبب هو أنه يلاحظ الخيار
المستند إلى المجلس فيسقطه، أو يصالح عليه، ويبقى له الخيار المستند إلى الحيوان - وكالقتل لأجل حقوق الناس، فلو قتل زيد عمرا و
بكرا وخالدا، فقتله قصاصا وإن لم يقبل التعدد إلا أنه قابل للتقيد بالسبب، أي يلاحظ استحقاق زيد للقتل باعتبار قتله لعمرو، فلو
أسقط ورثة عمرو حق القود لم يسقط حق ورثه بكر وخالد. انتهى.
وفيه ما لا يخفى: فإن الخيار إذا كان واحدا غير قابل للتكثر مع اجتماع الأسباب عليه، فلا يمكن إسقاطه من قبل أحدها وإبقاؤه من
قبل غيره، لان الاسقاط لا بد وأن يتعلق بالخيار الجائي من قبل كذا، ومع الوحدة لم يكن ذلك غير الجائي من قبل غيره.
وإن كان الخيار متعددا بالعنوان - بحيث يكون خيار المجلس شيئا غير خيار العيب - فيخرج عن محل البحث، أي تداخل الأسباب، وإن
كان كليا قابلا للتكثر فيرجع إلى الفرض الأول.

(1) فوائد الأصول 2: 491.
194

وكذا الحال في القتل، فإن حق القود إما واحد، فلا يمكن إسقاطه من قبل سبب وإبقاؤه من قبل الاخر، أو متعدد عنوانا فيخرج عن محط
البحث، أو كلي قابل للتكثر فيدخل في الفرض الأول.
ثم لا يخفى أن عدم قبول القتل للتكثر غير مربوط بعدم قبول حق القود له. والقائل خلط بينهما.
الرابعة: في إمكان التداخل وعدمه:
لا بد قبل الدخول في المقصود من إثبات إمكان التداخل وعدمه:
أما إمكان التداخل - بمعنى اجتماع أسباب متعددة شرعية على مسبب واحد - فلا إشكال فيه، لان الأسباب الشرعية ليست من قبيل
العلل التكوينية، فللشارع جعل إيجاب الوضوء عقيب النوم في صورة انفراده، وعقيب البول والنوم في صورة اجتماعهما، أو جعل
السبب بناء على جوازه.
والمعروف جواز اجتماع العلل التكوينية على معلول واحد بتأثير الجامع بينها فيه (1)، وربما يمثل له بأمثلة عرفية، والتحقيق امتناعه، و
في الأمثلة خلط، وتحقيقه موكول إلى محله.
وأما عدم التداخل فقد يقال بامتناعه، لان تعلق الوجوبين بالطبيعة المطلقة غير معقول، وتعلق الوجوب بفردين من الطبيعة تعاقبا غير
معقول

(1) درر الفوائد - طبعة جماعة المدرسين - 1: 192 هامش 1.
195

أيضا، مثل: (إذا بلت فتوضأ) و (إذا نمت فتوضأ)، لان تعلق الوجوب في الشرطية الأولى بالطبيعة، وفي الثانية بالطبيعة الأخرى، أو
بالعكس، أو في الأولى بفرد منها، وفي الثانية بفرد آخر، أو بالعكس ممتنع، لان النوم قد يكون مقدما على البول وقد يكون مؤخرا
عنه، وليست القضيتان ناظرتين إلى حال الاجتماع، ولا يكون في البين قيد صالح لتقييد الطبيعة، ومعه لا محيص عن التداخل (1).
وفيه: أنه إذا فرض ظهور القضيتين الشرطيتين في عدم التداخل، وأريد رفع اليد عنه لأجل عدم معقولية تقييد الجزاء بما ذكر، فلنا
تصوير قيد آخر ولو لم يكن في الكلام، مثل التقييد بالوضوء من قبل النوم، ومن قبل البول، أو قيد آخر.
وبالجملة: لا يجوز رفع اليد عن الظاهر حتى يثبت امتناع كافة القيود، وهو بمكان من المنع، فلا يجوز الالتزام بالتداخل لأجل هذه
الشبهة.
ومما ذكرنا يظهر: أنه مع ظهور الدليل لا يلزم إثبات الامكان، بل مع عدم ثبوت الامتناع يؤخذ به.
الخامسة: في أنحاء تعدد الشرط:
إن الشرط قد يكون متعددا نوعا ومختلفا ماهية، مثل: البول والنوم، فيقع البحث في أنه مع تقارنهما أو تعاقبهما مع عدم تخلل المسبب
بينهما، يتداخل

(1) نهاية الأصول 1: 278 - 279.
196

الأسباب أولا؟ وقد تكون ماهية واحدة ذات أفراد، فيقع البحث في أنه مع تعدد الفرد يتعدد الجزاء، أم لا؟ والأقوال في المسألة ثلاثة:
التداخل مطلقا (1)، وعدمه كذلك (2) والتفصيل بين تعدد الماهية نوعا وتعدد الفرد مع وحدتها (3). إذا عرفت ذلك فيقع الكلام في مقامين:
أحدهما: فيما إذا تعددت الأسباب نوعا، كقوله: (إذا بلت فتوضأ) و (إذا نمت فتوضأ)، فعن العلامة في المختلف (4): الاستدلال لعدم التداخل
بأنه إذا تعاقب السببان أو اقترنا، فإما أن يقتضيا مسببين مستقلين، أو مسببا واحدا، أو لا يقتضيا شيئا، أو يقتضي أحدهما شيئا دون
الاخر، والثلاثة الأخيرة باطلة، فتعين الأول.
وقال الشيخ الأعظم - على ما في تقريراته -: إن محصل الوجه المذكور ينحل إلى مقدمات ثلاث:
إحداها: دعوى تأثير السبب الثاني.
الثانية: أن أثره غير الأثر الأول.
الثالثة: أن تعدد الأثر يوجب تعدد الفعل.

(1) مشارق الشموس: 61 / سطر 31 - 34.
(2) الكفاية 1: 315 - 320.
(3) السرائر 1: 258.
(4) مختلف الشيعة 2: 428 - 429.
197

ثم أطال النقض والابرام بالنسبة إلى كل مقدمة، ويظهر منه وجوه من البيان لاثبات كون السبب الثاني مستقلا (1).
وقد أخذ المتأخرون كل طرفا من كلامه لاثبات المطلوب:
كالمحقق الخراساني حيث تشبث: بأن ظهور الجملة الشرطية في كون الشرط سببا أو كاشفا عنه، بيان لما هو المراد من الاطلاق، ولا
دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء وظهور الاطلاق، ضرورة أن ظهور الاطلاق معلق على عدم البيان، وظهور الشرطية في
ذلك بيان، فلا ظهور له مع ظهورها، فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرف أصلا (2).
نعم، قد أعرض عن هذا في هامش الكفاية (3)، وجعل الوجه تقديم العرف ظهور الشرطية على الاطلاق. وهو وجيه.
وكالمحقق النائيني حيث تمسك بأن ظهور الجملة الشرطية وارد على الجزاء، لان صيغة الامر وضعت لطلب إيجاد الطبيعة، وأما الوحدة
والكثرة فلا تكونان بدلالة لفظية أو عقلية، وإنما يحكم العقل بالاكتفاء بواحد من الطبيعة، لأنها تتحقق بإتيانها، فلا موجب لاتيانها
ثانيا، وهذا لا ينافي أن يكون المطلوب إيجادها مرتين، أي لو دل دليل على أن المطلوب متعدد لم يعارضه حكم العقل بأن امتثال
الطبيعة يحصل بإتيانها مرة، فظهور القضية

(1) مطارح الأنظار: 177 / سطر 22 - 23.
(2) الكفاية 1: 317 - 318.
(3) الكفاية 1: 318.
198

الشرطية في تأثير الشرط مستقلا رافع لموضوع حكم العقل حقيقة، فيكون واردا عليه (1).
وقريب منه ما في تعليقات بعض المدققين على الكفاية: من أن البعث المتعلق بشي يقتضي وجودا واحدا منه، ولا يقتضي عدم البعث إلى
وجود آخر، بل هو بالنسبة إلى وجود آخر بوجوب آخر لا اقتضاء، والبعث الاخر مقتض لوجود آخر بنفسه، فلا تعارض بين المقتضي و
اللا مقتضي (2).
وكالمحقق الهمداني (3) حيث قال: إن مقتضى القواعد اللفظية سببية كل شرط للجزاء مستقلا، ومقتضاه تعدد اشتغال الذمة بفعل الجزاء،
ولا يعقل تعدد الاشتغال إلا مع تعدد المشتغل به، فإن السبب الأول سبب تام في اشتغال ذمة المكلف بإيجاد الجزاء، والسبب الثاني إن
أثر ثانيا وجب أن

(1) فوائد الأصول 1: 493.
(2) نهاية الدراية 1: 327 / سطر 1 - 3.
(3) المحقق الهمداني: هو الشيخ آغا رضا بن الشيخ محمد هادي الهمداني النجفي، علامة دهره ومحقق عظيم ذو النظر الثاقب. ولد في
همدان عام (1250 ه‍) وتلمذ على أيدي علمائها، وبعدها آوى إلى ربوة العلم واتخذها قرارا ومعينا. فحضر بحث الشيخ الأعظم وبعده
حضر بحث السيد المجدد الشيرازي، وهاجر معه إلى سامراء، عرف بالاعراض عن الدنيا والزهد بعرضها وبطهارة القلب وسلامة
الذات. تربى على يده فطاحل العلماء.
أشهر كتبه (مصباح الفقيه) تظهر فيه فقاهته العالية وعلمه الغزير. توفي رضوان الله عليه سنة (1322 ه‍) ودفن في رواق حضرة
الامامين العسكريين عليهما السلام.
انظر معارف الرجال 1: 323، نقباء البشر 2: 776.
199

يكون أثره اشتغالا آخر، لان تأثير المتأخر في المتقدم غير معقول، وتعدد الاشتغال مع وحدة الفعل المشتغل به ذاتا ووجودا غير
معقول، وإن لم يؤثر يجب أن يستند إما إلى فقد المقتضي أو وجود المانع، والكل منتف، لان ظاهر القضية الشرطية سببية الشرط
مطلقا، والمحل قابل للتأثير، والمكلف قادر على الامتثال، فأي مانع من التنجز؟ وقال أيضا: ليس حال الأسباب الشرعية إلا كالأسباب
العقلية، فكما أنه يمتنع عدم تحقق الطبيعة في ضمن فردين على تقدير تكرر علة وجودها بشرط قابليتها للتكرار، فكذا يتعدد اشتغال
الذمة بتعدد أسبابه (1).
وقريب منه ما أفاده شيخنا العلامة (2) - أعلى الله مقامه - في أواخر عمره بعد بنائه على التداخل سالفا.
هذه جملة من مهمات كلماتهم، مما هي مذكورة في خلال كلمات الشيخ الأعظم (3).
والعمدة في المقام: النظر إلى أن ظهور القضية الشرطية في السببية المستقلة، أو الحدوث عند الحدوث، هل هو بالوضع، أو بواسطة
الاطلاق، وأن جعل ماهية تلو أداة الشرط بلا تقيدها بقيد كما يكشف بالأصل العقلائي عن أنها تمام الموضوع لترتب الجزاء عليه، ولا
يكون له شريك، كذلك يدل على

(1) مصباح الفقيه - كتاب الطهارة -: 126 / سطر 9 - 28.
(2) درر الفوائد - طبعة جماعة المدرسين - 1: 174 هامش 1.
(3) تقدم تخريجه قريبا.
200

أنها مستقلة في السببية - أي كان قبلها أو مقارنها شي
[أو لم يكن
-]
أو لا تكون تلك الماهية مؤثرة؟ وهذا هو المراد بالاستقلال و
الحدوث عند الحدوث هاهنا.
فإن قلنا بالأول فلما ذكروه وجه، خصوصا على مذهب الشيخ من أن الاطلاق معلق على عدم البيان مطلقا (1). لكن لا أظن ارتضاءهم به، بل
صريح بعضهم (2) كون دلالة الشرطية على العلية المستقلة بالاطلاق، ولو ادعى مدع كونها بالوضع فهو بلا بينة.
فحينئذ نقول: كما أن مقتضى إطلاق الشرطية في كل من القضيتين هو كون الشرط مستقلا علة للجزاء، كذلك إطلاق الجزاء يقتضي أن
تكون الماهية المأخوذة فيه - كالوضوء في المثال - تمام الموضوع، لتعلق الايجاب بها، فيكون الموضوع في القضيتين نفس طبيعة
الوضوء، فحينئذ يقع التعارض بين إطلاق الجزاء في القضيتين مع إطلاق الشرط فيهما، وبتبعه يقع التعارض بين إطلاق الشرطيتين،
فيدور الامر بين رفع اليد عن إطلاق الشرط - ويقال: إن كل شرط مع عدم تقدم شرط آخر عليه أو تقارنه به، مستقل، أو مؤثر - و
حفظ إطلاق الجزاء، وبين رفع اليد عن إطلاق الجزاء تقييد ماهية الوضوء، وحفظ إطلاق الشرط، ولا ترجيح بينهما، لان ظهور
الاطلاقين على حد سوأ، فلا يمكن أن يكون أحدهما بيانا للاخر.

(1) مطارح الأنظار: 179 / سطر 21.
(2) ذكره في فوائد الأصول 2: 481.
201

وتوهم تقديم ظهور الصدر على الذيل فاسد، لأنه لو سلم فإنما هو بين صدر كل قضية وذيلها، لا ذيل قضية أخرى، ونحن الان في بيان
تعارض القضيتين.
وأما الكلام في سببية أفراد ماهية واحدة مما يجي فيها ذلك فسيأتي عن قريب.
ومما ذكرنا يظهر النظر في جل كلماتهم:
أما قضية تحكيم ظهور الشرط على إطلاق الجزاء فلما مر، سوأ قلنا بأن الاطلاق معلق على عدم البيان، أولا.
وأما قضية ورود ظهور الشرطية على حكم العقل، فلان المعارضة كما عرفت إنما هي بين إطلاق الجزاء وإطلاق الشرط، فإن الشرط
كما يقتضي بإطلاقه أن يكون مستقلا، كذلك الجزاء يقتضي بإطلاقه أن يكون متعلق الوجوب نفس الماهية بلا قيد.
ومنه يظهر: أن التعارض بين المقتضيين، فقول القائل: إن اللا مقتضي لا يتعارض مع المقتضي، كما ترى.
وكذا يظهر: أن ظهور القضية في اشتغال ذمة جديدة ظهورا إطلاقيا، فرع تحكيمه على إطلاق الجزاء، وهو ممنوع، ففي جواب المحقق
الهمداني: أن عدم الاشتغال إما لعدم المقتضي، أو لوجود المانع، وكل منتف. قلنا: إنه لوجود المانع، وهو إطلاق الجزاء المعارض مع
إطلاق الشرط.
202

والعجب منه حيث تنبه لذلك، وأجاب بما هو غير مقنع، فقال: (1)
إن تقييد الجزاء إنما نشأ من حكم العقل بعد استفادة السببية من الدليل، فإطلاق السبب منضما إلى حكم العقل بأن تعدد المؤثر يستلزم
تعدد الأثر بيان للجزاء، ومعه لا مجال للتمسك بإطلاقه، وليس المقام من قبيل تحكيم أحد الظاهرين على الاخر، حتى يطالب بالدليل،
بل لان وجوب الجزاء بالسبب الثاني يتوقف على إطلاق سببيته، ومعه يمتنع إطلاق الجزاء بحكم العقل، فوجوبه ملزوم لعدم إطلاقه.
انتهى.
وأنت خبير بما فيه، فإنه مع اعترافه بأن وجوب الجزاء بالسبب الثاني إنما هو بالاطلاق، لا بالدلالة اللغوية، فأي معنى لتحكيم أحد
الاطلاقين على الاخر؟ والتخلص من امتناع تعدد المؤثر مع وحدة الأثر - بعد الغض عن عدم كون حكم العقل الدقيق مناطا للجمع بين
الأدلة، وبعد الغض عن أن مثل ما نحن فيه ليس من قبيل التأثير التكويني - كما يمكن بما ذكره، يمكن برفع اليد عن إطلاق الشرط عند
اجتماعه مع شرط آخر، فالعقل إنما يحكم باستحالة وحدة الأثر مع تعدد المؤثر، وحفظ إطلاق الشرطيتين وإطلاق الجزاء مستلزم
للامتناع، فلا بد من التخلص منه، وهو إما بتقييد الشرط، أو بتقييد الجزاء، ولا ترجيح بينهما.
وأما مقايسة العلل التشريعية بالتكوينية ففيها ما لا يخفى، لان المعلول

(1) مصباح الفقيه - كتاب الطهارة -: 126 / سطر 31 - 34.
203

التكويني في تشخصه ووجوده تابع لعلته، فلا محالة يكون في وحدته وكثرته كذلك، وأما الأسباب الشرعية فلم تكن بهذه المثابة،
ضرورة أن النوم والبول لم يكونا مؤثرين في الايجاب والوجوب، ولا في الوضوء، فالقياس مع الفارق، ولا بد من ملاحظة ظهور
الأدلة، ومجرد هذه المقايسة لا يوجب تقديم أحدهما على الاخر، بعد إمكان كون الوضوء - مثلا - بلا قيد مأخوذا في الجزاء، أو مقيدا.
ومما ذكرنا يظهر النظر فيما قيل: من أن المحرك الواحد يقتضي التحريك الواحد، والمتعدد المتعدد، كالعلل التكوينية (1) فإن ذلك
بمكان من الضعف، فإن المحرك - أي البعث والامر - إذا تعلق بماهية بلا قيد فمع تعدده لا يعقل التكثر، بل لا توجب المحركات الكثيرة
[نحو]
ماهية واحدة إلا التأكيد، فقياس التشريع بالتكوين موجب لكثير من الاشتباهات، فلا تغفل.
لكن بعد اللتيا والتي لا شبهة في أن فهم العرف مساعد على عدم التداخل، وأن الشرطيات المتعددة مقتضية للجزاء متعددا. وهل هذا
من جهة ارتكاز مقايسة التشريع بالتكوين وإن أبطلناها، لكن إذا كان هذا الارتكاز منشأ للظهور العرفي وتحكيم ظهور على آخر فلا
بد من اتباعه، أو من جهة ارتكاز تناسب الشرط مع متعلق الأمر في الجزاء، لحكم العرف بأن لوقوع الفأرة - مثلا - في البئر تناسبا مع
نزح سبع دلا، ولوقوع الوزغة تناسبا معه، وأن الامر إنما تعلق به لأجل التناسب بينهما، وإلا كان جزافا، فيرى بعد

(نهاية الدراية 1: 327 / سطر 6.
204

ذلك أن لوقوع كل منهما اقتضاء خاصا بها، وارتباطا مستقلا لا يكون في الأخرى، وهو يوجب تعدد وجوب نزح المقدر أو استحبابه، و
هذا يوجب تحكيم ظهور الشرطية على إطلاق الجزاء؟ ثم إنه على فرض استقلال كل شرط في التأثير لا بد من إثبات المقدمة الثانية، أي
كون أثر الثاني غير أثر الأول.
ويمكن منع ذلك بأن يقال: إن الأسباب الشرعية علل للأحكام، لا لافعال المكلفين، فتعددها لا يوجب إلا تعدد المعلول، أي الوجوب مثلا،
فينتج التأكيد.
وبعبارة أخرى: مع حمل الامر على التأكيد يحفظ إطلاق الشرطيتين والجزاء فيهما، ولا يوجب تجوزا في صيغة الامر على فرض وضعها
للوجوب، فإن معنى وضعها له ليس وضعها لهذا المفهوم الاسمي، بل معناه أنها وضعت لإيجاد بعث ناش من الإرادة الحتمية، والأوامر
التأكيدية كلها مستعملة كذلك، ضرورة أن المطلوب إذا كان مهما في نظر الامر ربما لا يكتفي بأمر واحد، ويأتي به متعددا، وكل منها
بعث ناش من الإرادة الأكيدة، ولا معنى للتأكيد إلا ذلك، لا أن الثاني مستعمل في عنوان التأكيد، أو في الاستحباب، أو الارشاد، أو غير
ذلك، فإنها لا ترجع إلى محصل.
وأنت إذا راجعت وجدانك في أوامرك التأكيدية ترى أن كلها مستعملة في البعث استعمالا إيجاديا، وكلها صادرة عن إرادة إلزامية، و
غاية كل منها انبعاث المأمور، وإنما تأتي بها مكررا إذا كان المطلوب مهما.
205

نعم، إذا دار الامر بين التأكيد والتأسيس لا يبعد الحمل على التأسيس، لكنه لا يعارض إطلاق المادة والشرطية، فإذا دار الامر بين رفع
اليد عن أحد الاطلاقين ورفع اليد عن التأسيس، فلا ريب في أولوية الثاني، وفيما نحن فيه إذا حمل الامر على التأكيد يرفع التعارض
بين الاطلاقين.
وبما قررنا يدفع ما في مقالات بعض المحققين: من أن تأكد الوجوب في ظرف تكرر الشرط يوجب عدم استقلال الشرط في التأثير،
لبداهة استناد الوجوب الواحد المتأكد إليهما، لا إلى كل منهما (1).
وذلك لان البعث الالزامي الناشئ من الإرادة الالزامية متعدد، وكل منهما معلول لواحد من الشرطيتين، لا أنهما يؤثران في وجوب واحد
متأكد، لان التأكيد منتزع من تكرار البعثين، وكذا الوجوب المتأكد أمر انتزاعي منه لا أنه معلول للشرطيتين.
كما يدفع به ما في تقريرات الشيخ الأعظم (2): من أن الأسباب الشرعية كالأسباب العقلية، فحينئذ لو كانت الأسباب الشرعية سببا لنفس
الاحكام، وجب تعدد إيجاد الفعل، فإن المسبب يكون هو اشتغال الذمة بإيجاده، والسبب الثاني لو لم يقتض اشتغالا آخر، فإما أن يكون
لنقص في السبب، أو المسبب، وليس شي منهما:
أما الأول فمفروض، وأما الثاني فلان قبول الاشتغال للتعدد تابع لقبول

(1) مقالات الأصول 1: 142 / سطر 13 - 14.
(2) مطارح الأنظار: 179 - 180.
206

الفعل المتعلق له، والمفروض قبوله للتعدد، واحتمال التأكيد مدفوع بعد ملاحظة الأسباب العقلية. انتهى.
وفيه أولا: أن قياس الأسباب الشرعية بالعقلية مع الفارق كما مر.
وثانيا: أن اشتغال الذمة بإيجاد الفعل ليس إلا الوجوب على المكلف، وليس هاهنا شي غير البعث المتعلق بالطبيعة المتوجه إلى المكلف
المنتزع منه الوجوب، فحينئذ تحقق اشتغال آخر من السبب الثاني فرع تقديم الظهور التأسيسي على إطلاق الجزاء، وهو ممنوع، بل لو
فرض معنى آخر لاشتغال الذمة فتعدده فرع هذا التقديم الممنوع.
ثم إن الشيخ الأعظم تشبث بوجه آخر ولم يعتمد عليه (1)، وإنما اعتمد عليه بعض المحققين في مقالاته، وحاصله:
الالتزام، بأن الأسباب أسباب لنفس الافعال، لا للأحكام، ولا يلزم منه الانفكاك بين العلة والمعلول، لأنها أسباب جعلية، لا عقلية و
عادية.
ومعنى السبب الجعلي: إن لها نحو اقتضاء في نظر الجاعل بالنسبة إلى المعلول.
وبعبارة أخرى: إن ظاهر الشرطية كونه مقتضيا لوجود المسبب، وأن اقتضاءه لوجوبه من
[توابع]
اقتضائه لوجوده، وحيث إن اقتضاءه
التشريعي لوجود شي كونه موجبا لوجوبه، وحينئذ لازم إبقاء ظهور الشرط في المؤثرية

(1) نفس المصدر السابق.
207

المستقلة اقتضاؤه وجودا مستقلا (1).
وفيه: أنه بعد الاعتراف بأن معنى السببية الجعلية هو الاقتضاء، لا المؤثرية الفعلية، فرارا عن انفكاك العلة عن معلولها، لا منافاة بين
استقلال الاقتضاء وعدم تعدد الوجود، لان معنى استقلاله أن كل سبب بنفسه تمام المقتضي، لا جزؤه، ولا يتنافى الاستقلال في
الاقتضاء والاشتراك في التأثير الفعلي، كالعلل العقلية إذا فرض اجتماعها على معلول واحد، فحينئذ مع حفظ إطلاق الجزاء واستقلال
الشرطيتين في الاقتضاء صارت النتيجة التداخل.
وأما قوله: لازم إبقاء ظهور الشرط في المؤثرية المستقلة، فرجوع عن أن السببية الجعلية عبارة عن نحو اقتضاء بالنسبة إلى المعلول، لا
المؤثرية الفعلية الاستقلالية.
فالأولى في هذا المقام - أيضا - التشبث بذيل فهم العرف تعدد الجزاء لأجل مناسبات مغروسة في ذهنه كما تقدم (2)، ولهذا لا ينقدح في
ذهنه التعارض بين إطلاق الجزاء وظهور الشرطية في التعدد، فتدبر جيدا.
ثم إنه بعد تسليم المقدمتين - أي ظهور الشرطية في استقلال التأثير، وكون الأثر الثاني غير الأول - فهل يمكن تداخل المسببين ثبوتا،
أو لا؟ وعلى الأول فما حال مقام الاثبات؟

(1) مقالات الأصول 1: 141 - 142.
(2) وذلك في صفحة: 204 من هذا الجزء.
208

قد منع الشيخ الأعظم (1) إمكان التداخل، قال: قد قررنا في المقدمة السابقة أن متعلق التكاليف - حينئذ - هو الفرد المغاير للفرد الواجب
بالسبب الأول، ولا يعقل تداخل فردين من ماهية واحدة، بل ولا يعقل ورود دليل على التداخل - أيضا - على ذلك التقدير، إلا أن يكون
ناسخا لحكم السببية. انتهى.
وفيه: أنه إن كان مراده من الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأول هو الفرد الخارجي كما هو الظاهر، فتداخل الفردين غير معقول
بلا إشكال، لكن تعلق الحكم بالفرد الخارجي ممتنع.
وإن كان المراد هو العنوان القابل للانطباق على الخارج، وإنما سماه فردا لكونه تحت العنوان العام، فعدم إمكان تداخل العنوانين من
ماهية واحدة غير مسلم بل القيود الواردة على ماهية مختلفة، فقد تكون موجبة لصيرورة المقيدين متباينين، كالانسان الأبيض و
الأسود، وقد لا تكون كذلك، كالانسان الأبيض والعالم، مما بينهما عموم من وجه.
فالوضوء في قوله: (إذا نمت فتوضأ)، و (إذا بلت فتوضأ) ماهية واحدة، ولأجل تسليم المقدمتين لا بد من كونها مقيدة بقيدين، حتى
يكون كل سبب علة مستقلة للايجاب على أحد العنوانين، لكن لا يجب أن يكون بين العنوانين التباين، حتى يمتنع تصادقهما على الفرد
الخارجي،

(1) مطارح الأنظار: 180 / سطر 36 - 37.
209

فمع عدم قيام دليل على امتناعه لا يجوز رفع اليد عن الدليل الدال على التداخل فرضا، فقوله: لا يعقل ورود دليل على التداخل، فرع
إثبات الامتناع، وهو مفقود.
بل لنا أن نقول: لازم ظهور الشرطيتين فيما ذكر، وورود الدليل على التداخل، كون المقيدين قابلين للتصادق. هذا حال مقام الثبوت.
وأما في مقام الاثبات: فما لم يدل دليل على التداخل لا مجال للقول به، فلا بد في مقام العمل من الاتيان بفردين، حتى يتيقن بالبرأة،
للعلم بالاشتغال بعد استقلال الشرطيتين في التأثير، وكون أثر كل غير الاخر، كما هو المفروض.
وأما دعوى
[فهم]
العرف تكرار الوضوء من الشرطيتين (1) فعدتها على مدعيها، لأنها ترجع إلى دعوى استظهار كون كل عنوان مباينا
للاخر، وهي بمكان من البعد. هذا كله حال المقام الأول.
وأما المقام الثاني: أي إذا تعددت الأسباب شخصا، لا نوعا، كما لو قال:
(إذا نمت فتوضأ)، وشك في أن المصداقين منه يتداخلان في إيجاب الوضوء، أم لا؟ فلا بد أولا من فرض الكلام بعد الفراغ عن سببية كل
مصداق مستقلا لو وجد منفردا، وإلا فمع احتمال كون الطبيعة سببا لا مصاديقها، يخرج النزاع عن باب تداخل الأسباب، لأنه نزاع في
تعدد الأسباب وعدمه، لا في تداخلها.

(1) الحاشية على الكفاية 1: 462.
210

فكلام بعض الأعاظم، وإتعاب نفسه لاستظهار انحلالية القضية الشرطية وتقديم ظهورها في الانحلال على ظهور الجزاء في الاتحاد (1)
مع عدم خلوه عن الاشكال، أجنبي عن محط النزاع. نعم هو بحث برأسه، ومن مبادئ هذه المسألة.
وكيف كان لو فرض ظهور الشرطية في الانحلال، كما في قوله: (كلما بلت فتوضأ) بناء على دلالته على كون كل بول علة للوضوء، يقع
التعارض بين صدر القضية الدالة على علية مستقلة لكل فرد للوجوب وبين إطلاق ذيلها، ولا ريب في تحكيم ظهور الصدر على إطلاق
الذيل عرفا، بمعنى أنه إذا سمع المخاطب أن كل فرد من البول علة مستقلة لوجوب الوضوء، لا ينظر إلى إطلاق الذيل، بل يحكم بأن كل
مصداق منه علة لوجوب خاص به بلا تداخل الأسباب.
والكلام في تداخل المسببات هو ما تقدم.
تتمة: الاشكال في العام الاستغراقي في المقام:
لا إشكال في لزوم تطابق المنطوق والمفهوم في جميع القيود المعتبرة في الكلام، فمفهوم قوله: (إن جاءك زيد يوم الجمعة عند الزوال
اضربه ضربا شديدا): (إن لم يجئك يوم الجمعة عند الزوال لا يجب أن تضربه ضربا شديدا)، إذ هو مقتضى تبعية المفهوم للمنطوق.

(1) فوائد الأصول 1: 494.
211

كما لا إشكال في العام المجموعي أيضا، فمفهوم قوله: (إن جاءك زيد أكرم مجموع العلماء): (إن لم يجئك لا يجب إكرام مجموعهم)، و
هو لا ينافي وجوب إكرام بعضهم.
إنما الاشكال في العام الاستغراقي، سوأ استفيد العموم بالوضع اللغوي، مثل: (كل)، والجمع المحلى، أو مثل النكرة في سياق النفي،
كقوله: (إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شي) (1)، بناء على استفادة العموم منها، فهل المفهوم فيه العموم، أو لا؟ جعل الشيخ الأعظم مبني
الخلاف على أن العموم الملحوظ في المنطوق هل يعتبر آلة لملاحظة حال الافراد على وجه الشمول والاستغراق، فلا يتوجه النفي إليه في
المفهوم، فيكون الاختلاف بين المنطوق والمفهوم في الكيف فقط دون الكم، أو يعتبر على وجه الموضوعية، فيتوجه إليه النفي،
فالاختلاف بينهما ثابت كما وكيفا على قياس النقيض المأخوذ عند أهل الميزان؟ ثم رجح الأول بدعوى أن العرف قاض بذلك (2).
أقول: إن كان مراده من كون المذكور في القضية آلة ومرآة للافراد أن عنوان الكل والشي غير منظورين، ويكون المجعول أولا وبلا
واسطة الحكم على الكثرة التفصيلية، فهو واضح المنع، ضرورة ملحوظية عنوان الكل في قوله: (أكرم كل عالم)، وعنوان الشئ في قوله:

(1) المعتبر 1: 41، الوسائل 1: 101 / 9 باب 1 من أبواب الماء المطلق.
(2) مطارح الأنظار: 174 / 18 - 21.
212

(لا ينجسه شي).
وإن كان المراد أن إثبات الحكم لعنوانهما ليس بما هما كذلك، بل هما وسيلتان إلى إسراء الحكم إلى الافراد أو العناوين الواقعية، فهو
حق، لكن في طرف المفهوم لا بد وأن ينفى الحكم عنهما كذلك، فمفهوم قوله: (إذا جاءك زيد فأكرم كل عالم): (إذا لم يجئك لا يجب
إكرام كل عالم)، ولا إشكال في إفادته قضية جزئية، مع أن فهم العرف أقوى شاهد له.
بل لنا أن نقول: لو كان المراد من المرآتية هو المعنى الأول، بل لو ذكر الافراد تفصيلا في القضية، لا يستفاد منه إلا الجزئية، لان
المفهوم من قوله: (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شي) هو إذا لم يبلغ قدر كر ليس لا ينجسه شي، لان المفهوم نفي الحكم الثابت
للمنطوق، لا إثبات حكم مخالف له، فليس مفهوم القضية: إذا لم يبلغ قدر كر ينجسه شي.
فحينئذ نقول: مفهوم قوله: (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه البول، والدم، والكلب، والخنزير): (إذا لم يبلغ قدر كر ليس لا ينجسه البول،
والدم، والكلب، والخنزير)، وهو لا ينافي تنجيس بعضها.
نعم لو انحلت القضية إلى تعليقات عديدة، أو الجز إلى كثرة تفصيلية حكما وموضوعا، كان لما ذكره وجه، لكن الانحلالين ممنوعان.
إن قلت: مبنى المفهوم على استفادة العلية المنحصرة من الشرطية، فحينئذ لو كان لبعض الافراد علة أخرى غير ما ذكر في الشرطية،
كان مخالفا
213

لظهورها، ومع انحصار العلة في جميع الافراد أو العناوين، يستفاد العموم من المفهوم.
قلت: ما يستفاد من الشرطية في مثل تلك القضايا - بعد تسليم المفهوم - هو كون الشرط علة منحصرة للعموم، فلا ينافي عدم الانحصار
بالنسبة إلى البعض، فبلوغ الكر علة منحصرة لعدم تنجسه بكل نجاسة، لا أنه علة منحصرة لعدم تنجسه بالبول، وعلة منحصرة لعدم
تنجسه بالدم. وهكذا.
والعمدة هو فهم العرف، وهو مساعد على ما ذكرنا.
214

الفصل الثاني في مفهوم الوصف
ولا بد فيه من ذكر مقدمتين:
المقدمة الأولى:
الظاهر أن محط الكلام أعم مما اعتمد الوصف على موصوفه أولا، كما صرح به بعض أئمة الفن (1).
والشاهد عليه: أن المثبت (2) تمسك بفهم أبي عبيدة (3) في

(1) مطارح الأنظار: 183 / سطر 9 - 12، الفصول الغروية: 151 / سطر 36.
(2) قوانين الأصول 1: 178 / سطر 12 - 14، الفصول الغروية، 152 / سطر 9 - 11،
مطارح الأنظار: 184 / سطر 13 - 14.
(3) أبو عبيدة: هو معمر بن المثنى، التيمي ولا، البصري، النحوي اللغوي، ولد سنة (110 ه‍)، كان يرى رأي الخوارج، وهو أول من صنف
في غريب الحديث، صنف قرابة مائتي كتاب في مجاز القرآن وغريب القرآن وغريب الحديث وفي الشعر والشعراء وأخبار العرب و
الخيل واللغات وحروب الاسلام. توفي سنة (209 ه‍). انظر شذرات الذهب 2: 24، وفيات الأعيان 5: 235، الكنى والألقاب 1: 114.
215

قوله (1): (مطل (2) الغني ظلم)، و (3) (لي الواجد يحل عقوبته وعرضه) (4)
ولم يرده النافي بأن هذا من قبيل مفهوم اللقب، لا الوصف، بل
رده بغيره.
مع أنه لا وجه لاخراجه، لجريان جميع الأدلة فيه، حتى لغوية القيد الزائد.
وما في تقريرات بعض الأعاظم: من أن الالتزام بالمفهوم فيما إذا ذكر الموصوف صريحا إنما هو لخروج الكلام عن اللغوية، وهذا لا
يجري في مثل:
(أكرم عالما)، فإن ذكر الموضوع لا يحتاج إلى نكتة غير إثبات الحكم له، لا إثباته له ونفيه عن غيره (5)، منظور فيه، لان تقريب اللغوية
يأتي في الثاني أيضا، فإن الموضوع لو كان فاقد الوصف، وكان الحكم ثابتا للموصوف وغيره، لما كان لذكر الموصوف بما هو
موصوف وجه، والصون عن اللغوية لو تم في الأول لتم في الثاني.

(1) صحيح مسلم 3: 383 / 33 باب 7 في المساقاة، سنن النسائي 7: 317.
(2) التسويف. (منه قدس سره).
(3) سنن النسائي 7: 316 و 317، سنن ابن ماجة 2: 811 / 2427 باب 18 في
الصدقات، مسند أحمد بن حنبل 4: 222.
(4) قال أبو عبيدة: اللي هو المطل. لواه دينه ليا وليا وليانا: مطله وسوفه ودافعه بالعدة، وأخره من وقت إلى وقت. والواجد: الذي يجد
ما يقضي به دينه، وأراد بعرضه لومه، وبعقوبته حبسه.
لسان العرب 11: 624 - 625 مادة (مطل)، و 15: 263 مادة (لوي)، مجمع البحرين 1: 381 مادة (لوا)، و 5: 473 مادة (مطل).
وفهم أبو عبيدة منه: أن لي غير الواجد لا يحل عرضه، وقال: إنه يدل على ذلك.
القوانين 1: 178 / سطر 12 - 14.
(5) فوائد الأصول 2: 501.
216

المقدمة الثانية:
لا ينبغي الاشكال في أن محط البحث فيما إذا كان الوصف أخص مطلقا من الموصوف، أو أعم من وجه في مورد الافتراق من جانب
الموصوف، مثل (الغنم السائمة) في مقابل (الغير السائمة)، ضرورة أن حفظ الموضوع في المنطوق والمفهوم مما لا بد منه، وإنما
الاختلاف بينهما في تحقق الوصف في أحدهما دون الاخر بعد حفظه، فلا معنى لنفي الحكم عن موضوع أجنبي، وعده مفهوما للكلام.
فقول بعض الشافعية (1):
- إن قوله: (في الغنم السائمة زكاة) (2)، يدل على عدم الزكاة في الإبل المعلوفة - فاسد. إذا عرفت ذلك فالحق عدم المفهوم للوصف لا
وضعا، وهو واضح.
والتشبث بقول أبي عبيدة لا يسمن، ضرورة عدم حجية فهمه، وعدم معلومية دعواه الوضع، بل لعل فهمه لأجل القرينة في المقام.
ولا إطلاقا، بأن يقال: إن إطلاق قوله: (في الغنم السائمة زكاة) بلا توصيفها بوصف آخر، كما يدل على كونها تمام الموضوع بلا شريك،
يدل على عدم العديل للوصف، وإلا لم يكن هو في جميع الحالات موضوعا، كما مر نظيره في الشرط، فإنه قد مر جوابه فيه.
كما مر الجواب عن نظير ما قيل في المقام هناك أيضا (3)، وحاصله:

(1) المنخول للغزالي: 222، وانظر مطارح الأنظار: 182 / سطر 22 - 23.
(2) عوالي اللئالي 1: 399 / 50.
(3) وذلك في صفحة: 182 وما بعدها من هذا الجزء.
217

أنه بعد إحراز أن الأصل في القيد أن يكون احترازيا، أن معنى قيدية شي لموضوع حكم حقيقة، أن ذات الموضوع غير قابلة لتعلقه بها
إلا بعد اتصافها بهذا الوصف، فالوصف متمم قابلية القابل، وهو معنى الشرط حقيقة. وحيث إن الظاهر دخله بعنوانه الخاص، إذ مع تعدد
العلة يكون بعنوان جامع علة، وهو خلاف الظاهر، فلا محالة ينتفي سنخ الوجوب بانتفاء قيد الموضوع (1).
وفيه: ما تقدم من أن قياس التشريع بالتكوين باطل، وأنه يمكن جعل أشياء بعناوينها موضوعا لحكم، وأن مناط القاعدة المعروفة في
الفلسفة ليس في مثل ما نحن فيه، وأن تأثير الجامع ليس له أصل مطلقا، وأنه بعدم تسليم ما ذكر أن الميزان في مثل المقام فهم العرف،
لا دقائق الفلسفة، فتذكر.

(1) نهاية الدراية 1: 330 / سطر 13 - 17.
218

الفصل الثالث في مفهوم الغاية
والبحث فيه يقع في مقامين:
المقام الأول في دلالة الغاية على ارتفاع الحكم بعدها
نسب إلى المشهور (1) - خلافا لجماعة: منهم السيد (2) والشيخ (3) - دلالة الغاية المذكورة في القضية على ارتفاع الحكم عما بعدها.
وفصل جمع من المحققين (4) بين الغاية المجعولة للموضوع بحسب اللب

(1) الفصول الغروية: 153 / سطر 2، مطارح الأنظار: 186 / سطر 14.
(2) الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 407 - 408.
(3) عدة الأصول: 183 / سطر 14 - 15.
(4) الكفاية 1: 325، درر الفوائد 1: 172، فوائد الأصول 2: 504 - 505.
219

وبين المجعولة للحكم، واختاروا في الأول عدم الدلالة، لان حالها حال الوصف، بل الظاهر المصرح به في كلام بعضهم (1): أن البحث في
مفهوم الوصف أعم من الوصف النحوي، فالقيود الراجعة إلى الموضوع كلها داخلة فيه، وفي الثاني رجحوا الدلالة.
وإليه ذهب شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - في كتابه، وإن رجع عنه أخيرا، قال ما حاصله:
إن جعلت الغاية غاية للحكم فالظاهر الدلالة، لان مفاد الهيئة انشاء حقيقة الطلب، لا الطلب الجزئي، فتكون الغاية غاية لحقيقة الطلب، و
لازمه ارتفاع حقيقته عند وجود الغاية. نعم لو قلنا بأن مفاد الهيئة الطلب الجزئي فالغاية لا تدل على ارتفاع سنخ الوجوب (2).
ثم رجع عنه، فقال - على ما حررته -: لا دلالة لها مطلقا، لان الطلب مسبب عن سبب بحسب الواقع وإن لم يذكر في القضية، وليس فيها
دلالة على حصره، حتى تدل على المفهوم. وما ذكرنا في المتن غير وجيه، لان الطلب المعلول لعلة لا إطلاق له بالنسبة إلى غير موردها،
وإن كان لا تقييد له أيضا.
هذا، لكن قرر وجه رجوعه في النسخة المطبوعة أخيرا (3) بما حاصله:

(1) وقاية الأذهان: 426، وانظر مطارح الأنظار: 182 / سطر 14 - 15.
(2) درر الفوائد 1: 172 - 173.
(3) درر الفوائد - طبعة جماعة المدرسين - 1: 204 هامش 1.
220

دعوى مساعدة الوجدان في مثل: (اجلس من الصبح إلى الزوال) لعدم المفهوم، لأنه لو قال المتكلم بعده: (وإن جاء زيد فاجلس من
الزوال إلى الغروب)، لم يكن مخالفا لظاهر كلامه، وهذا يكشف عن أن المغيا ليس سنخ الحكم من أي علة تحقق، بل السنخ المعلول لعلة
خاصة، سوأ كانت مذكورة أولا. انتهى.
والحق عدم ورود الاشكال على ما حققه أولا بعد تسليم وضع الهيئة لحقيقة الطلب، واستعمالها فيها، أما على ما حررناه فلان المفهوم
فيها لا يتوقف على العلية المنحصرة، كما قيل في الشرطية، بل على تحديد حقيقة الحكم بلا تقييدها بقيد خاص إلى غاية، فكأنه قال:
(حقيقة وجوب الجلوس تكون إلى الزوال)، فحينئذ يكون الوجوب بعد الزوال مناقضا له. والعرف يفهم المفهوم بعد ثبوت كون الغاية
للحكم، وثبوت أن الهيئة ظاهرة في حقيقة الطلب من غير توجه إلى علة الحكم، فضلا عن انحصارها، ولو فرض توجهه إليها كشف من
هذا الظهور المتبع انحصارها.
وأما على ما قرر في الطبيعة الأخيرة، فلان الظاهر من قوله:
(اجلس من الصبح إلى الزوال) رجوع الغاية إلى المادة، ولعل عدم فهم المخالفة لذلك، وإلا فلا نسلم عدم ذلك بعد تسليم رجوع الغاية
إلى الحكم، وكون المغيا حقيقته.
هذا، لكن مر الاشكال في كون الهيئة موضوعة لكلي الطلب ومستعملة
221

فيه في محله (1). إلا أنه مع جزئية معنى الهيئة لا يبعد دعوى المفهوم، لمساعدة العرف عليه.
ويمكن أن يقال: إن الهيئة وإن وضعت لايقاع البعث، ولا يكون إلا جزئيا حقيقيا، لكن لما كانت آلة محضة للبعث والاغراء لا ينتزع منه
العرف إلا نفس الوجوب من غير توجه إلى الجزئية والكلية، فيفهم من قوله: (اجلس إلى الزوال) وجوبه إلى هذا الحد، من غير توجه إلى
أن إيقاع الوجوب لا يكون إلا جزئيا، فحينئذ يفهم من القضية المغياة انتفاء سنخ الحكم بعد الغاية. هذا بحسب الثبوت.
وأما كون الغاية للموضوع أو الحكم أو المتعلق إثباتا، فهو مختلف بحسب المقامات والتراكيب ومناسبة الغايات لها.
المقام الثاني في أن الغاية داخلة في المغيا أو لا؟
ومحط البحث هاهنا هو ما إذا كان مدخول (إلى) و (حتى) - مثلا - شيئا ذا أجزأ أو امتداد، كالكوفة في مثل: (سر من البصرة إلى
الكوفة)، والمرفق في قوله: (وأيديكم إلى المرافق) (2) بناء على كون المرفق محل رفق العظمين مما له امتداد، فيقع البحث في أن الغاية
داخلة، أو لا.

(1) وذلك في صفحة: 243 وما بعدها من الجزء الأول من هذا الكتاب.
(2) المائدة: 6.
222

وأما البحث العقلي عن أن غايات الأجسام داخلة فيها، أو لا، وابتناء الكلام على امتناع الجز الذي لا يتجزأ وعدمه (1)، فهو بمعزل عن
البحث الأصولي.
كما أنه لو كان المدخول لهما غير قابل للتجزئة والامتداد كالفصل المشترك، فلا ينتج البحث النتيجة المطلوبة، لكن تعميمه بالنسبة إلى
مطلق مدخولهما مما لا مانع منه، وإن لم تترتب الثمرة إلا على بعض التقادير، كما في كثير من المسائل الأصولية.
ثم إن النزاع يجري في غاية الحكم كما يجري في غاية الموضوع والمتعلق، فيقال: إن وجوب الصوم في قوله: (صم إلى الليل) هل ينقطع
بانتهاء اليوم، أو يبقى إلى دخول مقدار من الليل، أو إلى انقضائه؟ فلا يختص النزاع بغاية الموضوع.
ولا يخفى أن النزاع مختص بما دل على الغاية، كقوله: كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وقوله
(ثم أتموا الصيام إلى الليل) (2)، فيخرج مثل: (أكلت السمكة حتى رأسها)، و (قدم الحاج حتى المشاة)، مما لم تستعمل الكلمة في الغاية، و
تكون عاطفة.
فما في مقالات بعض المحققين من ظهور دخول مدخول (حتى) في

(1) درر الفوائد 1: 173 - 174.
(2) البقرة: 187.
223

المغيا في مثل: (أكلت السمكة حتى رأسها) (1) خلط بين العاطفة والخافضة.
وكيف كان قد فصل شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - بين كون الغاية قيدا للفعل، كقوله: (سر من البصرة إلى الكوفة)، فاختار دخولها
فيه، وبين كونها غاية للحكم، فاختار عدمه (2).
والظاهر عدم الدخول مطلقا، ضرورة أنه إذا قال: (سر من البصرة إلى الكوفة)، وكانت الكوفة اسما للمحصور بجدار، فسار إلى
جدارها، ولم يدخل فيها، يصدق أنه أتى بالمأمور به، فإذا أخبر (بأني قرأت القرآن إلى سورة يس) لا يفهم منه إلا انتهاؤه إليها، لا
قرأتها.
والظاهر أنه كذلك في (حتى) المستعملة في انتهاء الغاية، فإذا قلت:
(نمت البارحة حتى الصباح) بالجر لا يفهم منه إلا ما فهم من (نمت البارحة إلى الصباح)، كما هو كذلك في قوله: كلوا واشربوا حتى
يتبين. إلخ.
نعم استعمالها في غير الغاية كثير، ولعله صار منشأ للاشتباه، حتى ادعى بعضهم فيها الاجماع على الدخول.

(1) مقالات الأصول 1: 143 / سطر 17.
(2) درر الفوائد 1: 174.
224

الفصل الرابع في مفهوم الاستثناء
ولا ينبغي الاشكال في أن الاستثناء من النفي يفيد الاثبات، وبالعكس، فقوله: (ما جاءني أحد إلا زيدا) يدل على مجئ زيد.
وحكي (1) عن أبي حنيفة عدم الدلالة، واحتج بمثل قوله: (لا صلاة إلا بطهور) (2)، فإنه على تقدير الدلالة يلزم أن تكون الصلاة المقرونة
بها مع فقد شرائطها صلاة تامة.
وهذا الاستدلال ضعيف، ضرورة أن مثل قوله: (لا صلاة إلا بطهور) و (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) (3)، كان في مقام الارشاد إلى اشتراط
الصلاة

(1) مطارح الأنظار: 187 / سطر 25.
(2) التهذيب 1: 49 - 50 83 باب 3 في آداب الأحداث الموجبة للطهارات، الوسائل 1:
256 / 1 و 6 باب 1 من أبواب الوضوء.
(3) عوالي اللئالي 3: 82 / 65، مستدرك الوسائل 1: 274 / 5 و 8 باب 1 من أبواب القراءة
في الصلاة.
225

بالطهارة، وأن فاتحة الكتاب جزؤها، لا بصدد الاخبار عن العقد السلبي والايجابي، وفي مثله لا مفهوم للاستثناء. فمعنى قوله: (لا
صلاة إلا بفاتحة الكتاب) أنها جزؤها، ولا تكون الصلاة بدونها صلاة، لا أنها تمام الصلاة، أو إذا اشتملت عليها لا يضرها شي، وأين
هذا من مثل: (جاءني القوم إلا زيدا)؟ ثم استدل المدعي لاختصاص الحكم بالمستثنى منه، وكون الاستثناء من النفي إثباتا، وبالعكس،
بقبول رسول الله صلى الله عليه وآله إسلام من قال: (لا إله إلا الله)، ولولا دلالته على إثبات الألوهية لله تعالى لما كان مفيدا للاعتراف
بوجود الباري (1).
ويمكن أن يقال: إن عبده الأوثان في زمانه كانوا معتقدين بالله تعالى، لكن جعلوا الأوثان وسائط له، وكانوا يعبدونها لتقربهم إلى
الله تعالى، فقبول كلمة التوحيد إنما هو لأجل نفي الألهة - أي المعبودين - لا إثبات وجود الباري تعالى، فإنه كان مفروغا عنه.
وبهذا يجاب عن الاشكال المعروف في كلمة التوحيد.
وأما الأجوبة الدقيقة الفلسفية وإن كانت صحيحة، لكنها بعيدة عن أذهان العامة، فابتناء قبوله على تلك الدقائق التي قصرت أفهام
الناس عنها مقطوع العدم.

(1) مطارح الأنظار: 187 / سطر 29 - 30.
226

المقصد الرابع في العام والخاص
227

تمهيد
وقبل الخوض في المقصود لا بأس بذكر أمور:
الأمر الأول فيما تحكي عنه أسماء الطبائع
لا ينبغي صرف الوقت في تعاريفهما، والنقض والابرام فيها، لكن ينبغي التنبيه لشئ يتضح من خلاله تعريف العام:
وهو أنه لا إشكال في أن الألفاظ الموضوعة للطبائع بلا شرط كأسماء الأجناس، وغيرها لا تكون حاكية إلا عن نفس الطبائع
الموضوعة لها، فالانسان لا يدل إلا على الطبيعة بلا شرط، وخصوصيات المصاديق لا تكون محكية به، واتحاد الانسان خارجا مع
الافراد لا يقتضي حكايتها، لان مقام الدلالة التابعة للوضع غير مقام الاتحاد خارجا.
وكذا نفس الطبيعة لا يمكن أن تكون مرآة وكاشفة عن الافراد، سوأ
229

كان التشخص بالوجود والعوارض أماراته، أو بالعوارض، ضرورة أن نفس الطبيعة تخالف الوجود والتشخص وسائر
[عوارضها]
خارجا أو ذهنا، ولا يمكن كاشفية الشئ عما يخالفه، فالماهية لا تكون مرآة للوجود الخارجي والعوارض الحافة به.
فحينئذ نقول: إن العموم والشمول إنما يستفاد من دوال اخر، مثل: الكل، والجميع، والجمع المحلى مما وضعت للكثرات، أو تستفاد
الكثرة منه بجهة أخرى، فإذا أضيفت هذه المذكورات إلى الطبائع تستفاد كثرتها بتعدد الدال والمدلول. فقوله: (كل إنسان حيوان) يدل
على أن كل مصداق من الانسان حيوان، لكن الانسان لا يدل إلا على نفس الطبيعة من غير أن يكون لفظه حاكيا عن الافراد، أو الطبيعة
المحكية به مرآة لها، وكلمة (كل) تدل على الكثرة، وإضافتها إلى الانسان تدل على أن الكثرة كثرة الانسان، وهي الافراد بالحمل
الشائع.
فما اشتهر في الألسن من أن الطبيعة في العام تكون حاكية عن الافراد (1)، ليس على ما ينبغي، لان العموم مستفاد من كلمة (كل) و
(جميع) وغيرهما، فهي ألفاظ العموم، وبإضافتها إلى مدخولاتها يستفاد عموم أفرادها بالكيفية التي ذكرناها.
وعلى هذا يصح أن يعرف العام: بما دل على تمام مصاديق مدخوله مما يصح أن ينطبق عليه.

(1) الكفاية 1: 334، فوائد الأصول 1: 515، مقالات الأصول 1: 147 / سطر 7 - 10.
230

وأما تعريفه: بأنه ما دل على شمول مفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه (1)، فلا يخلو من مسامحة، ضرورة أن الكل لا يدل على شمول
الانسان لجميع أفراده، والامر سهل.
الأمر الثاني في الفرق بين المطلق والعام
صرح شيخنا العلامة (2) وبعض الأعاظم (3): بأن العموم قد يستفاد من دليل لفظي كلفظة (كل)، وقد يستفاد من مقدمات الحكمة، و
المقصود بالبحث في العام والخاص هو الأول، والمتكفل للثاني هو مبحث المطلق والمقيد.
ومحصله: أن العام على قسمين: قسم يسمى عاما، وفي مقابله الخاص ويبحث عنه في هذا الباب، وقسم يسمى مطلقا، ومقابله المقيد، و
يبحث عنه في باب المطلق والمقيد.
وهذا بمكان من الغرابة، ضرورة أن المطلق والمقيد عنوانان غير مربوطين بالعام والخاص، لان العام هو ما عرفت، وأما المطلق فبعد
جريان مقدمات الحكمة لا يدل على العموم والافراد بوجه، بل بعد تمامية المقدمات

(1) الكفاية 1: 332.
(2) درر الفوائد 1: 178.
(3) فوائد الأصول 1: 511.
231

يستكشف بأن نفس الطبيعة بلا قيد تمام الموضوع للحكم، فموضوع الحكم في العام هو أفراد الطبيعة، وفي المطلق هو نفسها بلا قيد، و
لم تكن الافراد - بما هي - موضوعا له.
ف‍ (أوفوا بالعقود) (1) دل على وجوب الوفاء بكل مصداق من مصاديق العقد، و (أحل الله البيع) (2) بناء على الاطلاق، وتمامية المقدمات، يثبت
النفوذ والحلية لنفس طبيعة البيع من غير أن يكون للموضوع كثرة، وإنما يثبت نفوذ البيع الخارجي لأجل تحقق الطبيعة التي هي
موضوع الحكم به.
وسيأتي مزيد بيان لذلك.
الأمر الثالث في عدم احتياج العام إلى مقدمات الحكمة
قد يقال: إن العام لا يدل على العموم إلا بعد جريان مقدمات الحكمة، لان الطبيعة المدخولة لألفاظ العموم موضوعة للمهملة غير الآبية
للاطلاق والتقييد، وألفاظ العموم تستغرق مدخولها، إن مطلقا فمطلق، وإن مقيدا فكذلك، فهي تابعة له، ومع احتمال القيد لا رافع له إلا
مقدمات الحكمة (3).

(1) المائدة: 1.
(2) البقرة: 275.
(3) الكفاية 1: 275 - 276.
232

والتحقيق خلافه:
أما أولا: فلان موضوع الاطلاق هو الطبيعة، ومع جريان المقدمات يستكشف أن موضوع الحكم نفس الطبيعة بلا دخالة شي آخر،
بخلاف العام فإن موضوع الحكم فيه أفراد الطبيعة، لا نفسها. فموضوع وجوب الوفاء في قوله: (أوفوا بالعقود) (1) أفرادها، وجريان
المقدمات إنما هو بعد تعلق الحكم، وهو متعلق بالافراد بعد دلالة الألفاظ على استغراق المدخول، فهي دالة عليه جرت المقدمات أم لا.
نعم جريان المقدمات يفيد بالنسبة إلى حالات الافراد.
وإن شئت قلت: إن ألفاظ العموم مثل: (كل)، و (جميع) موضوعة للكثرة لغة، وإضافتها إلى الطبيعة تفيد الاستغراق، وتعلق الحكم
متأخر عنه، وجريان المقدمات متأخر عنه برتبتين، فلا يعقل توقفه عليه.
وأما ثانيا: فلان المتكلم في العموم متعرض لمصاديق الطبيعة، ومعه لا معنى لعدم كونه في مقام بيان تمام الافراد، بخلاف باب
الاطلاق، لامكان أن لا يكون المتكلم فيه بصدد بيان حكم الطبيعة، بل يكون بصدد بيان حكم آخر، فلا بد من جريان المقدمات.
وبالجملة: دخول ألفاظ العموم على نفس الطبيعة المهملة يدل على استغراق أفرادها.

(1) المائدة: 1.
233

ويشهد لما ذكر: قضاء العرف به. وأنت إذا تفحصت جميع أبواب الفقه.
وفنون المحاورات، لم تجد موردا توقف العرف في استفادة العموم من القضايا المسورة بألفاظه من جهة عدم كون المتكلم في مقام
البيان، كما ترى في المطلقات إلى ما شاء الله.
ولعل هذه الشبهة نشأت من الخلط بين المطلق والعام.
والعجب ممن يرى أن الاطلاق بعد جريان المقدمات يفيد العموم، ومعه ذهب إلى لزوم جريانها في العموم، مع أن لازمه لغوية الاتيان
بألفاظ العموم.
الأمر الرابع في أقسام العموم
ينقسم العموم إلى: الاستغراقي، والمجموعي، والبدلي، لان اللفظ الدال على العموم إن دل على مصاديق الطبيعة عرضا بلا اعتبار
الاجتماع بينها مثل: (كل) و (جميع)، و (تمام)، وأشباهها يكون العام استغراقيا، ف (كل عالم) دال بالدوال الثلاثة على أفراد طبيعة
العالم من غير اعتبار اجتماعها وصيرورتها موضوعا واحدا، مع كون شموله لها عرضيا.
فإذا اعتبرت الوحدة والاجتماع في الافراد، بحيث عرضتها الوحدة الاعتبارية، وصارت الافراد بمنزلة الاجزاء، كان العام مجموعيا. و
لا يبعد أن يكون لفظ المجموع مفيدا له عرفا، ولذا اختص هذا اللفظ ارتكازا به، فلفظ
234

(مجموع العلماء) يشمل الافراد مع صيرورتها واحدة اعتبارا.
وإذا دل اللفظ على الافراد لا في عرض واحد يكون بدليا، مثل (أي) الاستفهامية، كقوله: (فأي آيات الله تنكرون) (1)، وقوله: (أيكم يأتيني
بعرشها) (2). وقد يكون البدلي في غير الاستفهامية، مثل: (زك مالك من أي مصداق شئت)، و (اذهب من أي طريق أردت)، فإنها تدل
بالدلالة الوضعية على العموم البدلي.
ولا يخفى أن تلك الأقسام مخصوصة بالعموم، وأما الاطلاق فلا تأتي فيه، ومقدمات الحكمة لا تثبت في مورد أحدها.
وقد خلط كثير من الأعاظم هاهنا أيضا، وتوهموا جريان التقسيم في المطلقات.
قال المحقق الخراساني في باب المطلق والمقيد: إن قضية مقدمات الحكمة في المطلقات تختلف حسب اختلاف المقامات، فإنها تارة
يكون حملها على العموم البدلي، وأخرى على العموم الاستيعابي (3).
وعلى منواله نسج غيره، كصاحب المقالات (4) حيث قال: إنما الامتياز بين البدلي وغيره بلحاظ خصوصية مدخوله من كونه نكرة أو
جنسا، فإن في النكارة اعتبرت جهة البدلية دون الجنس. انتهى.

(1) غافر: 81.
(2) النمل: 38.
(3) الكفاية 1: 395.
(4) مقالات الأصول 1: 145 - 146.
235

ولا يخفى أن النكرة تدل بمادتها على نفس الطبيعة بلا شرط، وتنوين التنكير الداخل عليها يدل على الوحدة، ف (رجل يدل - بتعدد
الدال - على واحد غير معين من الطبيعة، ولا تكون فيه دلالة على البدلية بلا ريب، وإنما يحكم العقل بتخيير المكلف في الاتيان بأي فرد
شاء في مورد التكاليف.
فقوله: (أعتق رقبة) يدل بعد تمامية المقدمات على وجوب عتق رقبة واحدة من غير دلالة على التبادل، والتخيير فيه عقلي، بخلاف قوله:
(أعتق أية رقبة شئت)، فإن التخيير فيه شرعي مستفاد من اللفظ.
وقد عرفت فيما تقدم حال الجنس في سياق الاثبات بعد تمامية المقدمات، وأنها أجنبية عن إفادة العموم.
وبالجملة: لا يستفاد من المقدمات إلا كون ما جعل موضوعا بنفسه تمامه بلا دخالة شي آخر، وهذا معنى واحد في جميع الموارد. نعم
حكم العقل والعقلاء فيها مختلف، وهو غير دلالة اللفظ.
تنبيه: في سبق هذا التقسيم على تعلق الحكم:
قد ظهر مما ذكرنا من دلالة بعض الألفاظ على العام الاستغراقي، أو المجموعي أو البدلي أن هذا التقسيم إنما هو قبل تعلق الحكم، فإن
الدلالات اللفظية لا تتوقف على تعلق الاحكام بالموضوعات، ف (كل) و (جميع) يدلان على استغراق أفراد مدخولهما قبل تعلق الحكم، و
كذا لفظ (المجموع)
236

و (أي) دالان على ما ذكرناه قبله.
ولهذا لا يتوقف أحد من أهل المحاورة في دلالة: (أكرم كل عالم) على الاستغراق مع عدم القرينة، بل يفهمون ذلك لأجل التبادر، وكذا
الحال في قوله: (أعتق أية رقبة شئت) في دلالته على العام البدلي، بل لا يبعد ذلك في لفظ (المجموع) على العام المجموعي. فلا يكون هذا
التقسيم بلحاظ تعلق الحكم.
بل لا يعقل ذلك مع قطع النظر عما ذكرنا، ضرورة أن الحكم تابع لموضوعه، ولا يعقل تعلق الحكم الوحداني بالموضوعات الكثيرة
المأخوذة بنحو الاستغراق، كذا لا يعقل تعلق الحكم الاستغراقي بالموضوع المأخوذ بنحو الوحدة، والاهمال الثبوتي في موضوع الحكم لا
يعقل. فما ادعى المحقق الخراساني (1)، وتبعه عليه بعضهم (2)، مما لا يمكن تصديقه.
الأمر الخامس في خروج بعض الألفاظ عن العموم
عد النكرة واسم الجنس في سياق النفي أو النهي من ألفاظ العموم وضعا، مما لا مجال له، فإن اسم الجنس موضوع لنفس الطبيعة بلا
شرط، وتنوين التنكير لتقييدها بقيد الوحدة الغير المعينة، لكن بالمعنى الحرفي

(1) الكفاية 1: 332 و 395.
(2) حاشية المشكيني على الكفاية 1: 395.
237

لا الاسمي، وألفاظ النفي والنهي وضعت لنفي مدخولها، أو الزجر عنه، فلا دلالة فيها على نفي الافراد، ولا وضع على حدة للمركب،
فحينئذ تكون حالها حال سائر المطلقات في احتياجها إلى مقدمات الحكمة. فلا فرق بين:
(أعتق رقبة) و (لا تعتق رقبة) في أن الماهية متعلقة للحكم، وفي عدم الدلالة على الافراد، وفي الاحتياج إلى المقدمات.
نعم، بعد تماميتها قد تكون نتيجتها في النفي والاثبات مختلفة عرفا، لما تقدم من حكمه بأن المهملة توجد بوجود فرد ما، وتنعدم بعدم
جميع الافراد، وإن كان حكم العقل البرهاني على خلافه.
وما ذكرنا من الاحتياج إلى المقدمات يجري في المفرد المحلى باللام، لعدم استفادة العموم منه، بخلاف الجمع المحلى الظاهر في
العموم الاستغراقي.
ولعل الاستغراق فيه يستفاد من تعريف الجمع، لا من اللام، ولا من نفس الجمع، ولهذا لا يستفاد من المفرد المحلى، ولا من الجمع الغير
المحلى. ووجه استفادته من تعريفه - على ما قيل (1) -: أن أقصى مراتب الجمع معين معرف، وأما غيره فلا تعيين فيه حتى أدنى المراتب.
وكيف كان فلا مجال للتشكيك في دلالته على العموم، فلا يحتاج إلى مقدمات الحكمة، فالميزان في الاحتياج إليها وعدمه دلالة اللفظ
على العموم الافرادي وعدمها.

(1) أجود التقريرات 1: 444.
238

الفصل الأول في حجية العام المخصص في الباقي
لا شبهة في حجية العام المخصص في الباقي متصلا كان المخصص أو منفصلا، لدى العقلا.
والقول بإجماله لتعدد المجازات، وعدم ترجيح لتعين الباقي (1) ساقط، لان المجاز كما عرفت في محله (2) ليس استعمال اللفظ في غير ما
وضع له، بل يكون استعماله فيما وضع له، وتطبيق المعنى الموضوع له على المعنى المجازي ادعاء، سوأ في ذلك الاستعارة وغيرها.
فحينئذ نقول: إن العام المخصص لا يجوز أن يكون من قبيل المجاز، ضرورة عدم ادعاء وتأول فيه، فليس في قوله: أوفوا

(1) نقله في مطارح الأنظار: 192 / سطر 21 - 22.
(2) وذلك في صفحة: 104 - 105 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
239

بالعقود) (1) ادعاء كون جميع العقود هي العقود التي لم تخرج من تحته، ولا في (أحل الله البيع) (2) في المطلق الوارد عليه التقييد ذلك، كما
تكون تلك الدعوى في قوله:
جددت يوم الأربعين عزائي والنوح نوحي والبكاء بكائي
حيث ادعى أن حقيقة النوح والبكاء هي نوحه وبكاؤه، وليس غيرهما نوحا وبكأ.
فلا محالة أن مثل: (أكرم العلماء) وأوفوا بالعقود استعملت جميع ألفاظهما فيما وضعت له، لكن البعث المدلول عليه بالهيئة لم يكن في
مورد التخصيص لداعي الانبعاث، بل إنما إنشاؤه كليا وقانونيا بداعي الانبعاث إلى غير مورد التخصيص، والجعل الكلي إنما هو بداع
آخر. فالإرادة الاستعمالية في مقابل الجدية هي بالنسبة إلى الحكم، فإنه قد يكون إنشائيا، وقد يكون جديا لغرض الانبعاث.
ف أوفوا بالعقود انشاء البعث على جميع العقود، وهو حجة ما لم تدفعها حجة أقوى منها، فإذا ورد مخصص يكشف عن عدم مطابقة الجد
للاستعمال في مورده، ولا ترفع اليد عن العام في غير مورده، لظهور الكلام وعدم انثلامه بورود المخصص، وأصالة الجد التي هي من
الأصول العقلائية حجة في غير ما قامت الحجة على خلافه.

(1) المائدة: 1.
(2) البقرة: 275.
240

إن قلت: لازم تعلق البعث الجدي ببعض الافراد، والبعث الانشائي بالآخر، أن يكون الواحد صادرا عن داعيين، وانشاء البعث بالنحو
الكلي أمر واحد لا يمكن صدوره عن داعيين بلا جهة جامعة.
قلت: مضافا إلى عدم جريان برهان امتناع صدور الواحد عن الكثير في مثل المقام، وإلى أن الوجدان حاكم بأن الدواعي المختلفة قد
تجتمع على فعل واحد - إن الدواعي ليست علة فاعلية لشئ، بل الدواعي غايات لصدور الافعال، وكون الغايات علل فاعلية الفاعل ليس
معناه أنها مصدر فاعليته، بحيث تكون علة فاعلية لها، كما لا يخفى.
وبما ذكرنا في بيان المراد من الإرادة الاستعمالية والجدية، يدفع إشكال بعض الأعاظم، حيث يظهر من تقريرات بحثه: توهم أن مراد
القوم من الإرادة الاستعمالية والجدية هو بالنسبة إلى لفظ العام، وأن المراد الاستعمالي منه جميع العلماء والجدي بعضهم.
فأورد عليهم: بأن حقيقة الاستعمال ليس إلا إلقاء المعنى بلفظه، والألفاظ مغفول عنها حينه، لأنها قنطرة ومرآة إلى المعاني، وليس
للاستعمال إرادة مغايرة لإرادة المعنى الواقعي، فالمستعمل إن أراد المعنى الواقعي فهو، وإلا كان هازلا (1).
وقد عرفت: أن الاستعمالية والجدية إنما هي بالنسبة إلى الحكم، فما ذكره أجنبي عن مقصودهم.

(1) فوائد الأصول 1: 517.
241

ثم إن صاحب المقالات أجاب عن الاشكال: بأن العام وإن كانت واحدة، لكن هذه الدلالة الواحدة إذا كانت حاكية عن مصاديق متعددة،
فلا شبهة في أن هذه الحكاية بملاحظة تعدد محكيها بمنزلة حكايات متعددة، نظرا إلى أن شأن الحكاية والمرآة جذب لون محكيها،
فمع تعدده كانت الحكاية متعددة. فحينئذ مجرد رفع اليد عن حجية الحكاية المزبورة بالنسبة إلى فرد لا يوجب رفع اليد عن حجية
الاعلى.
وأيد كلامه بالمخصص المتصل، بدعوى: أن الظهور في الباقي مستند إلى وضعه الأول، غاية الأمر تمنع القرينة من إفادة الوضع لاعلى
المراتب من الظهور، فيبقى اقتضاؤه للمرتبة الأخرى دونها بحاله (1).
ولا يخفى ما فيه، لان حديث جذب الألفاظ لون محكيها أشبه بالخطابة والشعر، ضرورة أن الألفاظ لا تنقلب عما هي عليه، وتوهم
ركاكة بعضها ناش من الخلط بين الحاكي والمحكي، فإن الركاكة للمحكي، والألفاظ آلة الانتقال إليها، فتعدد المحكي لا يوجب تعدد
الحكاية بعد كون الحاكي عنوانا واحدا، فلفظ العام بعنوان واحد وحكاية واحدة يحكي عن الكثير، فإذا علم أن اللفظ لم يستعمل في
معناه بدليل منفصل لم تبق حكاية بالنسبة إلى غيره.
وما ذكره في المخصص المتصل من مراتب الظهور ممنوع، ضرورة أن كل لفظ في المخصص المتصل مستعمل في معناه، وأن إفادة
المحدودية إنما هي

(1) مقالات الأصول 1: 148 / سطر 15 - 19.
242

لأجل القيود، والاخراج بالاستثناء، فلفظ (كل) موضوع لاستغراق مدخوله، فإذا كان مدخوله (العلماء إلا الفساق) يستغرقه من غير أن
يكون الاستثناء مانعا عن ظهوره، لعدم ظهوره إلا في استغراق المدخول، أي شي كان.
ولو منع القيد أو الاستثناء عن ظهوره صار مجملا، لعدم مراتب للظهور، وهو واضح، تدبر.
243

الفصل الثاني في تخصيص العام بالمجمل
إذا خصص العام بمجمل متصل يسري إلى إجماله إليه، من غير فرق بين المجمل مفهوما وغيره، ولا بين الدائر بين المتباينين وغيره،
لان الحكم في العام الذي استثني منه متعلق بموضوع وحداني عرفا، ويكون حال المستثنى منه والمستثنى حال المقيد والموصوف،
فكما أن الموضوع في قوله: (أكرم العالم العادل) هو الموصوف بما هو كذلك، فكذلك في قوله: (أكرم العلماء إلا الفساق منهم)، ولهذا لا
ينقدح التعارض - حتى البدوي منه - بين المستثنى والمستثنى منه كما ينقدح في المنفصل منه.
فإذا كان الموضوع عنوانا واحدا يكون التمسك به في الشبهات الموضوعية أو المفهومية للمستثنى كالتمسك فيهما لنفسه، بل هو هو،
فكما
245

لا يجوز التمسك بقوله: (لا تكرم الفساق) مع الاجمال بالنسبة إلى مورده، كذلك لا يجوز في العام المستثنى منه بلا فرق بينهما.
وأما إذا خصص به منفصلا، فمع التردد بين المتباينين يسري الاجمال إليه حكما، بمعنى عدم جواز التمسك به في واحد منهما، وإن كان
العام حجة في واحد معين واقعا، ولازمه إعمال قواعد العلم الاجمالي.
وأما إذا كان الخاص مجملا مفهوما مرددا بين الأقل والأكثر فلا يسري، ويتمسك به، وذلك لان الخاص المجمل ليس بحجة في مورد
الاجمال، فلا ترفع اليد عن الحجة بما ليس بحجة، ولا يصير العام معنونا بعنوان الخاص في المنفصلات.
نعم، لو كان الخاص بلسان الحكومة على نحو التفسير والشرح - كما في بعض أنحاء الحكومات - فسراية إجماله إليه وصيرورة العام
معنونا غير بعيدة.
والمسألة محل إشكال.
وأما ما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه - من إمكان أن يقال: إنه بعد ما صارت عادة المتكلم على ذكر المخصص منفصلا، فحال
المنفصل في كلامه حال المتصل في كلام غيره (1) - فمقتضاه عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص، لا سراية الاجمال، لان ظهور العام لا
ينثلم لأجل جريان تلك العادة.
كما أن الأصل العقلائي بتطابق الاستعمال والجد حجة بعد الفحص عن المخصص، وعدم العثور إلا على المجمل منه.

(1) درر الفوائد 1: 183.
246

والحاصل: أن مسألة عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص غير مسألة سراية الاجمال، والعادة المذكورة موجبة لعدم جوازه قبله، لا
سراية الاجمال. وهو - قدس سره - قد رجع عما أفاده في كتابه هذا في الشبهة المفهومية (1).
وأما الاشتباه المصداقي بالشبهة الخارجية فقد يقال بجواز التمسك به مع انفصال المخصص.
ولا يخفى أن محط البحث في المقام هو تخصيص العام، لا تقييد المطلق، وقد سبق الفرق بينهما.
وقد خلط بينهما بعضهم في المقام أيضا، وقال (2): إن تمام الموضوع في العام قبل التخصيص هو طبيعة (العالم)، وإذا ورد المخصص
يكشف أن (العالم) بعض الموضوع، وبعضه الاخر هو (العادل)، فيكون الموضوع - واقعا - هو (العالم العادل)، فالتمسك في الشبهة
المصداقية للخاص يرجع إلى التمسك فيها لنفس العام من غير فرق بين القضايا الحقيقية وغيرها.
انتهى.
وقد عرفت: أن الحكم في المطلق والمقيد ما ذكره، وأما الحكم في العام فعلى أفراد مدخول أداته، لا على عنوان الطبيعة، والمخصص
مخرج لطائفة من أفراد العام، كأفراد الفساق منهم.
وما صرح به كرارا - بأن الحكم في القضايا الحقيقية على العنوان بما أنه

(1) درر الفوائد 1: 183 هامش 1.
(2) فوائد الأصول 1: 525.
247

مرآة لما ينطبق عليه، ولم يتعرض للافراد (1) - غير تام، لان العنوان لا يمكن أن يكون مرآة للخصوصيات الفردية. مع أن لازم ما ذكر
أن تكون الافراد موضوعا للحكم، لان المحكوم عليه المرئي لا المرآة.
والتحقيق: أن العنوان لم يكن مرآة إلا لنفس الطبيعة الموضوع لها، وأداة العموم تفيد أفرادها، والقضية الحقيقية متعرضة للافراد.
فإذا تمحض محط البحث نقول: عمدة استدلال القائل بجواز التمسك هو: أن العام بعمومه شامل لكل فرد من الطبيعة وحجة عليها، و
الفرد المشكوك فيه لا يكون الخاص حجة بالنسبة إليه، للشك في فرديته، فمع القطع بفرديته للعام والشك في فرديته للخاص يكون
رفع اليد عن العام الحجة بغير حجة.
والجواب عنه: أن الاحتجاج بكلام المتكلم يتم بعد مراحل: كتمامية الظهور، وعدم الاجمال في المفهوم، وجريان أصالة الحقيقة، و
غيرها، ومنها إحراز كون انشاء الحكم على الموضوع على نحو الجد، ولو بالأصل العقلائي.
فحينئذ إن ورود التخصيص على العام يكشف عن أن إنشاءه في مورد التخصيص لا يكون بنحو الجد، فيدور أمر المشتبه بين كونه
مصداقا للمخصص حتى يكون تحت الإرادة الجدية لحكم المخصص وعدمه، حتى يكون تحت الإرادة الجدية لحكم العام المخصص، ومع
هذه الشبهة

(1) فوائد الأصول 1: 171، 525.
248

لا أصل لاحراز أحد الطرفين، فإنها كالشبهة المصداقية لأصالة الجد بالنسبة إلى العام والخاص كليهما، ومجرد كون الفرد معلوم
العالمية وداخلا تحت العام، لا يوجبان تمامية الحجة، لان صرف ظهور اللفظ وجريان أصالة الحقيقة، لا يوجبان تماميتها ما لم تحرز
أصالة الجد. ولهذا ترى أن كلام من كان عادته على الدعابة غير صالح للاحتجاج، لا لعدم ظهور فيه، ولا لعدم جريان أصالة الحقيقة، بل
مع القطع بهما لا يكون حجة، لعدم جريان أصالة الجد، فرفع اليد عن العام ليس رفع اليد عن الحجة بغير حجة، بل لقصور الحجية فيه.
ولعل كلام المحقق الخراساني (1) يرجع إلى ما ذكرنا، وكذا كلام الشيخ الأعظم (2)، وإن فسر كلامه بعض المحققين بما يرد عليه
الاشكال، قال في مقالاته (3): الذي ينبغي أن يقال: إن الحجية بعد ما كانت منحصرة بالظهور التصديقي المبني على كون المتكلم في مقام
الإفادة والاستفادة، فإنما يتحقق هذا المعنى في فرض تعلق قصد المتكلم بإبراز مرامه باللفظ، وهو فرع التفات المتكلم إلى ما تعلق به
مرامه، وإلا فمع جهله به واحتمال خروجه عن مرامه فكيف يتعلق قصده بلفظه وكشفه وإبرازه؟ ومن المعلوم أن الشبهات الموضوعية
طرا من هذا القبيل.

(1) الكفاية 1: 342 - 343.
(2) مطارح الأنظار: 192 - 193.
(3) مقالات الأصول 1: 151 / سطر 8 - 13.
249

ولقد أجاد شيخنا الأعظم فيما أفاد في وجه المنع بمثل هذا البيان. ومرجع هذا الوجه إلى منع كون المولى في مقام إفادة المراد بالنسبة
إلى ما كان هو بنفسه مشتبها فيه، فلا يكون الظهور - حينئذ - تصديقيا، كي يكون واجدا لشرائط الحجية. انتهى.
وأنت خبير بما فيه، فإن الحجية وإن كانت منحصرة في الظاهر الذي صدر من المتكلم لأجل الإفادة، ولا بد له أن يكون متيقنا بما تعلق
به مرامه، لكن في مقام جعل الكبريات، لا في تشخيص صغرياتها.
فالمتكلم بمثل: (كل نار حارة) في مقام الاخبار لا بد له من إحراز كون كل فرد منها حارا ببرهان أو غيرها، وأما تشخيص كون شي
نارا، أو كون مصداق كذائي له صفة كذائية، فليس متعلقا بمرامه، ولا يكون في مقام إبرازه. وكذا المتكلم بنحو: (أكرم كل عالم) لا بد له
من تشخيص أن كل فرد من العلماء فيه ملاك الحكم وإن اشتبه عليه الافراد، ولو خصص العام بمخصص مثل: (لا تكرم الفساق) لا بد له
من تشخيص كون ملاكه في عدول العلماء، وأما كون فرد في الخارج عادلا أو لا، فليس داخلا في مرامه حتى يكون بصدد إبرازه.
فلو صح ما ذكره: من أن المولى لما لم يكن بصدد إفادة المراد بالنسبة إلى ما كان بنفسه مشتبها فيه، فليس الظهور حجة فيه، فلا بد من
التزامه بعدم وجوب إكرام من اشتبه عند المولى، وإن لم يكن كذلك لدى المكلف، فمع علم المكلف بأن زيدا عالم عادل، لا بد من القول
بعدم وجوب إكرامه إذا
250

كان المتكلم مشتبها فيه، ولا أظن بأحد التزامه.
وأما الشيخ الأعظم فيظهر من تقريراته: أن كلام المتكلم بالعام غير صالح لرفع الشبهة الموضوعية التي هو بنفسه - أيضا - قد يكون
مثل العبد فيها، فالعام مرجع لرفع الشبهة الحكمية لا الموضوعية (1).
وهو متين، ولا يرجع إلى ما في المقالات. اللهم إلا أن يرجع ما ذكره إلى ما ذكرنا، كما قد يظهر من بعض كلماته فيما سيأتي (2)، و
إغلاق البيان وسوء التعبير غير عزيزين في المقالات.
ثم إنه ربما يستدل الجواز التمسك بالعام بوجه آخر، وهو: أن العام بعمومه الافرادي يشمل كل فرد، وبإطلاقه الأحوالي يعم كل حالة
من حالات الموضوع، ومنها مشكوكية الفسق، والذي كان الخاص حجة فيه هو الافراد المعلومة، والمشكوك فيها داخلة في إطلاقه (3).
وفيه: - مضافا إلى ما يرد على التقريب الأول - أن العام بعمومه وإطلاقه إن كان كفيلا بالحكم الواقعي، فكيف يجتمع مع حكم الخاص
في المشتبه إن كان فاسقا؟ فلازمه أن يكون الفاسق محرم الاكرام وواجبه، مع أن قوله:
(لا تكرم الفساق) شامل بإطلاقه لمشتبه الفسق ومعلومه، فلازمه اجتماع الحكمين في موضوع واحد بعنوان واحد.

(1) مطارح الأنظار: 193 / سطر 3 - 13.
(2) وذلك في صفحة: 257 من هذا الجزء.
(3) درر الفوائد 1: 184 / سطر 5 - 10.
251

وإن كان كفيلا بالحكم الواقعي والظاهري، فلا بد من أخذ الشك في الحكم في موضوعه، لان أخذ الشك في الموضوع لا يصحح الحكم
الظاهري، فكيف يمكن تكفل العام بجعل واحد للحكم الواقعي على الموضوع الواقعي وللحكم الظاهري على مشتبه الحكم مع ترتبهما؟
كل ذلك مع الإغماض عن أن الاطلاق ليس بمعنى أخذ جميع العناوين والحالات في الموضوع، فإن ذلك معنى العموم.
فحينئذ كيف يمكن جعل الحكم الظاهري المتقوم بأخذ الشك موضوعا، وهل هذا إلا الجمع بين عدم لحاظ الشك موضوعا ولحاظه
كذلك؟
تتميم: في الشبهة المصداقية للمخصص اللبي:
ما مر كان حال المخصصات اللفظية، وأما اللبية فيظهر حالها مما مر، لكن بعد تمحيص المقام في الشبهة المصداقية للمخصص اللبي - و
هي متقومة بخروج عنوان بالاجماع أو العقل عن تحت حكم العام، والشك في مصداقه - فلا محالة يكون الحكم الجدي في العام على
أفراد المخصص دون المخصص بالكسر، ومعه لا مجال للتمسك بالعام لرفع الشبهة الموضوعية، لما مر.
ومنه يظهر النظر في كلام المحقق الخراساني، حيث فصل بين اللبي الذي يكون كالمخصص المتصل وغيره (1)، مع أن الفارق بين اللفظي واللبي من

(1) الكفاية 1: 343.
252

هذه الجهة بلا وجه. ودعوى بناء العقلا على التمسك
[بالعام]
في اللبيات (1) عهدتها عليه.
كما يظهر النظر فيما يظهر من الشيخ الأعظم من التفصيل بين ما يوجب تنويع الموضوعين وتعددهما (كالعالم الفاسق) و (العالم الغير
الفاسق) فلا يجوز، وبين غيره، كما إذا لم يعتبر المتكلم صفة في موضوع الحكم غير ما أخذه عنوانا في العام، وإن علمنا بأنه لو فرض
في أفراد العام من هو فاسق لا يريد إكرامه، فيجوز التمسك بالعام، وإحراز حال الفرد أيضا (2). ثم فصل بما لا مزيد عليه في بيانه.
ولكن الذي يظهر من مجموع كلماته خروجه عن محط البحث، ووروده في وادي الشك في أصل التخصيص، ومحط الكلام في الشك في
مصداق المخصص.
وربما يوجه كلامه: بأن المخصص ربما لا يكون معنونا بعنوان، بل يكون مخرجا لذوات الافراد، لكن بحيثية تعليلية وعلة سارية، فإذا
شك في مصداق أنه محيث بالحيثية التعليلية يتمسك بالعام.
وفيه: أن الجهات التعليلية في الأحكام العقلية موضوع لها، فلا يكون المخرج هو الافراد، بل العنوان، ومعه لا يجوز التمسك به.
ومع التسليم بخروج ذوات الافراد يخرج الكلام عن الشبهة المصداقية

(1) الكفاية 1: 345.
(2) مطارح الأنظار: 194 - 195.
253

للمخصص، مع أن الكلام فيها.
ويظهر النظر في كلام بعض الأعاظم، حيث فصل بين اللبيات التي توجب تقييد موضوع الحكم وتضييقه، وبين ما هو من قبيل إدراك
العقل ما هو ملاك حكم الشارع واقعا من دون تقييد الموضوع، لعدم صلوح تقييد موضوع الحكم بما هو ملاكه، فاختار الجواز في الأول
دون الثاني (1).
ويظهر منه الخلط بين محل البحث وغيره، فراجع.

(1) فوائد الأصول 1: 536 - 537.
254

تنبيهات
التنبيه الأول في إخراج الافراد بجهة تعليلية
لو ورد: (أكرم كل عالم)، ثم ورد - منفصلا -: (لا تكرم زيدا وعمرا وبكرا، لانهم فساق) فربما يقال بجواز التمسك بالعام في مورد
الشك في مصداق الفاسق، فإنه من قبيل التخصيص الزائد، لا الشبهة المصداقية للمخصص.
وفيه نظر، لأن الظاهر من إخراج أفراد بجهة تعليلية أن المخرج هو العنوان، لا الاشخاص برأسها، ومعه تكون الشبهة في مصداق
المخصص. وكذا الحال في اللبيات.
التنبيه الثاني في العامين من وجه المتنافي الحكم
إذا ورد حكمان متنافيان على عنوانين مستقلين بينهما عموم من وجه، فقد يكون أحدهما حاكما على الاخر، فيصير من قبيل المخصص،
255

فمع الشبهة المصداقية في مصداق الحاكم لا يجوز التمسك بالعام المحكوم، لعين ما تقدم.
وإن لم تكن حكومة بينهما: فإن قلنا: بأن العامين من وجه مشمولان لأدلة التعارض، وقدمنا أحدهما بأحد المرجحات، أو كانا من قبيل
المتزاحمين، وقلنا: إن المولى ناظر إلى مقام التزاحم، فكان حكمه إنشائيا بالنسبة إلى المرجوح، فيكون حاله حال المخصص، فلا يجوز
التمسك للملاك المتقدم.
وأما إن قلنا: بأن الحكمين في المتزاحمين فعليان على موضوعهما، والانطباق الخارجي وعدم القدرة على إطاعتهما لا يوجبان شأنية
المرجوح، بل العقل يحكم بمعذورية المكلف عن امتثال كليهما من غير تغيير في ناحية الحكم، فالظاهر جواز التمسك في مورد الشك
في انطباق الدليل المزاحم الذي هو أقوى ملاكا، لان الحكم الفعلي على موضوعه حجة على المكلف ما لم يحرز العذر القاطع، ولا يجوز
رفع اليد عن الخطاب الفعلي بلا حجة، نظير الشك في القدرة، فإذا أمر المولى بشي وشك المكلف في قدرته عليه، لا يجوز عقلا التقاعد
عنه لاحتمال العجز، لعين ما ذكر.
التنبيه الثالث في إحراز المصداق بالأصل في الشبهة المصداقية
بعد البناء على عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، هل يمكن
256

إحراز المصداق بالأصل وإجراء حكم العام عليه مطلقا، أو لا مطلقا، أو يفصل بين المقامات؟ حجة القائل بالنفي مطلقا (1): أن العام بعد
التخصيص يبقى على تمام الموضوعية للحكم بلا انقلاب عما هو عليه، نظير موت الفرد، فرقا بين التخصيص والتقييد، فحينئذ لا مجال
للأصل المذكور، إذ الأصل السلبي ليس شأنه إلا نفي حكم الخاص عنه، لا إثبات حكم العام عليه، والفرد مورد العلم الاجمالي بكونه
محكوما بحكم أحدهما بلا تغيير العنوان، ونفي أحد الحكمين بالأصل لا يثبت الاخر.
نعم، لا بأس بالتمسك بالعام من غير احتياج إلى الأصل لو كانت الشبهة المصداقية ناشئة عن الجهل بالمخالفة الذي كان أمر رفعه بيد
المولى، مثل الشك في مخالفة الشرط أو الصلح للكتاب، ولعل بناء المشهور في تمسكهم بالشبهة المصداقية مختص بأمثال المورد. انتهى
ملخصا.
وفيه: أنه إن كان المراد من عدم انقلاب العام عدمه بحسب مقام الظهور فلا إشكال فيه، لكن لا يمنع ذلك عن جريان الأصل.
وإن كان المراد أن الموضوع - بحسب الجد - بقية الافراد بلا عنوان وتقيد، فهو ممنوع، ضرورة أن الخاص يكشف عن أن الحكم
الجدي متعلق بأفراد العالم الغير الفاسق، ولا سبيل لانكار تضييق الموضوع بحسب الجد.
والقياس بموت الفرد مع الفارق، لعدم كون الأدلة ناظرة إلى حالات

(1) مقالات الأصول 1: 152 / سطر 4 - 10.
257

الافراد الخارجية.
وأما ما ذكره أخيرا: من جواز التمسك في الشبهة المصداقية في مخالفة الكتاب، لأجل أن رفعها بيد المولى. ففي غاية الغرابة، لان الكلام
في الشبهة المصداقية للمخصص، ولا شبهة في أن رفعها لم يكن بيد المولى، وما بيده رفعها هي الشبهة الحكمية، لا المصداقية مما
فرضت من الأمور الخارجية. هذا، مع أن المثالين يكونان من الاستثناء المتصل بحسب الأدلة، مما لا يجوز التمسك فيه بالعام بلا إشكال.
حجة القول بجريانه مطلقا: أن مثل تلك الأوصاف - أي القرشية، والقابلية للذبح، ومخالفة الكتاب والسنة - من أوصاف الشئ في
الوجود الخارجي، لا من لوازم الماهيات، فيمكن أن يشار إلى مرأة، فيقال: (إن هذه المرأة لم تكن قرشية قبل وجودها)، فيستصحب
عدمها، ويترتب عليه حكم العام، لان الخارج من العام هو المرأة التي من قريش، والتي لم تكن منه بقيت تحته، فيحرز موضوع حكم
العام بالأصل.
وقد يقال في تقريبه: إن العام شامل لجميع العناوين، وما خرج منه هو عنوان الخاص، وبقي سائرها تحته، فمع استصحاب عدم
انتساب المرأة إلى قريش أو عدم قرشيتها ينقح موضوع العام (1).
وقد يقال: إن أخذ عرض في موضوع حكم بنحو النعتية ومفاد (كان) الناقصة، لا يقتضي أخذ عدمه نعتا في موضوع عدم ذلك الحكم،

(1) الكفاية 1: 346.
258

ضرورة أن ارتفاع الموضوع المقيد بما هو مفاد (كان) الناقصة إنما يكون بعدم اتصاف الذات بذلك القيد على نحو السالبة المحصلة، لا
على نحو (ليس) الناقصة.
فمفاد قضية (المرأة تحيض إلى خمسين إلا القرشية): أن المرأة التي لا تكون متصفة بكونها من قريش تحيض إلى خمسين، لا المرأة
المتصفة بأن لا تكون منها، والفرق بينهما: أن القضية الأولى سالبة محصلة، والثانية مفاد (ليس) الناقصة، فلا مانع من جريان الأصل
لاحراز موضوع العام (1).
في جريان الأصل المحرز لموضوع العام
ونحن قد استقصينا البحث عن هذا الأصل في البراءة (2) والاستصحاب (3)، لكن نشير إلى ما هو التحقيق إجمالا، وهو يتوقف على
مقدمات:
الأولى: أقسام القضايا بلحاظ النسبة:
قد تقدم في وضع الهيئات أن القضايا على قسمين: حملية غير مؤولة، وحملية مؤولة. والقسم الأول لا يشتمل على النسبة، لا موجباتها ولا
سوالبها،

(1) أجود التقريرات 1: 468 - 469.
(2) تهذيب الأصول 2: 275 - 283.
(3) الرسائل - للمصنف قدس سره - رسالة في الاستصحاب: 138 - 144.
259

بل تحكي القضية بهيئتها عن الهوهوية إيجابا أو سلبا، كقوله: (الانسان حيوان ناطق)، و (زيد إنسان، أو موجود، أو أبيض)، وأضرابها.
والقسم الثاني يشتمل على النسبة، لكن موجباتها تحكي عن تحقق النسبة الواقعية، وفي السوالب تتخلل أداة النسبة لورود السلب عليها،
فتحكي السوالب عن عدم تحققها واقعا، ف (زيد على السطح) يحكي عن تحقق النسبة والكون الرابط، و (زيد ليس على السطح) عن عدمه.
ولا يخفى أن الكون الرابط يختص بموجبات تلك القضايا، وأما القسم الأول فلا يشتمل عليه ولا يحكي عنه، لعدم تحقق النسبة والكون
الرابط بين الشئ ونفسه أو متحداته. وكذا السوالب لا تحكي عنهما، بل تدل على رفعهما وقطعهما.
الثانية: مناط الصدق والكذب في القضايا:
إن المناط في احتمال الصدق والكذب في القضايا هو الحكاية التصديقية، سوأ كانت عن الهوهوية إثباتا ونفيا أو عن الكون الرابط
كذلك، والدال على الحكاية التصديقية هيئات الجمل الخبرية، فقوله: (زيد إنسان) مشتمل على موضوع، ومحمول، وهيئة حاكية عن
الهوهوية الواقعية، ولا يشتمل على النسبة، وقوله: (زيد له القيام، أو على السطح) مشتمل على:
موضوع: ومحمول، وحرف دال على النسبة، وهيئة دالة على الحكاية التصديقية عن تحقق القيام له، أو كونه على السطح.
260

وبالجملة: ما يجعل الكلام محتملا للصدق والكذب هو الحكاية التصديقية عن نفس الامر، لا النسبة، ضرورة عدم إمكان اشتمال
الحمليات الغير المؤولة على النسبة مع احتمال الصدق والكذب فيها.
فما اشتهر بينهم: أن النسبة تامة وناقصة، ليس على ما ينبغي، فإنها في جميع الموارد على نهج واحد، فالنسبة في قوله: (زيد له القيام)، و
قوله:
(زيد الذي له القيام) بمعنى واحد، وإنما الفرق بين الجملتين بهيئتهما، فإن الهيئة الخبرية وضعت للحكاية التصديقية بخلاف غيرها.
ثم إن مناط الصدق والكذب هو مطابقة الحكاية لنفس الامر وعدمها، فقولنا: (الله تعالى موجود) حكاية تصديقية عن الهوهوية بين
الموضوع والمحمول، ومطابق لنفس الامر، بخلاف: (الله له الوجود)، فإنه حكاية تصديقية عن عروض الوجود له تعالى، وهو مخالف
للواقع، وقولنا:
(شريك الباري ليس بموجود) مطابق لنفس الامر، لأنه حكاية عن خلو صفحة الوجود عنه، والواقع كذلك، بخلاف: (شريك الباري غير
موجود، أو لا موجود) بنحو الايجاب العدولي، لان الموجبة - مطلقا - تحتاج إلى وجود الموضوع في ظرف الاخبار، وشريك الباري
ليس في نفس الامر شيئا ثابتا له غير الموجودية، إلا أن يؤول بالسالبة المحصلة، كالتأول في مثل: (شريك الباري ممتنع، أو معدوم).
فتحصل: أن مناط الصدق والكذب في السوالب مطابقة الحكاية التصديقية، لنفس الامر، بمعنى أن الحكاية عن سلب الهوهوية أو سلب
الكون
261

الرابط كانت مطابقة للواقع، لا بمعنى أن لمحكيها نحو واقعية بحسب نفس الامر، ضرورة عدم واقعية للاعدام.
الثالثة: القضايا المفتقرة إلى وجود الموضوع:
القضية موجبة وسالبة، وكل منهما بسيطة ومركبة، وكل منهما محصلة أو غيرها. والموجبة المحصلة نحو: (زيد قائم)، والمعدولة نحو:
(زيد لا قائم)، والموجبة السالبة المحمول نحو: (زيد هو الذي ليس بقائم)، كلها تحتاج إلى وجود الموضوع، لان ثبوت شي لشئ فرع
ثبوت المثبت له، سوأ كان الثابت وجوديا أو لا، وكذا اتحاد شي مع شي في ظرف فرع تحققهما فيه.
ففي قوله: (زيد لا قائم) اعتبرت الهوهوية بين زيد وعنوان اللا قائم، والاتحاد في ظرف فرع تحقق المتحدين بنحو، ولهذا قلنا: إن
المعتبر في المعدولات كون الاعدام من قبيل أعدام الملكات، حتى يكون لملكاتها نحو تحقق، فلا يصدق قوله: (الجدار لا بصير)، و
يصدق: (الانسان لا بصير)، أي يتحد مع حيثية هي لا بصيرية قابلة للفعلية.
وكذا الحال في الموجبة السالبة المحمول، فإن قولنا: (زيد هو الذي ليس له القيام) يرجع إلى توصيف زيد بثبوت وصف عدمي له، أو
توصيفه بعدم ثبوت وصف له، فلا بد له من وجود الموضوع، وكون المحمول جائز الثبوت له مما له نحو ثبوت، كأعدام الملكات مثلا.
فجميع الموجبات معتبر فيها وجود
262

الموضوع، حتى التي تكون محمولاتها سالبة.
الرابعة: ضرورية كون موضوع الحكم مفردا:
موضوع الحكم سوأ كان في الجملة الخبرية أو الانشائية لا بد وأن يكون مفردا، أو في حكمه، كالجمل الناقصة، ولا يمكن جعل الجملة
الخبرية - موجبة كانت أو سالبة - موضوعا لحكم إخباري أو إنشائي، لان الحكاية عن موضوع الحكم لا بد وأن تكون تصورية مقدمة
للحكاية التصديقية المتقومة بالهيئة الخبرية، ومقدمة لجعل الحكم عليه، وهي لا تجتمع مع الحكاية التصديقية التي بها تمت الجملة، ولا
يجتمع النقص والتمام والحكاية التصديقية والتصورية في جملة واحدة وحال واحد، ولو بتكثر الاعتبار.
فلو قلت: (زيد قائم) غير (عمرو قاعد) لم تكن الحكاية التصديقية فيه إلا عن مغايرة الجملتين، لا عن قيام زيد وقعود عمرو. وكذا
الحال في موضوع الاحكام الانشائية.
نعم، يمكن أن يجعل موضوعهما جملا ناقصة إذا خرجت عن النقص، تكون موجبة، أو سالبة محصلة، مثل (زيد ليس بقائم) غير (عمرو
ليس بقاعد)، أو موجبة وسالبة معدولة أو سالبة المحمول، مثل: (المرأة الغير القرشية كذا)، أو (المرأة التي ليست بقرشية كذا).
263

الخامسة: في اعتبارات موضوع العام المخصص:
قد عرفت فيما تقدم أن الخاص سوأ كان بنحو الاستثناء، أو الانفصال يكشف عن تضييق ما هو موضوع العام، وتقييده بحسب الإرادة
الجدية.
ولا يمكن تعلق الحكم الفعلي الجدي بوجوب إكرام كل عالم بلا قيد، مع كونه مخصصا بعدم إكرام الفساق منهم، لا لأجل التضاد بين
الحكمين، حتى يقال: إنه مرفوع بتكثر الموضوع في ذاتهما، بل لأجل أن المولى الملتفت إلى موضوع حكمه لا تتعلق إرادته الجدية
بالحكم عليه إلا بعد تحقق المقتضي وعدم المانع. فإذا رأي أن في إكرام العلماء العدول مصلحة لا غيرهم فلا تتعلق إرادته إلا بإكرامهم،
أو رأي أن في إكرام عدو لهم مصلحة بلا مفسدة، وفي إكرام فساقهم مصلحة مع مفسدة راجحة، تتعلق إرادته بإكرام عدولهم، أو ما عدا
فساقهم.
وليس باب التخصيص كباب التزاحم، حتى يقال: إن المزاحمة في مقام العمل لا توجب رفع فعلية الحكم عن موضوعه.
فحينئذ نقول: إن موضوع العام بعد التخصيص بحسب الحكم الفعلي الجدي يمكن أن يكون متقيدا بنحو العدم النعتي على حذو العدول،
مثل:
(العلماء الغير الفساق) و (المرأة الغير القرشية)، ويمكن أن يكون بنحو العدم النعتي على حذو الموجبة السالبة المحمول، مثل: (العلماء
الذين لا يكونون فساقا)، أو (المرأة التي لا تتصف بأنها قرشية، أو لا تكون قرشية).
264

وأما كون الموضوع على حذو السالبة المحصلة الصادقة مع عدم الموضوع فغير معقول، للزوم جعل الحكم على المعدوم بما هو معدوم،
فهل يمكن أن يقال: (إن المرأة ترى الدم إلى خمسين إذا لم تكن من قريش) بنحو السلب التحصيلي الصادق مع سلب الموضوع، فيرجع
إلى أن المرأة التي لم توجد ترى الدم؟ فلا بد من فرض وجود الموضوع، فيكون الحكم متعلقا بالمرأة الموجودة إذا لم تكن من قريش، و
هذا إن لم يرجع إلى التقييد بهذا السلب يكون قسما ثالثا.
فالاعتبارات التي يمكن أن تؤخذ في موضوع العام المخصص لا تخلو عن العدم النعتي العدولي، أو السالبة المحمول، أو السلب
التحصيلي، مع اعتبار وجود الموضوع لو لم يرجع إلى التقييد والنعت. التحقيق في المقام:
إذا عرفت ذلك فالتحقيق: جريان الأصل وإحراز مصداق العام فيما إذا كان الفرد موجودا متصفا بعنوان العام أو بغير عنوان الخاص
سابقا، كما لو كان فرد من العلماء عادلا، فشك في بقاء عدالته، كما يجري ويحرز فيما إذا علم بوجود العالم متصفا بعدم الفسق وشك
في بقاء علمه، فيقال: إن زيدا كان عالما غير فاسق، فشك في بقاء علمه، فيستصحب عنوان العام المخصص، ويحرز الموضوع.
نعم لو كان زيد غير فاسق، وشك في بقاء عدمه النعتي، ولكن لم يكن
265

علمه في حال عدم فسقه متيقنا، حتى يكون المعلوم العالم الغير الفاسق، ولكن علم أنه عالم في الحال، لم يمكن إحراز موضوع العام
بالأصل والوجدان، لأن استصحاب عدم كون زيد فاسقا، أو كونه غير فاسق، مع العلم بأنه عالم في الحال، لا يثبت زيدا العالم الغير
الفاسق - لاحراز موضوع العام - إلا بالأصل المثبت.
وبعبارة أخرى: إن موضوعه هو العالم المتصف بعدم كونه فاسقا، فجزؤه عدم نعتي للعالم، وهو غير مسبوق باليقين، وما هو مسبوق
به هو زيد المتصف بعدم الفسق، وهو ليس جزه، و استصحاب العدم النعتي لعنوان لا يثبت العدم النعتي لعنوان متحد معه إلا بحكم
العقل، وهو مثبت، وتعلق العلم بأن زيدا العالم - في الحال - لم يكن فاسقا بنحو السلب التحصيلي لا يفيد، لعدم كونه بهذا الاعتبار
موضوعا للحكم.
ومن هذا ظهر عدم إمكان إحراز جزأي الموضوع بالأصل، إذا شك في علمه وعدالته مع العلم باتصافه بهما سابقا لو لم يعلم اتصافه
بهما في زمان واحد، حتى يكون (العالم الغير الفاسق) مسبوقا باليقين، فالمناط في صحة الاحراز هو مسبوقية العدم النعتي لعنوان
العام، لا العدم النعتي مطلقا، فتبصر.
وأما إذا كان الاتصاف واللا اتصاف ملازمين لوجوده، كالقابلية واللا قابلية للذبح في الحيوان، والقرشية واللا قرشية في المرأة، و
المخالفة وعدمها للكتاب في الشرط، فجريان الأصل لاحراز مصداق العام مما لا مجال له،
266

سوأ قلنا: بأن الوصف من قبيل العدم النعتي بنحو العدول، كما إذا قلنا:
بأن المستفاد من العام بعد التخصيص كون الموضوع هو المرأة الغير القرشية، والشرط الغير المخالف. وهكذا، أو بنحو الموجبة
السالبة المحمول، كالمرأة التي ليست بالقرشية، والشرط الذي ليس مخالفا للكتاب.
وذلك لما عرفت: من أن الايجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول يحتاجان إلى الموضوع، فإن في كل منهما يكون الموضوع
متصفا بوصف، فكما أن المرأة الغير القرشية تتصف بهذه الصفة، كذلك المرأة التي لم تتصف بالقرشية، أو لم تكن قرشية، موصوفة
بوصف أنها لم تتصف بذلك، أو لم تكن كذلك.
والفرق بالعدول وسلب المحمول غير فارق فيما نحن فيه، فالمرأة قبل وجودها كما لا تتصف بأنها غير قرشية، لان الاتصاف بشي
فرع وجود الموصوف، كذلك لا تتصف بأنها هي التي لا تتصف بها، لعين ما ذكر.
وتوهم أن الثاني من قبيل السلب التحصيلي ناش من الخلط بين الموجبة السالبة المحمول وبين السالبة المحصلة. والقيد في العام - بعد
التخصيص - يتردد بين التقييد بنحو الايجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول، ولا يكون من قبيل السلب التحصيلي، مما لا يوجب
تقييدا في الموضوع.
ولو سلم أن الموضوع بعده (العالم) مسلوبا عنه الفسق بالسلب التحصيلي، فلا يجري فيه الأصل - أيضا - لاحرازه، إذ قد عرفت أن
السلب التحصيلي الأعم من وجود الموضوع لا يعقل جعله موضوعا، فلا بد من
267

أخذ الموضوع مفروض الوجود، فيكون العالم الموجود إذا لم يكن فاسقا موضوعا.
وهذا - مضافا إلى كونه مجرد فرض - أن صحة الاستصحاب فيه منوطة بوحدة القضية المتيقنة مع المشكوك فيها، وهي مفقودة، لان
الشئ لم يكن قبل وجوده شيئا لا ماهية ولا وجودا، والمعدوم لا يقبل الإشارة لا حسا ولا عقلا، فلا تكون هذه المرأة - الموجودة - قبل
وجودها هذه المرأة، بل تكون تلك الإشارة من أكذوبة الواهمة واختراعاتها.
فالمرأة المشار إليها في حال الوجود ليست موضوعة للقضية المتيقنة الحاكية عن ظرف العدم، لما عرفت أن القضايا السالبة لا تحكي
عن النسبة، ولا عن الوجود الرابط، ولا عن الهوهوية بوجه، فلا تكون للنسبة السلبية واقعية حتى تكون القضية حاكية عنها، فانتساب
هذه المرأة إلى (قريش) مسلوب أزلا، بمعنى مسلوبية (هذية) المرأة و
[القرشية]
والانتساب، لا بمعنى مسلوبية الانتساب عن هذه المرأة
وقريش، وإلا يلزم كون الاعدام متمايزة حال عدمها، وهو واضح الفساد، فالقضية المتيقنة غير القضية المشكوك فيها.
بل لو سلم وحدتهما كان الأصل مثبتا، لان المتيقن هو عدم كون هذه المرأة قرشية باعتبار سلب الموضوع، أو الأعم منه ومن سلب
المحمول، واستصحاب ذلك وإثبات الحكم للقسم المقابل أو الأخص مثبت، لان انطباق العام على الخاص - في ظرف الوجود - عقلي، و
هذا كاستصحاب
268

بقاء الحيوان في الدار وإثبات حكم قسم منه بواسطة العلم بالانحصار.
فقد اتضح مما ذكرنا: عدم جريان استصحاب الاعدام الأزلية في أمثال المقام مطلقا.
التنبيه الرابع في التمسك بالعام لكشف حال الفرد
قد عرفت عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص، فلا مجال للتمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر إذا شك في صحة
الوضوء بمائع مضاف، فضلا عن دعوى كشف حال الفرد والحكم بصحته مطلقا، ضرورة أن العموم قد خص بمثل: (لا نذر إلا في طاعة
الله) (1) أو قيد به، فلا بد من إحراز الموضوع للحكم بالوجوب، والعام غير كفيل به، فضلا عن كفالته لكشف الصحة وكونه طاعة لله، أو
لكشف إطلاق الماء مع الشك فيه.
هذا، وقد أيد المحقق الخراساني (2) تلك الدعوى بما ورد من صحة الاحرام قبل الميقات (3) والصوم في السفر إذا تعلق بهما النذر (4)، و
أضاف شيخنا

(1) انظر كنز العمال 16: 713 / 46478 بتفاوت يسير في ألفاظه.
(2) الكفاية 1: 348.
(3) الوسائل 8: 236 باب 13 من أبواب المواقيت.
(4) الكافي 4: 143 / 9 باب من جعل على نفسه صوما. من كتاب الصوم، الوسائل 7:
141 / 7 باب 10 من أبواب من يصح منه الصوم.
269

العلامة - أعلى الله مقامه - نذر النافلة قبل الفريضة (1)، مع أن الأمثلة غير مربوطة بالدعوى، لان المدعى التمسك بالعام المخصص لكشف
حال الفرد، وهي ليست من هذا القبيل، فإن الاحرام قبل الميقات حرام، وبالنذر يصير واجبا بدلالة الاخبار، وكذا الصوم في السفر، و
صيرورة الشئ بالنذر واجبا بدليل خاص غير التمسك بالعموم لكشف حال الفرد.
التنبيه الخامس في التمسك بالعام عند الشك بين التخصيص والتخصص
لو علم عدم محكومية فرد بحكم العام، ودار أمره بين التخصيص والتخصص، فهل يجوز التمسك بأصالة العموم لكشف حال الفرد،
فيقال:
إن إكرام جميع العلماء واجب بحكم أصالة العموم، فإذا لم يجب إكرام شخص يستكشف أنه ليس بعالم بحكم عكس النقيض، كما أن صدق
(كل نار حارة) ملازم لصدق (كل ما لم يكن حارا لم يكن نارا) (2)؟ الظاهر: عدم جواز التمسك، لا لما ذكره المحقق الخراساني (3)، وقرره
تلميذه المحقق في مقالاته (4): من أن أصالة العموم وإن كانت حجة، لكن غير

(1) درر الفوائد 1: 188.
(2) مطارح الانظار: 196 / سطر 12 - 14.
(3) الكفاية 1: 350 - 352.
(4) مقالات الأصول 1: 153 - 154.
270

قابلة لاثبات اللوازم، ومثبتات هذا الأصل كسائر الأصول المثبتة، مع كونه أمارة في نفسه، فحينئذ لا مجال للتمسك بعكس النقيض، فإنه
وإن كان لازما عقليا للعام، لكن ذلك اللازم إنما يترتب عليه لو فرض حجية أصالة العموم لاثبات لازم المدلول.
ووجه التفكيك بين اللازم والملزوم عدم نظر العموم إلى تعيين صغرى الحكم نفيا وإثباتا، وإنما نظره إلى إثبات الكبرى، كما هو
المبنى في عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وما نحن فيه - أيضا - مبني على هذه الجهة. انتهى
ملخصا
وذلك لان عكس النقيض لازم للكبرى الكلية، ولا يلزم أن يكون العام ناظرا إلى تعيين الصغرى في لزومه لها، فإذا سلم جريان أصالة
العموم وكونها أمارة، فلا مجال لانكار حجيتها بالنسبة إلى لازمها
[غير المنفك]
فلا يصح أن يقال: إن العقلا يحكمون بأن كل فرد من
العام محكوم بحكم العام واقعا ومراد جدا من غير استثناء، ومعه يحتمل عندهم أن يكون فرد منه غير محكوم بحكمه، إلا أن يلتزم
بأنها أصل تعبدي لا أمارة.
بل عدم الصحة لأجل عدم جريانها في مثل المقام، لان المتيقن من جريانها إنما هو لكشف مراد المتكلم، وأما مع العلم بمراده والشك
في جهات أخر فلا تجري، لا أنها جارية ومنفكة عن لازمها، وهذا نظير أصالة الحقيقة التي
[هي]
جارية مع الشك في المراد، لا لكشف
الوضع، فبعد العلم بعدم وجوب إكرام شخص لا أصل يحرز أنه من قبيل التخصيص أو التخصص، فتدبر.
271

التنبيه السادس في التمسك بالعام إذا كان المخصص مجملا
لو دل دليل - منفصلا - على عدم وجوب إكرام زيد، وكان مرددا بين الجاهل والعالم، فالظاهر جواز التمسك بالعام لوجوب إكرام
العالم منهما، لان المجمل المردد ليس بحجة بالنسبة إلى العالم، والعام حجة بلا دافع.
فحينئذ لو كان الخاص حكما إلزاميا كحرمة الاكرعم، أمكو أن يقال بانحلال العلم، بمعنى أن أصالة العموم حاكمة بأن زيدا العالم يجب
إكرامه، ولازمه عدم حرمة إكرامه، ولازمه حرمة إكرام زيد الجاهل، لحجية مثبتات، الأصول هللفظية، فتنحل بذلك - حكما - الحجة
الاجمالية التي لولا العام لوجب بحكم العقل متابعتها، وعدم جواز إكرام واحد منهما.
وقد سوى الشيخ الأعظم بين الفرض والذي تقدم في الأمر الخامس، قائلا: بأنه على ذلك - أي جواز التمسك - جرى ديدن العلماء في
مباحثهم الفقهية (1).

(1) مطارح الأنظار: 196 / سطر 15.
272

الفصل الثالث هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص؟
ينبغي تقديم أمور:
الأمر الأول:
أن محط البحث على ما صرح به المحقق الخراساني (1) إنما هو بعد الفراغ عن أن حجية أصالة العموم من باب الظن النوعي، لا الظن
الخاص، وبعد الفراغ عن حجيتها بالنسبة إلى المشافه وغيره، وبعد الفراغ عن عدم العلم الاجمالي بالتخصيص، ضرورة أنه لو كانت
الحجية للظن الشخصي لكانت تابعة لحصوله، ولا مدخل للفحص وعدمه فيه، وأنه مع العلم الاجمالي لا مجال لانكار الفحص إلى أن
ينحل العلم.
ولكن ظاهرهم أعمية البحث هاهنا، لتمسكهم بالعلم الاجمالي

(1) الكفاية 1: 352.
273

بالمخصص (1)، ونحن نبحث على فرض العلم وعدمه.
الأمر الثاني:
لا إشكال في أن البحث منحصر بالمنفصلات، دون المتصلات باحتمال عدم الوصول، لعدم اعتناء العقلا به، لان احتماله منحصر
بسقوطه عمدا، أو خطا، أو نسيانا، والأول مخالف لفرض وثاقة الراوي، والأخيران مخالفان للأصل العقلائي، وسيظهر أن مناط لزوم
الفحص ليس في المتصل.
الأمر الثالث:
فرق المحقق الخراساني بين الفحص هاهنا وبينه في الأصول العملية، قائلا: بأن الفحص هاهنا عما يزاحم الحجة، بخلافه هناك، فإنه من
متمماتها، ضرورة أن العقل لا يستقل بقبح العقاب مع البيان الواصل بنحو متعارف، وإن لم يصل إلى المكلف بواسطة عدم فحصه (2).
والتحقيق: أن الفحص هاهنا - أيضا - عن متمم الحجية، لا عن مزاحمها، ويتضح بعد بيان دليل لزوم الفحص (3)، فانتظر.
الأمر الرابع:
أن البحث لا يختص بالعام ولا بالأدلة اللفظية، بل يجري في المطلق قبل الفحص عن المقيد، وفي الظاهر قبل الفحص عن معارضه، و
في الأصول العقلية قبل الفحص عن الأدلة، ومناط الجميع واحد، كما سيتضح لك.

(1) مطارح الأنظار: 202 / سطر 15 - 23.
(2) الكفاية 1: 354.
(3) وذلك في صفحة: 276 من هذا الجزء.
274

إذا عرفت ما تقدم فالتحقيق: ما أفاد المحقق الخراساني في المقام (1)، وتوضيحه: أن الشارع لم يسلك في مخاطباته غير ما سلك العقلا،
بل جرى في قوانينه على ما جرت به عادة العقلا وسيرتهم.
لكن ديدنهم في المخاطبات العادية والمحاورات الشخصية، بين الموالي والعبيد وغيرهم عدم
[فصل]
المخصصات والمقيدات و
القرائن، ولهذا تكون العمومات والمطلقات الصادرة منهم في محيط المحاورات حجة بلا احتياج إلى الفحص، ولا يعتني العقلا باحتمال
المخصص والمقيد المنفصلين، ويعلمون بالعمومات والاطلاقات بلا انتظار. هذا حال المحاورات الشخصية.
وأما حال وضع القوانين وتشريع الشرائع لدى جميع العقلا، فغير حال المحاورات الشخصية، فترى أن ديدنهم في وضع القوانين ذكر
العمومات والمطلقات في فصل ومادة، وذكر مخصصاتها ومقيداتها وحدودها تدريجا ونجوما في فصول اخر.
والشارع الصادع جرى في ذلك على ما جرت به طريقة كافة العقلا، فترى أن القوانين الكلية في الكتاب والسنة منفصلة عن
مخصصاتها ومقيداتها، فالاحكام والقوانين نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله نجوما في سنين متمادية، وبلغها حسب المتعارف
في تبليغ القوانين للأمة، وجمع علماؤها بتعليم أهل بيت الوحي القوانين في

(1) الكفاية 1: 353.
275

أصولهم وكتبهم.
فإذن تكون أحكامه تعالى قوانين مدونة في الكتاب والسنة والعمومات والمطلقات التي فيها في معرض التخصيص والتقييد، حسب
ديدن العقلا في وضع القوانين السياسية والمدنية، وما هذا حاله ليس بناء العقلا على التمسك
[فيه]
بالأصول بمجرد العثور على
العمومات والمطلقات من غير فحص، لان كونهما في معرض المعارضات يمنعهم عن إجراء أصالة التطابق بين الاستعمال والجد، ولا
يكون العام حجة إلا بعد جريان هذا الأصل العقلائي، وإلا فبمجرد ظهور الكلام وإجراء أصالة الحقيقة والظهور لا تتم الحجية، فأصالة
التطابق من متمماتها لدى العقلا.
وقد ظهر مما ذكرنا أمور:
منها: أن المناط في الفحص ليس العلم الاجمالي، بل مع عدم العلم - أيضا - يجب الفحص.
ومنها: أن الفحص هاهنا - أيضا - عن متمم الحجة، لا عن مزاحمها، فكما أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تجري إلا بعد الفحص، لتحقق
التبليغ من قبل الشارع وعلماء الأمة بالجمع في الكتب، ولا عذر للعبد في ترك الفحص، كذلك الاحتجاج بالعمومات والمطلقات و
العمل بها لا يجوز إلا بعد الفحص، فيكون ذلك مقدمة لاجراء الأصل العقلائي، وبه تتم الحجة.
إن قلت: ما ذكرت غير صحيح، لما ذكرت في باب التعادل
276

والتراجيح (1): من أن المطلقات حجة فعلية غير معلقة على المقيدات الواقعية، بل هي بعد وصولها من قبيل المزاحم، ويتم بها أمد الحجية.
قلت: حيثية البحث هاهنا غيرها هناك، لان الكلام هاهنا في لزوم الفحص، وقد عرفت عدم حجية عام ولا مطلق إلا بعده، وأما بعد
الفحص المتعارف فيصيران حجة فعلية، فلو عثرنا بعده على مقيدة ينتهي به أمد الحجية، ولا يكون المطلق معلقا على عدم البيان
الواقعي، بحيث يكون العثور عليه كاشفا عن عدم حجيته. وبالجملة: لا فرق بين العام والمطلق من هذه الجهة.
هذا كله فيما إذا كان المستند غير العلم الاجمالي.
وأما الكلام فيه فقد استدل له: بأنا نعلم إجمالا بورود مخصصات ومقيدات في الشريعة، فلا محيص عن الفحص عنها (2).
وقد استشكل عليه تارة: بأن الدليل أعم من المدعي، لان الفحص اللازم في الكتب التي بأيدينا لا يرفع أثر العلم، لكونه متعلقا
بالمخصصات في الشريعة، لا في الكتب فقط، فلا بد من الاحتياط حتى بعد الفحص (3).
وأخرى: بأنه أخص منه، لان العلم إذا صار منحلا بمقدار العثور على المتيقن لا بد من الالتزام بجواز التمسك، والقوم لا يلتزمون به (4).

(1) الرسائل - للمصنف قدس سره - رسالة في التعادل والتراجيح: 22 - 23.
(2) مطارح الأنظار: 202 / سطر 15 - 23.
(3) فوائد الأصول 2: 542.
(4) نهاية الأفكار 2: 530.
277

فأجابوا عن الأول: بأن العلم الاجمالي لا يتعلق إلا بما في الكتب التي بأيدينا دون غيرها.
وهذه الدعوى قريبة، فإن العلم بالمخصصات الصالحة للاحتجاج وجداني بالنسبة إلى الكتب التي بأيدينا، وأما في غيرها فلا علم لنا
بوجود أصول مفقودة ضائعة، فضلا عن العلم باشتمالها على المخصصات الكذائية، وفضلا عن كونها غير ما في الكتب الموجودة، وإنما
ادعى بعض فقدان بعض الأصول على نحو الاجمال، ومثله لا يورث علما بأصلها، فضلا عن مشتملاتها.
وأجاب بعض المحققين عن الثاني: بأن مقدار المعلوم وإن كان معلوما بحيث ينتهي الزائد إلى الشك البدوي، لكن هذا المقدار إذا كان
مرددا بين محتملات متباينات منتشرات في أبواب الفقه من أوله إلى آخره تصير جميع الشكوك في تمام الأبواب طرف العلم، فيمنع عن
الاخذ به قبل الفحص، وفي هذه الصورة لا يفيد الظفر بالمعارض بمقدار المعلوم، إذ مثل هذا العلم الحاصل جديدا بكون المعلوم
بالاجمال في غير الشكوك الباقية التي كانت طرفا من الأول للاحتمال في المتباينات، نظير العلوم الحاصلة بعد العلم الاجمالي غير
قابلة للانحلال، فالاحتمال الذي
[كان طرفا]
من الأول منجز (1).
وفيه: أنه بعد الاعتراف بأن للمعلوم قدرا متيقنا، فإن كان العلم تعلق

(1) مقالات الأصول 1: 155 / سطر 3 - 8.
278

بانتشاره في جميع الفقه - بحيث يكون في كل باب طائفة منه - فيكون له علمان: أحدهما بأصل المخصص بمقدار محدود، وثانيهما
بانتشاره في الأبواب من الأول إلى الاخر.
فحينئذ إن عثر على المقدار المعلوم في ضمن الفحص في جميع الأبواب، فلا مجال لعدم الانحلال ولو حكما، ضرورة احتمال انطباق
المعلوم من الأول على هذا المقدار، فلا يبقى أثر للعلم.
وإن عثر عليه في بعض الأبواب قبل الفحص في سائرها فلا محالة يخطأ أحد علميه: إما علمه بالمقدار المحدود، فيتجدد له علم آخر
بوجود المخصص في سائر الأبواب، وهو خلاف المفروض، وإما علمه بالانتشار في جميع الأبواب، فلا محيص عن الانحلال.
وأجاب بعض الأعاظم عنه بما حاصله (1): أن العلم الاجمالي تارة: يكون غير معلم بعلامة، ومثله ينحل بعد العثور على المقدار المتيقن،
لان هذا المقدار من أول الأمر معلوم، والزائد مشكوك فيه.
وأخرى: يكون معلما بعلامة، ومثله لا ينحل بذلك، لعدم الرجوع إلى العلم بالأقل والشك في الأكثر من أول الأمر، بل يتعلق العلم بجميع
الأطراف، بحيث لو كان الأكثر واجبا لكان مما تعلق به وتنجز بسببه، وليس الأكثر مشكوكا فيه من أول الأمر، كما إذا علم بأنه مديون
لزيد بما في الدفتر، فإن جميع ما فيه من دين زيد تعلق به العلم، لمكان وجوده فيه، وتعلق

(1) فوائد الأصول 2: 543 - 545.
279

العلم بجميع ما فيه، وأين هذا مما كان دينه من أول الأمر مرددا بين الأقل والأكثر؟ فلنا علمان: أحدهما: تعلق بما في الدفتر، ومقتض
للتنجز بجميع ما فيه، والثاني: بأن دين زيد عشرة أو خمسة: والثاني لا يقتضي الاحتياط، واللا مقتضي لا يزاحم المقتضي.
ونظيره: ما إذا علم بأن البيض في هذا القطيع موطوءة، فأوجب العلم التنجيز بالنسبة إلى كل أبيض فيه، فلو عثر على مقدار متيقن من
البيض الموطوءة، فليس له إجراء أصالة الحل بالنسبة إلى الزائد. انتهى.
وفيه ما لا يخفى، ضرورة أن العلم الاجمالي إذا تعلق بعنوان غير ذي أثر لا يوجب التنجز بذلك العنوان، فلا بد من لحاظ ما له أثر، فإن
دار أمره بين الأقل والأكثر ينحل العلم بلا ريب، وما نحن فيه من هذا القبيل، لان الكون في الكتب كالكون في الدفتر مما لم يكن
موضوعا ولا جز موضوع لحكم، وما هو الموضوع للأثر نفس المخصصات، والكتب ظرفها بلا دخالة في التأثير.
وهذا نظير ما إذا كانت دنانير مرددة بين الأقل والأكثر في كيس فأتلفه، فلا إشكال في تعلق علمه بأن ما في الكيس صار مضمونا
عليه، سوأ كان أقل أو أكثر، لكن مجرد ذلك لا يوجب إصابة العلم بالأكثر، بل لا يزيد عن الدوران بين الأقل والأكثر بالبداهة.
فلو كانت أمثال تلك العلامات موجبة لتنجز الأكثر فما من مورد إلا وينطبق على المعلوم عنوان نظير ما ذكر، مثل: (ما في الكيس)، (ما
في
280

الدار)، (ما أقرضني)، (ما سلم إلي)، وأشباهها.
وما ادعي: من أن العلم إذا تعلق بما في الدفتر يوجب إصابة العلم بالأكثر، فاسد، لان ما في الدفتر المردد بين الأقل والأكثر لا يعقل أن
يكون أكثره متعلقا للعلم، ولا صيرورته منجزا به، بل لو كان العنوان المتعلق للعلم ذا أثر - مثل عنوان الموطوء - وكان منحلا إلى
التكاليف الدائرة بين الأقل والأكثر، لم يوجب العلم تنجيز غير ما هو المتيقن، أي الأقل. نعم لو كان العنوان بسيطا، وكان الأقل و
الأكثر من محصلاته، وجب الاحتياط، لكنه أجنبي عما نحن فيه.
ثم إن مقدار الفحص بناء على كون مبني وجوبه العلم الاجمالي إلى حد ينحل العلم، وقد عرفت انحلاله.
وبناء على كون مبناه معرضية العمومات للتخصيص إلى مقدار اليأس عن المخصص والمعارض، فلا بد من بذل الجهد بالمقدار الميسور
حتى يخرج العام عن معرضيته، ويجري الأصل العقلائي. وقد ذكرنا في باب الاجتهاد والتقليد ما له نفع بالمقام (1).

(1) الرسائل - للمصنف قدس سره - رسالة الاجتهاد والتقليد: 96 - 99.
281

الفصل الرابع في عموم الخطابات الشفاهية لغير الحاضرين
هل الخطابات الشفاهية مثل: يا أيها الناس تعم غير الحاضرين، حتى المعدومين؟ وينبغي التنبيه على أمور:
الأمر الأول:
أن ظاهر العنوان كظاهر بعض استدلالاتهم هو أن النزاع في جواز خطاب المعدوم والغائب، ويكون النزاع - على فرض عقليته - في
إمكانه وعدمه.
وهو وإن لا يبعد عن مثل الحنابلة، لكن النزاع العقلي المعقول يمكن أن يكون في أن ألفاظ العموم التي
[جاءت]
تلو أداة النداء و
أشباهها، مما تكون خطابا هل تعم المعدومين والغائبين، كما تعمهم ولو في ظرف وجودهم
283

لو لم تكن مقرونة بها، أو لا، حتى يرجع النزاع العقلي إلى أنه هل يستلزم التعميم مخاطبتهما، حتى يمتنع، أولا، فيكون النزاع في
الملازمة وعدمها؟ وهذا يناسب مبحث العام، لا ظاهر العنوان، لان إمكان مخاطبتهما وعدمه غير مربوط به، بل المناسب له هو شمول
ألفاظ العموم لهم وعدمه، بعد كونها تلو الخطابات الشفاهية.
الأمر الثاني:
صريح الشيخ الأعظم: خروج مثل قوله: (لله على الناس حج البيت) (1)،
وقوله: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان) (2) مما لم يصدر بألفاظ النداء
وأداة الخطاب عن محط النزاع، وأنه لم يعهد من أحد إنكار شموله لهما (3).
لكن الظاهر أن مناط النزاع العقلي يعمه أيضا، بأن يقال: هل يلزم من شمول أمثال تلك العناوين والاحكام لغير الموجودين تعلق
التكليف الفعلي بهم في حال العدم، وصدق العناوين عليهم كذلك، أو لا؟ فعلى الأول تختص بالموجودين، وعلى الثاني تعم غيرهم.
وما قيل: من أن أسماء الأجناس تشمل غير الموجودين بلا ريب (4) إن كان المراد منه شمولها لهم حال عدمهم فهو ضروري البطلان، و
إن كان المراد منه انطباقها عليهم في ظرف الوجود فهو حق، لكنه راجع إلى القضية

(1) آل عمران: 97.
(2) النساء: 7.
(3) مطارح الأنظار: 203 / سطر 34 - 35.
(4) فوائد الأصول 2: 548.
284

الحقيقية، وهو جواب الاشكال، كما سيأتي.
الأمر الثالث: أن حل الاشكال في بعض الصور لما كان مبنيا على بيان القضية الحقيقية لا بأس بالإشارة إليها، وإلى الفرق بينها وبين
الخارجية إجمالا، فنقول:
إن هذا التقسيم للقضايا الكلية، وأما الشخصية مثل: (زيد قائم) فخارجة عن المقسم. وفي القضايا الكلية قد يكون الحكم على الافراد
الموجودة للعنوان، بحيث يختص الحكم بما وجد فقط، من غير أن يشمل ما سيوجد أو ما كان موجودا، وذلك بأن يتقيد مدخول أداة
العموم بحيث لا ينطبق إلا عليها، كقوله: (كل عالم موجود في
[هذا]
الان كذا)، و (كل ما في هذا المعسكر كذا)، سوأ كان الحكم على
أفراد عنوان ذاتي، أو انتزاعي، أو عرضي، فلفظ (كل) لاستغراق أفراد مدخوله، والعنوان المتلو له - بعد التقيد المذكور - لا ينطبق إلا
على الافراد المحققة.
وأما القضية الحقيقية:
[فهي]
ما يكون الحكم فيها على أفراد الطبيعة القابلة للصدق على الموجود في الحال وغيره، مثل: (كل نار حارة)،
فلفظة (نار) تدل على نفس الطبيعة، وهي قابلة للصدق على كل فرد، لا بمعنى وضعها للافراد، ولا بمعنى كون الطبيعة حاكية عنها، بل
لا تدل إلا على نفس الطبيعة، وهي قابلة للصدق على الافراد، ومتحدة معها في الخارج، ولفظ (كل) دال على استغراق أفراد مدخوله من
غير أن يدل على الوجود أو العدم، ف (كل) وأشباهه - من كل لغة - لم يوضع للافراد بقيد الوجود أو في حاله،
285

ولهذا يصح أن يقال: إن كل فرد من الطبيعة إما موجود أو معدوم، بلا تأول.
وإضافة (كل) إلى الطبيعة تدل على كون الاستغراق متعلقا بما يتلوه، ولما لم يتقيد بما يجعله منحصر الانطباق على الافراد المحققة، فلا
محالة يكون الحكم على كل فرد منه في الماضي والحال والاستقبال، كل في موطنه، فالعقل يحكم بامتناع الصدق على المعدوم، فلم
تكن الطبيعة طبيعة ولا أفرادها أفرادا حال العدم، فلا محالة يكون الحكم في ظرف صدق الطبيعة على الافراد، ف (كل نار حارة) إخبار
عن مصاديق النار دلالة تصديقية، والمعدوم ليس مصداقا لشئ، كما أن الموجود الذهني ليس فردا بالحمل الشائع، فينحصر الصدق في
ظرف الوجود الخارجي من غير أن يكون الوجود قيدا، ومن غير أن يفرض للمعدوم وجودا، أو ينزل منزلة الوجود، ومن غير أن
تكون القضية متضمنة للشرط.
فإن تلك التكلفات - مع كونها خلاف الوجدان في إخباراتنا، ضرورة أن كل من أخبر: ب (أن النار حارة) لا يخطر بباله الافراد المعدومة،
فضلا عن تنزيلها منزلة الوجود، أو الاشتراط بأنه إذا وجدت كانت كذلك - ناشئة من تخيل أن للطبيعة أفرادا معدومة، وتكون الطبيعة
صادقة عليها حال العدم، ولما لم يصدق عليها الحكم لا بد من تنزيلها منزلة الموجود، أو اشتراط الوجود فيها.
وأنت خبير بأن ذلك كله في غاية السقوط، لان العدم ليس بشي، فلا تكون القضايا الحقيقية أخبارا عن الافراد المعدومة، بل أخبار عن
أفراد
286

الطبيعة بلا قيد، وهي لا تصدق إلا على الافراد الموجودة في ظرف وجودها، فيكون الاخبار كذلك بحكم العقل من غير تقييد واشتراط.
ثم إن في القضية الحقيقية يكون الحكم على الافراد المتصورة بالوجه الاجمالي، وهو عنوان (كل فرد)، أو (جميع الافراد)، فعنوان (كل)
و (جميع) متعلق للحكم، ولما كان هذا العنوان موضوعا للكثرات بنحو الاجمال فبإضافته إلى الطبيعة يفيد أفرادها بنحو الاجمال،
فالحكم في المحصورة على أفراد الطبيعة، بنحو الاجمال، لا على نفس الطبيعة، ولا على الافراد تفصيلا، فقولهم: إن الحكم على الطبيعة
التي هي مرآة للافراد، ليس بشي.
فاتضح مما ذكرنا مواقع النظر في كلام بعض الأعاظم (1) في القضايا الخارجية والحقيقية، والفرق بينهما، فراجع. إذا عرفت ما تقدم
فنقول: إن الاشكال في المقام إن كان من جهة أن التكليف الفعلي لا يمكن أن يتوجه إلى المعدوم، وهو لازم التعميم.
فالجواب عنه: أن مثل قوله: (الرجال قوامون على النساء) (2)، (ولله على الناس حج البيت) (3)، وأن الصلاة مفروضة على العباد، وأن الخمر
حرام، إنما هو بنحو القضية الحقيقية، والجعل القانوني على مصاديق

(1) فوائد الأصول 1: 170 - 171 و 2: 550 - 551.
(2) النساء: 34.
(3) آل عمران: 97.
287

العناوين بنحو الاجمال فيما إذا كانت القضية محصورة، أو على نفس العناوين في غيرها، فلا يكون المعدوم مصداقا لها حال العدم، فلا
يتوجه إليه التكليف، وأما إذا صار المصداق موجودا فيشمله الحكم.
فإذا رأي المكلف أن في كتاب الله تعالى: حج البيت على الناس إذا استطاعوا، من غير تقييد بما يخصصه بالموجودين في زمن الرسول،
ويكون نفسه مصداقا للمستطيع، يرى أنه مأمور بالحج من غير توهم أن ذلك الحكم على هذا العنوان مستلزم لتوجه التكليف إلى
المعدوم، ضرورة أنه ليس ناسا، ولا مستطيعا، ولا غيرهما.
وإن كان الاشكال من جهة لزوم مخاطبة المعدوم، حيث إن معنى الخطاب توجيه الكلام إلى المخاطب، سوأ اشتمل الكلام على (كاف)
الخطاب أو أداة النداء، أو كان التوجيه إليه بالحمل الشائع من غير ما يدل وضعا على التخاطب.
فالجواب عنه: أن خطابات الله النازلة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بأي نحو كانت لم تكن متوجهة إلى العباد، سوأ كانوا حاضرين
في مجلس الوحي أو في مسجد النبي، أم لا، ضرورة أن الوحي إنما نزل على شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وكلام الله وخطاباته
لم تكن مسموعة لاحد من الأمة، بل الظاهر من الآيات والروايات أن الوحي إنما كان بتوسط جبرئيل، فهو الحاكي لرسول الله، وهو
صلى الله عليه وآله حاك بالواسطة، فإذن يكون حال الحاضرين في زمن النبي ومجلس الوحي حال غيرهم من
288

حيث عدم توجه خطاب لفظي من الله تعالى إليهم.
فالخطابات القرآنية كسائر الاحكام إنما هي بطريق الوحي إلى رسول الله بلا واسطة أو معها، وتلك الخطابات المحكية باقية إلى
زماننا، ونسبة الأولين والآخرين إليها سوأ، من غير اختصاص بالحاضرين في مجلس الوحي، ضرورة أن اختصاصها بهم و تعميمها
بدليل آخر لغو باطل.
مضافا إلى عدم الدليل عليه بعد كون العنوان عاما أو مطلقا، وبعد كون الخطاب الكتبي - إلى كل من يرى الكتابة - متعارفا، كما ترى
في الكتب، مثل قوله: (فاعلموا يا إخواني).
ثم إن ما ذكرنا: من أن المقنن لم يكن طرف المخاطبة في القوانين الاسلامية، بل يكون المقنن غير المبلغ، لان الأول هو الله تعالى، و
الثاني هو الرسول أولا، وذو الوسائط ثانيا، بتوسط الكتب وغيرها من وسائل التبليغ، سنة جارية في جميع العالم، لان المقنن في
القوانين العرفية والسياسية إما شخص، أو هيئة وجماعة، ولم يتعارف أن يكون الواضع مبلغا، بل وسائل التبليغ هي الكتب والجرائد و
الآلات المستحدثة في هذه الأزمنة، فالقانون الاسلامي كسائر القوانين العرفية، ولم يتخذ الاسلام طرزا (1) حادثا، فقوانينه عامة لكل من
بلغت إليه بأي نحو كان من غير لزوم محذور.
ومما ذكرنا اتضح: أن التخلص عن إشكال توجه التكليف إلى المعدوم - في غير الخطابات - يمكن أن يكون بنحو القضية الحقيقية.

(1) الطرز: الهيئة، والجيد من كل شئ.
289

وأما عن إشكال توجه الخطاب في قوله: يا أيها الناس، ويا أيها الذين آمنوا فلا يمكن بذلك، لان في القضية الحقيقية - كما عرفت -
يكون الحكم على أفراد عنوان قابل للصدق على كل مصداق، وجد وسيوجد في ظرفه، وأما الخطاب فليس كذلك، بل لا بد لصحته من
أن يتوجه إلى حاضر ملتفت، فإن الخطاب نحو توجه تكويني نحو المخاطب لغرض التفهيم، ومثله لا يمكن أن يتعلق بعنوان أو أفراده و
لو لم تكن حاضرة في مجلس التخاطب، ولهذا لا بد لتصحيحه - على الفرض - من التشبث بتنزيل المعدوم منزلة الموجود، أو غير
الشاعر منزلة الشاعر الملتفت، كالخطاب للقمر والجبل، وهذا التنزيل ليس لازم القضية الحقيقية، كما توهم.
كما أن الانشائيات ليست من القضايا الحقيقية، لان الخطاب العمومي مثل: يا أيها الذين آمنوا لا يمكن أن يكون متوجها بنحو الخطاب
الحقيقي إلى أفراد العنوان، حتى يكون كل فرد مخاطبا بالخطاب اللفظي في ظرف وجوده، لان أدوات النداء وضعت لإيجاد النداء، لا
لمفهومه، والمخاطبة نحو توجه إلى المخاطب توجها جزئيا مشخصا، فمع الالتزام بأن الخطابات حال الوحي كانت خطابا إلهيا متوجها
نحو المخلوق، وكان مثل رسول الله مثل شجرة موسى عليه السلام لا محيص عن الالتزام بتنزيل المعدوم وغير الحاضر منزلة الموجود
الحاضر، وهو يحتاج إلى الدليل بعد عدم كونه لازم القضية الحقيقية، كما تقدم، فالتخلص - حينئذ - عن الاشكال هو ما تقدم، فتبصر.
290

تتمة: في ثمرة النزاع:
نقل المحقق الخراساني ثمرتين في النزاع:
الأولى: حجية ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين.
فأجاب عنها: بأنها مبنية على اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالافهام، وهو باطل، مع أن غير المخاطبين - أيضا - مقصودون
به (1).
ورده بعض الأعاظم: بأن الثمرة لا تبتني عليه، فإن الخطابات لو كانت مقصورة على المشافهين فلا معنى للرجوع إليها، وحجيتها ف
حق الغير، قلنا بمقالة المحقق القمي أو لم نقل (2).
أقول: لو لم نقل بمقالة المحقق القمي (3) تكون الظواهر قابلة للرجوع إليها

(1) الكفاية 1: 359.
(2) فوائد الأصول 2: 549.
(3) قوانين الأصول 1: 233 - 234.
المحقق القمي: هو الميرزا أبو القاسم ابن المولى محمد حسن الجيلاني القمي، أستاذ الاعلام وكبير الفقهاء العظام، ولد في رشت سنة
(1151 ه‍) نشأ بها وقرأ مبادئ العلوم، ثم هاجر إلى (خونسار) فحضر بحث السيد حسين الخوانساري، ثم هاجر إلى العراق فحضر
أبحاث الفحول كالوحيد البهبهاني، ثم عاد إلى إيران لنشر علوم آل البيت عليهم السلام، وأخيرا اتخذ (قم) قرارا، صنف في الأصول
القوانين المحكمة، وألف في الفقه غنائم الأيام، وغيرهما من الكتب القيمة. توفي عام (1231 ه‍) ودفن في (قم) المقدسة.
انظر معارف الرجال 1: 49، طبقات أعلام الشيعة - الكرام البررة - 1: 52، الكنى والألقاب 1: 137.
291

لتعيين تكليف المخاطبين، ثم التمسك بدليل الاشتراك لاثباته في حقنا، بخلاف ما لو قلنا بمقالته، فظهور الثمرة موقوف على القول بها.
لكن تلك الثمرة التي في الكفاية غير ما ذكرت في الفصول (1) والتقريرات (2)، وإن فهم صاحب الفصول - أيضا - ما فهم المحقق
الخراساني، فراجع.
الثانية: صحة التمسك بإطلاق الكتاب بناء على التعميم لاثبات الحكم لنا، وإن لم نكن متحدين في الصنف مع المشافهين، وعدم صحته
بناء على الاختصاص، لعدم الاجماع مع الاختلاف الصنفي.
فأجاب عنه: بجواز التمسك بالاطلاق لرفع الشك فيما يمكن أن يتطرق إليه الفقدان، وإن لم يصح في غيره (3).
أقول: الظاهر ظهور الثمرة في بعض الأحيان، كالتمسك بالآية لوجوب صلاة الجمعة علينا إذا احتملنا اشتراط وجوبها أو جوازها بوجود
الإمام عليه السلام ولو كان الحكم مختصا بالمخاطبين أو الحاضرين في زمن الخطاب لما ضر الاطلاق بالمقصود، لتحقق الشرط، وهو
حضوره إلى آخر عمر الحاضرين، ضرورة عدم بقائهم إلى غيبة ولي العصر عجل الله فرجه فلا يرد عليه ما أورد شيخنا العلامة (4)،
فراجع.

(1) الفصول الغروية: 184 - 185.
(2) مطارح الأنظار: 205 - 206.
(3) الكفاية 1: 359.
(4) درر الفوائد 1: 193 - 194.
292

الفصل الخامس في تخصيص العام بالضمير الراجع إلى بعض أفراده
إذا تعقب العام ضمير يرجع إلى بعض أفراده، هل يوجب تخصيصه به، أو لا؟ ولا يخلو هذا العنوان عن مسامحة، لما سيتضح لك: من أن
الضمير لا يرجع إلى بعض الافراد في مورد، بل الحكم بحسب الجد يختص ببعضها، فعوده إلى بعضها لم يكن مفروغا عنه.
ثم إن محط البحث - على ما صرحوا به (1) - هو ما إذا كان الحكم الثابت لمدخول الضمير مغايرا للثابت لنفس المرجع، سوأ كان
الحكمان في كلام واحد، مثل قوله: (أكرم العلماء وخدامهم) إذا كان وجوب الاكرام في الخدام مختصا بخدام عدولهم، أو في كلامين مثل
قوله تعالى:

(1) مطارح الأنظار: 207 / سطر 35 - 37.
293

(والمطلقات يتربصن) إلى قوله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن) (1)، وسواء كان الحكمان من سنخ واحد كالمثال الأول، أو لا كالثاني.
وأما إذا كان الحكم واحدا، مثل قوله: والمطلقات يتربصن، حيث أن حكم التربص ليس لجميعهن، فلا نزاع.
وليعلم: أنه لم يتضح من كلامهم أن النزاع يختص بما إذا علم من الخارج أن الحكم غير عام لجميع أفراد المرجع، كالآية الشريفة، أو
يختص بما إذا علم ذلك بقرينة عقلية أو لفظية حافة بالكلام - مثل قوله: (أهن الفساق، واقتلهم)، حيث علم المخاطب حين إلقاء الكلام
إليه أن حكم القتل ليس لجميع أفراد الفساق - أو يعمهما.
ظاهر التمثيل بالآية الشريفة عدم الاختصاص بالثاني، بل لا يبعد أن يكون ذيل كلام المحقق الخراساني (2) شاهدا على التعميم لهما على
تأمل.
وكيف كان، إن كان محط البحث أعم منهما فالتحقيق التفصيل بينهما، بأن يقال:
إذا كان الدال على اختصاص الحكم ببعض الافراد منفصلا، كالآية الشريفة حيث تكون في نفسها ظاهرة في عموم الحكم لجميع أفراد
العام، وأن بعولة جميع المطلقات أحق بردهن، لكن دل دليل خارجي بأن لا رجوع في طلاق البائن، فلا إشكال في بقاء العام على عمومه
بالنسبة إلى حكمه

(1) البقرة: 228.
(2) الكفاية 1: 363.
294

- أي التربص - لكون المقام من قبيل الدوران بين تخصيص لعام أو تخصيصين لعامين، ضرورة أن عموم قوله: وبعولتهن أحق بردهن
صار مخصصا بما دل على اختصاص الحكم بالرجعيات، وشك في عروض التخصيص بقوله:
والمطلقات يتربصن. فأصالة العموم فيه مما لا معارض له.
وما في كلامهم: من كون المقام من قبيل الدوران بين التخصيص والاستخدام في الضمير (1)، من غريب الامر، لأنه يخالف مذاق
المتأخرين في باب التخصيص من عدم كونه تصرفا في ظهور العام، فقوله:
والمطلقات يتربصن. مستعمل في العموم، وضمير بعولتهن - أيضا - يرجع إليها من غير استخدام وتجوز، والمخصص الخارجي في
المقام ليس حاله إلا كسائر المخصصات من كشفه عن عدم تعلق الإرادة الجدية إلا ببعض الافراد في الحكم الثاني، أي الأحقية، وذلك لا
يوجب أن يكون الحكم الأول كذلك بوجه، بل هذا أولى بعدم رفع اليد عنه من العام الواحد إذا خصص بالنسبة إلى البقية.
وأما حديث الاستخدام والمجازية في الاسناد أو في اللفظ، فليس بشي، لان الضمائر على ما تقدم في باب الوضع (2)، وضعت لايقاع
الإشارة الخارجية، فلا بد لها من مرجع مشار إليه، والرجعيات لم تذكر في الكلام، ولم تعهد في الذهن، فلا معنى للرجوع إليها، وقد
عرفت في المجاز أنه متقوم

(1) درر الفوائد 1: 194، فوائد الأصول 2: 551 - 552.
(2) وذلك في صفحة: 96 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
295

بالدعوى، وليس المقام مناسبا لدعوى كون الرجعيات جميع المطلقات، فما في كلام بعضهم من الدوران بين الاستخدام والتخصيص، و
ترجيح أحدهما على الاخر (1)، خلاف التحقيق.
كما أن ما في كلام المحقق الخراساني في وجه الترجيح: من أن بناء العقلا هو اتباع الظهور في تعيين المراد، لا في كيفية الاستعمال (2)،
أجنبي عن محط البحث، لان الدوران على فرضه بين الظهور السياقي والتخصيص، وقد عرفت أنه - أيضا - باطل.
وأما إذا كان الكلام مقترنا - عقلا أو لفظا - بما يجعل الحكم خاصا ببعض الافراد، فالظاهر طرو الاجمال في الغالب، لعدم إحراز بناء
العقلا على إجراء أصالة التطابق في مثل ما حف الكلام بما يصلح للاعتماد عليه، فصحة الاحتجاج بمثل: (أهن الفساق واقتلهم) لإهانة
غير الكفار، مشكلة.

(1) مر تخريجه آنفا.
(2) الكفاية 1: 362 - 363.
296

الفصل السادس في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف
قالوا (1): اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف بعد إطباقهم على التخصيص بالمفهوم الموافق.
ولا يخفى أن هذه المسألة ليست من التي يكون الاجماع فيها حجة، فلا بد من النظر في كل من المفهوم الموافق والمخالف، فيقع الكلام
في مقامين:
المقام الأول في الموافق
واختلفت التعبيرات في تفسيره، ونحن نذكر الاحتمالات، ونتكلم فيها، فنقول:

(1) الفصول الغروية: 212 / سطر 27 - 28، الكفاية 1: 363، فوائد الأصول 2: 555.
297

فيه احتمالات:
الاحتمال الأول: ما يعبر عنه المتأخرون (1) بإلغاء الخصوصية، مثل قوله:
(رجل شك بين الثلاث والأربع) (2)، ولا شبهة في أن العرف يرى أن الحكم إنما هو للشك بينهما من غير دخالة للرجولية فيه.
الاحتمال الثاني: المعنى الكنائي الذي سيق الكلام لأجله، مع عدم ثبوت الحكم للمنطوق، كقوله: (ولا تقل لهما أف) (3)، إذا فرض كونه كناية
عن حرمة إيذائهما، ولم يكن آلاف محكوما بحكم.
الاحتمال الثالث: ما إذا سيق الكلام لأجل إفادة حكم فأتي بأخف المصاديق - مثلا - للانتقال إلى سائرها، مثل الآية المتقدمة إذا كان
آلاف محكوما بالحرمة أيضا.
الاحتمال الرابع: الحكم الغير المذكور الذي يقطع العقل به بالمناط القطعي من الحكم المذكور، كقوله: (أكرم خدام العلماء)، حيث يعلم
بالمناط القطعي وجوب إكرام العلماء.
الاحتمال الخامس: الحكم المستفاد من القضية التعليلية، كقوله: (الخمر حرام لأنه مسكر).
فيمكن أن يكون المراد من الموافق بعض هذه الاحتمالات، أو جميعها،

(1) نهاية الأصول 1: 266 - 267.
(2) ورد مضمون هذا السؤال في عدة روايات، راجع الوسائل 5: 320 باب 10 من أبواب
الخلل الواقع في الصلاة.
(3) الإسراء: 23.
298

والجامع بينها هو الحكم في غير محل النطق، الموافق للحكم في محله - على فرضه - في الايجاب والسلب.
ثم إن محط البحث لا يبعد أن يكون في تخصيص العام به إذا كان أخص مطلقا منه، لا ما إذا كان بينهما عموم من وجه. وعمم بعضهم (1)، و
سنشير إليه (2).
إذا عرفت ذلك فنقول: إن كان المراد من المفهوم ما عدا الرابع فلا إشكال في تخصيص العام به إذا كان المفهوم أخص منه مطلقا،
ضرورة أن حال هذا المفهوم حال اللفظ الملقى إلى المتكلم، بل تسمية بعضها مفهوما لمجرد الاصطلاح، وإلا فالعرف يفهم من مثل قوله:
(رجل شك بين الثلاث والأربع).، أو قوله: (أصاب ثوبي دم رعاف (3) أن ذكر الرجل والثوب لمجرد التمثيل، ويكون منظور السائل و
المجيب حال الشك والدم، فيخصص به العام بلا ريب، وكذا الحال في المعنى الكنائي وغيره مما ذكر.
ولا يبعد أن يكون محط كلام القدماء مثل هذه الأقسام إذا كان المفهوم أخص مطلقا، ومنه يظهر وجه كون المسألة اتفاقية، ضرورة
عدم الخلاف في تقديم الخاص، وهذا من أقسامه.
وأما إذا كان بينهما عموم من وجه، فيعامل معاملتهما مثل المنطوقين،

(1) فوائد الأصول 1: 556 - 557.
(2) وذلك في صفحة: 300 - 301 من هذا الجزء.
(3) التهذيب 1: 421 / 8 باب 22 في تطهير البدن والثياب.، الوسائل 2: 6 1 / 2
باب 7 من أبواب النجاسات.
299

والوجه ظاهر.
وأما رابع الاحتمالات: فقد يقال فيه بتقديم المفهوم على العام مطلقا، سوأ كان أخص مطلقا منه، أو من وجه، إذا كان المعارض نفس
المفهوم، لان رفع اليد عن المفهوم مع عدم التصرف في المنطوق غير ممكن، للزوم التفكيك بين الملزوم واللازم فإن المفروض لزومه
له بنحو الأولوية، كما أن رفع اليد عن المنطوق مع عدم كونه معارضا للعموم لا وجه له، فيتعين التصرف في العموم وتخصيصه بغير
مورد المفهوم (1).
وفيه: أنه إذا فرض لزوم تقديم العام على المفهوم بحسب القواعد مع قطع النظر عن محذور لزوم التفكيك، كما لو فرض كون العام في
العموم أظهر من القضية في المفهوم، فيمكن تقديمه عليه، ورفع اليد عن حكم المنطوق بمقداره، وليس تذا بلا عجه، لان وجهه لزوم
تقديم العام على المفهوم الكاشف عن عدم الحكم للمنطوق، وإلا يلزم التفكيك بين المتلازمين.
وبعبارة أخرى: كما يمكن رفع المحذور العقلي بتخصيص العام يمكن رفعه برفع اليد عن حكم المنطوق والمفهوم، بل المعارضة وإن
كانت ابتدأ بين العام والمفهوم، لكن لما كان رفع اليد عن اللازم مستلزما لرفع اليد عن ملزومه يقع التعارض بينهما عرضا، فتدبر.
وأما ما قيل: من عدم إمكان كون المفهوم معارضا للعام دون منطوقه، لأنا فرضنا أن المفهوم موافق للمنطوق، وأنه سيق لأجل الدلالة
عليه، ومعه كيف

(1) أجود التقريرات 1: 500.
300

يعقل أن يكون المنطوق غير معارض للعام مع كون المفهوم معارضا له؟ فالتعارض في المفهوم الموافق يقع ابتدأ بين المنطوق والعام،
ويتبعه وقوعه بين المفهوم والعام، ولا بد أولا من علاج التعارض بين المنطوق والعام، ويلزمه العلاج بين المفهوم والعام (1).
ففيه: أنه قد يكون وقوع التعارض بين المفهوم والعام ابتدأ، ويتبعه بين المنطوق والعام، كقوله: (أكرم جهال خدام النحويين)،
المفهوم منه بالأولوية وجوب إكرام النحويين، وقوله: (لا تكرم الصرفيين)، فيكون المنطوق أجنبيا عن العام، وكان التعارض ابتدأ
بين العام والمفهوم، والنسبة بينهما عموم من وجه، فحينئذ لا بد من علاج التعارض ابتدأ بين العام والمفهوم، ويتبعه بين المنطوق و
العام، فإذا فرض تقدم العام على المفهوم حسب القواعد يتبعه رفع اليد عن المنطوق لا محالة بمقداره. هذا حال هذا القسم من المنطوق و
المفهوم.
وأما إذا كان التعارض بين المنطوق والعام، ويكون أخص منه مطلقا، فلا محالة يقدم على العام، ويتبعه تقديم المفهوم عليه ولو كان
بينهما عموم من وجه، لعدم جواز رفع اليد عنه بعد القطع بالتلازم، وعدم جواز تقديم العام على الخاص.
وإن كان أعم من وجه منه يعامل معهما معاملتهما، ومع تقديمه على العام بحسب القواعد أو القرائن يقدم المفهوم أيضا، لما عرفت.

(1) فوائد الأصول 1: 556.
301

المقام الثاني في المفهوم المخالف
ويتضح الكلام فيه بعد توضيح محل البحث، فنقول:
لا إشكال في أن الكلام بعد الفراغ عن المفهوم، وأن يكون التعارض بين عام ومفهوم، كما لو ورد: (أكرم كل عالم)، وورد: (إن
جاءك زيد لا تهن فساق العلماء)، مما كان مفهومه أخص من العام مطلقا، ومثل: (أكرم العلماء)، و (إن جاءك زيد أكرم الفساق) مما كان
مفهومه أعم من وجه معه.
وأما ما قيل: من أن الكلام في تخصيص العام بالمفهوم عند القدماء هو الكلام في باب الاطلاق والتقييد، ومثل بقوله: (خلق الله الماء
طهورا لا ينجسه شي) (1)، وقوله: (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شي) (2) حيث دل الأول على أن الماء تمام الموضوع لعدم الانفعال، و
الثاني على أن للكرية دخالة، فيحكم القيد على الاطلاق (3)، ويظهر ذلك من شيخنا العلامة (4) أيضا، فهو خروج عن ظاهر البحث، وعنوانه
بلا دليل.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن العام لما كان دلالته بالوضع، فإن كانت الدلالة

(1) التهذيب 1: 37 - 40 باب 3 في آداب الأحداث الموجبة للطهارات، الوسائل 1:
117 / 1 باب 9 من أبواب الماء المطلق.
(2) المعتبر 1: 41، الوسائل 1: 101 / 9 باب 1 من أبواب الماء المطلق.
(3) نهاية الأفكار 1: 546.
(4) درر الفوائد 1: 196.
302

على المفهوم - أيضا - بالوضع، يقع التعارض بين الظاهرين، فمع عدم الترجيح يرجع إلى أخبار العلاج، أو يحكم بالاجمال، وإن كانت
بمقدمات الحكمة يرفع اليد عن المفهوم إن كانا في كلام واحد، لتحكيم الظهور المنجز على الاطلاق المعلق على عدم البيان، ومع
انفصالهما يصيران متعارضين، ولا ترجيح للظهور الوضعي على الاطلاقي في مثله.
وما قيل (1): من أن المناط في المفهوم أن يكون التقييد راجعا إلى الحكم، لا إلى الموضوع، والقضية الشرطية - بعد ما كانت ظاهرة في
كون القيد راجعا إلى الحكم، لأنها وضعت لتقييد جملة بجملة - تكون حاكمة على مقدمات الحكمة في العام، فظهورها في المفهوم يوجب
عدم جريان مقدمات الحكمة في العام، وأن القضية ذات مفهوم وإن كانت بمقدمات الحكمة، إلا أن المقدمات الجارية في طرف المفهوم
تكون بمنزلة القرينة على أن المراد من العام هو الخاص، والعام لا يصلح أن يكون قرينة على أن الشرطية سيقت لفرض وجود
الموضوع، فلا بد فيه من دليل يدل عليه، هذا إذا كان المفهوم أخص مطلقا. انتهى.
ففيه: - بعد الغض عن أن العام لا يحتاج إلى مقدمات الحكمة كما سبق الكلام فيه (2) - أن ظاهر القضية وضعا هو مجرد إناطة الحكم
بالقيد، وهو ليس مناط المفهوم، بل مناطه إثبات الانحصار، وهو بمقدمات الحكمة كما

(1) فوائد الأصول 2: 560 - 561.
(2) وذلك في صفحة: 232 وما بعدها من هذا الجزء.
303

اعترف به، فحينئذ لا وجه لتقديم أحد الاطلاقين على الاخر، وجريان مقدمات الحكمة في العام لا يلزم أن يثبت رجوع القيد إلى
الموضوع، حتى يقال: إنه لا يصلح لذلك، بل يمنع عن جريانها في الشرطية لاثبات الانحصار.
وقوله: إن جريانها في المفهوم بمنزلة القرينة للعام، لا يرجع إلى محصل، والتحقيق ما عرفت.
304

الفصل السابع في الاستثناء المتعقب لجمل متعددة
الاستثناء المتعقب لجمل متعددة هل يرجع إلى خصوص الأخيرة، أو إلى الجميع، أو لا ظهور فيه وإن كان الرجوع إلى الأخيرة متيقنا؟ و
الكلام يقع في مقامين:
المقام الأول في إمكان الرجوع إلى الجميع
فربما يستشكل فيما إذا كان الاستثناء بالحروف: بأنها لما وضعت للاخراج بالحمل الشائع - لان الموضوع له في الحروف خاص -
يلزم من استعمالها في الاخراجات استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، وهو في الحروف أشكل، لأنها آلات لملاحظة الغير، فيلزم أن
يكون شي واحد فانيا
305

في شيئين أو أكثر. ويلزم الاشكال في المستثنى إذا كان مثل (زيد مشتركا بين أشخاص، ويكون في كل جملة شخص مسمى به،
فإخراج كل منهم بلفظ واحد مستلزم للاشكال المتقدم (1).
والجواب عنه قد مر في باب الاستعمال (2)، ولقد تصدينا لدفع الاشكالات العقلية في الأسماء والحروف، فراجع.
هذا، مع منع لزوم استعمال الأداة في أكثر من معنى، فإن المستثنى إذا كان كليا قابلا للصدق على الكثيرين، فأخرج ب (إلا) وغيرها،
يكون الاستثناء بإخراج واحد مخرجا للكثيرين، فقوله: (أكرم العلماء، وأضف التجار، إلا الفساق منهم) إخراج واحد للفساق قابل
للانطباق على فساق العلماء والتجار، فلا يكون استعمال الأداة في أكثر من معنى.
وكذا الحال إذا كان المستثنى مثل (زيد)، واستثني المتعدد، فإن (زيدا) إما مستعمل في المسمى، فيكون الحال كالكلي، وإما مستعمل
في الكثير، فتخرج أداة الاستثناء الكثير بإخراج واحد، كما قلنا في حروف النداء مع كثرة المنادي (3)، فلا يلزم في شي من الموارد
استعمال أداة الاستثناء في أكثر من معنى.

(1) نهاية الأفكار 2: 541.
(2) وذلك في صفحة: 180 وما بعدها من الجزء الأول من هذا الكتاب.
(3) وذلك في صفحة: 84 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
306

المقام الثاني في حاله إثباتا
والظاهر رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل إذا ذكر الاسم الظاهر في الجملة الأولى، وعطف سائر الجمل عليها مشتملا على الضمير
الراجع إليه، واشتمل المستثنى - أيضا - على الضمير، كقوله: (أكرم العلماء، وسلم عليهم، وألبسهم، إلا الفساق منهم)، لان الضمير - كما
مر (1) - موضوع لنفس الإشارة إلى الغائب، كما أن أسماء الإشارة موضوعة للإشارة إلى الحاضر، فإذا اشتمل المستثنى على الضمير
يكون إشارة إلى شي، ولم يكن في الجمل شي صالح للإشارة إليه، إلا الاسم الظاهر المذكور في صدرها، وأما سائر الجمل فلا تصلح
لارجاع الضمير إليها، لعدم عود الضمير إلى الضمير.
وبالجملة: لما كان الاسم الظاهر مرجعا للضمائر التي في جميع الجمل، فإذا رجع ضمير الاستثناء إليه يخرجه عن تحت جميع الأحكام
المتعلقة به، كما هو المتفاهم به عرفا أيضا.
وكذا لا يبعد أن يكون الاستثناء من الجميع إذا لم يشتمل المستثنى على الضمير مع اشتمال الجمل عليه، كما لو قال في المثال المتقدم:
(إلا بنى فلان). أما إذا قلنا بأن الضمير في مثله منوي فلما ذكرنا،

(1) وذلك في صفحة: 96 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
307

وإن قلنا بعدم النية فلان الضمائر في سائر الجمل غير صالحة لتعلق الاستثناء بها، فإنها بنفسها غير محكومة بشي، فلا محالة يرجع
الاستثناء إلى ما هو صالح له.
وأما إذا تكرر الاسم الظاهر كما لو قال: (أكرم العلماء، وأضف التجار، وألبس الفقراء، إلا الفساق منهم) فرجوعه إلى الجميع وإلى
الأخيرة محتمل، ولا يكون ظاهرا في واحد منهما.
وما قيل: من أن الظاهر رجوعه إلى الأخيرة، لان تكرار عقد الوضع في الجملة الأخيرة مستقلا يوجب أخذ الاستثناء محله من الكلام (1) لا
يرجع إلى محصل، بل المستثنى إن اشتمل على الضمير يكون الاستثناء تابعا له في السعة والضيق، وهو محتمل الرجوع إلى الأخيرة و
إلى الجميع من غير تأول وتجوز، ومع عدم الاشتمال يحتمل الامرين - أيضا - بانطباق العنوان على الجميع أو الأخيرة. بل رجوع
الضمير وانطباق العنوان على الجميع لو لم يكن أولى، فلا أقل من المساواة احتمالا.
ومما ذكرنا يظهر حال ما إذا اشتمل بعض الجمل المتوسطة على الاسم الظاهر، وما بعده على الضمير الراجع إليه مثل قوله: (أكرم
العلماء، وسلم عليهم، وأضف التجار، وأكرمهم، إلا الفساق منهم) من احتمال الرجوع إلى المشتمل على الاسم الظاهر في الجملة الأخيرة
وما بعدها، وإلى الجميع.

(1) أجود التقريرات 1: 497.
308

ثم إنه فيما إذا لم يظهر رجوعه إلى الأخيرة أو الجميع فالأخيرة متيقنة، لان الرجوع إلى غيرها خلاف قانون المحاورة، فهل يجوز
التمسك بالعام في سائر الجمل التي شك في رجوعه إليها، أولا، أو يفصل بين ما إذا قلنا باحتياج العموم إلى مقدمات الحكمة، وعدمه؟
الظاهر عدم الجواز مطلقا، لعدم إحراز بناء العقلا على التمسك بأصالة الجد فيما إذا حف الكلام بشي صالح لتقييد مدخول أداة العموم،
فلا محالة يصير الكلام مجملا.
وما قيل: من أن ذلك مخل بغرض المتكلم (1)، منظور فيه، لامكان تعلق غرضه بإلقاء الكلام المجمل، وإلا لوجب أن لا يصدر منه
المجملات، وهو كما ترى.
وقد يقال: إن أصالة الاطلاق في الاستثناء والمستثنى جارية لولا حكومة أصالة العموم عليها، ومعها لا مجال لقرينة الاطلاق، لأنه
دوري.
وفيه أولا: أن المستثنى إن اشتمل على الضمير يتبع إطلاقه له، ولا يكون الاطلاق مشخصا لمرجع الضمير للزوم الدور.
وثانيا: أن العموم وإن لم يحتج إلى المقدمات، لكن يتوقف الاحتجاج به على جريان أصالة الجد، وفي مثل الكلام المحفوف بما ذكر
جريانها غير محرز.
ومع عدم اشتماله على الضمير - أيضا - محل إشكال، لصحة انطباق

(1) نفس المصدر السابق.
309

عنوانه على الجميع، كان الضمير منويا أولا، ومعه لا تكون أصالة الجد محرزة، فتدبر.
310

المقصد الخامس في المطلق والمقيد
311

الفصل الأول في تعريف المطلق والمقيد
قد عرف المطلق بأنه ما دل على شائع في جنسه، والمقيد بخلافه (1) ويرد عليه:
أولا: بأن ظاهره أن الاطلاق والتقييد من صفات اللفظ، مع أن الظاهر أنهما من صفات المعنى، ولو جعلا من صفات اللفظ كانا تبعا له،
ضرورة أن نفس الطبيعة التي جعلت موضوع الحكم قد تكون مطلقة، وقد تكون مقيدة.
وثانيا: أن الشيوع في جنسه الذي جعل صفة المعنى: إن كان المراد منه أنه جز مدلول اللفظ، بحيث يكون الاطلاق دالا على الشيوع، فهو
فاسد جدا، لأن المطلق هو ما لا قيد فيه بالإضافة إلى كل قيد لوحظ فيه، من غير دلالة على

(1) قوانين الأصول 1: 321 / سطر 17، مطارح الأنظار: 215 / سطر 5.
313

الخصوصيات الفردية، أو الحالات الشخصية، كما مر (1).
وإن كان المراد أنه صفة المعنى، وأن اللفظ لا يدل إلا على نفس المعنى، وهو شائع في جنسه، فلا محالة يكون الشيوع في الجنس
عبارة عن سريانه في أفراده الذاتية، حتى يصدق بوجه شيوعه في مجانسه، وإلا فالجنس - بالمعنى المصطلح - مما لا وجه صحيح له.
فحينئذ: لا يرد عليه الاشكال المتقدم، لكن يخرج منه إطلاق أفراد العموم، مثل قوله: (أوفوا بالعقود) (2)، وكذا الاطلاق في الاعلام
الشخصية، مثل قوله: (وليطوفوا بالبيت العتيق) (3)، وإن تكلف بعض أهل التحقيق (4) بإدراج الاشخاص فيه بما لا يخفى ما فيه، وكذا يخرج
إطلاق المعاني الحرفية. ويرد على عكسه دخول بعض المقيدات فيه، كالرقبة المؤمنة، فإنه - أيضا - شائع في جنسه.
والتحقيق: أن المطلق في جميع الموارد لا يكون إلا بمعنى واحد، كما سيأتي الكلام فيه.
فظهر مما ذكرنا أمور:
منها: أن الاطلاق لا يختص بالماهيات الكلية، بل قد يكون في

(1) وذلك في صفحة 231 و 232 و 236 من هذا الجزء.
(2) المائدة: 1.
(3) الحج: 29.
(4) نهاية الأفكار 2: 559.
314

الاعلام الشخصية، فالقول بأن المطلق هو اللا بشرط المقسمي أو القسمي (1)، ليس بشي.
ومنها: أن الاطلاق والتقييد أمران إضافيان، فكل شي قيس إلى موضوع الحكم فإما قيد له، أو لا، فعلى الثاني يكون مطلقا، وإن كان
بالنسبة إلى شي آخر مقيدا.
ومنها: أن بين الاطلاق والتقييد شبه العدم والملكة، لان الاطلاق متقوم بعدم التقييد، وكان من شأنه ذلك، وما لا يكون من شأنه
التقييد لا يكون مطلقا ولا مقيدا.
وإنما قلنا: شبههما، لان التقابل الحقيقي إنما يكون فيما إذا كان للشئ استعداد حقيقة، بحيث يخرج من القوة إلى الفعل بحصول ما
يستعد له، فالأعمى إذا صار بصيرا خرج من القوة إلى الفعل، وفي باب المطلق والمقيد ليس الامر كذلك.
ومنها: أن الشيوع والسريان لا يستفاد من الاطلاق حتى بعد مقدمات الحكمة، بل معنى الاطلاق ليس إلا عدم دخالة القيد، وهذا غير
السريان والشياع.

(1) الكفاية 1: 376 - 378.
315

الفصل الثاني في اسم الجنس والماهية وأقسامها
بناء على ما مر يكون تحقيق اسم الجنس وعلمه وغيرهما، وكذا تحقيق الماهية اللا بشرط وأقسامها، والفرق بين المقسمي والقسمي،
غير محتاج إليه، بل أجنبيا عن مبحث الاطلاق والتقييد، لكن نذكر إجمالا منه تبعا للقوم، فنقول:
إن اسم الجنس كالانسان، والفرس، والسواد، والبياض، وغيرها موضوع لنفس الماهيات بلا اعتبار شي، ومن غير دخالة قيد
وجودي أو عدمي أو اعتباري فيها، فالموضوع لها نفس الماهية من حيث هي، وهذه الماهية وإن لم تكن مجردة عن كافة الموجودات
قابلة للتعقل والتحقق، لكن يمكن تصورها مع الغفلة عن كافة الوجودات واللواحق، لان الماهية الملحوظة و إن كانت موجودة بالوجود
اللحاظي، لكن لحاظ هذا اللحاظ يحتاج إلى لحاظ
317

آخر، ولا يمكن أن يكون ملحوظا بهذا اللحاظ، فلا محالة يكون مغفولا عنه، فيصير المعنى الموضوع له هو نفس الماهية، لا بما هي
موجودة في الذهن وملحوظة، فاللفظ موضوع للماهية بلا لحاظ السريان واللا سريان فيها، وإن كانت بنفسها سارية في المصاديق، و
متحدة معها، لا بمعنى انطباق الماهية الذهنية على الخارج، بل بمعنى كون نفس الماهية متكثرة الوجود، توجد في الخارج بعين وجود
الافراد.
والعجب من بعض أهل التدقيق، حيث زعم أن الموضوع له نفس المعنى، لا المعنى المطلق بما هو مطلق، لكن وجب لحاظه مطلقا تسرية
للوضع إلى الافراد (1)، كما أنه زعم - في باب المطلق - أن في قوله: (أعتق رقبة)، لوحظت الرقبة مرسلة مطلقة لتسرية الحكم إلى جميع
أفراد موضوعه، إلا أن ذات المحكوم بالوجوب عتق طبيعة الرقبة، لا عتق أية رقبة (2).
وأنت خبير بما فيه في المقامين، لان الموضوع له إذا كان نفس المعنى لا يعقل سرايته إلى الافراد، ويكون لحاظ الواضع لغوا بلا أثر،
إلا أن يجعل اللفظ بإزاء الافراد، وكذا إذا كان موضوع الحكم نفس الطبيعة لا يمكن سرايته إلى خصوصيات الافراد، لاحظ الحاكم
أفرادها أم لا.
ثم إن القوم قسموا الماهية إلى لا بشرط، وبشرط شي، وبشرط لا (3)،

(1) نهاية الدراية 1: 353 / سطر 25 - 26.
(2) نهاية الدراية 1: 353 / سطر 23 - 25.
(3) نهاية الدراية 1: 351 - 352، فوائد الأصول 1: 566.
318

وظاهر كلمات أكابر فن المعقول أن تقسيمها إليها - وكذا إلى الجنس والمادة والنوع - بالاعتبار واللحاظ، وكذا الافتراق بينها، و
أنها إن لوحظت مجردة عن اللواحق تكون بشرط لا، وإن لوحظت مقترنة بشي تكون بشرط شي، وإن لوحظت بذاتها لا مقترنة ولا
غير مقترنة تكون لا بشرط شي، وأن الفرق بين اللا بشرط المقسمي والقسمي بتقييد الثاني باللابشرطية دون الأول، وكذا حال
الجنس وأخويه، وأن الفرق بينها باللحاظ، فإذا لوحظ الحيوان بشرط لا يكون مادة، ولا بشرط يكون جنسا، وبشرط شي يكون
نوعا (1).
وقد اغتر بظاهر كلماتهم أعاظم فن الأصول، ووقعوا في حيص بيص في أقسام الماهية، والفرق بين اللا بشرط المقسمي والقسمي،
حتى قال بعضهم:
إن التقسيم إنما هو للحاظ الماهية، لا لنفسها (2).
ولا يسع لنا الاذعان بأن أعاظم الفلاسفة (3) قد اقترحوا هذه التقسيمات في باب الماهية والجنس والفصل من غير نظر إلى نفس الامر و
نظام الكون، وإنما كان نظرهم صرف التلاعب بالمفاهيم، ومحض اعتبارات ذهنية من غير أن تكون حاكية عن الواقع.
ثم لا ينقضي تعجبي من أن صرف اعتبار شي لا بشرط كيف يؤثر في الواقع، ويجعل الشئ قابلا للاتحاد والحمل، وأخذه بشرط لا
يوجب

(1) الأسفار 2: 17 - 22، منظومة السبزواري - قسم الفلسفة -: 90 - 91.
(2) نهاية الأصول 1: 333، الحاشية على الكفاية 1: 575.
(3) الأسفار 2: 17 - 22، منظومة السبزواري - قسم الفلسفة -: 90 - 91.
319

انقلاب الواقع عما هو عليه؟ ولو كانت هذه التقسيمات بصرف الاعتبار لجاز أن يعتبرها أشخاص مختلفون، ويصير الواقع مختلفا
بحسب اعتبارهم، فتكون ماهية واحدة متحدة مع شي ولا متحدة معه بعينه، وهو كما ترى.
والذي يؤدي إليه النظر الدقيق - وإن لم أر المصرح به - أن كلية التقسيمات التي في باب الماهية والأجناس والفصول تكون بلحاظ
نفس الامر ومرآة إلى الواقع، والاختلاف بين المادة والجنس والنوع واقعي، لان المادة متحدة مع الصورة التي تبدلت بها، والتركيب
بينهما اتحادي، وتكون المادة المتحدة بالصورة نوعا من الأنواع، والمادة القابلة لصورة أخرى تكون منضمة إلى الصورة الموجودة، و
التركيب بينهما انضمامي لا اتحادي، وتكون بالنسبة إلى الصورة المتحققة بشرط لا، لعدم إمكان اتحادها بها، وبالنسبة إلى الصورة
التي تستعد لتبدلها إليها لا بشرط شي، فالمادة التي تبدلت بصورة النواة نوع، وتركيبها معها اتحادي، وبالنسبة إليها بشرط شي،
والمادة المستعدة في النواة لقبول الصورة الشجرية تكون منضمة إلى الصورة النواتية، وتركيبهما انضمامي، وتكون لا بشرط بالنسبة
إلى الصورة الشجرية وما فوقها، وبشرط لا بالن بة إلى تلك الصورة النواتية المتحققة. والتفصيل موكول إلى أهله ومحله (1).
وكذا الحال في أقسام الماهية، فإنها - أيضا - بحسب حالها في نفس الامر، فإنها إذا قيست إلى أي شي فلا يخلو إما أن يكون لازم
الالتحاق بها

(1) الأسفار 2: 16 - 43.
320

بحسب ذاتها أو وجودها، أو ممتنع الالتحاق بها، أو ممكن الالتحاق، فالأول كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة، وكالتحيز بالنسبة إلى
الجسم الخارجي، والثاني كالفردية بالنسبة إلى الأربعة، وكالتجرد بالنسبة إلى الجسم الخارجي، والثالث كالوجود بالنسبة إلى
الماهية، وكالبياض بالنسبة إلى الجسم الخارجي.
فالماهية بحسب الواقع لا تخلو عن أحد الأقسام، وهو مناط صحيح في تقسيمها إلى بشرط شي ولا بشرط وبشرط لا، من غير ورود
إشكال عليه، ومن غير أن تصير الأقسام متداخلة.
وحينئذ يكون الفرق بين المقسم واللابشرط القسمي واضحا، لان المقسم نفس ذات الماهية، وهي أعم من الأقسام، واللا بشرط القسمي
مقابل للقسمين بحسب نفس الامر، ومضاد لهما.
وما ذكرنا وإن خالف ظاهر كلماتهم في البابين، لكن التأمل الصادق في كلمات المحققين يرفع الاستبعاد
[عنه]
مع أنه تقسيم صحيح
معتبر في العلوم موافق لنفس الامر، بخلاف ما ذكروا، فإنه صرف اعتبار وتلاعب، مع ما عرفت من الاشكال العقلي فيه.
وأبعد شي في المقام هو توهم: كون التقسيم للحاظ الماهية، لانفسها، فلا أدري أنه أي فائدة في تقسيم اللحاظ، ثم أي ربط بين تقسيمه و
صيرورة الماهية باعتباره قابلة للحمل وعدمه.
ومما ذكرنا يظهر: أن هذا التقسيم كما يجري في نفس الماهية، يجري في الماهية الموجودة، بل في وجودها، وقد أجراه بعض أهل
الذوق في نفس
321

حقيقة الوجود (1).
تتميم: في اسم الجنس وعلمه:
واعلم أن القوم لما رأوا أن بعض أسماء الأجناس عومل معه معاملة المعرفة - كأسامة وثعالة - فوقعوا في الاشكال:
فذهب بعضهم: إلى أن أمثالها معارف لفظية، والتعريف اللفظي كالتأنيث اللفظي متصور من غير فرق بين معانيها مع أسماء الأجناس (2).
وذهب آخر: إلى أن أعلام الأجناس وضعت للطبيعة المتعينة بالتعين الذهني (3).
فأورد عليه المحقق الخراساني: بلزوم التجريد عند الاستعمال، أو عدم إمكان التطبيق على الخارج، والوضع لذلك لغو (4).
وأجاب عنه شيخنا العلامة: بأن اللحاظ حرفي لا يوجب عدم التطبيق (5).
وهذا غير تام، لان علم الجنس إذا كان متقوما باللحاظ وبه يفترق عن اسمه، فلا يعقل انطباقه على الخارج بما هو ملحوظ مفترق، لان
اللحاظ - ولو كان - حرفيا - موطنه الذهن، وما ينطبق على الخارج هو نفس الطبيعة. مع أن

(1) الأسفار 2: 327 - 330.
(2) الكفاية 1: 378 - 379.
(3) قوانين الأصول 1: 203 / سطر 19 - 20.
(4) الكفاية 1: 379.
(5) درر الفوائد 1: 199 - 200.
322

الوضع للماهية الملحوظة مستلزم للحاظ الاسمي، واعتبار التعين الذهني فيه بنحو الاستقلال، والاستعمال لا بد وأن يكون تابعا له.
ويمكن أن يقال: إن اسم الجنس المجرد عن اللام والتنوين وغيرهما موضوع لنفس الطبيعة من حيث هي، وهي ليست معرفة ولا
نكرة، وهما تلحقانها في رتبة متأخرة عن ذاتها، لان التعريف - في مقابل التنكير - عبارة عن التعين الواقعي المناسب لوعائه، و
التنكير عبارة عن اللا تعين كذلك، فالماهية بذاتها لا تكون متعينة ولا لا متعينة، ولهذا تصلح لعروضهما عليها، فلو كانت متعينة و
معرفة بذاتها لم يمكن أن يعرضها ما يضادها، وبالعكس، هذا مع أن لازم ذلك كونهما جزها أو عينها، وهو كما ترى.
فحينئذ نقول: يمكن أن يفرق بينهما بأن يقال: إن اسم الجنس موضوع لنفس الماهية التي ليست نكرة ولا معرفة، وعلمه موضوع
للماهية المتعينة بالتعين العارض لها متأخرا عن ذاتها في غير حال عروض التنكير عليها، والفرق بين علم الجنس واسم الجنس المعرف
أن الأول يفيد بدال واحد ما يفيد الثاني بتعدد الدال.
ولا يخفى أن التعريف والتنكير غير متقومين باللحاظ حتى يرد عليه الاشكال المتقدم، بل مع قطع النظر عنه بعض المعاني معروف
معين، وبعضها منكور غير معين، فالماهية بذاتها لا معروفة ولا غيرها، وبما أنها معنى معين بين سائر المعاني وطبيعة معلومة - في
مقابل غير المعين - معرفة، فأسامة موضوعة لهذه المرتبة، واسم الجنس لمرتبة ذاتها. وتنوين التنكير يفيد نكارتها، واللا تعين
323

ملحق بها كالتعين.
ثم إن الظاهر أن اللام وضعت مطلقا للتعريف، وإفادة العهد وغيره بدال آخر، فإذا دخلت على الجنس وعلى الجمع تفيد تعريفهما، و
إفادة الاستغراق لأجل أن غير الاستغراق من سائر المراتب لم يكن معينا، والتعريف هو التعيين، وهو حاصل في استغراق الافراد لا
غير.
وما ذكرنا غير بعيد عن الصواب، وإن لم يقم دليل على كون علم الجنس كذلك، لكن مع هذا الاحتمال لا داعي للذهاب إلى التعريف
اللفظي البعيد عن الأذهان.
ثم إنه لا ينبغي الاشكال في أن النكرة دالة بتعدد الدال على الطبيعة اللا معينة، أي المتقيدة بالوحدة بالمعنى الحرفي والحمل الشائع، من
غير فرق بين مثل: (جاء رجل ومثل: (جئني برجل في أن (رجلا) في كل منهما بمعنى واحد، وأنه قابل للصدق على الكثيرين، وأن إفادة
البدلية عقلية لا لفظية، كل ذلك بحكم التبادر، والفرق بين المثالين إنما هو بدلالة خارجية ودال آخر.
فما أفاده شيخنا العلامة من أنهما جزئيان (1)، وبعض آخر من أن الأول جزئي دون الثاني (2)، منظور فيه.

(1) درر الفوائد 1: 200.
(2) ذكره في درر الفوائد 1: 200، ونسبه إلى ظاهر الكفاية في الحاشية على الكفاية 1:
582، انظر الكفاية 1: 381 - 382.
324

الفصل الثالث في مقدمات الحكمة
بناء على ما تقدم في معنى الاطلاق لا مجال لما ذكره المحقق الخراساني:
[من]
أن مقدمات الحكمة تثبت الشياع والسريان (1).
بل التحقيق: أنها بعد تماميتها لا تفيد إلا كون الموضوع أو المتعلق تمامهما، من غير دخالة قيد فيهما، فإذا قال: (أعتق رقبة) وتمت
المقدمات، يحكم العقلا بأن موضوع حكمه هو نفس الرقبة من غير دخالة شي فيه، ومتعلق الحكم هو نفس العتق كذلك، من غير كون
ذلك بدلالة لفظية، ومن غير دلالة على الشيوع والسريان.
والعمدة صرف الكلام إلى مقدمات الحكمة، والظاهر عدم الاحتياج إلى شي في الحكم المذكور، إلا إحراز كون المتكلم في مقام بيان
تمام المراد.

(1) الكفاية 1: 383 - 384.
325

فهاهنا دعويان: الأولى: الاحتياج إلى هذه المقدمة، والثانية: عدم الاحتياج إلى غيرها.
أما الأولى: فقد خالف فيها شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - بدعوى أن ظهور الإرادة في الأصلية - لا التبعية - يكفي في الحكم
بالاطلاق (1).
وأنت خبير بأن هذا ليس ظهورا لفظيا مستندا إلى الوضع، بل هو لأجل حكم العقلا: بأن ما جعل موضوع حكمه يكون تمامه لا بعضه، و
هو لا يثبت ولا يحكم العقلا به إلا بعد كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد، وإلا فلو فرض كونه في مقام بيان حكم آخر، أو كان
بصدد الاهمال، لم يمكن إثبات كون الإرادة ظاهرة في الأصالة، فهذه المقدمة مما لا مناص منها.
وبالجملة: بعد كون معنى الاطلاق هو كون ما جعل الموضوع - مثلا - تمام الموضوع من غير دخالة قيد في موضوعيته للحكم، فلا يحكم
العقلا بأنه تمام الموضوع، ولا تتم الحجة العقلائية، إلا بعد كون المتكلم في مقام البيان، فيحتج العقلا عليه: بأنك كنت في مقام البيان،
فلو كان شي دخيلا في موضوعيته له كان عليك البيان، فجعل هذا موضوعا يكشف عن تماميته.
وأما الدعوى الثانية: فلان المقدمة الثانية - أي انتفاء ما يوجب التعيين - ليست من المقدمات، بل هي محققة محل البحث، فإنه مع وجود ما
يوجب التعيين سوأ كان في الكلام، أو كان بسبب الانصراف لا معنى للاطلاق،

(1) درر الفوائد 1: 201 - 202.
326

لان محط البحث - في التمسك بالاطلاق - ما إذا جعل شي موضوعا لحكم، وشك في دخالة شي آخر فيه، فيرجع بالاطلاق، وأما مع ما
يوجب التعيين فلا يبقى شك حتى يتمسك به.
وأما انتفاء القدر المتيقن، فعلى ما ذكرنا في معنى الاطلاق لا ريب في عدم الاحتياج إليه، بل لا معنى له، لان القدر المتيقن إنما يكون في
مورد يتردد الامر بين الأقل والأكثر، بأن يتردد بين تعلق الحكم ببعض الافراد أو جميعها، مع أن الامر في باب الاطلاق دائر بين تعلق
الحكم بنفس الموضوع من غير دخالة شي آخر فيه، أو بالمقيد، فيدور الامر بين كون الطبيعة تمام الموضوع، أو المقيد تمامه، فإذا
كانت الطبيعة تمام الموضوع لم يكن القيد دخيلا، ومع دخالته يكون الموضوع هو المقيد بما هو مقيد، ولا يكون ذات الموضوع
محكوما والقيد محكوما آخر، حتى يكون من قبيل الأقل والأكثر، وكذا لو جعل المتقيد موضوعا وشك في دخالة قيد آخر لا يكون من
قبيلهما، فلا يدور الامر بين الأقل والأكثر في شي من الموارد حتى يعتبر انتفاء القدر المتيقن.
نعم، بناء على ما ذكره رحمه الله: من أن الاطلاق عبارة عن جعل الطبيعة مرسلة ومرآة لجميع الافراد، والمقيد عبارة عن جعلها مرآة
لبعضها، يتصور القدر المتيقن (1).
لكن اعتبار انتفائه في مقدمات الحكمة محل إشكال، لان المتكلم إذا

(1) درر الفوائد 1: 202.
327

كان في مقام البيان، وجعل الطبيعة موضوع حكمه، وتكون الطبيعة بلا قيد مرآة بذاتها إلى جميع الافراد، ولا يمكن أن تصير مرآة
لبعضها إلا مع القيد، فلا محالة يحكم العقلا بأن موضوع حكمه هو الطبيعة السارية في جميع المصاديق، لا المتقيدة، ولهذا ترى أن
العرف لا يعتني بالقدر المتيقن في مقام التخاطب وغيره، فلا يضر ذلك بالاطلاق إذا لم يصل إلى حد الانصراف، قيل بمقالتنا أولا.
ثم لا يخفى أن ورود القيد على المطلق لا يوجب عدم جواز التمسك به في سائر القيود المشكوك فيها، ضرورة أن العثور على قيد لا
يوجب تصرفا في ظاهر المطلق، بل يكشف عن أن الموضوع بحسب الإرادة الجدية، هو الطبيعة مع القيد، ودخالة قيد آخر، تحتاج إلى
الدليل، فصرف جعل الطبيعة - في مقام بيان الحكم - موضوعا يكون حجة عند العقلا على عدم دخالة قيد فيه، فقيام الحجة على دخالة
قيد لا يوجب الاهمال والاجمال وسقوط المطلق عن الحجية بالنسبة إلى سائر القيود، ولا إشكال في أن العقلا بناؤهم على التمسك به
في سائر القيود، كما أن بناءهم على التمسك بالعام المخصص في الشك في التخصيص الزائد.
تتميم: في الأصل عند الشك في مقام البيان:
لا شبهة في أنه إذا شك في أن المتكلم هل هو في مقام بيان جميع ما هو دخيل في مراده - بعد إحراز كونه في مقام بيان الحكم - أو أنه
بصدد
328

الاجمال والاهمال، يكون الأصل العقلائي هو كونه في مقام
[بيان]
تمامه، وبه جرت سيرة العقلا.
نعم، إذا شك في أنه في مقام بيان هذا الحكم أو حكم آخر، فلا أصل لاحراز كونه في مقامه، فالأصل بعد إحراز كونه بصدد بيان الحكم
يقتضي أن يكون بصدد بيان تمام ما يدخل في الموضوع في مقابل الاهمال والاجمال، لا كونه بصدد بيان هذا الحكم دون غيره، فلا بد
فيه من الاحراز الوجداني، أو بدليل آخر.
329

الفصل الرابع في صور المطلق والمقيد وأحكامها
إذا ورد مطلق ومقيد: فإما أن يكونا متكفلين بالحكم التكليفي، أو الوضعي.
وعلى التقديرين: فإما أن يكونا مثبتين، أو نافيين، أو مختلفين.
وعلى التقادير: فإما أن يعلم وحدة التكليف، أو لا.
وعلى الأول: فإما أن يعلم وحدته من الخارج، أو من نفس الدليلين.
وعلى التقادير: فإما أن يذكر السبب فيهما، أو في واحد منهما، أو لا يذكر.
وعلى الأول: فإما أن يكون السبب واحدا، أو لا.
والحكم التكليفي: إما إلزامي في الدليلين، أو غير إلزامي فيهما، أو مختلف.
331

وعلى التقادير: قد يكون الاطلاق والتقييد في الحكم ومتعلقه وموضوعه، وقد يكونان في اثنين منها، وقد يكونان في واحد، فهذه
جملة الصور المتصورة في المقام.
وليعلم: أن محط البحث إنما هو في المطلق والمقيد المنفصلين، وأما القيود المتصلة بالكلام فلا كلام فيها، ضرورة أن مثلها يمنع عن
تحقق الاطلاق، فلا يكون من باب تعارض المطلق والمقيد وحمله عليه، فما في تقريرات بعض الأعاظم: من جعلها محل البحث، وقاس
المتصلين بالقرينة وذي القرينة في أن ظهور القرينة كما يكون حاكما على ذي القرينة يكون ظهور القيد حاكما على الاطلاق، ثم قاس
المقيد المنفصل بالمتصل (1).
ففيه وجوه من الخلط:
منها: أن القياس مع الفارق، لان الاطلاق لا يكون من قبيل الظهور اللفظي، حتى يقع التعارض بين الظهورين ويقدم أحدهما بالحكومة،
وقد حقق في محله أن الحكومة متقومة بلسان الدليل.
ومنها: أن حكومة ظهور القرينة على ذي القرينة مما لا أساس لها، ضرورة أن الشك في ذي القرينة لا يكون ناشئا عن الشك في القرينة،
ففي قوله: (رأيت أسدا يرمي)، لا يكون الشك في المراد من (الأسد) ناشئا عن الشك في المراد من (يرمي) كما ادعى القائل، بل الشكان
متلازمان، فلا حكومة بينهما.

(1) فوائد الأصول 2: 579.
332

ومنها: أن قياس المنفصلين بالمتصلين مع الفارق، لان المنفصل ينعقد إطلاقه، ولا يكون وجه تقديم المقيد هو الحكومة، بل المطلق إنما
يكون حجة إن لم يرد من المتكلم بيان، وبعد ورود البيان ينتهي أمد الحجية - تأمل - وإنما يقدم المقيد لأظهرية القيد في الدخالة من
المطلق في الاطلاق، وهذه الأظهرية المدعاة هي أظهرية فعل المتكلم، لا الأظهرية اللفظية، كما أن تقديم ظهور القرينة على ذي القرينة
إنما هو للأظهرية ومناسبات المقام، لا للحكومة.
إذا عرفت ذلك فلنتعرض لمهمات الصور، ليتضح بها حال غيرها:
فالصورة الأولى: ما إذا كان الحكم تكليفيا، ويكون المطلق نافيا والمقيد مثبتا، كقوله: (لا تعتق رقبة) و (أعتق رقبة مؤمنة)، بناء على
أن قوله: (لا تعتق رقبة) من قبيل المطلق لا العموم كما هو التحقيق، ففي هذه الصورة لا إشكال في حمل المطلق على المقيد، كان الحكم
إلزاميا أو لا، ضرورة تحقق التنافي بينهما عرفا، لما عرفت في النواهي أن الزجر إذا تعلق بالطبيعة يرى العرف أن امتثاله بتركها
مطلقا، فحينئذ لا محيص عن الجمع بين الدليلين بحمل المطلق على المقيد مطلقا، فإن وجوب عتق الرقبة المؤمنة أو استحبابه لا يجتمع مع
حرمة عتق مطلقها أو كراهته.
الصورة الثانية: عكس الأولى، وهو تعلق الامر بالمطلق والنهي بالمقيد، مثل:
(أعتق رقبة) و (لا تعتق رقبة فاسقة) فحينئذ تارة نعلم أن النهي تحريمي، فلا إشكال في حمل المطلق على المقيد، وتارة نعلم أنه تنزيهي
فالظاهر عدم
333

الحمل، لان لازم التنزيهي الترخيص بإتيان المتعلق، فلا يبقى التنافي بينهما، بل يحمل النهي على المرجوحية الإضافية، أو الارشاد إلى
أرجحية الغير، فإذا قال: (صل)، وقال: (لا تصل في الحمام)، وعلم أن النهي تنزيهي لازمه الترخيص في إتيانها فيه، فلا إشكال في أن
العرف يجمع بينهما:
بأن إتيانها فيه راجح ذاتا وصحيح، ومرجوح بالإضافة إلى سائر الافراد، فلا وجه للحمل.
وما أفاد شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه -: من لزوم اجتماع الراجحية والمرجوحية في مورد واحد فلا بد من الحمل (1)، لا يمكن
المساعدة عليه.
وثالثة: لا نعلم شيئا منهما، فيدور الامر بين حمل النهي على الكراهة وحفظ الاطلاق وجعله ترخيصا وقرينة على هذا الحمل، وبين رفع
اليد عن الاطلاق وحمله على المقيد.
وما يقال: من أن ظهور النهي في التحريم وضعي مقدم على الظهور الاطلاقي (2) منظور فيه، لما عرفت في باب الأوامر أن الهيئات لم
توضع إلا للبعث والزجر، وأن الايجاب والتحريم خارجان عن الموضوع له.
هذا، ولكن الاظهر حمل المطلق على المقيد في هذه الصورة، وإبقاء النهي على التحريم، لان معيار الجمع بين الأدلة مساعدة العرف، ولا
إشكال في أن

(1) درر الفوائد 1: 204.
(2) فوائد الأصول 2: 582.
334

ذهن العرف لو خلي وطبعه لا يتوجه عند سماع قوله: (أعتق رقبة) و (لا تعتق رقبة فاسقة)، إلا إلى تقييد الاطلاق، ولا يختلج بباله
الحمل على التنزيه بقرينة الاطلاق، وإنما هو احتمال عقلي، ولعل وجه تعارف الاطلاق والتقييد في محيط التشريع، وعدم معهودية
جعل الاطلاق قرينة على النهي، أو كون الهيئات بما أنها حرفية لا يلتفت إليها الذهن، وإلى طريق الجمع بينها.
وكيف كان فلا إشكال في حمل المطلق على المقيد في هذه الصورة عرفا.
إن قلت: لو قلنا بكون المطلق والمقيد داخلين في نزاع اجتماع الأمر والنهي، وقلنا بالجواز هناك، لرفع التعارض بين المطلق والمقيد.
قلت: مسألة اجتماع الأمر والنهي عقلية غير مربوطة بالجمع بين الأدلة، لان مناط الجمع بينها هو فهم العرف، ولا شبهة في وقوع
التعارض بين المطلق والمقيد عرفا، وطريق الجمع عرفي لا عقلي، فلا يكون أحد وجوه الجمع بين الأدلة الجمع العقلي، وهذا واضح جدا،
وإن التبس على بعض الأعاظم (1).
الصورة الثالثة: ما كان الدليلان مثبتين إلزاميين، كقوله: (أعتق رقبة) و (أعتق رقبة مؤمنة)، فلا بد في الحمل فيها من إحراز التنافي
بينهما، وهو يتوقف على وحدة الحكم، ففي هذه الصورة إن أحرزت وحدته فلا إشكال، وإلا فتارة يحرز كون الحكم في المطلق على
نفس الطبيعة،

(1) نفس المصدر السابق.
335

ولم يحتمل دخالة قيد آخر في الموضوع غير القيد الذي في دليل المقيد، وتارة يحتمل قيد آخر.
فعلى الأول: يحمل المطلق على المقيد، لاحراز الوحدة عقلا، لامتناع تعلق الإرادتين بالمطلق والمقيد، لان المقيد هو نفس الطبيعة مع قيد،
فاجتماع الحكمين المتماثلين فيهما ممتنع، فيقع التنافي بينهما، فيحمل المطلق على المقيد.
وأما ما قيل في وجه التنافي: من أن الحكم في المقيد إذا كان إلزاميا متعلقا بصرف الوجود، فمفاده عدم الرضا بعتق المطلق، ومفاد
دليل المطلق هو الترخيص بعتقه، فيقع التنافي بينهما.
وبعبارة أخرى: إن مفاد دليل المقيد دخالة القيد، ومفاد دليل المطلق عدم دخالته، فيقع التنافي (1). ففي غاية السقوط، لان التنافي بين
الترخيص واللا ترخيص، وكذا بين الدخالة وعدمها، يتوقف على وحدة الحكم، فلا يمكن إحراز الوحدة بهما إلا على وجه دائر.
وعلى الثاني: - أي إذا لم يحرز عدم قيد آخر - فيتردد الامر بين حمل المطلق على المقيد ورفع اليد عن ظهور الامر في استقلال البعث،
وبين حفظ ظهور الامر، وكشف قيد آخر في المطلق يجعله مخالفا للمقيد، وقابلا لتعلق حكم مستقل به، والظاهر حمل المطلق على
المقيد في هذه الصورة أيضا، لان ظهور الامر في الاستقلال ظهور ضعيف لا يكشف به قيد آخر. نعم مع العلم

(1) فوائد الأصول 2: 584.
336

بتعدد الحكم لا محيص عن كشف قيد مقابل للمقيد، لما عرفت من امتناع تعلقهما بالمطلق والمقيد.
الصورة الرابعة: ما كان الدليلان نافيين، كقوله: (لا تشرب الخمر)، و (لا تشرب الخمر العنبي)، فلا إشكال في عدم الحمل، إلا مع قيام
القرينة، لعدم التنافي بينهما، وعدم المفهوم للقيد. تأمل (1).
هذه الصورة هي التي لم يذكر السبب فيها.
وأما إذا ذكر، فإما أن يذكر فيهما وكانا مختلفين، كقوله: (إن ظاهرت فأعتق رقبة)، و (إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة)، فلا يحمل، ومع
اتحادهما يحمل.
[أو يذكر]
في أحدهما، كقوله: (إن ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة)، وقوله:
(أعتق رقبة)، فالظاهر عدم الحمل، لا لما قيل: من أن تقييد كل من إطلاق الوجوب والواجب مستلزم للدور، لان حمل المطلق على المقيد
يتوقف على وحدة الحكم، ففي المثال تقييد الوجوب يتوقف على وحدة المتعلق، إذ مع تعددهما لا موجب للتقييد، ووحدة المتعلق
تتوقف على حمل أحد التكليفين على الاخر، إذ مع عدم وحدة التكليف لا تتحقق وحدة المتعلق، لان أحد المتعلقين عتق الرقبة المطلقة، و
الاخر عتق الرقبة المؤمنة (2).
وذلك، لان وحدة الحكم وإن توقفت على وحدة المتعلق، لكن وحدة

(1) وجهه: أنه يأتي فيها ما يأتي في الصورة المتقدمة، فتدبر.
[منه قدس سره.]
(2) فوائد الأصول 1: 580.
337

المتعلق لا تتوقف على وحدته:
لا ثبوتا، لان لوحدة الأشياء وكثرتها واقعية، تعلق بها الحكم أولا، وفي المقام يكون المقيد هو المطلق مع قيد، وفي مثله لا يمكن تعلق
الإرادتين والحكمين بهما.
ولا إثباتا، لان تعلق الحكم في المطلق بنفس الطبيعة يكشف عن كونها تمام الموضوع للحكم، فإذا تعلق حكم بالمقيد - والفرض أنه
نفس الطبيعة مع قيد - يكشف عن كون النسبة بين الموضوعين بالاطلاق والتقييد.
بل عدم الحمل لأجل أن التكليف الذي لم يذكر فيه السبب حجة على العبد في ظرف عدم تحقق سبب المقيد، فإذا قال المولى: (أعتق
رقبة)، لا يجوز رفع اليد والتخلف عنه إلى وقت فعلية حكم قوله: (إن ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة)، بإيجاد سببه.
وبعبارة أخرى: إن العرف يحكم بأن عتق الرقبة مطلوب المولى حصل الظهار أولا، وبعد حصوله يكون عتق رقبة أخرى مطلوبا له من
قبل سببية الظهار. هذا كله في الحكم التكليفي.
ومنه يتضح الامر في الوضعي، ففي بعض الموارد يحمل المطلق على المقيد، كقوله: (لا تصل في وبر ما لا يؤكل)، وقوله: (صل في وبر
السباع مما لا يؤكل)، وكقوله: (اغسل ثوبك من البول)، وقوله: (اغسل ثوبك من البول مرتين).
وفي بعضها لا يحمل، كقوله: (لا تصل فيما لا يؤكل لحمه)، وقوله:
338

(لا تصل في وبر ما لا يؤكل لحمه)، لعدم المنافاة بين مانعية مطلق أجزأ ما لا يؤكل، ومانعية وبره، ولا مفهوم للقيد حتى يجي التنافي
من قبله.
وعليك بالتأمل في سائر الموارد، واستخراج حكمها مما ذكر.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وقد وقع الفراغ في يوم السبت الرابع والعشرين من شهر شوال المكرم (1373)
339