الكتاب: بداية الوصول في شرح كفاية الأصول
المؤلف: الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي
الجزء: ٦
الوفاة: ١٤٠٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: أشرف على طبعه وتصحيحه : محمد عبد الحكيم الموسوي البكاء
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٥ - ٢٠٠٤م
المطبعة: ستاره
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
ردمك:
ملاحظات:

بداية الوصول
في شرح كفاية الأصول
تأليف
آية الله العظمى
الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي
(قدس سره)
أشرف على طبعة وتصحيحه
محمد عبد الحكيم الموسوي البكاء
الجزء السادس
مقدمة 1

الكتاب: بداية الوصول / الجزء السادس
مؤلف: الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي (قدس سره)
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
الطبعة: الأولى 1425 ه‍. ق / 2004 م
المطبعة: مطبعة ستاره
عدد النسخ: (1000) نسخه
جميع حقوق الطبع محفوظة ومسجلة للناشر
مقدمة 2

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة 3

فصل
في الاخبار التي دلت على اعتبار الأخبار الآحاد. وهي وإن كانت طوائف كثيرة، كما يظهر من مراجعة الوسائل وغيرها (1)، إلا أنه يشكل

(1) بحار الأنوار ج 2، ص 252.
(2) بحار الأنوار ج 2، 82.
(3) بحار الأنوار ج 2، ص 246.
1

الاستدلال بها على حجية الأخبار الآحاد بأنها أخبار آحاد، فإنها غير متفقة على لفظ ولا على معنى، فتكون متواترة لفظا أو معنى (1).
ولكنه مندفع بأنها وإن كانت كذلك، إلا أنها متواترة إجمالا، ضرورة أنه يعلم إجمالا بصدور بعضها منهم عليهم السلام (2)، وقضيته وإن كان
2

حجية خبر دل على حجيته أخصها مضمونا إلا أنه يتعدى عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصية، وقد دل على حجية ما كان أعم (1)،
3

فافهم (1).
4

فصل
في الاجماع على حجية الخبر. وتقريره من وجوه (1):
أحدها: دعوى الاجماع من تتبع فتاوى الأصحاب على الحجية من زماننا إلى زمان الشيخ، فيكشف رضاه عليه السلام بذلك، ويقطع به، أو من تتبع الاجماعات المنقولة على الحجية (2)، ولا يخفى مجازفة هذه الدعوى،
5

لاختلاف الفتاوى فيما أخذ في اعتباره من الخصوصيات، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضائه عليه السلام من تتبعها، وهكذا حال تتبع الاجماعات المنقولة (1)، اللهم إلا أن يدعى تواطؤها على الحجية في الجملة، وإنما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها، ولكن دون إثباته خرط القتاد (2).
6

ثانيها: دعوى اتفاق العلماء عملا - بل كافة المسلمين - على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها (1).
وفيه: مضافا إلى ما عرفت مما يرد على الوجه الأول، أنه لو سلم اتفاقهم على ذلك، لم يحرز أنهم اتفقوا بما هم مسلمون ومتدينون بهذا
8

الدين، أو بما هم عقلاء ولو لم يلزموا بدين، كما هم لا يزالون يعملون بها في غير الأمور الدينية من الأمور العادية، فيرجع إلى ثالث الوجوه (1)، وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة، واستمرت إلى زماننا، ولم يردع عنه نبي ولا وصي نبي،
9

ضرورة أنه لو كان لاشتهر وبان، ومن الواضح أنه يكشف عن رضا الشارع به في الشرعيات أيضا (1).
10

إن قلت: يكفي في الردع الآيات الناهية، والروايات المانعة عن اتباع غير العلم، وناهيك قوله تعالى: [ولا تقف ما ليس لك به علم]، وقوله تعالى: [وإن الظن لا يغني من الحق شيئا] (1).
11

قلت: لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك، فإنه - مضافا إلى أنها وردت إرشادا إلى عدم كفاية الظن في أصول الدين، ولو سلم فإنما المتيقن لولا أنه المنصرف إليه إطلاقها هو خصوص الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة (1) - لا يكاد يكون الردع بها إلا على وجه دائر، وذلك

(1) الاسراء: الآية 36.
(2) يونس: الآية 36.
12

لان الردع بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها، أو تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، وهو يتوقف على الردع عنها بها، وإلا لكانت مخصصة أو مقيدة لها، كما لا يخفى (1).
13

لا يقال: على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضا، إلا على وجه دائر، فإن اعتباره بها فعلا يتوقف على عدم الردع بها عنها، وهو يتوقف على تخصيصها بها، وهو يتوقف على عدم الردع بها عنها (1).
15

فإنه يقال: إنما يكفي في حجيته بها عدم ثبوت الردع عنها، لعدم نهوض ما يصلح لردعها، كما يكفي في تخصيصها لها ذلك، كما لا يخفى (1)، ضرورة أن ما جرت عليه السيرة المستمرة
16

في مقام الإطاعة والمعصية، وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة، وعدم
18

استحقاقها مع الموافقة، ولو في صورة المخالفة عن الواقع، يكون عقلا في الشرع متبعا ما لم ينهض دليل على المنع عن اتباعه في الشرعيات (1)،
19

فافهم وتأمل (1).

(1) كفاية الأصول بحاشية المحقق المشكيني (قدس سره) ج 2 ص 101 (حجري).
20

فصل
في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية الخبر الواحد (1).
أحدها: إنه يعلم إجمالا بصدور كثير مما بأيدينا من الاخبار من الأئمة الأطهار عليهم السلام بمقدار واف بمعظم الفقه، بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار لانحل علمنا الاجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الامارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الاخبار الصادرة المعلومة تفصيلا والشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الامارات غير المعتبرة (2).
22

ولازم ذلك لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة، وجواز العمل على طبق النافي منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له، من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب، (1) بناء على جريانه في أطراف ما
28

علم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعضها، أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها فيه، وإلا لاختص عدم جواز العمل على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال (1).
30

وفيه: إنه لا يكاد ينهض على حجية الخبر، بحيث يقدم تخصيصا أو تقييدا أو ترجيحا على غيره، من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم (1)، وإن
31

كان يسلم عما أورد عليه من أن لازمه الاحتياط في سائر الامارات، لا في خصوص الروايات، لما عرفت من انحلال العلم الاجمالي بينهما بما علم بين الاخبار بالخصوص ولو بالاجمال فتأمل جيدا (1).
ثانيها: ما ذكره في الوافية، مستدلا على حجية الاخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة، كالكتب الأربعة، مع عمل جمع به من غير رد ظاهر، وهو إنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، سيما بالأصول الضرورية، كالصلاة والزكاة والصوم والحج والمتاجر والأنكحة ونحوها، مع أن جل أجزائها وشرائطها وموانعها إنما يثبت بالخبر غير القطعي،
32

بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد، ومن أنكر فإنما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالايمان (1).
33

وأورد عليه: أولا: بأن العلم الاجمالي حاصل بوجود الاجزاء والشرائط بين جميع الأخبار، لا خصوص الاخبار المشروطة بما ذكره، فاللازم حينئذ: إما الاحتياط، أو العمل بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته (1).
34

قلت: يمكن أن يقال: إن العلم الاجمالي وإن كان حاصلا بين جميع الأخبار، إلا أن العلم بوجود الاخبار الصادرة عنهم عليهم السلام بقدر الكفاية بين تلك الطائفة، أو العلم باعتبار طائفة كذلك بينها، يوجب انحلال ذاك العلم الاجمالي، وصيرورة غيره خارجا عن طرف العلم، كما مرت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأول (1).
35

اللهم إلا أن يمنع عن ذلك، وادعي عدم الكفاية فيما علم بصدوره أو اعتباره، أو ادعي العلم بصدور أخبار أخر بين غيرها (1)،
36

فتأمل (1).
وثانيا: بأن قضيته إنما هو العمل بالاخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية، دون الاخبار النافية لهما (2).
37

والأولى أن يورد عليه: بأن قضيته إنما هو العمل بالاخبار المثبتة فيما لم تقم حجة معتبرة على نفيهما، من عموم دليل أو إطلاقه، لا الحجية بحيث يخصص أو يقيد بالمثبت منهما، أو يعمل بالنافي في قبال حجة على الثبوت ولو كان أصلا، كما لا يخفى (1).
38

ثالثها: ما أفاده بعض المحققين بما ملخصه: إنا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلى يوم القيامة، فإن تمكنا من الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه، فلابد من الرجوع إليهما كذلك، وإلا فلا محيص عن الرجوع على نحو يحصل الظن به في الخروج عن عهدة هذا التكليف، فلو لم يتمكن من القطع بالصدور أو الاعتبار، فلابد من التنزل إلى الظن بأحدهما (1).
39

وفيه: إن قضية بقاء التكليف فعلا بالرجوع إلى الاخبار الحاكية للسنة، كما صرح بأنها المراد منها في ذيل كلامه زيد في علو مقامه إنما هي الاقتصار في الرجوع إلى الاخبار المتيقن الاعتبار، فإن وفى، وإلا أضيف إليه الرجوع إلى ما هو المتيقن اعتباره بالإضافة لو كان، وإلا فالاحتياط بنحو عرفت، لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره، وذلك للتمكن من الرجوع علما تفصيلا أو إجمالا، فلا وجه معه من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظن اعتباره. هذا مع أن مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنة - بذاك المعنى - فيما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع (1).
42

وأما الايراد عليه: برجوعه إما إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى العلم الاجمالي بتكاليف واقعية، وإما إلى الدليل الأول، لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الاخبار (1).
ففيه: إن ملاكه إنما هو دعوى العلم بالتكليف، بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة، فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه (2).
45

فصل
في الوجوه التي أقاموها على حجية الظن (1)، وهي أربعة:
46

الأول: إن في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة للضرر، ودفع الضرر المظنون لازم.
أما الصغرى، فلان الظن بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته أو الظن بالمفسدة فيها، بناءا على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد (1).
47

وأما الكبرى، فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون، ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح، لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما، بل يكون التزامه بدفع الضرر المظنون بل المحتمل بما هو كذلك ولو لم يستقل بالتحسين والتقبيح، مثل الالتزام بفعل ما استقل بحسنه، إذا قيل باستقلاله، ولذا أطبق العقلاء عليه، مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح، فتدبر جيدا (1).
49

والصواب في الجواب: هو منع الصغرى، أما العقوبة فلضرورة عدم الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة على مخالفته، لعدم الملازمة بينه والعقوبة على مخالفته، وإنما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها، لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها، ومجرد الظن به بدون دليل على اعتباره لا يتنجز به، كي يكون مخالفته عصيانه (1).
51

إلا أن يقال: إن العقل وإن لم يستقل بتنجزه بمجرده، بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته، إلا أنه لا يستقل أيضا بعدم استحقاقها معه، فيحتمل العقوبة حينئذ على
المخالفة، ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدا (1)، لا سيما إذا كان هو العقوبة
53

الأخروية، كما لا يخفى (1).
وأما المفسدة فلأنها وإن كان الظن بالتكليف يوجب الظن بالوقوع فيها لو خالفه، إلا أنها ليست بضرر على كل حال، ضرورة أن كل ما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله،
55

بل ربما يوجب حزازة ومنقصة في الفعل، بحيث يذم عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلا، كما لا يخفى (1).
56

وأما تفويت المصلحة، فلا شبهة في أنه ليس فيه مضرة، بل ربما يكون في استيفائها المضرة (1)، كما في الاحسان
58

بالمال (1).
هذا مع منع كون الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها، بل إنما هي تابعة لمصالح فيها، كما حققناه في بعض فوائدنا.
وبالجملة: ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان في الافعال وأنيط بهما الاحكام بمضرة (2)، وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو
59

حسن ما فيه المصلحة من الافعال - على القول باستقلاله بذلك - هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله أو نفع عائد إليه، ولعمري هذا أوضح من أن يخفى، فلا مجال لقاعدة دفع الضرر المظنون ها هنا أصلا (1)، ولا استقلال
60

للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة أو ترك ما فيه احتمال المصلحة (1)،
61

فافهم (1).
الثاني: إنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح (2).
63

وفيه: إنه لا يكاد يلزم منه ذلك إلا فيما إذا كان الاخذ بالظن أو بطرفه لازما، مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلا، أو عدم وجوبه شرعا، ليدور الامر بين ترجيحه وترجيح طرفه، ولا يكاد يدور الامر بينهما إلا بمقدمات دليل الانسداد، وإلا كان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمي أو الاحتياط أو البراءة أو غيرهما على حسب اختلاف الاشخاص أو الأحوال في اختلاف المقدمات، على ما ستطلع على حقيقة الحال (1).
64

الثالث: ما عن السيد الطباطبائي (قدس سره): من إنه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالاتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو موهوما، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك، ولكن مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كله، لأنه عسر أكيد وحرج شديد، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات
67

والموهومات، لان الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعا (1).
ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد، فإنه بعض مقدمات دليل الانسداد، ولا يكاد ينتج بدون سائر مقدماته، ومعه لا يكون دليلا آخر، بل ذاك الدليل (2).
68

الرابع: دليل الانسداد، وهو مؤلف من مقدمات، يستقل العقل مع تحققها بكفاية الإطاعة الظنية حكومة أو كشفا على ما تعرف، ولا يكاد يستقل بها بدونها، وهي خمس.
أولها: إنه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.
ثانيها: إنه قد انسد علينا باب العلم والعلمي إلى كثير منها.
ثالثها: إنه لا يجوز لنا إهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلا.
رابعها: إنه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا، بل لا يجوز في الجملة، كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل في المسألة، من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط، ولا إلى فتوى العالم بحكمها (1).
69

خامسها: إنه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا، فيستقل العقل حينئذ بلزوم الإطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة، وإلا لزم - بعد انسداد باب العلم والعلمي بها - إما إهمالها، وإما لزوم الاحتياط في أطرافها، وإما الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة، مع قطع النظر عن العلم بها، أو التقليد فيها، أو الاكتفاء بالإطاعة
الشكية أو الوهمية مع التمكن من الظنية والفرض بطلان كل واحد منها (1):
74

أما المقدمة الأولى: فهي وإن كانت بديهية إلا أنه قد عرفت انحلال العلم الاجمالي بما في الاخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين عليهم السلام التي تكون فيما بأيدينا، من الروايات في الكتب المعتبرة، ومعه لا موجب للاحتياط إلا في خصوص ما في الروايات (1)، وهو غير مستلزم للعسر
75

فضلا عما يوجب الاختلال، ولا إجماع على عدم وجوبه (1)، ولو سلم الاجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال (2).
76

وأما المقدمة الثانية: أما بالنسبة إلى العلم، فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا بينة وجدانية، يعرف الانسداد كل من تعرض للاستنباط والاجتهاد.
وأما بالنسبة إلى العلمي، فالظاهر أنها غير ثابتة، لما عرفت من نهوض الأدلة على حجية خبر (1) يوثق بصدقه، وهو بحمد الله واف
77

بمعظم الفقه، لا سيما بضميمة ما علم تفصيلا منها، كما لا يخفى (1).
وأما الثالثة: فهي قطعية (2)، ولو لم نقل بكون العلم الاجمالي منجزا
78

مطلقا (1) أو فيما جاز، أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه، كما في المقام حسب ما يأتي، وذلك لان إهمال معظم الاحكام وعدم الاجتناب كثيرا
79

عن الحرام، مما يقطع بأنه مرغوب عنه شرعا ومما يلزم تركه إجماعا (1).
إن قلت: إذا لم يكن العلم بها منجزا لها للزوم الاقتحام في بعض الأطراف - كما أشير إليه - فهل كان العقاب على المخالفة في سائر
80

الأطراف - حينئذ - على تقدير المصادفة إلا عقابا بلا بيان؟ والمؤاخذة عليها إلا مؤاخذة بلا برهان (1)؟!
81

قلت: هذا إنما يلزم، لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط، وقد علم به بنحو اللم، حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه، بحيث ينافيه عدم إيجابه الاحتياط الموجب للزوم المراعاة، ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات (1)، مع صحة دعوى الاجماع على عدم جواز الاهمال في هذا
82

الحال، وأنه مرغوب عنه شرعا قطعا (1)، وأما مع استكشافه (2) فلا يكون المؤاخذة والعقاب حينئذ بلا بيان وبلا برهان، كما حققناه في البحث وغيره.
83

وأما المقدمة الرابعة: فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التام بلا كلام، فيما يوجب عسره اختلال النظام، وأما فيما لا يوجب، فمحل نظر بل منع، لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط، وذلك لما حققناه في معنى ما دل على نفي الضرر والعسر، من أن التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف أو الوضع المتعلقين بما يعمهما، هو نفيهما عنهما بلسان نفيهما، فلا يكون له حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل، لعدم العسر في متعلق التكليف، وإنما هو في الجمع بين محتملاته احتياطا.
84

نعم، لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر كما قيل لكانت قاعدة نفيه محكمة على قاعدة الاحتياط، لان العسر حينئذ يكون من قبل التكاليف المجهولة، فتكون منفية بنفيه (1).

(1) الحج: الآية 78.
85



(1) الكافي، ج 5، ص 294.
87

ولا يخفى أنه على هذا لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها، بل لابد من دعوى وجوبه شرعا، كما أشرنا إليه في بيان المقدمة الثالثة، فافهم وتأمل جيدا (1).
89

وأما الرجوع إلى الأصول، فبالنسبة إلى الأصول المثبتة من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف، فلا مانع عن إجرائها عقلا مع حكم العقل وعموم النقل. هذا، ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي لاستلزام شمول دليله لها التناقض في مدلوله، بداهة تناقض حرمة النقض في كل منها بمقتضى (لا تنقض) لوجوبه في البعض، كما هو قضية (ولكن تنقضه بيقين آخر) (1) وذلك لأنه إنما يلزم فيما إذا
90



(1) تهذيب الأحكام، ج 1، ص 8.
92

كان الشك في أطرافه فعليا. وأما إذا لم يكن كذلك، بل لم يكن الشك فعلا إلا في بعض أطرافه، وكان بعض أطرافه الأخر غير ملتفت إليه فعلا أصلا، كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الاحكام، كما لا يخفى، فلا يكاد يلزم ذلك، فإن قضية (لا تنقض) ليس حينئذ إلا حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك، وليس فيه علم بالانتقاض كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له (1)،
94

فافهم (1).
ومنه قد انقدح ثبوت حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الأصول النافية أيضا، وأنه لا يلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدليل لها لو لم يكن هناك مانع عقلا أو
شرعا من إجرائها، ولا مانع كذلك لو كانت موارد الأصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا، أو نهض عليه علمي
97

بمقدار المعلوم إجمالا، بل بمقدار لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط، وإن لم يكن بذاك المقدار (1)، ومن الواضح أنه يختلف
98

باختلاف الاشخاص والأحوال (1).
100

وقد ظهر بذلك أن العلم الاجمالي بالتكاليف ربما ينحل ببركة جريان الأصول المثبتة وتلك الضميمة، فلا موجب حينئذ للاحتياط عقلا ولا شرعا أصلا، كما لا يخفى (1).
كما ظهر أنه لو لم ينحل بذلك، كان خصوص موارد الأصول النافية مطلقا - ولو من مظنونات عدم التكليف - محلا للاحتياط فعلا، ويرفع اليد عنه فيها كلا أو بعضا، بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر - على ما عرفت - لا محتملات التكليف مطلقا (2).
101

وأما الرجوع إلى فتوى العالم فلا يكاد يحرز، ضرورة أنه لا يجوز إلا للجاهل لا للفاضل الذي يرى خطأ من يدعي انفتاح باب العلم أو العلمي، فهل يكون رجوعه إليه بنظره إلا من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل (1)؟
103

وأما المقدمة الخامسة: فلاستقلال العقل بها، وأنه لا يجوز التنزل - بعد عدم التمكن من الإطاعة العلمية أو عدم وجوبها - إلا إلى الإطاعة الظنية دون الشكية أو الوهمية، لبداهة مرجوحيتهما بالإضافة إليها، وقبح ترجيح المرجوح على الراجح (1).
104

لكنك عرفت عدم وصول النوبة إلى الإطاعة الاحتمالية، مع دوران الامر بين الظنية والشكية أو الوهمية، من جهة ما أوردناه على المقدمة الأولى من انحلال العلم الاجمالي بما في أخبار الكتب المعتبرة، وقضيته الاحتياط بالالتزام عملا بما فيها من التكاليف، ولا بأس به حيث لا يلزم منه عسر فضلا عما يوجب اختلال النظام. وما أوردناه على المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الأصول مطلقا، ولو كانت نافية، لوجود المقتضي وفقد المانع لو كان التكليف في موارد الأصول المثبتة وما علم منه تفصيلا، أو نهض عليه دليل معتبر بمقدار المعلوم بالاجمال، وإلا فإلى الأصول المثبتة وحدها، وحينئذ كان خصوص موارد الأصول النافية محلا لحكومة العقل، وترجيح مظنونات التكليف فيها على غيرها، ولو بعد استكشاف وجوب الاحتياط في الجملة شرعا، بعد عدم وجوب الاحتياط التام شرعا أو عقلا - على ما عرفت تفصيله - هذا هو التحقيق على ما يساعد عليه النظر الدقيق، فافهم وتدبر جيدا (1).
105

فصل
هل قضية المقدمات على تقدير سلامتها هي حجية الظن بالواقع، أو بالطريق، أو بهما؟ أقوال (1):
108

والتحقيق أن يقال: إنه لا شبهة في أن هم العقل في كل حال إنما هو تحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة، من العقوبة على مخالفتها، كما لا شبهة في استقلاله في تعيين ما هو المؤمن منها، وفي أن كلما كان القطع به مؤمنا في حال الانفتاح كان الظن به مؤمنا حال الانسداد جزما، وإن المؤمن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلف به الواقعي بما هو كذلك، لا بما هو معلوم ومؤدى الطريق ومتعلق العلم، وهو طريق شرعا وعقلا، أو بإتيانه الجعلي، وذلك لان العقل قد استقل بأن الاتيان بالمكلف به الحقيقي بما هو هو، لا بما هو مؤدى الطريق مبرئ للذمة قطعا. كيف؟ وقد عرفت أن القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يد الجعل إحداثا وإمضاءا، إثباتا ونفيا، ولا يخفى أن قضية ذلك هو التنزل إلى الظن بكل واحد من الواقع والطريق (1)، ولا منشأ لتوهم الاختصاص
109

بالظن بالواقع إلا توهم أنه قضية اختصاص المقدمات بالفروع، لعدم انسداد باب العلم في الأصول، وعدم إلجاء في
التنزل إلى الظن فيها (1)،
113

والغفلة عن أن جريانها في الفروع موجب لكفاية الظن بالطريق في مقام تحصيل الأمن من عقوبة التكاليف، وإن كان باب العلم في غالب الأصول مفتوحا، وذلك لعدم التفاوت في نظر العقل في ذلك بين الظنين (1)،
115

كما أن منشأ توهم الاختصاص بالظن بالطريق وجهان (1):
116

أحدهما: ما أفاده بعض الفحول وتبعه في الفصول، قال فيها: إنا كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية كثيرة، لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع، ولا بطريق معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه، أو قيام طريقه مقام القطع (1) ولو
117

عند تعذره (1)، كذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقا مخصوصا، وكلفنا تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة، وحيث أنه لا سبيل غالبا إلى تعيينها بالقطع، ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص، أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذره (2)،
118

فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على عدم حجيته، لأنه أقرب إلى العلم، وإلى إصابة الواقع مما عداه (1).
119

وفيه: أولا - بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصة باقية فيما بأيدينا من الطرق غير العلمية، وعدم وجود المتيقن بينها أصلا (1) - أن قضية
120

ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق المعلومة بالاجمال لا تعيينها بالظن (1).
122

لا يقال: الفرض هو عدم وجوب الاحتياط، بل عدم جوازه (1)، لان الفرض إنما هو عدم وجوب الاحتياط التام في أطراف الاحكام، مما يوجب العسر المخل بالنظام، لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطرق (2). فإن قضية هذا الاحتياط هو جواز رفع اليد عنه في غير
123

مواردها، والرجوع إلى الأصل فيها ولو كان نافيا للتكليف (1)، وكذا
124

فيما إذا نهض الكل على نفيه (1)، وكذا فيما إذ تعارض فردان من بعض الأطراف فيه نفيا وإثباتا مع ثبوت المرجح للنافي، بل مع عدم رجحان المثبت في خصوص الخبر منها، ومطلقا في غيره بناء على عدم ثبوت الترجيح على تقدير الاعتبار في غير الاخبار (2)، وكذا لو
126

تعارض اثنان منها في الوجوب والتحريم (1)، فإن المرجع في جميع ما ذكر من موارد التعارض هو الأصل الجاري فيها ولو كان نافيا، لعدم
130

نهوض طريق معتبر ولا ما هو من أطراف العلم به على خلافه (1)،
131

فافهم (1).
133

وكذا كل مورد لم يجر فيه الأصل المثبت، للعمل بانتقاض الحالة السابقة فيه إجمالا بسبب العلم به، أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه، بناء على عدم جريانه بذلك (1).
134

وثانيا: لو سلم أن قضيته لزوم التنزل إلى الظن، فتوهم أن الوظيفة حينئذ هو خصوص الظن بالطريق فاسد قطعا، وذلك لعدم كونه أقرب
135

إلى العلم وإصابة الواقع من الظن، بكونه مؤدى طريق معتبر من دون الظن بحجية طريق أصلا، ومن الظن بالواقع، كما لا يخفى (1).
136

لا يقال: إنما لا يكون أقرب من الظن بالواقع، إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه إلى مؤديات الطرق ولو بنحو التقييد (1)، فإن
138

الالتزام به بعيد (1)، إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا، فلا أقل من كونه مجمعا على بطلانه، ضرورة أن القطع بالواقع يجدي في الاجزاء بما هو
139

واقع، لا بما هو مؤدى طريق القطع، كما عرفت (1).
144

ومن هنا انقدح أن التقييد أيضا غير سديد (1)، مع أن الالتزام بذلك غير مفيد، فإن الظن بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف لا يكاد ينفك
146

عن الظن بأنه مؤدى طريق معتبر (1)، والظن بالطريق ما لم يظن بإصابة الواقع غير مجد بناءا على التقييد، لعدم استلزامه الظن بالواقع المقيد به بدونه (2).
147

هذا مع عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف ولا على التقييد (1)، غايته أن العلم الاجمالي بنصب طرق وافية يوجب انحلال العلم بالتكاليف الواقعية إلى العلم بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف
149

الفعلية، والانحلال وإن كان يوجب عدم تنجز ما لم يؤد إليه الطريق من التكاليف الواقعية، إلا أنه إذا كان رعاية العلم بالنصب لازما، والفرض عدم اللزوم، بل عدم الجواز. وعليه يكون التكاليف الواقعية، كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب في كفاية الظن بها حال انسداد باب العلم، كما لا يخفى، ولابد حينئذ من عناية أخرى في لزوم رعاية الواقعيات بنحو من الإطاعة، وعدم إهمالها رأسا كما أشرنا إليه، ولا شبهة في أن الظن بالواقع لو لم يكن أولى حينئذ لكونه أقرب في التوسل به إلى ما به الاهتمام من فعل الواجب وترك الحرام، من الظن بالطريق، فلا أقل من كونه مساويا فيما يهم العقل من تحصيل الأمن من العقوبة في كل حال (1)، هذا مع ما عرفت من أنه عادة يلازم الظن بأنه مؤدى طريق،
150

وهو بلا شبهة يكفي ولو لم يكن هناك ظن بالطريق، فافهم فإنه دقيق (1).
ثانيهما: ما اختص به بعض المحققين، قال: لا ريب في كوننا مكلفين بالأحكام الشرعية، ولم يسقط عنا التكليف بالأحكام الشرعية، وأن الواجب علينا أولا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به، وسقوط تكليفنا عنا، سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا، حسبما مر تفصيل القول فيه، فحينئذ نقول: ان صح لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمتنا في حكم الشارع فلا اشكال في وجوبه وحصول البراءة به، وان انسد علينا سبيل العلم كان الواجب علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه، إذ هو الأقرب إلى العلم به، فيتعين الاخذ به عند التنزل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف دون ما يحصل معه الظن بأداء الواقع
154

كما يدعيه القائل بأصالة حجية الظن.. انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه (1).

(1) هداية المسترشدين، ص 391.
155

وفيه أولا: إن الحاكم على الاستقلال في باب تفريغ الذمة بالإطاعة والامتثال إنما هو العقل، وليس للشارع في هذا الباب حكم مولوي يتبعه حكم العقل، ولو حكم في هذا الباب كان بتبع حكمه إرشادا إليه، وقد عرفت استقلاله بكون الواقع بما هو مفرغ، وأن القطع به حقيقة أو تعبدا مؤمن جزما، وأن المؤمن في حال الانسداد هو الظن بما كان القطع به مؤمنا حال الانفتاح، فيكون الظن بالواقع أيضا مؤمنا حال الانسداد (1).
157

وثانيا: سلمنا ذلك، لكن حكمه بتفريغ الذمة - فيما إذا أتى المكلف بمؤدى الطريق المنصوب - ليس إلا بدعوى أن النصب يستلزمه، مع أن دعوى أن التكليف بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ فيما إذا أتى به أولى، كما لا يخفى، فيكون الظن به ظنا بالحكم بالتفريغ أيضا (1).
158

إن قلت: كيف يستلزمه الظن بالواقع؟ مع أنه ربما يقطع بعدم حكمه به معه، كما إذا كان من القياس، وهذا بخلاف الظن بالطريق، فإنه يستلزمه ولو كان من القياس (1).
159

قلت: الظن بالواقع أيضا يستلزم الظن بحكمه بالتفريغ، ولا ينافي القطع بعدم حجيته لدى الشارع، وعدم كون المكلف معذورا - إذا عمل به فيهما - فيما أخطأ، بل كان مستحقا للعقاب - ولو فيما أصاب - لو بنى على حجيته والاقتصار عليه لتجريه، فافهم (1).
160

وثالثا: سلمنا أن الظن بالواقع لا يستلزم الظن به، لكن قضيته ليس إلا التنزل إلى الظن بأنه مؤدى طريق معتبر، لا خصوص الظن بالطريق، وقد عرفت أن الظن بالواقع لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى الطريق غالبا (1).
162

فصل
لا يخفى عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على كون الظن طريقا منصوبا شرعا، ضرورة أنه معها لا يجب عقلا على الشارع أن
163

ينصب طريقا، لجواز اجتزائه بما استقل به العقل في هذا الحال (1)، ولا مجال لاستكشاف نصب الشارع من حكم العقل، لقاعدة الملازمة،
164

ضرورة أنها إنما تكون في مورد قابل للحكم الشرعي، والمورد هاهنا غير قابل له، فإن الإطاعة الظنية التي يستقل العقل بكفايتها في حال الانسداد إنما هي بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها، وعدم جواز اقتصار المكلف بدونها، ومؤاخذة الشارع غير قابلة لحكمه، وهو واضح. واقتصار المكلف بما دونها، لما كان بنفسه موجبا للعقاب مطلقا، أو فيما أصاب الظن، كما أنها بنفسها موجبة للثواب أخطأ أو أصاب،
166

من دون حاجة إلى أمر بها أو نهي عن مخالفتها، كان حكم الشارع فيه مولويا بلا ملاك يوجبه، كما لا يخفى (1)، ولا بأس به إرشاديا، كما هو
167

شأنه في حكمه بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية (1). وصحة نصبه الطريق وجعله في كل حال بملاك يوجب نصبه وحكمة داعية إليه، لا تنافي

(1) النساء: الآية 1. (2) الأنفال: الآية 46.
170

استقلال العقل بلزوم الإطاعة بنحو حال الانسداد، كما يحكم بلزومها بنحو آخر حال الانفتاح، من دون استكشاف حكم الشارع بلزومها مولويا، لما عرفت.
فانقدح بذلك عدم صحة تقرير المقدمات إلا على نحو الحكومة دون الكشف (1)، وعليها فلا إهمال في النتيجة أصلا، سببا وموردا ومرتبة،
171

لعدم تطرق الاهمال والاجمال في حكم العقل، كما لا يخفى (1).
173

أما بحسب الأسباب فلا تفاوت بنظره فيها (1).
وأما بحسب الموارد، فيمكن أن يقال بعدم استقلاله بكفاية الإطاعة الظنية، إلا فيما ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب وترك
174

الحرام، واستقلاله بوجوب الاحتياط فيما فيه مزيد الاهتمام، كما في الفروج والدماء بل وسائر حقوق الناس مما لا يلزم من الاحتياط فيها العسر (1).
175

وأما بحسب المرتبة، فكذلك لا يستقل إلا بلزوم التنزل إلى مرتبة الاطمئنان من الظن، إلا على تقدير عدم كفايتها في دفع محذور العسر (1).
وأما على تقرير الكشف، فلو قيل بكون النتيجة هو نصب الطريق الواصل بنفسه، فلا إهمال فيها أيضا بحسب الأسباب، بل يستكشف حينئذ أن الكل حجة لو لم يكن بينها ما هو المتيقن، وإلا فلا مجال لاستكشاف حجية غيره، ولا بحسب الموارد، بل يحكم بحجيته في
176

جميعها، وإلا لزم عدم وصول الحجة، ولو لأجل التردد في مواردها، كما لا يخفى (1).
177

ودعوى الاجماع على التعميم بحسبها في مثل هذه المسألة المستحدثة مجازفة جدا (1).
180

وأما بحسب المرتبة، ففيها إهمال، لإجل احتمال حجية خصوص الاطمئناني منه إذا كان وافيا، فلابد من الاقتصار عليه (1)، ولو قيل بأن
181

النتيجة هو نصب الطريق الواصل ولو بطريقه (1)، فلا إهمال فيها بحسب الأسباب، لو لم يكن فيها تفاوت أصلا، أو لم يكن بينها إلا واحد، وإلا
182

فلابد من الاقتصار على متيقن الاعتبار منها أو مظنونه، بإجراء مقدمات دليل الانسداد حينئذ مرة أو مرات في تعيين الطريق المنصوب، حتى ينتهي إلى ظن واحد أو إلى ظنون متعددة لا تفاوت بينها، فيحكم بحجية كلها، أو متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقن الاعتبار، فيقتصر عليه (1).
183

وأما بحسب الموارد والمرتبة، فكما إذا كانت النتيجة هي الطريق الواصل بنفسه، فتدبر جيدا (1).
184

ولو قيل بأن النتيجة هو الطريق ولو لم يصل أصلا، فالاهمال فيها يكون من الجهات (1)، ولا محيص حينئذ إلا من الاحتياط في الطريق
185

بمراعاة أطراف الاحتمال لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار (1)، لو لم يلزم منه محذور، وإلا لزم التنزل إلى حكومة العقل بالاستقلال، فتأمل فإن
186

المقام من مزال الاقدام (1).
وهم ودفع: لعلك تقول: إن القدر المتيقن الوافي لو كان في البين لما كان مجال لدليل الانسداد، ضرورة أنه من مقدماته انسداد باب العلمي أيضا (2).
187

لكنك غفلت عن أن المراد ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبله، لأجل اليقين بأنه لو كان شيء حجة شرعا كان هذا الشيء حجة قطعا (1)،
188

بداهة أن الدليل على أحد المتلازمين إنما هو الدليل على الآخر، لا الدليل على الملازمة (1).
190

ثم لا يخفى أن الظن باعتبار الظن بالخصوص، يوجب اليقين باعتباره من باب دليل الانسداد على تقرير الكشف بناءا على كون النتيجة هو الطريق الواصل بنفسه، فإنه حينئذ يقطع بكونه حجة، كان غيره حجة أولا، واحتمال عدم حجيته بالخصوص لا ينافي القطع بحجيته بملاحظة الانسداد، ضرورة أنه على الفرض لا يحتمل أن يكون غيره حجة بلا نصب قرينة، ولكنه من المحتمل أن يكون هو الحجة دون غيره، لما فيه من خصوصية الظن بالاعتبار، وبالجملة الامر يدور بين حجية الكل وحجيته، فيكون مقطوع الاعتبار.
ومن هنا ظهر حال القوة، ولعل نظر من رجح بها إلى هذا الفرض، وكان منع شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - عن الترجيح بهما، بناءا
191

على كون النتيجة هو الطريق الواصل ولو بطريقه، أو الطريق ولو لم يصل أصلا، وبذلك ربما يوفق بين كلمات الاعلام في المقام (1)،
192

وعليك بالتأمل التام (1).
194

ثم لا يذهب عليك أن الترجيح بهما إنما هو على تقدير كفاية الراجح، وإلا فلابد من التعدي إلى غيره بمقدار الكفاية (1)، فيختلف الحال باختلاف الانظار (2) بل الأحوال (3).
وأما تعميم النتيجة بأن قضية العلم الاجمالي بالطريق هو الاحتياط في أطرافه (4)، فهو لا يكاد يتم إلا على تقدير كون النتيجة هو نصب
195

الطريق ولو لم يصل أصلا (1)، مع أن التعميم بذلك لا يوجب العمل إلا على وفق المثبتات من الأطراف دون النافيات، إلا فيما إذا كان هناك
196

ناف من جميع الأصناف، ضرورة أن الاحتياط فيها يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعية إذا لزم، حيث لا ينافيه، كيف؟ ويجوز الاحتياط فيها مع قيام الحجة النافية، كما لا يخفى، فما ظنك بما لا يجب الاخذ بموجبه إلا من باب الاحتياط؟ فافهم (1).
197

فصل
قد اشتهر الاشكال بالقطع بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد (1)
199

بتقرير الحكومة (1)، وتقريره على ما في الرسائل أنه كيف يجامع حكم العقل بكون الظن كالعلم مناطا للإطاعة والمعصية، ويقبح على الآمر
200

والمأمور التعدي عنه، ومع ذلك يحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من القياس، ولا يجوز الشارع العمل به (1)؟ فإن المنع عن العمل بما يقتضيه العقل من الظن
201

، أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكنا، جرى في غير القياس، فلا يكون العقل مستقلا، إذ لعله نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القياس واختفى علينا، ولا دافع لهذا الاحتمال إلا قبح ذلك على الشارع، إذ احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلا
202

بقبحه (1)، وهذا من أفراد ما اشتهر من أن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص... انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه (2).
203

وأنت خبير بأنه لا وقع لهذا الاشكال، بعد وضوح كون حكم العقل بذلك معلقا على عدم نصب الشارع طريقا واصلا، وعدم حكمه به فيما كان هناك منصوب ولو كان أصلا، بداهة أن من مقدمات حكمه عدم وجود علم ولا علمي، فلا موضوع لحكمه مع أحدهما (1)، والنهي عن
204

ظن حاصل من سبب ليس إلا كنصب شيء (1)، بل هو يستلزمه فيما كان
205

في مورده أصل شرعي (1)، فلا يكون نهيه عنه رفعا لحكمه عن موضوعه، بل به يرتفع موضوعه، وليس حال النهي عن سبب مفيد للظن إلا
206

كالأمر بما لا يفيده، وكما لا حكومة معه للعقل لا حكومة له معه، وكما لا يصح بلحاظ حكمه الاشكال فيه، لا يصح الاشكال فيه بلحاظه (1).
207

نعم، لا بأس بالاشكال فيه في نفسه، كما أشكل فيه برأسه بملاحظة توهم استلزام النصب لمحاذير، تقدم الكلام في تقريرها وما هو التحقيق في جوابها في جعل الطرق. غاية الأمر تلك المحاذير - التي تكون فيما إذا أخطأ الطريق المنصوب - كانت في الطريق المنهي عنه في مورد الإصابة، ولكن من الواضح أنه لا دخل لذلك في الاشكال على دليل الانسداد بخروج القياس، ضرورة أنه بعد الفراغ عن صحة النهي عنه في الجملة، قد أشكل في عموم النهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل، وقد عرفت أنه بمكان من الفساد (1) واستلزام إمكان المنع عنه، لاحتمال المنع
208

عن أمارة أخرى وقد اختفى علينا، وإن كان موجبا لعدم استقلال العقل، إلا أنه إنما يكون بالإضافة إلى تلك الامارة، لو كان غيرها مما لا يحتمل فيه المنع بمقدار الكفاية، وإلا فلا مجال لاحتمال المنع فيها مع فرض استقلال العقل، ضرورة عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعه، على ما يأتي تحقيقه في الظن المانع والممنوع (1). وقياس حكم
210

العقل بكون الظن مناطا للإطاعة في هذا الحال على حكمه بكون العلم مناطا لها في حال الانفتاح، لا يكاد يخفى على أحد فساده، لوضوح أنه مع الفارق، ضرورة أن حكمه في العلم على نحو التنجز، وفيه على نحو التعليق (1).
212

ثم لا يكاد ينقضي تعجبي لم خصصوا الاشكال بالنهي عن القياس، مع جريانه في الامر بطريق غير مفيد للظن، بداهة انتفاء حكمه في مورد الطريق قطعا، مع أنه لا يظن بأحد أن يستشكل بذلك، وليس إلا لأجل أن حكمه به معلق على عدم النصب، ومعه لا حكم له، كما هو كذلك مع النهي عن بعض أفراد الظن، فتدبر جيدا (1).
213

وقد انقدح بذلك أنه لا وقع للجواب عن الاشكال: تارة بأن المنع عن القياس لأجل كونه غالب المخالفة، وأخرى بأن العمل به يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة (1)، وذلك لبداهة
215

أنه إنما يشكل بخروجه بعد الفراغ عن صحة المنع عنه في نفسه، بملاحظة حكم العقل بحجية الظن، ولا يكاد يجدي صحته كذلك في الذب عن الاشكال في صحته بهذا اللحاظ، فافهم فإنه لا يخلو عن دقة (1).
216

وأما ما قيل في جوابه، من منع عموم المنع عنه بحال الانسداد، أو منع حصول الظن منه بعد انكشاف حاله، وأن ما يفسده أكثر مما يصلحه (1)، ففي غاية الفساد، فإنه مضافا إلى كون كل واحد من المنعين
218

غير سديد - لدعوى الاجماع على عموم المنع مع إطلاق أدلته وعموم علته، وشهادة الوجدان بحصول الظن منه في بعض الأحيان - لا يكاد يكون في دفع الاشكال بالقطع بخروج الظن الناشئ منه بمفيد، غاية الأمر أنه لا إشكال مع فرض أحد المنعين، لكنه غير فرض الاشكال، فتدبر جيدا (1).

(1) الوسائل ج 18، 25 / 10 باب 6 من أبواب صفات القاضي.
(2) ورد في الوسائل ج 18، 27 / 18 باب 6 من أبواب صفات القاضي: (ان دين الله لا يصاب بالمقاييس) ومثله في الوافي ج 1، ص 57 (ط. حجر) وكذلك في الكافي ج 1، ص 56 حديث 7.
219

فصل
إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص، فالتحقيق أن يقال بعد تصور المنع عن بعض الظنون في حال الانسداد: إنه لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع عنه،
فضلا عما إذا ظن، كما أشرنا إليه في الفصل السابق، فلابد من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص، فإن كفى، وإلا فبضميمة ما لم يظن المنع عنه (1) وإن
221

احتمل، مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد، وإن انسد باب هذا الاحتمال معها، كما لا يخفى، وذلك ضرورة أنه لا احتمال مع الاستقلال حسب الفرض (1).
225

ومنه انقدح أنه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النتيجة هي حجية الظن في الأصول أو في الفروع أو فيهما، فافهم (1).
226

فصل
لا فرق في نتيجة دليل الانسداد، بين الظن بالحكم من أمارة عليه، وبين الظن به من أمارة متعلقة بألفاظ الآية أو الرواية، كقول اللغوي فيما يورث الظن بمراد الشارع من لفظه، وهو واضح (1)، ولا يخفى أن
227

اعتبار ما يورثه لا يختص ظاهرا بما إذا كان مما ينسد فيه باب العلم، فقول أهل اللغة حجة فيما يورث الظن بالحكم مع الانسداد، ولو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد (1).
نعم لا يكاد يترتب عليه أثر آخر من تعيين المراد في وصية أو إقرار أو غيرهما من الموضوعات الخارجية، إلا فيما يثبت فيه حجية مطلق الظن
229

بالخصوص، أو ذاك المخصوص (1)، ومثله الظن الحاصل بحكم شرعي كلي من الظن بموضوع خارجي، كالظن بأن راوي الخبر هو زرارة بن أعين مثلا، لا آخر (2).
230

فانقدح أن الظنون الرجالية مجدية في حال الانسداد، ولو لم يقم دليل على اعتبار قول الرجالي (1)، لا من باب الشهادة ولا من باب الرواية (2).
231

تنبيه: لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرقة إلى مثل السند أو الدلالة أو جهة الصدور، مهما أمكن في الرواية، وعدم الاقتصار على الظن الحاصل منها بلا سد بابه فيه بالحجة من علم أو علمي، وذلك لعدم جواز التنزل في صورة الانسداد إلى الضعيف مع التمكن من القوي أو ما بحكمه عقلا، فتأمل جيدا (1).
232

فصل
إنما الثابت بمقدمات دليل الانسداد في الاحكام هو حجية الظن فيها، لا حجيته في تطبيق المأتي به في الخارج معها، فيتبع مثلا في وجوب صلاة الجمعة يومها، لا في إتيانها، بل لابد من علم أو علمي بإتيانها، كما لا يخفى (1).
234

نعم ربما يجري نظير مقدمات الانسداد في الاحكام في بعض الموضوعات الخارجية، من انسداد باب العلم به غالبا، واهتمام الشارع به بحيث علم بعدم الرضا بمخالفته الواقع بإجراء الأصول فيه مهما أمكن، وعدم وجوب الاحتياط شرعا (1)
235

أو عدم إمكانه عقلا، كما في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب والحرمة مثلا، فلا محيص عن اتباع الظن حينئذ أيضا (1)،
236

فافهم (1).
خاتمة: يذكر فيها أمران استطرادا: الأول: هل الظن كما يتبع عند الانسداد عقلا في الفروع العملية، المطلوب فيها أولا العمل بالجوارح، يتبع في الأصول الاعتقادية المطلوب فيها عمل الجوانح من الاعتقاد به وعقد القلب عليه وتحمله والانقياد له، أو لا؟ الظاهر لا (2)، فإن الامر
238



(1) النمل: الآية 14.
239

الاعتقادي وإن انسد باب القطع به، إلا أن باب الاعتقاد إجمالا - بما هو واقعه والانقياد له وتحمله - غير منسد، بخلاف العمل بالجوارح، فإنه لا يكاد يعلم مطابقته مع ما هو واقعه إلا بالاحتياط، والمفروض عدم وجوبه شرعا، أو عدم جوازه عقلا، ولا أقرب من العمل على وفق الظن.
وبالجملة: لا موجب مع انسداد باب العلم في الاعتقاديات لترتيب الاعمال الجوانحية على الظن فيها، مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها، فلا يتحمل إلا لما هو الواقع، ولا ينقاد إلا له، لا لما هو مظنونه، وهذا بخلاف العمليات، فإنه لا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الانسداد (1).
240

نعم، يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن، من باب وجوب المعرفة لنفسها، كمعرفة الواجب تعالى وصفاته أداءا لشكر بعض نعمائه (1)،
243

ومعرفة أنبيائه، فإنهم وسائط نعمه وآلائه (1)، بل وكذا معرفة الامام عليه السلام على وجه صحيح، فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه لذلك (2)،
244

ولاحتمال الضرر في تركه (1)، ولا يجب عقلا معرفة غير ما ذكر، إلا ما وجب شرعا معرفته، كمعرفة الامام عليه السلام على وجه آخر غير صحيح،
246

أو أمر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته (1)، وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص، لا من العقل ولا من النقل، كان أصالة
247

البراءة من وجوب معرفته محكمة (1). ولا دلالة لمثل قوله تعالى:

(1) الحدائق الناضرة ج 5، ص 176.
248

[وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون] الآية (1)، ولا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

(1) الذاريات: الآية 56.
249

(وما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس) (1) ولا لما

(1) الكافي، ج 3، ص 264.
250

دل على وجوب التفقه (1) وطلب العلم من الآيات والروايات على

(1) التوبة: الآية 122.
251

وجوب معرفته بالعموم (1)، ضرورة أن المراد من (ليعبدون) هو خصوص عبادة الله ومعرفته، والنبوي إنما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات لا بيان حكم المعرفة، فلا إطلاق فيه أصلا، ومثل آية النفر،
252

إنما هو بصدد بيان الطريق المتوسل به إلى التفقه الواجب، لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته، كما لا يخفى، وكذا ما دل على وجوب طلب العلم إنما هو بصدد الحث على طلبه، لا بصدد بيان ما يجب العلم به (1).
ثم إنه لا يجوز الاكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلا أو شرعا، حيث أنه ليس بمعرفة قطعا، فلابد من تحصيل العلم لو أمكن (2)، ومع العجز
253

عنه كان معذورا إن كان عن قصور لغفلة أو لغموضة المطلب مع قلة الاستعداد، كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال (1)، بخلاف
254

ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد (1)، ولو لأجل حب طريقة الآباء والأجداد واتباع سيرة السلف، فإنه كالجبلي للخلف، وقلما عنه تخلف (2) والمراد من المجاهدة في قوله تعالى: [والذين جاهدوا فينا
255

لنهدينهم سبلنا] هو المجاهدة مع النفس، بتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالفضائل، وهي التي كانت أكبر من الجهاد، لا النظر والاجتهاد، وإلا لأدى إلى الهداية، مع أنه يؤدي إلى الجهالة والضلالة، إلا إذا كانت هناك منه - تعالى - عناية، فإنه غالبا بصدد إثبات أن ما وجد آباءه عليه هو الحق، لا بصدد الحق، فيكون مقصرا مع اجتهاده، ومؤاخذا إذا أخطأ على قطعه واعتقاده (1).

(1) العنكبوت: الآية 69.
256

ثم لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم، فيما يجب تحصيله عقلا لو أمكن، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه، بل بعدم جوازه، لما أشرنا إليه من أن الأمور الاعتقادية مع عدم القطع بها أمكن الاعتقاد بما هو واقعها والانقياد لها، فلا إلجاء فيها
أصلا إلى التنزل إلى الظن فيما انسد فيه باب العلم، بخلاف الفروع العملية، كما لا يخفى (1).
257

أصلا إلى التنزل إلى الظن فيما انسد فيه باب العلم، بخلاف الفروع العملية، كما لا يخفى (1).
258

وكذلك لا دلالة من النقل على وجوبه، فيما يجب معرفته مع الامكان شرعا، بل الأدلة الدالة على النهي عن اتباع الظن دليل على عدم جوازه أيضا (1).
وقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا، أن القاصر يكون في الاعتقاديات للغفلة، أو عدم الاستعداد للاجتهاد فيها، لعدم وضوح الامر فيها بمثابة لا يكون الجهل بها إلا عن تقصير، كما لا يخفى، فيكون معذورا عقلا (2).

(1) الاسراء: الآية 36. (2) النجم: الآية 28.
260

ولا يصغى إلى ما ربما قيل: بعدم وجود القاصر فيها، لكنه إنما يكون معذورا غير معاقب على عدم معرفة الحق، إذا لم يكن يعانده، بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله. هذا بعض الكلام مما يناسب المقام (1)،

(1) الذاريات: الآية 56.
261

وأما بيان حكم الجاهل من حيث الكفر والاسلام، فهو مع عدم مناسبته خارج عن وضع الرسالة (1).
262

الثاني: الظن الذي لم يقم على حجيته دليل، هل يجبر به ضعف السند أو الدلالة بحيث صار حجة ما لولاه لما كان بحجة، أو يوهن به ما لولاه على خلافه لكان حجة، أو يرجح به أحد المتعارضين، بحيث لولاه على وفقه لما كان ترجيح لأحدهما، أو كان للآخر منهما، أم لا (1)؟
263

ومجمل القول في ذلك: إن العبرة في حصول الجبران أو الرجحان بموافقته، هو الدخول بذلك تحت دليل الحجية، أو المرجحية الراجعة إلى دليل الحجية، كما أن العبرة في الوهن إنما هو الخروج بالمخالفة عن تحت دليل الحجية (1)، فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر بالظن بصدوره
265

أو بصحة مضمونه، ودخوله بذلك تحت ما دل على حجية ما يوثق به، فراجع أدلة اعتبارها (1). وعدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد لاختصاص دليل
266

الحجية بحجية الظهور في تعيين المراد، والظن من أمارة خارجية به لا يوجب ظهور اللفظ فيه كما هو ظاهر (1)، إلا فيما أوجب
268

القطع ولو إجمالا باحتفافه بما كان موجبا لظهوره فيه لولا عروض انتفائه (1)، وعدم وهن السند بالظن بعدم صدوره، وكذا عدم وهن
269

دلالته مع ظهوره (1)، إلا فيما كشف بنحو معتبر عن ثبوت خلل في سنده، أو وجود قرينة مانعة عن انعقاد ظهوره فيما فيه ظاهر لولا تلك
270

القرينة (1)، لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة ولا دليل اعتبار
272

الظهور بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره، أو ظن بعدم إرادة ظهوره (1).
273

وأما الترجيح بالظن، فهو فرع دليل على الترجيح به، بعد سقوط الامارتين بالتعارض من البين، وعدم حجية واحد منهما بخصوصه وعنوانه، وإن بقي أحدهما بلا عنوان على حجيته، ولم يقم دليل بالخصوص على الترجيح به.
وإن ادعى شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - استفادته من الأخبار الدالة على الترجيح بالمرجحات الخاصة، على ما في تفصيله في التعادل والترجيح (1) ومقدمات الانسداد في الاحكام إنما توجب حجية الظن
274

بالحكم أو بالحجة، لا الترجيح به ما لم توجب الظن بأحدهما (1)، ومقدماته في خصوص الترجيح لو جرت إنما توجب حجية الظن في تعيين
276

المرجح، لا أنه مرجح إلا إذا ظن أنه - أيضا - مرجح، فتأمل جيدا، هذا فيما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه دليل (1).
277

وأما ما قام الدليل على المنع عنه كذلك كالقياس، فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح، فيما لا يكون لغيره أيضا، وكذا فيما يكون به أحدهما، لوضوح أن الظن القياسي إذا كان على خلاف ما لولاه لكان حجة - بعد المنع عنه - لا يوجب خروجه عن تحت دليل الحجية، وإذا كان على وفق ما لولاه لما كان حجة لا يوجب دخوله تحت دليل الحجية، وهكذا لا يوجب ترجيح أحد المتعارضين، وذلك لدلالة دليل المنع على إلغائه الشارع رأسا، وعدم جواز استعماله في الشرعيات قطعا، ودخله في واحد منها نحو استعمال له فيها، كما لا يخفى، فتأمل جيدا (1).
278

المقصد السابع
في
الأصول العملية
281

المقصد السابع
في الأصول العملية
وهي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل، مما دل عليه حكم العقل أو عموم النقل (1)، والمهم منها
283

أربعة (1)، فإن مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية، وإن كان مما ينتهي إليه فيما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته، إلا أن البحث عنها ليس بمهم، حيث إنها ثابتة بلا كلام، من دون حاجة إلى نقض وإبرام، بخلاف الأربعة، وهي: البراءة والاحتياط، والتخيير والاستصحاب: فإنها محل الخلاف بين الأصحاب، ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم
285

النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومؤونة حجة وبرهان هذا مع جريانها في كل الأبواب، واختصاص تلك القاعدة ببعضها (1)،
286

فافهم (1).
فصل
لو شك في وجوب شيء أو حرمته، ولم تنهض عليه حجة جاز شرعا وعقلا ترك الأول وفعل الثاني، وكان مأمونا من عقوبة مخالفته، كان عدم نهوض الحجة لأجل فقدان النص أو إجماله، واحتماله الكراهة أو الاستحباب، أو تعارضه فيما لم يثبت بينهما ترجيح، بناءا على التوقف في مسألة تعارض النصين فيما لم يكن ترجيح في البين.
وأما بناءا على التخيير - كما هو المشهور - فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها، لمكان وجود الحجة المعتبرة، وهو أحد النصين فيها (2) كما لا يخفى.
287

وقد استدل على ذلك بالأدلة الأربعة: اما الكتاب فبآيات أظهرها قوله تعالى: [وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا] (1) وفيه: إن نفي
290

التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله كان منة منه تعالى على عباده، مع استحقاقهم لذلك (1)، ولو سلم اعتراف الخصم بالملازمة
291

بين الاستحقاق والفعلية (1)، لما صح الاستدلال بها إلا جدلا، مع وضوح منعه، ضرورة أن ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم مما علم
292

بحكمه، وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلا كالوعيد به فيه (1)،
294

فافهم (1).
وأما السنة: فبروايات منها: حديث الرفع (2)، حيث عد (ما لا يعلمون) من التسعة المرفوعة فيه، فالالزام المجهول مما لا يعلمون، فهو مرفوع فعلا وإن كان ثابتا واقعا، فلا مؤاخذة عليه قطعا.

(1) التوحيد: ص 353 بتفاوت يسير.
295

لا يقال: ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية، كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهرا، فلا دلالة له على ارتفاعها (1).
297



(1) المزمل: الآية: 5.
(2) المزمل: الآية 6.
298

فإنه يقال: إنها وإن لم تكن بنفسها أثرا شرعيا، إلا أنها مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه، من إيجاب الاحتياط شرعا، فالدليل على رفعه دليل على عدم إيجابه المستتبع لعدم استحقاقه العقوبة على مخالفته (1).
300

لا يقال: لا يكاد يكون إيجابه مستتبعا لاستحقاقها على مخالفة التكليف المجهول، بل على مخالفته نفسه، كما هو قضية إيجاب غيره (1).
304

فإنه يقال: هذا إذا لم يكن إيجابه طريقيا، وإلا فهو موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول، كما هو الحال في غيره من الايجاب والتحريم الطريقيين، ضرورة أنه كما يصح أن يحتج بهما صح أن يحتج به، ويقال: لم أقدمت مع إيجابه؟ ويخرج به عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان، كما يخرج بهما (1).
306

وقد انقدح بذلك، أن رفع التكليف المجهول كان منة على الأمة، حيث كان له تعالى وضعه بما هو قضيته من إيجاب الاحتياط، فرفعه (1)،
307

فافهم (1).
ثم لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعية في (ما لا يعلمون) (2)، فإن ما لا يعلم من التكليف مطلقا كان في
308

الشبهة الحكمية أو الموضوعية بنفسه قابل للرفع والوضع شرعا، وإن كان في غيره لابد من تقدير الآثار أو المجاز في إسناد الرفع إليه، فإنه ليس ما اضطروا أو ما استكرهوا.. إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة (1).
309

نعم لو كان المراد من الموصول في (ما لا يعلمون) ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه، لكان أحد الامرين مما لابد منه أيضا (1).
ثم لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر في غير واحد غيرها، فلا محيص عن أن يكون المقدر هو الأثر الظاهر في كل منها، أو تمام آثارها التي تقتضي المنة رفعها، كما أن ما يكون بلحاظه الاسناد إليها مجازا، هو هذا، كما لا يخفى.
فالخبر الدال على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي كان في رفعه منة على الأمة، كما استشهد الامام عليه السلام بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق والصدقة والعتاق (2)، ثم لا يذهب عليك أن المرفوع فيما
313



(1) المحاسن، ص 339 (ط. طهران - 1371).
314

اضطر إليه وغيره، مما أخذ بعنوانه الثانوي، إنما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الأولي، ضرورة أن الظاهر أن هذه العناوين صارت موجبة للرفع، والموضوع للأثر مستدع لوضعه، فكيف يكون موجبا لرفعه (1)؟
315

لا يقال كيف؟ وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان، يكون أثرا لهذه العناوين بعينها وباقتضاء نفسها (1).
317

فإنه يقال: بل إنما تكون باقتضاء الواقع في موردها، ضرورة أن الاهتمام به يوجب إيجابهما، لئلا يفوت على المكلف، كما لا يخفى (1).
318

ومنها: حديث الحجب، وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا في حديث الرفع (1)، إلا أنه ربما يشكل بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه، لعدم أمر رسله بتبليغه، حيث إنه بدونه لما صح إسناد الحجب إليه تعالى (2).

(1) التوحيد: ص 413.
319



(1) نهج البلاغة، الحكم 102.
320

ومنها: قوله عليه السلام: كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه.. الحديث، حيث دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته (1) وبعدم الفصل
322

قطعا بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية، يتم المطلوب مع إمكان أن يقال: ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته، فهو حلال (1)،
324

تأمل (1).
325



(1) الكافي ج 6: ص 339.
326

ومنها: قوله عليه السلام الناس في سعة ما لا يعلمون فهم في سعة ما لم يعلم، أو ما دام لم يعلم وجوبه أو حرمته (1)، ومن الواضح أنه لو كان
328

الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة أصلا، فيعارض به ما دل على وجوبه، كما لا يخفى (1).
329

لا يقال: قد علم به وجوب الاحتياط (1).
330

فإنه يقال: لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد (1)، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله (2)؟ نعم لو كان الاحتياط واجبا نفسيا كان وقوعهم
331

في ضيقه بعد العلم بوجوبه (1)، لكنه عرفت أن وجوبه كان طريقيا، لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا (2)،
332

فافهم (1).
ومنها: قوله عليه السلام: (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) ودلالته يتوقف على عدم صدق الورود إلا بعد العلم أو ما بحكمه، بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل غير واحد (2)، مع أنه ممنوع لوضوح صدقه على

(1) الفقيه، ج 1، ص 317.
333



(1) القصص: الآية 23.
335

صدوره عنه (1) سيما بعد بلوغه إلى غير واحد، وقد خفي على من لم يعلم بصدوره (2).
337

لا يقال: نعم، ولكن بضميمة أصالة العدم صح الاستدلال به وتم (1).
338

فإنه يقال: وإن تم الاستدلال به بضميمتها، ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه، إلا أنه لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا، بل بعنوان أنه مما لم يرد عنه النهي واقعا (1).
339

لا يقال: نعم، ولكنه لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم بالإباحة في مجهول الحرمة، كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان (1).
340

فإنه يقال: حيث أنه بذاك العنوان لاختص بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلا، ولا يكاد يعم ما إذا ورد النهي عنه في زمان، وإباحة في آخر، واشتبها من حيث التقدم والتأخر (1).
341

لا يقال: هذا لولا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته (1).
فإنه يقال: وإن لم يكن بينها الفصل، إلا أنه إنما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل، لا الأصل (2)، فافهم (3).
342

وأما الاجماع فقد نقل على البراءة، إلا أنه موهون، ولو قيل باعتبار الاجماع المنقول في الجملة، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل، ومن واضح النقل عليه دليل، بعيد جدا (1).
وأما العقل: فإنه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول، بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجة عليه،
344

فإنهما بدونهما عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان، وهما قبيحان بشهادة الوجدان (1).
ولا يخفى أنه مع استقلاله بذلك، لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته، فلا يكون مجال ها هنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، كي
345

يتوهم أنها تكون بيانا (1)، كما أنه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة، بل في صورة المصادفة استحق العقوبة على المخالفة ولو قيل بعدم وجوب
346

دفع الضرر المحتمل (1).
348

وأما ضرر غير العقوبة، فهو وإن كان محتملا، إلا أن المتيقن منه فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع شرعا ولا عقلا، ضرورة عدم القبح في تحمل بعض المضار ببعض الدواعي عقلا وجوازه شرعا (1)، مع أن
349

احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرة، وإن كان ملازما لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة، لوضوح أن المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الاحكام، وقد استقل العقل بحسن الافعال التي تكون ذات المصالح وقبح ما كان ذات المفاسد، ليست براجعة إلى المنافع والمضار، وكثيرا ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر
، نعم ربما تكون المنفعة أو المضرة مناطا للحكم شرعا وعقلا (1).
352

إن قلت: نعم، ولكن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما لا تؤمن مفسدته، وأنه كالاقدام على ما علم مفسدته، كما استدل به شيخ الطائفة (قدس سره)، على أن الأشياء على الحظر أو الوقف (1).
354

قلت: استقلاله بذلك ممنوع، والسند شهادة الوجدان ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والأديان، حيث إنهم لا يحترزون مما لا تؤمن مفسدته، ولا يعاملون معه معاملة ما علم مفسدته (1)، كيف؟ وقد أذن الشارع بالاقدام عليه، ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح (2)،
355

فتأمل (1).
واحتج للقول بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجة، بالأدلة الثلاثة:
أما الكتاب: فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم، وعن الالقاء في التهلكة، والآمرة بالتقوى.
والجواب: إن القول بالإباحة شرعا وبالأمن من العقوبة عقلا، ليس قولا بغير علم، لما دل على الإباحة من النقل وعلى البراءة من حكم
356

العقل، ومعهما لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلا، ولا فيه مخالفة التقوى، كما لا يخفى (1).
357



(1) البقرة: الآية 195.
358



(1) آل عمران: الآية 102. (2) التغابن: الآية 16. (3) الحج: الآية 78. (4) الاسراء: الآية 36. (5) البقرة: الآية 195. (6) آل عمران: الآية 102.
360

وأما الاخبار: فبما دل على وجوب التوقف عند الشبهة، معللا في بعضها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة، من الأخبار الكثيرة الدالة عليه مطابقة أو التزاما (1)، وبما دل على وجوب الاحتياط

(1) الكافي، ج 1، ص 68.
(2) الكافي، ج 1، ص 43.
(3) الوسائل، ج 18، ص 116.
362

من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة (1).

(1) الكافي، ج 1، ص 50.
(2) الوسائل، ج 18، ص 123.
(3) الوسائل، ج 18، ص 127.
(4) عوالي اللآلي، ج 1، ص 395.
363



(1) الكافي، ج 1، ص 68.
364

والجواب: إنه لا مهلكة في الشبهة البدوية، مع دلالة النقل وحكم العقل بالبراءة كما عرفت (1).
365

وما دل على وجوب الاحتياط لو سلم (1)، وإن كان واردا على حكم العقل، فإنه كفى بيانا على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول (2).
366

ولا يصغى إلى ما قيل من أن إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح، وإن كان نفسيا فالعقاب على مخالفته لا على مخالفة الواقع (1)، وذلك لما عرفت من أن إيجابه يكون طريقيا،
367

وهو عقلا مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة، كما هو الحال في أوامر الطرق والامارات والأصول العملية (1).
368

إلا أنها تعارض بما هو أخص وأظهر، ضرورة أن ما دل على حلية المشتبه أخص، بل هو في الدلالة على الحلية نص، وما دل على الاحتياط غايته أنه ظاهر في وجوب الاحتياط (1)، مع أن هناك قرائن دالة
369

على أنه للارشاد، فيختلف إيجابا واستحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه. ويؤيده أنه لو لم يكن للارشاد يوجب تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات إجماعا، مع أنه آب عن التخصيص قطعا، كيف لا يكون قوله قف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة للارشاد؟ مع أن المهلكة ظاهرة في العقوبة، ولا عقوبة في الشبهة البدوية قبل إيجاب الوقوف والاحتياط، فكيف يعلل إيجابه بأنه خير من الاقتحام في الهلكة (1)؟
372



(1) وسائل الشيعة ج 18: 122 / 12 باب 12 من أبواب صفات القاضي.
373



(1) وسائل الشيعة ج 18: 116 / 15 باب 62 من أبواب صفات القاضي.
374

لا يقال: نعم، ولكنه يستكشف منه على نحو الان إيجاب الاحتياط من قبل، ليصح به العقوبة على المخالفة (1).
375

فإنه يقال: إن مجرد إيجابه واقعا ما لم يعلم لا يصحح العقوبة، ولا يخرجها عن أنها بلا بيان ولا برهان، فلا محيص عن اختصاص مثله بما يتنجز فيه المشتبه لو كان كالشبهة قبل الفحص مطلقا، أو الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي، فتأمل جيدا (1).
376

وأما العقل: فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته، حيث علم إجمالا بوجود واجبات ومحرمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه أو حرمته، مما لم يكن هناك حجة على حكمه، تفريغا للذمة بعد اشتغالها، ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي إلا من بعض الأصحاب (1).
377

والجواب: إن العقل وإن استقل بذلك، إلا أنه إذا لم ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي، وقد انحل ها هنا، فإنه كما علم بوجود تكاليف إجمالا، كذلك علم إجمالا بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة تكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد، وحينئذ لاعلم بتكاليف أخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من الطرق والأصول العملية (1).
378

إن قلت: نعم، لكنه إذا لم يكن العلم بها مسبوقا بالعلم بالواجبات (1).
382

قلت: إنما يضر السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثا، وأما إذا لم يكن كذلك بل مما ينطبق عليه ما علم أولا، فلا محالة قد انحل العلم الاجمالي إلى التفصيلي والشك البدوي (1).
384

إن قلت: إنما يوجب العلم بقيام الطرق المثبة له بمقدار المعلوم بالاجمال ذلك إذا كان قضية قيام الطريق على تكليف موجبا لثبوته فعلا، وأما بناءا على أن قضية حجيته واعتباره شرعا ليس إلا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا، وهو تنجز ما أصابه والعذر عما أخطأ عنه، فلا انحلال لما علم بالاجمال أولا، كما لا يخفى (1).
385

قلت: قضية الاعتبار شرعا - على اختلاف ألسنة أدلته - وإن كان ذلك على ما قوينا في البحث، إلا أن نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال في بعض الأطراف يكون عقلا بحكم الانحلال، وصرف تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف والعذر عما إذا كان في سائر الأطراف، مثلا إذا علم إجمالا بحرمة إناء زيد بين الإناءين وقامت البينة على أن هذا إناؤه، فلا ينبغي الشك في أنه كما إذا علم أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلا عن خصوصه دون الآخر (1)، ولولا ذلك لما كان يجدي
386

القول بأن قضية اعتبار الامارات هو كون المؤديات أحكاما شرعية فعلية، ضرورة أنها تكون كذلك بسبب حادث، وهو كونها مؤديات الأمارات الشرعية (1).
388

هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالاجمال، وإلا فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلك الطرق بلا إشكال. كما لا يخفى (1).
390

وربما استدل بما قيل من استقلال العقل بالحظر في الافعال غير الضرورية قبل الشرع، ولا أقل من الوقف وعدم استقلاله، لا به ولا بالإباحة ولم يثبت شرعا إباحة ما اشتبه حرمته، فإن ما دل على الإباحة معارض بما دل على وجوب التوقف أو الاحتياط (1).
391

وفيه أولا: إنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والاشكال، وإلا لصح الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال على الإباحة. (1)
393

وثانيا: إنه تثبت الإباحة شرعا، لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط، للمعارضة لما دل عليها (1).
وثالثا: أنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة، للقول بالاحتياط في هذه المسألة، لاحتمال أن يقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان (2)، وما قيل من أن الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاقدام
394

على ما يعلم فيه المفسدة ممنوع (1)، ولو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل، فإن المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالبا، ضرورة أن المصالح
396

والمفاسد التي هي مناطات الاحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضار، بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر، والمفسدة فيما فيه المنفعة، واحتمال أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا، مع أن الضرر ليس دائما مما يجب التحرز عنه عقلا، بل يجب ارتكابه أحيانا فيما كان المترتب عليه أهم في نظره مما في الاحتراز عن ضرره، مع القطع به فضلا عن احتماله (1).
397